الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج7.وج8.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة ) المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

7. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 397
والانكسار المؤلم ، وقيل : ما فيه من سوء الأدب المشبه بالآفات ، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار لكن الشرع - وكذا العرف - خصصه بالصغار ، وحديث «لا يتم بعد احتلام»
تعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ.
والمراد بإيتاء أموالهم تركها سالمة غير متعرض لها بسوء فهو مجاز مستعمل في لازم معناه لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك ، والنكتة في هذا التعبير الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الغرض من ترك التعرض إيصال الأموال إلى من ذكر لا مجرد ترك التعرض لها. وعلى هذا يصح أن يراد باليتامى الصغار على ما هو المتبادر ، والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء ، وشمول حكمه لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة ، ويصح أن يراد من جرى عليه اليتم في الجملة مجازا أعم من أن يكون كذلك عند النزول ، أو بالغا فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من كف الكف عنها ، وعدم فك الفك لأكلها ، وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به ، وقيل : المراد من الإيتاء الإعطاء بالفعل ، واليتامى إما بمعناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة وارد على أصل اللغة ، وإما مجاز باعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر ، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كأن اسم اليتيم باق بعد غير زائل ، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص ، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر ، وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول ، وقيل : يجوز أن يراد باليتامى الصغار ، ولا مجاز بأن يجعل الحكم مقيدا كأنه قيل : وآتوهم إذا بلغوا ، وردّ بأنه قال في التلويح : إن المراد من قوله تعالى : «وآتوا اليتامى أموالهم» وقت البلوغ باعتبار ما كان ، فإن العبرة بحال النسبة لا بحال التكلم ، فالورود للبالغ على كل حال.
وقال بعض المحققين : تقدير القيد لا يغني عن التجوز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب اتصافه بالوصف حين تعلق الوصف وحين تعلق الإيتاء به يكون يتيما فلا بدّ من التأويل بما مر ، وأجيب بأن هذه المسألة وإن كانت مذكورة في التلويح لكنها ليست مسلمة ، وقد تردد فيها الشريف في حواشيه ، والتحقيق أن في مثل ذلك نسبتين : نسبة بين الشرط والجزاء - وهي التعليقية - وهي واقعة الآن ، ولا تتوقف على وجودهما في الخارج ، ونسبة إسنادية في كل من الطرفين - وهي غير واقعة في الحال بل مستقبلة - والمقصود الأولى ، وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة ، ألا تراهم قالوا في نحو - عصرت هذا الخل في السنة الماضية - أنه حقيقة؟ مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأن المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين اسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصر كما حققه بعض الفضلاء - وقد مرت الإشارة إليه في أوائل البقرة فتأمله فإنه دقيق.
وقيل : المراد من الإيتاء ما هو أعم من الإيتاء حالا أو مآلا ، ومن الْيَتامى ما يعم الصغار والكبار بطريق التغليب ، والخطاب عام لأولياء الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وإن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع اليه عند بلوغه رشيدا ، ورجح غير واحد الوجه الأول لقوله تعالى بعد آيات : وَابْتَلُوا الْيَتامى [النساء : 6] إلخ فإنه كالدليل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم ، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد ، ويلوح بذلك التعبير بالإيتاء هنا وبالدفع هناك ، وايضا تعقيب هذه الآية بقوله تعالى :
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يقوي ذلك ، فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره ، وأما على سائر الوجوه فيكون مؤدى هذه الآية - وما سيأتي بعد - كالشيء الواحد من حيث إن فيهما الأمر بالإيتاء حقيقة ، ومن قال بذلك جعل الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 398
وإيناس الرشد ، ويرد على آخر الوجوه أيضا أن فيه تكلفا لا يخفى ، ولا يرد على الوجه الراجح
أن ابن أبي حاتم أخرج عن سعيد بن جبير أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فنزلت وَآتُوا الْيَتامى إلخ ،
فإن ذلك يدل على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل لا سيما وقد روى الثعلبي. والواحدي عن مقاتل. والكلبي أن العمّ لما سمعها قال : أطعنا اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم نعوذ باللّه عز وجل من الحوب الكبير لما أنهم قالوا : العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ولعل العمّ لم يفهم الأمر بالإعطاء حقيقة بطريق العبارة بل بشيء آخر ، فقال ما قال هذا وتبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى : وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ [البقرة : 108] إلخ ، وقوله سبحانه : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة : 61] وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى : وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ : 16] إلخ ، وأخرى بالعكس كما في قولك : بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة ، واقتصر الدميري على الأول ، ونقل الأزهري عن ثعلب الثاني ، ويشهد له قول الطفيل لما أسلم. وبدل طالعي نحسي بسعدي. وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى :
فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان : 7] فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ [الكهف : 81] بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيرا منه ، ومرة يتعدى إلى مفعول واحد مثل بدلت الشيء أي غيرته ، وقوله تعالى : فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ [البقرة : 181] وذكر الطيبي أن معنى التبديل التغيير وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء ، وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده ، وهذا معنى قول الجوهري : تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدل ، ومعنى التبدل الاستبدال ، والاستبدال طلب البدل فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبدلا ، وفرق بعضهم بين التبديل والإبدال بأن الأول تغيير الشيء مع بقاء عينه والثاني رفع الشيء ووضع غيره مكانه فيقال : أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وفيما ذكر كفاية لما نحن بصدده.
والمراد - بالخبيث والطيب - إما الحرام والحلال ، والمعنى لا تستبدلوا أموال اليتامى بأموالكم أو لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهي عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا ، أو أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر ، وإلى الأول ذهب الفراء والزجاج ، وقيل : المعنى لا تستبدلوا الأمر الخبيث - وهو اختزال مال اليتيم - بالأمر الطيب - وهو حفظ ذلك المال - وأيّا ما كان فالتعبير عن ذلك بالخبيث والطيب للتنفير عما أخذوه والترغيب فيما أعطوه وإما الرديء والجيد ، ومورد النهي حينئذ ما كان الأوصياء عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم ، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل في مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويضع مكانه الزائف ، ويقول :
درهم بدرهم وإلى هذا ذهب النخعي والزهري وابن المسيب ، وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها فلا مفهوم لانخرام شرطه عنه القائل به واعترض هذا بأن المناسب حينئذ التبديل. أو تبدل الطيب بالخبيث على ما يقتضيه الكلام السابق.
وأجيب بأنه إذا أعطى الوصي رديئا وأخذ جيدا من مال اليتيم بصدق عليه أنه تبدل الرديء بالجيد لليتيم وبدل لنفسه ، وظاهر الآية أنه أريد التبدل لليتيم لأن الأوصياء هم المتصرفون في أموال اليتامى فنهوا عن بيع بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاهاه ، ولا يضر تبدل لنفسه أيضا باعتبار آخر لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 399
اليتيم ضار سواء عامل الوصي نفسه أو غيره ، ومن غفل عن اختلاف الاعتبار كالزمخشري أول «1» بما لا اشعار للفظ به ، وعلى العلات المراد من الآية النهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق ، والمراد من الأكل في النهي الأخير مطلق الانتفاع والتصرف ، وعبر بذلك عنه لأنه أغلب أحواله ، والمعنى لا تأكلوا أموالهم مضمونة إلى أموالكم أي تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام ، فإلى متعلقة بمقدر يتعدى بها ، وقد وقع حالا ، وقدره أبو البقاء مضافة ، ويجوز تعلقها بالأكل على تضمينه معنى الضم ، واختار بعضهم كونها بمعنى مع كما في «الذود إلى الذود إبل» ، والمراد بالمعية مجرد التسوية بين المالين في الانتفاع أعم من أن يكون على الانفراد ، أو مع أموالهم ، يفهم من الكشاف أن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها ، وفي ذلك تشهير لهم بما كانوا يصنعون فلا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها ، ويندفع السؤال بذلك.
وأنت تعلم أن السؤال لا يرد ليحتاج إلى الجواب إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب باستبدال أموال اليتامى بماله وأكلها مكانه لأنه حينئذ يكون ذلك نهيا عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها ، وليس الأول مطلقا حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق ، وفي الكشف لو حمل الانتهاء في إلى على أصله - على أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم لأن أموالهم جعلت غاية - لحصلت المبالغة ، والتخلص عن الاعتذار ، وظاهر هذا النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرا ، وكون ذلك من مال اليتيم مما لا يكاد يخفى فالقول - بأنه لا حاجة إلى التخصيص لأن ما يأخذه الأولياء من الأجرة فهو مالهم وليس أكله أكل مالهم مع مالهم - لا يخلو عن خفاء إِنَّهُ أي الأكل المفهوم من النهي ، وقيل : الضمير للتبدل ، وقيل : لهما وهو منزل منزلة اسم الإشارة في ذلك كانَ حُوباً أي إثما ، أو ظلما وكلاهما عن ابن عباس وهما متقاربان ، وأخرج الطبراني أن رافع بن الأزرق سأله رضي اللّه تعالى عنه عن الحوب ، فقال : هو الإثم بلغة الحبشة ، فقال : فهل تعرف العرب ذلك؟
فقال : نعم أما سمعت قول الأعشى :
فإني وما كلفتموني من أمركم ليعلم من أمسى أعق «وأحوبا»
وخصه بعضهم بالذنب العظيم ، وقرأ الحسن «حوبا» بفتح الحاء وهو مصدر حاب يحوب حوبا.
وقرى ء - «حابا» - وهو أيضا مصدر كالقول والقال وهو على القراءة المشهورة اسم لا مصدر خلافا لبعضهم وتنوينه للتعظيم أي حوبا عظيما ، ووصف بقوله تعالى كَبِيراً للمبالغة في تهويل أمر المنهي عنه كأنه قيل إنه من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها.
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى أصالة وبأموالهم تبعا عقيب النهي عما يتعلق بأموالهم خاصة ، وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة إلى الأموال ونزوله منه منزلة المركب من المفرد مع كون المراد من اليتامى هنا صنفا مما أريد منه فيما تقدم ، وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من يتامى النساء اللاتي يلونهم «2» لكن لا رغبة فيهن بل في ما لهنّ
___________
(1) قيل : وإن ذهب إلى التأويل لا محالة فالأولى أن يقال : المهزول هو الطيب ، والسمين هو الخبيث ضربه مثالا للحرام والحلال فتدبر ا ه منه.
(2) كذا بخطه ، والخطب سهل ا ه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 400
ويسيئون صحبتهن ويتربصون بهن أن يمتن فيرثوهن فوعظو في ذلك وهذا قول الحسن ، ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها ، وأخرج هؤلاء من طريق آخر والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي اللّه تعالى عنها عن هذه الآية. فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن فالمراد من اليتامى المتزوج بهن والقرينة على ذلك الجواب فإنه صريح فيه - والربط يقتضيه - ومِنَ النِّساءِ غير اليتامى كما صرحت به الحميراء رضي اللّه تعالى عنها لدلالة المعنى وإشارة لفظ النساء إليه ، والإقساط العدل والإنصاف ، وجعل بعض الهمزة فيه للإزالة فأصل معناه حينئذ إزالة القسوط أي الظلم والحيف ، وقرأ النخعي تُقْسِطُوا بفتح التاء فقيل : هو من قسط بمعنى جار وظلم ، ومنه أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن : 15] ولا مزيدة كما في قوله تعالى : لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد : 29] ، وقيل : هو بمعنى أقسط فإن الزجاج حكى أن قسط بلا همزة تستعمل استعمال أقسط ، والْيَتامى جمع يتيمة على القلب كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم وهو كما يقال للذكور يقال للإناث ، والمراد من الخوف العلم عبر عنه بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه وإلا لم يكن الأمر شاملا لمن يصبر على الجور ولا يخافه ، وإِنْ وما بعدها في تأويل مصدر فإن لم تقدر من كان منصوبا وكان الفعل واصلا إليه بنفسه وإن قدرت جاز فيه أمران : النصب عند سيبويه ، والجر عند الخليل ، وما موصولة أو موصوفة وما بعدها صلتها ، أو صفتها ، وأوثرت على من ذهابا إلى الوصف من البكر أو الثيب مثلا ، وما تختص - أو تغلب - في غير العقلاء فيما إذا أريد الذات ، وأما إذا أريد الوصف فلا كما تقول : ما زيد؟ في الاستفهام ، أي أفاضل أم كريم؟
وأكرم ما شئت من الرجال تعني الكريم أو اللئيم.
وحكي عن الفراء أنها هنا مصدرية وأن المصدر المقدر بها وبالفعل مقدر باسم الفاعل أي - انكحوا الطيب من النساء - وهو تكلف مستغنى عنه ، وقيل : إن إيثارها على مِنَ بناء على أن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لما روي في حقهن أنهن ناقصات عقل ودين ، وفيه أنه مخل بمقام الترغيب فيهن ، ومِنَ بيانية ، وقيل :
تبعيضية ، والمراد مما طاب لكم ما مالت له نفوسكم واستطابته ، وقيل : ما حل لكم ، وروي ذلك عن عائشة ، وبه قال الحسن وابن جبير وأبو مالك ، واعترضه الإمام بأنه في قوة أبيح المباح ، ويلزم الإجمال حيث لا يعلم المباح من الآية وآثر الحمل على الأول ويلزم التخصيص وجعله أولى من الإجمال ، وأجاب المدقق في الكشف بأن المبين تحريمه في قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء : 23] إلخ إن كان مقدم النزول فلا إجمال ولا تخصيص لأن الموصول جار مجرى المعرف باللام ، والحمل على العهد في مثله هو الوجه وإلا فالإجمال المؤخر بيانه أولى من التخصيص بغير المقارن لأن تأخير بيان المجمل جائز عند الفريقين ، وتأخير بيان التخصيص غير جائز عند أكثر الحنفية.
وقال بعض المحققين : ما طابَ لَكُمْ ما لا تحرج منه لأنه في مقابل المتحرج منه من اليتامى ولا يخلو عن حسن ، وكيفما كان فالتعبير عن الأجنبيات بهذا العنوان فيه من المبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ما لا يخفى ، والسر في ذلك الاعتناء بصرف المخاطبين عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل رعاية ليتمهن وجبرا لانكسارهن ولهذا الاعتناء أوثر الأمر بنكاح الأجنبيات على النهي عن نكاحهن مع أنه المقصود بالذات وذلك لما فيه

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 401
من مزيد اللطف في استنزالهم فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه ، ووجه النهي الضمني إلى النكاح المترقب مع أن سبب النزول هو النكاح المحقق على ما فهمه البعض من الأخبار ، ودل عليه ما أخرجه البخاري عن عائشة أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عزق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فأنزل اللّه تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ إلخ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشر قبل وقوعه فرب واقع لا يرفع ، والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كان للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى ، وقرأ ابن أبي عبلة - من طاب - وفي بعض المصاحف - كما في الدر المنثور - ما طيب لكم بالياء ، وفي الآية على هذا التفسير دليل الجواز نكاح اليتيمة وهي الصغيرة إذ يقتضي جوازه إلا عند خوف الجور.
وقد بسط الكلام في كتب الفقه على ولي النكاح ، ومذهب الإمام مالك أن اليتيمة الصغيرة لا تزوج إذ لا إذن لها وعنده خلاف في تزويج الوصي لها إذا جعل له الأب الإجبار أو فهم عنه ذلك ، والمشهور أن له ذلك فيحمل اليتامى في الآية على الحديثات العهد بالبلوغ ، واسم اليتيم كما أشرنا إليه فيما مر مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ منصوبة على الحال من فاعل طابَ المستتر ، أو من مرجعه ، وجوز العلامة كونها حالا من النساء على تقدير جعل مِنَ بيانية ، وذهب أبو البقاء إلى كونها بدلا من ما وإلى الحالية ذهب البصريون وهو المذهب المختار ، والكوفيون لم يجوزوا ذلك لأنها معارف عندهم ، وأوجبوا في هذا المقام ما ذهب إليه أبو البقاء ، وهي ممنوعة من الصرف على الصحيح ، وجوز الفراء صرفها ، والمذاهب المنقولة في علة منع صرفها أربعة : أحدها قول سيبويه والخليل وأبي عمرو :
إنه العدل والوصف ، وأورد عليه أن الوصفية في أسماء العدد عارضة وهي لا تمنع الصرف ، وأجيب بأنها وإن عرضت في أصلها فهي نقلت عنها بعد ملاحظة الوصف العارض فكان أصليا في هذه دون أصلها ولا يخلو عن نظر ، والثاني قول الفراء : إنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام ولذا لم تجز إضافتها ولا دخول «1» أل عليها ، والثالث ما نقل عن الزجاج أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، فعدلت عن ألفاظ العدد وعن المؤنث إلى المذكر ففيها عدلان وهما سببان ، والرابع ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرار العدل فيه لأن مثنى مثلا عدلت عن لفظ اثنين ومعناه لأنها لا تستعمل في موضع تستعمل فيه إذ لا تلي العوامل وإنما تقع بعد جمع إما خبرا ، أو حالا ، أو وصفا وشذ أن تلي العوامل وأن تضاف ، وزاد السفاقسي في علة المنع خامسا وهو العدل من غير جهة العدل لأن باب العدل أن يكون في المعارف وهذا عدل في النكرات ، وسادسا وهو العدل والجمع لأنه يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع ، وقال : زاد هذين ابن الصائغ في شرح الجمل ، وجاء آحاد وموحد ، وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ، ورباع ومربع ، ولم يسمع فيما زاد على ذلك - كما قال أبو عبيدة - إلا في قول الكميت :
ولم يستر يثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا
من هنا أعابوا «2» على المتنبي قوله :
أحاد أم سداس في أحاد لييلتنا المنوطة بالتناد
ومن الناس من جوز خماس ومخمس إلى آخر العقد قياسا ، وليس بشيء ، واختير التكرار ، والعطف بالواو لتفهم الآية أن لكل واحد من المخاطبين أن يختار من هذه الأعداد المذكورة أي عدد شاء إذ هو المقصود لا أن بعضها
___________
(1) ودعوى الزمخشري دخولها عليها لا دليل لها وكان اللائق الاستشهاد على ذلك ا ه منه.
(2) كذا بخطه. [.....]

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 402
لبعض منهم والبعض الآخر لآخر ، ولو أفردت الأعداد لفهم من ذلك تجويز الجمع بين تلك الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بكلمة - أو - لفات تجويز الاختلاف في العدد بأن ينكح واحد اثنتين ، وآخر ثلاثا أو أربعا وما قيل إنه لا يلتفت إليه الذهن - لأنه لم يذهب إليه أحد - لا يلتفت إليه لأن الكلام في الظاهر الذي هو نكتة العدول ، وادعى بعض المحققين أنه لو أتى من الأعداد بما لا يدل على التكرار لم يصح جعله حالا معللا ذلك بأن جميع الطيبات ليس حالها أنها اثنان ولا حالها أنها ثلاثة ، وكذا لو قيل : اقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم درهما واثنين وثلاثة وأربعة لم يصح جعل العدد حالا من المال الذي هو ألف درهم لأن حال الألف ليس ذلك بخلاف ما إذا كرر فإن المقصود حينئذ التفصيل في حكم الانقسام كأنه قيل : فانكحوا الطيبات لكم مفصلة ومقسمة إلى ثنتين ثنتين «1» ، وثلثا ثلثا ، وأربعا أربعا ، واقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم مفصلا ومقسما إلى درهم درهم ، واثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وبهذا يظهر فساد ما قيل : من أنه لا فرق بين اثنين ومثنى في صحة الحالية لأن انفهام الانقسام ظاهر من الثاني دون الأول كما لا يخفى ، وأنه إنما أتي بالواو دون أو ليفيد الكلام أن تكون الأقسام على هذه الأنواع غير متجاوز إياها إلى ما فوقها لا أن تكون على أحد هذه الأنواع غير مجموع بين اثنين منها وذلك بناء على أن الحال بيان لكيفية الفعل ، والقيد في الكلام نفي لما يقابله والواو ليست لأحد الأمرين أو الأمور كأو ، وبهذا يندفع ما ذهب إليه البعض من جواز التسع تمسكا بأن الواو للجمع فيجوز الثنتان والثلاث والأربع وهي تسع ، وذلك لأن من نكح الخمس أو ما فوقها لم يحافظ على القيد أعني كيفية النكاح وهي كونه على هذا التقدير والتفصيل بل جاوزه إلى ما فوقه ولعل هذا مراد القطب بقوله : إنه
تعالى لما ختم الأعداد على الأربعة لم يكن لهم الزيادة عليها وإلا لكان نكاحهم خمسا خمسا ، فقول بعضهم : اللزوم ممنوع لعدم دلالة الكلام على الحصر فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان هذا تنصيصا في تفويض زمام الاختيار إليه مطلقا ورفع الحجر عنه ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا هنا ، وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر - فإذا ذكر بعض الأعداد بعد فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد - كلام ليس في محله ، وفرق ظاهر بين ما نحن فيه والمثال الحادث.
وقد ذكر الإمام الرازي شبه المجوزين التزوج بأي عدد أريد ، وأطال الكلام في هذا المقام إلا أنه لم يأت بما يشرح الصدر ويريح الفكر ، وذلك أنه قال : إن قوما شذاذا ذهبوا إلى جواز التزوج بأي عدد واحتجوا بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية بثلاثة أوجه : الأول أن قوله سبحانه : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا ، والثاني أن مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن التخصيص بالبعض لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، والثالث أن الواو للجمع المطلق - فمثنى وثلاث ورباع - يفيد حل المجموع وهو تسع بل ثماني عشرة.
وأما الخبر فمن وجهين : الأول أنه ثبت بالتواتر أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم مات عن تسع ثم إن اللّه تعالى أمرنا باتباعه ، فقال فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام : 153 ، 155] وأقل مراتب الأمر الإباحة ، الثاني أن سنة الرجل طريقته والتزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم فكان ذلك سنة له ثم
إنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «من رغب عن سنتي فليس مني»
وظاهر الحديث يقتضي توجه الذم على من ترك التزوج بالأكثر من الأربع فلا أقل من
___________
(1) كذا بخطه أيضا. والخطب سهل ا ه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 403
أن يثبت أصل الجواز ، ثم قال : واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحسر على أمرين : الأول الخبر ، وهو ما
روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «أمسك أربعا وفارق سائرهن»
وهذا الطريق ضعيف لوجهين الأول أن القرآن لما دل على عدم الحصر فلو أثبتنا الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز ، والثاني أنه صلّى اللّه عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربع والبواقي غير جائز إما بسبب النسب ، أو بسبب الرضاع ، وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله ، والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد لكن فيه سؤالان : الأول أن الإجماع لا ينسخ به «1» فكيف يقال : إن الإجماع نسخ هذه الآية ، الثاني أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والإجماع عند مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.
وأجيب عن السؤال الأول أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمان الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وعن الثاني أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته فلا تضر في انعقاد الإجماع انتهى ، ولا يخفى ما في احتجاج الشذاذ بالآية من النظر ، ويعلم ذلك من التأمل فيما ذكرنا.
وأما الاحتجاج بالخبر فليس بشيء أيضا لأن الإجماع قد وقع على أن الزيادة على الأربع من خصوصياته صلى اللّه تعالى عليه وسلم ونحن مأمورون باتباعه والرغبة في سنته عليه الصلاة والسلام في غير ما علم أنه من الخصوصيات أما فيما علم أنه منها فلا ، وأما الأمران اللذان اعتمد عليهما الفقهاء في هذا المقام ففي غاية الإحكام.
والوجه الأول في تضعيف الأمر الأول منهما يرد عليه أن قول الإمام فيه : إن القرآن لما دل على عدم الحصر إلخ ممنوع ، كيف وقد تقدم ما يفهم منه دلالته على الحصر؟ وبتقدير عدم دلاله على الحصر لا يدل على عدم الحصر بل غياة الأمر أنه يحتمل الأمرين الحصر وعدمه ، فيكون حينئذ مجملا ، وبيان المجمل بخبر الواحد جائز كما بين في الأصول ، وما ذكر في الوجه الثاني من وجهي التضعيف - بأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع - مما لا يكاد يقبل مع تنكير أربعا وثبوت
«اختر منهنّ أربعا» كما في بعض الروايات الصحيحة في حديث غيلان ،
وكذا
في الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة والنحاس عن قيس بن الحارث الأسدي أنه قال : أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأخبرت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال : «اختر منهنّ أربعا وخل سائرهنّ ففعلت»
فإن ذلك يدل دلالة لا مرية فيها أن المقصود إبقاء أي أربع لا أربع معينات ، فالاحتمال الذي ذكره الإمام قاعد لا قائم ، ولو اعتبر مثله - قادحا في الدليل - لم يبق دليل على وجه الأرض ، نعم الحديث مشكل على ما ذهب اليه الإمام الأعظم على ما نقل ابن هبيرة فيمن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة من أنه إن كان العقد وقع عليهن في حالة واحدة فهو باطل وإن كان في عقود صح النكاح في الأربع الأوائل فإنه حينئذ لا اختيار ، وخالفه في ذلك الأئمة الثلاثة وهو بحث آخر لسنا بصدده.
وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحصر الإجماع فإنه قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف ولا يشترط في الإجماع اتفاق كل الأمة من لدن بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة كما يوهمه كلام الإمام الغزالي ، وإلا لا يوجد إجماع أصلا ، وبهذا يستغنى عما ذكره الإمام الرازي - وهو أحد مذاهب في المسألة - من أن
___________
(1) أي عند الجمهور ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 404
مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته ، فالحق الذي لا محيص عنه أنه يحرم الزيادة على الأربع - وبه قال الإمامية - ورووا عن الصادق رضي اللّه تعالى عنه لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام ، وشاع عنهم خلاف ذلك ، ولعله قول شاذ عندهم.
ثم إن مشروعية نكاح الأربع خاصة بالأحرار والعبيد غير داخلين في هذا الخطاب لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه
لقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر»
ولأن في تنفيذ نكاحه تعيبا له إذ النكاح عيب فيه فلا يملكه بدون إذن المولى ، وأيضا قوله تعالى بعد : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لا يمكن أن يدخل فيه العبيد لعدم الملك فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق ما لا يدخل في اللاحق وكذا لا يمكن دخولهم في قوله تعالى : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً لأن العبد لا يأكل فيكون لسيده ، وخالف في ذلك الإمام مالك فأدخل العبيد في الخطاب ، وجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار ولا يتوقف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح ، ومن الفقهاء من ادعى أن ظاهر الآية يتناولهم إلا أنه خصص هذا العموم بالقياس لأن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يجعل للعبد نصف ما للحر فيه أيضا ، واختلفوا في الأمر بالنكاح فقيل للإباحة ولا يلغو «طاب» إذا كان بمعنى خل لأنه يصير المعنى أبيح لكم ما أبيح هنا لأن مناط الفائدة القيد وهو العدد المذكور ، وقيل : للوجوب أي الاقتصار على هذا العدد لا وجوب أصل النكاح فقد قال الإمام النووي : لا يعلم أحد أوجب النكاح إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر ، ورواية عن أحمد فإنهم قالوا : يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى قالوا : وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم خوف العنت ، وقال أهل الظاهر : إنما يلزمه التزوج فقط ولا يلزمه الوطء ، واختلف العلماء في الأفضل من النكاح وتركه.
وذكر الإمام النووي أن الناس في ذلك أربعة أقسام : قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح ، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن فيكره له ، وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له أيضا ، وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان ، وقسم يجد المؤن ولا تتوق نفسه ، فمذهب الشافعي. وجمهور الشافعية أن ترك النكاح لهذا والتخلي للتحلي بالعبادة أفضل ، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل ، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك والشافعي أن النكاح له أفضل انتهى المراد منه ، وأنت تعلم أن المذكور في كتب ساداتنا الحنفية متونا وشروحا مخالف لما ذكره هذا الإمام في تحقيق مذهب الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه ، ففي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار في كتاب النكاح ما نصه :
ويكون واجبا عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض كما في النهاية وهذا إن ملك المهر والنفقة وإلا فلا إثم بتركه كما في البدائع ، ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينا وولدا حال الاعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة.
ورجح في النهر وجوبه للمواظبة عليه ، والإنكار على من رغب عنه ، ومكروها لخوف الجور فإن تيقنه حرم انتهى ، لكن في دليل الوجوب على ما ذكره صاحب النهر مقالا للمخالفين وتمام الكلام في محله ، هذا وقد قيل : في تفسير الآية الكريمة أن المراد من النِّساءِ اليتامى أيضا ، وأن المعنى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا في اليتامى المرباة في حجوركم فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ من يتامى قراباتكم ، وإلى هذا ذهب الجبائي وهو كما ترى ، وقيل :
إنه لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفا من

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 405
لحوق الحوب بترك الاقساط مع أنهم كانوا لا يتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم : إِنْ خِفْتُمْ ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه ، وإلى نحو من هذا ذهب ابن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك وابن عباس في إحدى الروايات عنه ، وقيل : كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الحوب في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، ونظيره ما إذا داوم على الصلاة من لا يزكي فتقول له : إن خفت الإثم في ترك الصلاة فخف من ترك الزكاة ، وإلى قريب من هذا ذهب مجاهد.
وتعقب هذين القولين العلامة شيخ الإسلام بقوله : ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لابتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس وظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى : وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إلى قوله سبحانه : وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً ويفهم من كلام بعض المحققين أيضا أن الأظهر في الآية ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها دون هذين القولين لأن الآية على تلك الرواية تتنزل على قوله تعالى : وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النساء : 127] فيتطابق الآيتان ولا يتأتى ذلك على القولين بل لا ارتباط بين الآيتين عليهما لأن مقتضاهما أن الكلام في مطلق اليتامى لا في يتامى النساء ، ثم يبعدهما أن الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام ، أما الأول فمن حيث إن الجور على النساء في الحرمة كالجور على اليتامى في أن كلّا منهما جور ، وأما الثاني فلأن الزنا محرم كما أن الجور على اليتامى محرم وكم من محرم يشاركهما في التحريم فليس ثم خصوصية تربط الشرط والجواب كالخصوصية الرابطة بينهما هناك ، ثم الظاهر من قوله سبحانه :
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أنه وارد بصيغة التوسعة عليهم بنوع من التقييد كأنه قيل : إن خفتم من نكاح اليتامى ففي غيرهن متسع إلى كذا ، وعلى القول الأول من القولين يكون المراد التضييق لأن حاصله إن خفتم الجور على النساء فاحتاطوا بأن تقللوا عدد المنكوحات وهو خلاف ما يشعر به «1» السياق من التوسعة وبعيد «2» عن جزالة التنزيل كما لا يخفى ، وقيل : إن الرجل كان يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ويقول : ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فني ماله مال على مال اليتيم الذي في حجره فأنفقه فنهى أولياء اليتامى على أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ، ونسب هذا إلى ابن عباس وعكرمة ، وعليه يكون المراد من اليتامى أعم من الذكور والإناث وكذا على القولين قبله.
وأورد عليه أنه يفهم منه جواز الزيادة على الأربع لمن لا يحتاج إلى أخذ مال اليتيم وهو خلاف الإجماع ، وأيضا يكون المراد من هذا الأمر التضييق وهو كما علمت خلاف ما يشعر به السياق المؤكد بقوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً كأنه لما وسع عليهم أنبأهم أنه قد يلزم من الاتساع خوف الميل فالواجب حينئذ أن يحترزوا بالتقليل فيقتصروا على الواحدة ، والمراد فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فيما بين هذه المعدودات ولو في أقل
___________
(1) ووجه إشعاره بذلك أنه أطلق قوله سبحانه : ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ثم جاء مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ كأنه بيان لما وقع إطلاقه على نوع من التقييد ا ه منه.
(2) إذ لو كان المراد التضييق لكان التقييد من الأول أوقع فيه وأمسّ به ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 406
الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى ، أو كما لم تعدلوا في حقهن فاختاروا ، أو الزموا واحدة واتركوا الجميع بالكلية ، وقرأ إبراهيم - وثلث وربع - على القصر من - ثلاث ورباع ، وقرأ أبو جعفر فَواحِدَةً بالرفع أي فالمقنع واحدة ، أو فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أو فالمنكوحة واحدة.
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من السراري بالغة ما بلغت كما يؤخذ من السياق ، ومقابلة الواحدة وهو عطف على واحدة على أن اللزوم والاختيار فيه بطريق التسري لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لاستلزامه ورود ملك النكاح على ملك اليمين بموجب اتحاد المخاطبين في الموضعين ، وقد قالوا : لا يجوز أن يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها لأن النكاح ما شرع إلا مثمرا بثمرات مشتركة بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة ، وهذا بخلاف ما سيأتي بقوله سبحانه : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النساء : 25] فإن المأمور بالنكاح هناك غير المخاطبين بملك اليمين وبعضهم يقدر في المعطوف عليه فانكحوا لدلالة أول الكلام عليه ، ويعطف هذا عليه على معنى اقتصروا على ما ملكت ، والكلام على حد قوله : علفتها تبنا وماء باردا وأو للتسوية وسوى في السهولة واليسرة بين الحرة الواحدة والسراري من غير حصر لقلة تبعتهن وخفة مؤنتهن وعدم وجوب القسم فيهن ، وزعم بعضهم أن هذا معطوف على النساء أي فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أو مما ملكت أيمانكم ولا يخفى بعده ، وقرأ ابن أبي عبلة من ملكت ، وعبر بما في القراءة المشهورة ذهابا للوصف ولكون المملوك لبيعه وشرائه والمبيع أكثره ما لا يعقل كان التعبير بما فيه أظهر ، وإسناد الملك لليمين لما أن سببه الغالب هو الصفقة الواقعة بها ، وقيل : لأنه أول ما يكون بسبب
الجهاد والأسر ، وذلك محتاج إلى أعمالها وقد اشتهر ذلك في الأرقاء لا سيما في إناثهم كما هو المراد هنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر ، وقيل : إنما قيل للرقيق ملك اليمين لأنها مخصوصة بالمحاسن وفيها تفاؤل باليمن أيضا ، وعن بعضهم أن أعرابيا سئل لم حسنتم أسماء مواليكم دون أسماء أبنائكم؟ فقال : أسماء موالينا لنا وأسماء أبنائنا لأعدائنا فليفهم ، وادعى ابن الفرس أن في الآية ردا على من جعل النكاح واجبا على العين لأنه تعالى خير فيها بينه وبين التسري ولا يجب التسري بالاتفاق ولو كان النكاح واجبا لما خير بينه وبين التسري لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب وغيره لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب وأن تاركه لا يكون آثما ، ولا يرد هذا على من يقول : الواجب أحد الأمرين ، ويمنع الاتفاق على عدم وجوب التسري في الجملة فتدبر ، وزعم بعضهم أن فيها دليلا على منع نكاح الجنيات لأنه تعالى خص النساء بالذكر.
وأنت تعلم أن مفهوم المخالفة عند القائل به غير معتبر هنا لظهور نكتة تخصيص النساء بالذكر وفائدته ، وادعى الإمام السيوطي أن فيها إشارة إلى حل النظر قبل النكاح لأن الطيب إنما يعرف به ، ولا يخفى أن الإشارة ربما تسلم إلا أن الحصر ممنوع وهذا الحل ثبت في غير ما حديث ، وفي صحيح مسلم أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال للمتزوج امرأة من الأنصار :
«أنظرت إليها؟ قال : لا ، قال : فاذهب وانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا»
وهو مذهب جماهير العلماء ، وحكي عن قوم كراهته وهم محجوجون بالحديث والإجماع على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها ، ثم إنه إنما يباح له النظر إلى الوجه والكفين ، وقال الأوزاعي : إلى مواضع اللحم.
وقال داود : إلى جميع بدنها وهو خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع ، وهل يشترط رضا المرأة أم لا؟
الجمهور على عدم الاشتراط بل للرجل النظر مع الغفلة وعدم الرضا ، وعن مالك كراهة النظر مع الغفلة ، وفي رواية ضعيفة عنه لا يجوز النظر إليها إلا برضاها ، واستحسن كثير كون هذا النظر قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 407
إيذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة كما لا يخفى ، وقال بعضهم : إن فيها إشارة أيضا إلى استحباب الزيادة على الواحدة لمن لم يخف عدم العدل لأنه سبحانه قدم الأمر بالزيادة وعلق أمر الواحدة بخوف عدم العدل ، ويا ما أحيلى الزيادة إن ائتلفت الزوجات وصح جمع المؤنث بعد التثنية معربا بالضم من بين سائر الحركات ، وهذا لعمري أبعد من العيوق ، وأعز من الكبريت الأحمر ، وبيض الأنوق :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ذلِكَ أي اختيار الواحدة أو التسري أو الجميع - وهو الأولى - وإليه يشير كلام ابن أبي زيد أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا والعول في الأصل الميل المحسوس يقال : عال الميزان عولا إذا مال ، ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور ، ومنه عال الحاكم إذا جار ، والمراد هاهنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة والتسري أقرب بالنسبة إلى ما عداهما ، من أن لا تميلوا ميلا محظورا لانتفائه رأسا بانتفاء محله في الأول ، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر ، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر ، وإلى هذا ذهب بعض المحققين ، وجوز بعضهم كون الإشارة إلى ثلاثة أمور : التقليل من الأزواج واختيار الواحدة والتسري ، أي هذه الأمور الثلاثة أدنى من جميع ما عداها ، والأول أظهر.
وقد حكي عن الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه أنه فسر أَلَّا تَعُولُوا بأن لا تكثر عيالكم وقد ذكر الشهاب أنه خطأه وحاشاه فيه كثير من المتقدمين لأنه إنما يقال لمن كثرت عياله : أعال يعيل إعالة ولم يقولوا عال يعول.
وأجيب بأن الإمام الشافعي سلك في هذا التفسير سبيل الكناية فقد جعل رضي اللّه تعالى عنه الفعل في الآية من عال الرجل عياله يعولهم كقولك : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ، ومن كثرت عياله لزمه أن يعولهم فاستعمل الإنفاق وأراد لازم معناه وهو كثرة العيال ، واعترض بأن عال بمعنى مان وأنفق لا دلالة له على كثرة المئونة حتى يكنى به عن كثرة العيال ، وأجيب بأن الراغب ذكر أن أصل معنى العول الثقل يقال : عاله أي تحمل ثقل مؤنته ، والثقل إنما يكون في كثير الإنفاق لا في قليله فيراد من أَلَّا تَعُولُوا كثرة الإنفاق بقرينة المقام والسياق لأنه ليس المراد نفي المئونة والعيال من أصله إذ من تزوج واحدة كان عائلا وعليه مؤنة فالكلام كالصريح فيه واستعمال أصل الفعل في الزيادة فيه غير عزيز فلا غبار ، وذكر في الكشف أنه لا حاجة إلى أصل الجواب عن الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه فإن الكسائي نقل عن فصحاء العرب عال يعول إذا كثر عياله وممن نقله الأصمعي والأزهري وهذا التفسير نقله ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وهو من أجلة التابعين ، وقراءة طاوس - أن لا تعيلوا - مؤيدة له فلا وجه لتشنيع من شنع على الإمام جاهلا باللغات والآثار ، وقد نقل الدوري إمام القراء أنها لغة حمير وأنشد :
وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا
أي وإن كثرت ماشيته وعياله ، وأما ما قيل : إن عال بمعنى كثرت عياله يأتي وبمعنى جار واوي فليست التخطئة في استعمال عال في كثرة العيال بل في عدم الفرق بين المادتين ، فرد أيضا بما اقتضاه كلام البعض من أن عال له معان : مال وجار وافتقر وكثرت عياله ومان وأنفق وأعجز ، يقال : عالني الأمر أي أعجزني ومضارعه ويعيل يعول فهو من ذوات الواو والياء على اختلاف المعاني ، تم المراد بالعيال على هذا التفسير يحتمل أن يكون الأزواج كما أشرنا إليه وعدم كثرة الأزواج في اختيار الواحدة وكذا في التقليل إن قلنا إنه داخل في المشار إليه ظاهر ، وأما عدم كثرتهن في التسري فباعتبار أن ذلك صادق على عدمهنّ بالكلية.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 408
ويحتمل أن يكون الأولاد وعدم كثرتهم في اختيار الواحدة وكذا في التقليل ظاهر أيضا ، وأما عدم كثرتهم في التسري فباعتبار أنه مظنة قلة الأولاد إذ العادة على أن لا يتقيد المرء بمضاجعة السراري ولا يأبى العزل عنهن بخلاف المهائر فإن العادة على تقيد المرء بمضاجعتهن وإباء العزل عنهن وإن كان العزل عنهن كالعزل عن السراري جائزا شرعا بإذن وبغير إذن في المشهور من مذهب الشافعي ، وفي بعض شروح الكشاف ما يدل على أن في ذلك خلافا عند الشافعية فمنعه بعضهم كما هو مذهب أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه فسر أَلَّا تَعُولُوا بأن لا تفتقروا وقد قدمنا أن عال يجيء بمعنى افتقر ، ومن وروده كذلك قوله :
فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغنى متى «يعيل»
إلا أن الفعل في البيت يائي لا واوي كما في الآية والأمر فيه سهل كما عرفت ، وعلى سائر التفاسير الجملة مستأنفة جارية مما قبلها مجرى التعليل وَآتُوا النِّساءَ أي أعطوا النساء اللاتي أمر بنكاحهن صَدُقاتِهِنَّ جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال ، وهي كالصداق بمعنى المهر ، وقرئ صَدُقاتِهِنَّ بفتح الصاد وسكون الدال ، وأصلها بضم الدال فخففت بالتسكين ، وصَدُقاتِهِنَّ بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة ، وقرئ صدقتهن بضم الصاد والدال على التوحيد ، وأصله صدقة بضم الصاد وسكون الدال فضمت الدال اتباعا لضم الأول كما يقال : ظلمة وظلمة نِحْلَةً أي فريضة قاله ابن عباس وابن زيد وابن جريج وقتادة فانتصابها على الحالية من الصدقات أي أعطوهن مهورهنّ حال كونها فريضة من اللّه تعالى لهنّ.
وقال الزجاج وابن خالويه : تدينا فانتصابها على أنها مفعول له أي أعطوهنّ ديانة وشرعة ، وقال الكلبي : هبة وعطية من اللّه وتفضلا منه تعالى عليهن فانتصابها على الحالية من الصدقات أيضا ، وقيل : عطية من الأزواج لهنّ فانتصابها على المصدر ، أو على الحالية من ضمير آتوا أو من النساء أو من صدقاتهنّ.
واعترض بأن الحال قيد للعامل ليلزم هنا كون الإيتاء قيدا للإيتاء والشيء لا يكون قيدا لنفسه ، وأجيب بأن النحلة ليست مطلق الإيتاء بل هي نوع منه ، وهو الإيتاء عن طيب نفس ، فالمعنى أعطوهنّ صدقاتهن طيبي النفوس بالإعطاء ، أو معاطاة عن طيب نفس ، وعليه فالمصدر مبين للنوع «فإن قلت» : إن النحلة أخذ في مفهومها أيضا عدم العوض فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به؟ أجيب بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجانا لمقابلة التمتع بتمتع أكثر منه ، وقيل : إن الصداق كان في شرع من قبلنا للأولياء بدليل قوله تعالى : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ [القصص : 27] إلخ ، ثم نسخ فصار ذلك عطية اقتطعت لهنّ فسمي نحلة ، وأيد - غير واحد - قول الكلبي : بأن ما وضع له لفظ النحلة هو العطية من غير عوض كما ذهب إليه جماعة ، منهم الرماني ، وجعل من ذلك النحلة للديانة لأنها كالنحلة التي هي عطية من اللّه تعالى والنحل للدبر لما يعطي من العسل ، والناحل للمهزول لأنه يأخذ لحمه حالا بعد حال كأنه المعطيه بلا عوض ، والمنحول من الشعر لأنه نحلة الشاعر ما ليس له. وحينئذ فمن فسر النحلة بالفريضة نظر إلى أن هذه العطية فريضة ، والخطاب على ما هو المتبادر للأزواج وإليه ذهب ابن عباس وجماعة ، واختاره الطبري والجبائي وغيرهما قيل : كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول : أرثك وترثيني؟ فتقول : نعم ، فأمروا أن يسرعوا إلى إعطاء المهور ، وقيل : الخطاب لأولياء النساء
فقد أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج أيما أخذ صداقها دونها فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك ونزلت وَآتُوا النِّساءَ إلخ ، وروي ذلك الجارود من الإمامية عن الباقر رضي اللّه تعالى عنه ،
وهذه عادة كثير من العرب اليوم ، وهو حرام كأكل الأزواج شيئا من مهور النساء بغير رضاهنّ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ الضمير

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 409
للصدقات وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك فإنه كثيرا ما يشار به إلى المتعدد كقوله تعالى : قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمران : 15] بعد ذكر الشهوات المعدودة ، وقد روي عن أبي عبيدة أنه قال : قلت لرؤبة في قوله :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
إن أردت الخطوط : فقل كأنها ، وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما ، فقال : أردت كأن ذلك ويلك ، أو للصداق الواقع موقعه صَدُقاتِهِنَّ كأنه قيل : وآتوا النساء صداقهن والحمل على المعنى كثير ، ومنه قوله تعالى :
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون : 10] حيث عطف على ما دل عليه المذكور ووقع موقعه ، أو للصداق الذي في ضمن الجمع لأن المعنى آتوا كل واحدة من النساء صداقا ، وقيل : الضمير عائد إلى الإيتاء ، واعترض بأنه إنما يستقيم إذا أريد به المأتي ، ورجوع ضمير إلى مصدر مفهوم ، ثم تأويل ذلك المصدر بمعنى المفعول لا يخلو عن بعد ، واللام متعلقة بالفعلو كذا عن بتضمينه معنى التجافي والتباعد ، وإلا فأصله أن يتعدى لمثل ذلك بالباء كقوله : وما كاد نفسا بالفراق تطيب ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي كائن من الصداق ، وفيه بعث لهنّ على تقليل الموهوب حتى نقل «1» عن الليث أنه لا يجوز تبرعهن إلا باليسير ولا فرق بين المقبوض وما في الذمة إلا أن الأول هبة والثاني إبراء ، ولذلك تعامل الناس على التعويض فيه ليرتفع الخلاف نَفْساً تمييز لبيان الجنس ولذا وحد ، وتوضيح ذلك على ما ذكره بعض المحققين أن التمييز - كما قاله النحاة - إن اتحد معناه بالمميز وجبت المطابقة نحو كرم الزيدون رجالا كالخبر والصفة والحال ، وإلا فإن كان مفردا غير متعدد وجب إفراده نحو - كرم بنو فلان أبا - إذا المراد أن أصلهم واحد ، متصف بالكرم فإن تعدد وألبس وجب خلفه بظاهر نحو - كرم الزيدون آباء إذا أريد أن لكل منهم أبا كريما إذ لو أفرد توهم أنهم من أب واحد ، والغرض خلافه وإن لم يلبس جاز الأمران ، ومصحح الإفراد عدم الإلباس كما هنا لأنه لا يتوهم أن لهن نفسا واحدة ومرجحه أنه الأصل مع خفته ومطابقته لضمير منه ، وهو اسم جنس والغرض هنا بيان الجنس ، والواحد يدل عليه كقولك : عشرون درهما والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق متجافيا عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاملتكم ، وإنما أوثر ما في النظم الكريم دون فإن وهبن لكم شيئا منه عن طيب نفس إيذانا بأن العمدة في الأمر طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة حيث جعل ذلك
مبتدأ وركنا من الكلام لا فضلة كما في التركيب المفروض فَكُلُوهُ أي فكلوا ذلك الشيء الذي طابت لكم عنه نفوسهن وتصرفوا فيه تملكا ، وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية.
هَنِيئاً مَرِيئاً صفتان من - هنؤ الطعام يهنؤ هناءة. ومرؤ يمرؤ مراءة - إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيبا.
وفي الصحاح نقلا عن الأخفش يقال : هنؤ وهنئ ومرؤ ومرىء ، كما يقال : فقه وفقه - بكسر القاف وضمها - ويقال : هنأني الطعام يهنئني وينهنأني ولا نظير له في المهموز هنأ وهنأ ، وتقول : هنئت الطعام أي تهنأت به وكذا يقال :
مرأني الطعام يمرأ مرءا ، وقال بعضهم : أمرأني ، وقال الفراء : يقال : هنأني الطعام ومرأني بغير ألف فإذا أفردوها عن هنأني قالوا : أمرأني ، وقيل الهنيء الذي يلذه الآكل ، والمريء ما تحمد عاقبته ، وقيل : ما ينساغ في مجراه الذي هو المريء كأمير - وهو رأس المعدة ، والكرش اللاصق بالحلقوم سمي به لمرور الطعام فيه أي انسياغه ، وانتصابهما - كما قال الزمخشري - على أنهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا ووصف المصدر بهما كما قال السعد : على الإسناد
___________
(1) وعن الأوزاعي - كما في الكشاف - لا يجوز تبرعها ما لم تلد. أو تقم في بيت زوجها سنة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 410
المجازي إذ الهنيء حقيقة هو المأكول أو على أنهما حالان من الضمير المنصوب أي كلوه وهو هنيء مريء ، وقد يوقف على كلوه ويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنا مرأ ، وأورد على ذلك مع أن الدعاء لا يكون من اللّه تعالى حتى أولوه أنه تحريف لكلام النحاة ومخالفة لهم ، فإنهم يجعلون انتصاب هنيئا على الحال ، ومريئا إما على الحال ، وإما على الوصف ، ويدل على فساد ما خرّجه الزمخشري - وصحة قول النحاة - ارتفاع الأسماء الظاهرة بعدا هنيئا مرئيا ولو كانا منتصبين انتصاب المصادر المراد بها الدعاء لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز أن يقال : في سقيا لك ورعيا سقيا اللّه تعالى لك ورعيا اللّه لك ، وإن كان ذلك جائزا في فعله ، والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدهما قول كثير :
«هنيئا مريئا» غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت
فإن (ما) مرفوعة بما تقدم من هنيئا أو مريئا على طريق الإعمال ، وجاز الإعمال في هذه المسألة ، وإن لم يكن بينهما رابط عطف لكون مريئا في الغالب «1» لا يستعمل إلا تابعا لهنيئا فصارا كأنهما مرتبطان لذلك ورد بأن سيبويه قال : هنيئا مريئا صفتان نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه ، وفيه أنه ليس بنص فيما ذهب إليه الزمخشري لاحتمال أنه أراد أنهما صفتان منصوبان على الحالية ، والعامل فيهما فعل محذوف يدل الكلام عليه كالمصادر المدعو بها في أنها معمولة لفعل محذوف يدل الكلام عليه ، ويؤيد ذلك أنه قال بعد ذلك كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئا فإن هذا مما يقال : على تقدير إقامتهما مقام المصدر ، ومن هنا قال السفاقسي : إن مذهب سيبويه والجماعة أنهما حال منصوب بفعل مقدر محذوف وجوبا لقيامهما مقامه كقولك : أقائما وقد قعد الناس ، واعترض بهذا على ما تقدم من احتمال جعلهما حالا من الضمير المنصوب في فَكُلُوهُ إذ عليه يكونان من جملة أخرى لا تعلق لهما - بكلوا - من حيث الإعراب واعترض أيضا على الاستدلال بالبيت على رفع الظاهر بهما بأنه لا يتم لجواز أن تكون ما مرفوعة بالابتداء ولعزة خبره ، أو مرفوعة بفعل مقدر ، وكيفما كان الأمر يكون قوله سبحانه ذلك عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة ، وفي كتاب العياشي من الإمامية مرفوعا إلى عليّ كرم اللّه تعالى وجهه أنه جاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إن في بطني وجعا فقال : ألك زوجة؟ قال : نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت اللّه سبحانه وتعالى يقول في كتابه : وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً [ق : 9] وقال تعالى : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل : 69] وقال عز شأنه : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيء والمريء شفيت إن شاء اللّه تعالى ففعل الرجل ذلك فشفي ، وأخرج عبد بن حميد وغيره من أصحابنا عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ما يقرب من هذا بلفظ إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحوها فليشتر بها عسلا وليأخذ من ماء السماء فيجمع هنيئا مرئيا وشفاء ومباركا
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن أناسا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه إلى امرأته فنزلت هذه الآية ، وفيها دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس وقلما يتحقق ولهذا كتب عمر رضي اللّه تعالى عنه إلى قضاته أن النساء تعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها
___________
(1) ومن غير الغالب
قوله صلّى اللّه عليه وسلم في حديث الاستسقاء : «اسقنا غيثا مريئا»
ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 411
وحكى الشعبي أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع فقال شريح : ردها عليها فقال الرجل : أليس قد قال اللّه تعالى : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ قال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه ، وعنه ولا أقيلها وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن والذي عليه الحنفيون أن الزوجة إذا وهبت شيئا للزوج ليس لها الرجوع فيه بل ذكر ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة على أنه ليس لأحد من الزوجين الرجوع فيما وهب لصاحبه.
[سورة النساء (4) : الآيات 5 إلى 11]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس أعني النكاح ، وبيان بعض الحقوق المتعلقة بالأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال استطرادا إذ الخطاب - كما يدل عليه كلام عكرمة - للأولياء ، وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السُّفَهاءَ اليتامى ، ومن أَمْوالَكُمُ أموالهم وإنما أضيفت إلى ضمير الأولياء المخاطبين - تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بهم فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي - مبالغة في حملهم على المحافظة عليها ، ونظير ذلك قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء : 29] فإن المراد لا يقتل بعضكم بعضا إلا أنه عبر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل حتى كأن قتلهم قتل أنفسهم ، وقد أيد ذلك بما دل عليه قوله سبحانه : الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً حيث غير عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء ، ومفعول جعل الأول محذوف وهو ضمير الأموال ، والمراد من

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 412
القيام ما به القيام والتعيش ، والتعبير بذلك زيادة في المبالغة وهو المفعول الثاني لجعل ، وقد جوز أن يكون المحذوف وحده مفعولا ، وهذا حالا منه ، وقيل : إنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء نظرا إلى كونها تحت ولايتهم.
واعترض بأنه وإن كان صحيحا في نفسه لأن الإضافة لأدنى ملابسة ثابتة في كلامهم كما في قوله :
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة سهيل أذاعت غزالها في القرائب
إلا أنه غير مصحح لاتصاف الأموال بما بعدها من الصفة ، وقيل : إنما أضيفت إلى ضميرهم لأن المراد بالمال جنسه مما يتعيش الناس به ونسبته إلى كل أحد كنسبته إلى الآخر لعموم النسبة والمخصوص بواحد دون واحد شخص المال فجاز أن ينسب حقيقة إلى الأولياء كما ينسب إلى الملاك ، ويؤيد ذلك وصفه بما لا يختص بمال دون مال ، واعترض بأن ذلك بمعزل عن حمل الأولياء على المحافظة المذكورة كيف لا والواحدة الجنسية المالية ليست مختصة بما بين أموال اليتامى وأموال الأولياء بل هي متحققة بين أموالهم وأموال الأجانب فإذا لا وجه لاعتبارها أصلا ، وروي أنه سئل الصادق رضي اللّه تعالى عنه عن هذه الإضافة ، وقيل له : كيف كانت أموالهم أموالنا؟ فقال : إذ كنتم وارثين لهم ،
وفيه احتمالان : أحدهما أنه إشارة إلى ما ذكرناه أولا في توجيه الإضافة ، وثانيهما أن ذلك من مجاز الأول ، ويرد عليه حينئذ بعد القول بكذب نسبته إلى الصادق رضي اللّه تعالى عنه أن الأول غير متحقق بل العادة في الغالب على خلافه ، والحمل على التفاؤل مما يتشاءم منه الذوق السليم.
وذكر العلامة الطيبي أنه إنما أضيف الأموال إلى اليتامى في قوله تعالى : وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالغة في ردّ الأموال إليهم ، فاقتضى ذلك أن يقال : أموالهم ، وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم وأضافها إلى الأولياء انتهى ، ولا يخفى أنه بيان للعلة المرجحة لإضافة الأموال لمن ذكر ، وينبغي أن تكون العلة المصححة ما مرّ آنفا ، ثم وصف اليتامى بأنهم سفهاء باعتبار خفة أحلامهم واضطراب آرائهم لما فيهم من الصغر وعدم التدرب ، وأصل السفه الخفة والحركة ، يقال : تسفهت الريح الشجر أي مالت به ، قال ذو الرمة :
جرين كما اهتزت رماح «تسفهت» أعاليها مر الرياح النواسم
وقال أيضا :
على ظهر مقلات «سفيه» جديلها يعني خفيف زمامها ، ولكون هذا الوصف مما ينشأ منه تبذير المال وتلفه المخل بحال اليتيم ناسب أن يجعل مناطا لهذا الحكم ، وقد فسر السفهاء بالمبذرين بالفعل من اليتامى؟ وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب الكثير من المتأخرين ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن المراد بالسفهاء النساء والصبيان ، والخطاب لكل أحد كائنا من كان ، والمراد نهيه عن إيتاء ماله من لا رشد له من هؤلاء ، وقيل : إن المراد بهم النساء خاصة ، وروي عن مجاهد وابن عمر ، وروي «1» عن أنس بن مالك أنه قال : «جاءت امرأة سوداء جرية المنطق ذات ملح إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقالت : بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه قل فينا خيرا مرة واحدة فإنه بلغني أنك تقول فيناكل شر قال :
___________
(1) ذكر ذلك الطبرسي. ولي في صحته شك ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 413
أي شيء قلت فيكن؟ قالت : سميتنا السفهاء فقال : اللّه تعالى سماكن السفهاء في كتابه ، قالت : وسميتنا النواقص ، قال :
كفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها ، ثم قال : أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل اللّه تعالى وإذا وضعت كانت كالمتشحط في دمه في سبيل اللّه تعالى فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير فقالت السوداء : يا له من فضل لولا ما يتبعه من الشرط».
وقيل : إن السفهاء عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير ، وقريب منه ما
روي عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : إن السفيه شارب الخمر ومن يجري مجراه ،
وجعل الخطاب عاما أيضا للأولياء وسائر الناس والإضافة في أَمْوالَكُمُ لا تفيد إلا الاختصاص وهو شامل لاختصاص الملكية واختصاص التصرف ، وأيد ما ذهب إليه الكثير بأنه الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة ، ومن ذهب إلى غيره جعل ذكر هذا الحكم استطرادا وكون ذلك مخلا بجزالة النظم الكريم محل تأمل ، وقرأ نافع وابن عامر «قيما» بغير ألف ، وفيه - كما قال أبو البقاء - ثلاثة أوجه : أحدها أنه مصدر مثل الحول والعوض وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها كما صحت في العوض والحول لكن أبدلوها ياء حملا على قيام ، وعلى اعتلالها في الفعل ، والثاني أنها جمع قيمة - كديمة وديم - والمعنى أن الأموال كالقيم للنفوس إذ كان بقاؤها بها ، وقال أبو علي : هذا لا يصح لأنه قد قرئ في قوله تعالى : دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الأنعام : 161] وقوله سبحانه : الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً [المائدة : 97] ولا يصح معنى القيمة فيهما.
والثالث أن يكون الأصل قياما فحذفت الألف كما حذفت في خيم ، وإلى هذا ذهب بعض المحققين وجعل ذلك مثل عوذا وعياذا ، وقرأ ابن عمر - قواما - بكسر القاف وبواو وألف ، وفيه وجهان : الأول أنه مصدر قاومت قواما مثل لاوذت لواذا فصحت في المصدر كما صحت في الفعل ، والثاني أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر ، وقرئ كذلك إلا أنه بغير ألف وهو مصدر صحت عينه وجاءت على الأصل كالعوض ، وقرئ بفتح القاف وواو وألف ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه اسم مصدر مثل السلام والكلام والدوام ، وثانيهما : أنه لغة في القوام الذي هو بمعنى يقال : جارية حسنة القوام والقوام والمعنى التي جعلها اللّه تعالى سبب بقاء قامتكم ، وعلى سائر القراءات في الآية إشارة إلى مدح الأموال وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ولأن أترك مالا يحاسبني اللّه تعالى عليه خير من أن أحتاج إلى الناس ، وقال عبد اللّه بن عباس : الدراهم والدنانير خواتيم اللّه في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك ، وقال قيس بن سعد : اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال ، وقيل لأبي الزناد :
لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال : هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها ، وفي منثور الحكم من استغنى كرم على أهله ، وفيه أيضا الفقر مخذلة والغنى مجذلة والبؤس مرذلة والسؤال مبذلة. وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه ، وقال أبو العتاهية :
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى وكل غنى في العيون جليل
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت اليه ومال الناس حيث يميل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى عشية يقرى أو غداة ينيل
وقد أكثر الناس في مدح المال واختلفوا في تفضيل الغنى والفقر ، واستدل كل على مدعاه بما لا يتسع له هذا المجال ، ولشيخنا علاء الدين أعلى اللّه تعالى درجته في أعلى عليين :

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 414
قالوا اغتنى ناس وإنا نرى عنك وأنت العلم المال مال
قلت غنى النفس كمال الغنى والفقر كل الفقر فقد الكمال
«وله أيضا» :
قالوا حوى المال رجال وما على كمال نلت هذا المنال
فقلت حازوا بعض أجزائه وإنني حزت جميع الكمال
وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ أي اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال لئلا يأكله الإنفاق ، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة ، ولو قيل :
منها كان الإنفاق من نفس المال ، وجوز بعضهم أن تكون في بمعنى من التبعيضية.
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي كلاما تطيب به نفوسهم كأن يقول الولي لليتيم : مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك ، وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بعدة جميلة في البر والصلة ، وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله ، وإن غنمت في غزاي جعلت لك حظا ، وقال الزجاج : علموهم - مع إطعامكم وكسوتكم إياهم - أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل ، وقال القفال : إن كان صبيا فالوصي يعرفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه يرد المال إليه ، وإن كان سفيها وعظه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإتلاف فقر واحتياج.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه فقل له : عافانا اللّه تعالى وإياك بارك اللّه تعالى فيك ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر لما أنه ظاهر في أن الخطاب في هذه الجملة ليس للأولياء ، وبالجملة كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل معروف ، وكل ما أنكرته لقبحه شرعا أو عقلا منكر - قاله غير واحد - وليس إشارة إلى المذهبين في الحسن والقبح هل هو شرعي أو عقلي - كما قيل - إذ لا خلاف بيننا وبين القائلين بالحسن والقبح العقليين في الصفة الملائمة للغرض والمنافرة له ، وإن منها ما مأخذه العقل وقد يرد به الشرع ، وإنما الخلاف - فيما يتعلق به المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا - هل هو مأخذه للشرع فقط أو العقل على ما حقق في الأصول وَابْتَلُوا الْيَتامى شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق ، والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء - قاله شيخ الإسلام - وهو ظاهر على تقدير أن يراد السفهاء المبذرين «1» بالفعل من اليتامى وأما على تقدير أن يراد بهم اليتامى مطلقا ووصفهم بالسفه باعتبار ما أشير إليه فيما مر ففيه نوع خفاء ، وقيل : إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا شروع وهو مبني على أن ما تقدم كان مذكورا على سبيل الاستطراد والخطاب للأولياء ، والابتلاء الاختبار أي - واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها وجربوهم بما يليق بحالهم - والاقتصار على هذا الاهتداء رأي أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، والشافعي رحمه اللّه تعالى يعتب مع هذا أيضا الصلاح في الدين ، إلى ذلك ذهب ابن جبير ، ونسب إلى ابن عباس ، والحسن.
واتفق الإمامان رضي اللّه تعالى عنهما على أن هذا الاختبار قبل البلوغ وظاهر الكلام يشهد لهما لما تدل عليه الغاية ، وقال الإمام مالك : إنه بعد البلوغ ، وفرع الإمام الأعظم على كون الاختيار قبل أن تصرفات العاقل المميز بإذن
___________
(1) قوله : «المبذرين» كذا بخط المؤلف ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 415
الولي صحيحة لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء مثلا ، وقال الشافعي : الاختيار لا يقتضي الإذن في التصرف لأنه يتوقف على دفع المال إلى اليتيم - وهو موقوف على الشرطين - وهما إنما يتحققان بعد ، بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال ، فولد التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولي إن أراد وعلى هذا القياس حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي إذا بلغوا حدّ البلوغ وهو إما بالاحتلام ، أو بالسن - وهو خمس عشرة سنة - عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد - وهي رواية عن أبي حنيفة - وعليها الفتوى عند الحنفية لما أن العادة الفاشية أن الغلام والجارية يصلحان للنكاح وثمرته في هذه المدة ولا يتأخران عنها ، والاستدلال بما أخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود - ضعيف لأن البيهقي نفسه صرح بأن إسناد الحديث ضعيف ، وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للغلام تمام ثماني عشرة سنة وللجارية تمام سبع عرة سنة ، وله في ذلك قوله تعالى : حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام : 152] وأشدّ الصبي ثماني عشرة سنة - هكذا قاله ابن عباس - وتابعه القتبي ، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن غير أن الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة ، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة ، والمراد أن يطعن في التاسعة عشرة ويتم له ثماني عشرة ، وقيل : فيه اختلاف الرواية لذكر حتى يستكمل تسع عشرة سنة.
وشاع عن الإمام الشافعي أنه قد جعل الإنبات دليلا على البلوغ في المشركين خاصة ، وشنع ابن حزم الضال عليه ، والذي ذكره الشافعية أنه إذا أسر مراهق ولم يعلم أنه بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالبالغين من قتل ومنّ وفداء بأسرى منا أو مال واسترقاق. أو غير بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالصبيان من الرق يكشف عن سوأته فإن أنبت فله حكم الرجال وإلا فلا وإنما يفعل به ذلك لأنه لا يخبر المسلمين ببلوغه خوفا من القتل بخلاف المسلم فإنه لا يحتاج إلى معرفة بلوغه بذلك ، ولا يخفى أن هذا لا يصلح محلا للتشنيع وغاية ما فيه أنه جعل الإنبات سببا لإجراء أحكام الرجال عليه في هذه المسألة لعدم السبيل إلى معرفة البلوغ فيها وصلاحتيه لأن يكون أمارة في الجملة لذلك ظاهرة ، وأما أن فيه أن الإنبات أحد أدلة البلوغ مثل الاحتلام والإحبال والحيض والحبل في الكفار دون المسلمين فلا فَإِنْ آنَسْتُمْ أي أحسستم - قاله مجاهد - وأصل معنى الاستئناس - كما قال الشهاب - النظر من بعد مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يؤنس به ، ثم عم في كلامهم قال الشاعر :
«آنست» نبأة وأفزعها الق ناص عصرا وقد دنا الإمساء
ثم استعير للتبين أي علم الشيء بينا ، وزعم بعضهم أن أصله الإبصار مطلقا وأنه أخذ من إنسان العين وهو حدقتها التي يبصر بها ، وهو هنا محتمل لأن يراد منه المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي ، وقرأ ابن مسعود أحستم بحاء مفتوحة وسين ساكنة ، وأصله أحسستم بسينين نقلت حركة الأولى إلى الحاء وحذفت لالتقاء الساكنين إحداهما على غير القياس ، وقيل : إنها لغة سليم وإنها مطردة في عين كل فعل مضاعف اتصل بها تاء الضمير ، أو نونه كما في قول أبي زيد الطائي :
خلا أن العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس
مِنْهُمْ رُشْداً أي اهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها ، وقيل : صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم ، وتقديم الجار والمجرور لما مر غير مرة ، وقرئ رشدا بفتحتين ، ورشدا بضمتين ، وهما بمعنى رشدا ، وقيل : الرشد ، بالضم في الأمور الدنيوية والأخروية ، وبالفتح في الأخروية لا غير ، والراشد والرشيد يقال فيهما فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 416
أَمْوالَهُمْ أي من غير تأخير عن حدّ البلوغ كما تدل عليه الفاء ، وفي إيثار الدفع على الإيتاء في أول الأمر إيذان على ما ذهب إليه البعض بتفاوتهما بحسب المعنى ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، ونظم الآية أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله :
سريت بهم حتى تكل مطيهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وتسمى ابتدائية في ذلك ، ولا يذهب منها معنى الغاية كما نصوا عليه في عامة كتب النحو ، وذكره الكثير من الأصوليين خلافا لمن وهم فيه ، وما بعدها جملة شرطية جعلت غاية للابتلاء ، وفعل الشرط بلغوا وجوابه الشرطية الثانية كما حققه غير واحد من المعربين ، وبيان ذلك أنه ذكر في شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان فأكثر كقولك : إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك فأحسنت إليك جواب إن جئتني ، واستغنى به عن جواب إن وعدتك ، وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مقيد للأول بمنزلة الحال ، وكأنه قيل : إن جئتني في حال وعدي لك ، والصحيح في هذه المسألة أن الجواب للأول ، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه فإذا قلت : إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر ، فأنت حرّ جواب إن دخلت ، وإن دخلت وجوابه دليل جواب إن كلمت ، وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء ، والدليل على الجواب جواب في المعنى ، والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني فكأنه قيل : إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقعت هكذا مجيء ثم كلام ثم دخول ، وهو مذهب الشافعي ، وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف ، وليس مذهب الشافعي فقط والسماع يشهد له قال :
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معاقد عز زانها كرم
وعليه فصحاء المولدين ، وقال بعض الفقهاء : الجواب للأخير والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني ، والشرط الثاني وجوابه جواب الأول فعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء ، وقال بعضهم : إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عاطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو - إن جئتني ، أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك - وإن كان بالواو فالجواب لهما ، وإن كان بالفاء فالجواب للثاني ، وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف وما نحن فيه من المقرون بالفاء وهي رابطة للجواب كالفاء الثانية وما خرجناه عليه هو الذي ارتضاه جماعة منهم الزمخشري ومذهب الزجاج. وبعض النحاة والمئونة عليه أقل أن حتى الداخلة على هذه الجملة حرف جر ، وإذا ممتحضة للظرفية وليس فيها معنى الشرط ، والعامل فيها على التقدير الأول ما يتلخص من معنى جوابها والمعنى «1» وَابْتَلُوا الْيَتامى إلى وقت بلوغهم فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم ، وعبر في البلوغ بإذا وفي الإيناس بإن للفرق بينهما ظهورا وخفاء وظاهر الآية الكريمة أنه لا يدفع إليهم ولو بلغوا ما لم يؤنس منهم الرشد ، وهو مذهب الشافعي وقول الإمامين ، وبه قال مجاهد ، فقد أخرج ابن المنذر ، وغيره عنه أنه قال : لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط ما لم يؤنس منه رشد ، ونسب إلى الشعبي ، وقال الإمام الأعظم : إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة كما في الحديث - يدفع إليه ماله ، وإن لم يؤنس الرشد لأن المنع كان لرجاء التأديب فإذا بلغ ذلك السن ولم يتأدب انقطع عنه لرجاء غالبا فلا معنى
___________
(1) تلخيص للمعنى وإظهار لكون المقصود الجزاء أعني الدفع وأن استحقاقهم الدفع لا يتخلف عن البلوغ البتة عند تحقق الشرط كذا في الكشف ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 417
للحجر بعده وفي الكافي وللإمام الأعظم قوله تعالى : وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ، والمراد بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال بعد البلوغ إلا أنه منع عنه ماله قبل هذه المدة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنص والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم عندنا على أن الشرط رشد نكرة فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه ، وأول أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه ، وإذا امتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا وحدث ضرب من الرشد لا محالة لأنه حال كمال لبه فقد ورد عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمسا وعشرين.
وقال أهل الطباع : من بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ أشده ألا ترى أنه قد يصير جدا صحيحا في هذا السن لأن أدنى مدة البلوغ اثنا عشر حولا وأدنى مدة الحمل ستة أشهر ، ففي هذه المدة يمكن أن يولد له ابن ثم ضعف هذا المبلغ يولد لابنه ابن.
وأنت تعلم أن الاستدلال بما ذكر من الآية على الوجه الذي ذكر ظاهر بناء على أن المراد بالإيتاء فيها الدفع ، وقد مر الكلام في ذلك ، واعترض على قوله : على أن الشرط إلخ بأنه إذا كان ضرب من الرشد كافيا - كما يشعر به التنكير وكان ذلك حاصلا لا محالة في ذلك السن كما هو صريح كلامه ، واستدل عليه بما استدل - كان الدفع حينئذ عند إيناس الرشد - وهو مذهب الشافعي ، وقول الإمامين - فلم يصح أن يقال : إن مذهب الإمام وجوب دفع مال اليتيم إليه إن أونس منه الرشد أو لم يؤنس غاية ما في الباب أنه يبقى خلاف بين الإمام وغيره في أن الرشد المعتبر شرطا للدفع في الآية ماذا - وهو أمر آخر وراء ما شاع عن الإمام رضي اللّه تعالى عنه في هذه المسألة - وأيضا إن أريد بهذا الضرب من الرشد الذي أشار إليه التنوين هو الرشد في مصلحة المال فكونه لا بدّ وأن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع ، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو على فرض تسليم حصوله إذ ذاك لا يجدي نفعا إذ الآية كالصريحة في اشتراط الضرب الأول فقد قال الفخر : لا شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ، وقد قال اللّه تعالى بعد ذلك الأمر فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فيجب أن يكون المراد فإن آنستم رشدا في ضبط مصالحه فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض ، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال لا ضرب من الرشد كيف كان ، ثم قال :
والقياس الجلي يقوي الاستدلال بالآية لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به ، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشاب والشيخ كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليهما إن لم يؤنس منهما الرشد ومنه يعلم ما في التعليل السابق أعني قولهم لأن المنع كان لرجاء التأديب إلخ من النظر ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنع الضال ابن حزم كعادته مع سائر أئمة الدين على الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه ، وتابعه في ذلك سفهاء الشيعة - كيوسف الأوالي وغيره - ولا يخفى أن المسألة من الفروع ، وكم لابن حزم وأتباعه فيها من المخالفات للكتاب والسنة ومتمسكهم في ذلك بما هو أوهى وأوهن من بيت العنكبوت.
ومن أمعن النظر فيما ذهب إليه الإمام علم أن نظره رضي اللّه تعالى عنه في ذلك دقيق لأن اليتيم بعد أن بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره وصار مورد الخطابات الإلهية والتكاليف الشرعية وسلم اللّه تعالى إليه نفسه يتصرف بها حسب اختياره المترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب كان منع ماله عنه وتصرف الغير به أشبه الأشياء بالظلم ، ثم هذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ مطلقا من غير تأخير إلى بلوغه سن خمس وعشرين فيمن بلغ غير رشيد إلا أنا أخرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ورجاء الرشد والكف عن السفه وما فيه تبذير المال وإفساده ، نظير ذلك

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 418
من وجه أخذ أموال البغاة وحبسها عنهم ليفيئوا ، واعتبرت الزيادة سبع سنين لأنها - كما تقدم - مدة معتبرة في تغير الأحوال ، والعشر مثلا وإن كانت كذلك كما يشير إليه
قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع»
إلا أنا اعتبرنا الأقل لأنه كاف في الغرض غالبا ، ولا يرد أن المنع يدور مع السفه لأنا لا نسلم أنه يدور مع السفه مطلقا بل مع سفه الصبا ولا نسلم بقاءه بعد تلك المدة على أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدمه عندنا فأصل الدوران حينئذ ممنوع ، وعلى هذا لا معنى للتشنيع على الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه فيما ذهب إليه ، ويؤيد مذهبه أيضا قوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا فإنه مشير إلى أنه لا يمنع مال اليتيم عنه إذا كبر ، إذ المعنى لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا إلا أنه قدر الكبر فيمن بلغ سفيها بما تقدم لما تقدم ، فافهم ذاك واللّه تعالى يتولى هداك.
والإسراف في الأصل تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح ، وربما كان ذلك في الإفراط ، وربما كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال : أسرف يسرف إسرافا ، وإذا كان في التقصير يقال : سرف يسرف سرفا ويستعمل بمعنى السهو والخطأ وهو غير مراد أصلا ، والمبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم واليتيم يبادر نزعه منه ، وأصلها كما قيل : من البدار وهو الامتلاء ومنه البدر لامتلائه نورا ، والبدرة لامتلائها بالمال ، والبيدر لامتلائه بالطعام والاسمان المتعاطفان منصوبان على الحال كما أشرنا اليه ، وقيل : إنهما مفعول لهما والجملة معطوفة على - ابتلوا - لا على جواب الشرط لفساد المعنى لأن الأول بعد البلوغ وهذا قبله ، ويَكْبَرُوا بفتح الباء الموحدة من باب علم يستعمل في السن ، وأما بالضم فهو في القدرة والشرف ، وإذا تعدى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا وتخصيص الأكل الذي هو أساس الانتفاع وتكثر الحاجة إليه بالنهي يدل على النهي عن غيره بالطريق الأولى ، وفي الجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى :
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ إلخ أي ومن كان من الأولياء والأوصياء ذا مال فليكف نفسه عن أكل مال اليتيم ولينتفع بما آتاه اللّه تعالى من الغنى ، فالاستعفاف الكف وهو أبلغ من العف ، وفي المختار يقال : عف عن الحرام يعف بالكسر عفة وعفا وعفافة أي كف فهو عف وعفيف ، والمرأة عفة وعفيفة ، وأعفه اللّه تعالى ، واستعف عن المسألة أي عف ، وتعفف تكلف العفة ، وتفسيره بالتنزه كما يشير إليه كلام البعض بيان لحاصل المعنى وَمَنْ كانَ من الأولياء والأوصياء فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته الضرورية من سدّ الجوعة وستر العورة قاله عطاء وقتادة.
وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس أنه قال : يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذر ، وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال : ليس لي مال وإني ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله ،
وهل يعد ذلك أجرة أم لا؟ قولان ، ومذهبنا الثاني كما صرح به الجصاص في الأحكام ، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني والباقر رضي اللّه تعالى عنهم. وآخرين أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر الكفاية على جهة القرض فإذا وجد ميسرة أعطى ما استقرض ، وهذا هو الأكل بالمعروف ، ويؤيده ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهما من طرق عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : إني أنزلت نفسي من مال اللّه تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت ، وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ. وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : وَمَنْ كانَ فَقِيراً

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 419
الآية نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء : 10] إلخ ، وذهب قوم إلى إباحة الأكل دون الكسوة ، ورواه عكرمة عن ابن عباس ، وزعم آخرون أن الآية نزلت في حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله ، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد - وهو مردود - لأن قوله سبحانه : فَلْيَسْتَعْفِفْ لا يعطي معنى ذلك ، والتفكيك مما لا ينبغي أن يخرج عليه النظم الكريم فَإِذا دَفَعْتُمْ أيها الأولياء الأوصياء إِلَيْهِمْ أي اليتامى بعد رعاية ما ذكر لكم أَمْوالَهُمْ التي تحت أيديكم ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاهتمام به فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأن قبضوها وبرئت عنها ذممكم لما أن ذلك أبعد عن التهمة وأنفى للخصومة وأدخل في الأمانة وهو أمر ندب عندنا ، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه أمر وجوب ، واستدلوا بذلك على أن القيم لا يصدق بقوله في الدفع بدون بينة وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي شهيدا قاله السدي ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن معنى وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أنه لا شاهد أفضل من اللّه تعالى فيما بينكم وبينهم وهذا موافق لمذهبنا في عدم لزوم البينة ، وقيل : إن المعنى وَكَفى به تعالى محاسبا لكم فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم ، ولا يخفى موقع المحاسب هنا لأن الوصي يحاسب على ما في يده ، وفي فاعل كَفى كما قال أبو البقاء : وجهان ، أحدهما أنه الاسم الجليل ، والباء زائدة دخلت لتدل على معنى الأمر ، فالتقدير اكتفوا باللّه تعالى ، والثاني أن الفاعل مضمر والتقدير كَفى الاكتفاء باللّه تعالى ، فباللّه على هذا في موضع نصب على أنه مفعول به ، وحَسِيباً حال ، وقيل : تمييز ، وَكَفى متعدية إلى مفعول واحد عند السمين ، والتقدير وكفاكم اللّه حسيبا ، وإلى مفعولين عند أبي البقاء والتقدير ، وكفاكم اللّه شركم ، ونحو ذلك.
هذا «ومن باب الإشارة» يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي احذروه من المخالفات والنظر إلى الأغيار والزموا عهد الأزل حين أشهدكم على أنفسكم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي الحقيقة المحمدية ويعبر عنها أيضا بالنفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم وبآدم الحقيقي الذي هو الأب لآدم ، وإلى ذلك أشار سلطان العاشقين ابن الفارض قدس سره بقوله على لسان تلك الحقيقة :
وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وهي الطبيعة أو النفس الحيوانية الناشئة منها ، وقد خلقت من الجهة التي تلي عالم الكون وهو الضلع الأيسر المشار إليه في الخبر ، وقد خصت بذلك لأنها أضعف من الجهة التي تلي الحق وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً أي كاملين يميلون إلى أبيهم وَنِساءً ناقصين يميلون إلى أمهم وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ فلا تثبتوا لأنفسكم وجودا مع وجوده لأنه الذي أظهر تعيناتكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا واتقوا الأرحام أي اجتنبوا مخالفة أوليائي وعدم محبتهم فإن من وصلهم وصلته ومن قطعهم قطعته فالأرحام الحقيقية هي قرابة المبادئ العالية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ناظرا إلى قلوبكم مطلعا على ما فيها فإذا رأى فيها الميل إلى السوي وسوء الظن بأهل حضرته ارتحلت مطايا أنواره منها فبقيت بلاقع تتجاوب في أرجائها اليوم وَآتُوا الْيَتامى وهم يتامى القوى الروحانية المنقطعين عن تربية الروح القدسي الذي هو أبوهم أَمْوالَهُمْ وهي حقوقهم من الكمالات وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ بأن تعطوا الطيب من الصفات وتذيلوه وتأخذوه بدله الخبيث منها وتتصفوا به وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ بأن تخلطوا الحق بالباطل إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً أي حجابا عظيما وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أي تعدلوا في تربية يتامى القوى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لتقل شهواتكم وتحفظوا فروجكم فتستعينوا بذلك على التربية لما يحصل لكم من التزكية عن الفاحشة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 420
بين النساء فتقعوا في نحو ما هربتم منه فَواحِدَةً تكفيكم في تحصيل غرضكم «1» وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ مهورهن نِحْلَةً عطية من اللّه وفضلا ، وفيه إشارة إلى التخلية عن البخل والغدر والتحلية بالوفاء والكرم ، وذلك من جملة ما يربى به القوى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ولا تأنفوا وتتكبروا عن ذلك وهذا أيضا نوع من التربية لما فيه من التخلية عن الكبر والأنفة والتحلية بالتواضع والشفقة وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أي لا تودعوا الناقصين عن مراتب الكمال أسراركم وعلومكم الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي غذوهم بشيء منها وَاكْسُوهُمْ أي حلوهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً لينقادوا إليكم ويسلموا أنفسهم بأيديهم وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروهم ، ولعله إشارة إلى اختبار الناقصين من السائرين حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ وصلحوا للإرشاد والتربية فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أي استقامة في الطريق وعدم تلون فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ التي يستحقونها من الأسرار التي لا تودع إلا عند الأحرار.
والمراد إيصاء الكمل من الشيوخ أن يخلفوا ويأذنوا بالإرشاد من يصلح لذلك من المريدين السالكين على أيديهم وَلا تَأْكُلُوها أي ننتفعوا بتلك الأموال دونهم إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا بالتصدي للإرشاد فإن ذلك من أعظم أدواء النفس والسموم القاتلة وَمَنْ كانَ
منكم غَنِيًّا باللّه لا يلتفت إلى ضرورات الحياة أصلا فَلْيَسْتَعْفِفْ عما للمريد وَمَنْ كانَ فَقِيراً لا يتحمل الضرورة فَلْيَأْكُلْ أي فلينتفع بما للمريد بِالْمَعْرُوفِ وهو ما كان بقدر الضرورة فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ اللّه تعالى وأرواح أهل الحضرة وخذوا العهد عليهم برعاية الحقوق مع الحق والخلق وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً لأنه الموجود الحقيقي والمطلع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وهو حسبنا ونعم الوكيل لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث ، والمراد من الرجال الأولاد الذكور ، أو الذكور أعم من أن يكون كبارا أو صغارا ، ومن الأقربين الموروثون ، ومن الوالدين ما لم يكن بواسطة ، والجد والجدة داخلان تحت الأقربين ، وذكر الولدان مع دخولهما أيضا اعتناء بشأنهما ، وجوز أن يراد من الوالدين ما هو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فيشمل الجد والجدة ، واعترض بأنه يلزم توريث أولاد الأولاد مع وجود الأولاد. وأجيب بأن عدم التوريث في هذه الصورة معلوم من أمر آخر لا يخفى ، والنصيب الحظ كالنصب بالكسر ويجمع على أنصباء وأنصبة ، و- من - في «مما» متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله أي نصيب كائن مِمَّا تَرَكَ وجوز تعلقه بنصيب.
وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ المراد من النساء البنات مطلقا ، أو الإناث كذلك ، وإيراد حكمهن على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام السالفين بأن يقال للرجال والنساء نصيب إلخ للاعتناء - كما قال شيخ الإسلام - بأمرهن والإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث ، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة ، وللرد عليهم نزلت هذه الآية - كما قال ابن جبير وغيره - وروي أن أوس بن ثابت ، وقيل : أوس بن مالك ، وقيل : ثابت بن قيس ، وقيل : أوس بن الصامت - وهو خطأ - لأنه توفي في زمن خلافة عثمان رضي اللّه تعالى عنه مات وترك ابنتين وابنا صغيرا ، وزوجته أم كجة ، وقيل : بنت كجة ، وقيل : أم كحلة ، وقيل : أم كلثوم فجاء أبناء عمه خالد ، أو سويد وعرفطة ، أو قتادة وعرفجة فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما : تزوجا بالابنتين وكانت بهما دمامة فأبيا
___________
(1) قوله : وَآتُوا إلخ سقط من خط المؤلف قبلها أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إلخ ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 421
فأتت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ما أدري ما أقول؟ فنزلت لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية فأرسل صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى ابني العم فقال : لا تحركا من الميراث شيئا فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبا ثم نزل بعد ذلك وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله : عَلِيماً ثم نزل يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله : وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء : 11] فدعا صلّى اللّه عليه وسلم بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يعط ابني العم شيئا» ، وفي بعض طرقه - أن الميت خلف زوجة وبنتين وابني عم فأعطى صلّى اللّه عليه وسلم الزوجة الثمن ، والبنتين الثلثين وابني العم الباقي.
وفي الخبر دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب ، ومن عمم الرجال والنساء ، وقال : إن الأقربين عام لذوي القرابة النسبية والسببية جعل الآية متضمنة لحكم الزوج والزوجة واستحقاق كل منهما الإرث من صاحبه ، ومن لم يذهب إلى ذلك وقال : إن الأقربين خاص بذوي القربة النسبية جعل فهم الاستحقاق كفهم المقادر المستحق مما سيأتي من الآيات ، وعلل الاقتصار على ذكر الأولاد والبنات هنا بمزيد الاهتمام بشأن اليتامى ، واحتج الحنفية والإمامية بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قالوا : لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه : لِلرِّجالِ إلخ غاية ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بها ، وأما المقدار فمستفاد من سائر الدلائل ، والإمامية فقط على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورثون كغيرهم ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا رده على أتم وجه.
مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل من ما الأخيرة بإعادة العامل قبل ، ولعلهم إنما لم يعتبروا كون الجار والمجرور بدلا من الجار المجرور لاستلزامه إبدال من - من من - واتحاد اللفظ في البدل غير معهود.
وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور حالا من الضمير المحذوف في تَرَكَ أي مما تركه قليلا أو كثيرا أو مستقرا مما قل ، ومثل هذا القيد معتبر في الجملة الأولى إلا أنه لم يصرح به هناك تعويلا على ذكره هنا ، وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال ، وبهذا يرد على الإمامية لأنهم يخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس البدني بدون عوض عند أكثرهم وهذا من الغريب كعدم توريث الزوجة من العقار مع أن الآية مفيدة أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق ، وتقديم القليل على الكثير من باب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف : 49] نَصِيباً مَفْرُوضاً نصب إما على أنه مصدر مؤكد بتأويله بعطاء ونحوه من المعاني المصدرية وإلا فهو اسم جامد ، ونقل عن بعضهم أنه مصدر ، وإما على الحالية من الضمير المستتر في قَلَّ وكَثُرَ أو في الجار والمجرور الواقع صفة ، أو من نصيب لكون وصفه بالظرف سوغ مجيء الحال منه أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا إذ المعنى ثبت لهم مفروضا نصيب ، وهو حينئذ حال موطئة والحال في الحقيقة وصفه ، وقيل : هو منصوب على أنه مفعول بفعل محذوف والتقدير أوجب لهم نصيبا ، وقيل : منصوب على إضمار أعني ونصبه على الاختصاص بالمعنى المشهور مما أنكره أبو حيان لنصهم على اشتراط عدم التنكير في الاسم المنصوب عليه ، والفرض - كالضرب - التوقيت ومنه فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة : 197] والحز في الشيء كالتفريض وما أوجبه اللّه تعالى كالمفروض سمي بذلك لأن له معالم وحدودا ، ويستعمل بمعنى القطع ، منه قوله تعالى :
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء : 118] أي مقتطعا محدودا كما في الصحاح ، فمفروضا هنا إما بمعنى مقتطعا محدودا كما في تلك الآية ، وإما بمعنى ما أوجبه اللّه تعالى أي نصيبا أوجبه اللّه تعالى لهم.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 422
وفرق الحنفية بين الفرض والواجب بأن الفعل غير الكف المتعلق به خطاب بطلب فعل بحيث ينتهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب إن ثبت بقطعي ، ففرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى : فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل : 20] وإن ثبت بظني فهو الواجب نحو تعيين الفاتحة الثابت
بقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»
وهو آحاد ، ونفي الفضيلة محتمل ظاهر ، وذهب الشافعية إلى ترادفهما ، واحتج كل لمدعاه بما احتج به ، والنزاع على ما حقق في الأصول لفظي قاله غير واحد ، وقال بعض المحققين : لا نزاع للشافعي في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي - كحكم الكتاب - وما ثبت بدليل ظني - كحكم خبر الواحد في الشرع - فإن جاحد الأول كافر دون الثاني ، وتارك العمل بالأول مؤولا فاسق دون الثاني ، وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعا سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني ، وهذا مجرد اصطلاح ، فلا معنى للاحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد موجب للتفاوت بين مدلوليهما ، أو بأن الفرض في اللغة التقدير والوجوب هو السقوط ، فالفرض علم قطعا أنه مقدر علينا ، والواجب ما سقط علينا بطريق الظن ولا يكون المظنون مقدرا ولا المعلوم القطعي ساقطا علينا على أن للخصم أن يقول : لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا نسلم امتناع أن يثبت كون الشيء مقدرا علينا بدليل ظني ، وكونه ساقطا علينا بدليل قطعي ، ألا ترى أن قولهم : الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع ، وأيضا الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت ، وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب إنما هو الوجبة والوجيب ، ثم استعمال الفرض - فيما ثبت بظني ، والواجب فيما ثبت بقطعي - شائع مستفيض كقولهم : الوتر فرض ، وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك ، ويسمى فرضا عمليا ، وكقولهم : الصلاة واجبة والزكاة واجبة ، ونحو ذلك ، ومن هنا يعلم سقوط كلام بعض الشافعية في ردّ استدلال الحنفية بما تقدم على توريث ذوي الأرحام بأن الواجب عند الحنفية ما علم ثبوته بدليل مظنون ، والمفروض ما علم بدليل قاطع ، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق ، فعرفنا أنه غير مراد من الآية ووجه السقوط ظاهر غني عن البيان.
واحتج بعضهم بالآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه وهو مذهب الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي قسمة التركة بين أربابها وهي مفعول به ، وقدمت لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعددا فلو روعي الترتيب يفوت تجاذب أطراف الكلام ، وقيل : قدمت لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما أنها أمامهم في الواقع ، وهي نكتة للتقديم لم أر من ذكرها من علماء المعاني أُولُوا الْقُرْبى ممن لا يرث لكونه عاصبا محجوبا أو لكونه من ذوي الأرحام ، والقرينة على إرادة ذلك ذكر الورثة قبله وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ من الأجانب فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم شيئا من المال ، أو المقسوم المدلول عليه بالقسمة ، وقيل : الضمير لما وهو أمر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقلوب المذكورين وتصدقا عليهم ، وقيل : أمر وجوب ، واختلف في نسخه ففي بعض الروايات عن ابن عباس أنه لا نسخ والآية محكمة وروي ذلك عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها.
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال : وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ.
وحكي عن سعيد بن جبير أن المراد من أولي القربى هنا الوارثون ، ومن الْيَتامى وَالْمَساكِينُ غير الوارثين وأن قوله سبحانه : فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ راجع إلى الأولين ، وقوله تعالى : وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً راجع للآخرين وهو بعيد جدا ، والمتبادر ما ذكر أولا وهذا القول للمرزوقين من أولئك المذكورين ، والمراد من القول المعروف أن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 423
يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم ، وقوله سبحانه : وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فيه أقوال : أحدها أنه أمر للأوصياء بأن يخشوا اللّه تعالى أو يخافوا على أولادهم فيفعلوا مع اليتامى ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم ، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس ، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية : يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم يقول : فإن ولى مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا والآية على هذا مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى : لِلرِّجالِ إلخ في معنى الأمر للورثة أي أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم ، وقيل في وجه الارتباط : إن هذا وصية للأوصياء بحفظ الأيتام بعد ما ذكر الوارثين الشاملين للصغار والكبار على طريق التتميم ، وقيل : إن الآية مرتبطة بقوله تعالى : وَابْتَلُوا الْيَتامى ، وثانيها أنه أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم ، ونسب نحو هذا إلى الحسن وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير.
وروي عن ابن عباس أيضا ما يؤيده ، فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه أنه قال في الآية : يعني الرجل يحضره الموت فيقال له : تصدق من مالك وأعتق وأعط منه في سبيل اللّه فنهوا أن يأمروا بذلك يعني أن من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل اللّه ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين ، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون يوصي لهم بالخمس ، أو الربع ، يقول : أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف - يعني صغار - لا يرضى أن يتركهم بغير مال فيكونوا عيالا على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك ، وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء وما بعده للورثة ، وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم أو لا يأمروه بما يضر ، فالآية مرتبطة بما قبلها أيضا ، وثالثها أنه أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم ، واتصال الكلام على هذا بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم كما يخافون من حرمان ضعاف ذريتهم ، ورابعها أمر للمؤمنين أن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث ويقولون : إن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث ، وورد في الخبر ما يؤيده ، وعلى هذا فالمراد من الذين المرضى.
وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفا على ذريتهم الضعاف ، والقرينة عليه أنهم المشارفون لذلك ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفا عن أخذ ما زاد من الوصية فيرتبط به ، ويكون متصلا بما قبله تتميما لأمر الأوصياء ، والورثة بأمر مرضى المؤمنين ، وهذا أبعد الوجوه وأبعد منه ما قيل : إنه أمر لمن حضر المريض بالشفقة على ذوي القربى بأن لا يقول للمريض لا توص لأقاربك ووفر على ذريتك ، وأبعد من ذلك القول : بأنه أمر للقاسمين بالعدل بين الورثة في القسمة بأن لا يراعوا الكبير منهم فيعطوه الجيد من التركة ولا يلتفتوا إلى الصغير ولو بما في حيزه صلة الموصول كما قال غير واحد. ولما كانت الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للخاطب ثابتة للموصول كالصفة قالوا : إنها هنا كذلك أيضا وأن المعنى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع.
وذهب الأجهوري وغيره إلى أن لَوْ بمعنى إن فتقلب الماضي إلى الاستقبال ، وأوجبوا حمل تَرَكُوا على المشارفة ليصح وقوع خافُوا جزاء له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة ، وفي ترتيب الأمر على الوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية إشارة إلى أن المقصود من الأمر أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 424
أولادهم ، وفيه تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع اللّه أولادهم ، ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ اللّه تعالى أولادهم ، أخرج ابن جرير عن الشيباني قال : كنا في القسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانىء بن كلثوم فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان فضقت ذرعا مما سمعت فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشر يودني أنه لا يولد لي ولد أبدا فضرب بيده على منكبي وقال : يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من نسمة كتب اللّه أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى ، ثم قال : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك اللّه تعالى منه وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم اللّه تعالى فيك؟ قلت : بلى فتلا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ الآية ، وفي وصف الذرية بالضعاف بعث على الترحم والظاهر أن مِنْ خَلْفِهِمْ ظرف لتركوا ، وفي التصريح به مبالغة في تهويل تلك الحالة ، وجوز أن يكون حالا من ذُرِّيَّةً وضِعافاً كما قال أبو البقاء : يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأجل الكسرة ، وجاز ذلك مع حرف الاستعلاء لأنه مكسور مقدم ففيه انحدار ، وكذلك «خافوا» يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال وهو خفت وقرئ - «ضعفاء» «وضعافى» و«ضعافى» ، نحو سكارى وسكارى فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وإنما أمرهم سبحانه بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ولما لم ينفع الأول بدون الثاني لم يقتصر عليه مع استلزامه له عادة وَلْيَقُولُوا لليتامى ، أو للمريض ، أو لحاضري القسمة ، أو ليقولوا في الوصية قَوْلًا سَدِيداً فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال ، ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن باللّه ، وما يصده عن الإسراف بالوصية وتضييع الورثة ، ويقول الوارث
لحاضر القسمة ما يزيل وحشته ، أو يزيد مسرته ويقول الموصي في إيصائه ما لا يؤدي إلى تجاوز الثلث ، والسديد - على ما قال الطبرسي - المصيب العدل الموافق للشرع. وقيل : ما لا خلل فيه ، ويقال سدّ قوله يسدّ بالكسر إذا صار سديدا ، وأنه ليسد في القول فهو مسدّ إذا كان يصيب السداد أي القصد ، وأمر سديد وأسد أي قاصد ، والسداد بالفتح الاستقامة والصواب ، وكذلك السدد مقصور منه ، وأما السداد بالكسر فالبلغة ، وما يسد به ، ومنه قولهم : فيه سداد من عوز - قاله غير واحد - وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون : سداد من عوز فيفتحون السين - وهو لحن - والصواب الكسر ، وتعقبه ابن بري بأنه وهم فإن يعقوب بن السكيت سوى بين الفتح والكسر في إصلاح المنطق في باب فعال وفعال بمعنى واحد ، فقال : يقال سداد من عوز وسداد ، وكذا حكاه ابن قتيبة في أدب الكاتب وكذا في الصحاح إلا أنه زاد والكسر أفصح ، نعم ذكر فيها أن سداد القارورة وسداد الثغر بالكسر لا غير ، وأنشد قول العرجي :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة «وسداد» ثغر
فليحفظ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً استئناف جيء به لتقرير ما فصل من الأوامر والنواهي وظُلْماً إما حال أي ظالمين ، أو مفعول لأجله وقيل : منصوب على المصدرية أي أكل ظلم على معنى أكلا على وجهه ، وقيل : على التمييز وإنما علق الوعيد على الأكل بذلك لأنه قد يأكل مال اليتيم على وجه الاستحقاق كالأجرة والقرض مثلا فلا يكون ظلما ، ولا الآكل ظالما. وقيل : ذكر الظلم للتأكيد والبيان لأن أكل مال اليتيم لا يكون إلا ظلما ومن أخذ مال اليتيم قرضا أو أجرة فقد أكل مال نفسه ولم يأكل مال اليتيم. وفيه منع ظاهر. إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي ملء بطونهم ، وشاع هذا التعبير في ذلك ، وكأنه مبني على أن حقيقة الظرفية المتبادر منها الإحاطة بحيث لا يفضل الظرف عن المظروف فيكون الأكل في البطن ملء البطن ، وفي بعض البطن دونه ، وهو المراد في قوله :

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 425
كلوا في «بعض بطنكم» تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
ولا ينافي هذا قول الأصوليين : إن الظرف إذا جر بفي لا يكون بتمامه ظرفا بخلاف المقدرة فيه ، فنحو سرت يوم الخميس لتمامه وفي يوم الخميس لغيره ، فقد قال عصام الملة : إن هذا مذهب الكوفيين ، والبصريون لا يفرقون بينهما كما بين في النحو ، وقال شهاب الدين : الظاهر أن ما ذكره أهل الأصول فيما يصح جره بفي ونصبه على الظرفية ، وهذا ليس كذلك لأنه لا يقال : أكل بطنه بمعنى في بطنه فليس مما ذكره أهل الأصول في شيء ، وهو مثل جعلت المتاع في البيت فهو صادق بملئه وبعدمه لكن الأصل الأول كما ذكروه.
وجوز أن يكون ذكر البطون للتأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى : يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران : 167] والقول لا يكون إلا بالفم ، وقوله تعالى : وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج : 46] والقلب لا يكون إلا في الصدر ، وقوله سبحانه : وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام : 38] والطير لا يطير إلا بجناح ، فقد قالوا :
إن الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة ، ثم المظروف هنا المفعول أي المأكول لا الفاعل ، وتحقيق ذلك على ما نقل عن التمرتاشي في الإيمان أنه إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل ومفعول كما إذا قلت : إن ضربت زيدا في الدار ، أو في المسجد فكذا فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر ، وإن كان الفاعل فيه دون المفعول ، أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإنكان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه ، ولذا قال بعض الفقهاء : لو قال : إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فشرط حنثه كون الفاعل فيه ، ولو قال : إن ضربته ، أو جرحته ، أو قتلته ، أو رميته فشرطه كون المفعول فيه ، وإنما كان الرمي في الأول مما لا يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم من القوس بنيته ، وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل ، وفي الثاني مما يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم ، أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيجرحه أو يوجعه ويؤلمه ، ولا شك أن ما نحن فيه من قبيل هذا القسم ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تتمة الكلام على ذلك ، والجار والمجرور متعلق - بيأكلون - وهو الظاهر ، وقيل : إنه حال من قوله تعالى : ناراً أي ما يجرّ إليها فالنار مجاز مرسل من ذكر المسبب وإرادة السبب ، وجوز في ذلك الاستعارة على تشبيه ما أكل من أموال اليتامى بالنار لمحق ما معه ، واستبعده بعض المحققين ، وذهب بعضهم إلى جواز حمله على ظاهره ، فعن عبيد اللّه بن جعفر أنه قال : من أكل مال اليتيم فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة فيملأ فمه جمرا ويقال له كل ما أكلته في الدنيا ثم يدخل السعير الكبرى.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : «حدثني النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم عن ليلة أسري به قال : نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار فيقذف في أجوافهم حتى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما»
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أي سيدخلون نارا هائلة مبهمة الوصف ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم ياء المضارعة ، والباقون بفتحها ، وقرئ وَسَيَصْلَوْنَ بتشديد اللام ، وفي الصحاح يقال : صليت اللحم ، وغيره أصليه صليا مثل رميته رميا إذا شويته ، وصليت الرجل نارا إذا أدخلته وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء - كأنك تريد الإحراق - قلت : أصليته بالألف وصليته تصلية ، ويقال : صلى بالأمر إذا قاسى حره وشدته ، قال الطهوي :
ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين
وقال بعض المحققين : إن أصل الصلي القرب من النار وقد استعمل هنا في الدخول مجازا ، وظاهر كلام البعض أنه متعد بنفسه ، وقيل : إنه يتعدي بالباء فيقال : صلي بالنار ، وذكر الراغب أنه يتعدى بالباء تارة أو بنفسه أخرى ولعله

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 426
بمعنيين كما يشير إليه ما في الصحاح ، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا أوقدتها وألهبتها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير أن السعير واد من فيح جهنم ، وظاهر الآية أن هذا الحكم عام لكل من يأكل مال اليتيم مؤمنا كان أو مشركا ، وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه قال : هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم أي اليتامى ويأكلون أموالهم ، ولا يخفى أنه إن أراد حكم الآية خاص بأهل الشرك فقط فغير مسلم ، وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس به إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى : وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ [البقرة : 220] الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ شروع في بيان ما أجمل في قوله عز وجل لِلرِّجالِ نَصِيبٌ إلخ ، والوصية كما قال الراغب : أن يقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترنا بوعظ من قولهم : أرض واصية متصلة النبات وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه ، فالمراد يأمركم اللّه ويفرض عليكم ، وبالثاني فسره في القاموس وعدل عن الأمر إلى الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب الحصول بسرعة فِي أَوْلادِكُمْ أي في توريث أولادكم ، أو في شأنهم وقدر ذلك ليصح معنى الظرفية ، وقيل : فِي بمعنى اللام كما
في خبر «إن امرأة دخلت النار في هرة»
أي لها كما صرح به النحاة ، والخطاب قيل : للمؤمنين وبين المتضايفين مضاف محذوف أي يوصيكم في أولاد موتاكم لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ، وقيل : الخطاب لذوي الأولاد على معنى يوصيكم في توريثهم إذا متم وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف كما لو فسر يوصيكم يبين لكم ، وبدأ سبحانه بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاء بعد المورث ، وسبب نزول الآية ما أشرنا إليه فيما مر.
وأخرج عبد بن حميد عن جابر قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يعودني وأنا مريض فقلت كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد عليّ شيئا فنزلت لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
في موضع التفصيل والبيان للوصية فلا محل للجملة من الإعراب وجعلها أبو البقاء في موضع نصب على المفعولية ليوصي باعتبار كونه في معنى القول ، أو الفرض أو الشرع وفيه تكلف ، والمراد أنه يعدّ كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان من الذكور والإناث واتحدت جهة إرثهما فيضعف للذكر نصيبه كذا قيل ، والظاهر أن المراد بيان حكم اجتماع الابن والبنت على الإطلاق. ولا بد في الجملة من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم : السمن منوان بدرهم ، والتقدير هنا للذكر منهم فتدبر ، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه - مع أن مقتضى كون الآية نزلت في المشهور لبيان المواريث - ردا لما كانوا عليه من توريث الذكور دون الإناث الاهتمام بالإناث ، وأن يقال : للأنثيين مثل حظ الذكر لأن الذكر أفضل ، ولأن ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غيره ، ولذا قال سبحانه : إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء : 7] فقدم ذكر الإحسان وكرره دون الإساءة ، ولأن في ذلك تنبيها على أن التضعيف كاف في التفضيل فكأنه حيث كانوا يورثون الذكور دون الإناث قيل لهم : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن عن الميراث بالكلية مع تساويهما في جهة الإرث.
وإيثار اسمي الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا - كما هو زعم أهل الجاهلية - حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء ، والحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الإناث من المال أقل من نصيب الذكور نقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الخبر مع أن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن وشهوتهنّ أكثر فقد يصير المال سببا لكثرة فجورهنّ ، ومما اشتهر.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 427
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده
وروي عن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه - أن حواء عليها السلام أخذت حفنة من الحنطة وأكلت وأخذت أخرى وخبأتها ثم أخرى ودفعتها إلى آدم عليه السلام فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل -
ذكره بعضهم ولم أقف على صحته ، ثم محل الإرث إن لم يقم مانع كالرق والقتل واختلاف الدين كما لا يخفى ، واستثني من العموم الميراث من النبي صلّى اللّه عليه وسلم بناء على القول بدخوله صلّى اللّه عليه وسلم في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة ، والدليل على الاستثناء
قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي اللّه تعالى عنها من تركة أبيها صلّى اللّه عليه وسلم حتى قالت له بزعمهم :
يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا ،
وقالوا : إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد ، ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ [الطلاق : 6] فقال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم بقول امرأة. فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله ، وأيضا العام - وهو الكتاب - قطعي ، والخاص - وهو خبر الآحاد - ظني فيلزم ترك القطعي بالظني.
وقالوا أيضا : إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى : وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل : 16] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام : فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم : 6] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون ، والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ، وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس ابن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص : أنشدكم باللّه الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا : اللهم نعم ، ثم أقبل على عليّ والعباس فقال :
أنشدكما باللّه تعالى هل تعلمان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا : اللهم نعم ،
فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه لا يلتفت إليه ، وفي كتب الشيعة ما يؤيده ،
فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : «إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر»
وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث.
وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة «1» من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعا ، فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا ذلك لأن تخصيص القرآن بالخبر المتواتر جائز اتفاقا وإن لم يثبت وبقي الخبر
___________
(1) كعلي كرم اللّه تعالى وجهه والحسن والحسين وعلي بن الحسين والحسن بن الحسن رضي اللّه تعالى عنهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 428
من الآحاد فنقول : إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة ، ويدل على جوازه أن الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم خصصوا به من غير نكير فكان إجماعا ، ومنه قوله تعالى : وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء : 24] ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص
بقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها»
والشيعة أيضا قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر ، ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك ، والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر رضي اللّه تعالى عنه مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها ، ولذلك قال بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما
رواه الكليني عن أبي عبد اللّه أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلّى اللّه عليه وسلم وسليمان عليه السلام غير متصورة بوجه ،
وأيضا إن داود عليه السلام - على ما ذكره أهل التاريخ - كان له تسعة عشر ابنا وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمان عليه السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة.
وأيضا توصيف سليمان عليه السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالا ولا يستدعي امتيازا لأن البر والفاجر يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه السلام ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه شيء بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى ، وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا ، وهذا أفحش من الأول ، وإن كان المراد بعض الأولاد ، أو أريد من يعقوب غير المتبادر ، وهو ابن إسحاق عليهما السلام يقال : أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من اللّه تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته ، والابن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد ، وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني واتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه ، ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف ، فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها ، وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية ، وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر ، وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وانتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرفه ويتصدق به في سبيل اللّه تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة واحتمال موت الفجأة.
وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه السلام خشي من أشرار

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 429
بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الإلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم ، فطلب الولد ليجري أحكام اللّه تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر واتصال الثواب ، والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية ، فإن قيل : الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة ، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة ، فما الضرورة هنا؟ أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب ، وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الاستعمال في العرف مختصا بالمال ، وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح ، وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في استعمال القرآن المجيد ، ومن ذلك قوله تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ [فاطر : 32] وأورثوا الكتاب إلى غير ما آية ، ومن الشيعة من أورد هنا بحثا ، وهو أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن؟
والجواب أن ذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بنى كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بنى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم مثل ذلك لفاطمة رضي اللّه تعالى عنها. وأمامة وسلمه إليهما ، وكان كل من بيده شيء ما بناه له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يتصرف فيه تصرف المالك على عهده عليه الصلاة والسلام ، ويدل على ما ذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة ، والشيعة أن الإمام الحسن رضي اللّه تعالى عنه لما حضرته الوفاة استأذن من عائشة الصديقة رضي اللّه تعالى عنها وسألها أن تعطيه موضعا للدفن جوار جده المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم فإنه إن لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للاستئذان والسؤال معنى وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب : 33] فأضاف البيوت إليهنّ ولم يقل في بيوت الرسول ، ومن أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه وسلم صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص الصديق جناب الأمير رضي اللّه تعالى عنهما بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل.
إن الأمير كرم اللّه تعالى وجهه لم يرث النبي صلّى اللّه عليه وسلم بوجه ، وقد صح أيضا أن الصديق أعطى الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضا من متروكاته صلّى اللّه عليه وسلم وإنما لم يعط رضي اللّه تعالى عنه فاطمة صلى اللّه تعالى على أبيها وعليها وسلم فدكا مع أنها طلبتها إرثا وانحرف مزاج رضاها رضي اللّه تعالى عنها بالمنع إجماعا وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة ، وأتت بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة ، ولم تمكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره الأسلمي في الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية وأطال فيه.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه خص آية المواريث بما سمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وخبره عليه الصلاة والسلام في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة والعمل بسماعة واجب عليه سوء سمعه غيره أو لم يسمع ، وقد أجمع أهل الأصول من أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلى من لم يشاهدوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي صلّى اللّه عليه وسلم وسمع منه بلا واسطة ،
فخبر «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
عند أبي بكر قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعبا منه ، والقطعي يخصص القطعي اتفاقا ، ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياء عليهم السلام لما علمت ، ودعوى الزهراء رضي اللّه تعالى عنها فدكا بحسب الوراثة لا تدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 430
غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها ، وكذا أخذ الأزواج المطهرات حجراتهن لا يدل على ذلك لما مر وحلا ، وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا بل المتحقق دعوى الإرث ، ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهودا ، وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي اللّه تعالى عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود ، ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن الصديق ردّ شهادتهم بل لم يقض بها ، وفرق بين عدم القضاء هنا والرد ، فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلا ، والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة ، وانحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية ، وقد غضب موسى عليه السلام على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئا على أن أبا بكر استرضاها رضي اللّه تعالى عنها مستشفعا إليها بعلي كرم اللّه تعالى وجهه فرضيت عنه - كما في مدارج النبوة وكتاب الوفاء وشرح المشكاة للدهلوي - وغيرها ، وفي محاج السالكين. وغيره من كتب الإمامية المعتبرة ما يؤيد هذا الفصل حيث
رووا أن أبا بكر لما رأى فاطمة رضي اللّه تعالى عنها انقبضت عنه وهجرته ولم تتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال : صدقت يا بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيما ادعيت ولكن رأيت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يؤتى منها قوتكم فما أنتم صانعون بها؟ فقالت : افعل فيها كما كان أبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم يفعل فيها فقال :
لك اللّه تعالى أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك ، فقالت : واللّه لتفعلن؟ فقال : واللّه لأفعلن ذلك ، فقالت : اللهم اشهد ، ورضيت بذلك ، وأخذت العهد عليه فكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي بين الفقراء والمساكين وابن السبيل ،
وبقي الكلام في سبب عدم تمكينها رضي اللّه تعالى عنها من التصرف فيها ، وقد كان دفع الالتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب ، أو تضييق الأمر على المسلمين.
وقد ورد «المؤمن إذا ابتلي ببليتين اختار أهونهما»
على أن رضا الزهراء رضي اللّه تعالى عنها بعد على الصديق سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب ، وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب فَإِنْ كُنَّ نِساءً الضمير للأولاد مطلقا والخبر مفيد بلا تأويل ، ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له ، ويجوز أن يعود إلى المولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد ، والمعنى فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا ليس معهن ذكر ، وبهذا يفيد الحمل وإلا لاتحد الاسم والخبر فلا يفيد على أن قوله تعالى : فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إذا جعل صفة - لنساء - فهو محل الفائدة ، وأوجب ذلك أبو حيان فلم يجز ما أجازه غير واحد من كونه خبرا ثانيا ظنا منه عدم إفادة الحمل حينئذ وهو من بعض الظن كما علمت ، وجوز الزمخشري أن تكون كان تامة ، والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأن - كان - ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده لاختصاصه بباب نعم ، والتنازع - كما قاله الشهاب - والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية ، وفائدة ذكر ذلك التصريح بعدم اختصاص المراد بعدد دون عدد أي فَإِنْ كُنَّ نِساءً زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن.
فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ أي المتوفى منكم وأضمر لدلالة الكلام عليه ، ومثله شائع سائغ وَإِنْ كانَتْ أي المولودة المفهومة من الكلام واحِدَةً أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت.
وقرأ نافع وأهل المدينة واحِدَةً بالرفع على أن كان تامة والمرفوع فاعل لها ، ورجحت قراءة النصب بأنها أوفق بما قبل ، وقال ابن تمجيد : القراءة بالرفع أولى وأنسب للنظم لتفكك النظم في قراءة النصب بحسب الظاهر ، فإنه إن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 431
كان ضمير كان راجعا إلى الأولاد فسد المعنى كما هو ظاهر ، وإن كان راجعا إلى المولودة كما قالوه يلزم الإضمار قبل الذكر ، وكلا الأمرين مرتفع على قراءة الرفع إذ المعنى وإن وجدت بنت واحدة من تلك الأولاد ، والمحققون لا ينكرون مثل هذا الإضمار كما علمت آنفا فَلَهَا النِّصْفُ أي مِمَّا تَرَكَ وترك اكتفاء بالأول والنِّصْفُ مثلث كما في القاموس أحد شقي الشيء ، وقرأ زيد بن ثابت النِّصْفُ بضم النون وهي لغة أهل الحجاز ، وذكر أنها أقيس لأنك تقول : الثلث والربع والخمس وهكذا وكلها مضمومة الأوائل. وأخذ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بظاهر الآية فجعل الثلثين لما زاد على البنتين كالثلاث فأكثر ، وجعل نصيب الاثنتين النصف كنصيب الواحدة ، وجمهور الصحابة والأئمة والإمامية على خلافه حيث حكموا بأن للاثنتين وما فوقهما الثلثين ، وأن النصف إنما هو للواحدة فقط ، ووجه ذلك - على ما قاله القطب - أنه لما تبين أن للذكر مع الأنثى ثلثين إذ للذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الثلثين ليس بحظ لهما أصلا لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الاثنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة الانفراد ، وإلى هذا أشار السيد السند في شرح السراجية ، وأورد أن الاستدلال دوري لأن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين ، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ، وأجيب بأن المستخرج هو حظ المعين للأنثيين وهو الثلثان ، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا فلا دور ، ولما في هذا الوجه من التكلف عدل عنه بعض المحققين ، وذكر أن حكم البنتين مفهوم من النص بطريق الدلالة ، أو الإشارة ، وذلك لما
رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن جابر رضي اللّه تعالى عنه قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وأن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «يقضي اللّه تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عمهما فقال : أعط لابنتي سعد الثلثين ، وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك».
فدل ذلك على أن انفهام الحكم من النص بأحد الطريقين لأنه حكم به بعد نزول الآية ، ووجهه أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إذا انفردا عنه استحقتا أكثر من ذلك لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعد ما كانت معه تأخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما كما يأخذه الذكر في الجملة وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت «1» فيكون قوله سبحانه : فَإِنْ كُنَّ نِساءً إلخ بيانا لحظ الواحدة ، وما فوق الثنتين بعد ما بين حظهما ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها ، وهذا مما لا غبار عليه ، وقيل : إن حكم البنتين ثبت بالقياس على البنت مع أخيها أو على الأختين.
أما الأول فلأنها لما استحقت البنت الثلث مع الأخ فمع البنت بالطريق الأولى ، وأما الثاني فلأنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات ولم يذكر حكم البنتين ، وذكر في ميراث الأخوات حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما ، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك ، وقد ذهب إلى هذا غير واحد من المتأخرين ، وجعله العلامة ناصر
___________
(1) وليس هذا بطريق القياس بل بطريق الدلالة أو الإشارة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 432
الدين مؤيدا ولم يجعله دليلا للاستغناء عنه بما تقدم ، ولأنه قيل : إن القياس لا يجري في الفرائض والمقادير ، ونظر بعضهم في الأول بأن البنت الواحدة لم تستحق الثلث مع الأخ بل تستحق نصف حظه وكونه ثلثا على سبيل الاتفاق ولا يخفى ضعفه ، وقيل : يمكن أن يقال : ألحق البنتان بالجماعة لأن وصف النساء يفوق اثنتين للتنبيه على عدم التفاوت بين عدد وعدد ، والبنتان تشارك الجماعة في التعدد ، وقد علم عدم تأثير القلة والكثرة ، فالظاهر إلحاقهما بالجماعة بجامع التعدد ، وعدم اعتبار القلة والكثرة دون الواحدة لعدم الجامع بينهما.
وقيل : إن معنى الآية فَإِنْ كُنَّ نِساءً اثنتين فما فوقهما إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين كما
روي عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال : «لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها»
فإن معناه لا تسافر سفرا ثلاثة أيام فما فوقها ، وإلى ذلك ذهب من قال : إن أقل الجمع اثنان ، واعترض على ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه بأنه لو استفيد من قوله سبحانه : فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أن حال الاثنتين ليس حال الجماعة بناء على مفهوم الصفة فهو معارض بأنه يستفاد من واحدة أن حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم العدد ، وقد قيل به ، وأجيب بالفرق بينهما فإن النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكد به صار محكما في التخصيص بخلاف وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً وأورد عليه بأن هذا إنما يتم على تقدير كون الظرف صفة مؤكدة لا خبرا بعد خبر ، وأجيب بأن قوله سبحانه : نِساءً ظاهر في كونها فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فعدم الاكتفاء به والإتيان بخبر بعده يدل دلالة صريحة على أن الحكم مقيد به لا يتجاوزه ، وأيضا مما ينصر الحبر أن الدليلين لما تعارضا دار أمر البنتين بين الثلثين والنصف ، والمتيقن هو النصف ، والزائد مشكوك غير ثابت ، فتعين المصير إليه ، ولا يخفى أن الحديث الصحيح الذي سلف يهدم أمر التمسك بمثل هذه العرى ، ولعله لم يبلغه رضي اللّه تعالى عنه ذلك - كما قيل - فقال ما قال ، وفي شرح الينبوع نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط : صح رجوع ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه عن ذلك فصار إجماعا وعليه فيحتمل أنه بلغه الحديث ، أو أنه أمعن النظر في الآية ففهم منها ما عليه الجمهور فرجع إلى وفاقهم.
وحكاية النظام عنه رضي اللّه تعالى عنه في كتاب النكت أنه قال : للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف ولما فوق الاثنتين الثلثين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما مما لا تكاد تصح فافهم وَلِأَبَوَيْهِ أي الميت ذكرا كان أو أنثى غير النظم الكريم لعدم اختصاص حكمه بما قبله من الصور بل هو في الحقيقة شروع في إرث الأصول بعد ذكر إرث الفروع ، والمراد من الأبوين الأب والأم تغليبا للفظ الأب ، ولا يجوز أن يقال في ابن وبنت ابنان للإيهام فإن لم يوهم جاز ذلك كما قاله الزجاج لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من لِأَبَوَيْهِ بتكرير العامل ، وسط بين المبتدأ وهو قوله تعالى : السُّدُسُ والخبر ، وهو لأبويه - وزعم ابن المنير أن في إعرابه بدلا نظرا ، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ، ويكون أصل الكلام - والسدس - لأبويه لكل واحد منهما ومقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس كما قال سبحانه : فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فاقتضى اشتراكهن فيه ، ومقتضى البدل لو قدر إهدار الأول إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك ، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل إذ يلزم فيه أن يكون مؤدى المبدل منه والبدل واحدا ، وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الإعراب ، وإلا لزم زيادة معنى في البدل ، فالوجه أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا فصله بقوله : لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما السدس استحقاقهما معا للثلث ، ورده أبو حيان بأن هذا بدل بعض من كل ، ولذلك أتى

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 433
بالضمير ، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا ، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا ، بل تقول : يصنع كذا إلا أنه اعترض على جعل لِأَبَوَيْهِ خبر المبتدأ بأن البدل هو الذي يكون خبر المبتدأ في أمثال ذلك دون المبدل منه كما في المثال ، وتعقبه الحلبي بأن في هذه المناقشة نظرا لأنه إذا قيل لك : ما محل لِأَبَوَيْهِ من الإعراب؟ تضطر إلى أن تقول : إنه في محل رفع على أنه خبر مقدم.
ولكنه نقل نسبة الخبرية إلى كل واحد منهما دون لِأَبَوَيْهِ واختير هذا التركيب دون أن يقال : ولكل واحد من أبويه السُّدُسُ لما في الأول من الإجمال ، والتفصيل الذي هو أوقع في الذهن دون الثاني ، ودون أن يقال :
لِأَبَوَيْهِ السدسان للتنصيص على تساوي الأبوين في الأول وعدم التنصيص على ذلك في الثاني لاحتماله التفاضل ، وكونه خلاف الظاهر لا يضر لأنه يكفي نكتة للعدول.
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الثلث والربع والثمن مِمَّا تَرَكَ متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في الظرف الراجع إلى المبتدأ ، والعامل الاستقرار أي كائنا مِمَّا تَرَكَ المتوفى إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر ، وولد الابن كذلك ، ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له وإن كانوا ذكورا فالباقي لهم بالسوية ، وإن كانوا ذكورا وإناثا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وإن كانت بنتا فلها النصف ولأحد الأبوين السدس ، أولهما السدسان والباقي يعود للأب إن كان لكن بطريق العصوبة وتعدد الجهات منزل منزلة تعدد الذوات ، وإن كان هناك أم وبنت فقط فالباقي بعد فرض الأم والبنت يرد عليهما ، وزعمت الإمامية في صورة أبوين أو أب أو أم وبنت أن الباقي بعد أخذ كل فرضه يرد على البنت ، وعلى أحد الأبوين أو عليهما بقدر سهامهم فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ولا ولد ابن وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فقط وهو مأخوذ من التخصيص الذكرى كما تدل عليه الفحوى فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه ، وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وهو مما أجمع عليه المسلمون ، وقيل : إنما لم يذكر لأن المقصود تغيير السهم ، وفي هذه الصورة لم يتغير إلا سهم الأم وسهم الأب بحاله ، وإنما يأخذ الباقي بعد سهمه وسهم الأم بالعصوبة فليس المقام مقام حصة الأب - وفيه تأمل - لأن الظاهر أن أخذ الأب الباقي بعد فرض الأم بطريق العصوبة وبه صرح الفرضيون ، وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لذلك ، ولما أن حظها أخصر واستحقاقه أتم وأوفر هذا إذا لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك وتسمى المسألتان بالغراوين وبالغريبتين وبالعمريتين ، فللأم ثلث ما بقي بعد فرض
أحدهما عند جمهور الصحابة والفقهاء لا ثلث الكل خلافا لابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما مستدلا بأنه تعالى جعل لها أولا سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه : وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ثم ذكر أن لها مع عدمه الثلث بقوله عز وجل : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فيفهم منه أن المراد ثلث أصل التركة أيضا.
ويؤيده أن السهام المقدرة كلها بالنسبة إلى أصلها بعد الوصية والدين ، وإلى ذلك ذهبت الإمامية وكان أبو بكر الأصم يقول : بأن لها مع الزوج ثلث ما يبقى من فرضه ومع الزوجة ثلث الأصل ، ونسب إلى ابن سيرين لأنه لو جعل لها مع الزوج ثلث جميع المال لزم زيادة نصيبها على نصيب الأب لأن المسألة حينئذ من ستة لاجتماع النصف والثلث فللزوج ثلاثة وللأم اثنان على ذلك التقدير فيبقى للأب واحد ، وفي ذلك تفضيل الأنثى على الذكر ، وإذا جعل لها ثلث ما بقي من فرض الزوج كان لها واحد وللأب اثنان ولو جعل لها مع الزوجة ثلث الأصل لم يلزم ذلك التفضيل لأن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 434
المسألة من اثني عشر لاجتماع الثلث والربع ، فإذا أخذت الأم أربعة بقي للأب خمسة فلا تفضيل لها عليه ، ورجح مذهب الجمهور على مذهب ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بخلوه عن الإفضاء إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب بل الأقوى منها في الإرث بدليل إضعافه عليها عند انفرادهما عن أحد الزوجين ، وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع ، وهذا الإفضاء ظاهر في المسألة الأولى ، وبذلك علل زيد بن ثابت حكمه فيها مخالفا لابن عباس ، فقد أخرج عبد الرزاق والبيهقي عن عكرمة قال : أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين.
فقال زيد : للزوج النصف ، وللأم ثلث ما بقي ، وللأب بقية المال فأرسل إليه ابن عباس أفي كتاب اللّه تعالى تجد هذا؟ قال : لا ولكن أكره أن أفضل أما على أب ، ولا يخفى أن هذا لا ينتهض مرجحا لمذهب الجمهور على مذهب الأصم ، ومن هنا قال السيد السند وغيره في نصرة مذهبهم عادلين عن المسلك الذي سلكناه : إن معنى قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ هو أن لها ثلث ما ورثاه سواء كان جميع المال أو بعضه ، وذلك لأنه لو أريد ثلث الأصل لكفى في البيان فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث كما قال تعالى في حق البنات : وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ بعد قوله سبحانه : فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فيلزم أن يكون قوله تعالى : وَوَرِثَهُ أَبَواهُ خاليا عن الفائدة ، فإن قيل : نحمله على أن الوراثة لهما فقط قلنا : ليس في العبارة دلالة على حصر الإرث فيهما وإن سلم فلا دلالة في الآية حينئذ على صورة النزاع لا نفيا ولا إثباتا ، فيرجع فيهما إلى أن الأبوين في الأصول كالابن والبنت في الفروع لأن السبب في وراثة الذكر والأنثى واحد وكل منهما يتصل بالميت بلا واسطة فيجعل ما بقي من فرض أحد الزوجين بينهما أثلاثا كما في حق الابن والبنت وكما في حق الأبوين إذا انفردا بالإرث فلا يزيد نصيب الأم على نصف نصيب الأب كما يقتضيه القياس فلا مجال لما ذهب إليه الأصم أيضا على هذا ، وليته سمع ذلك فليفهم.
وقد اختلفوا أيضا في حظ الأم فيما إذا كان مكان الأب جد وباقي المسألة على حالها ، فمذهب ابن عباس وإحدى الروايتين عن الصديق ، وروى ذلك أهل الكوفة عن ابن مسعود في صورة الزوج وحده أن للأم ثلث جميع المال. وقول أبي يوسف - وهو الرواية الأخرى - عن الصديق رضي اللّه تعالى عنه : إن لها ثلث الباقي كما مع الأب فعلى هذه الرواية جعل الجد كالأب فيعصب الأم كما يعصبها الأب ، والوجه على الرواية الأولى على ما ذكره الفرضيون هو أنه ترك ظاهر قوله تعالى : فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ في حق الأب ، وأول بما مر لئلا يلزم تفضيلها عليه مع تساويهما في القرب في الرتبة ، وأيد التأويل بقول أكثر الصحابة ، وأما في حق الجد فأجرى على ظاهره لعدم التساوي في القرب وقوة الاختلاف فيما بين الصحابة ولا استحالة في تفضيل الأنثى على الذكر مع التفاوت في الدرجة كما إذا ترك امرأة وأختا لأم وأب وأخا للأب ، فإن للمرأة الربع ، وللأخت النصف وللأخ لأب الباقي ، فقد فضلت هاهنا الأنثى لزيادة قربها على الذكر ، وأيضا للأم حقيقة الولاد كما للأب فيعصبها والجد له حكم الولاد لا حقيقته فلا يعصبها إذ لا تعصيب مع الاختلاف في السبب بل مع الاتفاق فيه فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانوا من الإخوة أو الأخوات ، وسواء كانوا من جهة الأبوين ، أو من جهة أحدهما.
وخالف ابن عباس في ذلك فإنه جعل الثلاثة من الإخوة والأخوات حاجبة للأم دون الاثنين فلها معهما الثلث عنده بناء على أن الإخوة صيغة الجمع فلا يتناول المثنى ، وبهذا حاج عثمان بن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، فقد أخرج ابن جرير والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يردان الأم عن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 435
الثلث وتلا الآية. والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس ، وقال الجمهور : إن حكم الاثنين في باب الميراث حكم الجماعة ، ألا يرى أن البنتين كالبنات ، والأختين كالأخوات في استحقاق الثلثين فكذا في الحجب وأيضا معنى الجمع المطلق مشترك بين الاثنين وما فوقهما ، وهذا المقام يناسب الدلالة على الجمع المطلق فدل بلفظ الإخوة عليه بل قال : جمع إن صيغة الجمع حقيقة في الاثنين كما فيما فوقهما في كلام العرب ، فقد أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له : يا أبا سعيد إن اللّه تعالى يقول : فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ وأنت تحجبها بأخوين فقال : إن العرب تسمي الأخوين إخوة ، وهذا يعارض الخبر السابق عن ابن عباس فإنه صريح في أن صيغة الجمع لا تقال على اثنين في لغة العرب ، وعثمان رضي اللّه تعالى عنه سلم ذلك إلا أنه احتج بأن إطلاق الإخوة على الأعم كان إجماعا.
ومن هنا اختلف الناس في مدلول صيغة الجمع حقيقة ، وصرح بعض الأصوليين أنها في الاثنين في المواريث والوصايا ملحقة بالحقيقة ، والنحاة على خلاف ذلك وخالف ابن عباس أيضا في توريث الأم السدس مع الإناث الخلص لأن الإخوة جمع أخ فلا يشمل الأخت إلا بطريق التغليب ، والخلص لا ذكور معهم فيغلبون ، وهو كلام متين إلا أن العمل على اختلافه اعتبارا لوصف الإخوة في الآية للإجماع على ذلك قبل ظهور خلاف ابن عباس وخرق الإجماع إنما يحرم على من لم يكن موجودا عنده ، وذهب الزيدية والإمامية إلى أن الإخوة لأم لا يحجبونها بخلاف غيرهم فإن الحجب هاهنا بمعنى معقول كما يشير إليه كلام قتادة ، وهو أنه إن كان هناك إخوة لأب وأم أو لأب فقد كثر عيال الأب فيحتاج إلى زيادة مال للإنفاق ، وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا كان الإخوة لأم إذ ليس نفقتهم على الأب ، والجمهور ذهبوا إلى عدم الفرق لأن الاسم حقيقة في الأصناف الثلاثة ، وهذا حكم غير معقول المعنى ثبت بالنص ، ألا يرى أنهم يحجبون الأم بعد موت الأب ولا نفقة عليه بعد موته ويحجبونها كبارا أيضا وليست عليه نفقتهم ، ثم الشائع المعلوم من خارج أو من الآية في رأي أن الإخوة يحجبون الأم حجب نقصان ، وإن كانوا محجوبين بالأب حجب حرمان ، ويعود السدس الذي حجبوها عنه للأب - وهو مذهب جمهور الصحابة أيضا - ويروى عن ابن عباس أنه للإخوة لأنهم إنما حجبوها عنه ليأخذوه فإن غير الوارث لا يحجب كما إذا كانت الإخوة كفارا أو أرقاء ، وقد يستدل عليه بما
رواه طاوس مرسلا أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الإخوة السدس مع الأبوين.
وللجمهور - كما قال الشريف - إن صدر الكلام يدل على أن لأمه الثلث والباقي للأب فكذا الحال في آخره كأنه قيل : فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس ولأبيه الباقي ، ثم إن شرط الحاجب أن يكون وارثا في حق من يحجبه ، والأخ المسلم وارث في حق الأم بخلاف الرقيق والكافر ، فالإخوة يحجبونها وهم يحجبون بالأب ، ألا يرى أنهم لا يرثون مع الأب شيئا عند عدم الأم لأنهم كلالة فلا ميراث لهم مع الوالد ، وليس حال الإخوة مع الأم بأقوى من حالهم مع عدمها ، وقد روي عن طاوس أنه قال : لقيت ابن رجل من الإخوة الذين أعطاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم السدس مع الأبوين وسألته عن ذلك فقال : كان ذلك وصية
وحينئذ صار الحديث دليلا للجمهور إذ لا وصية لوارث ، والظاهر أنه لا صحة لهذه الرواية عن ابن عباس لأنه يوافق الصديق رضي اللّه تعالى عنه في حجب الجد للإخوة فكيف يقول بإرثهم مع الأب كذا في شرح الإمام السرخسي ، وفي الدر المنثور أن ابن جرير ، وعبد الرزاق والبيهقي عنه ، وقرأ حمزة والكسائي «فلإمه» بكسر الهمزة اتباعا لكسرة اللام ، وقيل : إنه اتباع لكسرة الميم ، وضعف بأن فيه اتباع حركة أصلية لحركة عارضة وهي الإعرابية ، وقيل : إنه لغة في الأم ، وأنكرها الشهاب ، وفي القاموس الأم - وقد تكسر - الوالدة ، ويقال : أمة وأمهة وتجمع على أمات وأمهات ، وهذه لمن يعقل ، وأمات لما لا يعقل ، وحكي ذلك في الصحاح عن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 436
بعضهم مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ متعلق - بيوصيكم - والكلام على حذف مضاف بناء على أن المراد من الوصية المال الموصى به ، والمعنى أن هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية.
وجوز أن يكون حالا من السدس ، والتقدير مستحقا من بعد ذلك والعامل فيه الجار والمجرور الواقع خبرا لاعتماده ، ويقدر لما قبله مثله كالتنازع ، وقيل : إنه متعلق بكون عام محذوف أي استقر ذلك لهؤلاء مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها الميت.
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم يُوصِي مبنيا للمفعول مخففا ، وقرئ «يوصّي» مبنيا للفاعل مشددا ، والجملة صفة وَصِيَّةٍ وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها ، وقيل : التعميم لأن الوصية لا تكون إلا موصى بها أَوْ دَيْنٍ عطف على وصية إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف السابق فلا يتوقف إخراج الدين على الإيصاء به بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة والإقرار في الصحة ، وإيثار أَوْ على الواو للإيذان بتساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو مفردين ، وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع أن الدين مقدم عليها حكما كما قضى به رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فيما رواه علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وأخرجه عنه جماعة - لإظهار كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها حيث إنها تؤخذ كالميراث بلا عوض فكانت تشق عليهم ولأن الجميع مندوب إليها حيث لا عارض بخلاف الدين في المشهور مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت ، وقال ابن المنير : إن الآية لم يخالف فيها الترتيب الواقع شرعا لأن أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية ، ثم اقتسام ذوي الميراث ، فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج الوصية والوصية تلو الدين فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية ، والدين صورة الواقع شرعا ، ولو سقط ذكر بَعْدِ وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لأمكن ورود السؤال المذكور وهو من الحسن بمكان آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً الخطاب للورثة ، وآباؤُكُمْ مبتدأ ، ووَ أَبْناؤُكُمْ معطوف عليه ، ولا تَدْرُونَ مع ما في
حيزه خبر له ، و- أي - إما استفهامية مبتدأ ، وأَقْرَبُ خبره ، والفعل معلق عنها فهي سادة مسدّ المفعولين ، وإما موصولة ، وأَقْرَبُ خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة الموصول وهو مفعول أول مبني على الضم لإضافته ، وحذف صدر صلته ، والمفعول الثاني محذوف ، ونَفْعاً نصب على التمييز ، وهو منقول من الفاعلية ، والجملة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية.
والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع ، فيشمل البنات والأمهات والأجداد والجدات ، أي أصولكم وفروعكم الذين يموتون قبلكم لا تعلمون من أنفع لكم منهم أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، أم من لم يوص فوفر عليكم عرض الدنيا ، وليس المراد - كما قال شيخ الإسلام - بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم ، وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان لأحدهما على الآخر فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور ، والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية ، وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيرا لمناط زعمهم وتعيينا لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل : لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة ، وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا ، والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى ، والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى ، واختار كثير من المحققين

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 437
كون الجملة اعتراضا مؤكدا لأمر القسمة ، وجعل الخطاب للمورثين ، وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل وكانت الأنصباء مختلفة ، والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك. فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء ، ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر اللّه تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل ، وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال : إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه ، وكونوا مطيعين لأمر اللّه تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم ، والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلا ، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة ،
فقد أخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ،
وإلى هذا ذهب الحسن رحمه اللّه تعالى ، وخص مجاهد النفع بالدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي.
وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعا لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة ، وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض اللّه تعالى وقسم ولا تقولوا : لما ذا أخر الأب عن الابن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت ، واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة ، أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك ، والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعا لاتصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق ، ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير ، وربما يقال :
المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعا فضلا عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة ، والكلام مسوق لردّ ما كان في الجاهلية فإن أهل الجاهلية كانوا - كما قال السدي - لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، وعن ابن عباس أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر ، وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد اللّه تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها ، ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر ، وقيل : إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه ، ونسب إلى أبي مسلم ، ولا يخفى مزيد بعده فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه على حدّ هذا ابني حقا لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا أي فرض ذلك فريضة من اللّه : وقيل : إنه ليس بمصدر بل هو اسم مفعول وقع حالا ، والتقدير لهؤلاء الورثة هذه السهام حال كونها مفروضة من اللّه تعالى ، وقيل : بل هو مصدر إلا أنه مؤكد لفعله وهو يوصيكم السابق على غير لفظه إذ المعنى يفرض عليكم وأورد عليه عصام الملة أن المصدر إذا أضيف لفاعله أو مفعوله أو تعلقا به يجب حذف فعله كما صرح به الرضي إلا أن يفرق بين صريح المصدر وما تضمنه لكن لا بدّ لهذا من دليل ولم نطلع عليه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بالمصالح والرتب حَكِيماً في كل ما قضى وقدر فتدخل فيه أحكام المواريث دخولا أوليا ، وموقع هذه الجملة هنا موقع قوله تعالى للملائكة : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة :
30] والخبر عن اللّه تعالى بمثل هذه الألفاظ - كما قال الخليل - كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 438
الدخول تحت الزمان ، وقال سيبويه : القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا فقيل لهم : إن اللّه تعالى كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات فلا حاجة إلى القول بزيادة كان كما ذهب إليه البعض.
[سورة النساء (4) : الآيات 12 إلى 22]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إن دخلتم بهن أولا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعددا منكم كان أو من غيركم ، ولذا قال سبحانه : لَهُنَّ ولم يقل لكم ، ولا فرق بين أن يكون الولد من بطن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 439
الزوجة ، وأن يكون من صلب بنيها أو بني بنيها إلى حيث شاء اللّه تعالى فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ على ما ذكر من التفصيل ، وروي عن ابن عباس أن ولد الولد لا يحجب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذكر تقدير عدم الولد وبيان حكمه مستتبع لتقدير وجوده وبيان حكمه فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ من المال والباقي في الصورتين لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام ، أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده ، والكلام على فائدة الوصف وكذا على تقديم الوصية ذكرا قد مر آنفا فلا فائدة في ذكره وَلَهُنَّ أي الأزواج تعددن أو لا الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ عى التفصيل المتقدم.
فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ فرض للرجل بحق الزواج «1» ضعف ما فرض للمرأة كما في النسب لمزية عليها ولذا اختص بتشريف الخطاب ، وتقديم ذكر حكم ميراثه وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب ، ولا يستثنى من ذلك إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة لاستواء الذكر والأنثى منهم وَإِنْ كانَ رَجُلٌ المراد بالرجل الميت وهو اسم كان يُورَثُ على البناء للمفعول من ورث الثلاثي خبر كان ، والمراد يورث منه فإن ورث تتعدى بمن وكثيرا ما تحذف كَلالَةً هي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو الاعياء قال الأعشى :
فآليت لا أرثي لها من (كلالة) ولا من حفي حتى ألاقي محمدا
ثم استعيرت واستعملت استعمال الحقائق للقرابة من غير جهة الوالد والولد بضعفها بالنسبة إلى قرابتهما ، وتطلق على من لم يخلف والدا ولا ولدا ، وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القرابة على ذوي القرابة وجعل ذلك بعضهم من باب التسمية بالمصدر وآخرون جوزوا كونها - صفة - كالهجاجة - للأحمق قال الشاعر :
«هجاجة» منتخب الفؤاد كأنه نعامة في واد
وتستعمل في المال الموروث مما ليس بوالد ولا ولد إلا أنه استعمال غير شائع وهي في جميع ذلك لا تثنى ولا تجمع ، واختار كثيرون كون أصلها من تكلله النسب إذ أحاط به ، ومن ذلك الإكليل لإحاطته بالرأس ، والكل لإحاطته بالعدد ، وقال الحسين بن علي المغربي : أصل الكلالة عندي ما تركه الإنسان وراء ظهره آخذا من الكلّ وهو الظهر والقفا ، ونصبها «2» على أنها مفعول له أي يورث منه لأجل القرابة المذكورة ، أو على أنها حال من ضمير يورث أي حال كونه ذا كلالة ، واختاره الزجاج ، أو على أنها خبر لكان ويُورَثُ صفة لرجل أي إِنْ كانَ رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد ، وذكر أبو البقاء احتمال كون كانَ تامة ، ورَجُلٌ فاعلها ، ويُورَثُ صفة له ، وكَلالَةً حال من الضمير في يورث ، واحتمال نصبها على هذا الاحتمال على أنها مفعول له أيضا ظاهر ، وجوز فيها الرفع على أنها صفة ، أو بدل من الضمير إلا أنه لم يعرف أحد قرأ به فلا يجوز القراءة به أصلا ، وجعل نصبها على الاستعمال الغير الشائع على أنها مفعول ثان ليورث.
وقرئ «يورث» ، و«يورّث» بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل ، فانتصاب كَلالَةً إما على أنها حال من
___________
(1) كقتال ا ه منه.
(2) وجوز نصبها على أنها خبر ثان إن أريد أحد الملابسين. وعلى التمييز إن أريد المصدر ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 440
ضمير الفعل والمفعول محذوف أي يُورَثُ وارثه حال كونه ذا كَلالَةً ، وإما على أنها مفعول به أي يُورَثُ ذا كلالة ، وإما على أنها مفعول له أي يورث لأجل الكلالة كذا قالوا ، ثم إن الذي عليه أهل الكوفة. وجماعة من الصحابة والتابعين هو أن الكلالة هنا بالمعنى الثالث ، وروي عن آخرين ، منهم ابن جبير وصح به خبر عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم - أنها بالمعنى الثاني ، ولم نر نسبة القولين الآخرين لأحد من السلف ، والأول منهما غير بعيد ، والثاني سائغ إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى أَوِ امْرَأَةٌ عطف على رجل مقيد بما قيد به ، وكثيرا ما يستغني بتقييد المعطوف عليه عن تقييد المعطوف ، ولعل فصل ذكرها عن ذكره فللإيذان بشرفه وأصالته في الأحكام ، وقيل :
لأن سبب النزول كان بيان حكمه بناء على ما
روي عن جابر أنه قال : أتاني رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأنا مريض فقلت : كيف الميراث وإنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض لذلك
وَلَهُ أي الرجل ، وتوحيد الضمير لوجوبه فيما وقع بعد ، أو حتى أن ما ورد على خلاف ذلك مؤول عند الجمهور كقوله تعالى : إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء : 135] وأتى به مذكرا للخيار بين أن يراعي المعطوف أو المعطوف عليه في مثل ذلك ، وقد روعي هنا المذكر لتقدمه ذكرا وشرافة ، ويجوز أن يكون الضمير لواحد منهما ، والتذكير للتغليب ، وجوز أن يكون راجعا للميت ، أو الموروث ولتقدم ما يدل عليه ، وأبعد من جوز أن يكون عائدا للرجل ، وضمير المرأة محذوف. والمراد وله أولها أَخٌ أَوْ أُخْتٌ أي من الأم فقط - وعلى ذلك عامة المفسرين - حتى أن بعضهم حكى الإجماع عليه.
وأخرج غير واحد عن سعيد أبي وقاص أنه كان يقرأ وله أخ أو أخت من أم ، وعن أبي من الأم ، وهذه القراءة وإن كانت شاذة إلا أن كثيرا من العلماء استند إليها بناء على أن الشاذ من القراءات إذا صح سنده كان كخبر الواحد في وجوب العمل به خلافا لبعضهم ، ويرشد إلى هذا القيد أيضا أن أحكام بني الأعيان والعلات هي التي تأتي في آخر السورة الكريمة ، وأيضا ما قدر هنا لكل واحد من الأخ والأخت ، وللأكثر وهو السدس ، والثلث هو فرض الأم ، فالمناسب أن يكون ذلك لأولاد الأم ، ويقال لهم إخوة أخياف ، وبنو الأخياف ، والإضافة بيانية ، والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير يورث. أو من رجل على تقدر كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألة ، وذكر الكلالة لتحقيق جريان الحكم المذكور ، وإن كان مع من ذكر ورثة أخرى بطريق الكلالة ولا يضر عند من لم يقل بالمفهوم جريانه في صورة الأم ، أو الجدة مع أن قرابتهما ليس بطريق الكلالة ، وكذا لا يضر عند القائل به أيضا للإجماع على ذلك فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا أي الأخت والأخ السُّدُسُ مما ترك من غير تفضيل للذكر على الأنثى ، ولعله إنما عدل عن - فله السدس - إلى هذا دفعا لتوهم أن المذكور حكم الأخ ، وترك حكم الأخت لأنه يعلم منه أن لها نصف الأخ بحكم الأنوثة والحكمة في تسوية الشارع بينهما تساويهما في الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة فَإِنْ كانُوا أي الإخوة والأخوات من الأم المدلول عليهم بما تقدم والتذكير للتغليب أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ أي المذكور بواحد ، أو بما فوقه والتعبير باسم الإشارة دون الواحد لأنه لا يقال أكثر من الواحد حتى لو قيل أول بأن المعنى زائدا عليه ، وبعض المحققين التزم التأويل هنا أيضا إذ لا مفاضلة بعد انكشاف حال المشار إليه ، ولعل التعبير باسم الإشارة حينئذ تأكيد الإشارة إلى أن المسألة فرضية ، والفاء لما مر من أن ذكر احتمال الانفراد مستتبع لذكر احتمال العدد.
فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ يقتسمونه فيما بينهم بالسوية ، وهذا مما لا خلاف فيه لأحد من الأمة ، والباقي لباقي الورثة من أصحاب الفروض والعصبات ، وفيه خلاف الشيعة ، هذا ومن الناس من جوز أن يكون يُورَثُ في القراءة المشهورة مبنيا للمفعول من أورث على أن المراد به الوارث ، والمعنى وإن كان رجل يجعل وارثا لأجل الكلالة أو ذا كلالة أي غير والد ولا ولد ، ولذلك الوارث أخ أو أخت فلكل من ذلك الوارث ، أو أخيه أو أخته السدس ، فإن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 441
كانوا أكثر من ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثة ، أو أكثر فهم شركاء في الثلث الموزع للاثنين لا يزداد عليه شيء ، ولا يخفى أن الكلام عليه قاصر عن بيان حكم صورة انفراد الوارث عن الأخ والأخت ومقتض أن يكون المعتبر في استحقاق الورثة للفرض المذكور إخوة بعضهم لبعض من جهة الأم فقط ، وخارج على مخرج لا عهد به ، وفيه أيضا ما فيه ، وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام قدس سره بما لا مزيد عليه. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ أي من غير ضرار لورثته فلا يقر بحق ليس عليه ، ولا يوصي بأكثر من الثلث. قاله ابن جبير فالدين هنا مقيد كالوصية وفي يُوصى قراءتان سبعيتان في البناء للمفعول ، والبناء للفاعل ، وغَيْرَ على القراءة الأولى حال من فاعل فعل مبني للفاعل مضمر يدل عليه المذكور ، وما حذف من المعطوف اعتمادا عليه ، ونظيره قوله تعالى : يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور : 36] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول ، وقول الشاعر :
«ليبك» يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
وعلى القراءة الثانية حال من فاعل الفعل المذكور والمحذوف اكتفاء به ، ولا يلزم على هذا الفصل بين الحال وذيها بأجنبي كما لا يخفى ، أي يوصي بما ذكر من الوصية والدين حال كونه غَيْرَ مُضَارٍّ ، ولا يجوز أن يكون حالا من الفاعل المحذوف في المجهول لأنه ترك بحيث لا يلتفت إليه فلا يصح مجئ الحال منه ، وجوز فيه أن يكون صفة مصدر أي إيصاء غَيْرَ مُضَارٍّ ، واختار بعضهم جعله حالا من وَصِيَّةٍ أو دَيْنٍ أي من بعد أداء وصية أو دين غَيْرَ مُضَارٍّ ذلك الواحد وجعل التذكير للتغليب وليس بشيء ، وجوز هذا البعض أن يكون المعنى على ما تقدم غير مضر نفسه بأن يكون مرتكبا خلاف الشرع بالزيادة على الثلث وهو صحيح في نفسه إلا أن المتبادر الأول وعليه مجاهد وغيره ويحتمل - كما قال جمع - أن يكون المعنى غير قاصد الإضرار بل القربة ، وذكر عصام الملة أن المفهوم من الآية أن الإيصاء والإقرار بالدين لقصد الإضرار لا يستحق التنفيذ وهو كذلك إلا أن إثبات القصد مشكل إلا أن يعلم ذلك بإقراره ، والظاهر أن قصد الإضرار لا القربة بالوصية بالثلث فما دونه لا يمنع من التنفيذ ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال : إن اللّه تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حياتكم ، نعم ذاك محرم بلا شبهة وليس كل محرم غير منفذ فإن نحو العتق والوقف للرياء والسمعة محرم بالإجماع مع أنه نافذ ، ومن ادعى تخصيص ذلك بالوصية فعليه البيان وإقامة البرهان.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الإضرار بالوصية من الكبائر ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة»
وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد أي يوصيكم اللّه بذلك وصية. والتنوين للتفخيم ، و«من» متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة مؤكدا لفخامتها ، ونظير ذلك فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء : 11 ، التوبة : 60] ولعل السر في تخصيص كل منهما بمحله ما قاله الإمام من أن لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفرضية ، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل وإن كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو حال رعاية الأولاد أولى ، وقيل إن الوصية أقوى من الفرض للدلالة على الرغبة وطلب سرعة الحصول ، فختم شرح ميراث الكلالة بها لأنها لبعدها ربما لا يعتني بشأنها فحرض على الاعتناء بها بذكر الوصية ولا كذلك ما تقدم ، أو منصوب بمضار على أنه مفعول به له إما بتقدير أي أهل وصية اللّه تعالى ، أو على المبالغة لأن المضارة ليست للوصية بل لأهلها

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 442
فهو على حدّ يا سارق الليلة أهل الدار ومضارتها الإخلال بحقوقهم ونقصها مما ذكر من الوصية بما زاد على الثلث ، أو به مثلا لقصد الإضرار ودون القربة والإقرار بالدين كاذبا.
والمراد من الأهل الورثة المذكورة هاهنا ووقع في بعض العبارات أن المراد وصية اللّه تعالى بالأولاد ، ولعل المراد بهم الورثة مطلقا بطريق التعبير عن الكلي بأشهر أفراده كما عبر عن مطلق الانتفاع بالمال بأكله وإلا فهو غير ملائم وإنما نصب مضار المفعول به لأنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال ، أو منفي معنى فيعمل في المفعول الصريح ، ويشهد لهذا الاحتمال قراءة الحسن غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً بالإضافة ، وذكر أبو البقاء في هذه القراءة وجهين :
الأول أن التقدير غَيْرَ مُضَارٍّ أهل وَصِيَّةٍ فحذف المضاف ، والثاني أن التقدير غَيْرَ مُضَارٍّ وقت وَصِيَّةٍ فحذف وهو من إضافة الصفة إلى الزمان ، والجمهور لا يثبتون الإضافة بمعنى في ، ووقع في الدر المصون احتمال أنه منصوب على الخروج ولم يبين المراد من ذلك ، ووقع في همع الهوامع في المفعول به : إن الكوفيين يجعلونه منصوبا على الخروج ولم يبينه أيضا ، قال الشهاب : فكأن مرادهم أنه خارج عن طرفي الإسناد ، فهو كقولهم : فضلة فلينظر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمضار وغيره ، وقيل : بما دبره بخلقه من الفرائض حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يغترن المضار بالإمهال أو لا يغترن من خالفه فيما بينه من الفرائض بذلك ، والإضمار في مقام الإظهار لإدخال الروعة وتربية المهابة ، ثم اعلم أن اللّه سبحانه أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات ، وذلك أن الوارث إما أن يتصل بالميت بنفسه من غير واسطة ، أو يتصل به بواسطة فإن اتصل بغير واسطة فسبب الاتصال إما أن يكون النسب أو الزوجية ، فحصل هنا ثلاثة أقسام أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب ، وذلك هو قرابة الولادة ، ويدخل فيها الأولاد.
والوالدان ، وثانيها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي والثاني عرضي والذاتي أشرف من العرضي ، وثالثها الاتصال الحاصل بواسطة الغير ، وهو المسمى بالكلالة ، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه : أحدها أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية ، وأما الكلالة فقد يعرض لها السقوط بالكلية ، وثانيها أن القسمين الأولين ينتسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة ، والكلالة ينتسب إلى الميت بواسطة ، والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة ، وثالثها أن مخالطة الإنسان بالوالدين والأولاد والأزواج والزوجات أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة وكثرة المخالطة مظنة الألفة والشفقة وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم ، فلهذه الأسباب وأشباهها أخر اللّه سبحانه ذكر ميراث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشدّ انطباقه على قوانين المعقولات - كما قاله الإمام تِلْكَ أي الأحكام المذكورة في شؤون اليتامى والمواريث وغيرها ، واقتصر ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما على المواريث حُدُودُ اللَّهِ أي شرائعه أو طاعته أو تفصيلاته أو شروطه ، وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض ، والإظهار في مقام الإضمار لما مرت الإشارة إليه يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ نصب على الظرفية عند الجمهور ، وعلى المفعولية عند الأخفش.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت أشجارها وأبنيتها ، وقد مرّ الكلام في ذلك الْأَنْهارُ أي ماؤها خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من مفعول يُدْخِلْهُ لأن الخلود بعد الدخول فهو نظير قولك : مررت برجل معه صقر يصيد به غدا ، وصيغة الجمع لمراعاة معنى مَنْ كما أن إفراد الضمير لمراعاة لفظها وَذلِكَ أي دخول الجنات على الوجه المذكور الْفَوْزُ أي الفلاح والظفر بالخير الْعَظِيمُ في نفسه أو بالإضافة إلى حيازة التركة على ما قيل

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 443
والجملة اعتراض وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض ، وقال ابن جريج : من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث ، وحكي مثله عن ابن جبير. وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ التي جاء بها رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ومن جملتها ما قص لنا قبل ، أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالا كما حكي عن الكلبي يُدْخِلْهُ قرأ نافع وابن عامر بالنون في الموضعين ناراً أي عظيمة هائلة خالِداً فِيها حال كما سبق ، وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة. وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه ، وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى ، أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصيغة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس ، والخلود في دار العقاب بصيغة الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة ، وجوز الزجاج ، والتبريزي كون خالِدِينَ هناك وخالِداً هنا صفتين لجنات أو نار ، واعترض بأنه لو كان كذلك لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له ، وتعقبه أبو حيان بأن هذا على مذهب البصريين. ومذهب الكوفيين جواز الوصفية في مثل ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذ لا لبس وَلَهُ عَذابٌ أي عظيم لا يكتنه مُهِينٌ أي مذل له والجملة حالية ، والمراد جمع أمرين للعصاة المعتدين عذاب جسماني وعذاب روحاني ، نسأل اللّه تعالى العافية ، واستدل بالآية من زعم أن المؤمن العاصي مخلد في النار ، والجواب أنها لا تصدق عليه إما لأنها في الكافر على ما سمعت عن الكلبي وابن جبير وابن جريج وإما لأن المراد من حدود اللّه تعالى جميع حدوده لصحة الاستثناء والمؤمن العاصي واقف عند حد التوحيد ، وإما لأن ذلك مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط بعدم التوبة عند الزاعم ، وفي ختم آيات المواريث بهذه الآية إشارة إلى عظم أمر الميراث ولزوم الاحتياط والتحري وعدم الظلم فيه ، وقد أخرج ابن ماجه عن أنس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «من قطع ميراثا فرضه اللّه ورسوله قطع اللّه ميراثه من الجنة».
وأخرج أبو منصور عن سليمان بن موسى ، والبيهقي عن أبي هريرة نحو ذلك ، وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة عدو ، وكأن عدم القسمة إما للتهاون في الدين وعدم المبالاة وكثرة الظلم بين الناس ، وإما لفشو الجهل وعدم من يعرف الفرائض ،
فقد ورد عن أبي هريرة مرفوعا إن علم الفرائض أول ما ينزع من الأمة ،
وأخرج البيهقي والحاكم عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها»
ولعل الاحتمال الأول أظهر.
(هذا وقد سددنا باب الإشارة في الآيات) لما في فتحه من التكلف ، وقد تركناه لأهله.
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ شروع في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء إثر بيان أحكام المواريث ، وَاللَّاتِي جمع التي على غير قياس ، وقيل : هي صيغة موضوعة للجمع ، وموضعها رفع على الابتداء ، والفاحشة ما اشتد قبحه ، واستعملت كثيرا في الزنا لأنه من أقبح القبائح ، وهو المراد هنا على الصحيح ، والإتيان في الأصل المجيء ، وفي الصحاح يقال : أتيته أتيا قال الشاعر :
فاختر لنفسك قبل «أتى» العسكر وأتوته أتوة لغة فيه ، ومنه قول الهذلي :
كنت إذا «أتوته» من غيب

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 444
وفي القاموس أتوته أتوة «1» وأتيته أتيا وإتيانا وإتيانة بكسرهما ، ومأتاة وإتيا كعتى ، ويكسر جئته ، وقد يعبر به كالمجيء والرهق والغشي عن الفعل ، وشاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية ، وهو المراد هنا فالمعنى يفعلن الزنا أي يزنين ، والتعبير بذلك لمزيد التهجين ، وقرأ ابن مسعود يَأْتِينَ بالفاحشة - فالإتيان على أصله المشهور ، ومِنْ متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل يَأْتِينَ والمراد من النساء - كما قال السدي ، وأخرجه عنه ابن جرير - النساء اللاتي قد أنكحن وأحصن ، ومثله عن ابن جبير فَاسْتَشْهِدُوا أي فاطلبوا أن يشهد عَلَيْهِنَّ بإتيانهن الفاحشة أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم قال الزهري : مضت السنة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود ، واشترط الأربعة في الزنا تغليظا على المدعي وسترا على العباد ، وقيل : ليقوم نصاب الشهادة كاملا على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ولا يخفى ضعفه ، والجملة خبر المبتدأ والفاء مزيدة فيه لتضمن معنى الشرط ، وجاز الإخبار بذلك لأن الكلام صار في حكم الشرط حيث وصلت اللاتي بالفعل - قاله أبو البقاء - وذكر أنه إذا كان كذلك لم يحسن النصب على الاشتغال لأن تقدير الفعل قبل أداة الشرط لا يجوز ، وتقديره بعد الصلة يحتاج إلى إضمار فعل غير فَاسْتَشْهِدُوا لأنه لا يصح أن يعمل النصب في اللاتي ، وذلك لا يحتاج إليه مع صحة الابتداء «2» وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره اقصدوا اللاتي أو تعمدوا ، وقيل : الخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم حكم اللاتي ، فالجار والمجرور هو الخبر وحكم هو المبتدأ فحذفا لدلالة فَاسْتَشْهِدُوا لأنه الحكم المتلو عليهم ، والخطاب قيل : للحكام ، وقيل : للأزواج فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بالإتيان فَأَمْسِكُوهُنَّ أي فاحبسوهن عقوبة لهن فِي الْبُيُوتِ واجعلوها سجنا عليهن حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ المراد بالتوفي في أصل معناه أي الاستيفاء وهو القبض تقول : توفيت مالي على فلان واستوفيته إذا قبضته. وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيه بشخص يفعل ذلك فهناك استعارة بالكناية والكلام على حذف مضاف ، والمعنى حتى يقبض أرواحهن الموت ولا يجوز أن يراد من التوفي معناه المشهور إذ يصير الكلام بمنزلة حتى يميتهن الموت ولا معنى له إلا أن يقدر مضاف يسند إليه الفعل أي ملائكة الموت ، أو يجعل الإسناد مجازا من إسناد ما للفاعل الحقيقي إلى أثر فعله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أي مخرجا من الحبس بما يشرعه من الحدّ لهن - قاله ابن جبير - وأخرج الإمامان الشافعي وأحمد وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك واربد وجهه ، وفي لفظ لابن جرير يأخذه كهيئة الغشي لما يجد من ثقل ذلك فأنزل عليه ذات يوم فلما سري عنه قال : «خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة»
وروى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال : كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها.
وروى ابن جرير عن السدي كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها ، وحكاية النسخ قد وردت في غير ما طريق عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ورويت عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما ، والناسخ عند بعض آية الجلد على ما في سورة النور وعند آخرين إن آية الحبس نسخت بالحديث ، والحديث منسوخ بآية الجلد ، وآية الجلد بدلائل الرجم.
___________
(1) قوله : في القاموس. أتوته أتوة والذي في القاموس أتوته أتيته فليحرر ا ه مصححه.
(2) ولم يمنعوا التقدير مقدما فيما تضمن معنى الشرط لأنه لا يعامل معاملته من كل وجه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 445
وقال الزمخشري : من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ لكونه معلوما بالكتاب والسنة ، ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال ، ويكون السبيل على هذا النكاح المغني عن السفاح ، وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن : إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل اللّه تعالى لهن سبيلا ثم إن ذلك السبيل كان مجملا فلما
قال صلّى اللّه عليه وسلم : «خذوا عني» ،
إلى آخر ما في الحديث صار ذلك بيانا لما في تلك الآية لا ناسخا له ، وصار مخصصا لعموم آية الجلد ، وقد تقدم لك في سورة البقرة ما ينفعك في تحقيق هذا المقام فتذكره وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ هما الزاني والزانية بطريق التغليب. قاله السدي وابن زيد وابن جبير أراد بهما البكران اللذان لم يحصنا ، ويؤيد ذلك كون عقوبتهما أخف من الحبس المخلد ، وبذلك يندفع التكرار لكن يبقى حكم الزاني المحصن غير ظاهر.
وقرأ ابن كثير «واللذان» بتشديد النون وهي لغة وليس مخصوصا بالألف كما قيل بل يكون مع الياء أيضا وهو عوض عن ياء الذي المحذوف إذ قياسه اللذيان والتقاء الساكنين هنا على حده كما في دابة وشابة فَآذُوهُما أي بعد استشهاد أربعة شهود عليهما بالإتيان ، وترك ذكر ذلك تعويلا على ما ذكر آنفا ، واختلف في الإيذاء على قولين :
فعن ابن عباس أنه بالتعيير والضرب بالنعال ، وعن السدي وقتادة ومجاهد أنه بالتعيير والتوبيخ فقط فَإِنْ تابا عما فعلا من الفاحشة بسبب الإيذاء كما ينبئ عنه الفاء وَأَصْلَحا أي العمل فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أي اصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً مبالغا في قبول التوبة رَحِيماً واسع الرحمة ، والجملة في معرض التعليل للأمر بالإعراض ، والخطاب هنا للحكام ، وجوز أن يكون للشهود الواقفين على فعلتهما ، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى القضاة والجر إلى الولاة وفتح باب الشر عليهما ، وبالإعراض عنهما ترك التعرض لهما بذلك ، والوجه الأول هو المشهور ، والحكم عليه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور أيضا عند الحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن جبير وغيرهم.
وإلى ذلك ذهب البلخي والجبائي والطبري ، وقال الفراء إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها ، وهذا مما لا يتمشى على القول بأن المراد بالموصول البكران كما لا يخفى ، وذهب أبو مسلم إلى أنه لا نسخ لحكم الآيتين بل الآية الأولى في السحاقات وهن النساء اللاتي يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس ، والآية الثانية في اللائطين وحدهما الإيذاء ، وأما حكم الزناة فسيأتي في سورة النور ، وزيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد ، وبأن الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم اختلفوا في حكم اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك ، وأيضا جعل الحبس في البيت عقوبة السحاق مما لا معنى له لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا ، فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهم ببعض لا الحبس والمنع من الخروج ، فحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد - باللاتي يأتين الفاحشة - الزانيات ، وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد - وهو من أكابر المفسرين المتقدمين - وقد قال غير واحد : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك على أنه تبين في الأصول أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز ، وبأن مطلوب الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك ، وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات ، ومطلق الإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكمية فلذا اختلفوا ، وبأن المراد من إمساكهن في البيوت حبسهن فيها واتخاذها سجنا عليهن ومن حال المسجون منع من يريد الدخول عليه وعدم تمكينه من الاختلاط ، فكان الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض على أن الحبس المذكور حد ، وليس المقصود منه إلا الزجر والتنكيل ،

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 446
وأيد مذهبه بتمحيض التأنيث في الآية الأولى والتذكير في الآية الثانية ، والتغليب خلاف الأصل ، ويبعده أيضا لفظ مِنْكُمْ فإن المتبادر منه من رجالكم كما في قوله تعالى : أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وأيضا لو كان كل واحد من الآيتين واردا في الزنا يلزم أن يذكر الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وأنه تكرير لا وجه له ، وأيضا على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيتين بل يكون حكم كل واحدة منهما مقررا على حاله ، وعلى ما قاله الغير يحتاج إلى التزام القول بالنسخ وهو خلاف الأصل ، وأيضا على ما قالوه يكون الكتاب خاليا عن بيان حكم السحاق واللواطة ، وعلى ما قلناه يكون متضمنا لذلك وهو الأنسب بحاله ، فقد قال سبحانه : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام :
38] ، تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل : 89] ، وأجيب بأنا لا نسلم أن هذا قول لمجاهد ، ففي مجمع البيان أنه حمل الَّذانِ يَأْتِيانِها على الرجلين الزانيين ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنهما الفاعلان وهو ليس بنص على أنهما اللائطان على أن حمل اللَّاتِي في الآية الأولى على السحاقات لم نجد فيه عنه رواية صحيحة بل قد أخرجوا عنه ما هو ظاهر في خلافه ، فقد أخرج آدم والبيهقي في سننه عنه في تلك الآية أنه كان أمر أن يحبس ثم نسختها الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور : 2] وما ذكر من العلاوة مسلم لكن يبعد هذا التأويل أنه لا معنى للتثنية في الآية الثانية لأن الوعد والوعيد إنما عهدا بلفظ الجمع ليعم الآحاد أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس ولا نكتة للعدول عن ذلك هنا على تقرير أبي مسلم بل كان المناسب عليه الجمع لتكون آية اللواطة كآية السحاق ، ولا يرد هذا على ما قرره الجمهور لأن الآية الأولى عندهم للإناث الثيبات إذا زنين ، والآية الثانية للذكر البكر والأنثى البكر إذا زنيا فغوير بين التعبيرين لقوة المغايرة بين الموردين ، ويحتمل أيضا أن تكون المغايرة على رأيهم للإيذان بعزة وقوع زنا البكر بالنسبة إلى وقوع زنا الثيب لأن البكر من النساء تخشى الفضيحة أكثر من غيرها من جهة ظهور أثر الزنا ، وهو زوال البكارة فيها ولا كذلك الثيب ، ولا يمكن اعتبار مثل هذه النكتة في المغايرة على رأي أبي مسلم إذ لا نسلم أن وقوع اللواطة من الرجال أقل من وقوع السحاق من النساء بل لعل الأمر بالعكس ، وكون مطلوب الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك والإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكمية - ليس بشي ء - كما يرشد إلى ذلك أن منهم من لم يوجب عليه شيئا ، وقال : تؤخر عقوبته إلى الآخرة ، وبه أخذ الأئمة رضي اللّه تعالى عنهم على أنه أي مانع من أن يعتبر الإيذاء حدا بعد أن ذكر في
معرض الحدّ وتفوض كيفيته إلى رأي الإمام فيفعل مع اللوطي ما ينزجر به مما لم يصل إلى حد القتل وكون الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض في غاية الخفاء كما لا يخفى.
نعم ما في حيز العلاوة مما لا بأس به ، وما ذكر من أن التغليب خلاف الأصل مسلم لكنه في القرآن العظيم أكثر من أن يحصى ، واعتباره في مِنْكُمْ تبع لاعتباره في الَّذانِ وذكر مثله قبل بلا تغليب فيه ربما يؤيد اعتبار التغليب فيه ليغاير الأول فيكون لذكره بعده أتم فائدة ألا ترى كيف أسقط من الآية الثانية الاستشهاد مع اشتراطه إجماعا اكتفاء بما ذكر في الآية الأولى لاتحاد الاستشهادين في المسألتين ، ودعوى لزوم التكرار في الموضع الواحد على رأي الجمهور ليست في محلها على ما أشرنا إليه في تفسير الآية ، ودعوى الاحتياج إلى التزام القول بالنسخ لا تضر لأن النسخ أمر مألوف في كثير من الأحكام ، وقد نص عليه هنا جماعة من الصحابة والتابعين على أن في كون فرضية الحد نسخا في الآية الأولى مقالا يعلم مما قدمناه في البقرة ، وإذا جعل «أو يجعل» إلخ معتبرا في الآية الثانية إلا أنه حذف منها اكتفاء بما في الأولى كما يشير إلى ذلك خبر عبادة بن الصامت. جرى المقال في الآيتين ولزوم خلو الكتاب عن بيان حكم السحاق واللواطة على رأي الجمهور دون رأيه في حيز المنع أما على تقدير تسمية السحاق

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 447
واللواطة زنا فظاهر ، وأما على تقدير عدم التسمية فلأن ذكر ما يمكن قياسهما عليه في حكم البيان لحكمهما ، وكم حكم ترك التصريح به في الكتاب اعتمادا على القياس - كحكم النبيذ ، وكحكم الجد وغيرهما - اعتمادا على بيان ما يمكن القياس عليه وذلك لا ينافي كونه تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل : 89] وأنه ما فرط فيه من شيء ، ومن ادعى أن جميع الأحكام الدينية مذكورة في القرآن صريحا من غير اعتبار قياس ، فقد ارتكب شططا وقال غلطا ، وبالجملة المعول عليه ما ذهب إليه الجمهور ، ويد اللّه تعالى مع الجماعة ، ومذهب أبي مسلم وإن لم يكن من الفساد بمحل إلا أنه لم يعوّل عليه ولم تحط رحال القبول لديه ، وهذا ما عندي في تحقيق المقام وباللّه سبحانه الاعتصام.
ولما وصف سبحانه نفسه بالتواب الرحيم عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة بقوله جل شأنه : إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي إن قبول التوبة ، وعَلَى وإن استعملت للوجوب حتى استدل بذلك الواجبة عليه ، فالمراد أنه لازم متحقق الثبوت البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات كما يقال : واجب الوجود ، وقيل : عَلَى بمعنى من ، وقيل : هي بمعنى عند ، وعليه الطبرسي أي إنما التوبة عند اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أي المعصية صغيرة كانت أو كبيرة ، والتوبة مبتدأ ، ولِلَّذِينَ خبره ، وعَلَى اللَّهِ متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المبتدأ المستكن في متعلق الجار الواقع خبرا على رأي من يجوز تقديم الحال على عاملها المعنوي عند كونها ظرفا ، وجعله بعضهم على حد هذا بسرا أطيب من رطبا ، وجوز أن يكون عَلَى اللَّهِ متعلقا بمحذوف وقع صفة للتوبة أي إِنَّمَا التَّوْبَةُ الكائنة عَلَى اللَّهِ ولِلَّذِينَ هو الخبر ، وهو ظاهر على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته ، وذكر أبو البقاء احتمال أن يكون عَلَى اللَّهِ الخبر ، ولِلَّذِينَ متعلقا بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في متعلق الخبر ، ويحتمل أن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر ، ولا يخفى أن سوق الآية يؤيد جعل لِلَّذِينَ خبرا كما لا يخفى على من لم يتعسف بِجَهالَةٍ حال من فاعل يَعْمَلُونَ أي يَعْمَلُونَ السُّوءَ متلبسين بها ، أو متعلق يَعْمَلُونَ والباء للسببية ، والمراد من الجهالة الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل لا عدم العلم خلافا للجبائي فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة ، والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب كقوله :
ألا (لا يجهلن) أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن هنا قال مجاهد فيما أخرجه عنه البيهقي في الشعب ، وغيره : كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته ، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمدا كان أو غيره ، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقال أبو عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه : كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل فيه حين خاطر بنفسه في معصية ربه ، فقد حكى اللّه تعالى قول يوسف عليه السلام لإخوته : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [يوسف : 89] فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه تعالى ،
وقال الفراء : معنى قوله سبحانه : بِجَهالَةٍ أنهم لا يعلمون كنه ما في المعصية من العقوبة.
وقال الزجاج : معنى ذلك اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبئ عنه ما سيأتي من قوله تعالى : حَتَّى إِذا حَضَرَ إلخ
يروى أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها : «من تاب قبل موته بسنة تاب اللّه تعالى عليه» ثم قال : «وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب اللّه تعالى عليه» ثم قال : «وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 448
عليه» ثم قال : «وإن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب اللّه تعالى عليه» ثم قال «وإن الساعة لكثيرة من تاب قبل موته وقد بلغت نفسه هذه - وأهوى بيده الشريفة إلى حلقه - تاب اللّه تعالى عليه».
وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثمّ أبو قلابة فحدث أبو قلابة قال : إن اللّه تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم الدين فقال وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح قال : وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح ،
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال - القريب - ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت ، وروي مثله عن الضحاك ، وعن عكرمة الدنيا كلها قريب وعن الإمام القشيري - القريب - على لسان أهل العلم قبل الموت ، وعلى لسان أهل المعاملة قبل أن تعتاد النفس السوء ويصير لها كالطبيعة ، ولعل مرادهم أنه إذا كان كذلك يبعد عن القبول ، وإن لم يمتنع قبول توبته ، ومِنْ تبعيضية كأنه جعل ما بين وجود المعصية وحضور الموت زمانا قريبا ، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان تاب فهو تائب في بعض أجزاء زمان قريب ، وجعلها بعضهم لابتداء الغاية ، ورجح الأول بأن مِنْ إذا كانت لابتداء الغاية لا تدخل على الزمان على القول المشهور ، والذي لابتدائيته مذ ومنذ ، وفي الإتيان بثم إيذان بسعة عفوه تعالى فَأُولئِكَ أي المتصفون بما ذكر وما فيه من معنى البعد باعتبار كونهم بانقضاء ذكرهم في حكم البعيد ، وجوز أن يكون ذلك إيذانا ببعد مرتبتهم ورفعة شأنهم من حيث إنهم تائبون ، والخطاب للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب ، والفاء للدلالة على السببية ، واسم الإشارة مبتدأ خبره قوله تعالى : يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم ، وهذا وعد بالوفاء بما وعد به سبحانه أولا فلا تكرار ، وضمن يَتُوبُ معنى يعطف فلذا عدي بعلى.
وجوز أن يكون ذلك من المذهب الكلامي كأنه قيل : التوبة كالواجب على اللّه تعالى ، وكل ما هو كالواجب عليه تعالى كائن لا محالة فالتوبة أمر كائن لا محالة فالآية الأولى واقعة موقع الصغرى والكبرى مطوية ، والآية الثانية واقعة موقع النتيجة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً فيعلم بإخلاص من يتوب حَكِيماً فلا يعاقب التائب ، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها ، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بعلة الحكم وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ على اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي المعاصي وجمعت باعتبار تكرر وقوعها في الزمان المديد لا لأن المراد بها جميع أنواعها وبما مر من السُّوءَ نوع منها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ بأن شاهد الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال وعاين ملك الموت وانقطع حبل الرجاء قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أي هذا الوقت الحاضر ، وذكر لمزيد تعيين الوقت ، وإيثار قالَ على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبار والتحاشي عن تسميته توبة ، ولو أكده ورغب فيه ، ولعل ذلك كون تلك الحالة أشبه شيء بالآخرة بل هي أول منزل من منازلها ، والدنيا دار عمل ولا جزاء ، والآخرة دار جزاء ولا عمل ، وحَتَّى حرف ابتداء ، والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها أي لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لقوم يعملون السيئات إلى حضور موتهم ، وقولهم : كيت وكيت وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف على الموصول قبله أي ليس قبول التوبة لهؤلاء ولا لهؤلاء ، والمراد من ذكر هؤلاء مع أنه لا توبة لهم رأسا المبالغة في عدم قبول توبة المسوفين والإيذان بأن وجودها كالعدم بل في تكرير حرف النفي في المعطوف كما قيل : إشعار خفي يكون حال المسوّفين في عدم استتباع الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر.
والكثير من أهل العلم على أن المراد ب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ما يشمل الفسقة والكفرة ، ومن الَّذِينَ يَمُوتُونَ إلخ الكفار فقط ، وجوز أن يراد بالموصولين الكفار خاصة ، وأن يراد بهما الفسقة وحدهم ، وتسميتهم في الجملة الحالية كفارا للتغليظ ، وأن يراد بهما ما يعم الفريقين

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 449
جميعا فالتسمية حينئذ للتغليب ، وأخرج ابن جرير عن الربيع ، وابن المنذر عن أبي العالية أن الآية الأولى نزلت في المؤمنين والثانية في المنافقين ، والثالثة في المشركين ، وفي جعل الوسطى في المنافقين مزيد ذم لهم حيث جعل عمل السيئات من غيرهم في جنب عملهم بمنزلة العدم ، فكأنهم عملوها دون غيرهم ، وعلى هذا لا يخفى لطف التعبير بالجمع في أعمالهم ، وبالمفرد في المؤمنين لكن ضعف هذا القول بأن المراد بالمنافقين إن كان المصرين على النفاق فلا توبة لهم يحتاج إلى نفيها ، وإلا فهم وغيرهم سواء ، هذا واستدل بالآية على أن توبة اليائس كإيمانه غير مقبول ، وفي المسألة خلاف فقد قيل : إن توبة اليائس مقبولة دون إيمانه لأن الرجاء باق ويصح معه الندم ، والعزم على الترك ، وأيضا التوبة تجديد عهد مع الرب سبحانه ، والإيمان إنشاء عهد لم يكن وفرق بين الأمرين ، وفي البزازية أن الصحيح أنها تقبل بخلاف إيمان اليائس ، وإذا قبلت الشفاعة في القيامة وهي حالة يائس فهذا أولى ، وصرح القاضي عبد الصمد الحنفي في تفسيره أن مذهب الصوفية أن الإيمان أيضا ينتفع به عند معاينة العذاب ويؤيده أن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره صرح في فتوحاته بصحة الإيمان عند الاضطرار ، وعن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما لو غرغر المشرك بالإسلام لرجوت له خيرا كثيرا.
وأيد بعضهم القول بقبول توبة الكافر عند المعاينة بما
أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إن اللّه يقبل توبة عبده - أو يغفر لعبده - ما لم يقع الحجاب قيل : وما وقوع الحجاب؟ قال : تخرج النفس وهي مشركة»
ولا يخفى أن الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل القول الأول ، وأجاب بعض المحققين عنها بأن مفادها أن قبول توبة المسوّف والمصر غير متحقق ، ونفي التحقيق غير تحقق النفي فيبقى الأمر بالنسبة إليهما بين بين ، وأنه تعالى إن شاء عفا عنهما وإن شاء لم يعف وآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء : 48 ، 116] تبين أنه سبحانه لا يشاء المغفرة للكافر المصر ويبقى التائب عند الموت من أي ذنب كان تحت المشيئة ، وزعم بعضهم أنه ليس في الآية الوسطى توبة حقيقية لتقبل بل غاية ما فيها قول ، إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وهو إشارة إلى عدم وجود توبة صادقة ، ولذا لم يقل وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ تاب - وعلى تسليم أن التعبير بالقول لنكتة غير ذلك يلتزم القول بأن التقييد بالآن مشعر بعدم استيفاء التوبة للشروط لأن فيه رمزا إلى عدم العزم على عدم العود إلى ما كان عليه من الذنب فيما يأتي من الأزمنة إن أمكن البقاء ، ومن شروط التوبة الصحيحة ذلك فتدبر.
أُولئِكَ أي المذكورون من الفريقين المترامي حالهم إلى الغاية القصوى في الفظاعة أَعْتَدْنا لَهُمْ أي هيأنا لهم ، وقيل : أعددنا فأبدلت الدال تاء عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما موجعا ، وتقديم الجار على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بكون العذاب مهيأ لهم ، والتنكير للتفخيم ، وتكرير الإسناد لما مر ، واستدل المعتزلة بالآية على وجوب العقاب لمن مات من مرتكبي الكبائر من المؤمنين قبل التوبة ، وأجيب بأن تهيئة العذاب هو خلق النار التي يعذب بها ، وليس في الآية أن اللّه تعالى يدخلهم فيها البتة ، وكونه تعالى يدخل من مات كافرا فيها معلوم من غير هذه الآية ، ويحتمل أيضا أن يكون المراد أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إن لم نعف كما تدل على ذلك النصوص ، ويروى عن الربيع أن الآية منسوخة بقوله تعالى : وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء : 48 ، 116].
واعترض بأن أَعْتَدْنا خبر ولا نسخ في الأخبار ، وقيل : إن «أولئك» إشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فلا إشكال كما لو جعل إشارة إلى الفريقين وأريد بالأول المنافقون ، وبالثاني المشركون.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً لما نهى اللّه سبحانه فيما تقدم عن عادات أهل

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 450
الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن الاستنان بنوع من سننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها ، وفي رواية البخاري وأبي داود كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك ، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه فجاءت النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت ، وروي مثله عن أبي جعفر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد فنهى اللّه تعالى المؤمنين عن ذلك.
وروي عن الزهري أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة له بها وينتظر موتها حتى يرثها - فالنساء - إما مفعول ثان - لترثوا - على أن يكنّ هنّ الموروثات ، كَرْهاً مصدر منصوب على أنه حال من النِّساءَ وقيل :
من ضمير تَرِثُوا والمعنى لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإرث على زعمكم كما حل لكم أخذ الأموال وهنّ كارهات لذلك أو مكرهات عليه ، أو أنتم مكروهون لهن ، وإما مفعول أول له ، والمعنى لا يَحِلُّ لَكُمْ أن تأخذوا من النساء المال بطريق الإرث كَرْهاً والمراد من ذلك أمر الزوج أن يطلق من كره صحبتها ولا يمسكها كرها حتى تموت فيرث منها مالها ، وقرأ حمزة والكسائي كَرْهاً بالضم في مواضعه ، ووافقهما عاصم وابن عامر ويعقوب في الأحقاف ، وقرأ الباقون بالفتح في جميع ذلك وهما بمعنى كالضعف والضعف ، وقيل : الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية ، وقرئ - لا تحل - بالتاء الفوقانية لأن أَنْ تَرِثُوا بمعنى الوراثة كما قرئ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الأنعام : 23] لأنه بمعنى المقالة ، وهذا عكس تذكير المصدر المؤنث لتأويله بأن والفعل ، فكل منهما جار في اللسان الفصيح وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ أصل العضل التضييق والحبس ، ومنه عضلت المرأة بولدها عسر عليها كأعضلت فهي معضل ومعضل ، ويقال : عضل المرأة يعضلها مثلثة عضلا وعضلا وعضلانا بكسرهما ، وعضلها منعها الزوج ظلما ، وعضلت الأرض بأهلها غضت قال أوس :
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة «معضلة» منا بجيش عرمرم
وَلا إما ناهية على ما قيل ، والفعل مجزوم بها ، والجملة مستأنفة - كما قال أبو البقاء - أو معطوفة على الجملة التي قبلها بناء على جواز عطف جملة النهي على جملة خبرية كما نسب إلى سيبويه ، أو بناء على أن الجملة الأولى في معنى النهي إذ معناها لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم ، وإما نافية مزيدة لتأكيد النفي ، والفعل منصوب بالعطف على تَرِثُوا كأنه قيل : لا يحل ميراث النساء كَرْهاً ولا عضلهن ، ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود ، ولا أن تعضلوهن ، - وأما جعل لا نافية غير مزيدة والفعل معطوف على المنصوب قبله - فقد ردّه بعضهم بأنه إذا عطف فعل منفي - بلا - على مثبت وكانا منصوبين فالقاعدة أن الناصب يقدر بعد حرف العطف لا بعد لا ولو قدرته هنا بعد العاطف على ذلك التقدير فسد المعنى كما لا يخفى ، والخطاب في المتعاطفين إما للورثة غير الأزواج فقد كانوا يمنعون المرأة المتوفى عنها زوجها من التزوج لتفتدي بما ورثت من زوجها ، أو تعطيهم صداقا أخذته كما كانوا يرثونهن كرها ، والمراد - بما آتيتموهن - على هذا ما أتاه جنسكم وإلا لم يلتئم الكلام لأن الورثة ما آتوهن شيئا ، وإلا للأزواج فإنهم كما كانوا يفعلون ما تقدم كانوا يمسكون النساء من غير حاجة لهم إليهم فيضاروهن ويضيقوا عليهن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 451
ليذهبوا ببعض ما آتوهن بأن يختلعن بمهورهن ، وإلى هذا ذهب الكثير من المفسرين - وهو المروي عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه - والالتئام عليه ظاهر ، وجوز أن يكون الخطاب الأول للورثة ، وهذا الخطاب للأزواج ، والكلام قد تم بقوله سبحانه : كَرْهاً فلا يرد عليه بعد تسليم القاعدة أنه لا يخاطب في كلام واحد اثنان من غير نداء ، فلا يقال : قم واقعد خطابا لزيد وعمرو ، بل يقال : قم يا زيد ، واقعد يا عمرو ، وقيل : هذا خطاب للأزواج ولكن بعد مفارقتهم منكوحاتهم ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها.
والمراد من قوله سبحانه : لِتَذْهَبُوا إلخ أن يدفعن إليكم بعض ما آتيتموهن وتأخذوه منهن ، وإنما لم يتعرض لفعلهن لكونه لصدوره عن اضطرار منهن بمنزلة العدم ، وعبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ، والاذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب لأنه عبارة عن الذهاب مصطحبا به ، وذكر - البعض - ليعلم منه أن الذهاب بالكل أشنع شنيع إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ على صيغة الفاعل من بين اللازم بمعنى تبين أو المتعدي ، والمفعول محذوف أي مبينة حال صاحبها.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «مبيّنة» على صيغة المفعول ، وعن ابن عباس أنه قرأ «مبيّنة» على صيغة الفاعل من أبان اللازم بمعنى تبين أو المتعدي ، والمراد بالفاحشة هنا النشوز وسوء الخلق - قاله قتادة والضحاك وابن عباس وآخرون - ويؤيده قراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم ، وفي الدر المنثور نسبة هذه القراءة - لكن بدون عليكم - إلى أبيّ وابن مسعود ، وأخرج ابن جرير عن الحسن أن المراد بها الزنا.
وحكي ذلك عن أبي قلابة وابن سيرين ، والاستثناء قيل : منقطع ، وقيل : متصل وهو من ظرف زمان عام أي لا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إيتائهن إلخ ، أو من حال عامة أي في حال من الأحوال إلا في هذه الحال ، أو من علة عامة أي لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإيتائهن ولا يأبى هذا ذكر العلة المخصوصة لجواز أن يكون المراد العموم أي للذهاب وغيره ، وذكر فرد منه لنكتة أو لأن العلة المذكورة غائية والعامة المقدرة باعثة على الفعل متقدمة عليه في الوجود ، وفي الآية إباحة الخلع عند النشوز لقيام العذر بوجود السبب من جهتهن.
وحكي عن الأصم أن إباحة أخذ المال منهن كان قبل الحدود عقوبة لهن.
وروي مثل ذلك عن عطاء ، فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك الحدود ، وذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم أن هذا متعلق بالعضل بمعنى الحبس والإمساك ، ولا تعرض له بأخذ المال ففيه إباحة الحبس لهن إذا أتين بفاحشة - وهي الزنا عند الأول - والسحاق عند الثاني ، فالآية على نحو ما تقدم من قوله تعالى : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَعاشِرُوهُنَّ أي خالقوهن بِالْمَعْرُوفِ وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة ، والمراد هاهنا النصفة في القسم والنفقة ، والإجمال في القول والفعل.
وقيل : المعروف أن لا يضربها ولا يسيء الكلام معها ويكون منبسط الوجه لها ، وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له ، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كنّ ممن لا يخدمن أنفسهن ، والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم ، وجعله بعضهم مرتبطا بما سبق أول السورة من قوله سبحانه : وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وفيه بعد فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ أي كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً كالصحبة والإمساك.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 452
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً كالولد أو الألفة التي تقع بعد الكراهة ، وبذلك قال ابن عباس ومجاهد ، وهذه الجملة علة للجزاء وقد أقيمت مقامه إيذانا بقوة استلزامها إياه فإن - عسى - لكونها لإنشاء الترجي لا تصلح للجوابية وهي تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن الخبر ، والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن ، ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها ، فلعل لكم فيما تكرهونه خَيْراً كَثِيراً فإن النفس ربما تكره ما يحمد وتحب ما هو بخلافه فليكن مطمح النظر ما فيه خير وصلاح ، دون ما تهوى الأنفس ، ونكر شَيْئاً وخَيْراً ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميما للإرشاد ، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه ، وقرئ «ويجعل» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة حال أي - وهو - أي ذلك الشيء يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وقيل : تقديره واللّه يجعل اللّه بوضع المظهر موضع المضمر فالواو حينئذ حالية. وفي دخولها على المضارع ثلاثة مذاهب : الأول منع دخولها عليه إلا بتقدير مبتدأ ، والثاني جوازه مطلقا. والثالث التفصيل بأنه إن تضمن نكتة كدفع إيهام الوصفية حسن وإلا فلا ، ولا يخفى أن تقدير المبتدأ هنا خلاف الظاهر وَإِنْ أَرَدْتُمُ أيها الأزواج اسْتِبْدالَ زَوْجٍ إقامة امرأة ترغبون فيها مَكانَ زَوْجٍ أي امرأة ترغبون عنها بأن تطلقوها وَآتَيْتُمْ أي أعطى أحدكم إِحْداهُنَّ أي إحدى الزوجات ، فإن المراد من الزوج هو الجنس الصادق مع المتعدد المناسب لخطاب الجمع ، والمراد من الإيتاء كما قال الكرخي :
الالتزام والضمان كما في قوله تعالى : إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ [البقرة : 233] أي ما التزمتم وضمنتم ، ومفهوم الشرط غير مراد على ما نص عليه بعض المحققين ، وإنما ذكر لأن تلك الحالة قد يتوهم فيها الأخذ فنبهوا على حكم ذلك ، والجملة حالية بتقدير قد لا معطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها وتجعلوا مكانها غيرها قِنْطاراً أي مالا كثيرا ، وقد تقدمت الأقوال فيه فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ أي من القنطار المؤتى شَيْئاً يسيرا أي فضلا عن الكثير أَتَأْخُذُونَهُ أي الشيء بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً استئناف مسوق لتقرير النهي والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والمصدران منصوبان على الحالية بتأويل الوصف أي أتأخذونه باهتين وآثمين ، ويحتمل أن يكون منصوبين على العلة ولا فرق في هذا الباب بين أن تكون علة غائية وأن تكون علة باعثة - وما نحن فيه من الثاني - نحو قعدت عن الحرب جبنا لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم فقد قيل : كان الرجل منهم إذا أراد جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك ، والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ، وقال الزجاج : الباطل الذي يتحير من بطلانه ، وفسر هنا بالظلم ، وعن مجاهد أنه الإثم فعطف الإثم عليه للتفسير كما في قوله : وألفي قولها كذبا ومينا وقيل : المراد به هنا إنكار التمليك والمبين البين الظاهر وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ إنكار بعد إنكار ، وقد بولغ فيه على ما تقدم في كَيْفَ تَكْفُرُونَ ، وقيل : تعجيب منه سبحانه وتعالى أي إن أخذكم له لعجيب وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كناية عن الجماع على ما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي.
وقيل : المراد به الخلوة الصحيحة وإن لم يجامع واختاره الفراء - وبه قال أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه - وهو أحد قولين للإمامية ، وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - الإفضاء - الحصول معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها ، ورجح القول الأول بأن الكلام كناية بلا شبهة ، والعرب إنما تستعملها فيما يستحى من ذكره كالجماع ، والخلوة لا يستحى من ذكرها فلا تحتاج إلى الكناية ، وأيضا في تعدية الإفضاء بإلى ما يدل على معنى الوصول والاتصال ، وذلك أنسب بالجماع ، ومن ذهب إلى الثاني قال : إنما سميت الخلوة إفضاء لوصول الرجل بها إلى مكان الوطء ولا يسلم أن الخلوة لا يستحى من ذكرها ، والجملة حال من فاعل تَأْخُذُونَهُ مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الاستبعاد أي على أي حال أو في أي تأخذونه ، والحال أنه قد وقع منكم ما وقع وقد أَخَذْنَ مِنْكُمْ

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 453
مِيثاقاً أي عهدا غَلِيظاً أي شديدا قال قتادة : هو ما أخذ اللّه تعالى للنساء على الرجال فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة : 229] ثم قال : وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال : اللّه عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان ، وروي ذلك عن الضحاك ويحيى بن أبي كثير. وكثير ، وعن مجاهد - الميثاق الغليظ - كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن ، واستدل بالآية من منع الخلع مطلقا وقال : إنها ناسخة لآية البقرة ، وقال آخر : إنها منسوخة بها ، وروي ذلك عن أبي زيد. وقال جماعة : لا ناسخة ولا منسوخة ، والحكم فيها هو الأخذ بغير طيب نفس ، واستدل بها - كما قال ابن الفرس - قوم على جواز المغالاة في المهور.
وأخرج أبو يعلى عن مسروق أن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه نهى أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت ما أنزل اللّه تعالى وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر ، فقال : إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ، وطعن الشيعة بهذا الخبر على عمر رضي اللّه تعالى عنه لجهله بهذه المسألة وإلزام امرأة له وقالوا : إن الجهل مناف للإمامة ، وأجيب بأن الآية ليست نصا في جواز إيتاء القنطار فإنها على حدّ قولك : إن جاءك زيد وقد قتل أخاك فاعف عنه ، وهو لا يدل على جواز قتل الأخ. سلمنا أنها تدل على جواز إيتائه إلا أنا لا نسلم جواز إيتائه مهرا بل يحتمل أن يكون المراد بذلك إعطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر بل بطريق الهبة ، والزوج لا يصح له الرجوع عن هبته لزوجته خصوصا إذا أوحشها بالفراق ، وقوله تعالى : وَقَدْ أَفْضى لا يعين كون المؤتى مهرا سلمنا كونه مهرا لكن لا نسلم كون عدم المغالاة أفضل منه.
فقد روى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن من خير النساء أيسرهن صداقا»
وعن عائشة رضي اللّه تعالى عنها عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم «يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها».
وأخرج أحمد والبيهقي مرفوعا أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا ،
فنهي أمير المؤمنين عن التغالي يحتمل أنه كان للتيسير ميلا لما هو الأفضل ورغبة فيما أشار إليه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قولا وفعلا ، وعدوله عن ذلك وعدم رده على القرشية كان من باب الترغيب في تتبع معاني القرآن واستنباط الدقائق منه ، وفي إظهار الكبير العالم المغلوبية للصغير الجاهل تنشيط للصغير وإدخال للسرور عليه وحث له ولأمثاله على الاشتغال بالعلم وتحصيل ما يغلب به ، فقوله رضي اللّه تعالى عنه : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر كان من باب هضم النفس والتواضع وحسن الخلق وقد دعاه إليه ما دعاه ، ومع هذا لم يأمرهم بالمغالاة بل قصارى أمره أنه رفع النهي عنهم وتركهم واختيارهم بين فاضل ومفضول ولا إثم عليهم في ارتكاب أي الأمرين شاؤوا ، سلمنا أن هذه المسألة قد غابت عن أفق ذهنه الشريف لكن لا نسلم أن ذلك جهل يضر بمنصب الإمامة فقد وقع لأمير المؤمنين عليّ كرم اللّه تعالى وجهه مثل ذلك وهو إمام الفريقين ،
فقد أخرج ابن جرير وابن عبد البر عن محمد بن كعب قال : سأل رجل عليّا كرم اللّه تعالى وجهه عن مسألة فقال فيها ، فقال الرجل : ليس هكذا ولكن كذا وكذا ، فقال الأمير : أصبت وأخطأنا وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف : 76] ،
وقد وقع لداود عليه السلام ما قص اللّه تعالى لنا في كتابه من قوله سبحانه : وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء : 87] إلى أن قال عز من قائل : فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ [الأنبياء : 79] فحيث لم ينقص ذلك من منصب النبوة والخلافة المشار إليها بقوله تعالى : يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص : 26] لا ينقص من منصب الإمامة كما لا يخفى ، فمن أنصف جعل هذه الواقعة من فضائل عمر رضي اللّه تعالى عنه لا من مطاعنه ، ولكن لا علاج لداء البغض والعناد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد : 33]. وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 454
آباؤُكُمْ شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم بعد بيان كيفية معاشرة الأزواج ، وهو عند بعض مرتبط بقوله سبحانه : لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كان ذلك ديدنا لهم في الجاهلية.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال : كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه ، أو ينكحها من شاء. فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه حصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا فأتت النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : ارجعي لعل اللّه تعالى ينزل فيك شيئا فنزلت وَلا تَنْكِحُوا الآية ، ونزلت أيضا لا يَحِلُّ لَكُمْ إلخ»
وذكر الواحدي وغيره أنها نزلت في حصن المذكور ، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه ، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب ، وفي منظور بن ريان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة ، واسم الآباء ينتظم الأجداد كيف كانوا باعتبار معنى يعمهما لغة لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وفي النهاية إن دلالة الأب على الجد بأحد طريقين : إما أن يكون المراد بالأب الأصل وإما بالإجماع ، ولا يخفى أن كون الدلالة بالإجماع مما لا معنى له ، نعم لثبوت حرمة من نكحها الجد بالإجماع معنى لا خفاء فيه فتثبت حرمة ما نكحوها نصا وإجماعا ، ويستقل في إثبات هذه الحرمة نفس النكاح أعني العقد إن كان صحيحا ولا يشترط الدخول ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ، فقد أخرج عنه ابن جرير والبيهقي أنه قال : كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي عليك حرام ، وروي ذلك عن الحسن وابن أبي رباح ، وإن كان النكاح فاسدا فلا بدّ في إثبات الحرمة من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمس بشهوة مثلا بل هو المحرم في الحقيقة حتى لو وقع شيء من ذلك بملك اليمين ، وبالوجه المحرم ثبتت به الحرمة عندنا ، وإليه ذهبت الإمامية ، وخالفت الشافعية في المحرم ، وتحقيق ذلك أن الناس اختلفوا في مفهوم النكاح لغة فقيل : هو مشترك لفظي بين الوطء والعقد وهو ظاهر كلام كثير من اللغويين ، وقيل : حقيقة في العقد مجاز في الوطء وعليه الشافعية ، وقيل :
بالعكس وعليه أصحابنا ، ولا ينافيه تصريحهم بأنه حقيقة في الضم «1» لأن الوطء من أفراده والموضوع للأعم حقيقة في كل من أفراده على ما أطلقه الأقدمون ، وقد تحقق استعمال النكاح في كل من هذه المعاني ، ففي الوطء
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ولدت من نكاح لا من سفاح»
أي من وطء حلال لا من وطء حرام ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح» ،
وقول الشاعر :
ومن أيم قد (أنكحتها) رماحنا وأخرى على خال وعم تلهف
وقول الآخر :
«ومنكوحة» غير ممهورة وقول الفرزدق :
إذ سقى اللّه قوما صوب عادية فلا سقى اللّه أرض الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم (و الناكحين) بشطي دجلة البقرا
وفي العقد قول الأعشى :
فلا تقربن جارة إن سرها عليك حرام (فانكحن) أو تأبدا
___________
(1) قال في البحر : وهو مردود فإن الوطء مغاير للضم. وأيده بما في المغرب فارجع إليه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 455
وفي المعنى الأعم قول القائل :
ضممت إلى صدري معطر صدرها كما (نكحت) أم الغلام صبيها
وقول أبي الطيب :
«أنكحت» صم حصاها خف يعملة تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
فمدعي الاشتراك اللفظي يقول تحقق الاستعمال والأصل الحقيقة ، والثاني يقول : كونه مجازا في أحدهما حقيقة في الآخر حيث أمكن أولى من الاشتراك ، ثم يدعي تبادر العقد عند إطلاق لفظ النكاح دون الوطء ويحيل فهم الوطء منه حيث فهم على القرينة ، ففي الحديث الأول هي عطف السفاح بل يصح حمل النكاح فيه على العقد وإن كانت الولادة بالذات من الوطء ، وفي الثاني إضافة المرأة إلى ضمير الرجل فإن امرأته هي المعقود عليها فيلزم إرادة الوطء من النكاح المستثنى وإلا فسد المعنى إذ يصير بحل من المعقود عليها كل شيء إلا العقد ، وفي الأبيات الإضافة إلى البقر ونفي المهور ، والإسناد إلى الرماح إذ يستفاد أن المراد وطء البقر والمسبيات ، والجواب منع تبادر العقد عند الإطلاق لغة بل ذلك في المفهوم الشرعي الفقهي ، ولا نسلم أن فهم الوطء فيما ذكر مسند إلى القرينة وإن كانت موجودة إذ وجود قرينة تؤيد إرادة المعنى الحقيقي مما يثبت مع إرادة الحقيقي فلا يستلزم ذلك كون المعنى مجازيا بل المعتبر مجرد النظر إلى القرينة إن عرف أنه لولاها لم يدل اللفظ على ما عنيته فهو مجاز وإلا فلا ، ونحن في هذه المواد المذكورة نفهم الوطء قبل طلب القرينة ، والنظر في وجه دلالتها فيكون اللفظ حقيقة وإن كان مقرونا بما إذا نظر فيه استدعى إرادة ذلك المعنى ، ألا يرى أن ما ادعوا فيه الشهادة على أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء من بيت الأعشى فيه قرينة تفيد العقد أيضا فإن قوله : فلا تقربن جارة نهي عن الزنا بدليل أن سرها عليك حرام فيلزم أن قوله : فانكحن أمر بالعقد أي فتزوج إن كان الزنا عليك حراما أو تأبد - أي توحش أي كن كالوحش بالنسبة إلى الآدميات فلا يكن منك قربان لهن كما لا يقربهن وحش ، ولم يمنع ذلك أن يكون اللفظ حقيقة في العقد عندهم في البيت إذ هم لا يقولون بأنه مجاز فيه ، وأما ادعاء أنه في الحديث للعقد فيستلزم التجوز في نسبة الولادة إليه لأن العقد إنما
هو سبب السبب ، ففيه دعوى حقيقة بالخروج عن حقيقة وهو ترجيح بلا مرجح لو كانا سواء ، فكيف والأنسب كونه في الوطء ليتحقق التقابل بينه وبين السفاح إذ يصير المعنى عن وطء حلال لا وطء حرام فيكون على خاص من الوطء ، والدال على الخصوصية لفظ السفاح أيضا فثبتت إلى هنا أنا لم نزده على ثبوت مجرد الاستعمال شيئا يجب اعتباره ، وقد علم أيضا ثبوت الاستعمال في الضم فباعتباره حقيقة فيه يكون مشتركا معنويا من أفراده الوطء والعقد إن اعتبرنا الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول ، أو الوطء فقط فيكون مجازا في العقد لأنه إذا دار بين المجاز والاشتراك اللفظي كان المجاز أولى ما لم يثبت صريحا خلافه. ولم يثبت نقل ذلك بل قالوا : نقل المبرد عن البصريين ، وغلام ثعلب عن الكوفيين أنه الجمع والضم ، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض بتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه فوجب كونه مجازا في العقد - كذا في فتح القدير - .
إذا علمت ذلك فنقول : حمل الشافعية النكاح في الآية التي نحن فيها على العقد دون الوطء ، واستدلوا بها على حرمة المعقود عليها وإن لم توطأ ، وذهبوا إلى عدم ثبوت الحرمة بالزنا وحمله بعض أصحابنا على العقد فيها ، واستدلوا بها على حرمة نكاح نساء الآباء والأجداد ، وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا وجعلوا حرمة العقد ثابتة بالإجماع ، ثم قالوا :
ولو حمل على العقد تكون حرمة الوطء ثابتة بطريق الأولى.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 456
واعترض بأنه لا ينبغي أن يقال : ثبت حرمة الموطوءة بالآية ، والمعقود عليها بلا وطء بالإجماع لأنه إذا كان الحكم الحرمة بمجرد العقد - ولفظ الدليل الصالح له - كان مرادا منه بلا شبهة فإن الإجماع تابع للنص إذ القياس عن أحدهما يكون ، ولو كان عن علم ضروري يخلق لهم ثبت بذلك أن ذلك الحكم مراد من كلام الشارع إذا احتمله ، وحمله آخرون على الوطء والعقد معا فقد قال الزيلعي : الآية تتناول منكوحة الأب وطءا وعقدا صحيحا ، ولا يضر الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الكلام نفي ، وفي النفي يجوز الجمع بينهما كما يجوز فيه أن يعم المشترك جميع معانيه ، وقد نقل أيضا سعدي أفندي عن وصايا الهداية جواز الجمع بين معاني المشترك في النفي وحينئذ لا إشكال في كون الآية دليلا على حرمة الموطوءة والمعقود عليها كما لا يخفى.
واعترض ما قاله الزيلعي بأنه ضعيف في الأصول ، والصحيح أنه لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز لا في النفي ولا في الإثبات ، ولا عموم للمشترك مطلقا ، وفي الأكمل ، والحق أن النفي كما اقتضاه الإثبات فإن اقتضى الإثبات الجمع بين المعنيين فالنفي كذلك وإلا فلا ، ومسألة اليمين المذكورة في المبسوط حلف لا يكلم مواليه - وله أعلون وأسفلون فأيهم كلم حنث - ليست باعتبار عموم المشترك في النفي كما توهم البعض ، وإنما هو لأن حقيقة الكلام متروكة بدلالة اليمين إلى مجاز يعمها ، وفي البحر : أن الأولى أن النكاح في الآية للعقد كما هو المجمع عليه ، ويستدل لثبوت حرمة المصاهرة بالوطء الحرام بدليل آخر فليفهم ، وما موصول اسمي واقعة على من يعقل ولا كلام في ذلك على رأي من جوزه مطلقا ، وكذا على رأي من جوزه إذا أريد معنى صفة مقصودة منه ، وقيل : مصدرية على إرادة المفعول من المصدر أي منكوحات آبائكم وليس بالوجيه مِنَ النِّساءِ في موضع الحال من ما أو من العائد عليها ، وعند الطبري متعلقة بنكح ، وذكر غير واحد أنها بيان لما على الوجهين السابقين ، وظاهره أنها بيانية ، ويحتمل أن تكون تبعيضية والبيان معنوي ، ونكتته مع عدم الاحتياج إليه إذا المنكوحات لا يكن إلا نساء التعميم كأنه قيل : أي امرأة كانت ، واحتمال كونه رفع توهم التغليب في آبائكم وجعله أعم من الأمهات حتى يفيد أنه نهي للبنت عن نكاح منكوح أمها لا يخلو عن خفاء إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي مات كما روي ذلك عن أبي بن كعب وهو استثناء متصل على المختار مما نكح للمبالغة في التحريم والتعميم ، والكلام حينئذ من باب تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه كما في قول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم «بهن فلول من قراع الكتائب»
والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من مات منهن. والمقصود سدّ باب الإباحة بالكلية لما فيه من تعليق الشيء بالمحال كقوله تعالى : حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف : 40] والمعلق على المحال محال ، وقيل : إنه استثناء متصل مما يستلزمه النهي وتستلزمه مباشرة المنهي عنه من العقاب كأنه قيل : تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفو عنه ، وبهذا التأويل يندفع الاستشكال بأن النهي للمستقبل ، وما قَدْ سَلَفَ ماض فكيف يستثنى منه ، وجعل بعض محققي النحاة الاستثناء مما دخل في حكم دلالة المفهوم منقطعا فحكم على ما هنا بالانقطاع أي لكن ما سلف لا مؤاخذة عليه فلا تلامون به لأن الإسلام يهدم ما قبله فتثبت به أحكام النسب وغيره ، ولا يعد ذلك زنا ، وقد ذكر البلخي أنه ليس كل نكاح حرمه اللّه تعالى يكون زنا لأن الزنا فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية ، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا ، ولا لأولاد أهل الذمة مثلا إذا كان ذلك عن عقد بينهم يتعارفونه ، وزعم بعضهم على تقدير الانقطاع أن المعنى لكن ما سلف أنتم مقرون عليه ، وحكي أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أقرهم على منكوحات آبائهم مدة ثم أمر بمفارقتهن ،

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 457
وفعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج ، قال البلخي : وهذا خلاف الإجماع ، وما علم من دين الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم فالقول به خطأ والمعول عليه من بين الأقوال الأول لقوله سبحانه : إِنَّهُ أي نكاح ما نكح الآباء كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً فإنه تعليل للنهي وبيان لكون المنهي عنه في غاية القبح كما يدل عليه الاخبار بأنه فاحشة مبغوضا باستحقار جدا حتى كأنه نفس البغض كما يدل عليه الاخبار بأنه مقت ، وإنه لم يزل في حكم اللّه تعالى وعلمه موصوفا بذلك ما رخص فيه لأمة من الأمم كما يقتضيه كانَ على ما ذكره علي بن عيسى وغيره ، وهذا لا يلائم أن يوسط بينهما ما يهون أمره من ترك المؤاخذة على ما سلف منه كما أشار إليه الزمخشري ، وارتضاه جمع من المحققين ، ومن الناس من استظهر كون هذه الجملة خبرا على تقدير الانقطاع وليس بالظاهر ، ومنهم من فسر الفاحشة هنا بالزنا ، وليس بشيء ، وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية نكاح المقت ، ويسمى الولد منه مقتي ، ويقال له أيضا : مقيت أي مبغوض مستحقر ، وكان من هذا النكاح - على ما ذكره الطبرسي - الأشعث بن قيس ومعيط جد الوليد بن عقبة وَساءَ سَبِيلًا أي بئس طريقا طريق ذلك النكاح ، ففي ساء ضمير مبهم يفسره ما بعده ، والمخصوص بالذم محذوف ، وذم الطريق مبالغة في ذم سالكها وكناية عنه ، ويجوز - واختاره الليث - أن تكون ساءَ كسائر الأفعال ففيها ضمير يعود إلى ما عاد اليه ضمير به. وسَبِيلًا تمييز محول عن الفاعل ، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وإما معطوفة على خبر كانَ محكية بقول مضمر هو المعطوف في الحقيقة أي ومقولا في حقه ذلك في سائر الأعصار.
قال الإمام الرازي : مراتب القبح ثلاث : القبح العقلي ، والقبح الشرعي ، والقبح العادي ، وقد وصف اللّه سبحانه هذا النكاح بكل ذلك ، فقوله سبحانه : فاحِشَةً إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي ، وقوله تعالى : وَمَقْتاً إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ، وقوله عز وجل : وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى مرتبة قبحه العادي ، وما اجتمع فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح ، وأنت تعلم أن كون قوله عز شأنه : وَمَقْتاً إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ظاهر على تقدير أن يكون لمراد وَمَقْتاً عند اللّه تعالى ، وأما على تقدير أن يكون المراد وَمَقْتاً عند ذوي المروءات فليس بقاهر ، ومن هنا قيل : إن قوله جل شأنه : فاحِشَةً إشارة إلى القبح الشرعي وَمَقْتاً إشارة إلى العقلي بمعنى المنافرة وَساءَ سَبِيلًا إلى العرفي ، وعندي أن لكل وجها ، ولعل ترتيب الإمام أولى من بعض الحيثيات كما لا يخفي ، ومما يدل على فظاعة أمره ما
أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم والبيهقي عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية قلت : أين تريد؟ قال : بعثني رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.
[سورة النساء (4) : آية 23]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 458
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ ليس المراد تحريم ذاتهن لأن الحرمة وأخواتها إنما تتعلق بأفعال المكلفين ، فالكلام على حذف مضاف بدلالة العقل ، والمراد تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن ولأنه المتبادر إلى الفهم ولأن ما قبله وما بعده في النكاح ، ولو لم يكن المراد هذا كأن تخلل أجنبي بينهما من غير نكتة فلا إجمال في الآية خلافا للكرخي ، والجملة إنشائية وليس المقصود منها الإخبار عن التحريم في الزمان الماضي وقال بعض المحققين : لا مانع من كونها إخبارية والفعل الماضي فيها مثله في التعاريف نحو الاسم ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بأحد الأزمنة ، والفعل ما دل واقترن ، فإنهم صرحوا أن الجملة الماضوية هناك خبرية وإلا لما صح كونها صلة الموصول مع أنه لم يقصد من الفعل فيها الدلالة على الزمان الماضي فقط ، وإلا للزم أن يكون حال المعرف في الزمان الحال والمستقبل ليس ذلك الحال ، وبني الفعل لما لم يسم فاعله لأنه لا يشتبه أن المحرم هو اللّه تعالى ، وأُمَّهاتُكُمْ تعم الجدات كيف كنّ إذ الأم هي الأصل في الأصل - كأم الكتاب ، وأم القرى - فتثبت حرمة الجدات بموضوع اللفظ وحقيقته لأن الأم على هذا من قبيل المشكك ، وذهب بعضهم إلى أن إطلاق الأم على الجدة مجاز ، وأن إثبات حرمة الجدات بالإجماع ، والتحقيق أن الأم مراد به الأصل على كل حال لأنه إن استعمل فيه حقيقة فظاهر ، وإلا فيجب أن يحكم بإرادته مجازا فتدخل الجدات في عموم المجاز والمعرف لإرادة ذلك في النص الإجماع على حرمتهن.
والمراد بالبنات من ولدتها أو ولدت من ولدها وتسمية الثانية بنتا حقيقة باعتبار أن البنت يراد به الفرع - كما قيل به - فيتناولها النص حقيقة أو مجازا عند البعض ، أو عند الكل ، ومن منع إطلاق البنت على الفرع مطلقا قال : إن ثبوت حرمة بنات الأولاد بالإجماع ، وقد يستدل على تحريم الجدات وبنات الأولاد بدلالة النص المحرم للعمات والخالات وبنات الأخ والأخت ، ففي الأول لأن الأشقّاء منهن أولاد الجدات فتحريم الجدات وهن أقرب أولى ، وفي الثاني لأن بنات الأولاد أقرب من بنات الإخوة ، ثم ظاهر النص يدل على أنه يحرم للرجل بنته من الزنا لأنها بنته ، والخطاب إنما هو باللغة العربية ما لم يثبت نقل - كلفظ الصلاة ونحوه - فيصير منقولا شرعيا ، وفي ذلك خلاف الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه فقد قال : إن المخلوقة من ماء الزنا تحل للزاني لأنها أجنبية عنه إذ لا يثبت لها توارث ولا غيره من أحكام النسب ، ولقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «الولد للفراش»
وهو يقتضي حصر النسب في الفراش.
وقال بعض الشافعية : تحرم إن أخبره نبي - كعيسى عليه السلام - وقت نزوله بأنها من مائه ، ورد عليه بأن الشارع قطع نسبها عنه كما تقرر فلا نظر لكونها من ماء سفاحه ، واعترضوا على القائلين بالحرمة بأنهم إما أن يثبتوا كونها بنتا له بناء على الحقيقة لكونها مخلوقة من مائة ، أو بناء على حكم الشرع ، والأول باطل على مذهبهم طردا وعكسا ، أما الأول فلأنه لو اشترى بكرا وافتضها وحبسها إلى أن تلد فهذا الولد مخلوق من مائه بلا شبهة مع أنه لا يثبت نسبه إلا عند الاستلحاق ، وأما الثاني فلأن المشرقي لو تزوج مغربية وحصل هناك ولد منها مع عدم اجتماعها مع زوجها وحيلولة ما بين المشرق والمغرب بينهما فإنه يثبت النسب مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه ، والثاني باطل بإجماع المسلمين على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ولو انتسب إليه وجب على القاضي منعه ، وأجيب باختيار الشق الأول إذ لا خلاف بين أهل اللسان في أن المخلوقة من ماء إنسان بنته سواء كان ذلك الماء ماء حلال أو سفاح والجزئية ثابتة في الصورتين ، والظاهر أنها هي مبدأ حرمة النكاح ، ألا ترى كيف حرم على المرأة ولدها من الزنا إجماعا ، والتفرقة بين المسألتين بأن الولد في المسألة الثانية بعضها ، وانفصل منها إنسانا ، ولا كذلك البنت في المسألة الأولى لأنها انفصلت منه منيا لا تفيد سوى أن البعضية في المسألة الثانية أظهر ، وأما أنها تنفي البعضية في المسألة الأولى فلا

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 459
لأنهم يطلقون البضعة - وهي تقتضي البعضية - على الولد المنفصل منيا من أبيه ، فيقولون : فلان بضعة ، وفلانة بضعة من فلان ، وإنكار وجود الجزئية في المسألتين مكابرة ، وعدم ثبوت التوارث مثلا بين المخلوقة من ماء الزنا وصاحب الماء ليس لعدم الجزئية وكونها ليست بنته حقيقة بل للإجماع على ذلك ، ولولاه لورثت كما يرث ولد الزنا أمه.
وما ذكر في بيان إبطال الطرد من أنه لو اشترى بكرا فافتضها وحبسها فولدت فالولد مخلوق من مائه قطعا مع أنه لا يثبت نسبه إلا بالاستلحاق أخذه من قول الفقهاء في الأمة إذا ولدت عند المولى أنه لا يثبت نسب ولدها منه إلا أن يعترف به ، ولا يكفي أنه وطئها فولدت ، لكن في الهداية ، وغيرها أن هذا حكم ، فأما الديانة بينه وبين اللّه تعالى - فالمروي عن أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه - أنه إن كان حين وطئها لم يعزل عنها وحصنها عن مظان ريبة الزنا يلزمه من قبل اللّه تعالى عنه - أنه إن كان حين وطئها لم يعزل عنها وحصنها عن مظان ريبة الزنا يلزمه من قبل اللّه تعالى أن يدعيه بالإجماع لأن الظاهر - والحال هذه - كونه منه ، والعمل بالظاهر واجب ، وإن كان عزل عنها حصنها أو لا أو لم يعزل ولكن لم يحصنها فتركها تدخل وتخرج بلا رقيب مأمون جاز له أن ينفيه لأن هذا الظاهر - وهو كونه منه بسبب أن الظاهر عدم زنا المسلمة - يعارضه ظاهر آخر وهو كونه من غيره لوجود أحد الدليلين على ذلك ، وهما العزل ، أو عدم التحصين ، وفيه روايتان أخريان عن أبي يوسف ومحمد ذكرهما في المبسوط فقال : وعن أبي يوسف إذا وطئها ولم يستبرئها بعد ذلك حتى جاءت بولد فعليه أن يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل حصنها أو لم يحصنها تحسينا للظن بها وحملا لأمرها على الصلاح ما لم يتبين خلافه ، وهذا كمذهب الجمهور لأن ما ظهر بسببه يكون حالا به عليه حتى يتبين خلافه ، وعن محمد لا ينبغي أن يدعي ولدها إذا لم يعلم أنه منه ولكن ينبغي أن يعتق الولد ، وفي الإيضاح ذكرهما بلفظ الاستحباب ، فقال : قال أبو يوسف : أحب أن يدعيه ، وقال محمد : أحب أن يعتق الولد ، وقال في الفتح بعد كلام.
وعلى هذا ينبغي أن لو اعترف فقال : كنت أطأ لقصد الولد عند مجيئها بالولد أن يثبت نسب ما أتت به وإن لم يقل هو ولدي لأن ثبوته بقوله : هو ولدي بناء على أن وطأه حينئذ لقصد الولد ، وعلى هذا قال بعض فضلاء الدرس : ينبغي أنه لو أقر أنه كان لا يعزل عنها وحصنها أن يثبت نسبه من غير توقف دعواه ، وإن كنا نوجب عليه في هذه الحالة الاعتراف به فلا حاجة إلى أن نوجب عليه الاعتراف ليعترف فيثبت نسبه بل يثبت نسبه ابتداء ، وأظن أن لا بعد في أن يحكم على المذهب بذلك انتهى ، وفي المبسوط أنه إذا تطاول الزمان ألحق به لأن التطاول دليل إقراره لأنه يوجد منه حينئذ ما يدل على الإقرار من قبول التهنئة ونحوه فيكون كالتصريح بإقراره.
ومن مجموع ما ذكر يعلم ما في كلام المعترض ، وأن للخصم عدم تسليمه لكن ذكر في البحر متعقبا : ظن بعد الفضلاء أنه لا يصح أن يحكم على المذهب به لتصريح أهله بخلافه ، ونقل نص البدائع في ذلك. ثم قال فإن أراد الثبوت عند القاضي ظاهرا فقد صرحوا أنه لا بد من الدعوة مطلقا ، وإن أراد فيما بينه وبين اللّه تعالى فقد صرح في الهداية وغيرها بأن ما ذكرناه من اشتراط الدعوة إنما هو في القضاء إلى آخر ما ذكرناه لكن في المجتبى لا يصح إعتاق المجنون وتدبيره ويصح استيلاده ، فهذا إن صح يستثنى من الحكم وهو مشكل انتهى ، وعلى هذا يقال في المسألة التي ذكرها المعترض : المولود ولد للمولى في نفس الأمر لأنه مخلوق من مائه وولد الزنا كذلك وزيادة حيث انضم إلى ذلك الإقرار ، واللّه سبحانه جعل مناط الحرمة البنوة وهي متحققة في مسألتنا فكيف يحل النكاح في نفس الأمر ، وعدم ثبوت التوارث ونحوه كما قلنا كان إجماعا ، وعدم الاستلحاق قضاء إلا بالدعوى أمر آخر وراء تحقق البنوة في نفس الأمر فكم متحقق في نفس الأمر لا يقضى به وكم مقضي به غير متحقق في نفس الأمر - كما في خبر الفرس

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 460
التي اشتراها رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من الأعرابي وشهد له خزيمة لما أنكر الأعرابي البيع - وقد حقق الكلام في بحث الاستيلاء في فتح القدير وغيره من مبسوطات كتب القوم ، وما ذكر في إبطال العكس من مسألة تزوج المشرقي بمغربية فلا نسلم القطع فيها بأن الولد ليس مخلوق من مائه لثبوت كرامات الأولياء والاستخدامات فيتصور أن يكون الزوج صاحب خطوة أو جنى ، وأنه ذهب إلى المغرب فجامعها ، ولولا قيام هذا الاحتمال مع قيام النكاح لم يلحق الولد به ، ألا ترى كيف قال الأصحاب : لو جاءت امرأة الصبي بولد لم يثبت نسبه منه لعدم تصور ذلك هناك والتصور شرط ، وقيام الفراش وحده غير كاف على الصحيح ، ولعل اعتبار هذه البنوة قضاء وإلا فحيث لم يكن الولد مخلوقا من مائه لا يقال له ولد الزوج في نفس الأمر وإنما اعتبروا ذلك مع ضعف الاحتمال سترا للحرائر وصيانة للولد عن الضياع ، وقريب من هذا ما ذهب إليه الشافعي ومالك وأحمد رحمهم اللّه تعالى في باب الاستيلاد أن الجارية إذا ولدت يثبت نسب الولد من المولى إذا أقر بوطئها مع العزل كما يثبت مع عدم العزل بل لو وطئها في دبرها يلزمه الولد عند مالك ، ومثله عن أحمد ، وهو وجه مضعف للشافعية ، وقيل : إن بين هذه المسألة ومسألة تزويج المشرقي بمغربية بعدا كبعد ما بين المشرق والمغرب لأن الوطء هنا متحقق في الجملة من غير حاجة إلى قطع براري وقفار ولا كذلك هناك واللّه تعالى أعلم. والبنات جمع بنت في المشهور وصحح أن لامها واو كأخت وإنما رد المحذوف في أخوات ولم يرد في بنات حملا لكل واحد من الجمعين على مذكره ، فمذكر بنات لم يرد إليه المحذوف بل قالوا فيه بنون ، ومذكر أخوات رد فيه محذوفه فقالوا في جمع أخ : إخوة وأخوات ، وقد نظم الدنوشري السؤال فقال :
أيها الفاضل اللبيب تفضل بجواب به يكون رشادي
لفظ أخت ولفظ بنت إذا ما جمعا جمع صحة لا فساد
فلأخت ترد لام وأما لفظ بنت فلا فأوضح مرادي
مع تعويضهم من اللام تاء فيهما لا برحت أهل اعتمادي
وقد أجاب هو رحمه اللّه تعالى عن ذلك بقوله :
لفظ أخت له انضمام بصدر ناسب الواو فاكتسى بالمعاد
وقال أبو البقاء : التاء فيها ليست للتأنيث لأن تاء التأنيث لا يسكن ما قبلها ، وتقلب هاء في الوقف فبنات ليس بجمع بنت بل إ ، وكسرت الباء تنبيها على المحذوف قاله الفراء ، وقال غيره : أصلها الفتح وعلى ذلك جاء جمعها ، ومذكرها وهو بنون ، وإلى ذلك ذهب البصريون ، وأما أخت فالتاء فيها بدل من الواو لأنها من الأخوة ، والأخوات ينتظمن الأخوات من الجهات الثلاث وكذا الباقيات لأن الاسم يشمل الكل ويدخل في العمات والخالات أولاد الأجداد والجدات وإن علوا ، وكذا عمة جده وخالته وعمة جدته وخالاتها لأب وأم أو لأب أو لأم وذلك كله بالإجماع ، وفي الخانية وعمة العمة لأب وأم أو لأب كذلك ، وأما عمة العمة لأم فلا تحرم ، وفي المحيط : وأما عمة العمة فإن كانت العمة القربى عمة لأب وأم أو لأب فعمة العمة حرام لأن القربى إذا كانت أخت أبيه لأب وأم أو لأب فإن عمتها تكون أخت جدة أب الأب وأخت أب الأب حرام لأنها عمته وإن كانت القربى عمة لأم فعمة العمة لا تحرم عليه لأن أب العمة يكون زوج أم أبيه فعمتها تكون أخت زوج الجدة أو الأب ، وأخت زوج الأم لا تحرم ، فأخت زوج الجدة أولى أن لا تحرم ، وأما خالة الخالة فإن كانت الخالة القربى خالة لأب وأم أو لأم فخالتها تحرم عليه ، وإن كانت القربى خالة لأب فخالتها لا تحرم عليه لأن أم الخالة القربى تكون امرأة الجد أب الأم لا أم أمه فأختها تكون أخت

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 461
امرأة الأب وأخت امرأة الجد لا تحرم عليه انتهى ، ولا يخفى أنه كما يحرم على الرجل أن يتزوج بمن ذكر يحرم على المرأة التزوج بنظير من ذكر.
والظاهر أن هذا التحريم الذي دلت عليه الآية لم يثبت في جميع المذكورات في سائر الأديان ، نعم ذكروا أن حرمة الأمهات ، والبنات كانت ثابتة حتى في زمان آدم عليه السلام ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان ، وقيل : إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله ، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا ، وعدم إيذاء الصفر المذاب له لأدوية كان يلطخ بها جسده ، وقد شاهدنا من يحمل النار بيده بعد لطخها بأدوية مخصوصة ولا تؤذيه - وحينئذ لا يصلح أن يكون معجزة.
وأما نكاح الأخوات فقد قيل : إنه كان مباحا في زمان آدم عليه السلام للضرورة وكانت حواء عليها السلام تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فيأخذ ذكر البطن الثانية أنثى البطن الأولى ، وبعض المسلمين ينكر ذلك ويقول : إنه بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم عليه السلام ، ويرد عليه أن هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك باطل الإجماع وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ عطف على سابقه والرضاعة بفتح الراء مصدر رضع كسمع وضرب ، ومثله الرضاعة بالكسر ، والرضع بسكون الضاء وفتحها ، والرضاع كالسحاب ، والرضع كالكتف ، وحكوا رضع ككرم ورضاعا كقتال ، وقد تبدل ضاده تاء ، ورضاعا كسؤال لكن المضموم كالمراضعة تقتضي الشركة ، ويقال : أرضعت المرأة فهي مرضع إذا كان لها ولد ترضعه فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت : مرضعة ، ومعناها لغة مص الثدي ، وشرعا مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص ، وأرادوا بذلك وصول اللبن من ثدي المرأة إلى جوف الصغير من فمه أو أنفه في المدة الآتية سواء وجد مص أو لم يوجد ، وإنما ذكروا المص لأنه سبب للوصول فأطلقوا السبب وأرادوا المسبب ، وقد صرح في الخانية أنه لا فرق بين المص والسعوط ونحوه ، وقيدوا بالآدمية ليخرج الرجل والبهيمة ، وتفرد الإمام البخاري - وهو سبب فتنته في قول - فذهب فيما إذا ارتضع صبي وصبية من ثدي شاة إلى وقوع الحرمة بينهما وأطلقت لتشمل البكر والثيب الحية والميتة ، وقيدنا بالفم والأنف ليخرج ما إذا وصل بالإقطار في الأذن.
والإحليل والجائفة والآمة وبالحقنة في ظاهر الرواية ، وخرج بالوصول ما لو أدخلت المرأة حلمة ثديها في فم رضيع ولا تدري أدخل اللبن في حلقه أم لا لا يحرم النكاح لأن في المانع شكا ، وقد نزل اللّه سبحانه الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما للرضيع ، والمراضعة أختا ، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته ، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه ، وأم المرضعة جدته ، وأختها خالته ، وكل ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه ، ومن هنا
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة ، وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهم : «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب».
وذهب كثير من المحققين كمولانا شيخ الإسلام ، وغيره إلى أن الحديث جار على عمومه وأما أم أخيه لأب وأخت ابنه لأم وأم أم ابنه وأم عمه وأم خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى تخل بعمومه ضرورة حلهن في صورة الرضاع بل من جهة المصاهرة ، ألا يرى أن الأولى موطوءة أبيه ، والثانية بنت موطوءته والثالثة أم موطوءته.
والرابعة موطوءة جده الصحيح ، والخامسة موطوءة جده الفاسد ، ووقع في عبارة بعضهم استثناء صور بعد سوق الحديث ، وأنهى في البحر المسائل المستثنيات إلى إحدى وثمانين مسألة ، وأطال الكلام في هذا المقام ، وأتى بالعجب العجاب ، وظاهر الآية أنه لا فرق بين قليل الرضاع وهو ما يعلم وصوله إلى الجوف وكثيره في التحريم ، وأما

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 462
خبر مسلم «لا تحرم المصة والمصتان»
وما دل على التقدير فمنسوخ «1» صرح بنسخه ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما حين قيل له : إن الناس يقولون : إن الرضعة لا تحرم فقال : كان ذلك ثم نسخ.
وعن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيرة يحرم ، وروي عن ابن عمر أن القليل يحرم ، وعنه أنه قيل له : إن الزبير يقول : لا بأس الرضعة والرضعتين فقال : قضاء اللّه تعالى خير من قضاء ابن الزبير ، وتلا الآية ، وقال الشافعي عليه الرحمة على ما نقله أصحابنا «2» عنه لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات مشبعات في خمسة أوقات متفاصلة عرفا ، وعن أحمد روايتان كقولنا وكقوله ، واستدل على ذلك بما
أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث الزبير أنه قال : قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : لا تحرم المصة والمصتان ولا الإملاجة والإملاجتان ،
ووجه الاستدلال بذلك بأن المصة داخلة في المصتين ، والإملاجة في الإملاجتين ، فحاصله لا تحرم المصتان ولا الإملاجتان فنفى التحريم على أربع فلزم أن يثبت بخمس.
واعترضه ابن الهمام بأنه ليس بشيء ، أما أولا فلأن مذهب الشافعي ليس التحريم بخمس مصات بل بخمس شبعات في أوقات ، وأما ثانيا فلأن المصة فعل الرضيع والإملاجة الإرضاعية فعل المرضعة ، فحاصل المعنى أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم نفى كون الفعلين محرمين منه ومنها ثم حقق أن ما في هذه الرواية لا ينبغي أن يكون حديثا واحدا بأن الاملاج ليس حقيقة المحرم بل لازمه من الارتضاع فنفي تحريم الاملاج نفي تحريم لازمه فليس الحاصل من لا تحرم الاملاجتان إلا لا يحرم لازمهما أعني المصتين فلو جمعا في حديث كان الحاصل لا تحرم المصتان ولا المصتان فلزم أن لا يصح أن يراد إلا المصتان لا الأربع ، وعلى هذا يجب كون الراوي وهو الزبير رضي اللّه تعالى عنه - أراد أن يجمع بين ألفاظه صلى اللّه تعالى عليه وسلم التي سمعها منه في وقتين كأنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لا تحرم المصة والمصتان» وقال أيضا : «لا تحرم الإملاجة والإملاجتان».
وقيل : في وجه الاستدلال طريق آخر ، وهو أن الحديث ناف لما ذهب إليه الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه فيثبت به مذهب الإمام الشافعي رحمه اللّه تعالى لعدم القائل بالفصل ، واعترض بأن القائل بالفصل أبو ثور وابن المنذر وداود وأبو عبيد ، وهؤلاء أئمة الحديث قالوا : المحرم ثلاث رضعات ، والقول بعدم اعتبار قولهم في حيز المنع لقوة وجهه بالنسبة إلى وجه قول الشافعي.
واستدل بعض أصحابه على هذا المطلب بما رواه مسلم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي النبي صلى اللّه عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن ، وفي رواية أنه كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم تشاغلنا بموته فدخلت دواجن فأكلتها ، وبما
روي عن عائشة أيضا قالت : جاءت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «أرضعي سالما خمسا تحرمي بها عليه»
والجواب أن جميع ذلك منسوخ كما صرح بذلك ابن عباس فيما مر.
ويدل على نسخ ما في خبر عائشة الأول أنه لو لم يكن منسوخا لزم ضياع بعض القرآن الذي لم ينسخ واللّه تعالى قد تكفل بحفظه ، وما في الرواية لا ينافي النسخ لجواز أن يقال : إنها رضي اللّه تعالى عنها أرادت أنه كان مكتوبا
___________
(1)
كحديث «يا نبي اللّه هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال : لا»
ا ه منه.
(2) وإنما قيدنا بذلك لأن قيد «مشبعات» خلاف ما يدل عليه كتب مذهبه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 463
ولم يغسل بعد للقرب حتى دخلت الدواجن فأكلته ، والقول بأن ما ذكر إنما يلزم منه نسخ التلاوة فيجوز أن تكون التلاوة منسوخة مع بقاء الحكم - كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما - ليس بشيء لأن ادعاء بقاء حكم الدال بعد نسخه يحتاج إلى دليل وإلا فالأصل أن نسخ الدال يرفع حكمه ، وما نظر به لولا ما علم بالسنة. والإجماع لم يثبت به ، ثم الذي نجزم به في حديث سهلة أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم يرد أن يشبع سالما خمس رضعات في خمسة أوقات متفاصلات جائعا لأن الرجل لا يشبعه من اللبن رطل ولا رطلان فأين تجد الآدمية في ثديها قدر ما يشبعه هذا محال عادة ، فالظاهر أن معدود خمس فيه إن صح أنها من الخبر المصات ، ثم كيف جاز أن يباشر عورتها بشفتيه فلعل المراد أن تحلب له شيئا مقدار خمس رضعات فيشربه - كما قال القاضي - وإلا فهو مشكل ، وقد يقال : هو منسوخ من وجه آخر لأنه يدل على أن الرضاع في الكبر يوجب التحريم لأن سالما كان إذ ذاك رجلا وهذا مما لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة فإن مدة الرضاع التي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا عند الإمام الأعظم ، وسنتان عند صاحبيه ومستندهما قوي جدا ، وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة ، وعن مالك : سنتان وشهر ، وفي رواية أخرى شهران ، وفي أخرى سنتان وأيام ، وفي أخرى ما دام محتاجا إلى اللبن غير مستغن عنه ، وقال زفر : ثلاث سنين ، نعم قال بعضهم : خمس عشرة سنة ، وقال آخرون : أربعون سنة ، وقال داود : الإرضاع في الكبر محرم أيضا ، ولا حدّ للمدة - وهو مروي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها - وكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم أو بعض بنات أختها أن ترضعه ، وروى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا ، وعمدة من رأى رأيها في هذا الباب خبر سهلة مع أن الآثار الصحيحة على خلافه ،
فقد صح مرفوعا وموقوفا «لارضاع إلا ما كان في حولين»
وفي الموطأ وسنن أبي داود عن يحيى بن سعيد «أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري فقال : إني مصصت من امرأتي ثديها لبنا فذهب في بطني فقال أبو موسى : لا أراها إلا قد حرمت عليك فقال ابن مسعود : انظر ما تفتي به الرجل فقال أبو موسى : فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود : لا رضاع إلا في حولين ، فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم ، وفيه عن ابن عمر جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه فقال :
كانت لي وليدة فكنت أصيبها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت : دونك قد واللّه أرضعتها قال عمر :
أرجعها وأت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغر ، وروى الترمذي - وقال حديث صحيح - من حديث أم سلمة أنه قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لا يحرم من الرضاع إلا فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام»
وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم» «1»
حتى أن عائشة نفسها رضي اللّه تعالى عنها روت ما يخالف عملها ،
ففي الصحيحين عنها أنها قالت : «دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وعندي رجل فقال : يا عائشة من هذا؟ فقلت : أخي من الرضاعة فقال : يا عائشة انظرن من إخوانكم إنما الرضاعة من المجاعة»
واعتبر مرويها دون رأيها لظهور غفلتها فيه وعدم وقوع اجتهادها على المحز ، ولهذا قيل : يشبه أنها رجعت كما رجع أبو موسى لما تحقق عندها النسخ وحمل كثير من العلماء حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم ، وجعلوا أيضا العفو عن مباشرة العورة من الخواص.
هذا ومن غرائب ما وقفت عليه مما يتعلق بهذه الآية عبارة من مقامة للعلامة السيوطي رحمه اللّه تعالى سماها - الدوران الفلكي على ابن الكركي - وفيها يخاطب الفاضل المذكور بما نصه : ماذا صنعت بالسؤال المهم الذي دار
___________
(1) بالزاي والراء ا ه منه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 464
في البلد ولم يجب عنه أحد ، وفي الفرق بين قوله تعالى : وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وبين ما لو قيل : واللاتي أرضعنكم أمهاتكم حيث رتب على الأول خمس رضعات واردة ، ولو قيل : الثاني لا كتفي برضعة واحدة ، ولقد ورد عليّ وسيق إلي فلم أكتب عليه مع أن جوابه نصب عيني ، وعتيد لدي لا يحول شيء بينه وبيني لأنظر هل من رجل رشيد أو أحد له في العلم قصر مشيد هلا أبدعت فيه جوابا مسددا ، ونوعت فيه طرائق قددا ، واتخذت بذلك على دعوى العلم ساعدا وعضدا ، وها له نحو عامين ما حلاه أحد بحرف ، ولا رمقه ناظر بطرف ولا أودعه ذو ظرف بظرف ، ولو شئت أنا لكتبت عليه عدة مؤلفات ولسطرت فيه خمس مصنفات ، بسيط حريز ووسيط غريز ، ومختصر وجيز ، ومنظومة ذات تطريز ، ومقامة إنشاء كأنها ذهب إبريز انتهى كلامه.
(وأقول) لعل الفرق أنه سبحانه لما ذكر أُمَّهاتُكُمْ في هذه الآية معطوفا على ما تقدم في الآية السابقة وفيها تحريم الأمهات بقي الذهن مشرئبا إلى بيان الفارق بين هذه الأمهات وتلك الأمهات فأتى سبحانه بقوله : اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ بيانا لذلك دافعا لتوهم التكرار فكان قيد الإرضاع الواقع صلة معتنى به أتم اعتناء ، ومما يترتب على هذا الاعتناء اعتباره أينما لوحظ ، وقد لوحظ في الآية خمس مرات الأولى حين أتى به فعلا ، والثانية حين أسند إلى الفاعل أعني ضمير النسوة ، والثالثة حين تعلق بالمفعول أعني ضمير المخاطبين ، والرابعة حين جعل جزء الجملة الواقعة صلة الموصول ، والخامسة حين جعل اللَّاتِي صفة أُمَّهاتُكُمْ لأن وصفيته لها باعتبار الصلة بلا شبهة فهذه خمس ملاحظات للإرضاع في هذا التركيب تشير إلى أن ما به تحصل الأمومة خمس رضعات ، وهذا أحد الأسرار لاختيار هذا التركيب مع إمكان تراكيب غيره لعل بعضها أخصر منه ، وكثيرا ما وقع في القرآن تراكيب وتعبيرات يشار بها إلى أمور واقعية بينها وبين ما في تلك التعبيرات مناسبة مثل ما وقع في قوله تعالى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة : 228] من الاحتباك المشير إلى ما بين الزوجين من الائتلاف ، وما وقع في قوله تعالى : أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ [البقرة : 282] من الإدغام في يُمِلَّ المشير إلى حال الفاعل وهو الأخرس المعقود اللسان في كثير من الأقوال ، وما وقع في قوله تعالى : كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء : 33] من عدم الاستحالة بالانعكاس المشير إلى كرية الأفلاك في رأي إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.
وليس هذا من باب الاستدلال بل من باب الإشارة المقوية له ألا ترى أنه لم يستدل أحد ممن ذهب إلى اشتراط الخمس بهذه الآية ولكن استدلوا عليه بورود الخمس في الأخبار ، وإلى ذلك تشير عبارة الجلال السيوطي رحمه اللّه تعالى ، وهذه الإشارة مفقودة في القول المفروض أعني واللاتي أرضعنكم أمهاتكم ، لأن العطف فيه لا يوهم التكرار لعدم تقدم نظيره فلا يشرأب الذهن إلى ما يذكر بعد كما اشرأب فيما ذكر قبل ، فلا داعي لاعتباره أينما لوحظ كما كان كذلك هناك بل يكفي اعتباره مرة واحدة وهي أدنى ما تتحقق به الماهية لا سيما وقد ذكر بعد أُمَّهاتُكُمْ على أنه بدل والبدل كما قالوا : هو المقصود بالنسبة على نية تكرار العامل المفيد لتقرير معنى الكلام وتوكيده ، وهذا التوكيد أيضا مشعر بوحدة الإرضاع لأن التحريم بالرضعة الواحدة مما يكاد يستبعد فيحتاج إلى توكيده بخلاف الرضعات العديدة ، وقد رأيت في بعض نسخ شرح صحيح مسلم للإمام النووي بعد ذكر استدلال الإمام مالك رضي اللّه تعالى عنه على دعوى ثبوت الحرمة برضعة واحدة بقوله تعالى : وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ حيث لم يذكر عددا ما نصه : واعترض أصحاب الشافعي على المالكية فقالوا : إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم أمهاتكم انتهى ، ولم يصرح رحمه اللّه تعالى بأن الآية التي استدل بها المالكية مشعرة بالخمس بل اقتصر على أن الدلالة على الواحدة لا تحصل بها وأراد أن ما أشرنا إليه من الإشعار القوي إلى التعدد يأبى حمل الماهية على

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 465
أقل ما تتحقق فيه ، وفي بعض نسخ ذلك الشرح - واعترض أصحاب الشافعي على المالكية - فقالوا : إنما كانت تحصل لكم الدلالة لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم وأمهاتكم بواو بين أَرْضَعْنَكُمْ وبين أُمَّهاتُكُمْ والظاهر أنها غلط من الناسخ ، والتزام توجيهها تعسف رأينا تركه ربحا.
هذا ما ظهر لنظري القاصر وفكري الفاتر ، ولقد سألت بالرفق عن هذا الفرق جمعا من علماء عصري ، وراجعت لشرح ذلك المتن جميع الفضلاء الذين تضمنتهم حواشي مصري فلم أر من نطق ببنت شفة ولا من ادعى في حل ذلك الإشكال معرفة مع أن منهم من خضعت له الأعناق ، وطبقت فضائله الآفاق ، وما رأيت من المروءة أن أمهلهم حتى ينقر في الناقور أو أنتظر بنات أفكارهم إلى أن يلد البغل العاقور الباقور ، فكتبت ما ترى ولست على يقين أنه الأولى والأحرى فتأمل ، فلمسلك الذهن اتساع والحق أحق بالاتباع وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب.
والمراد بالنساء المنكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولا بهن أولا وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحا أما إذا كان فاسدا فلا تحرم الأم إلا إذا وطئ بنتها ،
أخرج البيهقي في سننه ، وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة»
وإلى ذلك ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، وعن ابن عباس روايتان ، فقد أخرج ابن المنذر عنه أنه قال : «النساء مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها».
وأخرج هو أيضا عن مسلم بن عويمر أنه قال : نكحت امرأة فلم أدخل بها حتى توفي عمي عن أمها فسألت ابن عباس فقال : انكح أمها ، وعن زيد بن ثابت أيضا روايتان ، فقد أخرج مالك عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ففارقها قبل أن يمسها هل تحل له أمها؟ فقال : لا الأم مبهمة ليس فيها شرط إنما الشرط في الربائب.
وأخرج ابن جرير وجماعة عنه أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها ، وحكي عن ابن مسعود كان يفتي بحل أم الامرأة إذا لم يكن دخل ببنتها ثم رجع عن ذلك ، فقد أخرج مالك عنه أنه استفتي بالكوفة عن نكاح الأم بعد البنت إذا لم تكن البنت مست فأرخص في ذلك ، ثم أنه قدم المدينة فسئل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال ، وإن الشرط في الربائب فرجع إلى الكوفة فلم يصل إلى بيته حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارقها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه سئل في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها أو تموت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها؟ فقال : هي بمنزلة الربيبة ،
وإلى ذلك ذهب ابن الزبير ومجاهد ، ويدخل في لفظ الأمهات الجدات من قبل الأب والأم وإن علون وإن كانت امرأة الرجل أمة فلا تحرم أمها إلا بالوطء أو دواعيه لأن لفظ النساء إذا أضيف إلى الأزواج كان المراد منه الحرائر كما في الظهار والإيلاء ، وقرئ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن» وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ الربائب جمع ربيبة ورب وربي بمعنى ، والربيب فعيل بمعنى مفعول ، ولما ألحق بالأسماء الجامدة جاز لحوق التاء له وإلا ففعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وهذا معنى قولهم : إن التاء للنقل إلى الاسمية ، والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه غالبا كما يرب ولده ، والحجور جمع حجر بالفتح والكسر ، وهو في اللغة حضن الإنسان أعني ما دون إبطه إلى الكشح ، وقالوا : فلان في حجر فلان أي في كنفه ومنعته ، وهو المراد في الآية ، ووصف الربائب بكونهن في الحجور مخرج مخرج الغالب والعادة إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج ، وفائدته تقوية علة الحرمة كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء ، وقيل : ذكر ذلك

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 466
للتشنيع عليهم نحو أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران : 130] في قوله تعالى : لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ولولا ما ذكر لثبتت الإباحة عند انتفائه بدلالة اللفظ في غير محل النطق عند من يعتبر مفهوم المخالفة وبالرجوع إلى الأصل وهو الإباحة عند من لا يعتبر المفهوم لأن الخروج عنه إلى التحريم مقيد بقيد فإذا انتفى القيد رجع إلى الأصل لا بدلالة اللفظ ، وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه يقول بحل الربيبة إذا لم تكن في الحجر
فقد أخرج عبد الرزاق.
وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس قال : «كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني عليّ بن أبي طالب كرم اللّه تعالى وجهه فقال : ما لك؟ فقلت : توفيت المرأة فقال : لها بنت؟ قلت : نعم وهي بالطائف قال : كانت في حجرك؟ قلت : لا قال : أنكحها قلت : فأين قوله تعالى : وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؟ قال : إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك»
وإلى هذا ذهب داود ، والأول مذهب الجمهور ، وإليه رجع ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه ، ويدخل في الحرمة بنات الربيبة والربيب وإن سفلن لأن الاسم يشملهن بخلاف الأبناء والآباء لأنه اسم خاص بهن فلذا جاز التزوج بأم زوجة الابن وبنتها ، وجاز للابن التزوج بأم زوجة الأب وبنتها.
وقال بعض المحققين : إن ثبوت حرمة المذكورات بالإجماع مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من رَبائِبُكُمُ أو من ضميرها المستكن في الظرف أي اللاتي استقررن في حجوركم كائنات من نسائكم إلخ ، واللَّاتِي صفة للنساء المذكور قبله ، وهي للتقييد إذ ربيبة الزوجة الغير المدخول بها ليست بحرام ولا يجوز كون الجار حالا من أمهات أيضا ، أو مما أضيفت هي إليه ضرورة أن الحالية من ربائبكم أو من ضميره يقتضي كون مِنَ ابتدائية وحاليته من أمهات ، أو مِنْ نِسائِكُمُ يستدعي كونها بيانية ، وادعاء كونها اتصالية كما في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»
وقوله :
إذا حاولت في أسد فجورا فلست «1» منك ولست مني
وهو معنى ينتظم الابتداء والبيان فيتناول اتصال الأمهات بالنساء لأنهن والدات ، وبالربائب لأنهن مولودات ، أو جعل الموصول صفة للنساءين مع اختلاف عامليهما لأن النساء المضاف إليه أمهات مخفوض بالإضافة ، والمجرور بمن بها بعيد جدا بل ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه ، وأما القراءة فضعيفة الرواية ، وعلى تقدير الصحة محمولة على النسخ كما قاله شيخ الإسلام ، والباء من بهن للتعدية ، وفيها معنى المصاحبة أو بمعنى مع أي دخلتم معهن الستر ، وهو كناية عن الجماع - كبنى عليها ، وضرب عليها الحجاب - وكثير من الناس يقول : بنى بها ، ووهمهم الحريري - وهو وهم - واللمس ونظائره في حكم الجماع عند الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه ، قال بعض الفضلاء : واعترض بأن ما ذهب إليه لا مجال له لأن صريح الآية غير مراد قطعا بل ما اشتهر من معناها الكنائي فما قاله إن أثبت بالقياس فهو مخالف لصريح معنى الشرط ، وإذا جاء نهر اللّه تعالى بطل نهر معقل ، وإن أثبت بالحديث وهو غير مشهور لم يوافق أصوله ، ويدفع بأنه من صريح النص لأن باء الإلصاق صريحة فيه لأنه يقال : دخل بها إذا أمسكها وأدخلها البيت (فإن قلت) هب أن الكناية لا يشترط فيها القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة لكن تلزم إرادته كما حقق في المعاني فلا دلالة للآية عليه (أجيب) بأنه وإن لم يلزم إرادته لكن لا مانع منه عند قيام قرينة على إرادته ، وكفى بالآثار قرينة ، ومنها ما
روي من طريق ابن وهب عن أبي أيوب عن ابن جريج «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال في الذي يتزوج المرأة فيغمز لا يزيد على ذلك : لا يتزوج ابنتها»
وهو مرسل ومنقطع إلا أن هذا لا يقدح عندنا إذا كانت الرجال ثقات فلذا
___________
(1) قوله : «فلست» إلخ كذا بخط المؤلف وهو غير متزن ، ولعله «فإني لست» أو نحو ذلك فليحرر.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 467
أدرجوه في مدلول النظم ، وروي عن ابن عمر أنه قال : «إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وبنتها».
(فإن قلت) هب أنه يدخل اللمس في صريحه فكيف يدخل نظيره فيه؟ (أجيب) بأنه داخل بدلالة النص ، وما ذكر من مخالفة صريح الشرط مبني على اعتبار مفهوم الشرط ، ونحن لا نقول به مع أنه غير عام ، وبتقدير عمومه لا يبعد القول بالتخصيص فتدبر ، والزنا في الفرج محرم عندنا فمن زنى بامرأة حرمت عليه بنتها خلافا للشافعي حيث ذهب إلى أن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة فلا تنال بمحظور ، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يحرم الحرام الحلال»
ولنا أن الوطء سبب للولد يتعلق به التحريم قياسا على الوطء الحلال ، ووصف الحل لا دخل له في المناط فإن وطء الأمة المشتركة وجارية الابن والمكاتبة والمظاهر منها وأمته المجوسية والحائض والنفساء ووطء المحرم والصائم كله حرام ، وتثبت به الحرمة المذكورة ، ويدل ذلك على أن المعتبر في الأصل هو ذات الوطء من غير نظر لكونه حلالا أو حراما.
وروي «أن رجلا قال : يا رسول اللّه إني زنيت بامرأة في الجاهلية أفأنكح ابنتها فقال صلّى اللّه عليه وسلم : لا أرى ذلك ولا يصلح أن تنكح امرأة تطلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها» ،
وهذا وإن كان فيه إرسال وانقطاع لكن جئنا به في مقابلة خبرهم وقد طعن فيه المحدثون ، وذكره عبد الحق عن ابن عمر ثم قال : في إسناده إسحاق بن أبي فروة وهو متروك على أنه غير مجري على ظاهره ، أرأيت لو بال أو صب خمرا في ماء قليل ألم يكن حراما مع أنه يحرم استعماله فيجب كون المراد منه أن الحرام لا يحرم باعتبار كونه حراما وحينئذ نقول بموجبه إذ لم نقل بإثبات الزنا حرمة المصاهرة باعتبار كونه زنا بل باعتبار كونه وطءا ، وأجاب صاحب الهداية عن قولهم في تعليل كون الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة بأنها نعمة فلا تنال بمحظور بأن الوطء يحرم من حيث إنه سبب للولد لا من حيث ذاته ولا من حيث أنه زنا ، وفي فتح القدير أن هذا القول مغلطة فإن النعمة ليست التحريم من حيث هو تحريم لأنه تضييق ولذا اتسع الحل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نعمة من اللّه سبحانه وتعالى بل من حيث هو يترتب على المصاهرة فحقيقة النعمة هي المصاهرة لأنها التي تصير الأجنبي قريبا عضدا وساعدا يهمه ما أهمك ولا مصاهرة بالزنا ، فالصهر زوج البنت مثلا لا من زنا ببنت الإنسان فانتفت الصهرية وفائدتها أيضا إذ الإنسان ينفر من الزاني ببنته فلا يتعرف به بل يعاديه فأنى ينتفع به ، والمنقولات متكافئة فالمرجع القياس ، وقد بينا فيه إلغاء وصف زائد على كونه وصفا ، وتمام الكلام في المبسوطات من كتب أئمتنا فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أي فيما قبل دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أي بأولئك النساء أمهات الربائب فَلا جُناحَ أي فلا إثم عَلَيْكُمْ أصلا في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن ، أو متن ، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبله ، وفيه دفع توهم أن قيد الدخول كقيد الكون في الحجور ، والفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها على طرز ما مر ، وفي الاقتصار في بيان نفي الحرمة على نفي الدخول إشارة إلى أن المعتبر في الحرمة إنما هو الدخول دون كون الربائب في الحجور ، وإلا لقيل : فإن لم تكونوا
دخلتم بهن ولسن في حجوركم أو فإن لم تكونوا دخلتم بهن أو لسن في حجوركم جريا على العادة في إضافة نفي الحكم إلى نفي تمام العلة المركبة أو أحد جزأيها الدائر ، وإن صح إضافته إلى نفي جزئها المعين لكنه خلاف المستمر من الاستعمال وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ أي زوجاتهم جمع حليلة سميت الزوجة بذلك لأنها تحل مع زوجها في فراش واحد ، أو لأنها تحل معه حيث كان فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، وكذا يقال للزوج حليل ، وقيل : اشتقاقهما من الحل لحل كل منهما إزار صاحبه ، وقيل : من الحل إذ كل منهما حلال لصاحبه ففعيل بمعنى مفعول ، والتاء في حليلة لإجرائها مجرى الجوامد ولو جعل فعيل في جانب الزوج بمعنى فاعل ، وفي جانب الزوجة بمعنى مفعول كان

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 468
فيه نوع لطافة لا تخفى ، والآية ظاهرة في تحريم الزوجة فقط ، وأما حرمة من وطئها الابن ممن ليس بزوجة فبدليل آخر ، وقال ابن الهمام : إن عتبروا الحليلة من حلول الفراش ، أو حل الإزار تناول الموطوءة بملك اليمين أو شبهة أو زنا فيحرم الكل على الآباء وهو الحكم الثابت عندنا ، ولا يتناول المعقود عليهما للابن أو بنيه ، وإن سفلوا قبل الوطء والفرض أنها بمجرد العقد تحرم على الآباء وذلك باعتباره من الحل بالكسر ، وقد قام الدليل على حرمة المزني بها للابن على الأب فيجب اعتباره في أعم من الحل والحل ، ثم يراد بالأبناء الفروع فتحرم حليلة الابن السافل على الجد الأعلى وكذا ابن البنت وإن سفل ، والظاهر من كلام اللغويين أن الحليلة الزوجة كما أشرنا إليه ، واختار بعضهم إرادة المعنى الأعم الشامل لملك اليمين ليكون السر في التعبير بها هنا دون الأزواج أو النساء أن الرجل ربما يظن أن مملوكة ابنه مملوكة له بناء على أن الولد وماله لأبيه فلا يبالي بوطئها وإن وطئها الابن فنبهوا على تحريمها بعنوان صادق عليها وعلى الزوجة صدق العام على أفراده للإشارة إلى أنه لا فرق بينهما فتدبر ، وحكم الممسوسات ونحوهن حكم اللاتي وطئهن الأبناء الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ صفة للأبناء ، وذكر لاسقاط حليلة المتبنى ، وعن عطاء أنها نزلت حين تزوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة رضي اللّه تعالى عنه فقال المشركون في ذلك ، وليس المقصود من ذلك إسقاط حليلة الابن من الرضاع فإژنها حرام أيضا كحليلة الابن من
النسب.
وذكر بعضهم فيه خلافا للشافعي رضي اللّه تعالى عنه والمشهور عنه الوفاق في ذلك وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في حيز الرفع عطف على ما قبله من المحرمات ، والمراد جمعهما في النكاح لا في ملك اليمين ، ولا فرق بين كونهما أختين من النسب أو الرضاعة حتى قالوا : لو كان له زوجتان رضيعتان أرضعتهما أجنبية فسد نكاحهما.
وحكي عن الشافعي أنه يفسد نكاح الثانية فقط ولا يحرم الجمع بين الأختين في ملك اليمين ، نعم جمعهما في الوطء بملك اليمين ملحق به بطريق الدلالة لاتحادهما في المدار فيحرم عند الجمهور ، وعليه ابن مسعود وابن عمر وعمار بن ياسر رضي اللّه تعالى عنهم.
واختلفت الرواية عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ، فأخرج البيهقي وابن أبي شيبة عنه أنه سئل عن رجل له أمتان أختان وطئ إحداهما ثم أراد أن يطأ الأخرى قال : لا حتى يخرجها من ملكه ، وأخرجا من طريق أبي صالح عنه أنه قال : في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهى ولا أحلل ولا أحرم ولا أفعله أنا ولا أهل بيتي ، وروى عبد بن حميد عن ابن عباس أن الجمع مما لا بأس به ، وحكي مثله عن عثمان رضي اللّه تعالى عنه ، وعن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : ما أحب أن أجيز الجمع ونهى السائل عنه ، وزعم بعضهم أن الظاهر أن القائل بالحل من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم رجع إلى قول الجمهور ، وإن قلنا بعدم الرجوع فالإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق ، وإنما يتم إذا لم يعتد بخلاف أهل الظاهر وبتقدير عدمه فالمرجح التحريم عند المعارضة ، وإذا تزوج أخت أمته الموطوءة صح النكاح وحرم وطء واحدة منهما حتى يحرم الموطوءة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع - كالبيع كلّا أو بعضا - والتزوج الصحيح والهبة مع التسليم والإعتاق كلّا أو بعضا والكتابة - ولو تزوج الأخت نكاحا فاسدا لم تحرم عليه أمته الموطوءة إلا إذا دخل بالمنكوحة فحينئذ تحرم الموطوءة لوجود الجمع بينهما حقيقة ، ولا يؤثر الإحرام والحيض والنفاس والصوم وكذا الرهن والإجارة والتدبير لأن فرجها لا يحرم بهذه الأسباب ، وإذا عادت الموطوءة إلى ملكه بعد الإخراج سواء كان بفسخ أو شراء جديد لم يحل وطء واحدة منهما حتى يحرم الأمة على نفسه بسبب كما كان أولا ، وظاهر قولهم : لا يحل الوطء حتى
يحرم أن النكاح صحيح ، وقد نصوا على ذلك وعللوه بصدوره عن أهله مضافا إلى محله ، وأورد عليه أن المنكوحة موطوءة حكما باعترافهم

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 469
فيصير بالنكاح جامعا وطءا حكما وهو باطل ، ومن هنا ذهب بعض المالكية إلى عدم الصحة ، وأجيب بأن لزوم الجمع بينهما وطءا حكما ليس بلازم لأن بيده إزالته فلا يضر بالصحة ويمنع من الوطء بعدها لقيامه إذ ذاك وإسناد الحرمة إلى الجمع لا إلى الثانية بأن يقال : وأخوات نسائكم للاحتراز عن إفادة الحرمة المؤبدة كما في المحرمات السابقة ، ولكونه بمعزل عن إفادة حرمة الجمع على سبيل المعية ، ويشترك في هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ونظائر ذلك فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه خلافا لما في المبسوط إلى قطع ما أمر اللّه تعالى بوصله كما يدل عليه ما
أخرجه الطبراني من قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»
وما
رواه أبو داود في مراسيله عن عيسى بن طلحة قال : «نهى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة»
وذلك متحقق في الجمع بين من ذكرنا بل أولى فإن العمة والخالة بمنزلة الأم
فقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم مبالغا في بيان التحريم : «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أختها ولا على ابنة أخيها»
من قبيل بيان التفسير لا بيان التعبير عند بعض المحققين.
وقال آخرون : إن الحديث مشهور فقد ثبت في صحيحي مسلم وابن حبان ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي ، وتلقاه الصدر الأول بالقبول من الصحابة ، والتابعين ، ورواه الجم الغفير منهم أبو هريرة وجابر وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو سعيد الخدري ، فيجوز تخصيص عموم قوله تعالى : وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ بل لو كان من أخبار الآحاد جاز التخصيص به غير متوقف على كونه مشهورا ، وقال ابن الهمام : الظاهر أنه لا بد من ادعاء الشهرة لأن الحديث موقعه النسخ لا التخصيص ، وبينه في فتح القدير فارجع إليه إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع. وقصد المبالغة والتأكيد هنا غير مناسب للتذييل بقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لأن الغفران والرحمة لا يناسب تأكيد التحريم. والمراد مما سلف ما مضى قبل النهي فإنهم كانوا يجمعون به الأختين.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه عن فيرز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «طلق أيتهما شئت» ،
وقال عطاء والسدي : معناه إلا ما كان من يعقوب عليه السلام إذ جمع بين الأختين ، ليا أم يهودا وراحيل أم يوسف عليه السلام ، ولا يساعده التذييل لما أن فعله يعقوب عليه السلام إن صح كان حلالا في شريعته.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم اللّه تعالى إلا امرأة الأب. والجمع بين الأختين ، وروي مثله عن محمد بن الحسن وأنه قال : ألا يرى أنه قد عقب النهي عن كل منهما بقوله سبحانه : إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وهذا - كما قال شيخ الإسلام - يشير إلى كون الاستثناء فيهما على سنن واحد ويأباه اختلاف ما بعدهما.
تم الجزء الرابع من تفسير روح المعاني ويتلوه الجزء الخامس أوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 470

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 471
فهرس المجلد الثاني من روح المعاني
تتمة تفسير سورة البقرة الآيات : 253 - 260 3 الآيات : 261 - 276 31 الآيات : 277 - 286 50 تفسير سورة آل عمران الآيات : 1 - 13 72 الآيات : 14 - 26 95 الآيات : 27 - 37 111 الآيات : 38 - 47 138 الآيات : 48 - 54 159 الآيات : 55 - 82 184 الآيات : 83 - 92 204 الآيات : 93 - 97 219 الآيات : 98 - 115 230 الآيات : 116 - 137 250 الآيات : 138 - 153 279 الآيات : 154 - 164 305 الآيات : 165 - 177 326 الآيات : 178 - 188 345

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 472
الآيات : 189 - 200 365 تفسير سورة النساء الآيات : 1 - 4 390 الآيات : 5 - 11 411 الآيات : 12 - 22 438 الآية : 23 457

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 3
[الجزء الثالث ]
[تتمة سورة النساء]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة النساء (4) : الآيات 24 إلى 36]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 4
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عطف على ما قبله من المحرمات.
والمراد بهن على المشهور ذوات الأزواج ، أحصنهن التزوج أو الأزواج الأولياء أي منعهن عن الوقوع في الإثم ، وأجمع القراء كما قال أبو عبيدة : على فتح الصاد هنا ورواية الفتح عن الكسائي لا تصح ، والمشهور رواية ذلك عن طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب ، وعليه يكون اسم فاعل لأنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن ، أو أحصن أزواجهن ، وقيل : الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا ، فقد قال ابن الأعرابي : كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف أحصن ، وألفج إذا ذهب ماله ، وأسهب إذا كثر كلامه.
وحكي عن الأزهري مثله ، وقال ثعلب : كل امرأة عفيفة محصنة ومحصنة. وكل امرأة متزوجة محصنة بالفتح لا غير ، ويقال : حصنت المرأة بالضم حصنا أي عفت فهي حاصن وحصنان بالفتح وحصناء أيضا بينة الحصانة ، وفرس حصان بالكسر بيّن التحصين والتحصن ، ويقال : إنه سمي حصانا ، لأنه ضن بمائه فلم ينز إلا على كريمة ، ثم كثر ذلك حتى سموا كل ذكر من الخيل حصانا ، والإحصان في المرأة ورد في اللغة ، واستعمل في القرآن بأربعة معان :
الإسلام. والحرية ، والتزوج ، والعفة ، وزاد الرافعي العقل لمنعه من الفواحش. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات أي حرمت عليكم المحصنات كائنات من النساء ، وفائدته تأكيد عمومها ، وقيل : دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للأنفس وهي شاملة للذكور والإناث - وليس بشي ء - كما لا يخفى ، وفي المراد بالآية غموض حتى قال مجاهد : لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل أخرجه عنه ابن جرير ، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي السوداء قال : سألت عكرمة عن هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ إلخ فقال : لا أدري ، وللعلماء المتقدمين فيها أقوال : أحدها أن المراد بها المزوجات كما قدمنا.
والمراد بالملك الملك بالسبي خاصة فإنه المقتضي لفسخ النكاح وحلها للسابي دون غيره ، وهو قول عمر وعثمان وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة لكن وقع الخلاف هل مجرد السبي محل لذلك أو سبيها وحدها؟
فعند الشافعي رحمه اللّه تعالى مجرد السبي موجب للفرقة ومحل للنكاح ، وعند أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه سبيها وحدها حتى لو سبيت معه لم تحل للسابي ، واحتج أهل هذا القول بما
أخرجه مسلم عن أبي سعيد رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : أصبنا سبيا يوم أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت الآية فاستحللناهن ،
وهذه الرواية عنه أصح من الرواية الأخرى أنها نزلت في المهاجرات ، واعترض بأن هذا من قصر العام على سببه وهو

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 5
مخالف لما تقرر في الأصول من أنه لا يعتبر خصوص السبب ، وأجيب بأنه ليس من ذاك القصر في شيء وإنما خص لمعارضة دليل آخر وهو الحديث المشهور عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها لما اشترت بريرة وكانت مزوجة «1» أعتقتها وخيرها صلّى اللّه عليه وسلّم فلو كان بيع الأمة طلاقا ما خيرها فاقتصر بالعام حينئذ على سببه الوارد عليه لما كان غير البيع من أنواع الانتقالات كالبيع في أنه ملك اختياري مترتب على ملك متقدم بخلاف السباء فإنه ملك جديد قهري فلا يلحق به غيره كذا قيل ، واعترض أصحاب الشافعي بإطلاق الآية والخبر على الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه وجعلوا ذلك حجة عليه فيما ذهب إليه ، وأجاب الشهاب بأن الإطلاق غير مسلم ففي الأحكام المروي أنه لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون : كيف نصنع ولهن أزواج؟ فأنزل اللّه تعالى الآية ، وكذا في حنين كما ذكره أهل المغازي فثبت أنه لم يكن معهن أزواج فإن احتجوا بعموم اللفظ قيل لهم : قد اتفقنا على أنه ليس بعام وأنه لا تجب الفرقة بتجدد الملك فإذا لم يكن كذلك علمنا أن الفرقة لمعنى آخر وهو اختلاف الدارين فلزم تخصيصها بالمسبيات وحدهن ، وليس السبي سبب الفرقة بدليل أنها لو خرجت مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف.
وقد حكم اللّه تعالى به في المهاجرات في قوله سبحانه : وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة : 10] فلا يرد ما أورد ، وثانيها أن المراد بالمحصنات ما قدمنا ، وبالملك مطلق ملك اليمين فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت مزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتقلت إليه - وهو قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة - وإليه ذهب جمهور الإمامية ، وثالثها أن المحصنات أعم من العفائف والحرائر وذوات الأزواج ، والملك أعم من ملك اليمين. وملك الاستمتاع بالنكاح فيرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا وحرمة كل أجنبية إلا بعقد أو ملك يمين ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير وعطاء والسدي ، وحكي عن بعض الصحابة ، واختاره مالك في الموطأ. ورابعها كون المراد من المحصنات الحرائر ، ومن الملك المطلق والمقصود تحريم الحرائر بعد الأربع.
أخرج عبد الرزاق وغيره عن عبيدة أنه قال في هذه الآية : «أحل اللّه تعالى لك أربعا في أول السورة وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك» وروي مثله عن كثير.
وقال شيخ الإسلام : المراد من المحصنات ذوات الأزواج والموصول إما عام حسب عموم صلته ، والاستثناء ليس لإخراج جميع الأفراد من حكم التحريم بطريق شمول النفي بل بطريق نفي الشمول المستلزم لإخراج البعض أي حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرم نكاحهن في الجملة وهن المسبيات بغير أزواجهن أو مطلقا على اختلاف المذهبين ، وإما خاص بالمسبيات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللاتي سبين فإن نكاحهن مشروع في الجملة أي لغير ملاكهن ، وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لا بعبارته لأن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح ، وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمين بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجري فيه الاستثناء قطعا ، وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بتباين الدارين أو بالسباء فمبني على اعتقاد الناس حيث كانوا غافلين عن الفرقة كما ينبي عن ذلك خبر أبي سعيد ، وليس في
___________
(1) اختلفوا هل كان الزوج عبدا أو حرا؟ فذهب الحنفيون إلى أنه كان حرا ، والأئمة الثلاثة إلى أنه كان عبدا ، وأكثر الروايات على ذلك فتدبر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 6
ترتب ما فيه من الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالات لا على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها.
واعترض بأن فيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير ما وجه ولا مانع على تقدير تسليم أن يكون مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح فقط من أن يكون الاستثناء باعتبار لازم تحريم النكاح وهو تحريم الوطء فكأنه قيل : يحرم عليكم نكاح المحصنات فلا يجوز لكم وطؤهن إلا ما ملكت أيمانكم فإنه يجوز لكم وطؤهن فتدبر كِتابَ اللَّهِ مصدر مؤكد أي كتب اللّه تعالى عَلَيْكُمْ تحريم هؤلاء كتابا ، ولا ينافيه الإضافة كما توهم ، والجملة مؤكدة لما قبلها وعَلَيْكُمْ متعلق بالفعل المقدر ، وقيل كِتابَ منصوب على الإغراء أي الزموا كتاب اللّه وعَلَيْكُمْ متعلق إما بالمصدر أو بمحذوف وقع حالا منه. وقيل : هو إغراء آخر مؤكد لما قبله وقد حذف مفعوله لدلالة ما قبله عليه وقيل : منصوب بعليكم ، واستدلوا به على جواز تقديم المفعول في باب الإغراء وليس بشيء.
وقرأ أبو السميفع - كتب اللّه - بالجمع ، والرفع أي هذه فرائض اللّه تعالى عليكم ، و- كتب اللّه - بلفظ الفعل وَأُحِلَّ لَكُمْ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول ، والباقون على البناء للمفاعل ، وجعله الزمخشري على القراءة الأولى معطوفا على حرمت ، وعلى الثانية معطوفا على «كتب» المقدر ، وتعقبه أبو حيان بأن ما اختاره من التفرقة غير مختار لأن جملة «كتب» لتأكيد ما قبلها ، وهذه غير مؤكدة فلا ينبغي عطفها على المؤكدة بل على الجملة المؤسسة خصوصا مع تناسبهما بالتحليل والتحريم ، ونظر فيه الحلبي ، ولعل وجه النظر أن تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى ، وما ذكر أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهرة ما وَراءَ ذلِكُمْ إشارة إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا ، وفي إيثار اسم الإشارة على الضمير إشارة إلى مشاركة من في معنى المذكورات للمذكورات في حكم الحرمة فلا يرد حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وكذا الجمع بين كل امرأتين أيتهما فرضت ذكرا لم تحل لها الأخرى كما بين في الفروع لأن تحريم من ذكر داخل فيما تقدم بطريق الدلالة كما مرت إليه الإشارة عن بعض المحققين ، وحديث تخصيص هذا العموم بالكتاب والسنة مشهور.
أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له لما دل عليه الكلام أي بين لكم تحريم المحرمات المذكورات وإحلال ما سواهن إرادة ، وطلب أن تبتغوا والمفعول محذوف أي تبتغوا النساء ، أو متروك أي تفعلوا الابتغاء بِأَمْوالِكُمْ بأن تصرفوها إلى مهورهن ، أو بدل اشتمال من ما وَراءَ ذلِكُمْ بتقدير المفعول ضميرا.
وجوز بعضهم كون ما عبارة عن الفعل كالتزوج والنكاح ، وجعل هذا بدل كل من كل ، والمروي عن ابن عباس تعميم الكلام بحيث يشمل صرف الأموال إلى المهور والأثمان مُحْصِنِينَ حال من فاعل تبتغوا ، والمراد بالإحصان هنا العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما لا يرضي اللّه تعالى غَيْرَ مُسافِحِينَ حال من الضمير البارز ، أو من الضمير المستكن وهي في الحقيقة حال مؤكدة ، والسفاح الزنا من السفح وهو صب الماء وسمي الزنا به لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط لا النسل ، وعن الزجاج المسافحة والمسافح الزانيان اللذان لا يمتنعان من أحد ، ويقال للمرأة إذا كانت تزني بواحد : ذات خدن ، ومفعول الوصفين محذوف أي محصنين فروجكم أو نفوسكم غير مسافحين الزواني ، وظاهر الآية حجة لمن ذهب إلى أن المهر لا بد وأن يكون مالا كالإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه ، وقال بعض الشافعية : لا حجة في ذلك لأن تخصيص المال لكونه الأغلب المتعارف فيجوز النكاح على ما ليس بمال ، ويؤيد ذلك ما
رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سأل رجلا خطب الواهبة

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 7
نفسها للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ماذا معك من القرآن؟ قال : معي سورة كذا وكذا وعددهن قال : تقرأهن على ظهر قلبك؟ قال : نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن ،
ووجه التأييد أنه لو كان في الآية حجة لما خالفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا والتعليل ليس له ذكر في الخبر فيجوز أن يكون مراده صلّى اللّه عليه وسلّم زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه - قاله بعض المحققين - ولعل في الخبر إشارة إليه فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ «ما» إما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعليهما فهي إما شرطية أو موصولة وأيّا ما كان فهي مبتدأ وخبرها على تقدير الشرطية فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما وعلى تقدير الموصولية قوله تعالى : فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها بمعنى النساء بتقديرية العائد إلى المبتدأ الضمير المنصوب في فَآتُوهُنَّ ومن بيانية أو تبعيضية في موضع النصب على الحال من ضمير بِهِ واستعمال ما للعقلاء لأنه أريد بها الوصف كما مر غير مرة ، وقد روعي في الضمير أولا جانب اللفظ وأخيرا جانب المعنى ، والسين للتأكيد لا للطلب ، والمعنى فأي فرد أو فالفرد الذي تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن ، وعلى تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن - فمن - ابتدائية متعلقة بالاستمتاع بمعنى التمتع أيضا وما لما لا يعقل ، والعائد إلى المبتدأ محذوف أي فأي فعل تمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لأجله أو بمقابلته ، والمراد من الأجور المهور ، وسمي المهر أجرا لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين فَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا ، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة فهي كالقطيعة بمعنى القطع وَلا جُناحَ أي لا إثم عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من الحط عن المهر أو الإبراء منه أو الزيادة على المسمى ، ولا جناح في زيادة الزيادة لعدم مساعدة لا جُناحَ إذا جعل الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة مظنة ثبوت المنفي للزوجة مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي الشيء المقدر ، وقيل : فِيما
تَراضَيْتُمْ بِهِ من نفقة ونحوها ، وقيل :
من مقام أو فراق ، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه لا يساعده ذكر الفريضة إذ لا تعلق لهما بها إلا أن يكون الفراق بطريق المخالعة ، وقيل : الآية في المتعة وهي النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر ، والمراد وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب في عقد المتعة بأن يزيد الرجل في الأجر وتزيده المرأة في المدة ، وإلى ذلك ذهبت الإمامية ، والآية أحد أدلتهم على جواز المتعة ، وأيدوا استدلالهم بها بأنها في حرف أبيّ «فما استمتعتم به منهن» إلى أجل مسمى ، وكذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم - والكلام في ذلك شهير - ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت ، وذكر القاضي عياض في ذلك كلاما طويلا ، والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين ، وكانت حلالا قبل يوم خيبر ، ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، واستمر التحريم ، ولا يجوز أن يقال : إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر ، والتحريم يوم خيبر للتأبيد وإن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح إذ الأحاديث الصحيحة تأبى ذلك ، وفي صحيح مسلم ما فيه مقنع.
وحكي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه كان يقول بحلها ثم رجع عن ذلك حين
قال له علي كرم اللّه تعالى وجهه : إنك رجل تائه إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن المتعة
كذا قيل ، وفي صحيح مسلم ما يدل على أنه لم يرجع حين قال له عليّ ذلك ، فقد أخرج عن عروة بن الزبير أن عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه تعالى عنه قام بمكة فقال : إنا ناسا أعمى اللّه تعالى قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل - يعني ابن عباس - كما قال النووي ، فناداه فقال : إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين - يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم - فقال له ابن

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 8
الزبير : فجرب نفسك فو اللّه لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك فإن هذا إنما كان في خلافة عبد اللّه بن الزبير ، وذلك بعد وفاة علي كرم اللّه تعالى وجهه ، فقد ثبت أنه مستمر القول على جوازها لم يرجع إلى قول الأمير كرم اللّه تعالى وجهه ، وبهذا قال العلامة ابن حجر في شرح المنهاج ، فالأولى أن يحكم بأنه رجع بعد ذلك بناء على ما رواه الترمذي والبيهقي والطبراني عنه أنه قال : «إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه» حتى نزلت الآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج : 30] فكل فرج سواهما فهو حرام ، ويحمل هذا على أنه اطلع على أن الأمر إنما كان على هذا الوجه فرجع إليه وحكاه ، وحكي عنه أيضا أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار ، فقد روي عن ابن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : لقد سارت بفتياك الركبان ، وقال فيها الشعراء قال : وما قالوا؟ قلت : قالوا :
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال : سبحان اللّه ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير ، ولا تحل إلا للمضطر ، ومن هنا قال الحازمي : إنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم ، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حتى حرمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد ، وأما ما روي أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وأبي بكر وعمر حتى نهى عنها عمر فمحمول على أن الذي استمتع لم يكن بلغه النسخ ، ونهى عمر كان لإظهار ذلك حيث شاعت المتعة ممن لم يبلغه النهي عنها ومعنى - أنا محرمها - في كلامه إن صح مظهر تحريمها لا منشئة كما يزعمه الشيعة ، وهذه الآية لا تدل على الحل ، والقول بأنها نزلت في المتعة غلط ، وتفسير البعض لها بذلك غير مقبول لأن نظم القرآن الكريم يأباه حيث بين سبحانه أولا المحرمات ثم قال عز شأنه : وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وفيه شرط بحسب المعنى فيبطل تحليل الفرج وإعارته ، وقد قال بهما الشيعة ، ثم قال جل وعلا :
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وفيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرد قضاء الشهوة وصب الماء واستفراغ أوعية المني فبطلت المتعة بهذا القيد لأن مقصود المتمتع ليس إلا ذاك دون التأهل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض ، ولذا تجد المتمتع بها في كل شهر تحت صاحب ، وفي كل سنة بحجر ملاعب ، فالإحصان غير حاصل في امرأة المتعة أصلا ولهذا قالت الشيعة : إن المتمتع الغير الناكح إذ زنى لا رجم عليه ، ثم فرع سبحانه على حال النكاح قوله عز من قائل : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ وهو يدل على أن المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة ، والقراءة التي ينقلونها عمن تقدم من الصحابة شاذة.
وما دل على التحريم كآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج : 30] قطعي فلا تعارضه على أن الدليلين إذا تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما ، وليس للشيعة أن يقولوا : إن المرأة المتمتع بها مملوكة لبداهة بطلانه أو زوجة لانتفاء جميع لوازم الزوجية - كالميراث والعدة والطلاق والنفقة - فيها ، وقد صرح بذلك علماؤهم.
وروى أبو نصير منهم في صحيحه عن الصادق رضي اللّه تعالى عنه أنه سئل عن امرأة المتعة أهي من الأربع؟
قال : لا ولا من السبعين ،
وهو صريح في أنها ليست زوجة وإلا لكانت محسوبة في الأربع ، وبالجملة الاستدلال بهذه الآية على حل المتعة ليس بشيء كما لا يخفى ، ولا خلاف الآن بين الأئمة وعلماء الأمصار إلا الشيعة في عدم جوازها ، ونقل الحل عن مالك رحمه اللّه تعالى غلط لا أصل له بل في حد المتمتع روايتان عنه ، ومذهب الأكثرين أنه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 9
لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف ، ومأخذ الخلاف على ما قال النووي : اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف وتصير المسألة مجمعا عليها؟ فبعض قال : لا يرفعه بل يدوم الخلاف ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعا عليها أبدا ، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني ، وقال آخرون : بأن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق وتمامه في الأصول وحكى بعضهم عن زفر أنه قال : من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه ويكون ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح وهي ملغية فيها ، والمشهور في كتب أصحابنا أنه قال ذلك في النكاح المؤقت - وفي كونه عين نكاح المتعة - بحث ، فقد قال بعضهم باشتراط الشهود في المؤقت وعدمه في المتعة ، ولفظ التزويج أو النكاح في الأول ، وأستمتع أو أتمتع في الثاني ، وقال آخرون : النكاح المؤقت من أفراد المتعة ، وذكر ابن الهمام أن النكاح لا ينعقد بلفظ المتعة ، وإن قصد به النكاح الصحيح المؤبد وحضر الشهود لأنه لا يصلح مجازا عن معنى النكاح كما بينه في المبسوط بقي ما لو نكح مطلقا ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فهل يكون ذلك نكاحا صحيحا حلاليا أم لا؟ الجمهور على الأول بل حكى القاضي الإجماع عليه ، وشذ الأوزاعي فقال : هو نكاح متعة ولا خير فيه فينبغي عدم نية ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بما يصلح أمر الخلق حَكِيماً فيما شرع لهم ، ومن ذلك عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ مَنْ إما شرطية ، وما بعدها شرطها ، وإما موصولة وما بعدها صلتها ، ومِنْكُمْ حال من الضمير في يَسْتَطِعْ وقوله سبحانه : طَوْلًا مفعول به - ليستطع - وجعله مفعولا لأجله على حذف مضاف أي لعدم طول تطويل بلا طول.
والمراد به الغنى والسعة وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد ، وأصله الفضل والزيادة ، ومنه الطائل ، وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل فهو من قولهم : طلته أي نلته ، ومنه قول الفرزدق :
إن الفرزدق صخرة ملمومة طالت فليس تنالها الأوعالا
قوله عز وجل : - أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ أي الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات ، وعبر عنهن بذلك لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء - إما أن يكون متعلقا «بطولا» على معنى - ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات - وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام والجار في موضع الصفة «لطولا» أي - ومن لم يستطع غنى موصلا إلى نكاحهن - أو لنكاحهن - أو - على - على أن الطول بمعنى القدرة - كما قال الزجاج ، ومحل أَنْ بعد الحذف جر ، أو نصب على الخلاف المعروف ، وهذا التقدير قول الخليل ، وإليه ذهب الكسائي ، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من طَوْلًا بدل الشيء من الشيء ، وهما لشيء واحد بناء على أن الطول هو القدرة ، أو الفضل ، والنكاح قوة وفضل ، وقيل : يجوز أن يكون مفعولا - ليستطع - وطَوْلًا مصدر مؤكد له إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز - أي ومن لم يستطع منكم استطاعة - أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج إذ لا تعلق لذلك بالمقام ، وقوله تعالى وتقدس : فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ جواب الشرط أو خبر الموصول وجاءت الفاء لما مر غير مرة ، وما موصولة في محل جر بمن التبعيضية ، والجار والمجرور متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله ، وفي الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول أي فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم ، وأجاز أبو البقاء كون مَنْ زائدة أي فلينكح ما ملكته أيمانكم ، وقوله تعالى : مِنْ فَتَياتِكُمُ أي إمائكم الْمُؤْمِناتِ في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى ما ، وقيل : مَنْ زائدة ، وفَتَياتِكُمُ هو المفعول للفعل المقدر قبل ، و- مما ملكت - متعلق بنفس الفعل ، ومَنْ لابتداء الغاية ، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من هذا المفعول ، ومَنْ للتبعيض ، والْمُؤْمِناتِ على جميع الأوجه صفة فَتَياتِكُمُ ، وقيل : هو مفعول ذلك الفعل المقدر ، وفيه بعد.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 10
وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع لمفهوم الشرط - كما ذهب إليه الشافعي - وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقا لمفهوم الصفة كما هو رأي أهل الحجاز - وجوزهما الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه لإطلاق المقتضي من قوله تعالى : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء : 3] وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ فلا يخرج منه شىء إلا بما يوجب التخصيص ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة أما أولا فالمفهومان - أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة - ليسا بحجة عنده رضي اللّه تعالى عنه كما تقرر في الأصول. وأما ثانيا فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح ، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة ، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود - طول - الحرة كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء ، والكراهة أقل فتعينت فقلنا بها ، وبالكراهة صرح في البدائع ، وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى ، أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادا بالأعم.
واعترض بأنهم إن عنوا أن فيه تعريضا موصوفا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة لكن وجود الوصف ممنوع إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه إن كانت حرة فحر ، أو رقيقة فرقيق ، وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة بل في الكراهة ، وهذا لأنه كان له أن لا يحصل الولد أصلا بنكاح الآيسة ونحوها فلأن يكون له أن يحصل رقيقا بعد كونه مسلما أولى إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين للّه تعالى بالوحدانية والألوهية وما يجب أن يعترف له به وهذا ثابت بالولد المسلم ، والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق مع أن فيه تعريض الولد للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة ، وكون العبد أبا لا أثر له في ثبوت رق الولد فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرا والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرما لا مع قيد حرية الأب فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل - قاله ابن الهمام - وفيه مناقشة ما فتأمل.
وفي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة لأن اللّه تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإمام عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إلخ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع بل كانت بحكم - لكل جديد لذة - أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مؤنة وأقل كلفة فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء؟ ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ جملة معترضة جيء بها تأنيسا لقلوبهم وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب ، ورب أمة يفوق إيمانها إيمان كثير من الحرائر.
والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين فليكن هو مطمح نظركم ، وقيل :
جيء بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علما يقينيا إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنتم وفتياتكم متناسبون إما من حيث الدين وإما من حيث النسب ، وعلى الثاني يكون اعتراضا آخر مؤكدا للتأنيس من جهة أخرى وعلى الأول يكون بيانا لتناسبهم من تلك الحيثيّة إثر بيان تفاوتهم في ذلك ، وأيّا ما كان - فبعضكم - مبتدأ والجار والمجرور متعلق

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 11
بمحذوف وقع خبرا له ، وزعم بعضهم أن بَعْضُكُمْ فاعل للفعل المحذوف ، قيل : وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات ، ولا ينبغي أن يخرج كتاب اللّه تعالى الجليل على ذلك.
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مترتب على ما قبله ولذا صدر بالفاء أي فإذا وقعتم على جلية الأمر فانكحوهن إلخ وأعيد الأمر مع فهمه مما قبله لزيادة الترغيب في نكاحهن ، أو لأن المفهوم منه الإباحة وهذا للوجوب.
والمراد من الأهل الموالي ، وحمل الفقهاء ذلك على من له ولاية التزويج ولو غير مالك فقد قالوا : للأب والجد والقاضي والوصي تزويج أمة اليتيم لكن في الظهيرية الوصي لو زوج أمة اليتيم من عبده لا يجوز ، وفي جامع الفصولين القاضي لا يملك تزويج أمة الغائب ، وفي فتح القدير : للشريك المفاوض تزويج الأمة ، وليس لشريك العنان والمضارب والعبد المأذون تزويجها عند أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه. ومحمد ، وقال أبو يوسف : يملكون ذلك ، وهذا الإذن شرط عندنا لجواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاحها بلا إذن ، والمراد بعدم الجواز عدم النفاذ لا عدم الصحة بل هو موقوف كعقد الفضولي ، وإلى هذا ذهب مالك - وهو رواية عند أحمد - ومثل ذلك نكاح العبد واستدلوا على عدم الجواز فيهما بما
أخرجه أبو داود والترمذي من حديث جابر ، وقال : حديث حسن عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر»
والعهر الزنا وهو محمول على ما إذا وطئ لا بمجرد العقد وهو زنا شرعي لا فقهي فلم يلزم منه وجوب الحد لأنه مرتب على الزنا الفقهي كما بين في الفروع ، وبأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه إلا بإذن مولاهما ، ونسب إلى الإمام مالك ولم يصح أنه يجوز نكاح العبد بلا إذن السيد لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح ، وأجيب بالفرق فإن الطلاق إزالة عيب عن نفسه بخلاف النكاح ، قال ابن الهمام : لا يقال : يصح إقرار العبد على نفسه بالحد والقصاص مع أن فيه هلاكه فضلا عن تعييبه لأنا نقول : هو لا يدخل تحت ملك السيد فيما يتعلق به خطاب الشرع أمرا ونهيا كالصلاة والغسل والصوم والزنا والشرب وغيره إلا فيما علم إسقاط الشارع إياه عنه كالجمعة والحج ، ثم هذه الأحكام تجب جزاء على ارتكاب المحظور شرعا ، فقد أخرجه عن ملكه في ذلك الذي أدخله فيه باعتبار غير ذلك - وهو الشارع - زجرا عن الفساد وأعاظم العيوب انتهى.
وادعى بعض الحنفية أن الآية تدل على أن للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم.
واعترض بأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل فلا يلزم جواز عقدهن كما لا يخفى ، ولو كانت الأمة مشتركة بين اثنين مثلا لا يجوز نكاحها إلا بإذن الكل ، وفي الظهيرية لو زوج أحد الموليين أمته ودخل بها الزوج فللآخر النقض فإن نقض فله نصف مهر المثل وللزوج الأقل من نصف مهر المثل ، ومن نصف المسمى وحكم معتق البعض حكم كامل الرق عند الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه ، وعندهما يجوز نكاحه بلا إذن لأنه حر مديون وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن وحذف هذا القيد لتقدم ذكره لا لأن العطف يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد ، ويحتمل أنه يكون في الكلام مضاف محذوف أي آتوا أهلهن ، ولعل ما تقدم قرينة عليه ، قيل : ونكتة اختيار آتوهن على أتوهم مع تقدم الأهل على ما ذكره بعض المحققين إن في ذلك تأكيدا لإيجاب المهر وإشعارا بأنه حقهن من هذه الجهة ، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين ، والداعي لهذا كله أن المهر للسيد عند أكثر الأئمة لأنه عوض حقه.
وقال الإمام مالك : الآية على ظاهرها والمهر للأمة ، وهذا يوجب كون الأمة مالكة مع أنه لا ملك للعبد فلا بد أن تكون مالكة له يدا كالعبد المأذون له بالتجارة لأن جعلها منكوحة إذن لها فيجب التسليم إليهن كما هو ظاهر الآية ، وإن حملت الأجور على النفقات استغني عن اعتبار التقدير أولا وآخرا ، وكذا إن فسر قوله تعالى.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 12
بِالْمَعْرُوفِ بما عرف شرعا من إذن الموالي ، والمعروف فيه أنه متعلق - بآتوهن - والمراد أدوا إليهن من غير مماطلة وإضرار ، ويجوز أن يكون حالا أي متلبسات بالمعروف غير ممطولات أو متعلقا - . بأنكحوهن - أي فانكحوهن بالوجه المعروف يعني بإذن أهلهن ومهر مثلهن مُحْصَناتٍ حال إما من مفعول آتُوهُنَّ فهو بمعنى متزوجات ، أو من مفعول فَانْكِحُوهُنَّ فهو بمعنى عفائف ، وحمله على مسلمات وإن جاز خصوصا على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاح الأمة الكتابية لكن هذا الشرط تقدم في قوله سبحانه : فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فليس في إعادته كثير جدوى ، والمشهور هنا تفسير المحصنات بالعفائف فقوله تعالى : غَيْرَ مُسافِحاتٍ تأكيد له ، والمراد غير مجاهرات بالزنا - كما قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ عطف على مسافحات وَلا لتأكيد ما في غَيْرَ من معنى النفي - والأخدان - جمع خدن وهو الصاحب ، والمراد به هنا من تتخذه المرأة صديقا يزني بها والجمع للمقابلة ، والمعنى ولا مسرات الزنا.
وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى سر وعلانية ، وروي عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر منه ويقولون : إنه لؤم ، ويستحلون ما خفي ويقولون : لا بأس به ، ولتحريم القسمين نزل قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام : 151] فَإِذا أُحْصِنَّ أي بالأزواج - كما قال ابن عباس وجماعة - وقرأ إبراهيم أُحْصِنَّ بالبناء للفاعل أي أحصن فروجهن وأزواجهن ، وأخرج عبد بن حميد أنه قرىء كذلك ، ثم قال :
إحصانها إسلامها ، وذهب كثير من العلماء إلى أن المراد من الإحصان على القراءة الأولى الإسلام أيضا لا التزوج ، وبعض من أراده من الآية قال : لا تحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوج بحرّ ، وروي ذلك مذهبا لابن عباس ، وحكي عدم الحد قبل التزوج عن مجاهد وطاوس ، وقال الزهري : هو فيها بمعنى التزوج.
والحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج لما
في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال : «اجلدوها» ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير»
فالمزوجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة ، ورجح هذا الحمل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله جلّ وعلا : مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة وإن جاز أنه تأكيد لطول الكلام.
وذكر بعض المحققين أن تفسير الإحصان بالإسلام ظاهر على قول أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه من جهة أنه لا يشترط في التزوج بالأمة أن تكون مسلمة وإن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع ، وهو مشكل على قول من يقول بمفهوم الشرط من الشافعية فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد ، وليس مذهبه كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك. فَعَلَيْهِنَّ أي فثابت عليهن شرعا نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ أي الحرائر الأبكار مِنَ الْعَذابِ أي الحد الذي هو جلد مائة ، فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف وهذا دفع لتوهم أن الحد لهن يزيد بالإحصان ، فيسقط الاستدلال به على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن كما روي ذلك عمن تقدم.
قال الشهاب : وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص «1» فلا وجه لما قيل : إنه خلاف المعهود لأن المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالتبعية وكأن وجهه أن دواعي الزنا فيهن أقوى وليس هذا تغليبا وذكرا
___________
(1) وقال بعضهم : لاحد على العبد أصلا وإنما الحد على الأمة إذا زنت محصنة ، وقال آخرون : يجلد كالحر لعموم الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلى آخرها لأن الآية المنصفة وردت في الإماء ا ه منه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 13
بطريق التبعية حتى يتجه ما ذكر ، ويرد على وجه التخصيص أنه لو كان كذلك لم يدل على حكم العبيد بل الوجه فيه أن الكلام في تزوج الإماء فهو مقتضى الحال انتهى.
والظاهر أن المراد بالحال المعلوم بدلالة النص حال العبيد إذا أتوا بفاحشة لا مطلقا فإن حال العبيد ليس حال الإماء في مسألة النكاح من كل وجه كما بين في كتب الفروع ، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرىء فإن أتوا ، وأتين بفاحشة ، هذا والفاء في فَإِنْ أَتَيْنَ جواب إذا ، والثانية جواب إن ، والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول ، ومِنَ الْعَذابِ في موضع الحال من الضمير في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في صاحبها ، قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالا من ما لأنها مجرورة بالإضافة فلا يكون لها عامل ذلِكَ أي نكاح الإماء لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ أي لمن خاف الزنا بسبب غلبة الشهوة عليه ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن العنت فقال : الإثم ، فقال نافع : وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال : نعم أما سمعت قول الشاعر :
رأيتك تبتغي «عنتي» وتسعى مع الساعي عليّ بغير ذحل
وقيل : أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد صلاح حاله ، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح ، ويفهم من كلام كثير من اللغويين أنه حقيقة في الإثم وكذا في الجهد والمشقة ، ومنه - أكمة عنوت - أي صعبة المرتقى ، وفسره الزجاج هنا بالهلاك ، والذي عليه الأكثرون ما تقدم وهو مأثول أيضا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقيل : المراد به الحد لأنه إذا هو يخشى أن يواقعها فيحد ، ورجح القول الأول بكثرة الذاهبين إليه مع ما فيه من الإشارة إلى أن اللائق بحال المؤمن الخوف من الزنا المفضي إلى العذاب ، وفي هذا إيهام بأن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه وأيّا ما كان فهو شرط آخر لجواز تزوج الإماء عند الشافعي عليه الرحمة ، ومذهب الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه أنه ليس بشرط وإنما هو إرشاد للأصلح وَأَنْ تَصْبِرُوا أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين. خَيْرٌ لَكُمْ من نكاحهن وإن رخص لكم فيه لأن حق الموالي فيهن أقوى فلا يخلصن للأزواج خلوص الحرائر إذ هم يقدرون على استخدامهن سفرا وحضرا ، وعلى بيعهن للحاضر والبادي ، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لا سيما إذا ولد لهم منهن أولاد ، ولأنهن ممتهنات مبتذلات خراجات ولاجات ذلك ذل ومهانة سارية للناكح ، ولا يكاد يتحمل ذلك غيور ، ولأن في نكاحهن تعريض الولد للرق.
وقد أخرج عبد الرزاق وغيره عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : «إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه» وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : «ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا» وعن أبي هريرة وابن جبير مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عامر قال : «نكاح الأمة كالميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا للمضطر» وفي مسند الديلمي والفردوس عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت»
وقال الشاعر :
ومن لم تكن في بيته قهرمانة فذلك بيت لا أبا لك ضائع
وقال الآخر :
إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره
وَاللَّهُ غَفُورٌ أي مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن ، وإنما عبر بذلك تنفيرا عنه حتى كأنه ذنب رَحِيمٌ أي مبالغ في الرحمة فلذلك رخص لكم ما رخص.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 14
هذا ومن باب الإشارة الإجمالية في بعض الآيات السابقة أنه سبحانه أشار بقوله عز من قائل : ووَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات التي قد تصرف فيها الآباء العلوية إلا ما قد سلف من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة الكمالات ، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق سبحانه ، وأشار سبحانه بتحريم المحصنات من النساء أي الأمور التي تميل إليها النفوس إلىتحريم سلب السالك مقاما ناله غيره ، وليس له قابلية لنيله ، ومن هنا قوبل الكليم بالصعق لما سأل الرؤية ، وقال شاعر الحقيقة المحمدية :
ولست مريدا أرجعن بلن ترى ولست بطور كي يحركني الصدع
وقال سيدي ابن الفارض على لسانها :
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
ولقد أحسن بعض المحجوبين حيث يقول :
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
وقال النيسابوري : المحصنات من النساء الدنيا حرمها اللّه تعالى على خلّص عباده وأباح لهم بقوله : إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ تناول الأمور الضرورية من المأكل والمشرب مُحْصِنِينَ أي حرائر من الدنيا وما فيها غَيْرَ مُسافِحِينَ في الطلب مياه الوجوه ، ثم أمرهم إذا استمتعوا بشيء من ذلك بأن يؤدوا حقوقه من الشكر والطاعة والذكر مثلا ، وعلى هذا النمط ما في سائر الآيات. ولم يظهر لي في البنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاع والربائب والجمع بين الأختين ما ينشرح له الخاطر وتبتهج به الضمائر ولا شبهة لي في أن للّه تعالى عبادا يعرفونه على التحقيق ولكنهم في الزوايا ، وكم في الزوايا من خبايا ، واللّه يقول الحق وهو يهدي السبيل يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ استئناف مقرر لما سبق من الأحكام ، ومثل هذا التركيب وقع في كلام العرب قديما وخرجه النحاة - كما قال الشهاب على مذاهب فقيل : مفعول يريد محذوف أي تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه ، واللام للتعليل أو العاقبة أي ذلك لأجل التبيين ، ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين ، فتعلق الإرادة غير التبيين وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف.
وقيل : إنه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف ، وقد قصد هنا تأكيد الاستقبال اللازم للإرادة ولكن باعتبار التعلق وإلا فإرادة اللّه تعالى قديمة ، وسمى صاحب اللباب هذه اللام لام التكملة وجعلها مقابلة للام التعدية.
وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك كما قيل به في - تسمع بالمعيدي خير من أن تراه - على أنه مبتدأ والجار والمجرور خبره أي إرادتي كائنة للتبيين وفيه تكلف ، وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم لأن اللام قد تقام مقام إن في فعل الإرادة والأمر ، والبصريون يمنعون ذلك ويقولون : إن وظيفة اللام الجر والنصب بأن مضمرة بعدها ، ومفعول - يبين - على بعض الأوجه محذوف أي لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ، أو ما تعبدكم به أو نحو ذلك ، وجوز أن يكون قوله تعالى : لِيُبَيِّنَ وقوله تعالى : وَيَهْدِيَكُمْ تنازعا في قوله سبحانه : سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتفوا أثرهم وتتبعوا سيرهم ، وليس المراد أن الحكم كان كذلك في الأمم السالفة كما قيل به ، بل المراد كون ما ذكر من نوع طرائق المتقدمين الراشدين وجنسها في بيان المصالح وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ عطف على ما قبله وحيث كانت التوبة ترك الذنب مع الندم والعزم على عدم العود وهو مما يستحيل إسناده إلى اللّه تعالى ارتكبوا تأويل ذلك في هذا المقام بأحد أمور : فقيل إن التوبة هنا بمعنى المغفرة

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 15
مجازا لتسببها عنها ، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على سبيل الاستعارة التبعية لأن التوبة تمنع عنها كما أن إرشاده تعالى كذلك ، أو مجاز عن حثه تعالى عليها لأنه سبب لها عكس الأول ، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يكفرها على التشبيه أيضا ، وإلى جميع ذلك أشار ناصر الدين البيضاوي.
وقرر العلامة الطيبي أن هذا من وضع المسبب موضع السبب وذلك لعطف وَيَتُوبَ على وَيَهْدِيَكُمْ إلخ على سبيل البيان كأنه قيل : ليبين لكم ويهديكم ويرشدكم إلى الطاعات ، فوضع موضعه وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وما يرد على بعض الوجوه من لزوم تخلف المراد عن الإرادة وهي علة تامة يدفعه كون الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم ما شرع لكم من الأحكام وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرهم حَكِيمٌ مراع في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة فيبين لمن يشاء ويهدي من يشاء ويتوب على من يشاء ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ جعله بعضهم تكرارا لما تقدم للتأكيد والمبالغة وهو ظاهر إذا كان المراد من التوبة هناك وهنا شيئا واحدا ، وأما إذا فسر يَتُوبَ أولا بقبول التوبة والإرشاد مثلا ، وثانيا بأن يفعلوا ما يستوجبون به القبول فلا يكون تكرارا ، وأيضا إنما يتمشى ذلك على كون لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مفعولا وإلا فلا تكرار أيضا لأن تعلق الإرادة بالتوبة في الأول على جهة العلية ، وفي الثاني على جهة المفعولية وبذلك يحصل الاختلاف لا محالة وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعني الفسقة لأنهم يدورون مع شهوات أنفسهم من غير تحاش عنها فكأنهم بانهماكهم فيها أمرتهم الشهوات باتباعها فامتثلوا أمرها واتبعوها فهو استعارة تمثيلية ، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له لا لها.
وروي هذا عن ابن زيد ، وأخرج مجاهد عن ابن عباس أنهم الزناة ، وأخرج ابن جرير عن السدي أنهم اليهود والنصارى ، وقيل : إنهم اليهود خاصة حيث زعموا أن الأخت من الأب حلال في التوراة ، وقيل : إنهم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات لأب لأنهم لم يجمعهم رحم ، وبنات الأخ والأخت قياسا على بنات العمة والخالة بجامع أن أمهما لا تحل ، فكانوا يريدون أن يضلوا المؤمنين بما ذكر ، ويقولون : لم جوزتم تلك ولم تجوزوا هذه؟! فنزلت ، وغوير بين الجملتين ليفرق بين إرادة اللّه تعالى وإرادة الزائغين أَنْ تَمِيلُوا عن الحق بموافقتهم فتكونوا مثلهم ، وعن مجاهد أن تزنوا كما يزنون.
وقرىء بالياء التحتانية فالضمير حينئذ - للذين يتبعون الشهوات مَيْلًا عَظِيماً بالنسبة إلى ميل من اقترف حطيئة على ندرة ، واعترف بأنها خطيئة ولم يستحل يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ أي في التكليف في أمر النساء والنكاح بإباحة نكاح الإماء - قاله طاوس ومجاهد - وقيل : يخفف في التكليف على العموم فإنه تعالى خفف عن هذه الأمة ما لم يخفف عن غيرها من الأمم الماضية ، وقيل : يخفف بقبول التوبة والتوفيق لها ، والجملة مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أي في أمر النساء لا يصبر عنهن - قاله طاوس - وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا»
وقيل : يستميله هواه وشهوته ويستشيطه خوفه وحزنه ، وقيل : عاجز عن مخالفة الهوى وتحمل مشاق الطاعة ، وقيل : ضعيف الرأي لا يدرك الأسرار والحكم إلا بنور إلهي.
وعن الحسن رضي اللّه تعالى عنه أن المراد ضعيف الخلقة يؤلمه أدنى حادث نزل به ،
ولا يخفى ضعف مساعدة المقام لهما فإن الجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء ، وليس

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 16
لضعف الرأي ولا لضعف البنية مدخل في ذلك ، وكونه إشارة إلى تجهيل المجوس في قياسهم على أول القولين ليس بشيء ، ونصب ضعيفا على الحال. وقيل : على التمييز ، وقيل : على نزع الخافض أي من ضعيف وأريد به الطين أو النطفة ، وكلاهما «1» كما ترى ، وقرأ ابن عباس «وخلق الإنسان» على البناء للفاعل والضمير للّه عزّ وجلّ.
وأخرج البيهقي في الشعب عنه أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، الأولى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والثانية وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ إلى آخرها ، والثالثة يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إلى آخرها ، والرابعة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً والخامسة إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء : 4] والسادسة وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء :
110] والسابعة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [النساء : 48 ، 116] إلى آخرها ، والثامنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء : 152]. الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة ، وفيه إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور ، والمراد من الأكل سائر التصرفات ، وعبر به لأنه معظم المنافع ، والمعنى لا يأكل بعضكم أموال بعض ، والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم - قاله السدي - وهو المروي عن الباقر رضي اللّه تعالى عنه ،
وعن الحسن هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض وأخرج عنه وعن عكرمة بن جرير أنهما قالا : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة [النور : 61] وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ الآية ، والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلا بالباطل ، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة ، وبَيْنَكُمْ نصب على الظرفية ، أو الحالية من أموالكم إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ استثناء منقطع ، ونقل أبو البقاء القول بالاتصال وضعفه ، وعَنْ متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة ، ومِنْكُمْ صفة تَراضٍ أي إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة عَنْ تَراضٍ كائن مِنْكُمْ أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ، والنصب قراءة أهل الكوفة ، وقرأ الباقون بالرفع على أن - كان - تامة.
وحاصل المعنى لا تقصدوا أكل الأموال بالباطل لكن اقصدوا كون أي وقوع تجارة عَنْ تَراضٍ أو لا تأكلوا ذلك كذلك فإنه منهي عنه لكن وجود تجارة عن تراض غير منهي عنه ، وتخصيصها بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا وأوفق لذوي المروءات. وقد أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا»
وأخرج سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي».
وجوز أن يراد بها انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان تجارة أو إرثا أو هبة أو غير ذلك من استعمال الخاص وإرادة العام ، وقيل : المقصود بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه اللّه تعالى ، وبالتجارة صرفه فيما
___________
(1) أي القولين ا ه منه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 17
يرضاه وهذا أبعد مما قبله ، والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الإمام مالك ، وعند الشافعي حالة الافتراق عن مجلس العقد ، وقيل : التراضي التخيير بعد البيع ، أخرج عبد ابن حميد عن أبي زرعة أنه باع فرسا له فقال لصاحبه : اختر فخيره ثلاثا ، ثم قال له : خيرني فخيره ثلاثا ، ثم قال :
سمعت أبا هريرة رضي اللّه تعالى عنه يقول : هذا البيع عن تراض.
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر ، وقد ورد في الحديث «المؤمنون كالنفس الواحدة»
وإلى هذا ذهب الحسن وعطاء والسدي والجبائي وقيل :
المعنى لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الآثام كأكل الأموال بالباطل وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العقاب ، وقيل : المراد به النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر ، وحكي ذلك عن البلخي.
وقيل :
المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه ، وروي ذلك عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه ،
وقيل : المراد لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم ، وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب ، وقيل : المعنى لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وأيد بما
أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص قال : «لما بعثني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت : نعم يا رسول اللّه إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية فتيممت ثم صليت فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يقل شيئا» ،
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه «ولا تقتلوا»
بالتشديد للتكثير ، ولا يخفى ما في الجمع بين التوصية بحفظ المال والوصية بحفظ النفس من الملاءمة لما أن المال شقيق النفس من حيث إنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها ، والملاءمة بين النهيين على قول مالك أتم ، وقدم النهي الأول لكثرة التعرض لما نهي عنه فيه.
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تعليل للنهي ، والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغا في الرحمة ، ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس ، وقيل : معناه أنه كان بكم يا أمة محمد رحيما إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلف بني إسرائيل بذلك وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي قتل النفس فقط ، أو هو وما قبله من أكل الأموال بالباطل ، أو مجموع ما تقدم من المحرمات من قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النساء :
19] ، أو من أول السورة إلى هنا أقوال : روي الأول منها عن عطاء - ولعله الأظهر - وما في ذلك من البعد إيذان بفظاعة قتل النفس وبعد منزلته في الفساد ، وإفراد اسم الإشارة على تقدير تعدد المشار إليه باعتبار تأويله بما سبق. عُدْواناً أي إفراطا في التجاوز عن الحد ، وقرىء «عدوانا» بكسر العين وَظُلْماً أي إيتاء بما لا يستحقه ، وقيل هما بمعنى فالعطف للتفسير ، وقيل : أريد بالعدوان التعدي على الغير ، وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب ، وأيّا ما كان فهما منصوبان على الحالية ، أو على العلية ، وقيل : وخرج بهما السهو والغلط والخطأ وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً أي ندخله إياها ونحرقه بها ، والجملة جواب الشرط. وقرىء «نصليه» بالتشديد ، و«نصليه» بفتح النون من صلاه لغة كأصلاه ، ويصليه بالياء التحتانية والضمير للّه عزّ وجلّ ، أو لذلك ، والإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب.
وَكانَ ذلِكَ أي إصلاؤه النار يوم القيامة عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هينا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع ، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي إِنْ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 18
تَجْتَنِبُوا
أي تتركوا جانبا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ أي ينهاكم اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم عَنْهُ أي عن ارتكابه مما ذكر ومما لم يذكر ، وقرى ء - كبير - على إرادة الجنس فيطابق القراءة المشهورة ، وقيل : يحتمل أن يراد به الشرك نُكَفِّرْ أي نغفر ونمحو «1» واختيار ما يدل على العظمة بطريق الالتفات تفخيم لشأن ذلك الغفران ، وقرىء «2» يغفر - بالياء التحتانية عَنْكُمْ أيها المجتنبون سَيِّئاتِكُمْ أي صغائركم كما قال السدي ، واختلفوا في حد الكبيرة على أقوال : الأول أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة ، وإليه ذهب الشافعية ، والثاني أنها كل معصية أوجبت الحد ، وبه قال البغوي وغيره ، والثالث أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد ، والرابع أنها كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، وبه قال الإمام ، والخامس أنها ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد ، وبه قال الماوردي في فتاويه ، والسادس أنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه ، وحكي ذلك بتفصيل مذكور في محله عن الحليمي ، والسابع أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه بلفظ التحريم ، وقال الواحدي : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ، ولكن اللّه تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة انتهى.
وقال شيخ الإسلام البارزي : التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن بنص كتاب أو سنة ، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته ، أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل معصوما فظهر أنه مستحق لدمه ، أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته ، وقال بعضهم : كل ما ذكر من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة ، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه ، وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبطها بحد ، فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره اللّه تعالى من أول هذه السورة إلى هنا وقيل : هي سبع ، ويستدل له
بخبر الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك باللّه تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم اللّه تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» ،
وفي رواية لهما «الكبائر الإشراك باللّه تعالى والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس» زاد البخاري «واليمين الغموس» ومسلم بدلها «وقول الزور»
والجواب أن ذلك محمول على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكره قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر لا لحصره الكبائر فيه - وممن صرح بأن الكبائر سبع - علي كرم اللّه تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير ، وقيل : تسع لما
أخرجه علي بن الجعد عن ابن عمر أنه قال حين سئل عن الكبائر :
«سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : هن تسع الإشراك باللّه تعالى وقذف المحصنة وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا»
ونقل عن ابن مسعود أنها ثلاث وعنه أيضا أنها عشرة ، وقيل : أربع عشرة ، وقيل : خمس عشرة ، وقيل : أربع ، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له : هل الكبائر سبع؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وروى ابن جبير أنه قال له : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ، وأنكر جماعة من الأئمة أن في الذنوب صغيرة ، وقالوا : بل سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين
___________
(1) قوله : «ونمحو» كذا بخطه بالواو مع أنه تفسير للمجزوم فكان حقه حذف الواو.
(2) قوله : وقرىء «يغفر» كذا بخطه ، ولفظ القرآن «يكفر» ا ه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 19
في الإرشاد وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة ، واختاره في تفسيره فقال : معاصي اللّه تعالى كلها عندنا كبائر ، وإنما يقال لبعضها : صغيرة وكبيرة بالإضافة ، وأول الآية بما ينبو عنه ظاهرها ، وقالت المعتزلة :
الذنوب على ضربين : صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح انتهى ، وربما ادعي في بعض المواضع اتفاق الأصحاب على ما ذكره واعتمد ذلك التقي السبكي ، وقال القاضي عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال في معصية : إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر عند اجتناب الكبائر ، ويوافق هذا القول ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال : كل ما نهى اللّه تعالى عنه فهو كبيرة ، وفي رواية كل ما عصي اللّه تعالى فيه فهو كبيرة
- قاله العلامة ابن حجر - وذكر أن جمهور العلماء على الانقسام ، وأنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى ، وإنما الخلاف في التسمية ، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ، ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية اللّه تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة اللّه تعالى وشدة عقابه وإجلالا له عزّ وجلّ عن تسمية معصيته صغيرة لأنها إلى باهر عظمته تعالى كبيرة وأيّ كبيرة ، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى قسمين - كما يقتضيه صرائح الآيات والأخبار - لا سيما هذه الآية وكون المعنى - إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح الحرام وأكل الأموال وغير ذلك مما تقدم نُكَفِّرْ عَنْكُمْ ما كان من ارتكابها فيما سلف ، ونظير ذلك من التنزيل قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال : 38] بعيد غاية البعد ، ولذلك قال حجة الإسلام الغزالي : لا يليق إنكار الفرق بين الصغائر والكبائر وقد عرفتا من مدارك الشرع ، نعم قد يقال لذنب واحد : كبير ، وصغير باعتبارين لأن الذنوب تتفاوت في ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال ، ومن هنا قال الشاعر :
لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة في السهو فيها للوضيع معاذر
فكبائر الرجل الصغير صغائر وصغائر الرجل الكبير كبائر
قال سيدي ابن الفارض قدس سره :
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
وأشار إلى التفاوت من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، هذا وقد استشكلت هذه الآية مع ما
في حديث مسلم من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنبت الكبائر»
ووجهه أن الصلوات إذا كفرت لم يبق ما يكفره غيرها فلم يتحقق مضمون الآية ، وأجيب عنه بأجوبة أصحها - على ما قاله الشهاب - إن الآية والحديث بمعنى واحد لأن
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيه : «ما اجتنبت» إلخ
دال على بيان الآية لأنه إذا لم يصل ارتكب كبيرة وأي كبيرة فتدبر وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا الجمهور على ضم الميم ، وقرأ أبو جعفر ونافع بفتحها ، وهو على الضم إما مصدر ومفعول نُدْخِلْكُمْ محذوف أي ندخلكم الجنة إدخالا ، أو مكان منصوب على الظرف عنه سيبويه ، وعلى أنه مفعول به عند الأخفش ، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل فيه الخلاف ، وعلى الفتح قيل : منصوب بمقدر أي ندخلكم فتدخلون مدخلا ونصبه كما مر ، وجوز كونه كقوله تعالى : أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] ورجح حمله على المكان لوصفه بقوله سبحانه : كَرِيماً [الشعراء : 58] أي حسنا ، وقد جاء في القرآن العظيم وصف المكان به. فقد قال سبحانه ، وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان : 26].
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قال القفال : لما نهى اللّه تعالى المؤمنين عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبه بالنهي عما يؤدي إليه من الطمع في أموالهم ، وقيل : نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح ، ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهر أعمالهم الظاهرة والباطنة ، فالمعنى وَلا تَتَمَنَّوْا ما

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 20
أعطاه اللّه تعالى بَعْضَكُمْ وميزه بِهِ عليكم من المال والجاه وكل ما يجري فيه التنافس ، فإن ذلك قسمة صادرة من حكيم خبير وعلى كل من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده لأن ذلك أشبه الأشياء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه ودبر العالم بحكمته البالغة ونظمه.
وأظلم خلق اللّه من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب
وإلى هذا الوجه ذهب ابن عباس وأبو عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهم ، فقد روي عنهما في الآية لا يقل أحدكم ليت ما أعطى فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي فإن ذلك يكون حسدا ولكن ليقل : اللهم أعطني مثله ، ويفهم من هذا أن التمني المذكور كناية عن الحسد ، وجعل بعضهم المقتضي للمنع عنه كونه ذريعة للحسد ولكل وجهة ، وزعم البلخي أن المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنى أن لو كان امرأة ولا للمرأة أن لو كانت رجلا لأن اللّه تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح فيكون قد تمنى ما ليس بأصلح ، ونقل شيخ الإسلام أنه لما جعل اللّه تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء : نحن أحوج لأن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت ، ثم قال : وهذا هو الأنسب بتعليل النهي بقوله.
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ فإنه صريح في جريان التمني بين فريقي الرجال والنساء ، ولعل صيغة المذكر في النهي لما عبر عنهن بالبعض ، والمعنى لكل من الفريقين «1» في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده ، وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاه حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجب الانتهاء عن التمني المذكور انتهى ، وهذا المعنى الذي ذكره للآية مروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لكن القيل الذي نقله تبعا للزمخشري في سبب النزول لم نقف له على سند ، والذي ذكره الواحدي في ذلك ثلاثة أخبار : الأول ما
أخرجه عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول اللّه تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فأنزل اللّه تعالى الآية ،
والثاني ما
أخرجه عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن : وددنا أن اللّه جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت.
والثالث ما
أخرجه عن قتادة والسدي قالا : لما نزل قوله تعالى : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء : 11] قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء ، وقالت النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا فأنزل اللّه تعالى وَلا تَتَمَنَّوْا إلى آخرها ،
وذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور نحو ذلك ، ولا يخفى أن القيل الذي نقله ظاهر في حمل التمني المنهي عنه على الحسد ، والخبر الأول والثاني مما أخرجه الواحدي ليسا كذلك إذ عليهما يجوز حمله على الحسد أو على ما هو ذريعة له. وربما يتراءى أن حمله على الثاني نظرا إليهما أظهر ، وأما الخبر الثالث فيأباه معنى الآية سواء كان التمني كناية عن الحسد أو ذريعة إلا بتكلف بعيد جدا ، ومعنى الآية على الأولين أن لكل من الرجال والنساء حظا من الثواب على حسب ما كلفه اللّه تعالى من الطاعات بحسن تدبيره فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير ، وروي ذلك عن قتادة ، وفيه استعمال الاكتساب في الخير. وقد استعمل في الشر ، واستعمل الكسب في الخير في قوله تعالى : لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة : 286] وعن مقاتل وأبي جرير أنهما قالا المراد مما اكتسبوا من الإثم ، وفيه استعمال
___________
(1) و«من». كما قال غير واحد على هذا. بيانية لا تبعيضية فتدبر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 21
اللام مع الشر دون على ، وهو خلاف ما في الآية ، وقيل : المراد لكل ، وعلى كل من الفريقين مقدار من الثواب والعقاب حسبما رتبه الحكيم على أفعاله إلا أنه استغني باللام عن على وبالاكتساب عن الكسب - وهو كما ترى - ويرد على هذه المعاني أنه لا يساعدها النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال. ولعل من يذهب إليها يجعل الآية معترضة في البين.
وذكر بعضهم أن معنى الآية على الوجه الأول المروي عن أبي عبد اللّه وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهم أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مقدرا في أزل الآزال من نعيم الدنيا بالتجارات والزراعات وغير ذلك من المكاسب فلا يتمنّ خلاف ما قسم له وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ عطف على النهي بعد تقرير الانتهاء بالتعليل كأنه قيل : لا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم واسألوا اللّه تعالى من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر فإن خزائنه مملوءة لا تنفد أبدا ، والمفعول محذوف إفادة للعموم أي واسألوا ما شئتم فطنه سبحانه يعطيكموه إن شاء ، أو لكونه معلوما من السياق ، أي واسألوا مثله ، ويقال لذلك : غبطة. وقيل : مِنْ زائدة أي واسألوا اللّه تعالى فضله ، وقد ورد في الخبر «لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله»
وذهب بعض العلماء - كما في البحر - إلى المنع عن تمني مثل نعمة الغير ولو بدون تمني زوالها لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة له في دينه ومضرة عليه في دنياه ، فلا يجوز عنده أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ولا زوجا مثل زوجه بل ينبغي أن يقول :
اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي ، ولا يتعرض لمن فضل عليه ، ونسب ذلك للمحققين وهم محجوجون بالخبر اللهم إلا إذا لم يسلموا صحته ، وقيل : المعنى لا تتمنوا الدنيا بل اسألوا اللّه تعالى العبادة التي تقربكم إليه ، وإلى هذا ذهب ابن جبير وابن سيرين ، وأخرج ابن المنذر عن الثاني أنه إذا سمع الرجل يتمنى الدنيا يقول : قد نهاكم اللّه تعالى عن هذا ويتلو الآية ، والظاهر العموم ، وعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «سلوا اللّه تعالى من فضله فإن اللّه تعالى يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج»
وقال ابن عيينة : لم يأمر سبحانه بالمسألة إلا ليعطي إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ولذلك فضل بعض الناس على بعض حسب مراتب استعداداتهم وتفاوت قابلياتهم.
ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى لم يزل ولا يزال عليما بكل شيء فيعلم ما تضمرونه من الحسد ويجازيكم عليه وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ لا بد فيه من تقدير مضاف إليه أي لكل إنسان ، أو لكل قوم ، أو لكل مال أو تركة وفيه على هذا وجوه ذكرها الشهاب نور اللّه تعالى مرقده : الأول أنه على التقدير الأول معناه لكل إنسان موروث جعلنا موالي أي وراثا مما ترك وهنا تم الكلام ، فيكون مِمَّا تَرَكَ متعلقا بموالي أو بفعل مقدر ، ومَوالِيَ مفعولا أولا - لجعل - بمعنى صير ، ولِكُلٍّ هو المفعول الثاني له قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل ببعض دون بعض ، وفاعل تَرَكَ ضمير كل ، ويكون الْوالِدانِ مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ومن الوارث؟ فقيل : هم الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، والثاني أن التقدير لكل إنسان موروث جعلنا وراثا مما تركه ذلك الإنسان ، ثم بين ذلك الإنسان بقوله سبحانه : الْوالِدانِ كأنه قيل : ومن هذا الإنسان الموروث؟ فقيل :
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وإعرابه كما قبله غير أن الفرق بينهما أن الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ في الأول وارثون ، وفي الثاني موروثون ، وعليهما فالكلام جملتان ، والثالث أن التقدير ولكل إنسان وارث - مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي - أي موروثين ، - فالمولى - الموروث والْوالِدانِ مرفوع ب تَرَكَ وما بمعنى من ، والجار والمجرور صفة ما أضيفت إليه كل ، والكلام جملة واحدة ، والرابع أنه على التقدير الثاني معناه ، ولكل قوم جعلناهم مَوالِيَ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 22
نصيب - مما تركه والداهم وأقربوهم ، فلكل خبر نصيب المقدر مؤخرا وجعلناهم صفة قوم والعائد الضمير المحذوف الذي هو مفعول جعل ، وموالي : إما مفعول ثان ، أو حال ومِمَّا تَرَكَ صفة المبتدأ المحذوف الباقي صفته كصفة المضاف إليه وحذف العائد منها.
ونظيره قولك : لكل من خلقه اللّه تعالى إنسانا من رزق اللّه تعالى ، أي لكل واحد خلقه اللّه تعالى إنسانا نصيب من رزق اللّه تعالى ، والخامس أنه على التقدير الثالث معناه لكل مال أو تركة مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ جعلنا موالي أي وراثا يلونه ويحوزونه ، ويكون لِكُلٍّ متعلقا - بجعل - ومِمَّا تَرَكَ صفة كل ، واعترض على الأول والثاني بأن فيهما تفكيك النظم الكريم مع أن المولى يشبه أن يكون في الأصل اسم مكان لا صفة فكيف تكون من صلة له؟ وأجيب عن هذا بأن ذلك لتضمنه معنى الفعل كما أشير إليه على أن كون المولى ليس صفة مخالف لكلام الراغب فإنه قال : إنه بمعنى الفاعل والمفعول أي الموالي والموالي لكن وزن مفعل في الصفة أنكره قوم ، وقال ابن الحاجب في شرح المفصل : إنه نادر ، فإما أن يجعل من النادر أو مما عبر عن الصفة فيه باسم المكان مجازا لتمكنها وقرارها في موصوفها ، ويمكن أن يجعل من باب المجلس السامي ، واعترض على الثالث بالبعد وعلى الرابع بأن فيه حذف المبتدأ الموصوف بالجار والمجرور وإقامته مقامه وهو قليل ، وبأن لكل قوم من الموالي جميع ما ترك الوالدان والأقربون لا نصيب وإنما النصيب لكل فرد ، وأجيب عن الأول بأنه ثابت مع قلته كقوله تعالى : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات : 164] وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الجن : 11] وعن الثاني بأن ما يستحقه القوم بعض التركة لتقدم التجهيز والدين والوصية إن كانا ، وأما حمل من على البيان للمحذوف فبعيد جدا ، وتعقب الشهاب الجواب عن الأول بأن فيه خللا من وجهين : أما أولا فلأن ما ذكر لا شاهد له فيه لما قرره النحاة أن الصفة إذا كانت جملة أو ظرفا تقام مقام موصوفها بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن ، أو في ، وإلا لم تقم مقامه إلا في شعر ، وما ذكر داخل فيه دون الآية ، وأما ثانيا فلأنه ليس المراد بقيامها مقامه أن تكون مبتدأ حقيقة بل
المبتدأ محذوف وهذا بيانه كما أشير إليه في التقرير فلا وجه لاستبعاده ، نعم ما ذكروه وإن كان مشهورا غير مسلم ، فإن ابن مالك صرح بخلافه في التوضيح ، وجوز حذف الموصوف في السعة بدون ذلك الشرط. فالحق أنه أغلبي لا كلي ، واعترض على الخامس بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف نحو - بكل رجل مررت تميمي - وفي جوازه نظر ، ورد بأنه جائز كما في قوله تعالى : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام : 14] ففاطر صفة الاسم الجليل وقد فصل بينهما - بأتخذ - العامل في غير ، فهذا أولى ، والجواب بأن العامل لم يتخلل بل المعمول تقدم فجاء التخلل من ذلك فلم يضعف إذ حق المعمول التأخر عن عامله وحينئذ يكون الموصوف مقرونا بصفته تكلف مستغنى عنه ، واختار جمع من المحققين هذا الخامس والذي قبله ، وجعلوا الجملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها ، واعترضوا على الوجه الأول بأن فيه خروج الأولاد لأنهم لا يدخلون في الأقربين عرفا كما لا يدخل الوالدان فيهم ، وإذا أريد المعنى اللغوي شمل الوالدين ، ورد بأن هذا مشترك الورود على أنه قد أجيب عنه بأن ترك الأولاد لظهور حالهم من آية المواريث كما ترك ذكر الأزواج لذلك ، أو بأن ذكر الوالدين لشرفهم والاهتمام بشأنهم فلا محذور من هذه الحيثية تدبر وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ هم موالي الموالاة.
أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم ، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه : وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال : 75].

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 23
وروي ذلك من غير ما طريق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وكذلك عن غيره ، ومذهب أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وراث أصلا ، وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام ، والأيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى ، وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود ، أو بمعنى القسم وكون العقد هنا عقد النكاح خلاف الظاهر إذ لم يعهد فيه إضافته إلى اليمين وقرأ الكوفيون عَقَدَتْ بغير ألف ، والباقون «عاقدت» بالألف ، وقرىء بالتشديد أيضا. والمفعول في جميع القراءات محذوف أي عهودهم ، والحذف تدريجي ليكون العائد المحذوف منصوبا كما هو الكثير المطرد ، وفي الموصول أوجه من الإعراب : الأول أن يكون مبتدأ وجملة قوله تعالى : فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ خبره وزيدت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، والثاني أنه منصوب على الاشتغال قيل : وينبغي أن يكون مختارا لئلا يقع الطلب خبرا لكنهم لم يختاروه لأن مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا. ورد بأن زيدا ضربته إن قدر العامل فيه مؤخرا أفاد الاختصاص ، وإن قدر مقدما فلا يفيده ، ولا خفاء أن الظاهر تقديره مقدما فلا يلزم الاختصاص ، والثالث أنه معطوف على الْوالِدانِ فإن أريد أنهم موروثون عاد الضمير من - فآتوهم - على - موالي - وإن أريد أنهم وارثون جاز عوده على مَوالِيَ وعلى الوالدين وما عطف عليهم ، قيل : ويضعفه شهرة الوقف على الْأَقْرَبُونَ دون أَيْمانُكُمْ ، والرابع أنه منصوب بالعطف على موالي وهو تكلف.
وفي رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أخرجها البخاري وأبو داود والنسائي وجماعة أنه قال في الآية :
كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمة للأخوة التي آخى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بينهم فلما نزلت وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ نسخت ، ثم قال : وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من النصر والرفادة والنصيحة - وقد ذهب الميراث ويوصى له - وروي عن مجاهد مثله ، وظاهر ذلك عدم جواز العطف إذ من عطف أراد فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الإرث إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي لم يزل سبحانه عالما بجميع الأشياء مطلعا عليها جليها وخفيها فيطلع «على الإيتاء والمنع ، ويجازي كلّا من المانع والمؤتى حسب فعله ، ففي الجلة وعد ووعيد الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي ونحو ذلك ، واختيار الجملة الاسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم ، وفي الكلام إشارة إلى سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث كما أن فيما تقدم رمزا إلى تفاوت مراتب الاستحقاق ، وعلل سبحانه الحكم بأمرين : وهبي وكسبي فقال عز شأنه : بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فالباء للسببية وهي متعلقة ب قَوَّامُونَ كعلى ولا محذور أصلا ، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره والباء للسببية أو للملابسة ، وما مصدرية وضمير الجمع لكلا الفريقين تغليبا أي قوّامون عليهن بسبب تفضيل اللّه تعالى إياهم عليهن ، أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل ، أو متلبسين بالتفضيل ، وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم اللّه عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية ، وقيل : للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال وليس بشيء ، وكذا لم يصرح سبحانه بما به التفضيل رمزا إلى أنه غني عن التفصيل ، وقد ورد أنهن ناقصات عقل ودين ، والرجال بعكسهن كما
لا يخفى ، ولذا خصوا بالرسالة والنبوة على الأشهر ، وبالإمامة الكبرى والصغرى ، وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند إمامنا الأعظم - والاستبداد بالفراق وبالنكاح عند الشافعية - وبالشهادة في أمهات القضايا وزيادة السهم في الميراث والتعصيب إلى غير ذلك

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 24
وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ عطف على ما قبله فالباء متعلقة بما تعلقت به الباء الأولى ، وما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف ، ومِنْ تبعيضية أو ابتدائية متعلقة - بأنفقوا - أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف وأريد بالمنفق - كما قال مجاهد - المهر ، ويجوز أن يراد بما أنفقوه ما يعمه ، والنفقة عليهن ، والآية - كما
روي عن مقاتل - نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء ، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لتقتص من زوجها ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ارجعوا هذا جبرائيل عليه السلام أتاني وأنزل اللّه هذه الآية فتلاها صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قال :
أردنا أمرا وأراد اللّه تعالى أمرا والذي أراده اللّه تعالى خير».
وقال الكلبي : نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة وذكر القصة ، وقال بعضهم : نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن أبيّ وزوجها ثابت بن قيس بن شماس ، وذكر قريبا منه ، واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته إلا في معصية اللّه تعالى ، وفي الخبر «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها»
واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة ، وهو مذهب مالك والشافعي لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها ، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح ، وعندنا لا فسخ لقوله تعالى : وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة : 28] واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأنه سبحانه جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة وهو الناظر على الشيء الحافظ له فَالصَّالِحاتُ أي منهن قانِتاتٌ شروع في تفصيل أحوالهن وكيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن ، والمراد فَالصَّالِحاتُ منهن مطيعات للّه تعالى ولأزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي يحفظن أنفسهن وفروجهن في حال غيبة أزواجهن ، قال الثوري ، وقتادة : أو يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال ، فاللام بمعنى في ، والغيب بمعنى الغيبة ، وأل عوض عن المضاف إليه على رأي ، ويجوز أن يكون المراد حافظات لواجب الغيب أي لما يجب عليهن حفظه حال الغيبة ، فاللام على ظاهرها ، وقيل : المراد حافظات لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة ، ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة في الخبر ، وحينئذ لا حاجة إلى ما قيل في اللام ، ولا إلى تفسير الغيب بالغيبة إلا أن ما
أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ، ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الرِّجالُ قَوَّامُونَ إلى الغيب»
يبعد هذا القول ومن الناس من زعم أنه أنسب بسبب النزول بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بما حفظهن اللّه تعالى في مهورهن ، وإلزام أزواجهن النفقة عليهن قاله الزجاج ، وقيل : بحفظ اللّه تعالى لهن وعصمته إياهن ولولا أن اللّه تعالى حفظهن وعصمهن لما حفظن - فما - إما موصولة أو مصدرية وقرأ أبو جعفر بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب ، ولا بد من تقدير مضاف على هذه القراءة - كدين اللّه ، وحقه - لأن ذاته تعالى لا يحفظها أحد ، وما موصولة أو موصوفة ، ومنع غير واحد المصدرية لخلو حفظ حينئذ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظن اللّه ، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميرا مفردا عائدا على جمع الإناث لأنه في معنى الجنس كأنه قيل : فمن «1» حفظ اللّه ، وجعله ابن جني كقوله :
فإن الحوادث أودى بها
___________
(1) قوله : «فمن» إلخ كذا بخطه ولعله سبق قلم ، والأصل «بمن» تأمل. [.....]

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 25
ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وشذوذ ترك التأنيث ومثله لا يليق بالنظم الكريم كما لا يخفى ، ثم إن صيغة جمع السلامة هنا للكثرة أما المعرف فظاهر ، وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلا بد من مطابقته له في الكثرة وإلا لم يصدق على جميع أفراده ، وقد نص على ذلك في الدر المصون.
وقرأ ابن مسعود - فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ اللّه فأصلحوا إليهن ، وأخرج ابن جرير عنه زيادة - فأصلحوا إليهن - فقط وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي ترفعهن عن مطاوعتكم وعصيانهن لكم ، من النشز - بسكون الشين وفتحها - وهو المكان المرتفع ويكون بمعنى الارتفاع فَعِظُوهُنَّ أي فانصحوهن وقولوا لهن اتقين اللّه وارجعن عما أنتن عليه ، وظاهر الآية ترتب هذا على خوف النشوز وإن لم يقع وإلا لقيل نشزن ، ولعله غير مراد ولذا فسر في التيسير تَخافُونَ بتعلمون ، وبه قال الفراء - كما نقله عنه الطبرسي - وجاء الخوف بهذا كما في القاموس ، وقيل : المراد تَخافُونَ دوام نشوزهن أو أقصى مراتبه كالفرار منهم في المراقد.
واختار في البحر أن في الكلام مقدرا وأصله واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن فعظوهن ، وهو خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي مواضع الاضطجاع ، والمراد اتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلونهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ، وقيل :
المراد اهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفوا إليهن ، وروي ذلك عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه
ولعله كناية أيضا عن ترك الجماع ، وقيل : المضاجع المبايت أي اهجروا حجرهن ومحل مبيتهن ، وقيل : فِي للسببية أي اهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب تخلفهن عن المضاجعة ، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى ، فالهجران على هذا بالمنطق ، قال عكرمة :
بأن يغلظ لها القول ، وزعم بعضهم أن المعنى أكرهوهن على الجماع واربطوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار ، وتعقبه الزمخشري بأنه من تفسير الثقلاء ، وقال ابن المنير : لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى : فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما ، وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع ، فإطلاق الزمخشري لها أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراط انتهى ، وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر ، ولعد تركه من التفريط وقرىء في المضطجع والمضجع وَاضْرِبُوهُنَّ يعني
ضربا غير مبرح - كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -
وفسر غير المبرح بأن لا يقطع لحما ولا يكسر عظما.
وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه ، والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة فإذا خيف نشوز المرأة تنصح ، ثم تهجر ، ثم تضرب إذ لو عكس استغني بالأشد عن الأضعف ، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء في فَعِظُوهُنَّ لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع ، فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر ، وفي الكشف الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزئة مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج ، فإنما النص هو الدال على الترتيب.
هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة ، والزوج يريدها ، وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه ، وترك الصلاة في رواية والغسل ، والخروج من البيت إلا لعذر شرعي ، وقيل : له أن يضربها متى أغضبته ، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي اللّه تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها ، ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي ،
فقد أخرج ابن سعد ، والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 26
رضي اللّه تعالى عنه قالت : «كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فخلى بينهم وبين ضربهن ، ثم قال : ولن يضرب خياركم»
وذكر الشعراني قدس سره «أن الرجل إذا ضرب زوجته ينبغي أن لا يسرع في جماعها بعد الضرب ، وكأنه أخذ ذلك مما أخرجه الشيخان. وجماعة عن عبد اللّه بن زمعة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ، وأخرج عبد الرزاق عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها بلفظ «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره»
وللخبر محمل آخر لا يخفى فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي وافقنكم وانقدن لما أوجب اللّه تعالى عليهن من طاعتكم بذلك كما هو الظاهر فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن ، أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن ، فالبغي إما بمعنى الطلب ، وسَبِيلًا مفعوله والجار متعلق به ، أو صفة النكرة قدم عليها ، وإما بمعنى الظلم ، وسَبِيلًا منصوب بنزع الخافض ، وعن سفيان بن عيينة أن المراد فلا تكلفوهن المحبة ، وحاصل المعنى إذا استقام لكم ظاهرهن فلا تعتلوا عليهن بما في باطنهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه فإن قدرته سبحانه عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن ، أو أنه تعالى على علو شأنه وكمال ذاته يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم إذا تبتم فتجاوزوا أنتم عن سيئات أزواجكم واعفوا عنهن إذا تبن ، أو أنه تعالى قادر على الانتقام منكم غير راض بظلم أحد ، أو أنه سبحانه مع علوه المطلق وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن إلا ما يطقن وَإِنْ خِفْتُمْ الخطاب - كما قال ابن جبير والضحاك وغيرهما - للحكام ، وهو وارد على بناء الأمر على التقدير المسكوت عنه للإيذان أن ذلك مما ليس ينبغي أن يفرض تحققه أعني عدم الإطاعة ، وقيل : لأهل الزوجين أو للزوجين أنفسهما ، وروي ذلك عن السدي ، والمراد فإن علمتم - كما قال ابن عباس - أو فإن ظننتم - كما قيل - شِقاقَ بَيْنِهِما أي الزوجين ، وهما وإن لم يجر ذكرهما صريحا فقد جرى ضمنا لدلالة النشوز الذي هو عصيان المرأة زوجها ، والرجال والنساء عليهما ، والشقاق الخلاف والعداوة واشتقاقه من الشق وهو الجانب لأن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر ، و- بين - من الظروف المكانية التي يقل تصرفها ، وإضافة الشقاق إليها إما لإجراء الظرف مجرى المفعول كما في قوله : يا سارق
الليلة أهل الدار. أو الفاعل كقولهم صام نهاره ، والأصل - شقاقا بينهما - أي أن يخالف أحدهما الآخر ، فللملابسة بين الظرف والمظروف نزل منزلة الفاعل أو المفعول وشبه بأحدهما ثم عومل معاملته في الإضافة إليه ، وقيل : الإضافة بمعنى في وقيل : إن - بين - هنا بمعنى الوصل الكائن بين الزوجين أعني المعاشرة وهو ليس بظرف ، وإلى ذلك يشير كلام أبي البقاء ، ولم يرتض ذلك المحققون.
فَابْعَثُوا أي وجهوا وأرسلوا إلى الزوجين لإصلاح ذات البين حَكَماً أي رجلا عدلا عارفا فأحسن السياسة والنظر في حصول المصلحة مِنْ أَهْلِهِ أي الزوج ، و«من» إما متعلق - بابعثوا - فهو لابتداء الغاية ، وإما بمحذوف وقع صفة للنكرة فهي للتبعيض وَحَكَماً آخر على صفة الأول مِنْ أَهْلِها أي الزوجة ، وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كل من حب وبغض ، وإرادة صحبة ، أو فرقة وهذا على وجه الاستحباب ، وإن نصبا من الأجانب جاز ، واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك؟ فقيل : لهما - وهو المروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن جبير ، وبه قال الشعبي -
فقد أخرج الشافعي في الإمام والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني قال : «جاء رجل وامرأة إلى عليّ كرم اللّه تعالى وجهه مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم عليّ كرم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 27
اللّه تعالى وجهه أن يبعثوا رجلا وحكما من أهله ورجلا حكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت بكتاب اللّه تعالى بما عليّ فيه ولي ، وقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال عليّ كرم اللّه تعالى وجهه : كذبت واللّه حتى تقر بمثل الذي أقرت به ،
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية : وَإِنْ خِفْتُمْ إلخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر اللّه تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي ، وقيل : ليس لهما ذلك ، وروي ذلك عن الحسن.
فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه أنه قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه ، وأما الفرقة فليست بأيديهما ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، ونسب إلى الإمام الأعظم ، وأجيب عن فعل علي كرم اللّه تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف على الرضا حيث قال : للرجل كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابا عما روي عن ابن عباس ، ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم اللّه تعالى وجهه لم يثبت عندهم ، وعن الشافعي روايتان في المسألة ، وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه ، ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها ، والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك.
وقال ابن العربي في الأحكام : إنهما قاضيان لا وكيلان فإن الحكم اسم في الشرع له إِنْ يُرِيدا أي الحكمان إِصْلاحاً أي بين الزوجين وتأليفا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما فالضمير أيضا للحكمين ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ومجاهد والضاحك وابن جبير والسدي.
وجوز أن يكون الضميران للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع اللّه تعالى بينهما الألفة والوفاق ، وأن يكون الأول للحكمين ، والثاني للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه اللّه تعالى أوقع اللّه سبحانه بين الزوجين الألفة والمحبة وألقى في نفوسهما الموافقة والصحبة ، وأن يكون الأول للزوجين ، والثاني للحكمين أي إن يرد الزوجان إصلاحا واتفاقا يوفق اللّه تعالى شأنه بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ويتحرياه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً بالظواهر والبواطن فيعلم إرادة العباد ومصالحهم وسائر أحوالهم ، وقد استدل الحبر ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بهذه الآية على الخوارج في إنكارهم التحكيم في قصة علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وهو أحد أمور ثلاثة علقت في أذهانهم فأبطلها كلها رضي اللّه تعالى عنه فرجع إلى موالاة الأمير كرم اللّه تعالى وجهه منهم عشرون ألفا ، وفيها - كما قال ابن الفرس - رد على من أنكر من المالكية بعث الحكمين في الزوجين ، وقال : تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن معها أمين وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة ، وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية وتعليم المعاملة مع أصناف من الناس ، وقدم الأمر بما

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 28
يتعلق بحقوق اللّه تعالى لأنها المدار الأعظم ، وفي ذلك إيماء أيضا إلى ارتفاع شأن ما نظم في ذلك السلك ، والعبادة أقصى غاية الخضوع ، وشَيْئاً إما مفعول به أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما كان أو غيره ، فالتنوين للتعميم.
واختار عصام الدين كونه للتحقير ليكون فيه توبيخ عظيم - أي لا تشركوا به شيئا حقيرا مع عدم تناهي كبريائه إذ كل شيء في جنب عظمته سبحانه أحقر حقير - ونسبة الممكن إلى الواجب أبعد من نسبة المعدوم إلى الموجود إذ المعدوم إمكان الموجود ، وأين الإمكان من الوجوب؟ ضدان مفترقان أي تفرق ، وإما مصدر أي لا تشركوا به عز شأنه شيئا من الإشراك جليا أو خفيا ، وعطف النهي عن الإشراك على الأمر بالعبادة مع أن الكف عن الإشراك لازم للعبادة بذلك التفسير إذ لا يتصور غاية الخضوع لمن له شريك ضرورة أن الخضوع لمن لا شريك له فوق الخضوع لمن له شريك للنهي عن الإشراك فيما جعله الشرع علامة نهاية الخضوع ، أو للتوبيخ بغاية الجهل حيث لا يدركون هذا اللزوم كذا قيل : ولعل الأوضح أن يقال : إن هذا النهي إشارة إلى الأمر بالإخلاص فكأنه قيل : «واعبدوا اللّه مخلصين له».
ويؤول ذلك كما أومأ إليه الإمام إلى أنه سبحانه أمر أولا بما يشمل التوحيد وغيره من أعمال القلب والجوارح ثم أردفه بما يفهم منه التوحيد الذي لا يقبل اللّه تعالى عملا بدونه فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأحسنوا بهما إحسانا فالجار متعلق بالفعل المقدر ، وجوز تعلقه بالمصدر وقدم للاهتمام - وأحسن - يتعدى بالباء وإلى واللام ، وقيل : إنما يتعدى بالباء إذا تضمن معنى العطف.
والإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ، ولا يخشن في الكلام معهما ، ويسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهما. وَبِذِي الْقُرْبى أي بصاحب القرابة من أخ وعم وخال وأولاد كل ونحو ذلك ، وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرة قال في البحر : لأن هذا توصية لهذه الأمة فاعتنى به وأكد ، وذلك في بني إسرائيل.
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ من الأجانب وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى أي الذي قرب جواره وَالْجارِ الْجُنُبِ أي البعيد من الجنابة ضد القرابة ، وهي على هذا مكانية ، ويحتمل أن يراد - بالجار ذي القربى - من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين - وبالجار الجنب - الذي لا قرابة له ولو مشركا ،
أخرج أبو نعيم والبزار من حديث جابر بن عبد اللّه - وفيه ضعف - قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : حق الجوار ، وهو المشرك من أهل الكتاب» ،
وأخرج البخاري في الأدب عن عبد اللّه بن عمر أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
والظاهر أن مبنى الجوار على العرف ، وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال : أربعين دارا أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره ، وروي مثله عن الزهري ، وقيل : أربعين ذراعا ، ويبدأ بالأقرب فالأقرب ،
فعن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : قلت : يا رسول اللّه إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : إلى أقربهما منك بابا ،
وقرى ء - والجار ذا القربى - بالنصب أي وأخص الجار ، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار.
وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليحسن إلى جاره»
وفيما سمعه عبد اللّه كفاية ، وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هو الرفيق في السفر ، أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك ، وكلا القولين عن ابن عباس ، وقيل : الرفيق في أمر حسن - كتعلم وتصرف وصناعة وسفر - وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 29 صحبة التأمت بينك وبينه ، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم.
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم اللّه تعالى وجهه - الصاحب - بالجنب - المرأة ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الصاحب ، والعامل فيه الفعل المقدر وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر أو الضيف.
وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال مقاتل : من عبيدكم وإمائكم ، وكان كثيرا ما يوصي بهم صلّى اللّه عليه وسلّم
فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال : «كان عامة وصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه»
ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسبما يليق بكل وينبغي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلا ولا يلتفت إليهم فَخُوراً يعد مناقبه عليهم تطاولا وتعاظما ، والجملة تعليل للأمر السابق.
أخرج الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال : «كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقرأ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ إلخ فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما يبكيك؟ فقال : يا رسول اللّه إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال : فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس»
والأخبار في هذا الباب كثيرة.
[سورة النساء (4) : الآيات 37 إلى 43]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فيه أوجه من الإعراب : الأول أن يكون بدلا من من بدل كل من كل ، الثاني أن يكون صفة لها بناء على رأي من يجوز وقوع الموصول موصوفا ، والزجاج يقول به ، الثالث أن يكون نصبا على الذم ، الرابع أن يكون رفعا عليه ، الخامس أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ، السادس أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي مبغوضون ، أو أحقاء بكل ملامة ونحو ذلك - مما يؤخذ من السياق - وإنما حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب ، وتقديره بعد تمام الصلة أولى ، السابع أن يكون كما قال أبو البقاء : مبتدأ وَالَّذِينَ الآتي معطوفا عليه ، والخبر إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ على معنى لا يظلمهم ، وهو بعيد جدا.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 30
وفرق الطيبي بين كونه خبرا ومبتدأ بأنه على الأول متصل بما قبله لأن هذا من جنس أوصافهم التي عرفوا بها ، وعلى الثاني منقطع جيء به لبيان أحوالهم ، وذكر أن الوجه الاتصال وأطال الكلام عليه ، وفي البخل أربع لغات : فتح الخاء والباء - وبها قرأ حمزة والكسائي - وضمهما - وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر وفتح الباء وسكون الخاء - وبها قرأ قتادة - وضم الباء وسكون الخاء - وبها قرأ الجمهور - وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من المال والغنى ، أو من نعوته صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم.
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي أعددنا لهم ذلك ووضع المظهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم اللّه تعالى ، ومن كان كافرا لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإخفاء ، ويجوز حمل الكفر على ظاهره ، وذكر ضمير التعظيم للتهويل لأن عذاب العظيم عظيم ، وغضب الحليم وخيم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها ، وسبب نزول الآية ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون فأنزل اللّه تعالى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلى قوله سبحانه :
وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً ، وقيل : نزلت في الذين كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره ، أخرج عبد بن حميد وآخرون عن قتادة أنه قال في الآية : هم أعداء اللّه تعالى أهل الكتاب بخلوا بحق اللّه تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، والبخل على هذه الرواية ظاهر في البخل بالمال ، وبه صرح ابن جبير في إحدى الروايتين عنه ، وفي الرواية الأخرى أنه البخل بالعلم ، وأمرهم الناس أي اتباعهم به يحتمل أن يكون حقيقة ، ويحتمل أن يكون مجازا تنزيلا لهم منزلة الآمرين بذلك لعلمهم باتباعهم لهم وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ أي للفخار ، ولما يقال لا لوجه اللّه العظيم المتعال ، والموصول عطف على نظيره ، أو على الكافرين ، وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في الشناعة واستجلاب الذم ، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي قرينهم الشيطان كما يدل عليه الكلام الآتي.
ورِئاءَ مصدر منصوب على الحال من ضمير يُنْفِقُونَ وإضافته إلى النَّاسِ من إضافة المصدر لمفعوله أي مرائين الناس وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ القادر على الثواب والعقاب وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الذي يثاب فيه المطيع ويعاقب العاصي ليقصدوا بالإنفاق ما تورق به أغصانه ويجتنى منه ثمره وهم اليهود ، وروي ذلك عن مجاهد ، أو مشركو مكة ، أو المنافقون - كما قيل - وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ والمراد به إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة من قبيلته ، والناس التابعين له أو من القوى النفسانية والهوى وصحبة الأشرار ، أو من النفس والقوى الحيوانية وشياطين الإنس والجن لَهُ قَرِيناً أي صاحبا وخليلا في الدنيا فَساءَ فبئس الشيطان أو القرين.
قَرِيناً لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار - وساء - منقولة إلى باب - نعم ، وبئس - فهي ملحقة بالجامدة فلذا قرنت بالفاء ، ويحتمل أن تكون على بابها بتقدير «قد» كقوله سبحانه : وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل : 90] والغرض من هذه الجملة التنبيه على أن الشيطان قرينهم ، فحملهم على ذلك وزينه لهم ، وجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان يوم القيامة في النار فيتلاعنان ويتباغضان وتقوم لهم الحسرة على ساق وَماذا عَلَيْهِمْ أي ما الذي عليهم ، أو أي وبال وضرر يحيق بهم.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 31
لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا على من ذكر من الطوائف ابتغاء وجه اللّه تعالى - كما يشعر به السياق - ويفهمه الكلام مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ من الأموال ، وليس المراد السؤال عن الضرر المترتب على الإيمان والإنفاق في سبيل اللّه تعالى كما هو الظاهر إذ لا ضرر في ذلك ليسأل عنه بل المراد توبيخهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه ، وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك مما هو أجدى من تفاريق العصا ، وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطا ، فكيف إذا تدفقت منه المنافع؟! وهذا أسلوب بديع كثيرا ما استعملته العرب في كلامها ، ومن ذلك قول من قال :
ما كان ضرك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
وفي الكلام رد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثير أصلا في الفعل ، ألا ترى أن من قال للأعمى : ماذا عليك لو كنت بصيرا ، وللقصير ماذا عليك لو كنت طويلا؟ نسب إلى ما يكره.
واستدل به القائلون بجواز إيمان المقلد أيضا لأنه مشعر بأن الإيمان في غاية السهولة. ولو كان الاستدلال واجبا لكان في غاية الصعوبة ، وأجيب بعد تسليم الاشعار بأن الصعوبة في التفاصيل - وليست واجبة - وأما الدلائل على سبيل الإجمال فسهلة وهي الواجبة ، و«لو» إما على بابها والكلام محمول على المعنى أي - لو آمنوا لم يضرهم - وإما بمعنى أن المصدرية - كما قال أبو البقاء - وعلى الوجهين لا استئناف.
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وجوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه ، وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخر في الآية المتقدمة لأنه ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها ، وهنا للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم ، ولو قيل : أخر الإيمان هناك وقدم الإنفاق لأن ذلك الإنفاق كان بمعنى الإسراف الذي هو عديل البخل فأخر الإيمان لئلا يكون فاصلا بين العديلين لكان له وجه لا سيما إذا قلنا بالعطف. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم ، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم فيجازيهم به ، وقيل : فيه إشارة إلى إثابته تعالى إياهم لو كانوا آمنوا وأنفقوا ، ولا بأس بأن يراد - كان عليما بهم - وبأحوالهم المحققة والمفروضة فيعاقب على الأولى ويثيب على الثانية - كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى :
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ المثقال مفعال من الثقل ، ويطلق على المقدار المعلوم الذي لم يختلف كما قيل : جاهلية وإسلاما وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه أربعة وعشرون قيراطا ، وعلى مطلق المقدار - وهو المراد هنا - ولذا قال السدي : أي وزن ذرة - وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى.
وروي ذلك عن ابن عباس وابن زيد ، وعن الأول أنها رأس النملة ، وعنه أيضا أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة ، وقريب منه ما قيل : إنها جزء من أجزاء الهباء في الكوة ، وقيل : هي الخردلة ، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق عطاء عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قرأ - مثقال نملة - ولم يذكر سبحانه الذرة لقصر الحكم عليها بل لأنها أقل شيء مما يدخل في وهم البشر ، أو أكثر ما يستعمل عند الوصف بالقلة ، ولم يعبر سبحانه بالمقدار ونحوه بل عبر بالمثقال للإشارة بما يفهم منه من الثقل الذي يعبر به عن الكثرة ، والعظم كقوله تعالى : فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ [القارعة : 6] إلى أنه وإن كان حقيرا فهو باعتبار جزئه عظيم ، وانتصابه على أنه صفة مصدر محذوف كالمفعول ، أي ظلما قدر مثقال ذرة فحذف المصدر وصفته ، وأقيم المضاف إليه مقامهما ، أو مفعول ثان ليظلم أي لا يظلم أحدا أو لا يظلمهم مثقال ذرة.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 32
قال السمين : وكأنهم ضمنوا يظلم معنى يغصب ، أو ينقص فعدوه لاثنين.
وذكر الراغب أن الظلم عند أهل اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه ، وعليه ففي الكلام إشارة إلى أن نقص الثواب وزيادة العقاب لا يقعان منه تعالى أصلا ، وفي ذلك حث على الإيمان والإنفاق بل إرشاد إلى أن كل ما أمر به مما ينبغي أن يفعل وكل ما نهي عنه مما ينبغي أن يجتنب.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الظلم ممكن في حدّ ذاته إلا أنه تعالى لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة لأنه سبحانه مدح نفسه بتركه ولا مدح بترك القبيح ما لم يكن عن قدرة ، ألا ترى أن العنين لا يمدح بترك الزنا ، واعترض على ذلك بقوله تعالى : لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة : 255] فإنه ذكر في معرض المدح مع أن النوم غير ممكن عليه سبحانه ، قال في الكشف : وهو غير وارد لأنه مدح بانتفاء النقص عن ذاته المقدسة وهو كما تقول : الباري عز وعلا ليس بجسم ولا عرض ، وأمّا ما نحن فيه فمدح بترك الفعل والترك الممدوح إنما يكون إذا كان بالاختيار ، نعم للمانع أن لا يسلم أنه تعالى مدح بالترك بل من حيث الدلالة على النقص لأن وجوب الوجود ينافي جواز الاتصاف بالظلم ، وتحقيقه على مذهبهم أن وضع الشيء في غير موضعه الحقيق به ممكن في نفسه وقدرة الحق جل شأنه تسع جميع الممكنات ، لكن الحكمة - وهي الإتيان بالممكن على وجه الإحكام وعلى ما ينبغي - مانعة ، وعن هذا قالوا : الحكيم لا يفعل إلا الحسن من بين الممكنات إلا إذا دعته حاجة والمنزه عن الحاجات جمع يتعالى عن فعل القبيح ، ونحن نقول : إنه عز اسمه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أيضا بناء على وعده المحتوم ، فإن الحلف فيه ممتنع لكونه نقصا منافيا للألوهية وكمال الغنى ، وبهذا الاعتبار يصح أن يسمى ظلما ، وإن كان لا يتصور حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق ، فالزيادة والنقص ممكنان لذاتهما ، والخلف ممتنع لذاته ، ولا يلزم من كون الخلف ممتنعا لذاته بالنسبة إلى الواجب تعالى وتقدس أن يكون متعلقه كذلك ، وهذا على نحو ما تقرر في مسألة التكليف بالممتنع أن أخبار اللّه تعالى عن عدم إيمان المصر ووجوب الصدق اللازم له لا يخرج الفعل عن كونه مقدور المكلف بل يحقق قدرته عليه فليحفظ فإنه مهم.
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً الضمير المستتر في الفعل الناقص عائد إلى المثقال ، وإنما أنث حملا على المعنى لأنه بمعنى وإن تكن زنة ذرة حسنة ، وقيل : لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو كما شرقت صدر القناة من الدم. أو صفة له نحو لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها [الأنعام : 158] في قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية ومقدار الشيء صفة له كما أن الإيمان صفة للنفس ، وقيل : أنث الضمير لتأنيث الخبر ، واعترض بأن تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ ، فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور ، وأجيب بأن ذلك إذا كان مقصودا وصفيته ، والحسنة غلبت عليها الاسمية فألحقت بالجوامد التي لا تراعى فيها المطابقة نحو - الكلام هو الجملة - وقيل :
الضمير عائد إلى المضاف إليه وهو مؤنث بلا خفاء ، وحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون وكونها من حروف الزوائد ، وكان القياس عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذف النون إلا أنهم خالفوا القياس في ذلك أيضا حرصا على التخفيف فيما كثر دوره ، وقد أجاز يونس حذف النون من هذا الفعل أيضا في مثل قوله.
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
وسيبويه يدعي أن ذلك ضرورة ، وقرأ ابن كثير «حسنة» بالرفع على أن تَكُ تامة أي وإن توجد أو تقع حَسَنَةً يُضاعِفْها أضعافا كثيرة حتى يوصلها - كما مر عن أبي هريرة - إلى ألفي ألف حسنة ، وعنى التكثير لا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 33
التحديد ، والمراد يضاعف ثوابها لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مثلا مما لا يعقل ، وإن ذهب إليه بعض المحققين ، وما
في الحديث - من أن تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل -
محمول على هذا للقطع بأنها أكلت ، واحتمال إعادة المعدوم بعيد ، وكذا كتابة ثوابها مضاعفا ، وهذه المضاعفة ليست هي المضاعفة في المدة عند الإمام لأنها غير متناهية ، وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى ضعفه بحسب المقدار ، مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءا أو ثلاثين أو أزيد ، وقيل : هي المضاعفة بحسب المدة على معنى أنه سبحانه لا يقطع ثواب الحسنة في المدد الغير المتناهية لا أنه يضاعف جل شأنه مدتها ليجيء حديث محالية تضعيف ما لا نهاية ، وجعل قوله تعالى : وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً على هذا عطفا لبيان الأجر المتفضل به ، وهو الزيادة في المقدار إثر بيان الأجر المستحق وهو إعطاء مثله واحدا بعد واحد إلى أبد الدهر ، وتسمية ذلك أجرا من مجاز المجاورة لأنه تابع للأجر مزيد عليه ، وعلى الأول جعله البعض واردا على طريقة عطف التفسير على معنى يضاعف ثواب تلك الحسنة بإعطاء الزائد عليه من فضله ، وزعموا أن القول بالأجر المستحق مذهب المعتزلة ولا يتأتى على مذهب الجماعة - وليس بشي ء - لأن الجماعة يقولون بالاستحقاق أيضا لكن بمقتضى الوعد الذي لا يخلف ، وبه يكون الأجر الموعود به كأنه حق للعبد كما أنه يكون كذلك أيضا بمقتضى الكرم كما قيل : وعد الكريم دين ، نعم حمل الأجر على ما ذكر لا يخلو عن بعد ، والداعي إليه عدم التكرار ، وقال الإمام أيضا : إن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة ، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية والاستغراق في المحبة والمعرفة.
وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية ، وهذا الأجر إشارة إلى السعادات الروحانية ، ولا يخلو عن حسن ، و- لدن - بمعنى عند ، وفرق بينهما بعضهم بأن لدن أقوى في الدلالة على القرب ولذا لا يقال : لدي مال إلا وهو حاضر بخلاف عند ، وتقول : هذا القول عندي صواب ، ولا تقول : لدي. ولدني - كما قاله الزجاج - ونظر فيه بأنه شاع استعمال لدن في غير المكان كقوله تعالى : مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف : 65]. اللهم إلا أن يخرج ما قاله الزجاج مخرج الغالب ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير - يضعفها - بتضعيف العين وتشديدها ، والمختار عند أهل اللغة والفارسي أنهما بمعنى ، وقال أبو عبيدة : ضاعف يقتضي مرارا كثيرا ، وضعف يقتضي مرتين ، ورد بأنه عكس اللغة لأن المضاعفة تقتضي زيادة الثواب فإذا شددت دلت البنية على التكثير فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة ، وقد تقدم من الكلام ما ينفعك فتذكر.
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ الفاء فصيحة ، وكيف محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، وإما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال - كما هو رأي سيبويه - أو على التشبيه بالظرف كما هو رأي الأخفش - والعامل بالظرف مضمون الجملة من التهويل والتفخيم المستفاد من الاستفهام ، أو الفعل المصدر كما قرره صاحب الدر المصون ، والجار متعلق بما عنده أي إذا كان كل قليل وكثير يجازى عليه ، فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم ، أو كيف يصنعون ، أو كيف يكون حالهم إذا جئنا يوم القيامة من كل أمة من الأمم وطائفة من الطوائف بشهيد يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال - وهو نبيهم؟؟؟
وَجِئْنا بِكَ يا خاتم الأنبياء عَلى هؤُلاءِ إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر شَهِيداً تشهد على صدقهم لعلمك بما أرسلوا واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأوصلوا ، وقيل : إلى المكذبين المستفهم عن حالهم يشهد عليهم بالكفر والعصيان تقوية لشهادة أنبيائهم عليهم السلام ، أو كما يشهدون على أممهم ، وقيل : إلى المؤمنين

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 34
لقوله تعالى : لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة : 143] ومتى أقحم المشهود عليه في الكلام وأدخلت «على» عليه لا يحتاج لتضمين الشهادة معنى التسجيل ،
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من طرق عن ابن مسعود قال : قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «اقرأ عليّ قلت : يا رسول اللّه اقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال : نعم إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ إلخ فقال : حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان»
فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة ، فماذا لعمري يصنع المشهود عليه؟! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه.
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ استئناف لبيان حالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها ، وتنوين إذ عوض - على الصحيح - عن الجملتين السابقتين ، وقيل : عن الأولى ، وقيل : عن الأخيرة ، والظرف متعلق - بيود - وجعله متعلقا بشهيد ، وجملة (يود) صفة ، والعائد محذوف أي فيه بعيد ، والمراد بالموصول إما المكذبون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، والتعبير عنهم بذلك لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل ، وإيراده صلّى اللّه عليه وسلّم بعنوان الرسالة لتشريفه وزيادة تقبيح حال مكذبيه ، وإما جنس الكفرة ويدخل أولئك في زمرتهم دخولا أوليا.
والمراد من الرَّسُولَ الجنس أيضا ويزيد شرفه انتظامه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم انتظاما أوليا ، وعَصَوُا معطوف على كَفَرُوا داخل معه في حيز الصلة والمراد عصيانهم بما سوى الكفر ، فيدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة ، وقال أبو البقاء : إنه في موضع الحال من ضمير كَفَرُوا وقد مرادة ، وقيل : صلة لموصول آخر أي والذين عصوا ، فالإخبار عن نوعين : الكفرة والعصاة ، وهو ظاهر على رأي من يجوز إضمار الموصول كالفراء ، وفي المسألة خلاف أي يود في ذلك اليوم لمزيد شدّته ومضاعف هوله الموصوفون بما ذكر في الدنيا.
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ إما مفعول يَوَدُّ على أن لَوْ مصدرية أي يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض ملتبسة بهم ، أو تسوى عليهم كالموتى ، وقيل : يودون أنهم بقوا ترابا على أصلهم من غير خلق ، وتمنوا أنهم كانوا هم والأرض سواء ، وقيل : تصير البهائم ترابا فيودون حالها.
وعن ابن عباس أن المعنى يودون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطؤونهم بأقدامهم كما يطؤون الأرض ، وقيل :
يودون لو يعدل بهم الأرض أي يؤخذ منهم ما عليها فدية ، وإما مستأنفة على أن لَوْ على بابها ومفعول يَوَدُّ محذوف لدلالة الجملة ، وكذا جواب لَوْ إيذانا بغاية ظهوره أي يودون تسوية الأرض بهم لَوْ تُسَوَّى لسروا.
وقرأ نافع وابن عامر ويزيد تُسَوَّى على أن أصله تتسوى ، فأدغم التاء في السين لقربها منها ، وحمزة والكسائي تُسَوَّى بحذف التاء الثانية مع الإمالة يقال : سويته فتسوى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً عطف على يَوَدُّ أي أنهم يومئذ لا يكتمون من اللّه تعالى حديثا لعدم قدرتهم على الكتمان حيث إن جوارحهم تشهد عليهم بما صنعوا ، أو أنهم لا يكتمون شيئا من أعمالهم بل يعترفون بها فيدخلون النار باعترافهم ، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنهم لا ينفعهم الكتمان ، وإنما يقولون : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام : 23] في بعض المواطن قاله الحسن ، وقيل : الواو للحال أي يودون أن يدفنوا في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ إذ روى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إذا قالوا ذلك ختم اللّه على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وجعلها للعطف وما بعدها معطوف على تُسَوَّى على معنى - يودون لو تسوى بهم الأرض وأنهم لا يكونون كتموا أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبعثه في الدنيا - كما روي عن عطاء بعيد جدا.
وأقرب منه العطف على مفعول يَوَدُّ على معنى يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء كتمانهم إذ قالوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 35
هذا «ومن باب الإشارة» يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم ، وأشار بهم إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين ، ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه ، ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال. والهداية إلى توحيد الصفات. والتوبة إلى توحيد الذات وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمراتب استعدادكم حَكِيمٌ ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم واللّه يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به لأنه غاية المراتب وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة أَنْ تَمِيلُوا إلى السوي مَيْلًا عَظِيماً لتكونوا مثلهم يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ أثقال العبودية في مقام المشاهدة ، أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي ، أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة ، ولا يصبر عن مطلوبه ساعة لكمال شوقه ومزيد غرامه.
والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم
وكان الشبلي قدس سره يقول : إلهي لا معك قرار ولا منك فرار المستغاث بك إليك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي لا تَأْكُلُوا أي تذهبوا أَمْوالَكُمْ وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أي إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ واستحسان ألقي من عالم الإلهام إليكم فإن ذلك مباح لكم وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بالغفلة عنها فإن من غفل عنها فقد غفل عن ربه ومن غفل عن ربه فقد هلك ، أو لا تقتلوا أنفسكم أي أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات ويحجب عنها أنوار المكاشفات إِنَّ اللَّهَ كانَ في أزل الآزال بِكُمْ رَحِيماً فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وهي عند العارفين رؤية العبودية في مشهد الربوبية وطلب الأعواض في الخدمة وميل النفس إلى السوي من العرش إلى الثرى ، والسكون في مقام الكرامات ، ودعوى المقامات السامية قبل الوصول إليها.
وأكبر الكبائر إثبات وجود غير وجود اللّه تعالى نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي نمح عنكم تلوناتكم بظهور نور التوحيد وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وهي حضرة عين الجمع وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الكمالات التابعة للاستعدادات فإن حصول كمال شخص لآخر محال إذا لم يكن مستعدا له ، ولهذا عبر بالتمني للرجال وهم الأفراد الواصلون نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا بنور استعدادهم وَلِلنِّساءِ وهم الناقصون القاصرون نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ حسب استعدادهم وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ بأن يفيض عليكم ما تقتضيه قابلياتكم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاستعداد فيعطيكم ما يليق بكم وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب من الاستعداد يرثون به مما تركه والداهم - وهما الروح والقلب - والأقربون - وهم القوى الروحانية - وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وهم المريدون فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الفيض على قدر نصيبهم من الاستعداد إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً إذ كل شيء مظهر لاسم من أسمائه الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي الكاملون شأنهم القيام بتدبير الناقصين والإنفاق عليهم من فيوضاتهم بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بالاستعداد وَبِما أَنْفَقُوا في سبيل اللّه تعالى وطريق الوصول إليه مِنْ أَمْوالِهِمْ أي قواهم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 36
أو معارفهم فَالصَّالِحاتُ للسلوك من النساء بالمعنى السابق قانِتاتٌ مطيعات للّه تعالى بالعبادات القالبية حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي القلب عن دنس الأخلاق الذميمة ، ولعله إشارة إلى العبادات القلبية بِما حَفِظَ اللَّهُ لهم من الاستعداد وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ترفعهن عن الانقياد إلى ما ينفعهن فَعِظُوهُنَّ بذكر أحوال الصالحين ومقاماتهم فإن النفس تميل إلى ما يمدح لها غالبا وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي امنعوا دخول أنوار فيوضاتكم إلى حجرات قلوبهن ليستوحشن فربما يرجعن عن ذلك الترفع وَاضْرِبُوهُنَّ بعصا القهر إن لم ينجع ما تقدم فيهن فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بعد ذلك ورجعن عن الترفع والأنانية فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بتكليفهن فوق طاقتهن وخلاف مقتضى استعدادهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ومع هذا لم يكلف أحدا فوق طاقته وخلاف مقتضى استعداده وَإِنْ خِفْتُمْ أيها المرشدون الكمل شِقاقَ بَيْنِهِما أي بين الشيخ والمريد فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها فابعثوا متوسطين من المشايخ والسالكين إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً ويقصداه يُوَفِّقِ اللَّهُ تعالى بَيْنِهِما وهمة الرجال تقلع الجبال.
ويمكن أن يكون الرجال إشارة إلى العقول الكاملة والنساء إشارة إلى النفوس الناقصة ، ولا شك أن العقل هو القائم بتدبير النفس وإرشادها إلى ما يصلحها ، ويراد من الحكمين حينئذ ما يتوسط بين العقل والنفس من القوى الروحانية وَاعْبُدُوا اللَّهَ بالتوجه إليه والفناء فيه وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً مما تحسبونه شيئا وليس بشيء إذ لا وجود حقيقة لغيره سبحانه وَبِالْوالِدَيْنِ الروح والنفس اللذين تولد بينهما القلب أحسنوا إِحْساناً فاستفيضوا من الأول وتوجهوا بالتسليم إليه وزكوا الثاني وطهروا برديه وَبِذِي الْقُرْبى وهم من يناسبكم بالاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية وَالْيَتامى المستعدين المنقطعين عن نور الأب وهو الروح بالاحتجاب وَالْمَساكِينِ العاملين الذين لا حظ لهم من المعارف ولذا سكنوا عن السير وهم الناسكون وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى القريب من مقامك في السلوك وَالْجارِ الْجُنُبِ البعيد مقامه عن مقامك وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ الذي هو في عين مقامك وَابْنِ السَّبِيلِ أي السالك المتغرب عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام بعد وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من المنتمين إليكم بالمحبة والإرادة ، وقيل : الوالدين إشارة إلى المشايخ وإحسان المريد إليهم إطاعتهم والانقياد إليهم وامتثال أوامرهم فإنهم أطباء القلوب وهم أعرف بالداء والدواء ولا يداوون إلا بما يرضي اللّه تعالى وإن خفي على المريد وجهه.
ومن هنا قال الجنيد قدس سره : أمرني ربي أمرا وأمرني السري أمرا فقدمت أمر السري على أمر ربي وكل ما وجدت فهو من بركاته ، وأول الْجارِ ذِي الْقُرْبى بالروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية التي خرجت من العدم بتجلي القدم وانقدحت من نور الأزل وهي أقرب كل شيء وهي جار اللّه تعالى المصبوغة بنوره والإحسان إليها أن تطلقها من فتنة الطبيعة وتقدس مسكنها من حظوظ البشرية لتطير بجناح المعرفة والشوق إلى عالم المشاهدة وَالْجارِ الْجُنُبِ بالصورة الحاملة للروح والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من رضع ضرع الشهوات وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وهو القلب الذي يصحبك في سفر الغيب والإحسان إليه أن تفرده من الحدثان وتشوقه إلى جمال الرحمن ، وقيل : هو النفس الأمارة ، وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»
والإحسان إليها أن تحبسها في سجن العبودية وتحرقها بنيران المحبة ، وأول ابْنِ السَّبِيلِ بالولي الكامل فإنه لم يزل ينتقل من نور الأفعال إلى نور الصفات ومن نور الصفات إلى نور الذات والإحسان إليه كتم سره وعدم الخروج عن دائرة أمره ، وقال بعض العارفين :
وإن شئت أولت ذا القربى بما يتصل بالشخص من المجردات وَالْيَتامى بالقوى الروحانية ، وَالْمَساكِينِ بالقوى النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى بالعقل وَالْجارِ الْجُنُبِ بالوهم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 37
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ بالشوق والإرادة وَابْنِ السَّبِيلِ بالفكر والمماليك بالملكات المكتسبة التي هي مصادر الأفعال الجميلة ، وباب التأويل واسع جدا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا يسعى بالسلوك في نفسه فَخُوراً بأحواله ومقاماته محتجبا برؤيتها الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على أنفسهم وعلى المستحقين فلا يعملون بعلومهم ولا يعلمونها وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ قالا أو حالا وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فلا يشكرون نعمة اللّه ، أو يكتمون ما أوتوا من المعارف في كتم الاستعداد وظلمة القوة حتى كأنها معدومة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ للحق الساترين أنوار الوحدة بظلمة الكثرة عَذاباً مُهِيناً يهينهم في ذل وجودهم وشين صفاتهم وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ أي يبرزون كمالاتهم رِئاءَ النَّاسِ مرائين الناس بأنها لهم وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الإيمان الحقيقي ليعلموا أن لا كمال إلا له وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي الفناء فيه سبحانه ليبرزوا للّه الواحد القهار وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ النفس وقواها لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً لأنه يضله عن الحق كهؤلاء وَماذا عَلَيْهِمْ ما كان يضرهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فصدقوا بالتوحيد والفناء فيه وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ولم يروا كمالا لأنفسهم وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً فيجازيهم بالبقاء بعد الفناء إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مقدار ما يظهر من الهباء وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً ولا تكون كذلك إلا إذا كانت له فإن كانت له يُضاعِفْها بالتأييد الحقاني وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وهو الشهود الذاتي ، أو العلم اللدني فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وهو ما يحضر كل أحد ويظهر له بصورة معتقدة فيكشف عن حاله وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ وهم المحمديون شَهِيداً ومن لوازم الإتيان بالحقيقة المحمدية شهيدا للمحمديين معرفتهم للّه تعالى عند التحول في جميع الصور فليس شهيدهم في الحقيقة إلا الحق سبحانه يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالاحتجاب وَعَصَوُا الرَّسُولَ بعدم المتابعة لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ لتنطمس نفوسهم أو تصير ساذجة لا نقش فيها من العقائد الفاسدة والرذائل الموبقة وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً أي لا يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش وهيهات أنى يخفون شيئا منها ، وقد صارت الجبال كالعهن المنفوش.
سهم أصاب وراميه بذي سلم من بالعراق لقد أبعدت مرماك
واللّه تعالى يتولى الحق وهو يهدي السبيل.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إرشاد لإخلاص الصلاة التي هي رأس العبادة من شوائب الكدر ليجمعوا بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم وبين الخلق المبينة فيما تقدم وبهذا يحصل الربط ، ويجوز أن يقال : لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا هاهنا عما يؤدي إليه من حيث لا يحتسبون ،
فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن عليّ كرم اللّه تعالى وجهه قال : «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف رضي اللّه تعالى عنه طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت».
وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي كرم اللّه تعالى وجهه «أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن وكانت الصلاة صلاة المغرب وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة ،
والخطاب للصحابة وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه اعتناء بشأن الحكم ، والمراد بالصلاة عند الكثير الهيئة المخصوصة ، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة ، وبالسكر الحالة المقررة التي تحصل لشارب الخمر ، ومادته تدل على الانسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت ، والمعنى لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه قبلها إذ بذلك يظهر أنكم ستعلمون ما ستقرؤونه فيها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى - لا تقربوا الصلاة وأنتم نشاوى من الشراب حتى تعلموا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 38
ما تقرءونه في صلاتكم - ولعل مراده حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقرءونه وإلا فهو يستدعي تقدم الشروع في الصلاة على غاية النهي ، وإذا أريد ذلك رجع إلى ما تقدم ولكن فيه تطويل بلا طائل على أن إيثار ما تَقُولُونَ على ما تقرءون حينئذ يكون عاريا عن الداعي ، وروي عن ابن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد من الصلاة مواضعها فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينة قوله تعالى فيما يأتي : إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ فإنه يدل عليه بحسب الظاهر ، فالآية مسوقة عن نهي قربان السكران المسجد تعظيما له ، وفي الخبر «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم»
ويأباه ظاهر قوله تعالى : حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وروي عن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة وعلى مواضعها مراعاة للقولين ، وفي الكلام حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن لا نقول به ، وروي عن جعفر رضي اللّه تعالى عنه والضحاك - وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - أن المراد من السكر سكر النعاس وغلبة النوم ، وأيد بما
أخرجه البخاري عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول» وروي مثله عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها
- وفيه بعد - وأبعد منه حمله على سكر الخمر وسكر النوم لما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو عموم المجاز مع عدم القرينة الواضحة على ذلك ، وأيّا ما كان فليس مرجع النهي هو المقيد مع بقاء القيد مرخصا بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله لأن القيد مصب النفي والنهي في كلامهم ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه ، نعم لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أن مرجعه إلى هذا.
والحاصل كما قال الشهاب : إنه مكلف بها في كل حال ، وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه ولذا وقع طلاقه ونحوه ، ولو لم يكن مأمورا بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها - وقد نص عليه الجصاص في الأحكام - وفصله انتهى ، وزعم بعضهم أن النهي عن الصلاة نفسها لكن المراد بها الصلاة جماعة مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تعظيما له عليه الصلاة والسلام وتوقيرا ، ولا يخفى أنه مما لا يدل عليه نقل ولا عقل ويأباه الظاهر وسبب النزول ، وقد روي أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ، وقرىء «سكارى» بفتح السين جمع سكران كندمان وندامى.
وقرأ الأعمش «سكرى» بضم السين على أنه صفة - كحبلى - وقع صفة لجماعة أي وأنتم جماعة سكرى ، والنخعي «سكرى» بالفتح ، وهو إما صفة مفردة جماعة كما في الضم ، وإما جمع تكسير كجرحى ، وإنما جمع سكران عليه لما فيه من الآفة اللاحقة للعقل ، والصيغة على قراءة الجمهور جمع تكسير عند سيبويه ، واسم جمع عند غيره لأنه ليس من أبنية الجمع ، ورجح الأول وَلا جُنُباً عطف على قوله تعالى : وَأَنْتُمْ سُكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا - قاله غير واحد - وقال الشهاب نقلا عن البحر : إن هذا حكم الاعراب ، وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكارى وجاؤوا وهم سكارى إذ معنى الأول جاؤوا كذلك ، والثاني جاؤوا وهم كذلك باستئناف الإثبات - ذكره عبد القاهر - ويعني بالاستئناف أنه مقرر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرره في نفسه ، ويجوز تقدمه واستمراره. ولذا قال السبكي في الأشباه : لو قال : للّه تعالى عليّ أن أعتكف صائما لا بد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه الاعتكاف بصوم رمضان ، ولو قال : وأنا صائم أجزأه ، ولعل وجه الفرق أن الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة ، وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون وقد لا يكون نحو - جاء زيد وقد طلعت الشمس - والحال المفردة صفة معنى فإذا قال : للّه تعالى عليّ أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم ولم ينذر صوما فيصح في رمضان ، ولو قال : صائما نذر صومه فلا يصح فيه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 39
وهذه المسألة نقلها الأسنوي في التمهيد ولم يبين وجهها ، ولم نر لأئمتنا فيها كلاما انتهى كلامه.
ولم يبين رحمه اللّه تعالى السر في مخالفة هذين الحالين على وجه يتضح به ما ذكره في المسألة ، وبين العلامة الطيبي فائدتها غير أنه لم يتعرض لهذا الفرق فقال : فائدتها - والعلم عند اللّه تعالى - الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر مناف لحال المسلمين ، ومن يناجي الحضرة الصمدانية دل عليه الخطاب بأنتم ولهذا قرنه بقوله سبحانه :
حَتَّى تَعْلَمُوا إلخ ، والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب ، ومن ثمّ رخص لهم بالأعذار فتأمل جدا ، - والجنب - من أصابته الجنابة يستوي فيه على اللغة الفصيحة المذكر والمؤنث. والواحد والتثنية والجمع لجريانه مجرى المصدر وإن لم يكنه - كما قاله بعض المحققين - ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول جنبان وأجناب وجنوب ، واشتقاقه كما قال أبو البقاء : من المجانبة وهي المباعدة إِلَّا عابِرِي أي مجتازي سَبِيلٍ أي طريق ، والمراد إلا مسافرين وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير لا تَقْرَبُوا باعتبار تقييده بالحال الثانية دون الأولى ، والعامل فيه معنى النهي أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أنه في حالة السفر ينتهي حكم النهي لكن لا بطريق شمول النفي لجميع صورها بل بطريق نفي الشمول في الجملة من غير دلالة على انتفاء خصوصية البعض المنتفي ولا على بقاء خصوصية البعض الباقي ولا ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة ، نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها في المقامات الخطابية لا في إثبات الأحكام الشرعية ، فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل ، وقد ورد عقيبه على طريق البيان ، قاله المولى شيخ الإسلام ، وقيل : هو صفة لجنبا على أن إِلَّا بمعنى غير ، واعترض بأن مثل هذا إنما يصح عند تعذر الاستثناء ولا تعذر هنا لعموم النكرة بالنفي ، وأجيب بأن هذا الشرط في التوصيف ذكره ابن الحاجب ، وقد خالفه فيه النحاة ، ورجح بعضهم الوصفية بناء على أن الكلام على تقدير الاستثناء يفيد الحصر ولا حصر لورود المريض إشكالا عليه بخلافه على تقدير الوصفية ، وادعى البعض إفادة الكلام له مطلقا وأن المريض يرد إشكالا إلا أن يؤول - كما ستعرفه - ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد ، - وبه قال الشافعي رحمه اللّه تعالى - والمشهور عندنا منع الجنب المسجد مطلقا ، ورخص علي كرم اللّه تعالى وجهه كما في خبر الترمذي عن أبي سعيد بناء على ما فسره ضرار بن صرد حين سأله عن معناه علي بن المنذر ، وكونه كرم اللّه تعالى وجهه رخص ثم منع لم يثبت عندي ، وإن نقله البعض ، ونقل الجصاص في الأحكام أنه لا يجوز الدخول إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه ، وعن الليث أن الجنب لا يمرّ فيه إلا أن يكون بابه في المسجد ، فقد روي أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا فيه فرخص لهم في ذلك حَتَّى تَغْتَسِلُوا غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة ، ولعل تقديم الاستثناء عليه - كما قال شيخ الإسلام - للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه السورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزيادة تقربه في الأذهان ، وقيل : لما لم يكن لقوله سبحانه : حَتَّى تَغْتَسِلُوا مدخل في المقصود إذ المقصود إنما هو صحة الصلاة جنبا أخره وقدم الاستثناء عليه ، وكان الظاهر عدم ذكره لذلك إلا أنه ذكره تنبيها على أن الجنابة إنما ترتفع بالاغتسال ، وفي الآية الكريمة رمز إلى أنه ينبغي للمصلي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، وأن يزكي نفسه عما يدنسها لأنه إذا وجب تطهير البدن فتطهير القلب أولى أو لأنه إذا صين موضع الصلاة عمن به حدث فلأن يصان القلب الذي هو عرض الرحمن عن خاطر غير طاهر ظاهر الأولوية وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تفصيل لما أجمل في الاستثناء وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار ، والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 40
للإشعار بأنه العذر الغالب المبني على الضرورة الذي «1» يدور عليها أمر الرخصة ، ولهذا قيل : المراد بغير عابِرِي سَبِيلٍ غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته.
وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر - وإنما لم يقل : إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء حسا أو حكما - لما أن ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل ، ومعرفة تفاضل العقول والأفهام ، والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله ، وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال : المريض الذي قد أرخص له في التيمم الكسير والجريح فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها ، وأخرج البيهقي في المعرفة عن ابن عباس يرفعه «إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل اللّه تعالى أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم» والذي تقرر في الفروع : أن المريض الذي يخاف إذا استعمل الماء أن يشتد مرضه يتيمم ، ولا فرق بين أن يشتدمرضه بالتحرك - كالمبطون - أو بالاستعمال - كمن به حصبة أو جدري - ولم يشترط أصحابنا خوف التلف لظاهر النص وهو بإطلاقه يبيح التيمم لكل مريض إلا أن في بعض الآيات ما أخرج من لا يشتد مرضه ، وتفصيل ذلك في كتب الفقه. أَوْ عَلى سَفَرٍ عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر ، ولعل اختيار هذا على نحو مسافرين لأنه أوضح في المقصود منه ، وفي الهداية : ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر ميل أو أكثر يتيمم ، والظاهر أن حكم من هو خارج المصر غير مسافر كما يقتضيه العطف معلوم بالقياس لا بالنص وإيراد المسافر صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته.
فإن الاستثناء - كما أشار إليه شيخ الإسلام - بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته ، وقيل : ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال ، وهذه الشرطية ظاهرة على رأي من حمل الصلاة على مواضعها ، وفسر العبور بالاجتياز بها إذ ليس فيها حينئذ ما يتوهم منه شائبة التكرار بل هي عنده بيان حكم آخر لم يذكر قبل ، وأيد بأن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله سبحانه : حَتَّى تَغْتَسِلُوا ويبتدئون بقوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ إلخ بل التعبير بالقرب يومىء إلى حمل الصلاة على ذلك لأن حقيقة القرب والبعد في المكان وكذا التعبير ب عابِرِي سَبِيلٍ هناك ، وب عَلى سَفَرٍ هنا فيه إيماء إلى الفرق بين ما هنا وما هناك إلا أن الكثير على خلافه. وإنما قدم المرض على السفر للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره ، وقيل : لأنه سبب النزول ،
فقد أخرج ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال : «نال أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية كلها»
وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث
رووا أن نزولها في غزوة المريسيع «حين عرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة فسقطت عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قلادة لأسماء فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فبعث رجلين في طلبها فنزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي اللّه تعالى عنها ، وقال حبست رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمين على غير ماء فنزلت فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر - وفي رواية - يرحمك اللّه تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل اللّه تعالى فيه للمسلمين فرجا»
وهذا يدل على أن سبب النزول كان فقد الماء في السفر وهو ظاهر أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ هو المكان المنخفض ، وجاء الغيط بفتح الغين وسكون الياء ، وبه قرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى
___________
(1) قوله «الذي» كذا بخطه ، ولعله «التي» ا ه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 41
عنه - وهو في رأي - مصدر يغوط ، وكان القياس غوطا فقلبت الواو ياء وسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها ، ولعل الأولى ما قيل : إنه تخفيف غيط كهين وهين ، والغيط الغائط ، والمجيء منه كناية عن الحدث لأن العادة أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.
وفي ذكر أَحَدٌ فيه دون غيره إيماء إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه ، وقيل : إنما ذكر وأسند المجيء إليه دون المخاطبين تفاديا عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحى منه أو يستهجن التصريح به والفعل عطف على كُنْتُمْ ، والجار الأول متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله ، والثاني متعلق بالفعل أي وإن جاء أَحَدٌ كائن مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يريد سبحانه أو جامعتم النساء إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحى منه ، وإلى ذلك ذهب علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما والحسن فيكون إشارة إلى الحدث الأكبر كما أن الأول إشارة إلى الحدث الأصغر.
وعن ابن مسعود والنخعي والشعبي أن المراد بالملامسة ما دون الجماع أي ماسستم بشرتهن ببشرتكم ، وبه استدل الشافعي رضي اللّه تعالى عنه على أن اللمس ينقض الوضوء ، وبه قال الزهري والأوزاعي ، وقال مالك والليث بن سعد وأحمد في إحدى الروايات عنه : إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا ، وذهب أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة ، قيل : ما لم يحدث الانتشار ، واختلف قول الشافعي رضي اللّه تعالى عنه في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت ، وفي لمس الأجنبية الصغيرة وأصح القولين : إنه لا ينقض كلمس نحو السن والظفر والشعر وينتقض عنده وضوء الملموسة كاللامس في الأظهر لاشتراكهما في مظنة اللذة كالمشتركين في الجماع ، وإنما لم ينتقض وضوء الملموس فرجه على مذهبه لأنه لم يوجد منه مس لمظنة لذة أصلا بخلافه هنا ، ودليل القول بعدم نقض وضوء الملموس حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها وضعت يدها على قدميه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو ساجد ، ووجه استدلاله بما في الآية على ما استدل عليه أن الحمل على الحقيقة هو الراجح لا سيما في قراءة حمزة والكسائي - أو لمستم - إذ لم يشتهر اللمس في الجماع كالملامسة ، ورجح بعضهم الحمل على الجماع في القراءتين ترجيحا للمجاز المشهور وعملا بهما إذ لا منافاة وهو الأوفق بمذهبنا ، وقال بعض المحققين : إن المتجه أن الملامسة حقيقة في تماس البدنين بشيء من أجزائهما من غير تقييد باليد ، وعلى هذا فالجماع من أفراد مسمى الحقيقة فيتناوله اللفظ حقيقة ، وإنما يكون مجازا لو اقتصر على إرادته باللفظ ، وادعى الجلال المحلي أن الملامسة حقيقة في الجس باليد مجاز في الوطء ، وأن الشافعي رحمه اللّه تعالى حملها على المعنيين جمعا بين الحقيقة والمجاز وظاهر عبارة الأم أن الشافعي لم يحمل الملامسة على الوطء بل على ما عداه من أنواع التقاء البشرتين ، وأنه إنما ذكر الجس باليد
تمثيلا للملامسة بنوع من أنواعها لا تفسيرا لها بذكر كمال معناها الحقيقي كما بينه الكمال ابن أبي شريف فليفهم ، ثم إن نظم هذين الأمرين في سلك سببي سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببي وجوبهما ليس باعتبار أنفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله سبحانه : فَلَمْ تَجِدُوا ماءً بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدا له وتنبيها على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة بقسميها كأنه قيل :
أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله من الحدث الأصغر أو الأكبر.
قيل : وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر أيضا في صورة المرض والسفر لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره لأن الجنابة معتبرة فيهما قطعا فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لأن تقدير النظم - لا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 42
تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك ، أو كنتم مرضى - إلخ ، وقيل : إن هذا القيد راجع للكل ، وقيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجيء من الغائط والملامسة معتبر فيه أيضا ، واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده ، وفي الكشف عن بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، ولا جنبا ولا جائيا أحد منكم من الغائط ، أو لامسا يعني ولا محدثين ، ثم قيل : وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا ، وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف عليه من غير نكتة ، ثم قال بعد أن نقل ما اعترضه : ولعل الأوجه في تقرير الآية - واللّه تعالى أعلم - أن يجعل عدم الوجدان عبارة عن عدم القدرة على استعمال الماء لفقد الماء ، أو المانع ليصح أن يكون قيدا للكل ، أو يحمل على ظاهره ويجعل قيدا للأخيرين لأن عموم الإعواز في حق المسافر غالبا ، والمنع من القدرة على استعمال الماء القائم مقامه في حق المريض مغن عن التقييد لفظا ، وأن يبقى قوله سبحانه : مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ على إطلاقه من غير تقييد بكونهم محدثين أو مجنبين لأن المقصود بيان سبب العدول عن الطهارة بالماء إلى التيمم ، أما المشترك بين الطهارتين فلا يحتاج إلى ذكره قصدا وأن يجعل ذكر المحدثين من غير القبيلين بيانا لسبب العدول وهو فقد القدرة من غير سفر ولا مرض لا لأن الحدث سبب وإن أفاد ذلك ضمنا ولم يقل أو لم تجدوا دون ذكر السببين تنبيها على أن عدم الوجدان مرخص بعد انعقاد سبب الطهارة ، وأفيد ضمنا أنهما معتبران أيضا في المريض والمسافر إذ لا فرق بين المرض والسفر وبين سائر الأعذار في ذلك انتهى ، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر أظهر وما ذكره على تقدير الحمل عليه ليس بالبعيد عما قدمناه ، نعم الآية من معضلات القرآن ، ولعلها تحتاج بعد إلى نظر دقيق ، والفاء في فَلَمْ عاطفة ، وأما الفاء في قوله سبحانه : فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً
فواقعة في جواب الشرط ، والظاهر أن الضمير راجع إلى جميع ما اشتمل عليه ، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة ، ومثله في ذلك تَجِدُوا فلا حاجة إلى تقدير فليتيمم جزاء لقوله سبحانه : جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ والتيمم لغة القصد قال الأعشى :
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن
والصعيد وجه الأرض كما روي عن الخليل وثعلب وقال الزجاج : لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض وسمي بذلك لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض ، أو لصعوده وارتفاعه فوق الأرض ، والطيب الطاهر ، وعن سفيان الحلال ، وقيل : المنبت دون السبخة كما في قوله تعالى : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف : 58] والحمل على الأول هو الأنسب بمقام الطهارة ، والمعنى فتعمدوا واقصدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا ، وهذا دليل واضح لجواز التيمم بالكحل والآجر والمرداسنج والياقوت والفيروزج والمرجان والزمرد ونحو ذلك. وإن لم يكن عليه غبار وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه.
ومحمد في إحدى الروايتين عنه ، وفي رواية أخرى عنه - وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد رضي اللّه تعالى عنهم - أنه لا يجوز التيمم إلا أن يعلق باليد شيء من التراب لتقييد المسح - بمنه - في المائدة ، وكلمة «من» للتبعيض وهو يقتضي التراب ، والحنفية يحملونها على الابتداء أو الخروج مخرج الأغلب ، وقيل : الضمير للحدث المفهوم من السياق ، و«من» للتعليل ، وأغرب الإمام مالك فأجاز التيمم بالثلج ، وقد شنع الشيعة عليه بذلك ، وقد اعتذرنا عنه في كتابنا - الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية - ونصب صَعِيداً على أنه مفعول به ، وقيل : إنه منصوب بنزع الخافض أي فتيمموا بصعيد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أي وجوهكم وأيديكم على أن الباء صلة ، والمراد استيعاب هذين العضوين بالمسح حتى إذا ترك شيئا منهما لم يجز كما في الوضوء وهو ظاهر الرواية ، وفي رواية الحسن عن الإمام رضي اللّه تعالى عنه أن الأكثر يقوم مقام الكل لأن الاستيعاب في الممسوحات ليس بشرط كما في مسح الخف والرأس ، ووجه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 43
الظاهر أن التيمم قائم مقام الوضوء ، ولهذا قالوا : يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح ، والاستيعاب في الوضوء شرط فكذا فيما قام مقامه ، والأيدي جمع يد ، وهي مشتركة بين معان من أطراف الأصابع إلى الرسغ وإلى المرفق وإلى الإبط ، وهل هي حقيقة في واحد منها مجاز في غيره ، أو حقيقة فيها جميعا؟ رجح بعضهم الثاني ، ولذا ذهب إلى كل منها بعض السلف ، فأخرج ابن جرير عن الزهري أن التيمم إلى الآباط ، وأخرج عن مكحول أنه قال : التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع ، وأخرج الحاكم عن ابن عمر في كيفية تيممهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنهم مسحوا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن ، ومن حديث أبي داود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه
- وهذا مذهبنا - ومذهب الشافعي والجمهور - ويشهد لهم القياس - على الوضوء الذي هو أصله وإن كان الحدث والجنابة فيه كيفية سواء ، وكذا جوازا على الصحيح المروي عن المعظم.
ومن الناس من قال : لا يتيمم الجنب والحائض والنفساء - وهو المروي عن عمر وابنه وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم - قيل : ومنشأ الخلاف فيما بينهم حمل الملامسة فيما سبق على الوقاع أو المس باليد ، فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الأخير ، وقالوا : القياس أن لا يكون التيمم طهورا وإنما أباحه اللّه تعالى للمحدث فلا يباح للجنب لأنه ليس معقول المعنى حتى يصح القياس ، وليست الجنابة في معنى الحدث لتلحق به بل هي فوقه.
وأنت تعلم أن الآية كالصريح في جواز تيمم الجنب وإن لم تحمل الملامسة على الوقاع - كما يشير إليه تفسيرها السابق - على أن الأحاديث ناطقة بذلك ،
فقد أخرج البخاري عن عمران بن حصين «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي؟ فقال : يا رسول اللّه أصابتني جنابة ولا ماء قال :
عليك بالصعيد فإنه يكفيك»
وروي «أن قوما جاؤوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا : إنا قوم نسكن هذه الرمال ولم نجد الماء شهرا أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : عليكم بأرضكم»
إلى غير ذلك ، وهل يرفع التيمم الحدث أم لا؟ خلاف ، ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين عند من أمعن النظر إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تعليل لما يفهمه الكلام من الترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا ، وجوز أن يكون كناية عن ذلك فإنه من روادف العفو وتوابع الغفران ، وأدمج فيه أن الأصل الطهارة الكاملة وأن غيرها من الرخص من العفو والغفران ، وقيل : العفو هنا بمعنى التيسير - كما في التيسير - واستدل على وروده بهذا المعنى
بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «عفوت لكم صدقة الخيل والرقيق»
وذكر المغفرة للدلالة على أنه غفر ذنب المصلين سكارى ، وما صدر عنهم في القراءة ، وأنت تعلم أن حمل العفو على التيسير في الحديث غير متعين وكون ذكر المغفرة لما ذكر بعيد.
[سورة النساء (4) : الآيات 44 إلى 55]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 44
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ استئناف لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم إثر ذكر أنواع التكاليف والأحكام الشرعية ، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين وفيه إيذان بكمال شهرة شناعة حالهم ، وقيل : لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم ، وخطاب سيد القوم في مقام خطابهم والرؤية بصرية ، وتعديها بإلى حملا لها على النظر - أي ألم تنظر إليهم - وجعلها علمية وتعديها بإلى لتضمينها معنى الانتهاء - أي ألم ينته علمك إليهم - منحط في مقام التعجيب وتشهير شنائعهم ، ونظمها في سلك الأمور المشاهدة ، والمراد من الموصول يهود المدينة. وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لويا لسانهما وعاباه ، وعنه أنها نزلت في حبرين كانا يأتيان رأس المنافقين عبد اللّه بن أبيّ ورهطه يثبطانهم عن الإسلام.
والمراد من الكتاب التوراة ، وقيل : الجنس وتدخل فيه دخولا أوليا وفيه تطويل للمسافة ، وقيل : القرآن لأن اليهود علموا أنه كتاب حق أتى به نبي صادق لا شبهة في نبوته ، وفيه أنه خلاف الظاهر ، و«بالذي أوتوه» ما بين لهم فيه من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، والتعبير عنه بالنصيب المشعر بأنه حق من حقوقهم التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بركاكة آرائهم في الإهمال ، والتنوين للتفخيم ، وهو مؤيد للتشنيع ، ومثله ما لو حمل على التكثير ، ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافية إثر فخامته الذاتية ، وقيل : متعلقة - بأوتوا - وقوله تعالى : يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام مبني على سؤال نشأ منه كأنه قيل : ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل : يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه المنزل منزلة الحصول ، أو حصوله لهم بالفعل بإنكارهم نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال الزجاج : المعنى يأخذون الرشا ويحرفون التوراة ، فالضلالة هو هذا التحريف أي اشتروها بمال الرشا ، وذهب أبو البقاء إلى أن جملة يَشْتَرُونَ حال مقدرة من ضمير أُوتُوا أو حال من الَّذِينَ ، وتعقب الوجه الأول بأنه لا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور في الإيتاء مما لا يليق بالمقام ، والثاني بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور ، وما عطف عليه من قوله تعالى : وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ فالأوجه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 45
الاستئناف والمعطوف شريك للمعطوف عليه فيما سبق له ، والمعنى أنهم لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من تكذيب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكتم نعوته الناطقة بها التوراة أن تكونوا أنتم أيضا ضالين الطريق المستقيم الموصل إلى الحق ، والتعبير بصيغة المضارع في الموضعين للإيذان بالاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره ، وفي ذلك أيضا من التشنيع ما لا يخفى ، وقرىء أن يضلوا بالياء بفتح الضاد وكسرها وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم أيها المؤمنون بِأَعْدائِكُمْ الذين من جملتهم هؤلاء ، وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون فاحذروهم ، فالجملة معترضة للتأكيد وبيان التحذير وإلا فأعلمية اللّه تعالى معلومة ، وقيل : المعنى أنه تعالى أعلم بحالهم ومآل أمرهم فلا تلتفتوا إليهم ولا تكونوا في فكر منهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أمركم وينفعكم بما شاء وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يدفع عنكم مكرهم وشرهم فاكتفوا بولايته ونصرته ولا تبالوا بهم ولا تكونوا في ضيق مما يمكرون ، وفي ذلك وعد للمؤمنين ووعيد لأعدائهم ، والجملة معترضة أيضا ، والباء مزيدة في فاعل كَفى تأكيدا للنسبة بما يفيد الاتصال وهو الباء الإلصاقية ، وقال الزجاج : إنما دخلت هذه الباء لأن الكلام على معنى اكتفوا باللّه ، ووَلِيًّا ونَصِيراً منصوبان على التمييز ، وقيل : على الحال ، وتكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الاسم الجليل لتأكيد كفايته عز وجل مع الإشعار بالعلية.
مِنَ الَّذِينَ هادُوا قيل : هو بيان - للذين أوتوا - المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين ، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين عنهم والاهتمام بحثهم على الثقة باللّه تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته ، واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث؟! وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف - والجمل هنا متعاطفة - وبه يصير الشيئان شيئا واحدا ، وقيل : إنه بيان لأعدائكم ، وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض ، وقيل : إنه صلة - لنصير - أي ينصركم مِنَ الَّذِينَ هادُوا وفيه تحجير لواسع نصرة اللّه تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصفا ملائما للنصر غير ظاهر ، وقيل : إنه خبر مبتدأ محذوف ، وقوله تعالى :
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ صفة له أي مِنَ الَّذِينَ هادُوا قوم يُحَرِّفُونَ ويتعين هذا في قراءة عبد اللّه ومِنَ الَّذِينَ وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف ، وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه ، ومنه قوله :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسما موصولا ، ويُحَرِّفُونَ صلته أي مِنَ الَّذِينَ هادُوا من يُحَرِّفُونَ والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ما في مصحف حفصة رضي اللّه تعالى عنها - من يحرفون - واعترض هذا أيضا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة ، والْكَلِمَ اسم جنس واحده كلمة - كلبنة ولبن ، ونبقة ونبق - وقيل : جمع - وليس بشيء على المختار - ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الاثنين مطلقا ، وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا ، وجمعيته باعتبار تعدده معنى ، وقرىء بكسر الكاف وسكون اللام جمع - كلمة - تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف ، وقرىء يُحَرِّفُونَ الكلام ، والمراد به هاهنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه ، ومما سيحكى عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، والأول هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه اللّه تعالى فيها من التوراة كتحريفهم - ربعة

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 46
- في نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ووضعهم مكانه طوال ، وكتحريفهم - الرجم - ووضع الحد موضعه ، وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله اللّه تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم ، ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب اللّه تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا : هو من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا ، واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقا وغربا؟!.
وأجيب بأن ذلك كان قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد ، وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود ، وقيل : إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأويل ، والمراد من مَواضِعِهِ على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره ، وأصل التحريف إمالة الشيء إلى حرف أي طرف فإذا كان يُحَرِّفُونَ بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الْكَلِمَ ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه ، والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة من قوله سبحانه : مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة : 41] أن الثاني أدل على ثبوت مقار الْكَلِمَ واشتهارها مما هنا ، وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع وتقرر حرفوه عنه ، واختار ذلك هنا لك لأن فيه ما يقتضي الإتيان بالأدل الأبلغ وَيَقُولُونَ عطف على يُحَرِّفُونَ وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني بمحضر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص بمادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو بلسان الحال أو المقال عنادا وتحقيقا للمخالفة سَمِعْنا أي فهمنا وَعَصَيْنا أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ عطف على سَمِعْنا داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني ، وفي أثناء مخاطبته صلّى اللّه عليه وسلّم - وهو كلام ذو وجهين - محتمل للشر والخير ، ويسمى
في البديع بالتوجيه كما قاله غير واحد ، ومثلوا له بقوله :
خاط لي عمرو قباء ليت عينيه سواء
واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت ، أو اسْمَعْ غَيْرَ مجاب إلى ما تدعو إليه ، أو اسْمَعْ نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك ، أو اسْمَعْ كلاما غَيْرَ مُسْمَعٍ إياك لأن أذنيك تنبو عنه - فغير - إما حال لا غير ، وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا - لعنهم اللّه تعالى - إجابته صار كأنه واقع مقرر ، واحتماله للخير بأن يحمل على معنى اسْمَعْ منا غَيْرَ مُسْمَعٍ مكروها من قولهم : أسمعه فلان إذا سبه ، وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيا منسيا وتعورف في ذلك ، وقد كانوا لعنهم اللّه تعالى يخاطبون بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استهزاء مظهرين له صلّى اللّه عليه وسلّم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه وَراعِنا عطف على ما قبله أي ويقولون أيضا في أثناء خطابهم له صلّى اللّه عليه وسلّم هذا وهو ذو وجهين كسابقه ، فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا ، أو انتظرنا نكلمك ، واحتماله للشر يحمله على السب ، ففي التيسير : إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة ، وقيل : إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا ، وقيل : بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون - لعنهم اللّه تعالى - أنه - وحاشاه صلّى اللّه عليه وسلّم - بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم ، وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 47
وهذا نوع من النفاق ولا ينافيه تصريحهم بالعصيان لما قيل : إن جميع الكفار يخاطبون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالكفر ولا يخاطبونه بالسب والذم والدعاء عليه عليه الصلاة والسلام ، واعترض بأنه حينئذ لا وجه لإيراد السماع والعصيان مع التحريف وإلقاء الكلام المحتمل احتيالا ، وأجيب بأنه يمكن أن يقال : المقصود على هذا عد صفاتهم الذميمة لا مجرد التحريف والاحتيال فكأنه قيل : يحرفون كتابهم ويجاهرون بإنكار نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قالا وحالا ، وعصيانهم بعد سماع ما بلغهم وتحققه لديهم ويحتالون في سبه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : إن قولهم سَمِعْنا وَعَصَيْنا [البقرة : 93 ، النساء : 46] لم يكن بمحضره عليه الصلاة والسلام بل كان فيما بينهم فلا ينافي نفاقهم في الجملتين بين يديه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : القول نظرا إلى الجملة الأولى حالي وإلى الجملتين الأخيرتين لساني ، وقيل : إن الأولى أيضا ذات وجهين كالأخيرتين إذ يحتمل أن يكون مرادهم أطعنا أمرك وعصينا أمر قومنا ، ويحتمل أن يكون مرادهم ما تقدم.
ومن الناس من جوز أن يراد بتحريف الكلم إمالتها عن مواضعها سواء كانت مواضع وضعها اللّه تعالى فيها أو جعلها المقام والعرف مواضع لذلك فيكون المعنى هم قوم عادتهم التحريف ، ويكون قوله سبحانه : وَيَقُولُونَ إلخ تعدادا لبعض تحريفاتهم ، والمراد أنهم يقولون لك : سَمِعْنا وعند قومهم عَصَيْنا ويقولون كذا وكذا فيظهرون لك شيئا ويبطنون خلافه لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ اللي يكون بمعنى الانحراف والالتفات والانعطاف عن جهة إلى أخرى ، ويكون بمعنى ضم إحدى نحو طاقات الحبل على الأخرى.
والمراد به هنا إما صرف الكلام من جانب الخير إلى جانب الشر ، وإما ضم أحد الأمرين إلى الآخر ، وأصله لوى فقلبت الواو ياء وأدغمت ، ونصبه على أنه مفعول له - ليقولون - باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين ، وقيل : بالأقوال جميعها ، أو على أنه حال أي - لاوين - ومثله في ذلك قوله تعالى : وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية ، وكل من الظرفين متعلق بما عنده وَلَوْ أَنَّهُمْ عند ما سمعوا شيئا من أوامر اللّه تعالى ونواهيه قالُوا بلسان المقال كما هو الظاهر أو به وبلسان الحال كما قيل : سَمِعْنا سماع قبول مكان قولهم : سَمِعْنا المراد به سماع الرد وَأَطَعْنا مكان قولهم : عَصَيْنا وَاسْمَعْ بدل قولهم : اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ.
وَانْظُرْنا بدل قولهم : راعِنا لَكانَ قولهم هذا خَيْراً لَهُمْ وأنفع من قولهم ذلك وَأَقْوَمَ أي أعدل في نفسه ، وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفعل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم أو بطريق التهكم ، وإما بمعنى اسم الفاعل فلا حاجة إلى تقدير من ، وفي تقديم حال القول بالنسبة إليهم على حاله في نفسه إيماء إلى أن همم اليهود لعنهم اللّه تعالى طماحة إلى ما ينفعهم ، والمنسبك من أن وما بعدها فاعل ثبت المقدر لدلالة أن عليه أي لو ثبت قولهم : سَمِعْنا إلخ وهو مذهب المبرد ، وقيل : مبتدأ لا خبر له ، وقيل : خبره مقدر وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي ولكن لم يقولوا الأنفع والأقوم ، واستمروا على ذلك فخذلهم اللّه تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ بعد إِلَّا قَلِيلًا اختار العلامة الثاني كونه استثناء من ضمير المفعول في لَعَنَهُمُ أي ولكن لعنهم اللّه تعالى إلا فريقا قليلا منهم فإنه سبحانه لم يلعنهم فلهذا آمن من آمن منهم كعبد اللّه بن سلام وأضرابه ، وقيل : هو مستثنى من فاعل يُؤْمِنُونَ ويتجه عليه أن الوجه حينئذ الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب مع أن القراء قد اتفقوا على النصب ، ويبعد منهم الاتفاق على غير المختار مع أنه يقتضي وقوع إيمان من لعنه اللّه تعالى وخذله إلا أن يحمل لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ على لعن أكثرهم وهو كما ترى ، وقيل : إنه صفة مصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا لأنهم وحدوا وكفروا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وشريعته ، والإيمان بمعنى التصديق لا الإيمان الشرعي ، وجوز على هذا الوجه أن يراد بالقلة العدم كما في قوله :

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 48
قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك
والمراد أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا معدوما إما على حد لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان :
56] أي إن كان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو من التعليق بالمحال ، أو أن ما أحدثوه منه لما لم يشتمل على ما لا بد منه كان معدوما انعدام الكل بجزئه ، والوجه هو الأول يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ نزلت كما قال السدي : في زيد بن التابوت ومالك بن الصيف.
وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «كلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد اللّه بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم : يا معشر يهود اتقوا اللّه وأسلموا فو اللّه إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل اللّه تعالى فيهم الآية ،
ولا يخفى أن العبرة لعموم اللفظ وهو شامل لمن حكيت أحوالهم وأقوالهم ولغيرهم ، وجعل الخطاب للأولين خاصة - بطريق الالتفات ، وأن وصفهم بإيتاء الكتاب تارة وبإيتاء نصيب منه أخرى لتوفية كل من المقامين حظه - بعيد جدا ، ولما كان تفصيل هاتيك الأحوال والأقوال من مظان إقلاع من توجه الخطاب إليهم عما هم عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهدى مشفوعا بالتحذير والتخويف والوعيد الشديد على المخالفة فقال سبحانه : آمِنُوا إيمانا شرعيا بِما نَزَّلْنا أي بالذي أنزلناه من عندنا على رسولنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة الغير المبدلة ، وقد تقدم كيفية تصديق القرآن لذلك وعبر عن التوراة بما ذكر للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الامتثال لما فيه من الوعيد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين ، وفي تنكير وجوه تهويل للخطب مع لطف ، وحسن استدعاء ، وأصل الطمس استئصال أثر الشيء ، والمراد آمنوا من قبل أن نمحو ما خطه الباري بقلم قدرته في صحائف الوجوه من نون الحاجب ، وصاد العين ، وألف الأنف ، وميم الفم فنجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة ، وروي هذا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما.
وقال الفراء والبلخي وحسين المغربي : إن المعنى آمنوا من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي فنجعلها على هيئة أدبارها وأقفائها مطموسة مثلها فإن ما خلف الوجه لا تصوير فيه وهو منبت الشعر أيضا والعطف بالفاء إما على إرادة نريد الطمس ، أو على جعل العطف من عطف المفصل على المجمل ، وعن عطية العوفي : أن المراد ننكسها بعد الطمس بجعل العيون التي فيها وما معها في القفا ، فالعطف بالفاء ظاهر ، وقيل : المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب وجاهتهم وإقبالهم ونكسوهم صغارا وإدبارا ، أو نردهم من حيث جاؤوا منه ، وهي أذرعات الشام ، فالمراد بذلك إجلاء بني النضير ، وإلى هذا المراد ذهب ابن زيد ، وضعف بأنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد ، وتعميم التهديد للجميع.
وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة ، فقال جماعة : كان بوقوعه في الدنيا وأيد بما أخرجه ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال : أسلم كعب في زمان عمر رضي اللّه تعالى عنه أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال : يا كعب أسلم قال : ألستم تقرءون في كتابكم مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة : 5]؟ وأنا قد حملت التوراة فتركه ، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلا من أهلها يقرأ هذه الآية فقال : رب آمنت رب

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 49
أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها ، ثم رجع فأتى أهله باليمن ثم جاء بهم مسلمين ، وروي أن عبد اللّه بن سلام لما قدم من الشام وقد سمع هذه الآية أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يأتي أهله فأسلم ، وقال : يا رسول اللّه ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي ، ثم اختلفوا فقال المبرد : إنه منتظر بعد ولا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل قيام الساعة ، وأيد بتنكير وجوه ، والتعبير بضمير الغيبة فيما يأتي ، واعترضه شيخ الإسلام بأن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة ، وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجه بعد ما فات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العاملين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة العزيز الحكيم ، والجواب بأن عادة اللّه سبحانه قد جرت مع اليهود بأن ينتقم من أخلافهم بما صنعت أسلافهم وإن لم يعلم وجه الحكمة فيه على تقدير تسليمه لا يزيل البعد في هذه الصورة ، وقال البرسي : إن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن أحد منهم ، وقد آمن جماعة من أحبارهم فلم يقع ورفع عن الباقين ، واعترض أيضا بأن إسلام البعض إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم ، وقيل : في الجواب أنه إذا جاز أن ينزل سبحانه البلاء على قوم بسبب عصيان بعض منهم كما يشير إليه قوله تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال : 25] فلأن يجوز أن يرفع ذلك عن الكل بسبب طاعة البعض من باب أولى لأنه سبحانه الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه.
وقد ورد في الأخبار ما يدل على وقوع ذلك ، ودعوى الفرق مما لا تكاد تسلم ، وقيل : كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى : أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الأمر الثاني فإن اليهود ملعونون بكل لسان وفي كل زمان ، فاللعن بمعناه الظاهر والمراد من التشبيه بلعن أصحاب السبت الإغراق في وصفه ، واعترض بأن اللعن الواقع عليهم ما تداولته الألسنة وهو بمعزل من صلاحيته أن يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة عن مخالفة للعنيد ، فاللعن هنا الخزي بالمسخ وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وابن جرير عن الحسن ، ويؤيده ظاهر التشبيه ، وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على إرادة ذلك ضرورة أنه تعبير مغاير لما عطف عليه ، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بقوله تعالى : قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة : 60] لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية ، وذهب البلخي والجبائي إلى أن الوعيد إنما كان بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع.
وأجيب عما روي عن الحبرين الظاهر في أن ذلك في الدنيا بأنه مبني على الاحتياط وغلبة الخوف اللائق بشأنها ، وقد ورد «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يكثر الدخول والخروج في الحجرات ولا يكاد يقر له قرار إذا اشتد الهواء ، ويقول : أخشى أن تقوم الساعة»
مع علمه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن قبل قيامها القائم وعيسى عليه السلام. والدجال عليه اللعنة والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما قصه صلّى اللّه عليه وسلّم علينا ، وجوز بعضهم على تقدير كون الوعيد بالوقوع في الآخرة أن يراد بالطمس والرد على الأدبار الختم على العين والفم والطبع عليهما ، فقد قال اللّه تعالى : لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس : 66] والْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس : 65] وجوز نحو هذا بعض من ادعى أن ذلك في الدنيا فقال : إن المعنى آمنوا من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ، ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 50
بالطبع ، ونردها عن الهداية إلى الضلالة.
وروي ذلك عن الضحاك ، وأخرجه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه ، والحق أن الآية ليست بنص في كون ذلك في الدنيا أو في الآخرة بل المتبادر منها بحسب المقام كونه في الدنيا لأنه أدخل في الزجر ، وعليه مبنى ما روي عن الحبرين لكن لما كان في وقوع ذلك خفاء واحتمال أنه وقع ولم يبلغنا - على ما في التيسير - مما لا يلتفت إليه ، ورجح احتمال كونه في الآخرة ، وأيّا ما كان فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات - كما قال شيخ الإسلام - مراعاة المشاكلة بينها وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير والفاعل والراضي سواء ، والضمير المنصوب في - نلعنهم - لأصحاب الوجوه ، أو - للذين - على طريق الالتفات لأنه بعد تمام النداء يقتضي الظاهر الخطاب ، وأما قبله فالظاهر الغيبة ، ويجوز الخطاب لكنه غير فصيح كقوله :
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
أو للوجوه إن أريد به الوجهاء وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ بإيقاع شيء ما من الأشياء ، فالمراد بالأمر معناه المعروف ، ويحتمل أن يراد به واحد الأمور ولعله الأظهر أي كان وعيده أو ما حكم به وقضاه مَفْعُولًا نافذا واقعا في الحال أو كائنا في المستقبل لا محالة ، ويدخل في ذلك ما أوعدتم به دخولا أوليا ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق ، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير بطريق الالتفات لما مر غير مرة.
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ كلام مستأنف مقرر لما قبله من الوعيد ومؤكد وجوب امتثال الأمر بالإيمان حيث إنه لا مغفرة بدونه كما زعم اليهود ، وأشار إليه قوله تعالى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا [الأعراف : 169] وفيه أيضا إزالة خوفهم من سوء الكبائر السابقة إذا آمنوا.
والشرك يكون بمعنى اعتقاد أن للّه تعالى شأنه شريكا إما في الألوهية أو في الربوبية ، وبمعنى الكفر مطلقا - وهو المراد هنا - كما أشار إليه ابن عباس فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة كيف كانوا ، ونزول الآية في حق اليهود على ما روي عن مقاتل لا يقتضي الاختصاص بكفرهم بل يكفي الاندراج فيما يقتضيه عموم اللفظ ، والمشهور أنها نزلت مطلقة ،
فقد أخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال : «لما نزل قوله تعالى : قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر : 53] الآية قام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال : والشرك باللّه؟ فسكت ، ثم قام إليه فقال : يا رسول اللّه والشرك باللّه تعالى؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» إلخ
والمعنى أن اللّه تعالى لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان لأنه سبحانه بت الحكم على خلود عذابه ، وحكمه لا يتغير ، ولأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر ولذا لم يبعث نبي إلا لسده وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه ، وقيل : لأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره ، ولا يخفى أن هذا مبني على أن فعل اللّه تعالى تابع لاستعداد المحل ، وإليه ذهب أكثر الصوفية وجميع الفلاسفة ، فإن يُشْرَكَ في موضع النصب على المفعولية وقيل : المفعول محذوف والمعنى لا يغفر من أجل أن يشرك به شيئا من الذنوب فيفيد عدم غفران الشرك من باب أولى ، والذي عليه المحققون هو الأول.
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ عطف على خبر إن لا مستأنف ، وذلك إشارة إلى الشرك ، وفيه إيذان ببعد درجته في القبح أي يغفر ما دونه من المعاصي وإن عظمت وكانت كرمل عالج ، ولم يتب عنها تفضلا من لدنه وإحسانا لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له ممن اتصف بما ذكر فقط ، فالجار متعلق - بيغفر - المثبت ، والآية ظاهرة في التفرقة بين الشرك وما

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 51
دونه بأن اللّه تعالى لا يغفر الأول البتة ويغفر الثاني لمن يشاء ، والجماعة يقولون بذلك عند عدم التوبة فحملوا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعا ، ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد ، وذهب المعتزلة إلى أنه لا فرق بين الشرك وما دونه من الكبائر في أنهما يغفران بالتوبة ولا يغفران بدونها فحملوا الآية كما قيل : على معنى - إن اللّه لا يغفر الإشراك لمن يشاء أن لا يغفر له وهو غير التائب ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له وهو التائب - وجعلوا لِمَنْ يَشاءُ متعلقا بالفعلين وقيدوا المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازع لكن من يشاء في الأول المصرون بالاتفاق وفي الثاني التائبون قضاء لحق التقابل وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادين لأن المذكور إنما تعلق بالثاني وقدر في الأول مثله والمعنى واحد لكن يقدر مفعول المشيئة في الأول عدم الغفران وفي الثاني الغفران بقرينة سبق الذكر ، ولا يخفى أن كون هذا من التنازع مع اختلاف متعلق المشيئة مما لا يكاد يتفوه به فاضل ولا يرتضيه كامل على أنه لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما خصص لأن الشرك أيضا يغفر للتائب وما دونه لا يغفر للمصر عندهم من غير فرق بينهما ، وسوق الآية ينادي بالتفرقة وتقييد مغفرة ما دُونَ ذلِكَ بالتوبة مما لا دليل عليه إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد.
وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار أنها راجحة على آيات الوعيد بالاعتبار من ثمانية أوجه سردها هناك وزعم أنها لو لم تقيد ، وقيل : بجواز المغفرة لمن لم يتب لزم إغراء اللّه تعالى للعبد بالمعصية لسهولتها عليه حينئذ والإغراء بذلك قبيح يستحيل على اللّه سبحانه ليس بشيء ، أما أولا فلأنه مبني على القول بالحسن والقبح العقليين وقد أبطل في محله.
وأما ثانيا فلأن لو سلم يلزم منه تقبيح العفو شاهدا وهو خلاف إجماع العقلاء ، وأما ثالثا فلأنه منقوض بالتوبة فإنهم قالوا : بوجوب قبولها ولا يخفى أن ذلك مما يسهل على العاصي الإقدام على المعصية أيضا ثقة منه بالتوبة حسب وثوقه بالمغفرة بل أبلغ من حيث إن التوبة مقدورة له بخلاف المغفرة فكان يجب أن لا تقبل توبته لما فيه من الإغراء وهو خلاف الإجماع فلئن قالوا : هو غير واثق بالإمهال إلى التوبة قلنا : هو غير واثق بالمغفرة لإبهام الموصول ، والقول : بأنه لو لم تشترط التوبة لزم المحاباة من اللّه تعالى في الغفران للبعض دون البعض والمحاباة غير جائزة عليه تعالى ساقط من القول لأن اللّه تعالى متفضل بالغفران وللمتفضل أن يتفضل على قوم دون قوم وإنسان دون إنسان وهو عادل في تعذيب من يعذبه ، وليس يمنع العقل والشرع من الفضل والعدل كما لا يخفى ، ومن المعتزلة من قال : إن المغفرة قد جاءت بمعنى تأخير العقوبة دون إسقاطها كما في قوله تعالى : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد : 6] فإنه لا يصح هنا حملها على إسقاط العقوبة لأن الآية في الكفار والعقوبة غير ساقطة عنهم إجماعا ، وقوله تعالى : وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ [الكهف : 58] فإنه صريح في أن المغفرة بمعنى تأخير العقوبة فلتحمل فيما نحن فيه على ذلك بقرينة إن اللّه تعالى خاطب الكفار وحذرهم تعجيل العقوبة عن ترك الإيمان ، ثم قال سبحانه : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلخ فيكون المعنى إن اللّه تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك بل يعجلها ويؤخر عقوبة ما دونه لمن يشاء فلا تنهض الآية دليلا على ما هو محل النزاع على أنه لو سلم أن المغفرة فيها بمعنى إسقاط العقوبة
لا يحصل الغرض أيضا لأنه إما أن يراد إسقاط كل واحد واحد من أنواع العقوبة ، أو يراد إسقاط جملة العقوبات ، أو يراد إسقاط بعض أنواعها لا سبيل إلى الأول لعدم دلالة اللفظ عليه بقي الاحتمالان الآخران ، وعلى الأول منهما لا يلزم من كونه لا يعاقب بكل أنواع العقوبات أن لا يعاقب ببعضها ، وعلى الثاني لا يلزم من إسقاط بعض الأنواع إسقاط البعض الآخر.
وأجيب بأن حمل المغفرة على إسقاط العقوبة أولى من حملها على التأخير لثلاثة أوجه : الأول أنه المعنى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 52
المتبادر من إطلاق اللفظ ، الثاني أنه لو حمل لفظ المغفرة في الآية على التأخير لزم منه التخصيص في أن اللّه لا يغفر أن يشرك به لأن عقوبة الشرك مؤخرة في حق كثير من المشركين بل ربما كانوا في أرغد عيش وأطيبه بالنسبة إلى عيش بعض المؤمنين وأن لا يفرق في مثل هذه الصورة بين الشرك وما دونه بخلاف حملها على الإسقاط ، الثالث أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة في الآية على سقوط العقوبة وما وقع عليه الإجماع هو الصواب وضده لا يكون صوابا. وقولهم : لا يحصل الغرض أيضا لو حملت على ذلك لأنه إما أن يراد إلخ قلنا : بل المراد إسقاط كل واحد واحد وبيانه أن قوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ سلب للغفران فإذا كان المفهوم من الغفران إسقاط العقوبة فسلب الغفران سلب السلب فيكون إثباتا ، ومعناه إقامة العقوبة ، وعند ذلك فإما أن يكون المفهوم إقامة كل أنواع العقوبات ، أو بعضها لا سبيل إلى الأول لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة ولأن ذلك غير مشترط في حق الكفار إجماعا فلم يبق إلا الثاني ، ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك وما دونه ، ومنهم من وقع في حيص بيص في هذه الآية حتى زعم أن وَيَغْفِرُ عطف على المنفي والنفي منسحب عليهما ، والآية للتسوية بين الشرك وما دونه لا للتفرقة ، ولا يخفى أنه من تحريف كلام اللّه تعالى ووضعه في غير مواضعه.
ومن الجماعة من قال في الرد على المعتزلة : إن التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ووجوب الصفح بعدها ، وتعقبه صاحب الكشف بأنه لم يصدر عن ثبت لأن الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم ، وأيضا قد أشار الزمخشري في هذا المقام إلى أن المشيئة بمعنى الاستحقاق وهي تقتضي الوجوب وتؤكده فلا يرد ما ذكر رأسا.
ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة يرد بها على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار ، وذكر الجلال السيوطي أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين : إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون.
وأخرج ابن الضريس وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال : «كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» الآية ، وقال : إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا ،
وقد استبشر الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم بهذه الآية جدا حتى
قال علي كرم اللّه تعالى وجهه فيما أخرجه عنه الترمذي وحسنه : أحب آية إليّ في القرآن إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإدخال الروعة ، وزيادة تقبيح الإشراك ، وتفظيع حال من يتصف به أي ومن يشرك باللّه تعالى الجامع لجميع صفات الكمال من الجمال ، والجلال أي شرك كان فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً أي ارتكب ما يستحقر دونه الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا ، وأصل الافتراء من الفري ، وهو القطع ولكون قطع الشيء مفسدة له غالبا غلب على الإفساد ، واستعمل في القرآن بمعنى الكذب ، والشرك والظلم كما قاله الراغب ، فهو ارتكاب ما لا يصلح أن يكون قولا أو فعلا ، فيقع على اختلاق الكذب وارتكاب الإثم ، وهو المراد هنا ، وهل هو مشترك بين اختلاق الكذب وافتعال ما لا يصلح أم حقيقة في الأول مجاز مرسل ، أو استعارة في الثاني؟ قولان : أظهرهما عند البعض الثاني ، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الشرك أعم من القولي والفعلي لأن المراد معنى عام وهو ارتكاب ما لا يصلح ، وفي مجمع البيان التفرقة بين فريت وأفريت في أصل المعنى بأنه يقال : فريت الأديم إذا قطعته على وجه الإصلاح ، وأفريته إذا قطعته على وجه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 53
الإفساد أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ
قال الكلبي : نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأطفالهم فقالوا : يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ فقال : لا فقالوا : والذي يحلف به ما نحن فيه إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار فهذا الذي زكوا به أنفسهم
وأخرج ابن جرير عن الحسن «أنها نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا : نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة : 18] وقالوا :
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة : 111] والمعنى انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند اللّه تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم ، أو من ادعائهم أن اللّه تعالى يكفر ذنوبهم الليلية والنهارية مع استحالة أن يغفر لكافر شيء من كفره أو معاصيه ، وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها لغير غرض. صحيح كالتحدث بالنعمة ونحوه بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إبطال لتزكية أنفسهم وإثبات لتزكية اللّه تعالى وكون ذلك للإضراب عن ذمهم بتلك التزكية إلى ذمهم بالبخل والحسد بعيد لفظا ومعنى ، والجملة عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل : هم لا يزكونها في الحقيقة بل اللّه يزكي من يشاء تزكيته ممن يستأهل من عباده المؤمنين «إذ هو العليم الخبير» وأصل التزكية التطهير والتنزيه من القبيح قولا - كما هو ظاهر - أو فعلا كقوله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس : 9] ، وخُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة : 103] وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على جملة حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها ، وإيذانا بأنها غنية عن الذكر أي يعاقبون بتلك الفعلة الشنيعة ولا يظلمون في ذلك العقاب أدنى ظلم ، وأصغره ، وهو المراد بالفتيل ، وهو الخيط الذي شق النواة وكثيرا ما يضرب به المثل في القلة والحقارة - كالنقير للنقرة التي في ظهرها - والقطمير - وهو قشرتها الرقيقة ، وقيل : الفتيل ما خرج بين إصبعيك وكفيك من الوسخ ، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي مالك والسدي رضي اللّه تعالى عنهم ، وجوز أن تكون جملة وَلا يُظْلَمُونَ في موضع الحال والضمير راجع إلى من حملا له على المعنى أي والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم أصلا بل يعطونه يوم القيامة عملا مع ما زكاهم اللّه تعالى ومدحهم في الدنيا.
وقيل : هو استئناف ، والضمير عائد على الموصولين من زكى نفسه ، ومن زكاه اللّه تعالى أي لا ينقص هذا من ثوابه ولا ذاك من عقابه ، والأول أمس بمقام الوعيد ، وانتصاب فَتِيلًا على أنه مفعول ثان كقولك : ظلمته حقه ، قال علي بن عيسى : ويحتمل أن يكون تمييزا كقولك : تصببت عرقا.
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنهم أزكياء عند اللّه تعالى المتضمن لزعمهم قبول اللّه تعالى وارتضاءه إياهم ولشناعة هذا لما فيه من نسبته تعالى إلى ما يستحل عليه بالكلية وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب الدال عليه الكلام وإلا فهم أيضا مفترون على أنفسهم بادعائهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه ، وكَيْفَ في موضع نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه ، والأخفش ، والعامل يَفْتَرُونَ وبِهِ متعلق به.
وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الكذب ، وقيل : هو متعلق به ، والجملة في موضع النصب بعد نزع الخافض وفعل النظر معلق بذلك والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا للمبالغة في تقبيح حالهم وَكَفى بِهِ أي بافترائهم ، وقيل : بهذا الكذب الخاص إِثْماً مُبِيناً لا يخفى كونه مأثما من بين آثامهم وهذا عبارة عن كونه عظيما منكرا ، والجملة كما قال عصام الملة : في موضع الحال بتقدير قد أي - كيف يفترون الكذب والحال أن ذلك ينافي مضمونه لأنه إثم مبين - والآثم بالإثم المبين غير المتحاشى عنه مع ظهوره لا يكون ابن اللّه سبحانه وتعالى وحبيبه ولا يكون زكيا عند اللّه تعالى ، وانتصاب إِثْماً على التمييز.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 54
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما في حيز الصلة تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب ، وقد تقدم نظيره ، والآية نزلت - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف - في جمع من يهود ، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم صاحب كتاب فلا يؤمن هذا أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل ، ثم قال كعب : يا أهل مكة ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ففعلوا ذلك فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم اللبن ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث ، فقال كعب : أنتم واللّه أهدى سبيلا مما عليه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه تعالى في ذلك الآية ، و- الجبت - في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير اللّه تعالى ، وقيل : أصله الجبس ، وهو كما قال الراغب : الرذيل الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء كما في قول عمرو بن يربوع : شرار - النات - أي الناس ، وإلى ذلك ذهب قطرب - والطاغوت - يطلق على كل باطل من معبود أو غيره.
وأخرج الفريابي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : «الجبت الساحر والطاغوت الشيطان».
وأخرج ابن جرير من طرق عن مجاهد مثله ، ومن طريق أبي الليث عنه قال : الجبت كعب بن الأشرف ، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان ، وعن سعيد بن جبير الجبت الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت الكاهن وأخرج ابن حميد عن عكرمة أن الجبت الشيطان بلغة الحبشة ، والطاغوت الكاهن - وهي رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وفي رواية أخرى الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف ، وفي أخرى الجبت الأصنام ، والطاغوت الذين يكونون بين يديها يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس ، ومعنى الإيمان بهما إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع اللّه تعالى ، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل ، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلا ، والمتبادر المعنى الأول أي أنهم يصدقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لأجلهم وفي حقهم فاللام ليست صلة القول وإلا لقيل أنتم بدل قوله سبحانه هؤُلاءِ أي الكفار من أهل مكة.
أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أي أقوم دينا وأرشد طريقة ، قيل : والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم ، وإيراد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأتباعه بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة اللّه تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأشنع القبائح أُولئِكَ القائلون المبعدون في الضلالة الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته وطردهم ، واسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره ، والجملة مستأنفة لبيان حالهم وإظهار مآلهم وَمَنْ يَلْعَنِ أي يبعده اللَّهُ من رحمته فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أي ناصرا يمنع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا بشفاعة أو بغيرها ، وفيه بيان لحرمانهم ثمرة استنصارهم بمشركي قريش وإيماء إلى وعد المؤمنين بأنهم المنصورون حيث كانوا بضد هؤلاء فهم الذين قربهم اللّه تعالى ومن يقربه اللّه تعالى فلن تجد له خاذلا.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 55
وفي الإتيان بكلمة - لن - وتوجيه الخطاب إلى كل واحد يصلح له وتوحيد النصير منكرا والتعبير عن عدمه بعدم الوجدان المؤذن بسبق الطلب مسندا إلى المخاطب العام من الدلالة على حرمانهم الأبدي عن الظفر بما أملوا بالكلية ما لا يخفى ، وإن اعتبرت المبالغة في - نصير - متوجهة للنفي كما قيل ذلك في قوله سبحانه : وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ [فصلت : 46] قوى أمر هذه الدلالة أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ شروع في تفصيل بعض آخر من قبائحهم ، وأَمْ منقطعة فتقدر ببل ، والهمزة أي بل آلهم ، والمراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ، وجحد لما تدعيه اليهود من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان.
وعن الجبائي أن المراد بالملك هاهنا النبوة أي ليس لهم نصيب من النبوة حتى يلزم الناس اتباعهم وإطاعتهم والأول أظهر لقوله تعالى شأنه فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ أي أحدا أو الفقراء أو محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وأتباعه - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما نَقِيراً أي شيئا قليلا ، وأصله ما أشرنا إليه آنفا.
وأخرج ابن جرير من طريق أبي العالية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : هذا النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم نقرها ، وحاصل المعنى على ما قيل : إنهم لا نصيب لهم من الملك لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم حرمانه بسبب أنهم لو أوتوا نصيبا منه لما أعطوا الناس أقل قليل منه ، ومن حق من أوتي الملك الإيتاء وهم ليسوا كذلك ، فالفاء في فَإِذاً للسببية والجزائية لشرط محذوف هو أن حصل لهم نصيب لا لو كان لهم نصيب كما قدره الزمخشري لأن الفاء لا تقع في جواب لو سيما مع إذا والمضارع ، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة والهمزة لإنكار المجموع من المعطوف والمعطوف عليه بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون هذا الذي وقع وهو أنهم قد أوتوا نصيبا من الملك حيث كانت لهم أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك ويعقبه منهم البخل بأقل قليل ، وفائدة «إذا» زيادة الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب الذي هو سبب الإعطاء سببا للمنع ، والفرق بين الوجهين أن الإنكار في الأول متوجه إلى الجملة الأولى وهو بمعنى إنكار الوقوع ، وفي الثاني متوجه لمجموع الأمرين وهو بمعنى إنكار الواقع ، «وإذا» في الوجهين ملغاة ، ويجوز إعمالها لأنه قد شرط في إعمالها الصدارة فإذا نظر إلى كونها في صدر جملتها أعملت ، وإن نظر إلى العطف وكونها تابعة لغيرها أهملت ، ولذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم - فإذا لا يؤتوا الناس - بالنصب على الإعمال.
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ انتقال عن توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد الذي هو من أقبح الرذائل المهلكة من اتصف بها دنيا وأخرى ، وذكره بعده من باب الترقي ، وأَمْ منقطعة والهمزة المقدرة بعدها لإنكار الواقع ، والمراد من الناس سيدهم بل سيد الخليقة على الإطلاق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والضحاك وأبو مالك وعطية ، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال أهل الكتاب :
زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس همه إلا النكاح فأي ملك أفضل من هذا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».
وذهب قتادة والحسن وابن جريج إلى أن المراد بهم العرب ، وعن أبي جعفر وأبي عبد اللّه أنهم النبي وآله عليه وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام ، وقيل : المراد بهم جميع الناس الذين بعث إليهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من الأسود والأحمر أي بل أيحسدونهم عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني النبوة وإباحة تسع نسوة أو بعثة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم منهم ونزول القرآن بلسانهم أو جمعهم كمالات تقصر عنها الأماني ، أو تهيئة سبب رشادهم ببعثة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إليهم ، والحسد على هذا مجاز لأن اليهود لما نازعوه في نبوته صلّى اللّه عليه وسلّم التي هي إرشاد لجميع الناس فكأنما حسدوهم جمع فَقَدْ آتَيْنا تعليل

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 56
للإنكار والاستقباح وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر ، والفاء كما قيل :
فصيحة أي أن يحسدوا الناس على ما أوتوا فقد أخطؤوا إذ ليس الإيتاء ببدع منا لأنا قد آتينا من قبل هذا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ أي جنسه والمراد به التوراة والإنجيل أو هما والزبور وَالْحِكْمَةَ أي النبوة ، أو إتقان العلم والعمل ، أو الأسرار المودعة في الكتاب أقوال وَآتَيْناهُمْ مع ذلك مُلْكاً عَظِيماً لا يقادر قدره ، وجوز أن يكون المعنى أنهم لا ينتفعون بهذا الحسد فإنا قد آتينا هؤلاء ما آتينا مع كثرة الحساد الجبابرة من نمروذ وفرعون وغيرهما فلم ينتفع الحاسد ولم يتضرر المحسود ، وأن يراد أن حسدهم هذا في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل أسلاف هذا النبي المحسود صلّى اللّه عليه وسلّم وأبناء عمه ما آتيناهم فكيف يستبعدون نبوته عليه الصلاة والسلام ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقتضيه مقام التفصيل مع الإشعار بما بين الملك وما قبله من المغايرة ، والمراد من الإيتاء إما الإيتاء بالذات وإما ما هو أعم منه ومن الإيتاء بالواسطة ، وعلى الأول فالمراد من آل إبراهيم أنبياء ذريته ، ومن الضمير الراجع إليهم من آتَيْناهُمْ بعضهم ، فعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام ، وخصه السدي بما أحل لداود وسليمان من النساء فقد كان للأول تسع وتسعون امرأة ولولده ثلاثمائة امرأة ومثلها سرية» وعن محمد بن كعب قال : «بلغني أنه كان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية» ،
وعلى الثاني فالمراد بهم ذريته كلها فإن تشريف البعض بما ذكر تشريف للكل لاغتنامهم بآثار ذلك واقتباسهم من أنوار.
ومن الناس من فسر الحكمة بالعلم ، والملك العظيم بالنبوة ، ونسب ذلك إلى الحسن ومجاهد ، ولا يخفى أن إطلاق الملك العظيم على النبوة في غاية البعد والحمل على المتبادر أولى فَمِنْهُمْ أي من جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم مَنْ آمَنَ بِهِ أي بما أوتي آل إبراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ أي أعرض عَنْهُ ولم يؤمن به وهذا في رأي حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكي من غير أن يكون له دخل في الإلزام ، وقيل : له دخل في ذلك ببيان أن الحسد لو لم يكن قبيحا لأجمع عليه أسلافهم فلم يؤمن منهم أحد كما أجمعوهم عليه فلم يؤمن أحد منهم ، وليس بشيء ، وقيل : معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر ، ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك فضمير بِهِ وعَنْهُ على هذا لإبراهيم ، وفيه تسلية له عليه الصلاة والسلام ورجوع الضميرين لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وجعل الكلام متفرعا على قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [النساء : 47] أو على قوله سبحانه :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ إلخ في غاية البعد ، وكذا جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي نارا مسعرة موقدة إيقادا شديدا أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى.
[سورة النساء (4) : الآيات 56 إلى 57]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً استئناف وقع كالبيان والتقرير لما قبله ، والمراد بالموصول إما الذين كفروا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإما ما يعمهم وغيرهم ممن كفر بسائر الأنبياء عليهم السلام ، ويدخل أولئك دخولا أوليا ، وعلى الأول فالمراد بالآيات إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه ، أو ما يعم سائر معجزاته عليه الصلاة والسلام ، وعلى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 57
الثاني فالمراد بها ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدعاهم ، وسَوْفَ كما قال سيبويه : كلمة تذكر للتهديد والوعيد ، وتنوب عنها السين كما في قوله تعالى : سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر : 26] وقد تذكر للوعد كما في قوله سبحانه : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى : 5] وسَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف : 98] وكثيرا ما تفيد هي والسين توكيد الوعيد ، وتنكير ناراً للتفخيم أي يدخلون ولا بد ناراً هائلة كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي احترقت وتهرت وتلاشت ، من نضج الثمر واللحم نضجا ونضجا إذا أدرك ، وكُلَّما ظرف زمان والعامل فيه بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كانت مادته الأصلية موجودة بأن يزال عنه الإحراق فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب ، وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته ، وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل ، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح ، والسيف ليس كذلك ، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه لأن ذلك الحمل غير اختياري ، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم ، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد ، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع ، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام بل من أنصف رأى أن أجزاء
الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني يغاير الأول كمغايرة العرض للجوهر أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا على أنه لو قيل : إن الكافر يعذب أولا ببدن من حديد تحله الروح ، وثانيا ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول : إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط.
ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ اللّه تعالى ، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت ، والنصوص في هذا الباب متعارضة ، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها ، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى ، ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور : 24] وما في شرح البخاري للسفيري - من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة ، فتقول الروح للجسد : أنت فعلت وأني كنت ريحا ولولاك لم أستطع أن أعمل شيئا ، ويقول الجسد للروح : أنت أمرت وأنت سولت ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يدا ولا رجلا ، فيبعث اللّه تعالى ملكا يقضي بينهما فيقول لهما : إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير : إني أرى هاهنا ثمارا لكن لا أصل إليها فقال له الضرير :
اركبني فتناولها فأيهما المتعدي؟ فيقولان : كلاهما فيقول لهما الملك : فإنكما قد حكمتما على أنفسكما - لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به ، ولعل لنا عودة إن شاء اللّه تعالى لتحقيق هذا المقام ، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 58
فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر قال : «قرىء عند عمر هذه الآية فقال كعب : عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صدقناك قال :
إني قرأتها قبل «كلمات نضجت جلودهم بدلناها جلودا غيرها» في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة فقال عمر : هكذا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال : «بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم : عودوا فعادوا».
لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز : أعزك اللّه والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة ، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن ، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام ، وقيل : السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن ، وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعما أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها اللّه سبحانه بقوله : سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم : 50] وسميت السرابيل جلودا للمجاورة ، وفيه أنه ترك للظاهر ، ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة ، وأن السرابيل لا توصف بالنضج وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر ، وليس هو بالبعيد عن قدرة اللّه سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً أي لم يزل منيعا لا يدافع ولا يمانع ، وقيل : إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به حَكِيماً في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل ، وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا للمساءة والمسرة ، وقدم بيان حال الأولين لأن الكلام فيهم ، والمراد بالموصول إما المؤمنون بنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، وإما ما يعمهم وسائر من آمن من أمم الأنبياء عليهم السلام أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وعملوا الأعمال الحسنة سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قرأ عبد اللّه - سيدخلهم - بالياء والضمير للاسم الجليل ، وفي السين تأكيد للوعد ، وفي اختبارها هنا واختيار سَوْفَ في آية الكفر ما لا يخفى.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إعظاما للمنة وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في سَنُدْخِلُهُمْ وقوله تعالى :
لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي من الحيض والنفاس وسائر المعايب والأدناس والأخلاق الدنيئة والطباع الرديئة لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن في محل النصب على أنه حال من جنات ، أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو أنه صفة لجنات بعد صفة ، أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر.
والمراد أزواج كثيرة كما تدل عليه الأخبار وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أي فينانا لا وجوب فيه ، ودائما لا تنسخه الشمس وسجسجا لا حر فيه ولا قرّ ، رزقنا اللّه تعالى التفيؤ فيه برحمته إنه أرحم الراحمين ، والمراد بذلك إما حقيقته ولا يمنع منه عدم الشمس وإما أنه إشارة إلى النعمة التامة الدائمة ، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما هو عادتهم في نحو - يوم أيوم ، وليل أليل - وقال الإمام المرزوقي : إنه مجرد لفظ تابع لما اشتق منه وليس له معنى وضعي بل هو - كبسن - في قولك : حسن بسن ، وقرىء «يدخلهم» بالياء عطف على سيدخلهم لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى : وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود : 58].

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 59
[سورة النساء (4) : الآيات 58 إلى 70]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67)
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
هذا ومن باب الإشارة في الآيات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ خطاب لأهل الإيمان العلمي ، ونهي لهم أن يناجوا ربهم أو يقربوا مقام الحضور والمناجاة مع اللّه سبحانه وتعالى في حال كونهم سكارى خمر الهوى ومحبة الدنيا ، أو نوم الغفلة حتى يصحوا ولا يشتغلوا بغير مولاهم ، والمقصود النهي عن إشغال القلب بسوى الرب ، وقيل : إنه خطاب لأهل المحبة والعشق الذين أسكرهم شراب ليلى ومدام مي ، فبقوا حيارى مبهوتين لا يميزون الحي من الليّ ولا يعرفون الأوقات ولا يقدرون على أداء شرائط الصلوات فكأنهم قيل لهم : يا أيها العارفون بي وبصفاتي وأسمائي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربي ومدام عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وآنستكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا نفوسكم أداء الرسوم الظاهرة لأنكم في جنان مشاهدتي ، وليس في الجنان تقييد ، وإذا سكنتم من سكركم وصرتم صاحين بنعت التمكين فأدوا ما افترضته عليكم وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وحاصله رفع التكليف عن المجذوبين الغارقين في بحار

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 60
المشاهدة إلى أن يعقلوا ويصحوا ، فالإيمان على هذا محمول على الإيمان العيني والمعنى الأول أولى بالإشارة وَلا جُنُباً أي ولا تقربوا الصلاة في حال كونكم بعداء عن الحق لشدة الميل إلى النفس ولذاتها إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي سالكي طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة كعبور طريق الاغتذاء بالمأكل والمشرب لسد الرمق أو الاكتساء لدفع ضرورة الحر والقرّ وستر العورة ، أو المباشرة لحفظ النسل حَتَّى تَغْتَسِلُوا وتتطهروا بمياه التوبة والاستغفار وحسن التنصل والاعتذار وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بأدواء الرذائل أَوْ عَلى سَفَرٍ في بيداء الجهالة والحيرة لطلب الشهوات أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي الاشتغال بلوث المال ملوثا بمحبته أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي لازمتم النفوس وباشرتموها في قضاء وطرها فَلَمْ تَجِدُوا ماءً علما يهديكم إلى التخلص عن ذلك فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي فاقصدوا صعيد استعدادكم أو ارجعوا إلى المرشدين أرباب الاستعداد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أي امسحوا ذواتكم وصفاتكم بما يتصاعد من أنوار استعدادهم وتخلقوا بأخلاقهم واسلكوا مسالكهم حتى تمحى عنكم تلك الهيئات المهلكة وتبقى أنفسكم صافية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا يعفو عما صدر منكم بمقتضى تلك الهيئات غَفُوراً يستر الشين بالزين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً أي بعضا مِنَ الْكِتابِ وهو اعترافهم بالحق مع احتجابهم برؤية الخلق يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ويتركون التوحيد الحقيقي وَيُرِيدُونَ مع ذلك أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ الحق وهو التوحيد الصرف وعدم رؤية الأغيار فتكونوا مثلهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وعنى بهم أولئك الموصوفين بما ذكر ، وسبب عداوتهم لهم اختلاف الأسماء الظاهرة فيهم ولهذا ودوا تكفيرهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أموركم بالتوفيق لطريق التوحيد وَكَفى
بِاللَّهِ نَصِيراً ينصركم على أعدائكم فلا يستطيعون إيذاءكم وردكم عما أنتم عليه من الحق مِنَ الَّذِينَ هادُوا رجعوا عن مقتضى الاستعداد من نفي السوي إلى ما سولت لهم أنفسهم واستنتجته أفكارهم وأيدته أنظارهم ودعت إليه علومهم الرسمية يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يحتمل أن يراد بالكلم معناها الظاهر أي أنهم يؤولون جميع ما يشعر ظاهره بالوحدة على حسب إرادتهم زاعمين أنه لا يمكن أن يكون غير ذلك مرادا للّه تعالى لا قصدا ولا تبعا لا عبارة ولا إشارة ، ويحتمل أن يراد بها هذه الممكنات فإنها كلم اللّه تعالى بمعنى الدوال عليه ، أو كلمه بمعنى آثار كلمه أعنى كن المتعددة حسب تعلقات الإرادة.
ومعنى تحريفها عن مواضعها إمالتها عما وضعها اللّه تعالى فيه من كونها مظاهر أسمائه فيثبتون لها وجودا غير وجود اللّه تعالى : وَيَقُولُونَ سَمِعْنا ما يشعر بالوحدة أو سمعنا ما يقال في هذه الممكنات وَعَصَيْنا فلا نقول بما تقولون ولا نعتقد ما تعتقدون وَيَقُولُونَ أيضا في أثناء مخاطبتهم للعارف مستخفين مستهزئين به اسْمَعْ ما يعارض ما تدعيه غَيْرَ مُسْمَعٍ أي لا أسمعك اللّه وَراعِنا يعنون رميه بالرعونة وهي الحماقة لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ الذي عليه العارف بربه يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي فهموا عليه الظاهر ولم يفهموا ما أشار إليه من علم الباطن آمِنُوا بِما نَزَّلْنا على قلوب أوليائي من العلم اللدني مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من علم الظاهر إذ كل باطن يخالف الظاهر فهو باطل مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً وهي وجوه القلوب بالعمى فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ناظرة إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانت في أصل الفطرة متوجهة إلى ما في الميثاق الأول أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فنمسخ صورهم المعنوية كما مسخنا صور اليهود الحسية ، ويحتمل أن يكون هذا خطابا لمن أوتي كتاب الاستعداد أمرهم بالإيمان الحقيقي وهددهم بإزالة استعدادهم وردهم إلى أسفل سافلين ، وإبعادهم بالمسخ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلا بالتوبة عنه لشدة غيرته «لا أحد أغير من اللّه» وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له تاب أو لم يتب ، وقد ذكروا أن الشرك ثلاث مراتب ولكل مرتبة توبة : فشرك جلي بالأعيان ، وهو للعوام كعبدة الأصنام والكواكب مثلا ، وتوبته إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية ، وشرك خفي بالأوصاف -

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 61
وهو للخواص وفسر بشوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية - وتوبته الالتفات عن ذلك الالتفات - وشرك أخفى لخواص الخواص وهو الأنانية - وتوبته بالوحدة - وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أيّ شرك كان من هذه المراتب فَقَدِ افْتَرى وارتكب حسب مرتبته إِثْماً عَظِيماً لا يقدر قدره أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ كعلماء السوء من أهل الظاهر الذين لم يحصلوا من علومهم سوى العجب والكبر والحسد والحقد وسائر الصفات الرذيلة بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ كالعارفين به الذين لا يرون لأنفسهم فعلا ، ويحتمل أن يكون هذا تعجيبا ممن يزكي نفسه بنفسه ويسلك في مسالك القوم على رأيه غير معتمد على مرب مرشد له من ولي كامل أو أثارة من علم إلهي كبعض المتفلسفين من أهل الرياضات انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعاء تزكية نفوسهم من صفاتها وما تزكت أو بانتحال صفات اللّه تعالى إلى أنفسهم مع وجودها وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً ظاهرا لا خفاء فيه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً بعضاعرفة وإعزازهم بين خلقه وإرشادهم لمن استرشدهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ وهم المتبعون له على ملته من أهل المحبة والخلة الْكِتابَ أي علم الظاهر أو الجامع له ولعلم الباطن وَالْحِكْمَةَ علم الباطن أو باطن الباطن وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً وهو الوصول إلى العين وعدم الوقوف عند الأثر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا أو أنكروا على أوليائنا الذين هم مظاهر الآيات سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً عظيمة وهي نار القهر والحجاب ، أو نار الحسد كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ وتقطعت أماني نفوسهم الأمارة ومقتضيات هواها بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بتجدد نوع آخر من أنواع تجليات القهر أو بتجدد نعم أخرى تظهر على
أوليائنا الذين حسدوهم وأنكروا عليهم لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ما داموا منغمسين في أوحال الرذائل إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال التي يصلحون بها لقبول التجليات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشف خالِدِينَ فِيها أَبَداً لبقاء أرواحهم المفاضة عليها ما يروحها لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ من
التجليات التي يلتذون بها مُطَهَّرَةٌ من لوث النقص وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا وهو ظل الوجود والصفات الإلهية وذلك بمحو البشرية عنهم ، نسأل اللّه تعالى من فضله فلا فضل إلا فضله ، ثم إنه سبحانه وتعالى أرشد المؤمنين بأبلغ وجه إلى بعض أمهات الأعمال الصالحة فقال عز من قائل : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة فلما أتاه قال : أرني المفتاح فأتاه به فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أرني المفتاح يا عثمان فبسط يده يعطيه ، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده ، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : يا عثمان إن كنت تؤمن باللّه واليوم الآخر فهاتني المفتاح ، فقال : هاك بأمانة اللّه تعالى فقام ففتح الكعبة فوجد فيها تمثال إبراهيم عليه السلام معه قداح يستقسم بها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما للمشركين قاتلهم اللّه تعالى وما شأن إبراهيم عليه السلام وشأن القداح وأزال ذلك ، وأخرج مقام إبراهيم عليه السلام وكان في الكعبة ثم قال : أيها الناس هذه القبلة ، ثم خرج فطاف بالبيت ، ثم نزل عليه جبريل عليه السلام - فيما ذكر لنا - برد المفتاح فدعا عثمان بن أبي

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 62
طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ» الآية.
وفي رواية الطبراني «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال حين أعطى المفتاح : خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم»
يعني سدانة الكعبة ، وفي تفسير ابن كثير «أن عثمان دفع المفتاح بعد ذلك إلى أخيه شيبة بن أبي طلحة فهو في يد ولده إلى اليوم» ، وذكر الثعلبي والبغوي والواحدي «أن عثمان امتنع عن إعطاء المفتاح للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : لو علمت أنه رسول اللّه لم أمنعه فلوى علي كرم اللّه تعالى وجهه يده وأخذه منه فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الكعبة وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يجمع له السدانة والسقاية فنزلت فأمر عليا كرم اللّه تعالى وجهه أن يرد ويعتذر إليه
وصار ذلك سببا لإسلامه ونزول الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا وما ذكرناه أولى بالاعتبار.
أما أولا فلما قال الأشموني : إن المعروف عند أهل السير أن عثمان بن طلحة أسلم قبل ذلك في هدنة الحديبية مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص - كما ذكره ابن إسحاق وغيره ، وجزم به ابن عبد البر في الاستيعاب والنووي في تهذيبه والذهبي وغيرهم ، وأما ثانيا فلما فيه من المخالفة لما ذكره ابن كثير ، وقد نصوا على أنه هو الصحيح ، وأما ثالثا فلأن المفتاح على هذا لا يعد أمانة لأن عليا كرم اللّه تعالى وجهه أخذه منه قهرا وما هذا شأنه هو الغصب لا الأمانة ، والقول - بأن تسمية ذلك أمانة لأن اللّه تعالى لم يرد نزعه منه ، أو للإشارة إلى أن الغاصب يجب أن يكون كالمؤتمن في قصد الرد ، أو إلى أن عليا كرم اللّه تعالى وجهه لما قصد بأخذه الخير وكان أيضا بأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جعل كالمؤتمن في أنه لا ذنب عليه لا يخلو عن بعد ، وأيّا ما كان فالخطاب يعم كل أحد - كما أن الأمانات ، وهي جمع أمانة مصدر سمي به المفعول - نعم الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق اللّه تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية ، وعموم الحكم لا ينافي خصوص السبب ، وقد روي ما يدل على العموم عن ابن عباس وأبيّ وابن مسعود ..
والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين ، وإليه ذهب الأكثرون ، وعن زيد بن أسلم - واختاره الجبائي وغيره أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة ، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها ، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضا ، وفي تصدير الكلام - بأن - الدالة على التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال والدلالة على الاعتناء ما لا مزيد عليه ، ولهذا
ورد من حديث ثوبان قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا إيمان لمن لا أمانة له».
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة».
وأخرج عن ميمون بن مهران «ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر الرحم توصل برة كانت أو فاجرة. والأمانة تؤدي إلى البر والفاجر والعهد يوفى به للبر والفاجر» ، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان»
والأخبار في ذلك كثيرة ، وقرى ء - الأمانة - بالإفراد ، والمراد الجنس لا المعهود أي يأمركم بأداء أيّ أمانة كانت.
وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم ، فالواو للعطف ، والظرف متعلق بما بعد أن وهو معطوف على أَنْ تُؤَدُّوا والجار متعلق به أو بمقدر وقع حالا من فاعله أي ويأمركم أَنْ تَحْكُمُوا بالإنصاف والسوية ، أو متلبسين بذلك إذا قضيتم بين الناس ممن ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم ، وهذا مبني على مذهب من يرى جواز تقدم الظرف

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 63
المعمول لما في حيز الموصول الحرفي عليه ، والفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف ، وفي التسهيل الفصل بين العاطف والمعطوف إذا لم يكن فعلا بالظرف والجار والمجرور جائز وليس ضرورة خلافا لأبي علي ، ولقيام الخلاف في المسألة ذهب أبو حيان إلى أن الظرف متعلق بمقدر يفسره المذكور أي - وأن تحكموا إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا - ليسلم مما تقدم ، ولا يجوز تعلقه بما قبله لعدم استقامة المعنى لأن تأدية الأمانة ليست وقت الحكومة ، والمراد بالحكم ما كان عن ولاية عامة أو خاصة ، وأدخلوا في ذلك ما كان عن تحكيم.
وفي بعض الآثار أن صبيين ارتفعا إلى الحسن رضي اللّه تعالى عنه ابن علي كرم اللّه تعالى وجهه في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود فبصر به علي كرم اللّه تعالى وجهه فقال : يا بني انظر كيف تحكم فإن هذا حكم واللّه تعالى سائلك عنه يوم القيامة
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال وإظهار الاسم الأعظم لتربية المهابة وهو اسم إِنَّ وجملة نِعِمَّا يَعِظُكُمْ خبرها ، وما إما بمعنى الشيء معرفة تامة ، ويَعِظُكُمْ صفة موصوف محذوف وهو المخصوص بالمدح ، أي نعم الشيء شيء يعظكم به ، ويجوز - نعم هو أي الشيء شيئا يعظكم به - والمخصوص بالمدح محذوف ، وإما بمعنى الذي وما بعدها صلتها وهو فاعل - نعم - والمخصوص محذوف أيضا ، أي نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل - قاله أبو البقاء - ونظر فيه بأنه قد تقرر أن فاعل - نعم - إذا كان مظهرا لزم أن يكون محلى بلام الجنس أو مضافا إليه كما في المفصل ، وأجيب بأن سيبويه جوز قيام ما إذا كانت معرفة تامة مقامه ، وابن السراج أيضا جوز قيام الموصولة لأنها في معنى المعرف باللام ، واعترض القول بوقوع ما تمييزا بأنها مساوية للمضمر في الإبهام فلا تميزه لأن التمييز لبيان جنس المميز ، وأجيب بمنع كونها مساوية له لأن المراد بها شيء عظيم ، والضمير لا يدل على ذلك ، ومن الغريب ما قيل : إن ما كافة فتدبر ، وقد تقدم الكلام فيما في نِعِمَّا من القراءات إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بجميع المسموعات ومنها أقوالكم بَصِيراً بكل شيء ، ومن ذلك أفعالكم ، ففي الجملة وعد ووعيد ، وقد روي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لعلي كرم اللّه تعالى وجهه : سوّ بين الخصمين في لحظك ولفظك
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعد ما أمر سبحانه ولاة الأمور بالعموم أو الخصوص بأداء الأمانة والعدل في الحكومة أمر الناس بإطاعتهم في ضمن إطاعته عز وجل وإطاعة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم حيث قال عز من قائل : أَطِيعُوا اللَّهَ أي الزموا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ المبعوث لتبليغ أحكامه إليكم في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه أيضا ، وعن الكلبي أن المعنى أَطِيعُوا اللَّهَ في الفرائض وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في السنن ، والأول أولى وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة اللّه تعالى اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام وقطعا لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن وإيذانا بأن له صلّى اللّه عليه وسلّم استقلالا بالطاعة لم يثبت لغيره ، ومن ثمّ لم يعد في قوله سبحانه : وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إيذانا بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، واختلف في المراد بهم فقيل : أمراء المسلمين في عهد الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وبعده ويندرج فيهم الخلفاء والسلاطين والقضاة وغيرهم ، وقيل : المراد بهم أمراء السرايا ، وروي ذلك عن أبي هريرة وميمون بن مهران ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي ، وأخرجه ابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالد بن الوليد في سرية ، وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم الذين يريدون فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم ذو العيينتين «1» فأخبرهم فأصبحوا قد هربوا غير رجل
___________
(1) أي الجاسوس.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 64
أمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد يسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال : يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن قومي لما سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت؟ فقال عمار : بل هو ينفعك فأقم فأقام فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله فبلغ عمارا الخبر فأتى خالدا فقال : خل عن الرجال فإنه قد أسلم وهو في أمان مني ، قال خالد : وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير فاستبا عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال خالد : يا رسول اللّه أتترك هذا العبد الأجدع يشتمني فقال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم : يا خالد لا تسب عمارا فإن من سب عمارا سبه اللّه تعالى ومن أبغض عمارا أبغضه اللّه تعالى ومن لعن عمارا لعنه اللّه تعالى فغضب عمار فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».
ووجه التخصيص على هذا أن في عدم إطاعتهم ولا سلطان ولا حاضرة مفسدة عظيمة ، وقيل : المراد بهم أهل العلم ، وروى ذلك غير واحد عن ابن عباس وجابر بن عبد اللّه ومجاهد والحسن وعطاء وجماعة ، واستدل عليه أبو العالية بقوله تعالى : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء : 83] فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام ، وحمله كثير - وليس ببعيد - على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال ، وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز ، واستشكل إرادة العلماء لقوله تعالى : فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقا والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده ، والمعنى فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين فَرُدُّوهُ فراجعوا فيه إِلَى اللَّهِ أي إلى كتابه وَالرَّسُولِ أي إلى سنته ، ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم.
وجعل بعضهم : الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل ، وقيل : على إرادة الأعم يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء ، ثم إن وجوب الطاعة لهم ما داموا على الحق فلا يجب طاعتهم فيما خالف الشرع ،
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال :
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لا طاعة لبشر في معصية اللّه تعالى» ،
وأخرج هو وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عنه أيضا كرم اللّه تعالى وجهه قال : «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سرية واستعمل عليهم رجلا «1» من الأنصار فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال : اجمعوا لي حطبا فجمعوا له حطبا قال : أوقدوا نارا فأوقدوا نارا قال : ألم يأمركم صلّى اللّه عليه وسلّم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا : بلى قال : فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول اللّه ذكروا له ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف».
وهل يشمل المباح أم لا؟ فيه خلاف ، فقيل : إنه لا يجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله اللّه تعالى ولا أن يحلل ما حرمه اللّه تعالى ، وقيل : تجب أيضا كما نص عليه الحصكفي وغيره ، وقال بعض محققي الشافعية : يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم ، وقال بعضهم : الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه
___________
(1) اسمه علقمة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 65
مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط بخلاف ما فيه ذلك فإنه يجب باطنا أيضا ، وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به ، ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الأمر فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرا فقط أو المأمور فيجب باطنا أيضا وبالعكس فينعكس ذلك كل محتمل؟ وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أو لا ، وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام ، ولم أقف على ما قاله أصحابنا في هذه المسألة فليراجع هذا ، واستدل بالآية من أنكر القياس وذلك لأن اللّه تعالى أوجب الرد إلى الكتاب والسنة دون القياس ، والحق أن الآية دليل على إثبات القياس بل هي متضمنة لجميع الأدلة الشرعية ، فإن المراد بإطاعة اللّه العمل بالكتاب ، وبإطاعة الرسول العمل بالسنة ، وبالرد إليهما القياس لأن رد المختلف فيه الغير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه ، وليس القياس شيئا وراء ذلك ، وقد علم من قوله سبحانه : فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه وهو الإجماع إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ متعلق بالأمر الأخير الوارد في محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير عن المخالفة ، وجواب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه ، والكلام على حد - إن كنت ابني فأطعني - فإن الإيمان باللّه تعالى يوجب امتثال أمره ، وكذا الإيمان باليوم الآخر لما فيه من العقاب على المخالفة ذلِكَ أي الرد المأمور به العظيم الشأن ولو حمل - كما قيل - على جميع ما سبق على التفريع لحسن.
وقال الطبرسي : إنه إشارة إلى ما تقدم من الأوامر أي طاعة اللّه تعالى وطاعة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وأولي الأمر ، ورد المتنازع فيه إلى اللّه والرسول عليه الصلاة والسلام خَيْرٌ لكم وأصلح وَأَحْسَنُ أي أحمد في نفسه تَأْوِيلًا أي عاقبة ، قاله قتادة والسدي وابن زيد ، وأفعل التفضيل في الموضعين للإيذان بالكمال على خلاف الموضوع له ، ووجه تقديم الأول على الثاني أن الأغلب تعلق أنظار الناس بما ينفعهم ، وقيل : المراد خَيْرٌ لكم في الدنيا وَأَحْسَنُ عاقبة في الآخرة ، ووجه التقديم عليه أظهر.
وعن الزجاج أن المراد أَحْسَنُ تَأْوِيلًا من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب اللّه تعالى وسنة نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم. فالتأويل إما بمعنى الرجوع إلى المآل والعاقبة ، وإما بمعنى بيان المراد من اللفظ الغير الظاهر منه ، وكلاهما حقيقة ، وإن غلب الثاني في العرف ولذا يقابل التفسير.
أَلَمْ تَرَ خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وتعجيب له عليه الصلاة والسلام أي ألم تنظر أو ألم ينته علمك إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ من الزعم ، وهو كما في القاموس مثلث القول : الحق والباطل والكذب ضد ، وأكثر ما يقال : فيما يشك فيه ، ومن هنا قيل : إنه قول بلا دليل ، وقد كثر استعماله بمعنى القول الحق ، وفي الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم «زعم جبريل»
وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي اللّه تعالى عنه «زعم رسولك» وقد أكثر سيبويه في الكتاب من قوله : زعم الخليل كذا - في أشياء يرتضيها - وفي شرح مسلم للنووي أن زعم في كل هذا بمعنى القول ، والمراد به هنا مجرد الادعاء أي يدعون أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي القرآن.
وَما أُنْزِلَ إلى موسى عليه السلام مِنْ قَبْلِكَ وهو التوراة ، ووصفوا بهذا الادعاء لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح ، وقرىء أُنْزِلَ وأُنْزِلَ بالبناء للفاعل يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ بيان لمحل التعجيب على قياس نظائره
أخرج الثعلبي وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «أن رجلا من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا فدعاه اليهود إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم إنهما

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 66
احتكما إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال : تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب ، فقال اليهودي لعمر رضي اللّه تعالى عنه : قضى لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يرض بقضائه ، فقال للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم ، فقال عمر :
مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت» ، وفي بعض الروايات : «وقال جبريل عليه السلام إن عمر فرق بين الحق والباطل وسماه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الفاروق رضي اللّه تعالى عنه» ،
والطاغوت على هذا كعب بن الأشرف ، وإطلاقه عليه حقيقة بناء على أنه بمعنى كثير الطغيان ، أو أنه علم لقب له - كالفاروق - رضي اللّه تعالى عنه ، ولعله في مقابلة الطاغوت ، وفي معناه كل من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله ، ويحتمل أن يكون الطاغوت بمعنى الشيطان ، وإطلاقه على الأخس ابن الأشرف إما استعارة أو حقيقة ، والتجوز في إسناد التحاكم إليه بالنسبة الإيقاعية بين الفعل ومفعوله بالواسطة ، وقيل : إن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه فنقله عن الشيطان إليه على سبيل المجاز المرسل ، وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أيضا قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل اللّه تعالى فيهم الآية.
وأخرج ابن جرير عن السدي كان أناس من يهود قريظة ، والنضير قد أسلموا ونافق بعضهم ، وكانت بينهم خصومة في قتيل فأبى المنافقون منهم إلا التحاكم إلى أبي برزة فانطلقوا إليه فسألوه فقال : أعظموا اللقمة ، فقالوا : لك عشرة أوساق فقال : لا بل مائة وسق ، فأبوا أن يعطوه فوق العشرة ، فأنزل اللّه تعالى فيهم ما تسمعون ، وعلى هذا ففي الآية من الإشارة إلى تفظيع التحاكم نفسه ما لا يخفى ، وهو أيضا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة ، ويمكن حمل خبر الطبراني عليه بحمل المسلمين فيه على المنافقين ممن أسلم من قريظة والنضير وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ في موضع الحال من ضمير يُرِيدُونَ وفيه تأكيد للتعجيب كالوصف السابق ، والضمير المجرور راجع إلى الطاغوت وهو ظاهر على تقدير أن يراد منه الشيطان وإلا فهو عائد إليه باعتبار الوصف لا الذات أي أمروا أن يكفروا بمن هو كثير الطغيان أو شبيه بالشيطان ، وقيل : الضمير للتحاكم المفهوم من : «يتحاكموا» ، وفيه بعد وقرأ عباس بن المفضل بها ، وقرىء بهن ، والضمير أيضا للطاغوت لأنه يكون للواحد والجمع ، وإذا أريد الثاني أنث باعتبار معنى الجماعة ، وقد تقدم وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً عطف على الجملة الحالية داخلة في حكم التعجيب ، وفيها على بعض الاحتمالات وضع المظهر موضع المضمر على معنى «يريدون أن يتحاكموا إلى الشيطان» وهو بصدد إرادة إضلالهم ولا يريدون أن يتحاكموا إليك وأنت بصدد إرادة هدايتهم ، وضَلالًا إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد على حد ما قيل في أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] وإما مؤكد لفعله المدلول عليه بالمذكور أي فيضلون ضلالا ، ووصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لأولئك الزاعمين تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ المبعوث
للحكم بذلك رَأَيْتَ أي أبصرت أو علمت الْمُنافِقِينَ وهم الزاعمون ، والإظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم أي رأيتهم لنفاقهم يَصُدُّونَ أي يعرضون عَنْكَ صُدُوداً أي إعراضا أيّ إعراض فهو مصدر مؤكد لفعله وتنوينه للتفخيم ، وقيل : هو اسم للمصدر الذي هو الصد ، وعزي إلى الخليل ، والأظهر أنه مصدر لصد اللازم ، والصد مصدر للمتعدي ، ودعوى - أن يصدون هنا متعد حذف مفعوله أي يصدون المتحاكمين أي يمنعونهم - مما لا حاجة إليه ، وهذه الجملة تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت ، وقرأ الحسن «تعالوا» بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطا كما قالوا : ما باليت به بالة ، وأصلها بالية كعافية ، وكما قال الكسائي في آية : إن أصلها آيية

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 67
كفاعلة فصارت اللام كاللام فضمت للواو ، ومن ذلك قول أهل مكة : «تعالي» بكسر اللام للمرأة ، وهي لغة مسموعة أثبتها ابن جني فلا عبرة بمن لحن كابن هشام الحمداني فيها حيث يقول :
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي
ولا حاجة إلى القول بأن - تعالي - الأولى مفتوحة اللام ، والثانية مكسورتها للقافية كما لا يخفى ، وأصل معنى هذا الفعل طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمم فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أَصابَتْهُمْ نالتهم مُصِيبَةٌ نكبة تظهر نفاقهم بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من الجنايات ، كالتحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك ثُمَّ جاؤُكَ للاعتذار ، وهو عطف على أَصابَتْهُمْ والمراد تهويل ما دهاهم ، وقيل : على يَصُدُّونَ وما بينهما اعتراض يَحْلِفُونَ حال من فاعل جاؤُكَ أي حالفين لك بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً إلى الخصوم وَتَوْفِيقاً بينهم ، ولم نرد بالمرافعة إلى غيرك عدم الرضا بحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا ، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم ، ويعتذرون ولا يغني عنهم الاعتذار ، وقيل :
جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه ، وقالوا : إن أردنا بالتحاكم إلى عمر رضي اللّه تعالى عنه إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه - فإذا - على هذا لمجرد الظرفية دون الاستقبال.
وقيل : المعنى بالآية عبد اللّه بن أبيّ والمصيبة ما أصابه وأصحابه من الذل برجوعهم من غزوة بني المصطلق - وهي غزوة مريسيع - حين نزلت سورة المنافقين فاضطروا إلى الخشوع والاعتذار على ما سيذكر في محله إن شاء اللّه تعالى وقالوا : ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين في تلك الغزوة إلا الخير ، أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتقي به النار أُولئِكَ أي المنافقون المذكورون. الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من فنون الشرور المنافية لما أظهروا لك من بنات غير وجاؤوا به من أذني عناق فَأَعْرِضْ حيث كانت حالهم كذلك عَنْهُمْ أي قبول عذرهم ، ويلزم ذلك الإعراض عن طلبهم دم القتيل لأنه هدر ، وقيل : عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ، ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم الخبيثة حتى يبقوا على نيران الوجل وَعِظْهُمْ بلسانك وكفهم عن النفاق وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي قل لهم خاليا لا يكون معهم أحد لأنه أدعى إلى قبول النصيحة ، ولذا قيل : النصح بين الملأ تقريع ، أو قل لهم في شأن أنفسهم ومعناها قَوْلًا بَلِيغاً مؤثرا واصلا إلى كنه المراد مطابقا لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر.
وقيل : متعلق ب بَلِيغاً وهو ظاهر على مذهب الكوفيين ، والبصريون لا يجيزون ذلك لأن معمول الصفة عندهم لا يتقدم على الموصوف لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقدم عامله ، وقيل : إنه إنما يصح إذا كان ظرفا وقواه البعض ، وقيل : إنه متعلق بمحذوف يفسره المذكور - وفيه بعد - والمعنى على تقدير التعلق قُلْ لَهُمْ قَوْلًا بَلِيغاً فِي أَنْفُسِهِمْ مؤثرا فيها يغتمون به اغتماما ، ويستشعرون منه الخوف استشعارا ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال ، والإيذان بأن ما انطوت عليه قلوبهم الخبيثة من الشر والنفاق بمرأى من اللّه تعالى ومسمع - غير خاف عليه سبحانه - وإن ذلك مستوجب لما تشيب منه النواصي ، وإنما هذه المكافة والتأخير لإظهارهم الإيمان وإضمارهم الكفر ، ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق لتسامرنهم السمر والبيض ، وليضيقن عليهم رحب الفلا بالبلاء العريض ، واستدل بالآية الأولى على أنه قد تصيب المصيبة بما يكتسبه العبد من الذنوب ، ثم اختلف في ذلك فقال الجبائي : لا يكون ذلك إلا عقوبة في التائب ، وقال أبو هاشم : يكون ذلك لطفا.
وقال القاضي عبد الجبار : قد يكون لطفا وقد يكون جزاء وهو موقوف على الدليل.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 68
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ تمهيد لبيان خطئهم باشتغالهم بستر نار جنايتهم بهشيم اعتذارهم الباطل وعدم إطفائها بماء التوبة أي وما أرسلنا رسولا من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى وأمره المرسل إليهم أن يطيعوه لأنه مؤد عنه عز شأنه فطاعته طاعته ومعصيته معصيته أو بتيسيره وتوفيقه سبحانه في طاعته ، ولا يخفى ما في العدول عن الضمير إلى الاسم الجليل ، واحتج المعتزلة بالآية على أن اللّه تعالى لا يريد إلا الخير والشر على خلاف إرادته ، وأجاب عن ذلك صاحب التيسير بأن المعنى إلا ليطيعه من أذن له في الطاعة وأرادها منه ، وأما من لم يأذن له فيريد عدم طاعته فلذا لا يطيعه ويكون كافرا ، أو بأن المراد إلزام الطاعة أي وما أرسلنا رسولا إلا لإلزام طاعته الناس ليثاب من انقاد ويعاقب من سلك طريق العناد فلا تنتهض دعواهم الاحتجاج بها على مدعاهم ، واحتج بها أيضا من أثبت الغرض في أفعاله تعالى وهو ظاهر ، ولا يمكن تأويل ذلك بكونه غاية لا غرضا لأن طاعة الجميع لا تترتب على الإرسال إلا أن يقال إن الغاية كونه مطاعا بالإذن لا للكل إذ من لا إذن له لا يطيع ، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وعرضوها للبوار بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ على إثر ظلمهم بلا ريث متوسلين بك تائبين عن جنايتهم غير جامعين - حشفا وسوء كيلة - باعتذارهم الباطل وأيمانهم الفاجرة فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لذنوبهم ونزعوا عمّا هم عليه وندموا على ما فعلوا.
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ وسأل اللّه تعالى أن يقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم ، وفي التعبير - باستغفر - إلخ دون استغفرت تفخيم لشأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث عدل عن خطابه إلى ما هو من عظيم صفاته على طريق حكم الأمير بكذا مكان حكمت وتعظيم لاستغفاره عليه الصلاة والسلام حيث أسنده إلى لفظ مبنىء عن علو مرتبته لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أي لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالتجاوز عما سلف من ذنوبهم ، ومن فسر - الوجدان - بالمصادفة كان الوصف الأول حالا ، والثاني بدلا منه أو حالا من الضمير فيه أو مثله ، وفي وضع الاسم الجامع موضع الضمير إيذان بفخامة القبول والرحمة فَلا وَرَبِّكَ أي - فو ربك - ولا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفي في جوابه أعني قوله تعالى لا يُؤْمِنُونَ لأنها تزاد في الإثبات أيضا كقوله تعالى : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة :
75] وهذا ما اختاره الزمخشري ومتابعوه في «لا» التي تذكر قبل القسم ، وقيل : إنها رد لمقدر أي لا يكون الأمر كما زعمتم ، واختاره الطبرسي ، وقيل : مزيدة لتأكيد النفي في الجواب ولتأكيد القسم إن لم يكن نفي ، وقال ابن المنير :
الظاهر عندي أنها هاهنا لتوطئة النفي المقسم عليه ، والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك سوى مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وهو لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة على أنها لم ترد في القرآن إلا مع صريح فعل القسم ومع القسم بغير اللّه تعالى مثل لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد : 1] لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة : 1] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الانشقاق : 16] قصدا إلى تأكيد القسم وتعظيم المقسم به إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بدخولها يقول : إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها - كلا إعظام - يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك ، وهو لا يحسن في القسم باللّه تعالى إذ لا توهم ليزاح ، ولم تسمع زيادتها مع القسم باللّه إلا إذا كان الجواب منفيا فدل ذلك على أنها معه زائدة موطئة للنفي الواقع في الجواب ، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت وإنما كثر دخولها على القسم وجوابه نفي كقوله :
فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر
وقوله :
ألا نادت أمامة بارتحال لتحزنني فلا بك ما أبالي

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 69
وقوله :
رأى برقا «1» فأوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أغاما
إلى ما لا يحصى كثرة ، ومن هذا يعلم الفرق بين المقامين والجواب عن قولهم : إنه لا فرق بينهما فتأمل ذلك فهو حقيق بالتأمل حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حكما أو حاكما ، وقال شيخ الإسلام : يتحاكموا إليك ويترافعوا ، وإنما جيء بصيغة التحكيم مع أنه صلّى اللّه عليه وسلّم حاكم بأمر اللّه إيذانا بأن اللائق بهم أن يجعلوه عليه الصلاة والسلام حكما فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكما على الإطلاق فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط ، ومنه الشجر لتداخل أغصانه ، وقيل : للمنازعة تشاجر لأن المتنازعين تختلف أقوالهم وتتعارض دعاويهم ويختلط بعضهم ببعض ثُمَّ لا يَجِدُوا عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتحكم بينهم ثم لا يجدوا فِي أَنْفُسِهِمْ وقلوبهم حَرَجاً أي شكا - كما قاله مجاهد - أو ضيقا - كما قاله الجبائي - أو إثما - كما روي عن الضحاك - واختار بعض المحققين تفسيره بضيق الصدر لشائبة الكراهة والإباء لما أن بعض الكفرة كانوا يستيقنون الآيات بلا شك ولكن يجحدون ظلما وعتوا فلا يكونوا مؤمنين ، وما روي عن الضحاك يمكن إرجاعه إلى أيّ الأمرين شئت ونفي وجدان الحرج أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى ، وهو مفعول به - ليجدوا - والظرف قيل :
حال منه أو متعلق بما عنده ، وقوله تعالى : مِمَّا قَضَيْتَ متعلق بمحذوف وقع صفة لحرجا ، وجوز أبو البقاء تعلقه به ، وما يحتمل أن تكون موصولة ونكرة موصوفة ومصدرية أي من الذي قضيته أي قضيت به أو من شيء قضيت أو من قضائك وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي ينقادوا لأمرك ويذعنوا له بظاهرهم وباطنهم كما يشعر به التأكيد ، ولعل حكم هذه الآية باق إلى يوم القيامة وليس مخصوصا بالذين كانوا في عصر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فإن قضاء شريعته عليه الصلاة والسلام قضاؤه ،
فقد روي عن الصادق رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : لو أن قوما عبدوا اللّه تعالى وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشيء صنعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ألا صنع خلاف ما صنع ، أو وجدوا في أنفسهم حرجا لكانوا مشركين ثم تلا هذه الآية ،
وسبب نزولها - كما قال الشعبي ومجاهد : ما مر من قصة بشر - واليهودي اللذين قضى بينهما عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه بما قضى.
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي من طريق الزهري «أن عروة بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم «2» رجلا من الأنصار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في شراج «3» من الحرة كان يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال : يا رسول اللّه إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر «4» ثم أرسل الماء إلى جارك ، واستوعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للزبير حقه وكان رسول اللّه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري فلما أحفظ «5» رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الأنصاري استوعى
___________
(1) أي أسرع ا ه منه.
(2) قيل : هو حاطب بن أبي بلتعة وقيل : ثعلبة بن حاطب وقيل : حاطب بن راشد ، وقيل : ثابت بن قيس ا ه منه.
(3) جمع شرجة مسيل الماء ا ه منه.
(4) بالدال والذال. المسناة. حول الزرع ، ويقال لها : المرز ا ه منه.
(5) أي أغضب ا ه منه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 70
للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك فَلا وَرَبِّكَ إلخ.
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أي فرضنا وأوجبنا أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي كما أمرنا بني إسرائيل وتفسير ذلك بالتعرض له بالجهاد بعيد أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما أمرنا بني إسرائيل أيضا بالخروج من مصر.
والمراد إنما كتبنا عليهم إطاعة الرسول والانقياد لحكمه والرضا به ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار كما كتبنا ذلك على غيرهم ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهم المخلصون من المؤمنين كأبي بكر رضي اللّه تعالى عنه.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد اللّه بن الزبير قال : «لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : يا رسول اللّه لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت فقال : صدقت يا أبا بكر»
وكعبد اللّه بن رواحة ،
فقد أخرج عن شريح بن عبيد «أنها لما نزلت أشار صلّى اللّه عليه وسلّم إليه بيده فقال : لو أن اللّه تعالى كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل».
وكابن أم عبد ،
فقد أخرج عن سفيان «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال فيه : لو نزلت كان منهم» ،
وأخرج عن الحسن قال : «لما نزلت هذه الآية قال أناس من الصحابة : لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي»
وروي أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال : واللّه لو أمرنا لفعلنا فالحمد للّه الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.
وفي بعض الآثار أن الزبير وصاحبه لما خرجا بعد الحكم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مرا على المقداد فقال : لمن القضاء؟ فقال الأنصاري : لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال : قاتل اللّه تعالى هؤلاء يشهدون أنه رسول اللّه ويتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم اللّه تعالى لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه ، وقال اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا فقال ثابت بن قيس : أما واللّه إن اللّه تعالى ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أن أقتل نفسي لقتلتها ، وروي أن قائل ذلك هو وابن مسعود وعمار بن ياسر وأنه بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنهم فقال : «والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي وإن الآية نزلت فيهم ،
وفي رواية البغوي الاقتصار على ثابت بن قيس ، وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى ، وكأنه لذلك قال صاحب الكشاف في معناها : لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم ، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل ، وقال بعضهم : إن المراد أننا قد خففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني إسرائيل لم يتوبوا. والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة ، ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم ، وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار الديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها وبعد انفلاق البحر - وهذا مما لا امتراء فيه - على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات ، وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ [الأعراف : 152] لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعا ، وقد حقق بعض المحققين أنها في المصرين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى والعجب من صاحب الكشف كيف لم يتعقب كلام صاحب الكشاف بأكثر من أنه ليس منصوصا في القرآن ، ثم نقل كلامه في الآية.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 71
هذا والكلام في لَوْ هنا أشهر من نار على علم ، وحقها كما قالوا : أن يليها فعل ، ومن هنا قال الطبرسي :
التقدير لو وقع كتبنا عليهم ، وقال الزجاج : إنها وإن كان حقها ذلك إلا أن إن الشديدة تقع بعدها لأنها تنوب عن الاسم والخبر ، فنقول ظننت أنك عالم كما تقول : ظننتك عالما أي ظننت علمك ثابتا فهي هنا نائبة عن الفعل والاسم كما أنها هناك نائبة عن الاسم والخبر ، وضمير الجمع في عَلَيْهِمْ وما بعده قيل : للمنافقين ، ونسب إلى ابن عباس ومجاهد ، واعترض بأن فعل القليل منهم غير متصور إذ هم المنافقون الذين لا تطيب أنفسهم بما دون القتل بمراتب ، وكل شيء دون المنية سهل ، فكيف تطيب بالقتل ويمتثلون الأمر به؟ وأجيب بأن المراد لو كتبنا على المنافقين ذلك ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم. فإذا لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم الأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص ، ونسب ذلك للبلخي.
ولا يخفى أن
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في عبد اللّه بن رواحة : «لو أن اللّه تعالى كتب ذلك لكان منهم»
وكذا غيره من الأخبار السالفة تأبى هذا التوجيه غاية الإباء لأنها مسوقة للمدح ، ولا مدح في كون أولئك المذكورين من القليل الذين يمتثلون الأمر رياء وسمعة بل ذلك غاية في الذم لهم وحاشاهم ، وقيل : للناس مطلقا ، والقلة إضافية لأن المراد بالقليل المؤمنون وهم وإن كثروا قليلون بالنسبة إلى من عداهم من المنافقين ، والكفرة المتمردين وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف : 103] وحينئذ لا يرد أنه يلزم من الآية كون بني إسرائيل أقوى إيمانا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث امتثلوا أمر اللّه تعالى لهم بقتل أنفسهم حتى بلغ قتلاهم سبعين ألفا. ولا يمتثله لو كان من الصدر الأول إلا قليل.
ومن الناس من جعل الآية بيانا لكمال اللطف بهذه الأمة حيث إنه لا يقبل القتل منهم إلا القليل لأن اللّه تعالى يعفو عنهم بقتل قليل ولا يدعهم أن يقتل الكثير كبني إسرائيل لا أنهم لا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل لقلة المخلصين فيهم وكثرة المخلصين في بني إسرائيل ليلزم التفضيل.
وقيل : يحتمل أن يكون قتل كثير من بني إسرائيل لأنهم لو لم ينقادوا لأهلكهم عذاب اللّه تعالى ، وهذه الأمة مأمونون إلى يوم القيامة فلا يقدمون كما أقدموا لعدم خوف الاستئصال لا لأنهم دون ، وأن بني إسرائيل أقوى منهم إيمانا ، وأنت تعلم أن الآية بمراحل عن إفادتها كمال اللطف ، والسباق والسياق لا يشعران به أصلا وأن خوف الاستئصال وعدمه مما لا يكاد يخطر ببال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال ، والضمير المنصوب في فَعَلُوهُ للمكتوب الشامل للقتل والخروج لدلالة الفعل عليه ، أو هو عائد على القتل والخروج وللعطف - بأو - لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين ، وقول الإمام الرازي : إن الضمير عائد إليهما معا بالتأويل تنبو عنه الصناعة ، وقَلِيلٌ لكون الكلام غير موجب بدل من الضمير المرفوع في فَعَلُوهُ ، وقرأ ابن عامر إلا قليلا بالنصب وجعله غير واحد على أنه صفة لمصدر محذوف ، والاستثناء مفرغ أي ما فعلوه إلا فعلا قليلا ، و- من - في مِنْهُمْ حينئذ للابتداء على نحو ما ضربته إلا ضربا منك مبرحا ، وقال الطيبي : إنها بيان للضمير في - فعلوا - كقوله تعالى : لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ [المائدة : 73] على التجريد وليس بشيء ، وكأن الذي دعاهم إلى هذا والعدول عن القول بنصبه على الاستثناء أن النصب عليه في غير الموجب غير مختار ، فلا يحمل القرآن عليه - كما يشير إليه كلام الزجاج - حيث قال : النصب جائز في غير القرآن لكن قال ابن الحاجب : لا بعد في أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى ، وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه بل التزم بعض
الناس أنه يجوز أن يجمع القراء غير الأقوى وحققه الحمصي ، وقيل : بل يكون إجماعهم دليلا على أن ذلك هو القوي لأنهم هم المتفننون الآخذون عن مشكاة النبوة ، وأن تعليل النحاة غير ملتفت إليه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 72
ورجح بعضهم أيضا النصب على الاستثناء هنا بأن فيه توافق القراءتين معنى وهو مما يهتم به ، وبأن توجيه الكلام على غيره لا يخلو عن تكلف ودغدغة ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب - «أن اقتلوا» - بكسر النون على الأصل في التخلص من الساكنين ، وأَوِ اخْرُجُوا بضم الواو للاتباع ، والتشبيه بواو الجمع في نحو وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة : 237] ، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل ، والباقون بضمهما وهو ظاهر ، وأَنِ كيفما كانت نونها إما مفسرة - لأنا كتبنا - في معنى أمرنا ولا يضر تعديه بعلى لأنه لم يخرج عن معناه ، ولو خرج فتعديه باعتبار معناه الأصلي جائز كما في - نطقت الحال بكذا - حيث تعدى الفعل بالباء مع أنهم قد يريدون به دل ، وهو يتعدى بعلى.
وإن أبيت هذا ولا أظن قلنا : إنه بمعنى أو حينا وإما مصدرية وهو الظاهر ولا يضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي ما يؤمرون به مقرونا بالوعد والوعيد من متابعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والانقياد إلى حكمه ظاهرا وباطنا لَكانَ فعلهم ذلك خَيْراً لَهُمْ عاجلا وآجلا وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً لهم على الحق والصواب وأمنع لهم من الضلال وأبعد من الشبهات كما قال سبحانه : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد : 17] ، وقيل :
معناه أكثر انتفاعا لأن الانتفاع بالحق يدوم ولا يبطل لاتصاله بثواب الآخرة ، والانتفاع بالباطل يبطل ويضمحل ويتصل بعقاب الآخرة.
وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ لأعطيناهم مِنْ لَدُنَّا من عندنا أَجْراً ثوابا عَظِيماً لا يعرف أحد مبداه ولا يبلغ منتهاه ، وإنما ذكر من لدنا تأكيدا ومبالغة وهو متعلق بآتيناهم ، وجوز أن يكون حالا من أَجْراً والواو للعطف و- لآتيناهم - معطوف على لكان خيرا لهم لفظا وإِذاً مقحمة للدلالة على أن هذا الجزاء الأخير بعد ترتب التالي السابق على المقدم ولإظهار ذلك وتحقيقه قال المحققون : إنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : وماذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل : وَإِذاً لو ثبتوا لآتيناهم وليس مرادهم أنه جواب لسؤال مقدر لفظا ومعنى ، وإلا لم يكن لاقترانه بالواو وجه ، وإظهار لَوْ ليس لأنها مقدرة بل لتحقيق أن ذلك جواب للشرط لكن بعد اعتبار جوابه الأول ، والمراد بالجواب في قولهم جميعا : إن إذا حرف جواب دائما أنها لا تكون في كلام مبتدأ بل هو في كلام مبني على شيء تقدمه ملفوظ ، أو مقدر سواء كان شرطا ، أو كلام سائل ، أو نحوه كما أنه ليس المراد بالجزاء اللازم لها ، أو الغالب إلا ما يكون مجازاة لفعل فاعل سواء السائل وغيره ، وبهذا تندفع الشبه الموردة في هذا المقام ، وزعم الطيبي أن ما أشرنا إليه من التقدير تكلف من ثلاثة أوجه - وهو توهم منشؤه الغفلة عن المراد - كالذي زعمه العلامة الثاني ، فتدبر وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو المراتب - بعد الإيمان - التي تفتح أبوابها للعاملين ،
فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : من عمل بما علم أورثه اللّه تعالى علم ما لم يعلم» ،
وقال الجبائي : المعنى ولهديناهم في الآخرة إلى طريق الجنة وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ بالانقياد لأمره ونهيه وَالرَّسُولَ المبلغ ما أوحي إليه منه باتباع شريعته ، والرضا بحكمه ، والكلام مستأنف فيه فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما تنتهي إليه همم الأمم ، وأرفع ما تمتد إليه أعناق أمانيهم ، وتشرئب إليه أعين عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا وأرفعهم منارا ، ومتضمن لتفسير ما أبهم وتفصيل ما أجمل في جواب الشرطية السابقة وَمَنْ شرطية وإفراد ضمير يُطِعِ مراعاة للفظ ، والجمع في قوله سبحانه فَأُولئِكَ مراعاة للمعنى أي فالمطيعون الذين علت درجتهم وبعدت منزلتهم شرفا وفضلا.
مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للمنعم عليهم فهو حال

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 73
إما من الَّذِينَ أي مقارنيهم حال كونهم مِنَ النَّبِيِّينَ وإما من ضميره والتعرض لمعية الأنبياء دون نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة مع أن الكلام في بيان حكم طاعته عليه الصلاة والسلام لجريان ذكرهم في سبب النزول مع الإشارة إلى أن طاعته متضمنة لطاعتهم ،
أخرج الطبراني وأبو نعيم والضياء المقدسي وحسنه قال : «جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول اللّه إنك لأحب إليّ من نفسي وإنك لأحب إليّ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ، إلخ ، وروي مثله عن ابن عباس.
وقال الكلبي : إن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان شديد الحب له عليه الصلاة والسلام قليل الصبر عنه ، وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلّى اللّه عليه وسلّم بعد الموت فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ،
وعن مسروق «إن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا : ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فنزلت»
وبدأ بذكر النبيين لعلو درجتهم وارتفاعهم على من عداهم ، وقد نقل الشعراني عن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال :
«فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق» ثم عطف عليهم على سبيل التدلي قوله سبحانه :
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ فالمنازل أربعة بعضها دون بعض : الأول منازل الأنبياء وهم الذين تمدهم قوة إلهية وتصحبهم نفس في أعلى مراتب القدسية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب ، ولذلك قال تعالى في صفة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم : أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى [النجم : 12] ، والثاني منازل الصديقين وهم الذين يتأخرون على الأنبياء عليهم السلام في المعرفة ، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من بعيد ، وإياه عنى علي كرم اللّه تعالى وجهه حيث
قيل له : هل رأيت اللّه تعالى؟ فقال : ما كنت لأعبد ربا لم أره ، ثم قال : لم تره العيون بشواهد العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ،
والثالث منازل الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين ، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب كحال من قال : كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وإياه قصد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم
بقوله : «اعبد اللّه تعالى كأنك تراه» ،
والرابع منازل الصالحين وهم الذين يعلمون الشيء بالتقليد الجازم ، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة وإياه قصد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم
بقوله : «فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
قاله الراغب ونقله الطيبي وغيره ، ونقل بعض تلامذة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس سره عنه «أنه قرر يوما أن مراتب الكمل أربعة : نبوة وقطب مدارها نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، ثم صديقية وقطب مدارها أبو بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه ، ثم شهادة وقطب مدارها عمر الفاروق رضي اللّه تعالى عنه ، ثم ولاية وقطب مدارها علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وأن الصلاح في الآية إشارة إلى الولاية فسأله بعض الحاضرين عن عثمان رضي اللّه تعالى عنه في أي مرتبة هو من مراتب الثلاثة بعد النبوة فقال : إنه رضي اللّه تعالى عنه قد نال حظا من رتبة الشهادة ، وحظا من رتبة الولاية ، وأن معنى كونه ذا النورين هو ذلك عند العارفين انتهى.
وأنا مستعينا باللّه تعالى ، ومستمدا من القوم قدس اللّه تعالى أسرارهم أقول : إن الولاية هي المحيطة العامة والفلك الدائر والدائرة الكبرى ، وأن الولي من كان على بينة من ربه في حاله فعرف ما له بإخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده ويصدق على أصناف كثيرة إلا أن المذكور منها في هذه الآية أربعة : الصنف الأول الأنبياء ، والمراد بهم هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا أعني بطريق الوجوب عليهم ولا بحث لأهل اللّه تعالى عن مقاماتهم وأحوالهم إذ لا ذوق لهم فيها وكلهم معترفون بذلك غير أنهم يقولون : إن النبوة عامة وخاصة والتي لا ذوق لهم فيها هي الخاصة أعني نبوة التشريع وهي مقام خاص في الولاية.
وأما النبوة العامة فهي مستمرة سارية في أكابر الرجال غير منقطعة دنيا وأخرى لكن باب الإطلاق قد انسد ،

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 74
وعلى هذا يخرج ما رواه البدر التماسكي البغدادي عن الشيخ بشير عن القطب عبد القادر الجيلي قدس سره أنه قال : - معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوا - فإن معنى قوله : - أوتيتم اللقب - أنه حجر علينا إطلاق لفظ النبي ، وإن كانت النبوة العامة أبدية ، وقوله : وأوتينا ما لم تؤتوا على حد قول الخضر لموسى عليه السلام - وهو أفضل منه - يا موسى أنا على علم علمنيه اللّه تعالى لا تعلمه أنت ، وهذا وجه آخر غير ما أسلفنا من قبل في توجيه هذا الكلام.
والصنف الثاني الصديقون وهم المؤمنون باللّه تعالى ورسله عن قول المخبر لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي أعد في قلوبهم قبل وجود المصدق به المانع لها من تردد ، أو شك يدخلها في قول المخبر الرسول ومتعلقه في الحقيقة الإيمان بالرسول ويكون الإيمان باللّه تعالى على جهة القربة لا على إثباته إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق جل وعلا ضرورة ، أو نظرا لكن ما ثبت كونه قربة وليس بين النبوة والصديقية - كما قال حجة الإسلام وغيره - مقام ، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة وهي باب مغلق ، وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره مقاما بينهما سماه مقام القربة ، وهو السر الذي وقر في قلب أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه المشار إليه
في الحديث «فليس بين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأبي بكر رضي اللّه تعالى عنه رجل أصلا»
لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة مقام ولها أجزاء على عدد شعب الإيمان ، وفسرها بعضهم بأنها نور أخضر بين نورين يحصل به شهود عين ما جاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم وبين ذلك بما يطول.
والصنف الثالث الشهداء تولاهم اللّه تعالى بالشهادة وجعلهم من المقربين ، وهم أهل الحضور مع اللّه تعالى على بساط العلم به فقد قال سبحانه : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران : 18] فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة فهم موحدون عن حضور إلهيّ وعناية أزلية فإن بعث اللّه تعالى رسولا وآمنوا به فهم المؤمنون العلماء ولهم الأجر التام يوم القيامة وإلا فليس هم الشهداء المنعم عليهم وإيمانهم بعد العلم بما قاله اللّه سبحانه : إن ذلك قربة إليه من حيث - قال اللّه سبحانه ، أو قاله الرسول الذي جاء من عنده - فقدم الصديق على الشهيد وجعل بإزاء النبي فإنه لا واسطة بينهما لاتصال نور الإيمان بنور الرسالة ، والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث هو شاهد للّه تعالى بتوحيده لا من حيث هو رسول فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة لئلا تبطل ولا أن يكون معه لكونه رسولا ، والشاهد ليس به فلا بد أن يتأخر فلم يبق إلا أن يكون في الرتبة التي تلي الصديقية فإن الصديق أتم نورا منه في الصديقية لأنه صديق من وجهين : وجه التوحيد ووجه القربة ، والشهيد من وجه القربة خاصة لأن توحيده عن علم لا عن إيمان فنزل عن الصديق في مرتبة الإيمان وهو فوقه في مرتبة العلم فهو المتقدم في مرتبة العلم المتأخر برتبة الإيمان ، والتصديق فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقا ، وقد تقدم العلم مرتبة الخبر فهو يعلم أنه صادق في توحيد اللّه تعالى إذا بلغ رسالة اللّه تعالى والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الإيمان المعد في قلبه فعند ما جاء الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر ، والصنف الرابع الصالحون تولاهم اللّه تعالى بالصلاح وهم الذين لا يدخل في علمهم باللّه تعالى ولا إيمانهم به وبما جاء من عنده سبحانه خلل فإذا دخله بطل كونه صالحا وكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح ، ولا في شهادته فهو
صالح ، ولا في توبته فهو صالح ، ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه لأن الأمر اختصاص إلهي وليس بذاتي فيجوز دخول الخلل فيه ، ويجوز رفعه ، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان ما ، وقد ذكر أنه ما من نبي إلا وذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا ، ومن هنا قيل : إن مرتبة الصلاح خصوص في النبوة وقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 75
هذا ما وقفت عليه من كلام القوم قدس اللّه تعالى أسرارهم ، ولم أظفر بالتفصيل الذي ذكره ، مولانا الشيخ قدس سره فتدبر ، وقد ذكر أصحابنا الرسميون أن الصديق صيغة مبالغة - كالسكير - بمعنى المتقدم في التصديق المبالغ في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال ، ويطلق على كل من أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم كأبي بكر رضي اللّه تعالى عنه ، وأن الشهداء جمع شهيد ، والمراد بهم الذين بذلوا أرواحهم في طاعة اللّه تعالى وإعلاء كلمته وهم المقتولون بسيف الكفار من المسلمين ، وقيل : المراد بهم هاهنا ما هو أعم من ذلك ،
فعن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا : يا رسول اللّه من قتل في سبيل اللّه تعالى فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : إن شهداء أمتي إذا لقليل من قتل في سبيل اللّه تعالى فهو شهيد ، ومن مات في الطاعون فهو شهيد ، ومن مات مبطونا فهو شهيد»
وعد بعضهم الشهداء أكثر من ذلك بكثير ، وقيل : الشهيد هو الذي يشهد لدين اللّه تعالى تارة بالحجة والبيان ، وأخرى بالسيف والسنان ، وزعم النيسابوري أنه لا يبعد أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة : 143] وليس بشيء كما لا يخفى ، وأن المراد بالصالحين الصارفين «1» أعمارهم في طاعة اللّه تعالى وأموالهم في مرضاته سبحانه ، ويقال :
الصالح هو الذي صلحت حاله واستقامت طريقته.
والمصلح هو الفاعل لما فيه الصلاح قال الطبرسي : ولذا يجوز أن يقال : مصلح في حق اللّه تعالى دون صالح ، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما ، وذكر غير واحد أنه لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولا يرى أنه أرغد منه عيشا ولا أكمل لذة لئلا يكون ذلك حسرة في قلبه ، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصا في ملكه أو حطا من قدره.
وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون ، وادعى بعضهم أن لا تزاور مع رؤية كل واحد الآخر ، وذلك لأن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع فينعكس بعضها على بعض كالمرايا المجلوة المتقابلة ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر : 47] وزعم أنه التحقيق وهو بعيد عنه ، وأبعد من ذلك بمراحل ما قيل : يحتمل أن يكون المراد أن معنى كون المطيع مع هؤلاء أنه معهم في سلوك طريق الآخرة فيكون مأمونا من قطاع الطريق محفوظ الطاعة عن النهب وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي صاحبا ، وهو مشتق من الرفق ، وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولا وفعلا ، والإشارة يحتمل أن تكون إلى النبيين ومن بعدهم وما فيها من معنى البعد لما مرّ مرارا ورَفِيقاً حينئذ إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين ، أو حال كونهم رفقاء لهم ولم يجمع لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره أو اكتفاء بالواحد عن الجمع في باب التمييز لفهم المعنى ، وحسنة وقوعه في الفاصلة أو لأنه بتأويل حسن كل واحد منهم أو لأنه قصد بيان الجنس مع قطع النظر عن الأنواع ، ويحتمل أن تكون إلى - من يطع - والجمع على المعنى ف رَفِيقاً حينئذ تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من الفرق الأربع لا بنفس الحسن فلا يجوز دخول - من - عليه كما يجوز في الوجه الأول.
والجملة على الاحتمالين تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق ، وفي الكشاف فيه معنى التعجب كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجيب قرىء وَحَسُنَ بسكون السين يقول المتعجب : حسن
___________
(1) قوله : (الصارفين) كذا بخطه ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 76
الوجه وجهك ، وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى.
وفي الصحاح يقال : حسن الشيء وإن شئت خففت الضمة فقلت : حسن الشيء ، ولا يجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء لأنه خبر ، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس ، وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس فسكن ثانيهما ، ونقلت حركته إلى ما قبله وكذلك كل ما كان في معناهما قال الشاعر :
لم يمنع الناس مني ما أردت وما أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا
أراد حسن هذا أدبا فخفف ونقل ، وأراد أنه لما نقل إلى الإنشاء حسن أن يغير تنبيها على مكان النقل ، وفي الارتشاف : إن فعل المحول ، ذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فقط ، وإجراء أحكامه عليه ، وذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب. وحكى الأخفش الاستعمالين عن العرب ويجوز فيه ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء ، وظاهره تغاير المذهبين ، وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس ، وفيه معنى التعجب ، وهو يقتضي أن لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام الشيخين فافهم ، والحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب إما عقلا أو هوى أو حسا ، وأكثر ما يقال في متعارف العامة في المستحسن بالبصر ، وقد جاء في القرآن له وللمستحسن من جهة البصيرة ذلِكَ إشارة إلى ما ثبت للمطيعين من جميع ما تقدم ، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم وهو مبتدأ ، وقوله سبحانه : الْفَضْلُ صفة ، وقوله تعالى : مِنَ اللَّهِ خبره أي ذلك الفضل العظيم كائن من اللّه تعالى لا من غيره ، وجوز أبو البقاء أن يكون الْفَضْلُ هو الخبر ، ومِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع حالا منه والعامل فيه معنى الإشارة ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا أي ذلك الذي ذكر الفضل كائنا ، أو كائن من اللّه تعالى لا أن أعمال العباد توجبه وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بثواب من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله بمقتضى الوعد فثقوا بما أخبركم به وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر : 14].
وقيل : وكفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين ، ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح.
[سورة النساء (4) : الآيات 71 إلى 85]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 77
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي عدتكم من السلاح - قاله مقاتل - وهو المروي عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه ، وقيل : الحذر مصدر كالحذر ، وهو الاحتراز عما يخاف فهناك الكناية والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية ، وليس الأخذ مجازا ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في قوله سبحانه : وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء : 102] إذ التجوز في الإيقاع ، وقد صرح المحققون بجواز الجمع فيه ، والمعنى استعدوا لأعدائكم أو تيقظوا واحترزوا منهم ولا تمكنوهم من أنفسكم فَانْفِرُوا بكسر الفاء ، وقرىء بضمها أي اخرجوا إلى قتال عدوكم والجهاد معه عند خروجكم ، وأصل معنى النفر الفزع كالنفرة ، ثم استعمل فيما ذكر ثُباتٍ جمع - ثبة - وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة ، وقيل : فوق الاثنين ، وقد تطلق على غير الرجال ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
فأما يوم خشيتنا عليهم فتصبح خيلنا عصبا ثباتا
ووزنها في الأصل فعلة - كحطمة - حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث وهل هي واو من - ثبا يثبو ، كعدى يعدو - أي اجتمع ، أو ياء من - ثبيت - على فلان بمعنى أثنيت عليه بذكر محاسنه وجمعها؟ قولان ، وثبة الحوض وسطه واوية ، وهي من ثاب يثوب إذا رجع ، وقد جمع جمع المؤنث ، وأعرب إعرابه على اللغة الفصيحة ، وفي لغة ينصب بالفتح ، وقد جمع أيضا جمع المذكر السالم فيقال : ثبون ، وقد أطرد ذلك فيما حذف آخره وإن لم يستوف

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 78
الشروط جبرا له ، وفي ثائه حينئذ لغتان : الضم والكسر ، والجمع هنا في موضع الحال أي انفروا جماعات متفرقة جماعة بعد جماعة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين جماعة واحدة ، ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة ، وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية ، وعن بعضهم أنها التي تخرج ليلا وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة ، أو من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة وأربعمائة ، وما زاد على السرية - منسر - كمجلس ومنبر إلى الثمانمائة فإن زاد يقال له :
جيش إلى أربعة آلاف ، فإن زاد يسمى - جحفلا - ويسمى الجيش العظيم - خميسا - وما افترق من السرية - بعثا - وقد تطلق السرية على مطلق الجماعة ، والآية وإن نزلت في الحرب لكن فيها إشارة إلى الحث على المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي ليتثاقلن وليتأخرنّ عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم إذا أبطأ ، والخطاب لعسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مؤمنيهم ومنافقيهم والمبطئون هم المنافقون منهم ، وجوز أن يكون منقولا لفظا ومعنى من بطؤ نحو ثقل من ثقل ، فيراد لَيُبَطِّئَنَّ غيره وليثبطنه عن الجهاد كما ثبط ابن أبيّ ناسا يوم أحد ، والأنسب «1» بما بعده ، واللام الأولى لام التأكيد التي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخر ، والثانية جواب قسم ، وقيل : زائدة ، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول وهما كشيء واحد فلا يرد أنه لا رابطة في جملة القسم كما لا يرد أنها إنشائية فلا تقع صلة لأن المقصود الجواب ، وهو خبري فيه عائد ، ولا يحتاج إلى تقدير أقسم على صيغة الماضي ليعود ضميره إلى المبطئ بل هو خلاف الظاهر.
وجوز في - من - أن تكون موصوفة والكلام في الصفة كالكلام في الصلة ، وهذه الجملة قيل : عطف على خُذُوا حِذْرَكُمْ عطف القصة على القصة وقيل : إنها معترضة إلى قوله سبحانه فَلْيُقاتِلْ وهو عطف على خُذُوا ، وقرىء «ليبطئن» ، بالتخفيف فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من العدو كقتل وهزيمة قالَ أي - المبطئ - فرحا بما فعل وحامدا لرأيه قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً حاضرا معهم في المعركة فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة ، وقيل : يحتمل أن يكون المعنى إذ لم أكن مع شهدائهم شهيدا ، أو لم أكن معهم في معرض الشهادة ، فالإنعام هو النجاة عن القتل وخوفه عبر عنه بالشهادة تهكما ولا يخفى بعده ، والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشيء ينتظر المبطئ وقوعه وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ كفتح وغنيمة مِنَ اللَّهِ متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل ، وفي نسبة إصابة الفضل إلى جانب اللّه تعالى دون إصابة المصيبة تعليم لحسن الأدب مع اللّه تعالى وإن كانت المصيبة فضلا في الحقيقة ، وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق ، وأثر نفاقهم فيها أظهر لَيَقُولَنَّ ندامة على تثبطه وتهالكا على حطام الدنيا وحسرة على فواته ، وفي تأكيد القول دلالة على فرط التحسر المفهوم من الكلام ولم يؤكد القول الأول ، وأتى به ماضيا إما لأنه لتحققه غير محتاج إلى التأكيد أو لأن العدول عن المضارع للماضي تأكيد ، وقرأ الحسن ليقولن : بضم اللام مراعاة لمعنى مِنَ وذلك شائع سائغ.
وقوله تعالى : كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ من كلامه تعالى اعتراض بين القول ومقوله الذي هو يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً لئلا يتوهم من مطلع كلامه أن تمنيه المعية للنصرة والمظاهرة حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على حطام الدنيا كما ينطق به آخره فإن الفوز العظيم الذي عناه هو ذلك ، وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم ، وقيل : الجملة التشبيهية حال من ضمير يقولن ، أي ليقولن :
___________
(1) قوله : «والأنسب» بما بعده كذا بخطه ، وتأمله.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 79
مشبها بمن لا مودة بينكم وبينه حيث لم يتمن نصرتكم ومظاهرتكم ، وقيل : هي من كلام المبطئ داخلة كجملة التمني في المقول أي ليقولن المبطئ لمن يثبطه من المنافقين وضعفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مودة حيث لم يستصحبكم معه في الغزو حتى تفوزوا بما فاز به المستصحبون يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ إلخ ، وغرضه إلقاء العداوة بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتأكيدها ، وإلى ذلك ذهب الجبائي ، وذهب أبو علي الفارسي والزجاج وتبعه الماتريدي إلى أنها متصلة بالجملة الأولى أعني قال : قد أنعم إلخ أي قال : ذلك «كأن لم يكن» إلخ ورده الراغب والأصفهاني بأنها إذا كانت متصلة بالجملة الأولى فكيف يفصل بها بين أبعاض الجملة الثانية ، ومثل مستقبح ، واعتذر بأن مرادهم أنها معترضة بين أجزاء هذه الجملة صريحا متعلق بالأولى وضمنا بهذه ، وكَأَنْ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف ، وقيل : إنها لا تعمل إذا خففت.
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب تَكُنْ بالتاء لتأنيث لفظ المودة ، والباقون - يكن - بالياء للفصل ولأنها بمعنى الودّ ، والمنادى في يا لَيْتَنِي عند الجمهور محذوف أي يا قومي ، وأبو علي يقول في نحو هذا : ليس في الكلام منادى محذوف بل تدخل - يا - خاصة على الفعل والحرف لمجرد التنبيه ، ونصب - أفوز - على جواب التمني ، وعن يزيد النحوي والحسن فَأَفُوزَ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت ، أو العطف على خبر ليت فيكون داخلا في التمني فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ الموصول فاعل الفعل وقدم المفعول الغير الصريح عليه للاهتمام به ، ويَشْرُونَ مضارع شرى ، ويكون بمعنى باع واشترى من الأضداد ، فإن كان بمعنى - يشترون - فالمراد من الموصول المنافقون أمروا بترك النفاق ، والمجاهدة مع المؤمنين ، والفاء للتعقيب أي ينبغي بعد ما صدر منهم من التثبيط والنفاق تركه وتدارك ما فات من الجهاد بعد ، وإن كان بمعنى - يبيعون - فالمراد منه المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة أمروا بالثبات على القتال وعدم الالتفات إلى تثبيط المبطئين ، والفاء جواب شرط مقدر أي إن صدهم المنافقون فليقاتلوا ولا يبالوا.
وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ولا بدّ ، وفي الالتفات مزيد التفات أَجْراً عَظِيماً لا يكاد يعلم كمية وكيفية وفي تعقيب القتال بما ذكر تنبيه على أن المجاهد ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إما إكرام نفسه بالقتل والشهادة ، أو إعزاز الدين وإعلاء كلمة اللّه تعالى بالنصر ولا يحدث نفسه بالهرب بوجه ، ولذا لم يقل : فيغلب ، أَوْ يَغْلِبْ وتقديم القتل للإيذان بتقدمه في استتباع الأجر ، وفي الآية تكذيب للمبطىء بقوله :
قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ إلخ وَما لَكُمْ خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض والحث عليه وهو المقصود من الاستفهام ، وما مبتدأ ولَكُمْ خبره ، وقوله تعالى :
لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار ، أو الظرف لتضمنه معنى الفعل أي أيّ شيء لكم غير مقاتلين والمراد لا عذر لكم في ترك المقاتلة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ إما عطف على الاسم الجليل أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن الأسر وصونهم عن العدو - وهو المروي عن ابن شهاب - واستبعد بأن تخليصهم سبيل اللّه تعالى لا سبيلهم ، وفيه أنه وإن كان سبيل اللّه عز اسمه له نوع اختصاص بهم فلا مانع من إضافته إليهم : واحتمال أن يراد بالمقاتلة في سبيلهم - المقاتلة في فتح طريق مكة إلى المدينة ودفع سد المشركين إياه ليتهيأ خروج المستضعفين - مستضعف جدا ، وإما عطف على سبيل بحذف مضاف ، وإليه ذهب المبرد أي وفي خلاص المستضعفين ، ويجوز نصبه بتقدير أعني ، أو أخص فإن سبيل اللّه تعالى يعم أبواب الخير وتخليص المستضعفين من أيدي المشركين من أعظمها وأخصها ، ومعنى المستضعفين الذين طلب المشركون ضعفهم وذلهم أو الضعفاء منهم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 80
والسين للمبالغة مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لمنع المشركين لهم من الخروج ، أو ضعفهم عن الهجرة ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كنت أنا وأمي من المستضعفين ، وقد ذكر أن منهم سلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد وأبا جندل بن سهيل ، وإنما ذكر الولدان تكميلا للاستعطاف والتنبيه على تناهي ظلم المشركين ، والإيذان بإجابة الدعاء الآتي واقتراب زمان الخلاص وفي ذلك مبالغة في الحث على القتال.
ومن هنا يعلم أن الآية لا تصلح دليلا على صحة إسلام الصبي بناء على أنه لولا ذلك لما وجب تخليصهم على أن في انحصار وجوب التخليص في المسلم نظرا لأن صبي المسلم يتوقع إسلامه فلا يبعد وجوب تخليصه لينال مرتبة السعداء ، وقيل : المراد - بالولدان العبيد والإماء وهو على الأول جمع وليد ووليدة بمعنى صبي وصبية.
وقيل : إنه جمع ولد كورل وورلال ، وعلى الثاني كذلك أيضا إلا أن الوليد والوليدة بمعنى العبد والجارية.
وفي الصحاح : الوليد الصبي والعبد ، والجمع ولدان ، والوليدة الصبية والأمة ، والجمع ولائد ، فالتعبير - بالولدان - على طريق التغليب ليشمل الذكور والإناث الَّذِينَ في محل جر على أنه صفة للمستضعفين ، أو لما في حيز البيان ، وجوز أن يكون نصبا بإضمار فعل أي أعني ، أو أخص الَّذِينَ.
يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها بالشرك الذي هو ظلم عظيم ، وبأذية المؤمنين ومنعهم عن الهجرة والوصف صفة قرية وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له فتذكيره وتأنيثه على حسب الاسم الظاهر الذي عمل فيه ، ولم ينسب الظلم إليها مجازا كما في قوله تعالى : «وكأين من قرية بطرت معيشتها» «1» وقوله سبحانه : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً إلى قوله عز وجل : فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل : 112] لأن المراد بها مكة كما قال ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ، فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفا لها شرفها اللّه تعالى وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يلي أمرنا حتى يخلصنا من أيدي الظلمة ، وكلا الجارين متعلق - باجعل - لاختلاف معنييهما وتقديمهما على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله ، وتقديم اللام على مِنَ للمسارعة إلى إبراز كون المسئول نافعا لهم مرغوبا فيه لديهم ، وجوز أن يكون مِنْ لَدُنْكَ متعلقا بمحذوف وقع حالا من وَلِيًّا وكذا الكلام في قوله تعالى : وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً أي حجة ثابتة قاله عكرمة ومجاهد وقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : المراد ولّ علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا ، ولقد استجاب اللّه تعالى شأنه دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وأعز ناصر ، ففتح مكة على يدي نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم فتولاهم أيّ تولّ ، ونصرهم أيّ نصرة ، ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد ، وكان ابن ثماني عشرة سنة فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها ، وقيل : المراد اجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أي كن أنت ولينا وناصرنا.
وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها أمر للعارفين أن يظهروا ما كوشفوا به من الأسرار الإلهية لأمثالهم ويكتموا ذلك عن الجاهلين ، أو أن يؤدوا حق كل ذي حق إليه فيعطوا الاستعداد حقه وألقوا حقها وآخر الأمانات أداء أمانة الوجود فليؤده العبد إلى سيده سبحانه وليفن فيه عز وجل وَإِذا حَكَمْتُمْ
___________
(1) كذا في الأصل ، وفي المصحف الشريف وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ... [القصص : 58].

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 81
بَيْنَ النَّاسِ بالإرشاد ولا يكون إلا بعد الفناء والرجوع إلى البقاء فاحكموا بالعدل وهو الإفاضة حسب الاستعداد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بتطهير كعبة تجليه - وهو القلب - عن أصنام السوي وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بالمجاهدة وإتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهم المشايخ المرشدون بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحا لكم وتهذيبا لأخلاقكم.
وربما يقال : إنه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب ، وهي في الأصل ترجع إلى واحدة : فمن كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة كالقائل أخذتم علمكم ميتا عن ميت ، ونحن أخذناه من الحي الذي لا يموت ، فليطلع اللّه تعالى بمراده وليتمثل ما فهمه منه ، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع إلى بيان الواسطة العظمى وهو الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إن فهم بيانه ، أو استطاع الأخذ منه كبعض أهل اللّه تعالى تعالى ، وليطعه فيما أمر ونهى ، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة فليرجع إلى بيان أكابر علماء الأمة وليتقيد بمذهب من المذاهب وليقف عنده في الأوامر والنواهي فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ أنتم والمشايخ ، وذلك في مبادئ السلوك حيث النفس قوية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ تعالى «والرسول» فارجعوا إلى الكتاب والسنة فإن فيهما ما يزيل النزاع عبارة أو إشارة ، أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة ، وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فإن فيه بحار علوم الحقائق ، فكل خاطر لا يوافق خطاب اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فهو مردود أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من علم التوحيد وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من علم المبدأ والمعاد يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي إليه أفكارها الغير المستندة إلى الكتاب والسنة وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويخالفوه إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ وهو الطاغوت أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً وهو الانحراف عن الحق فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من تقديم أفكارهم الفاسدة وعدم رجوعهم إليك ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً بأنفسنا لتمرنها على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عباراتك وإشاراتك وَتَوْفِيقاً أي جمعا بين العقل والنقل أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من رين الشكوك فيجازيهم على ذلك يوم القيامة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تقبل عذرهم وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً مؤثرا ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ باشتغالهم بحظوظها جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بإمداده إياهم بأنوار صفاته لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً مطهرا لنفوسهم مفيضا عليها الكمال اللائق بها.
وقال ابن عطاء في هذه الآية : أي لو جعلوك الوسيلة لدي لوصلوا إلى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قال بعضهم : أظهر اللّه تعالى في هذه الآية على حبيبه خلعة من خلع الربوبية فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سببا لإيمان المؤمنين كما جعل الرضا بقضائه سببا لإيقان الموقنين فأسقط عنهم اسم الواسطة لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه ، ألا ترى كيف قال حسان :
وشق له من اسمه ليجله فذو العرض محمود وهذا محمد
وقال آخرون : سد سبحانه الطريق إلى نفسه على الكافة إلا بعد الإيمان بحبيبه صلّى اللّه عليه وسلّم فمن لم يمش تحت قبابه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 82
فليس من اللّه تعالى في شيء ، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية فلا بد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بسيف المجاهدة لتحيى حياة طيبة أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ وهي الملاذ التي ركنتم إليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها ، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى ، أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكيل مثلا ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهم أهل التوفيق والهمم العالية ، وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سئل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم : أدور في الصحارى وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر فهل يصح حالي في التوكل فقال : إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد» وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لما فيه من الحياة الطيبة وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً بالاستقامة بالدين وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وهو كشف الجمال وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو التوحيد وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بما لا يدخل في حيطة الفكر مِنَ النَّبِيِّينَ أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدرا فلا يدرك شأواهم وَالصِّدِّيقِينَ الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم من غير دليل ولا توقف وَالشُّهَداءِ أهل الحضور وَالصَّالِحِينَ أهل الاستقامة في الدين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ من أنفسكم فإنها أعدى أعدائكم فَانْفِرُوا ثُباتٍ اسلكوا في سبيل اللّه تعالى جماعات كل فرقة على طريقة شيخ كامل أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً في طريق التوحيد والإسلام واتبعوا أفعال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتخلقوا بأخلاقه وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي ليثبطن المجاهدين المرتاضين فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ شدة في السير قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ حيث لم أفعل كما فعلوا وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي حسدا لكم يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ دونهم فَوْزاً عَظِيماً وأنال ذلك وحدي وَمَنْ يُقاتِلْ نفسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ بسيف الصدق أَوْ يَغْلِبْ عليها بالظفر لتسلم على يده فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وهو الوصول إلينا وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وخلاص المستضعفين مِنَ الرِّجالِ العقول وَالنِّساءِ الأرواح وَالْوِلْدانِ القوى الروحانية الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ وهي قرية البدن الظَّالِمِ أَهْلُها وهي النفس الأمارة وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يلي أمورنا ويرشدنا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس ، نسأل اللّه تعالى بمنه وكرمه.
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين اللّه تعالى الموصل لهم إليه عز وجل وفي إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فيما يبلغ بهم إلى الشيطان وهو الكفر فلا ناصر لهم سواه فَقاتِلُوا يا أولياء اللّه تعالى إذا كان الأمر كذلك. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ. جميع الكفار فإنكم تغلبونهم. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً. في حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة اللّه تعالى الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ [الصف : 4] وهو سبحانه وليكم ، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها ، وفائدة كانَ التأكيد ببيان أن كيده مذ كان ضعيف ، وقيل : هي بمعنى صار أي صار ضعيفا بالإسلام ، وقيل : إنها زائدة وليس بشيء.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ
نزلت كما قال الكلبي : في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديدا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 83
وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويقولون : ائذن لنا يا رسول اللّه في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : كفوا أيديكم وأمسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك ، وفي رواية : إني أمرت بالعفو.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. واشتغلوا بما أمرتم به ، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على أن الجهاد مع النفس مقدم وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر اللّه تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس ، والجود بالنفس أقصى غاية الجود ، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه ، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض ، وقيل : للإيذان بكون ذلك بأمر اللّه تعالى فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي الكفار أن يقتلوهم ، وذلك لما ركز في طباع البشر من خوف الهلاك كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كما يخشون اللّه تعالى أن ينزل عليهم بأسه ، والفاء عاطفة وما بعدها عطف على قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ باعتبار معناه الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين ، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل : ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه - بمقتضى البشرية - جماعة منهم ، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى ، وإِذا للمفاجأة وهي ظرف مكان ، وقيل : زمان وليس بشيء ، وفيها تأكيد لأمر التعجيب ، وفَرِيقٌ مبتدأ ، ومِنْهُمْ صفته ، ويَخْشَوْنَ خبره ، وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا ، والخبر إِذا وكَخَشْيَةِ اللَّهِ في موقع المصدر أي خشية كخشية اللّه ، وجوز أن يكون حالا من فاعل يَخْشَوْنَ ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية اللّه
تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه ، وقيل - وفيه بعد - إنه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية اللّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً عطف عليه إن جعلته حالا أي أنهم أَشَدَّ خَشْيَةً من أهل خشية اللّه ، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم ، ولا يعطف عليه على تقدير المصدرية - على ما قيل بناء على أن خَشْيَةً منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية ، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشدّ من خشية غيرهم ، ويؤول إلى أن خشية خشيتهم أشدّ ، وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جدّ جدّه - على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني - ويكون كقولك : زيد جدّ جدّا بنصب جدّا على التمييز لكنه بعيد ، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه ، والمعنى - يخشون الناس خشية كخشية اللّه ، أو خشية كخشية أشدّ خشية منه تعالى - ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشدّ خشية عند المؤمنين من اللّه تعالى ، ويؤول هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة ، وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل - أي يخشون الناس كخشية الناس ، أو يخشون أشدّ خشية - على أن الأول مصدر والثاني حال ، وقيل عليه : إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة وجوز أن يكون خَشْيَةً منصوبا على المصدرية وأَشَدَّ صفة له قدمت عليه ، فانتصب على الحالية ، وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه نحو فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً [يوسف : 64] فإن الحافظ هو اللّه تعالى كما لو قلت : اللّه خير حافظ بالجر ، وحينئذ لا مانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف ولا يلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال : أشد خشية بالجر ، والقول - بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ - محل نظر محل نظر ، إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه
كبير محذور.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 84
وهذا إيراد قوي على ما قيل ، وقد نقل ابن المنير عن الكتاب ما يعضده فتأمل ، وأَوْ قيل : للتنويع ، وقيل للإبهام على السامع ، وقيل : للتخيير ، وقيل : بمعنى الواو ، وقيل : بمعنى بل وَقالُوا عطف على جواب - لما - أي فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ فاجأ بعضهم بألسنتهم ، أو بقلوبهم ، وحكاه اللّه تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى ، والإنكار لإيجابه ولذا لم يوبخوا عليه رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ في
هذا الوقت.
لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الأجل المقدر ووصف بالقريب للاستعطاف أي أنه قليل لا يمنع من مثله ، والجملة كالبيان لما قبلها ولذا لم تعطف عليه ، وقيل : إنما لم تعطف عليه للإيذان بأنهما مقولان مستقلان لهم ، فتارة قالوا الجملة الأولى ، وتارة الجملة الثانية ، ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الأولى قُلْ أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال ، والتأخير إلى الأجل المقدر من المتاع الفاني وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي مَتاعُ الدُّنْيا أي جميع ما يستمتع به وينتفع في الدنيا قَلِيلٌ في نفسه سريع الزوال وهو أقل قليل بالنسبة إلى ما في الآخرة وَالْآخِرَةُ أي ثوابها المنوط بالأعمال التي من جملتها القتال خَيْرٌ لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات ، وفي اختلاف الأسلوب ما لا يخفى ، وإنما قال سبحانه لِمَنِ اتَّقى حثا لهم وترغيبا على الاتقاء والإخلال بموجب التكليف.
وقيل : المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين ، لأن للكافر والعاصي هنالك نيرانا وأهوالا ، ولذا قيل : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، ولا يخفى أن الأول أنسب بالسياق وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على مقدر أي تجزون فيها ولا تبخسون هذا المقدار اليسير فضلا عما زاد من ثواب أعمالكم فلا ترغبوا عن القتال الذي هو من غرورها ، وقرأ ابن كثير وكثير «ولا يظلمون» بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من.
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يحتمل أن يكون ابتداء كلام مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن سيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم إلى من ذكر أولا اعتناء بإلزامهم إثر بيان حقارة الدنيا وفخامة الآخرة بواسطته صلّى اللّه عليه وسلّم فلا محل للجملة من الإعراب ، ويحتمل أن يكون داخلا في حيز القول المأمور به ، فمحل الجملة النصب ، وجعل غير واحد ما تقدم جوابا للجملة الأولى من قولهم ، وهذا جوابا للثانية منه ، فكأنه لما قالوا : لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟
أجيبوا ببيان الحكمة بأنه كتب عليكم ليكثر تمتعكم ويعظكم نفعكم لأنه يوجب تمتع الآخرة ، ولما قالوا : لَوْلا أَخَّرْتَنا؟! إلخ أجيبوا بأنه أَيْنَما تَكُونُوا في السفر ، أو في الحضر يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ لأن الأجل مقدر فلا يمنع عنه عدم الخروج إلى القتال ، وفي التعبير بالإدراك إشعار بأن القوم لشدة تباعدهم عن أسباب الموت وقرب وقت حلوله إليهم بممر الأنفاس والآنات كأنهم في الهرب منه وهو مجد في طلبهم لا يفتر نفسا واحدا في التوجه إليهم ، وقرأ طلحة بن سليمان يُدْرِكْكُمُ بالرفع ، واختلف في تخريجه فقيل : إنه على حذف الفاء كما في قوله - على ما أنشده سيبويه. :
من يفعل الحسنات اللّه يشكرها والشر بالشر عند اللّه مثلان
وظاهر كلام الكشاف الاكتفاء بتقدير الفاء ، وقدر بعضهم مبتدأ معها أي فأنتم يدرككم ، وقيل : هو مؤخر من تقديم ، وجواب الشرط محذوف أي - يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم - واعترض بأن هذا إنما يحسن فيما إذا كان ما قبله طالبا له كما في قوله :
يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
أو فيما إذا لم تكن الأداة اسم شرط ، وأجيب بأن الشرط الأول وإن نقل عن سيبويه إلا أنه نقل عنه أيضا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 85
الإطلاق ، والشرط الثاني لم يعول عليه المحققون ، وقيل : إن الرفع على توهم كون الشرط ماضيا فإنه حينئذ لا يجب ظهور الجزم في الجواب لأن الأداة لما لم يظهر أثرها في القريب لم يجب ظهوره في البعيد وما قيل عليه من أن كون الشرط ماضيا والجزاء مضارعا إنما يحسن في كلمة - إن - لقلبها الماضي إلى معنى الاستقبال فلا يحسن - أينما كنتم يدرككم الموت - إلا على حكاية الماضي وقصد الاستحضار فيه نظر ، نعم يرد عليه أن فيه تعسفا إذا لتوهم - كما قال ابن المنير - أن يكون ما يتوهم هو الأصل ، أو مما كثر في الاستعمال حتى صار كالأصل ، وما توهم هنا ليس كذلك ، وقيل : إن يُدْرِكْكُمُ كلام مبتدأ وأَيْنَما تَكُونُوا متصل ب لا تُظْلَمُونَ ، واعترض كما قال الشهاب : بأنه ليس بمستقيم معنى وصناعة ، أما الأول فلأنه لا يناسب اتصاله بما قبله لأن لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا المراد منه في الآخرة فلا يناسبه التعميم ، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه عمل ما قبل اسم الشرط فيه وهو غير صحيح لصدارته ، وأجيب عن الأول بأنه لا مانع من تعميم وَلا تُظْلَمُونَ للدنيا والآخرة أو يكون المعنى لا ينقصون شيئا من مدة الأجل المعلوم لا من الأجود ، وبه ينتظم الكلام ، وعن الثاني بأن المراد من الاتصال بما قبله - كما قال الحلبي - والسفاقسي اتصاله به معنى لا عملا على أن أَيْنَما تَكُونُوا شرط جوابه محذوف تقديره لا تُظْلَمُونَ وما قبله دليل الجواب ، وأنت تعلم أن هذا التخريج وإن التزم الذب عنه بما ترى خلاف الظاهر المنساق إلى الذهن ، وأولى التخريجات أنه على حذف الفاء وهو الذي اختاره المبرد ، والقول بأن الحذف ضرورة في حيز المنع وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ أي قصور ، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج ، وعن السدي والربيع رضي اللّه تعالى عنهم أنها قصور في السماء الدنيا ، وقيل : المراد بها بروج السماء المعلومة ، وعن أبي علي الجبائي أنها البيوت التي فوق القصور ، وعن
ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : أنها الحصون والقلاع وهي جمع برج وأصله من التبرج وهو الإظهار ، ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت حسنها مُشَيَّدَةٍ أي مطلية بالشيد وهو الجص قاله عكرمة أو مطولة بارتفاع - قاله الزجاج - فهو من شيد البناء إذا رفعه وقرأ مجاهد مُشَيَّدَةٍ بفتح الميم وتخفيف الياء كما في قوله تعالى : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج : 45] وقرأ أبو نعيم بن ميسرة مُشَيَّدَةٍ بكسر الياء على التجوز ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة : 21 - القارعة : 7] وقصيدة شاعرة ، والجملة معطوفة على أخرى مثلها أي لو لم تكونوا في بروج وَلَوْ كُنْتُمْ إلخ ، وقد أطرد الحذف في مثل ذلك لوضوح الدلالة وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ نزلت على ما روي عن الحسن وابن زيد في اليهود وذلك أنهم كانوا قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أمسك عنهم بعض الإمساك فقالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل ، فالمعنى إن تصبهم نعمة أو رخاء نسبوها إلى اللّه تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك متشائمين كما حكي عن أسلافهم بقوله تعالى : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف : 131] وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء والبلخي والجبائي وقيل : نزلت في المنافقين ، ابن أبيّ وأصحابه الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد ، وقالوا للذين قتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمران : 91] فالمعنى إن تصبهم غنيمة قالوا : هي من عند اللّه تعالى ، وإن تصبهم هزيمة قالوا : هي من سوء تدبيرك ، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وقيل : نزلت فيمن تقدم وليس بالصحيح ، وصحح غير واحد أنها نزلت في اليهود والمنافقين جميعا لما تشاءموا من رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين قدم المدينة وقحطوا ، وعلى هذا فالمتبادر من الحسنة والسيئة هنا النعمة والبلية ، وقد شاع استعمالها في ذلك كما شاع استعمالها في الطاعة والمعصية ، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين ، وأيد
بإسناد الإصابة إليهما بل جعله صاحب الكشف دليلا بينا عليه وبأنه أنسب بالمقام لذكر الموت والسلامة قبل ، وقوله تعالى : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أمر له صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يرد زعمهم الباطل واعتقادهم الفاسد ويرشدهم إلى الحق ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال أي كل

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 86
واحدة من النعمة والبلية من جهة اللّه تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون ، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا ، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي بها عقوبة كما سيأتي بيانه.
وهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل : ردا على أسلاف اليهود من قوله تعالى : إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف : 131] أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند اللّه تعالى لا عند غيره حتى يستند ذلك إليه ويطيروا به - قاله شيخ الإسلام - ومنه يعلم اندفاع ما قيل : إن القوم لم يعتقدوا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فاعل السيئة كما اعتقدوا أن اللّه تعالى فاعل الحسنة بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة والسلام فكيف يكون هذا ردا عليهم ، ولا حاجة إلى ما أجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بل هو إلى قوله سبحانه : وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ إلخ وقوله تعالى : فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ أي اليهود والمنافقين المحتقرين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ أي يفهمون حَدِيثاً أي كلاما يوعظون به وهو القرآن ، أو كلاما ما أو كل شيء حدث وقرب عهده كلام من قبله تعالى معترض بين المبين وبيانه مسوق لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والجملة المنفية حالية والعامل فيها ما في الظرف من الاستقرار أو الظرف نفسه ، والمعنى حيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا نصوص القرآن الناطقة بأن الكل فائض من عند اللّه تعالى ، أو بمعزل من أن يفهموا - حديثا - مطلقا حتى عدوا كالبهائم التي لا أفهام لها ، أو بمعزل من أن يعقلوا صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنه لها فاعلا حقيقيا بيده جميع الأمور ولا مدخل لأحد معه ، ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام وهو ظاهر ، وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم فلا ينافي اعتقادهم أن الحسنة من عند اللّه تعالى ، ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ما تفوهوا به آنفا حيث إنه يلزم منه تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي إلى
فساد العالم ، وإن ما في حيز الأمر ردّ لهذا اللازم ، وقدم لكونه أهم ثم استأنف بما هو حقيقة الجواب أعني قوله سبحانه ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وعلى ما ذكرنا - ولعله الأولى - يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به ، والخطاب فيه كما قال الجبائي وروي عن قتادة : عام لكل من يقف عليه لا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كقوله :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ويدخل فيه المذكورون دخولا أولياء ، وفي إجراء الجواب أولا على لسان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وسوق البيان من جهته تعالى ثانيا بطريق تلوين الخطاب ، والالتفات إيذان بمزيد الاعتناء به والاهتمام برد اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد ، والإشعار بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حرية بأن يتولى بيانها علام الغيوب عز وجل ، والعدول عن خطاب الجميع كما في قوله تعالى : وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى : 30] للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية بعضهم لعقوبة الآخرين ، وما كما قال أبو البقاء : شرطية و«أصاب» بمعنى يصيب والمراد - بالحسنة والسيئة - هنا ما أريد بهما من قبل ، أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي من اللّه تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وكل ما يفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة الوجود ، أو نعمة الإقدار على أدائها مثلا فضلا عن أن تستوجب نعمة أخرى ، ولذلك
قال صلّى اللّه عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة : «لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل : ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه تعالى بفضل رحمته»
وَما أَصابَكَ مِنْ بلية ما من البلايا فهي بسبب

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 87
اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها ، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى : وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها - أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو اللّه تعالى عنه أكثر».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : ما كان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك ، وعن أبي صالح مثله ، وقال الزجاج : الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمقصود منه الأمة ، وقيل : له عليه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة ، ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا ، والأخرى لهم فلا بد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية ، والخلاف في الثاني ، ولا تعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات ، وقد أطنب الإمام الرازي في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح ، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات ، وقال بعضهم :
يمكن أن يقال : لما جاء قوله تعالى وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ بعد قوله سبحانه : أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة ، والسيئة على البلية ، ولما أردف قوله عز وجل : وما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ بما سيأتي ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة - كما روي ذلك عن أبي العالية - ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع ، ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك : هذا من عند اللّه تعالى ، وقولك هذا من اللّه تعالى بأن من عند اللّه أعم من حيث إنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه ، وفيما يحصل ، وقد أمر به ونهى عنه ولا يقال : من اللّه إلا فيما كان برضاه وبأمره ، وبهذا النظر قال عمر رضي اللّه تعالى عنه : «إن أصبت فمن اللّه وإن أخطأت فمن الشيطان» فتدبر.
ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن ما أَصابَكَ إلخ على تقرير القول أي فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يقولون ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ إلخ ، والداعي لهم على هذا التمحل توهم التعارض ، وقد دعا آخرين إلى جعل الجملة بدلا من حَدِيثاً على معنى أنهم لا يفقهون هذا الحديث أعني ما أَصابَكَ إلخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين إلى تقدير استفهام إنكاري أي فَمِنْ نَفْسِكَ ، وزعموا أنه قرىء به ، وقد علمت أن لا تعارض أصلا من غير احتياج إلى ارتكاب ما لا يكاد يسوغه الذوق السليم ، وكذا لا حجة للمعتزلة في قوله سبحانه : حَدِيثاً على كون القرآن محدثا لما علمت من أنه ليس نصا في القرآن ، وعلى فرض تسليم أنه نص لا يدل على حدوث الكلام النفسي والنزاع فيه ، ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ما قيل : إنه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ما حكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار ما رده عليهم أيضا وبين المحكيين مناسبة من حيث اشتمالها على إسناد ما يكره إلى بعض الأمور وكون الكراهة له بسبب ذلك وهو كما ترى.
وفي الكشف أن جملة وَإِنْ تُصِبْهُمْ إلخ معطوفة على جملة قوله تعالى : فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ، وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ دلالة على تحقق التبطئة والتثبيط ، أما دلالة الأولتين فلا خفاء بهما ، وأما الثانية فلأنهم إذا اعتقدوا في الداعي إلى الجهاد صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك الاعتقاد قطعوا أن في اتباعه - لا سيما فيما يجر إلى ما عدوه سيئة - الخبال والفساد ، ولهذا قلب اللّه عليهم في قوله سبحانه فَمِنْ نَفْسِكَ ليصير ذلك كافا لهم عن التثبيط إلى التنشيط ، وأردفه ذكر ما هم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة ، وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلّى اللّه عليه وسلّم طاعة اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 88
مع ما أمده به من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه : فَمَنْ تَوَلَّى ثم قال - ولا يخفى أن ما وقع بين المعطوفين ليس بأجنبي - وأن فَلْيُقاتِلْ شديد التعلق بسابقه ، ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل إليهم إلى كافر مبطىء ومؤمن قوي وضعيف استأنف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتي : ويَقُولُونَ أي الناس المرسل إليهم إلى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث ، ومن يرجع إليه هو الثاني فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى ، ولا يخلو عن حسن وليس بمتعين كما لا يخفى.
هذا ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على ما من قوله تعالى : فَما لِهؤُلاءِ وجماعة على - لام الجر - وتعقب ذلك السمين بأنه ينبغي أن لا يجوز كلا الوقفين إذ الأول وقف على المبتدأ دون خبره ، والثاني على الجار دون مجروره ، وقرأ أبيّ وابن مسعود وابن عباس وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وأنا كتبتها عليك وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا بيان لجلالة منصبه صلّى اللّه عليه وسلّم ومكانته عند ربه سبحانه بعد الذب عنه بأتم وجه ، وفيه رد أيضا لمن زعم اختصاص رسالته عليه الصلاة والسلام بالعرب فتعريف - الناس للاستغراق ، والجار متعلق : ب رَسُولًا قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أي مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما زعموا ، ورَسُولًا حال مؤكدة لعاملها ، وجوز أن يتعلق الجار بما عنده ، وأن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رَسُولًا وجوز أيضا أن يكون رَسُولًا مفعولا مطلقا إما على أنه مصدر كما في قوله :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بشيء ولا أرسلتهم برسول
وإما على أن الصفة قد تستعمل بمعنى المصدر مفعولا مطلقا كما استعمل الشاعر خارجا بمعنى خروجا في قوله :
على حلفة لا أشتم الدهر مسلما ولا خارجا من فيّ زور كلام
حيث أراد كما قال سيبويه : ولا يخرج خروجا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على رسالتك ، أو على صدقك في جميع ما تدعيه حيث نصب المعجزات ، وأنزل الآيات البينات ، وقيل : المعنى كفى اللّه تعالى شهيدا على عباده بما يعملون من خير أو شر ، والالتفات لتربية المهابة مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ بيان لأحكام رسالته صلّى اللّه عليه وسلّم إثر بيان تحققها ، وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الحق سبحانه ، والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهي فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه.
وفي بعض الآثار عن مقاتل «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول : من أحبني فقد أحب اللّه تعالى ومن أطاعني فقد أطاع اللّه تعالى فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك ، وهو نهى أن يعبد غير اللّه تعالى ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى عليه السلام؟ فنزلت»
فالمراد «بالرسول» نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، والتعبير عنه بذلك ووضعه موضع المضمر للإشعار بالعلية ، وقيل : المراد به الجنس ويدخل فيه نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم دخولا أوليا ، ويأباه تخصيص الخطاب في قوله تعالى :
وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وجعله من باب الخطاب لغير معين خلاف الظاهر ، و«من» شرطية وجواب الشرط محذوف ، والمذكور تعليل له قائم مقامه أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه لأنا إنما أرسلناك رسولا مبلغا لا حفيظا مهيمنا تحفظ أعمالهم عليهم وتحاسبهم عليها ، ونفى - كما قيل - كونه حفيظا أي مبالغا في الحفظ دون كونه حافظا لأن الرسالة لا تنفك عن الحفظ لأن تبليغ الأحكام نوع حفظ عن المعاصي والآثام ، وانتصاب الوصف على الحالية من الكاف ، وجعله مفعولا ثانيا لأرسلنا لتضمينه معنى جعلنا مما لا حاجة إليه ، وعليهم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 89
متعلق به وقدم رعاية للفاصلة ، وفي إفراد ضمير الرفع وجمع ضمير الجر مراعاة للفظ - من - ومعناها ، وفي العدول عن - ومن تولى فقد عصاه - الظاهر في المقابلة إلى ما ذكر ما لا يخفى من المبالغة ، وَيَقُولُونَ الضمير للمنافقين كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما والحسن والسدي وقيل : للمسلمين الذين حكي عنهم أنهم يخشون الناس كخشية اللّه أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة على أنه خبر مبتدأ محذوف وجوبا ، وتقدير طاعتك طاعة خلاف الظاهر أو عندنا أو منا طاعة على أنه مبتدأ وخبره محذوف وكان أصله النصب كما يقول المحب : سمعا وطاعة لكنه يجوز في مثله الرفع - كما صرح به سيبويه - للدلالة على أنه ثابت لهم قبل الجواب فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي خرجوا من مجلسك وفارقوك بَيَّتَ طائِفَةٌ أي جماعة مِنْهُمْ وهم رؤساؤهم ، والتبييت إما من البيتوتة لأنه تدبير الفعل ليلا والعزم عليه ، ومنه تبييت نية الصيام ويقال : هذا أمر تبيت بليل ، وإما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسويه ، وإما من البيت المبني لأنه يسوي ويدبر ، وفي هذا بعد - وإن أثبته الراغب لغة - والمراد زورت وسوت غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي خلاف ما قلت لها أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة ، والعدول عن الماضي لقصد الاستمرار ، وإسناد الفعل إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات والباقون أتباع لهم في ذلك لا لأنهم ثابتون على الطاعة ، وتذكيره أو لا لأن تأنيث الفاعل غير حقيقي ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بَيَّتَ طائِفَةٌ بالإدغام لقربهما في المخرج ، وذكر بعض المحققين أن الإدغام هنا على خلاف الأصل والقياس ، ولم تدغم تاء متحركة غير هذه وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي يثبته في صحائفهم ليجازيهم عليه ، أو فيما يوحيه إليك فيطلعك على أسرارهم ويفضحهم - كما قال الزجاج - والقصد على الأول لتهديدهم ، وعلى الثاني لتحذيرهم
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم ، أو قلل المبالاة بهم والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض أمرك إليه وثق به في جميع أمورك لا سيما في شأنهم ، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا قائما بما فوض إليه من التدبير فيكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم ، والإظهار لما سبق للإيذان باستقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ لعله جواب سؤال نشأ من جعل اللّه تعالى شهيدا كأنه قيل : شهادة اللّه تعالى لا شبهة فيها ولكن من أين يعلم أن ما ذكرته شهادة اللّه تعالى محكية عنه؟ فأجاب سبحانه بقوله : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه ، أو سوابقه وأسبابه ، أو لواحقه وأعقابه ، والفاء للعطف على مقدر أي - أيشكون في أن ما ذكر شهادة اللّه تعالى فلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المشهود له ليعلموا كونه من عند اللّه فيكون حجة وأي حجة على المقصود - وقيل : المعنى أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند اللّه تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه وَلَوْ كانَ أي القرآن. مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ كما يزعمون لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً بأن يكون بعض إخباراته الغيبية كالإخبار عما يسره المنافقون غير مطابق للواقع لأن الغيب لا يعلمه إلا اللّه تعالى فحيث أطرد الصدق فيه ولم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى ومن عنده ، وإلى هذا يشير كلام الأصم والزجاج ، وفي رواية عن ابن عباس أن المراد لوجدوا فيه تناقضا كثيرا ، وذلك لأن كلام البشر إذا طال لم يخل - بحكم العادة - من التناقض ، وما يظن من الاختلاف كما في كثير من الآيات ، ومنه ما سبق آنفا ليس من الاختلاف عند المتدبرين ، وقيل - وهو مما لا بأس به خلافا لزاعمه - المراد لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته ، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه ، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني ، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة=

8. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 90
لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه سواه انتهى.
وهو مبني على كون وجه الإعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة ، وكون المقصود من الآية إثبات القرآن كله وبعضه من اللّه تعالى ، وحينئذ لا يمكن وصف الاختلاف بالكثرة لأنه لا يكون الاختلاف حينئذ إلا بأن يكون البعض منه معجزا والبعض غير معجز ، وهو اختلاف واحد فلذا جعل وجدوا متعديا إلى مفعولين أولهما كَثِيراً ، وثانيهما اخْتِلافاً بمعنى مختلفا ، وإليه يشير قوله : لكان الكثير منه مختلفا وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير اللّه تعالى كون الكثير مختلفا مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفا اقتصارا على الأقل كما في قوله تعالى : يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر : 28] وهو من الكلام المنصف ، وبهذا يندفع ما أورد من أن الكثرة صفة الاختلاف والاختلاف صفة للكل في النظم ، وقد جعل صفة الكثرة والكثرة صفة الكثير ، لأنا لا نسلم أن الكثرة صفة الاختلاف بل هما مفعولا «وجدوا» وكذا ما أورد من أنه يفهم من قوله : لكان بعضه بالغا حد الإعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز وهو باطل لأنا لا نسلم ذلك فإن المقصود أن القرآن كلّا وبعضا من اللّه تعالى أي البعض الذي وقع به التحدي - وهو مقدار أقصر سورة منه ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى - لوجدوا فيه الاختلاف المذكور ، وهو أن لا يكون بعضه بالغا حد الإعجاز - قاله بعض المحققين - وقال بعضهم : لا محيص عن الإيراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير أي لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذا من كلام اللّه تعالى كما في الاقتباس ونحوه - إلا أنه لا يخفى بعده ، وإلى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب أبو علي الجبائي إلى هذا ونقل عن الزمخشري أن في الآية فوائد : وجوب النظر في الحجج والدلالات ، وبطلان التقليد ، وبطلان قول من يقول : إن المعارف الدينية ضرورية ، والدلالة على صحة
القياس ، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق اللّه تعالى لوجود التناقض فيها انتهى.
ولا يخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل ، وقول من يقول : إن المعارف الدينية كلها ضرورية إما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا ، وإما تقرير الأخير - على ما في الكشف - فلأن اللازم كل مختلف من عند غير اللّه تعالى على قولهم : ان لو عكس لولا ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة ، وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير اللّه تعالى على ما حققه الشيخ ابن الحاجب ، والمشهور عند أهل الاستدلال فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى ويكفي ذلك في الاستدلال إذ لا قائل بالفرق بين بعض وبعض إذا كان اختياريا ، وأجاب فيه بأن اللازم كل مختلف هو قرآن من عند غير اللّه تعالى على الأول ، وحينئذ لا يتم الاستدلال ، وذكر أن معنى وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تعالى عند الجماعة ولو كان قائما بغيره تعالى ولا مدخل للخلق في هذه الملازمة ، وأنت تعلم أنه غير ظاهر الإرادة هنا.
وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم أن القرآن لا يفهم إلا بتفسير الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أو الإمام المعصوم - كما قال بعض الشيعة - وَإِذا جاءَهُمْ أي المنافقين - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما والضحاك وأبي معاذ - أو ضعفاء المسلمين - كما روي عن الحسن ، وذهب إليه غالب المفسرين - أو الطائفتين كما نقله ابن عطية - أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أي مما يوجب الأمن والخوف أَذاعُوا بِهِ أي أفشوه ، والباء مزيدة ، وفي الكشاف يقال : أذاع الشر وأذاع به ، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه لدلالته على أنه يفعل نفس الحقيقة كما في نحو - فلان يعطي ويمنع - ولما فيه من الإبهام والتفسير ، وقيل : الباء لتضمن الإذاعة معنى التحديث وجعلها بمعنى مع والضمير للمجيء مما لا ينبغي تخريج كلام اللّه تعالى الجليل عليه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 91
والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين ، أو لبيان جناية الضعفاء إثر بيان جناية المنافقين وذلك أنه إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها فقالوا : أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا ، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هو الذي يخبرهم به ، ولا يكاد يخلو ذلك عن مفسدة ، وقيل : كانوا يقفون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود الإذاعة مفسدة ، وقيل : الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين ، وفيه إنكار على من يحدث بالشيء قبل تحقيقه ، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع»
والجملة عند صاحب الكشف معطوفة على قوله تعالى : وَيَقُولُونَ طاعَةٌ ، وقوله سبحانه : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ اعتراض تحذيرا لهم عن الإضمار لما يخالف الظاهر ، فإن في تدبر القرآن جارا إلى طاعة المنزل عليه أي جار ، وقيل : الكلام مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه ، وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل ، وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف - ولا يخلو عن حسن - غير أن روايات السلف على خلافه ، وأيّا ما كان فقد نعى اللّه تعالى ذلك عليهم ، وقال سبحانه : وَلَوْ رَدُّوهُ أي ذلك الأمر الذي جاءهم إِلَى الرَّسُولِ صلّى اللّه عليه وسلّم وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم كبائر الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم البصراء في الأمور ، وهو الذي ذهب إليه الحسن وقتادة وخلق كثير.
وقال السدي وابن زيد وأبو علي الجبائي : المراد بهم أمراء السرايا والولاة ، وعلى الأول المعول لَعَلِمَهُ أي لعلم تدبير ذلك الأمر الذي أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائده ، أو لو ردوه إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ومن ذكر ، وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذي يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون ، أو لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى كبار أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم ، وقالوا : نسكت حتى نسمعه منهم ونعلمه هل مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته ، وهل هو مما يذاع أو لا هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطون من الرسول وأولي الأمر أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم ، أو لو عرضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير ، وإلى أجلة صحبه رضي اللّه تعالى عنهم لعلم الرادون معناه وتدبيره وهم الذين يستنبطونه ويستخرجون علمه وتدبيره من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومن تشرف بالعطف عليه ، والتعبير بالرسالة لما أنها من موجبات الرد.
وكلمة - من - إما ابتدائية والظرف لغو متعلق بيستنبطونه ، وإما تبعيضية أو بيانية تجريدية والظرف حال ، ووضع الموصول موضع الضمير في الاحتمالين الأخيرين للإيذان بأنه ينبغي أن يكون القصد بالرد استكشاف المعنى واستيضاح الفحوى ، والاستنباط في الأصل استخراج الشيء من مأخذه - كالماء من البئر ، والجوهر من المعدن - ويقال للمستخرج : نبط بالتحريك ثم تجوز به فأطلق على كل أخذ وتلق وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ خطاب للطائفة المذكورة آنفا بناء على أنهم ضعفة المؤمنين على طريقة الالتفات ، والمراد من الفضل والرحمة شيء واحد أي لولا فضله سبحانه عليكم ورحمته بإرشادكم إلى سبيل الرشاد الذي هو الرد إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى أولي الأمر لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ وعملتم بآرائكم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 92
الضعيفة ، أو أخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وتذرون ولم تهتدوا إلى صوب الصواب إِلَّا قَلِيلًا وهم أولو الأمر المستنيرة عقولهم بأنوار الإيمان الراسخ ، الواقفون على الأسرار الراسخون في معرفة الأحكام بواسطة الاقتباس من مشكاة النبوة ، فالاستثناء منقطع أو الخطاب للناس أي وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ تعالى بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وَرَحْمَتُهُ بإنزال القرآن - كما فسرهما بذلك السدي والضحاك - وهو اختيار الجبائي ، ولا يبعد العكس لَاتَّبَعْتُمُ كلكم الشَّيْطانَ وبقيتم على الكفر والضلالة إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ قد تفضل عليه بعقل راجح فاهتدى به إلى طريق الحق ، وسلم من مهاوي الضلالة وعصم من متابعة الشيطان من غير إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وإنزال الكتاب - كقس بن ساعدة الايادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل «1» وأضرابهم - فالاستثناء متصل ، وإلى ذلك ذهب الأنباري.
وقال أبو مسلم : المراد بفضل اللّه تعالى ورحمته النصرة والمعونة مرة بعد أخرى ، والمعنى لولا حصول النصرة والظفر لكم على سبيل التتابع لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيما يلقى إليكم من الوساوس والخواطر الفاسدة المؤدية إلى الجبن والفشل والركون إلى الضلال وترك الدين إِلَّا قَلِيلًا وهم أهل البصائر النافذة ، والعزائم المتمكنة والنيات الخالصة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقا حصول الدولة في الدنيا ، أو باطلا حصول الانكسار والانهزام ، بل مدار الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل ، ولا يرد أنه يلزم من جعل الاستثناء من الجملة التي وليها جواز أن ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان ، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه ، وليس للّه تعالى عليه في ذلك فضل ومعاذ اللّه تعالى أن يعتقد هذا مسلم موحد سنيا كان أو معتزليا ، وذلك لأن لَوْلا حرف امتناع لوجود ، وقد أنبأت أن امتناع اتباع المؤمنين للشيطان في الكفر وغيره إنما كان بوجود فضل اللّه تعالى عليهم ، فالفضل هو السبب المانع من اتباع الشيطان فإذا جعل الاستثناء ما ذكر فقد سلبت تأثير فضل اللّه تعالى في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة ، وجعلهم مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل اللّه تعالى ، ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه : لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب ، وإنما مننت عليه في تأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله ، لأنا نقول هذا إذا عم الفضل لا إذا خص كما أشرنا إليه لأن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر ، نعم ظاهر عبارة الكشاف في هذا المقام مشكل حيث جعل الاستثناء من الجملة الأخيرة ، وزاد التوفيق في البيان ، ويمكن أن يقال أيضا : أراد به توفيقا خاصا نشأ مما قبله ، وهذا أولى من الإطلاق ودفع الإشكال بأن عدم الفضل والرحمة على الجميع لا يلزم منه العدم على البعض لما فيه من التكلف ، وذهب بعضهم للتخلص من الإيراد إلى أن الاستثناء من قوله تعالى : أَذاعُوا بِهِ ، وروي ذلك عن ابن عباس - وهو اختيار المبرد ، والكسائي والفراء والبلخي والطبري - واتخذ القاضي أبو بكر الآية دليلا في الرد على من جزم بعود الاستثناء عند تعدد الجمل إلى الأخيرة.
وعن بعض أهل اللغة أن الاستثناء من قوله سبحانه : لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وعن أكثرهم أنه من قوله تعالى : لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ واعترضه الفراء والمبرد بأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله ، وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك ، وتعقب ذلك الزجاج بأنه غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه ولا يجهله إلا البالغ في
___________
(1) عد الطبرسي منهم. البراء وأباذر. ا ه منه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 93
البلادة - وفيه نظر - وبعضهم إلى جعل الاستثناء مفرغا من المصدر فما بعد إِلَّا منصوب على أنه مفعول مطلق أي لاتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلا بأن تبقوا على إجراء الكفر وآثاره إلا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض ، وذلك قد يكون بمجرد الطبع والعادة ، وأحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق عند الإمام ما ذكره أبو مسلم ، وأيد التخصيص فيما ذهب إليه الأنباري بأن قوله تعالى : ومَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ إلخ ، وقوله سبحانه : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يشهدان له ، وفي الذي بعده بأن قوله عز وجل : وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء : 83] إلخ ، وقوله جل وعلا :
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ يشهد له ، وأنت تعلم أن قرينة التخصيص بهما غير ظاهرة ، والفاء في هذه الآية واقعة في جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أي إذا كان الأمر كما حكي من عدم طاعة المنافقين وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا.
ونقل الطبرسي في اتصال الآية قولين : أحدهما أنها متصلة بقوله تعالى : وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً والمعنى فإن أردت الأجر العظيم فقاتل. ونقل عن الزجاج وثانيهما أنها متصلة بقوله عز وجل : وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والمعنى إن لم يقاتلوا في سبيل اللّه فقاتل أنت وحدك ، وقيل : هي متصلة بقوله تعالى : فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ومعنى لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لا تكلف إلا فعلها إذ لا تكليف بالذوات ، وهو استثناء مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسه من موجبات مباشرته صلّى اللّه عليه وسلّم للقتال وحده ، وفيه دلالة على أن ما فعلوه من التثبيط والتقاعد لا يضره صلّى اللّه عليه وسلّم ولا يؤاخذ به ، وذهب بعض المحققين إلى أن الكلام مجاز أو كناية عن ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس ، فكيف هذا ولا حاجة إلى ما قيل ، بل في ثبوته فقال : إنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بأن يقاتل وحده أولا ، ولهذا قال الصديق رضي اللّه تعالى عنه في أهل الردة :
أقاتلهم وحدي ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي ، وجعل أبو البقاء هذه الجملة في موضع الحال من فاعل - قاتل - أي فقاتل غير مكلف إلا نفسك ، وقرىء «لا تكلف» بالجزم على أن لا ناهية والفعل مجزوم بها أي لا تكلف أحدا الخروج إلا نفسك ، وقيل : هو مجزوم في جواب الأمر وهو بعيد ، ولا نكلف بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف ، وليس في موقع المفعول الأول أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك ، وقيل : لا مانع من ذلك على معنى لا نكلف أحدا هذا التكليف إلا نفسك.
والمراد من هذا التكليف مقاتلته وحده وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين ، وأصل التحريض إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به ، فالتفعيل للسلب والإزالة - كقذيته وجلدته - ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ نكاية الَّذِينَ كَفَرُوا ومنهم قريش وعَسَى من اللّه تعالى - كما قال الحسن وغيره - تحقيق ، وقد فعل سبحانه ما وعد به ، فعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما واعد صلّى اللّه عليه وسلّم أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مع جماعة من أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم حتى أتى موسم بدر فكفاهم اللّه سبحانه بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان ، وألقى اللّه تعالى الرعب في قلبه ، ولم يكن قتال يومئذ وانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمن معه سالمين وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من الذين كفروا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي تعذيبا ، وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد فعمم ، والمقصود من الجملة التهديد والتشجيع ، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة ، وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة ، وتذكير الخبر لتأكيد التشديد ، وقوله تعالى : مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ أي حظ وافر مِنْها أي من ثوابها ، جملة مستأنفة

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 94
سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا من الثواب ، وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضي.
وقال علي بن عيسى : إنه سبحانه لما قال لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ مشيرا به إلى أنه عليه الصلاة والسلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لا يؤاخذ بفعل غيره لا يزيد عمله بعمل غيره أيضا فدفع ما عسى أن يتوهم بذلك ، وليس بشيء كما لا يخفى ، و- الشفاعة - هي التوسط بالقول في وصول الشخص ولو كان أعلى قدرا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية ، أو خلاصه عن مضرة ما كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا ، ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى نفسه أو يضم نفسه إلى من يشتريه ويطلبه منه ، و- الحسنة - منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاء لوجه اللّه تعالى ، ومنها الدعاء للمسلمين فإنه شفاعة معنى عند اللّه تعالى ،
روى مسلم وغيره عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له»
وقال الملك : ولك مثل ذلك ، وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود ولا أرى حسنا إطلاق الشفاعة على الدعاء للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بل لا أكاد أسوغه ، وإن كانت فيه منفعة له صلّى اللّه عليه وسلّم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح.
وتفسيرها بالدعاء - كما نقل عن الجبائي - أو بالصلح بين اثنين - كما روى الكلبي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - لعله من باب التمثيل لا التخصيص ، وكون التحريض الذي فعله صلّى اللّه عليه وسلّم من باب الشفاعة ظاهر فإن المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو ، واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة وربحوا أموالا جسيمة بسبب ذلك ،
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وافى بجيشه بدرا ولم ير بها أحدا من العدو أقام ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا ،
ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بأن يصير الإنسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية ، والحسنة منها ما كان في طاعة ، فالجملة مسوقة للترغيب في الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد ، وأمر الارتباط عليه ظاهر ولا بأس به غير أن الجمهور على خلافه.
وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً وهي ما كانت بخلاف الحسنة ، ومنها الشفاعة في حد من حدود اللّه تعالى ،
ففي الخبر «من حالت شفاعته دون حد من حدود اللّه تعالى فقد ضاد اللّه تعالى في ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط اللّه تعالى حتى ينزع»
واستثني من الحدود القصاص ، فالشفاعة في إسقاطه إلى الدية غير محرمة يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي نصيب من وزرها ، وبذلك فسره السدي والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة ، فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة ، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن ، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة ، والكفل هو المثل المساوي ، فاختيار النصيب أولا لأن جزاء الحسنة يضاعف والكفل ثانيا لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها ، ففي الآية إشارة إلى لطف اللّه تعالى بعباده ، وقال بعضهم : إن الكفل وإن كان بمعنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى : يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد : 28] فلذا خص بالسيئة تطرية وهربا من التكرار وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي مقتدرا - كما قاله ابن عباس - حين سأله عنه نافع بن الأزرق ، واستشهد عليه بقول أحيحة الأنصاري :
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
وروي ذلك عن جماعة من التابعين ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه الحفيظ واشتقاقه من القوت ، فإنه يقوي البدن ويحفظه ، وعن الجبائي أنه المجازي أي يجازي على كل شيء من الحسنات والسيئات ، وأصله مقوت فأعلّ كمقيم والجملة تذييل مقرر لما قبلها على سائر التفاسير.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 95
[سورة النساء (4) : الآيات 86 إلى 93]
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ ترغيب كما قال شيخ الإسلام : في فرد شائع من الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق ، وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة ، فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه عند اللّه عز وجل ، وهذا أولى في الارتباط مما قاله الطبرسي : إنه لما كان المراد بالسلام المسالمة التي هي ضد الحرب - وقد تقدم ذكر القتال - عقبه به للإشارة إلى الكف عمن ألقى إلى المؤمنين السلم وحياهم بتحية الإسلام ، والتحية مصدر حيى أصلها تحيية - كتتمية ، وتزكية - وأصل الأصل تحييي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها هاء التأنيث ونقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها ، ثم أدغمت وهي في الأصل كما قال الراغب : الدعاء بالحياة وطولها ، ثم استعملت في كل دعاء ، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا تقول : حياك اللّه تعالى ، ثم استعملها الشرع في السلام ، وهو تحية الإسلام قال اللّه تعالى : تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب : 44] وقال سبحانه : فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النور : 61] ، وفيه على ما قالوا : مزية على قولهم : حياك اللّه تعالى لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات ، وربما تستلزم طول الحياة ، وليس في ذلك سوى الدعاء بطول الحياة أو به وبالملك ، ورب حياة الموت خير منها.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 96
ألا موت يباع فأشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حرّ تصدق بالممات على أخيه
وقال آخر :
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء
ولأن السلام من أسمائه تعالى والبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أي إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين كما قال الحسن وعطاء ، أو مطلقا كما أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وغيرهما عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أي بتحية أحسن من التحية التي حييتم بها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة اللّه تعالى إن اقتصر المسلم على الأول ، وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهي النهاية ، فقد أخرج البيهقي عن عروة بن الزبير - أن رجلا سلم عليه فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه تعالى وبركاته فقال عروة : ما ترك لنا فضلا إن السلام قد انتهى إلى وبركاته - وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد والطبراني عن سلمان الفارسي مرفوعا وذلك لانتظام تلك التحية لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار ، ونيل المنافع ودوامها ونمائها ، وقيل : يزيد المحيي إذا جمع المحييالثلاثة له ، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن سالم مولى عبد اللّه بن عمر قال : كان ابن عمر إذا سلم عليه فرد زاد فأتيته فقلت : السلام عليكم فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه تعالى ، ثم أتيته مرة أخرى فقلت : السلام عليكم ورحمة اللّه تعالى وبركاته ، فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه تعالى وبركاته وطيب صلواته ، ولا يتعين ما ذكر للزيادة ، فقد ورد خبر رواه أبو داود والبيهقي عن معاذ زيادة ومغفرته ، فما في الدر من أن المراد لا يزيد على - وبركاته - غير مجمع عليه أَوْ رُدُّوها أي حيوا بمثلها وأَوْ للتخيير بين الزيادة وتركها ، والطاهر أن الأول هو الأفضل في الجواب ، بل لو زاد المسلم على السلام عليكم كان أفضل ،
فقد أخرج البيهقي عن سهل بن حنيف قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : من قال : السلام عليكم كتب اللّه تعالى له عشر حسنات فإن قال السلام عليكم ورحمة اللّه تعالى كتب اللّه تعالى له عشرين حسنة ، فإن قال : السلام عليكم ورحمة اللّه تعالى وبركاته كتب اللّه تعالى له ثلاثين حسنة»
وورد في معناه غير ما خبر.
وقد نصوا على أن جواب - السلام - المسنون واجب ، ووجوبه على الكفاية ، ولا يؤثر فيه إسقاط المسلم لأن الحق للّه تعالى ، ودليل الوجوب الكفائي خبر أبي داود ، وفي معناه ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم ولم يضعفه - يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزي عن الجلوس أن يردّ أحدهم فبه يسقط الوجوب عن الباقين ويختص بالثواب فلو ردوا كلهم ولو مرتبا أثيبوا ثواب الواجب. وفي المبتغى يسقط عن الباقين بر : صبي يعقل لأنه من أهل إقامة الفرض في الجملة بدليل حل ذبيحته ، وقيل : لا ، وظاهر النهاية ترجيحه - وعليه الشنيعة - قالوا : ولو رد صبي أو لم يسمع منهم لم يسقط بخلاف نظيره في الجنازة لأن القصد ثمّ الدعاء ، وهو منه أقرب للإجابة ، وهنا الأمن ، وهو ليس من أهله وقضيته أنه يجزىء تشميت الصبي عن جمع لأن القصد التبرك والدعاء كصلاة الجنازة - ويسقط بردّ العجوز.
وفي رد الشابة قولان : عندنا ، وعند الشافعية لو ردّت امرأة عن رجل أجزأ إن شرع السلام عليها وعليه فلا يختص بالعجوز بل المحرم وأمة الرجل وزوجته كذلك ، وفي تحفتهم ويدخل في المسنون سلام امرأة على امرأة أو نحو محرم أو سيد أو زوج ، وكذا على أجنبي وهي عجوز لا تشتهى ، ويلزمها في هذه الصورة ردّ سلام الرجل ، أما مشتهاة

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 97
ليس معها امرأة أخرى فيحرم عليها ردّ سلام أجنبي ، ومثله ابتداؤه ، ويكره له ردّ سلامها ومثله ابتداؤه أيضا ، والفرق أن ردها وابتداءها يطمعه فيها أكثر بخلاف ابتدائه ورده والخنثى مع رجل كامرأة ومع امرأة كرجل في النظر فكذا هنا ، ولو سلم على جمع نسوة وجب ردّ إحداهن إذ لا يخشى فتنة حينئذ ، ومن ثمّ حلت الخلوة بامرأتين ، والظاهر أن الأمر هنا كالرجل ابتداء وردّا ، وفي الدر المختار لو قال : السلام عليك يا زيد لم يسقط برد غيره ، ولو قال : يا فلان أو أشار لمعين سقط ، ولو سلم جمع مترتبون على واحد فرد مرة قاصدا جميعهم ، وكذا لو أطلق على الأوجه أجزأه ما لم يحصل فصل ضار ، ولا بدّ في الابتداء والردّ من رفع الصوت بقدر ما يحصل به السماع بالفعل ولو في ثقيل السمع ، نعم إن مرّ عليه سريعا بحيث لم يبلغه صوته فالذي يظهر أنه يلزمه الرفع وسعه ، ولا يجهر بالرد الجهر الكثير ، والمروي عن الإمام رضي اللّه تعالى عنه لعله مقيد بغير هذه الصورة دون العدو خلفه ، واستظهر أنه لا بد من سماع جميع الصيغة ابتداء وردا ، والفرق بينه وبين إجابة أذان سمع بعضه ظاهر ، ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالردّ ، ولكن لا يزيد في الجواب على قوله : وعليك كما في الخانية ، وروي ذلك مرفوعا في الصحيح ، ولا يسلم ابتداء على كافر
لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» رواه البخاري ،
وأوجب بعض الشافعية ردّ سلام الذمي بعليك فقط ، وهو الذي يقتضيه كلام الروضة لكن قال البلقيني والأذرعي والزركشي : إنه يسن ولا يجب ، وعن الحسن يجوز أن يقال للكافر ، وعليك السلام ولا يقل رحمة اللّه تعالى فإنها استغفار ، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه ذلك - فقيل له فيه فقال : أليس في رحمة اللّه تعالى يعيش.
وأخرج ابن المنذر من طريق يونس بن عبيد عن الحسن أنه قال في الآية : إن - حيوا بأحسن منها - للمسلمين أَوْ رُدُّوها لأهل الكتاب ، وورد مثله عن قتادة ، ورخص بعض العلماء ابتداءهم به إذا دعت إليه داعية ويؤدي حينئذ بالسلام ، فعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه كان يقول للذمي ، والظاهر عند الحاجة السلام عليك ويريد - كما قال اللّه تعالى عليك - أي هو عدوك ، ولا مانع عندي إن لم يقصد ذلك من أن يقصد الدعاء له بالسلامة بمعنى البقاء حيا ليسلم ، أو يعطي الجزية ذليلا ، وفي الأشباه النص على ذلك في الدعاء له بطول البقاء ، بقي الخلاف في الإتيان بالواو عند الردّ له ، وعامة المحدثين - كما قال الخطابي - بإثباتها في الخبر غير سفيان بن عيينة فإنه يرويه بغير واو ، واستصوب لأن الواو تقتضي الاشتراك معه ، والدخول فيما قال ، وهو قد يقول السام عليكم كما يدل عليه خبر عمر رضي اللّه تعالى عنه ، ووجه العلامة الطيبي إثباتها بأن مدخولها قد يقطع عما عطف عليه لإفادة العموم بحسب اقتضاء المقام فيقدر هنا عليكم اللعنة أو الغضب وعليكم ما قلتم ولا يخفى خفاء ذلك ، وإن أيده بما ظنه شيئا. فالأولى ما في الكشف من أن رواية الجمهور هو الصواب وهما مشتركان في أنهما على سبيل الدعاء ولكن يستجاب دعاء المسلم على الكافر ولا يستجاب دعاؤه عليه ،
فقد جاء في الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما قالت عائشة في رهط اليهود القائلين له عليه الصلاة والسلام : «السام عليك ، بل عليكم السام واللعنة ، أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : لا تكوني فاشحة ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا؟! قال : رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في»
ويجب في الردّ على الأصم الجمع بين اللفظ والإشارة ليعلم ، بل العلم هو المدار ، ولا يلزمه الرد إلا إن جمع له المسلم عليه بينهما ، وتكفي إشارة الأخرس ابتداء وردا ويجب ردّ جواب كتاب التحية كردّ السلام.
وعند الشافعية يكفي جوابه كتابة ويجب فيها - إن لم يرد لفظا - الفور فيما يظهر ، ويحتمل خلافه ، ولو قال لآخر : أقرئ فلانا السلام يجب عليه أن يبلغه وعللوه بأن ذلك أمانة ، ويجب أداؤها ، ويؤخذ منه أن محله ما إذا رضي

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 98
بتحمل تلك الأمانة أما لو ردها فلا ، وكذا إن سكت أخذا من قولهم : لا ينسب لساكت قول ، ويحتمل التفصيل بين أن تظهر منه قرينة تدل على الرضا وعدمه ، وإذا قلنا بالوجوب ، فالظاهر عند بعض أنه لا يلزمه قصد الموصى له بل إذا اجتمع به وذكر بلغه ، وقال بعض المحققين الذي يتجه أنه يلزمه قصد محله حيث لا مشقة شديدة عرفا عليه لأن أداء الأمانة ما أمكن واجب ، وفرق بعضهم بين أن يقول المرسل : قل له فلان يقول : السلام عليك وبين ما لو قال له سلم لي ، والظاهر عدم الفرق وفاقا لما نقل عن النووي فيجب فيهما الرد ويسن الردّ على المبلغ والبداءة ، فيقول : وعليك وعليه السلام للخبر المشهور فيه.
وأوجبوا ردّ سلام صبي أو مجنون مميز ، وكذا سكران مميز لم يعص بسكره ، وقول المجموع : لا يجب ردّ سلام مجنون وسكران يحمل على غير المميز وزعم أن الجنون والسكر ينافيان التمييز غفلة عما صرحوا به من عدم التنافي ، ولا يجب ردّ سلام فاسق أو مبتدع زجرا له أو لغيره ، وإن شرع سلامه ، وكذا لا يجب ردّ سلام السائل لأنه ليس للتحية بل لأجل أن يعطي ، ولا ردّ سلام المتحلل من الصلاة إذا نوى الحاضر عنده على الأوجه لأن المهم له التحلل وقصد الحاضر به لتعود عليه بركته وذلك حاصل ، وإن لم يرد ، وإنما حنث به الحالف على ترك الكلام ، والسلام لأن المدار فيهما على صدق الاسم لا غير ، وقد نص على ذلك علماء الشافعية ولم أر لأصحابنا سوى التصريح بالحنث فيمن حلف لا يكلم زيدا فسلم على جماعة هو فيهم ، وأما التصريح بهذه المسألة فلم أره ، وصرح في الضياء بعدم وجوب الرد لو قال المسلم : السلام عليك بجزم الميم ، وكأنه على ما في تحفتنا لمخالفة السنة ، وعليه لو رفع الميم بلا تنوين ولا تعريف كان كجزم الميم في عدم وجوب الرد لمخالفته السنة أيضا.
وجزم غير واحد من الشافعية أن صيغة السلام ابتداء وجوابا عليك السلام وعكسه ، وأنه يجوز تنكير لفظه وإن حذف التنوين ، وأنه يجزىء سلاما عليكم ، وكذا سلام اللّه تعالى ، بل وسلامي عليك وعكسه ، واستظهر إجزاء سلمت ، وأنا مسلم عليك ، ونحو ذلك أخذا مما ذكروه أنه يجزىء في التشهد صلى اللّه تعالى على محمد والصلاة على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ونحوهما ، ولا بأس فيما قالوه عندي ، ولعل تفسير تحية في الآية لتشمل كل هذه الصيغ ، وقال بعض الجماعة : السلام معرفة تحية الأحياء ، ونكرة تحية الموتى ، ورووا في ذلك خبرا والشيعة ينكرون مطلقا وينكرون.
وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس «أن السلام في السلام اسم من أسماء اللّه تعالى» وهذا يقتضي أولوية التعريف أيضا فافهم ، والأفضل في الرد واو قبله ، ويجزىء بدونه على الصحيح ، ويضر في الابتداء كالاقتصار في أحدهما على أحد جزئي الجملة ، وإن نوى إضمار الآخر ، وفي الكشف ما يؤيده ، والخبر الذي فيه الاكتفاء - بو عليك - في الجواب لا يراد منه الاكتفاء على هذه اللفظة ، بل المراد منه أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أجاب بمثل ما سلم به عليه ، ولم يزد كما يشعر به آخره ، وذكر الطحاوي أن المستحب الرد على طهارة أو تيمم ،
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي الجهم قال : أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الغائط فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه ، ثم رد على الرجل السلام»
والظاهر عدم الفرق بين الرد والابتداء في ذلك ، ويسن السلام عينا للواحد وكفاية للجماعة كما أشرنا إليه ابتداء عند إقباله وانصرافه للخبر الصحيح الحسن «إن أولى الناس باللّه تعالى من بدأهم بالسلام ، وفارق الرد بأن الإيحاش والإخافة في ترك الرد أعظم منهما في ترك الابتداء ، وأفتى غير واحد بأن الابتداء أفضل - كإبراء المعسر أفضل من إنظاره - ويؤخذ من قولهم : ابتداء أنه لو أتى به بعد تكلم لم يعتد به ، نعم يحتمل في تكلم سهوا أو جهلا ، وعذر به أنه لا يفوت الابتداء فيجب جوابه ، ومثل ذلك بل أولى لمشروعيته الكلام للاستئذان ، فقد صرحوا بأنه إذا أتى دار إنسان يجب أن يستأذن قبل السلام ويسن إظهار البشر عنده ،

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 99
فقد أخرج البيهقي عن الحسن قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه»
وعن عمر «إذا التقى المؤمنان فسلم كل واحد منهما على الآخر وتصافحا كان أحبهما إلى اللّه تعالى أحسنهما بشرا لصاحبه» ويسن عليكم في الواحد ، وإن جاء في بعض الآثار بالإفراد نظرا لمن معه من الملائكة ، ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم ، ولو دخل بيتا ولم ير أحدا يقول : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، فإن السكنة تردّ عليه ، وفي الآكام إن في كل بيت سكنة من الجن ، ويسن عند التلاقي سلام صغير على كبير ، وماش على واقف أو مضطجع ، وراكب عليهم ، وراكب فرس على راكب حمار ، وقليلين على كثيرين لأن نحو الماشي يخاف من نحو الراكب ، ولزيادة نحو مرتبة الكبير على نحو الصغير ، وخرج بالتلاقي الجالس والواقف والمضطجع ، فكل من ورد على أحدهم يسلم عليه مطلقا ولو سلم كل على الآخر فإن ترتبا كان الثاني جوابا أي ما لم يقصد به الابتداء وحده - كما قيل - وإلا لزم كلّا الرد ، وكره أصحابنا السلام في مواضع ، وفي النهر عن صدر الدين الغزي :
سلامك مكروه على من ستسمع ومن بعد ما أبدى يسن ويشرع
مصلّ وتال ذاكر ومحدث خطيب ومن يصغي إليهم ويسمع
مكرر فقه جالس لقضائه ومن بحثوا في الفقه دعهم لينفعوا
مؤذن أيضا مع مقيم مدرس كذا الأجنبيات الفتيات أمنع
ولعاب شطرنج وشبه بخلقهم ومن هو مع أهل له يتمتع
ودع كافرا أيضا ومكشوف عورة ومن هو في حال التغوط أشنع
ودع آكلا إلا إذا كنت جائعا وتعلم منه أنه ليس يمنع
كذلك أستاذ مغنّ مطير فهذا ختام والزيادة تنفع
فلو سلم على هؤلاء لا يستحق الرد عند بعضهم ، وأوجب بعض الرد في بعضها وذكر الشافعية أن مستمع الخطيب يجب عليه الرد ، وعندنا يحرم الرد كسائر الكلام بلا فرق بين قريب وبعيد على الأصح ، وكرهوه لقاضي الحجة ونحوه كالمجامع ، وسنوه للآكل كسن السلام عليه بعد البلع وقبل وضع اللقمة بالفم ويلزمه الرد حينئذ ولمن بالحمام ونحوهما باللفظ.
ورجحوا أنه يسلم على من بمسلخه ولا يمنع كونه مأوى الشياطين فالسوق كذلك والسلام على من فيه مشروع ، وإن اشتغل بمساومة ومعاملة ومصل ومؤذن بالإشارة ، وإلا فبعد الفراغ إن قرب الفصل ، وحرموا الرد على من سلم عليه نحو مرتد وحربي ، وندبه بعضهم على القارئ وإن اشتغل بالتدبر ، وأوجب الرد عليه ، ومحله في متدبر لم يستغرق التدبر قلبه وإلا لم يسن ابتداء ، ولا جواب كالداعي المستغرق لأنه الآن بمنزلة غير المميز ، بل ينبغي فيمن استغرقه الهم كذلك أن يكون حكمه ذلك ، وصرحوا أيضا بعدم السلام على فاسق بل يسن تركه على مجاهر بفسقه ، ومرتكب ذنب عظيم لم يتب عنه ، ومبتدع إلا لعذر أو خوف مفسدة ، وعلى ملب ، وساجد وناعس ومتخاصمين بين يدي قاض ، وأفتى بعضهم بكراهة حني الظهر ، وقال كثيرون : حرام للحديث الحسن أنه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عنه ، وعن التزام الغير ، وتقبيله ، وأمر بمصافحته ما لم يكن ذميا ، وإلا فيكره للمسلم مصافحته بل يكفر إن قصد التبجيل كما يكفر بالسلام عليه كذلك.
وأفتى البعض أيضا بكراهة الانحناء بالرأس وتقبيل نحو الرأس أو يد أو رجل لا سيما لنحو غني
لحديث «من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه»
وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبّل يد عمر رضي اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 100
عنهما ، ولا يعدّ - نحو صبحك اللّه تعالى بالخير ، أو قواك اللّه تعالى - تحية ولا يستحق مبتدأ به جوابا ، والدعاء له بنظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ونحو مرحبا مثل ذلك في ذلك ، وذكر أنه لو قال المسلم السلام عليك ورحمة اللّه تعالى وبركاته ، فقال الراد : عليك السلام فقد أجزأه لكنه خلاف الأولى ، وظاهر الآية خلافه إذ الأمر فيها دائر بين الجواب بالأحسن ، والجواب بالمثل ، وليس ما ذكر شيئا منهما. وحمل التحية على السلام هو ما ذهب إليه الأكثرون من المحققين وأئمة الدين ، وقيل : المراد بها الهدية والعطية ، وأوجب القائل العوض أو الرد على المتهب - وهو قول قديم للشافعي - ونسب أيضا لإمامنا الأعظم رضي اللّه تعالى عنه ، وعلل بعضهم بأن السلام قد وقع فلا يرد بعينه فلذا حمل على الهدية وقد جاء إطلاقها عليها ، وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبي :
قفي تغرم الأولى من اللحظ مقلتي بثانية والمتلف الشيء غارمه
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عيينة أنه قال في الآية : أترون هذا في السلام وحده هذا في كل شيء من أحسن إليك فأحسن إليه وكافه ، فإن لم تجد فادع له واثن عليه عند إخوانه ، ولعل مراده رحمه اللّه تعالى قياس غير السلام من أنواع الإحسان عليه لأن المراد من التحية ما يعم السلام وغيره لخفاء ذلك ، ولعل من أراد الأعم فسرها بما يسدي إلى الشخص مما تطيب به حياته إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم ويدخل في ذلك ما أمروا به من التحية دخولا أوليا.
هذا «ومن باب الإشارة في هذه الآيات» الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ أنفسهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيهلكونها بسيوف المجاهدة ليصلوا إليه تعالى شأنه وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ عقولهم وينازعونها فِي سَبِيلِ طاغوت أنفسهم ليحصلوا اللذات ويغنموا في هذه الدار الفانية أمتعة الشهوات فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ وهي القوى النفسانية أو النفس وقواها إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً فوليه ضعيف ، عاذ بقرملة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ أي قال لهم المرصدون كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن محاربة الأنفس الآن قبل أداء رسوم العبادات وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ والمراد بها إتعاب البدن بأداء العبادة البدنية وَآتُوا الزَّكاةَ والمراد بها إتعاب القلب بأداء العبادة المالية فإذا تم لكم ذلك فتوجهوا إلى محاربة النفس فإن محاربتها قبل ذلك بغير سلاح ، فإن هذه العبادات الرسمية سلاح السالكين فلا يتم لأحد تهذيب الباطن قبل إصلاح الظاهر فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ حين أداء ما أمروا بأدائه إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ لضعف استعدادهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً فلا يستطيعون هجرهم ، ولا ارتكاب ما فيه ذل نفوسهم خشية اعتراضهم عليهم ، أو إعراضهم عنهم ، وقالوا بلسان الحال : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ الآن لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الموت الاضطراري ، فالمنية ولا الدنية ، وهذا حال كثير من الناسكين يرغبون عن السلوك وتحمل مشاقة مما فيه إذلال نفوسهم وامتهانها خوفا من الملامة ، واعتراض الناس عليهم فيبقون في حجاب أعمالهم - ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون - قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ فلا ينبغي أن يلاحظوا الناس في تركه وعدم الالتفات إليه وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى فينبغي أن يتحملوا الملامة في تحصيلها وَلا
تُظْلَمُونَ فَتِيلًا مما كتب لكم فينبغي عدم خشية سوى اللّه تعالى أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وتفارقون ولا بد من تخشون فراقه إن سلكتم ففارقوهم بالسلوك وهو الموت الاختياري قبل أن تفارقوهم بالهلاك وهو الموت الاضطراري وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي أجساد قوية :
فمن يك ذا عظم صليب رجا به ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره
وَإِنْ تُصِبْهُمْ أي المحجوبين حَسَنَةٌ أي شيء يلائم طباعهم يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيضيفونها إلى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 101
اللّه تعالى من فرح النفس ولذة الشهوة لاتبعت المعرفة والمحبة وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي شيء تنفر عنه طباعهم وإن كان على خلاف ذلك في نفس الأمر يَقُولُوا لضيق أنفسهم هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ فيضيفونها إلى غيره تعالى ويرجعون إلى الأسباب لعدم رسوخ الإيمان الحقيقي في قلوبهم قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهذا دعاء لهم إلى توحيد الأفعال ، ونفى التأثير عن الأغيار ، والإقرار بكونه سبحانه خالق الخير والشر فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ المحجوبين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً لاحتجابهم بصفات النفوس وارتياح آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي ، ثم زاد سبحانه في البيان بقوله عز وجل : ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ صغرت أو عظمت فَمِنَ اللَّهِ تعالى أفاضها حسب الاستعداد الأصلي وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ حقرت أو جلت فَمِنْ نَفْسِكَ أي من قبلها بسبب الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والأفعال الحاجبة للقلب المكدرة لجوهره حتى احتاج إلى الصقل بالرزايا والمصائب والبلايا والنوائب ، لا من قبل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أو غيره وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا فأنت الرحمة لهم فلا يكون من عندك شر عليهم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ذلك مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم مرآة الحق يتجلى منه للخلق ، وقال بعض العارفين ، إن باطن الآية إشارة إلى عين الجمع أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ليرشدهم إلى أنك رسول اللّه تعالى ، وأن إطاعتك إطاعته سبحانه حيث أنه مشتمل على الفرق والجمع ، وقيل : ألا يتدبرونه فيتعظون بكريم مواعظه ويتبعون محاسن أوامره ، أو أفلا يتدبرونه ليعلموا أن اللّه جل شأنه تجلى لهم فيه وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً أي لوجدوا الكثير منه مختلفا بلاغة وعدمها فيكون مثل كلام المخلوقين
فيكون لهم مساغ إلى تكذيبه وعدم قبول شهادته ، أو القول بأنه لا يصلح أن يكون مجلى للّه تعالى ، وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ إخبار عمن في مبادي السلوك أي إذا ورد عليهم شيء من آثار الجمال أو الجلال أفشوه وأشاعوه وَلَوْ رَدُّوهُ أي عرضوه إِلَى الرَّسُولِ إلى ما علم من أحواله ، وما كان عليه وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم المرشدون الكاملون الذين نالوا مقام الوراثة المحمدية لَعَلِمَهُ أي لعلم مآله وأنه مما يذاع أو أنه لا يذاع الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ويتلقونه منهم أي من جهتهم وواسطة فيوضاتهم ، والمراد بالموصول الرادون أنفسهم ، وحاصل ذلك أنه لا ينبغي للمريد إذا عرض له في أثناء سيره وسلوكه شيء من آثار الجمال أو الجلال أن يفشيه لأحد قبل أن يعرضه على شيخه فيوقفه على حقيقة الحال فإن في إفشائه قبل ذلك ضررا كثيرا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها الناس بالواسطة العظمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وَرَحْمَتُهُ بالمرشدين الوارثين لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ والنفس أعظم جنوده إن لم تكنه إِلَّا قَلِيلًا وهم السالكون بواسطة نور إلهي أفيض عليهم فاستغنوا به كبعض أهل الفترة ، قيل : وهم على قدم الخليل عليه الصلاة والسلام فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي قاتل من يخالفك وحدك وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على أن يقاتلوا من يحول بينهم وبين ربهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ستروا أوصاف الربوبية وَاللَّهُ أَشَدُّ منهم بَأْساً أي نكاية وَأَشَدُّ منهم تَنْكِيلًا أي تعذيبا مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً أي من يرافق نفسه على الطاعات يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها
أي حظ وافر من ثوابها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً أي من يرافق نفسه على معصية يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي مثل مساو من عقابها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً فيوصل الثواب والعقاب إلى مستحقيهما وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها تعليم لنوع من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وقيل : المعنى إذا منّ اللّه تعالى عليكم بعطية فابذلوا الأحسن من عطاياه أو تصدقوا بما أعطاكم وردوه إلى اللّه تعالى على يد المستحقين ، واللّه تعالى خير الموفقين.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر ، وقوله سبحانه : لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ جواب قسم محذوف أي

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 102
واللّه ليجمعنكم ، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، أو خبر ثان ، أو هي الخبر ، ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض ، واحتمال - أن تكون خبرا بعد خبر لكان ، وجملة اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ معترضة مؤكدة لتهديد قصد بما قبلها وما بعدها - بعيد ، ثم الخبر وإن كان هو القسم وجوابه لكنه في الحقيقة الجواب فلا يرد وقوع الإنشاء خبرا ، ولا أن جواب القسم من الجمل التي لا محل لها من الإعراب فكيف يكون خبرا مع أنه لا امتناع من اعتبار المحل وعدمه باعتبارين ، والجمع بمعنى الحشر ، ولهذا عدى بإلى كما عدى الحشر بها في قوله تعالى : لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران : 158] ، وقد يقال : إنما عدى بها لتضمينه معنى الإفضاء المتعدى بها أي ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة ، أو مفضين إليه ، وقيل : إلى بمعنى في كما أثبته أهل العربية ليجمعنكم في ذلك اليوم لا رَيْبَ فِيهِ أي في يوم القيامة ، أو في الجمع ، فالجملة إما حال من اليوم ، أو صفة مصدر محذوف أي جمعا «لا ريب فيه» والقيامة بمعنى القيام ، ودخلت التاء فيه للمبالغة - كعلامة ، ونسابة - وسمى ذلك اليوم بذلك لقيام الناس فيه للحساب مع شدة ما يقع فيه من الهول ، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة ، وهي أنه تعالى لما ذكر إِنَّ اللَّهَ تعالى كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً تلاه بالإعلام بوحدانيته سبحانه والحشر والبعث من القبور للحساب بين يديه ، وقال الطبرسي : وجه النظم أنه سبحانه لما أمر ونهى فيما قبل بين بعد أنه لا يستحق العبادة سواه ليعملوا على حسب ما أوجبه عليهم ، وأشار إلى أن لهذا العمل جزاء ببيان وقته ، وهو يوم القيامة ليجدوا فيه ويرغبوا ويرهبوا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً الاستفهام إنكاري ، والتفضيل باعتبار الكمية في الأخبار الصادقة لا الكيفية إذ لا يتصور فيها تفاوت لما أن الصدق المطابقة للواقع وهي لا تزيد ، فلا يقال لحديث معين : إنه أصدق
من آخر إلا بتأويل وتجوز والمعنى لا أحد أكثر صدقا منه تعالى في وعده وسائر أخباره ويفيد نفي المساواة أيضا كما في قولهم : ليس في البلد أعلم من زيد ، وإنما كان كذلك لاستحالة نسبة الكذب إليه سبحانه بوجه من الوجوه ، ولا يعرف خلاف بين المعترفين بأن اللّه تعالى متكلم بكلام في تلك الاستحالة ، وإن اختلف مأخذهم في الاستدلال.
وقد استدل المعتزلة على استحالة الكذب في كلام الرب تعالى بأن الكلام من فعله تعالى ، والكذب قبيح لذاته - واللّه تعالى لا يفعل القبيح - وهو مبني على قولهم : بالحسن والقبح الذاتيين وإيجابهم رعاية الصلاح والأصلح ، وأما الأشاعرة فلهم - كما قال الآمدي - في بيان استحالة الكذب في كلامه تعالى القديم النفساني مسلكان :
عقلي وسمعي ، أما المسلك الأول : فهو أن الصدق والكذب في الخبر من الكلام النفساني القديم ليس لذاته ونفسه بل بالنظر إلى ما يتعلق به من المخبر عنه فإن كان قد تعلق به على ما هو عليه كان الخبر صدقا ، وإن كان على خلافه كان كذبا ، وعند ذلك فلو تعلق من الرب سبحانه كلامه القائم على خلاف ما هو عليه لم يحل إما أن يكون ذلك مع العلم به أولا لا جائز أن يكون الثاني ، وإلا لزم الجهل الممتنع عليه سبحانه من أوجه عديدة ، وإن كان الأول فمن كان عالما بالشيء يستحيل أن لا يقوم به الإخبار عنه على ما هو به وهو معلوم بالضرورة ، وعند ذلك فلو قام بنفسه الإخبار عنه على خلاف ما هو عليه حال كونه عالما به مخبرا عنه على ما هو عليه لقام بالنفس الخبر الصادق والكاذب بالنظر إلى شيء واحد من جهة واحدة ، وبطلانه معلوم بالضرورة.
واعترض بأنا نعلم ضرورة من أنفسنا إنا حال ما نكون عالمين بالشيء يمكننا أن نخبر بالخبر الكاذب ، ونعلم كوننا كاذبين ، ولولا إنا عالمون بالشيء المخبر عنه لما تصور علمنا بكوننا كاذبين ، وأجيب بأن الخبر الذي نعلم من أنفسنا كوننا كاذبين فيه إنما هو الخبر اللساني ، وأما النفساني فلا نسلم صحة علمنا بكذبه حال الحكم به ، وأما المسلك الثاني : فهو أنه قد ثبت صدق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بدلالة المعجزة القاطعة فيما هو رسول فيه على ما بين في محله.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 103
وقد نقل عنه بالخبر المتواتر أن كلام اللّه تعالى صدق ، وأن الكذب عليه سبحانه محال ، ونظر فيه الآمدي بأن لقائل أن يقول : صحة السمع متوقفة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وصدقه متوقف على استحالة الكذب على اللّه تعالى من حيث أن ظهور المعجزة على وفق تحديه بالرسالة نازل منزلة التصديق من اللّه سبحانه له في دعواه ، فلو جاز الكذب عليه جل شأنه لأمكن أن يكون كاذبا في تصديقه له ولا يكون الرسول صادقا ، وإذا توقف كل منهما على صاحبه كان دورا لا يقال إثبات الرسالة لا يتوقف على استحالة الكذب على اللّه تعالى ليكون دورا فإنه لا يتوقف إثبات الرسالة على الإخبار بكونه رسولا حتى يدخله الصدق والكذب ، بل على إظهار المعجزة على وفق تحديه ، وهو منزل منزلة الإنشاء ، وإثبات الرسالة وجعله رسولا في الحال كقول القائل : وكلتك في أشغالي ، واستنبتك في أموري ، وذلك لا يستدعي تصديقا ولا تكذيبا إذ يقال حينئذ : فلو ظهرت المعجزة على يد شخص لم يسبق منه التحدي بناء على جوازه على أصول الجماعة لم تكن المعجزة دالة على ثبوت رسالته إجماعا ولو كان ظهور المعجزة على يده منزل منزلة الإنشاء لرسالته لوجب أن يكون رسولا متبعا بعد ظهورها.
وليس كذلك ، وكون الإنشاء مشروطا بالتحدي بعيد بالنظر إلى حكم الإنشاءات ، وبتقدير أن يكون كذلك غايته ثبوت الرسالة بطريق الإنشاء ، ولا يلزم منه أن يكون الرسول صادقا في كل ما يخبر به دون دليل عقلي يدل على صدقه فيما يخبر به ، أو تصديق اللّه تعالى له في ذلك ، ولا دليل عقلي يدل على ذلك ، وتصديق اللّه تعالى له لو توقف على صدق خبره عاد ما سبق ، فينبغي أن يكون هذا المسلك السمعي في بيان استحالة الكلام اللساني وهو صحيح فيه ، والسؤال الوارد ثم منقطع هنا فإن صدق الكلام اللساني وإن توقف على صدق الرسول لكن صدق الرسول غير متوقف على صدق الكلام اللساني بل على الكلام اللساني نفسه فامتنع الدور الممتنع ، وفي المواقف : الاستدلال على امتناع الكذب عليه تعالى عند أهل السنة بثلاثة أوجه : الأول أنه نقص والنقص ممنوع إجماعا ، وأيضا فيلزم أن يكون نحن أكمل منه سبحانه في بعض الأوقات أعني وقت صدقنا في كلامنا ، والثاني أنه لو اتصف بالكذب سبحانه لكان كذبه قديما إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق ، فإن ما ثبت قدمه استحال عدمه واللازم باطل ، فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه ، وهذان الوجهان إنما يدلان على أن الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى يكون صادقا ، ثم أتى بالوجه الثالث دليلا على استحالة الكذب في الكلام اللفظي والنفسي على طرز ما في المسلك الثاني وقد علمت ما للآمدي فيه فتدبر جميع ذلك ليظهر لك الحق.
فَما لَكُمْ مبتدأ وخبر ، والاستفهام للإنكار ، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين ، وما فيه من معنى التوبيخ لبعضهم ، وقوله سبحانه : فِي الْمُنافِقِينَ يحتمل - كما قال السمين - أن يكون متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى :
فِئَتَيْنِ أي فما لكم تفترقون في المنافقين ، وأن يكون حالا من فِئَتَيْنِ مفترقين في المنافقين ، فلما قدم نصب على الحال ، وأن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر أي أي شيء كائن لكم في أمرهم وشأنهم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وفي انتصاب فِئَتَيْنِ وجهان - كما في الدر المصون ..
أحدهما أنه حال من ضمير لَكُمْ المجرور ، والعامل فيه الاستقرار ، أو الظرف لنيابته عنه ، وهذه الحال لازمة لا يتم الكلام بدونها ، وهذا مذهب البصريين في هذا التركيب وما شابهه ، وثانيهما - وهو مذهب الكوفيين - أنه خبر كان مقدرة أي ما لكم في شأنهم كنتم فئتين ، ورد بالتزام تنكيره في كلامهم نحو فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر : 49] وأما ما قيل على الأول : من أن كون ذي الحال بعضا من عامله غريب لا يكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولا له ، ولا يجوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها ، فمن فلسفة النحو كما قال الشهاب ، والمراد إنكار أن

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 104
يكون للمخاطبين شيء مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين ، وبيان وجوب قطع القوم بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين في جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق.
أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : هم قوم خرجوا من مكة حتى جاؤوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها ، فاختلف فيه المسلمون فقائل يقول : هم منافقون وقائل يقول : هم مؤمنون ، فبين اللّه تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : «هم ناس تخلفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون وقالوا : تخلفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يهاجروا فسماهم اللّه تعالى منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا» ، وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد ، وغيرهم عن زيد بن ثابت «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه ومسلم فيهم فِئَتَيْنِ فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا فأنزل اللّه تعالى فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ الآية كلها»
ويشكل على هذا ما سيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى من جعل هجرتهم غاية للنهي عن توليتهم إلا أن يصرف عن الظاهر كما ستعمله ، وقيل : هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وأخذوا يسارا راعى رسول اللّه ومثلوا به فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات ، ويرده كما قال شيخ الإسلام ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد أخذوا وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل في أمرهم اختلاف المسلمين ، وقيل غير ذلك. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإنكار السابق ، وقيل : من ضمير المخاطبين والرابط الواو ، وقيل : مستأنفة والباء للسببية ، وما إما مصدرية ، وإما موصولة ، وأركس وركس بمعنى واختلف في معنى الركس لغة ، فقيل : الرد - كما قيل - في قول أمية بن أبي الصلت :
فأركسوا في جحيم النار إنهم كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، والمعنى حينئذ واللّه تعالى ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين. أو نحو ذلك ، أو بسبب كسبهم ، وقيل : هو قريب من النكس ، وحاصله أنه تعالى رماهم منكسين فهو أبلغ من التنكيس لأن من يرمي منكسا في هوة قلما يخلص منها ، والمعنى أنه سبحانه بكسبهم الكفر ، أو بما كسبوه منه قلب حالهم ورماهم في حفر النيران.
وأخرج ابن جرير عن السدي أنه فسر أَرْكَسَهُمْ بأضلهم وقد جاء الإركاس بمعنى الإضلال ، ومنه :
وأركستني عن طريق الهدى وصيرتني مثلا للعدا
وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : المعنى حبسهم في جهنم ، والبخاري عنه أن المعنى بددهم أي فرقهم وفرق شملهم ، وابن المنذر ، عن قتادة أهلكهم ، ولعلها معان ترجع إلى أصل واحد ، وروي عن عبد اللّه وأبيّ أنهما قرآ - ركسوا - بغير ألف ، وقد قرأ - ركّسهم - مشددا.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ توبيخ للفئة القائلة بإيمان أولئك المنافقين على زعمهم ذلك ، وإشعار بأن يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله اللّه تعالى ، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم مع أنهم بمعزل من ذلك سعي في هدايتهم وإرادة لها ، فالمراد بالموصول المنافقون إلا أن وضع موضع ضميرهم لتشديد الإنكار ، وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة ، وحمله على العموم ، والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا -

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 105
كما زعمه أبو حيان - ليس بشيء ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره ببيان أن إرادته مما لا يمكن فضلا عن إمكان نفسه ، والآية ظاهرة في مذهب الجماعة ، وحمل الهداية والإضلال على الحكم بها خلاف الظاهر ، ويبعده قوله تعالى : وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا فإن المتبادر منه الخلق أي من يخلق فيه الضلال كائنا من كان ، ويدخل هنا من تقدم دخولا أوليا فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا من السبل فضلا عن أن تهديه إليه ، والخطاب في تَجِدَ لغير معين ، أو لكل أحد من المخاطبين للإشعار بعدم الوجدان للكل على سبيل التفصيل ، ونفي وجدان السبيل أبلغ من نفي الهادي ، وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء ، وجعل السبيل بمعنى الحجة ، وأن المعنى من يجعله اللّه تعالى في حكمه ضالا فلن تجد له في ضلالته حجة - كما قال جعفر بن حرب - ليس بشيء كما لا يخفى ، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر للإنكار السابق مؤكد لاستحالة الهداية ، أو حال من فاعل تُرِيدُونَ أو تَهْدُوا ، والرابط الواو.
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ بيان لغلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالتهم في أنفسهم ، ولَوْ مصدرية لا جواب لها أي تمنوا أن تكفروا وقوله كَما كَفَرُوا نعت لمصدر محذوف ، وما مصدرية أي كفرا مثل كفرهم ، أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه ، ولا دلالة في نسبة الكفر إليهم على أنه مخلوق لهم استقلالا لا دخل للّه تعالى فيه لتكون هذه الآية دليلا على صرف ما تقدم عن ظاهره كما زعمه ابن حرب لأن أفعال العباد لها نسبة إلى اللّه تعالى باعتبار الخلق ، ونسبة إلى العباد باعتبار الكسب بالمعنى الذي حققناه فيما تقدم ، وقوله تعالى : فَتَكُونُونَ سَواءً عطف على لَوْ تَكْفُرُونَ داخل معه في حكم التمني أي وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ فتكونون مستوين في الكفر والضلال ، وجوز أن تكون كلمة لَوْ على بابها ، وجوابها محذوف كمفعول «ود» أي ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فَتَكُونُونَ سَواءً لسروا بذلك فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ الفاء فصيحة ، وجمع أَوْلِياءَ مراعاة لجمع المخاطبين فإن المراد نهي كل من المخاطبين عن اتخاذ كل من المنافقين وليا أي إذا كان حالهم ما ذكر من الودادة فلا توالوهم.
حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حتى يؤمنوا وتحققوا إيمانهم بهجرة هي للّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم لا لغرض من أغراض الدنيا ، وأصل السبيل الطريق ، واستعمل كثيرا في الطريق الموصلة إليه تعالى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، والآية ظاهرة في وجوب الهجرة.
وقد نص في التيسير على أنها كانت فرضا في صدر الإسلام ، وللهجرة ثلاث استعمالات : أحدهما الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وهو الاستعمال المشهور ، وثانيها ترك المنهيات ، وثالثها الخروج للقتال وعليه حمل الهجرة. من قال : إن الآية نزلت فيمن رجع يوم أحد على ما حكاه خبر الشيخين وجزم به في الخازن فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل اللّه تعالى - كما قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - فَخُذُوهُمْ إذا قدرتم عليهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا ، وقيل : المراد القتل لا غير إلا أن الأمر بالأخذ لتقدمه على القتل عادة.
وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبدا كما يشعر بذلك المضارع الدال على الاستمرار أو التكرير المفيد للتأكيد إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ استثناء من الضمير في قوله سبحانه فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أي إلا الذين يصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم بنو مدلج.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 106
أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي من بني مدلج فأتيته فقلت : أنشدك النعمة ، فقالوا : مه فقال : دعوه ما تريد؟ قلت : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم ، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيد خالد فقال : اذهب معه فافعل ما يريد فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم فأنزل اللّه تعالى وَدُّوا حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ
فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الآية نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي ، وفي بني جذيمة بن عامر ولا يجوز أن يكون استثناء من الضمير في لا تَتَّخِذُوا وإن كان أقرب لأن اتخاذ الولي منهم حرام مطلقا.
أَوْ جاؤُكُمْ عطف على الصلة أي والذين جاؤُكُمْ كافين من قتالكم وقتال قومهم ، فقد استثني من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان : من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين ومن أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين ، أو عطف على صفة قوم كأنه قيل : إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ معاهدين ، أو إلى قوم كافين عن القتال لكم وعليكم ، والأول أرجح رواية ودراية إذ عليه يكون لمنع القتال سببان : الاتصال بالمعاهدين ، والاتصال بالكافين وعلى الثاني يكون السببان الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين لكن قوله تعالى الآتي : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ إلخ يقرر أن أحد السببين هو الكف عن القتال لأن الجزاء مسبب عن الشرط فيكون مقتضيا للعطف على الصلة إذ لو عطف على الصفة كان أحد السببين الاتصال بالكافين لا الكف عن القتال ، فإن قيل : لو عطف على الصفة تحققت المناسبة أيضا لأن سبب منع التعرض حينئذ الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين ، والاتصال بهؤلاء وهؤلاء سبب للدخول في حكمهم ، وقوله سبحانه : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ يبين حكم الكافين لسبق حكم المتصلين بهم ، أجيب : بأن ذلك جائز إلا أن الأول أظهر وأجري على أسلوب كلام العرب لأنهم إذا استثنوا بينوا حكم المستثنى تقريرا وتوكيدا ، وقال الإمام :
جعل الكف عن القتال سببا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن يكف عن القتال سببا لترك التعرض لأنه سبب بعيد على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهدين لكن لهم حكمهم بخلاف المتصلين بالكافين فإنهم إن كفوا فهم هم وإلا فلا أثر له ، وقرأ أبي جاؤُكُمْ بغير أو على أنه استئناف وقع جوابا لسؤال كأنه قيل : كيف كان الميثاق بينكم وبينهم؟ فقيل : جاؤُكُمْ إلخ ، وقيل : يقدر السؤال كيف وصلوا إلى المعاهدين ، ومن أين علم ذلك ، وليس بشيء ، أو على أنه صفة بعد صفة لقوم ، أو بيان ليصلون ، أو بدل منه ، وضعف أبو حيان البيان بأنه لا يكون في الأفعال ، والبدل بأنه ليس إياه ولا بعضه ولا مشتملا عليه ، وأجيب بأن الانتهاء إلى المعاهدين والاتصال بهم حاصله الكف عن القتال فصح جعل مجيئهم إلى المسلمين بهذه الصفة ، وعلى هذه العزيمة بيانا لاتصالهم بالمعاهدين ، أو بدلا منه كلّا أو بعضا أو اشتمالا وكون ذلك لا يجري في الأفعال لا يقول به أهل المعاني ، وقيل : هو معطوف على حذف العاطف ، وقوله تعالى : حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار قد ويؤيده قراءة الحسن - حصرة صدورهم - وكذا قراءة - حصرات ، وحاصرات - واحتمال الوصفية السببية لقوم لاستواء النصب والجر بعيد.
وقيل : هو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل «جاؤوا» أي جاؤوكم قوما حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ولا حاجة حينئذ إلى تقدير قد ، وما قيل : إن المقصود بالحالية هو الوصف لأنها حال موطئة فلا بد من قد سيما عند

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 107
حذف الموصوف فما ذكر التزام لزيادة الإضمار من غير ضرورة غير مسلم. وقيل : بيان لجاؤوكم وذلك كما قال الطيبي لأن مجيئهم غير مقاتلين وحَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أن يقاتلوكم بمعنى واحد ، وقال العلامة الثاني : من جهة أن المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لا حقيقة المجيء ، أو من جهة أنه بيان لكيفية المجيء ، وقيل : بدل اشتمال من جاؤُكُمْ لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره ، وقيل : إنها جملة دعائية ، ورد بأنه لا معنى للدعاء على الكفار بأن لا يقاتلوا قومهم ، بل بأن يقع بينهم اختلاف وقتل ، والحصر بفتحتين الضيق والانقباض أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي عن أن يقاتلوكم ، أو لأن ، أو كراهة أن وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم فَلَقاتَلُوكُمْ عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم ، واللام جوابية لعطفه على الجواب ، ولا حاجة لتقدير لو ، وسماها مكي وأبو البقاء لام المجازاة والازدواج ، وهي تسمية غريبة ، وفي الاعادة إشارة إلى أنه جواب مستقل والمقصود من ذلك الامتنان على المؤمنين وقرىء فلقتلوكم بالتخفيف والتشديد فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ولم يتعرضوا لكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة اللّه تعالى وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الصلح فانقادوا واستسلموا ، وكان إلقاء السلم استعارة لأن من سلم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلم له ، وقرىء بسكون اللام مع فتح السين وكسرها فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم ، وفي - نفي جعل السبيل - مبالغة في عدم التعرض لهم لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له.
وهذه الآيات منسوخة الحكم بآية براءة فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة : 5] وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وغيره سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ هم أناس كانوا يأتون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويأمنوا قومهم فأبى اللّه تعالى ذلك عليهم - قاله ابن عباس ومجاهد - وقيل : الآية في حق المنافقين كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أي دعوا إلى الشرك - كما روى عن السدي - وقيل : إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه ، يروى عن ابن عباس أنه كان الرجل يقول له قومه : بماذا آمنت؟ فيقول : آمنت بهذا القرد والعقرب والخنفساء فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بالكف عن التعرض لكم بوجه ما وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي ولم يلقوا إليكم الصلح والمهادنة وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي ولم يكفوا أنفسهم عن قتالكم.
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم وأصبتموهم أو حيث تمكنتم منهم ، وعن بعض المحققين أن هذه الآية مقابلة للآية الأولى ، وبينهما تقابل إما بالإيجاب والسلب ، وإما بالعدم والملكة لأن إحداهما عدمية والأخرى وجودية وليس بينهما تقابل التضاد ولا تقابل التضايف لأنهما على ما قرروا لا يوجدان إلا بين أمرين وجوديين فقوله سبحانه : فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ مقابل لقوله تعالى : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ وقوله جل وعلا : وَيُلْقُوا مقابل لقوله عز شأنه : وَأَلْقَوْا وقوله جل جلاله : وَيَكُفُّوا مقابل لقوله عز من قائل : فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ والواو لا تقتضي الترتيب ، فالمقدم مركب من ثلاثة أجزاء في الآيتين ، وهي في الآية الأولى الاعتزال وعدم القتال وإلقاء السلم فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط ، وجزاؤه عدم التعرض لهم بالأخذ والقتل كما يشير إليه قوله تعالى : فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا وفي الآية الثانية عدم الاعتزال وعدم إلقاء السلم وعدم الكف عن القتال ، فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط ، وجزاؤه الأخذ والقتل المصرح به بقوله سبحانه : فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ.
ومن هذا يعلم أن وَيَكُفُّوا بمعنى لم يكفوا عطف على المنفي لا على النفي بقرينة سقوط النون الذي هو علامة الجزم ، وعطفه على النفي والجزم بأن الشرطية لا يصح لأنه يستلزم التناقض لأن معنى فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ إن

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 108
لم يكفوا ، وإذا عطف وَيَكُفُّوا على النفي يلزم اجتماع عدم الكف والكف ، وكلام اللّه تعالى منزه عنه ، وكذا لا يصح كون قوله سبحانه : وَيَكُفُّوا جملة حالية ، أو استئنافية بيانية ، أو نحوية لاستلزام كل منهما التناقض مع أنه يقتضي ثبوت النون في يَكُفُّوا على ما هو المعهود في مثله ، وأبو حيان جعل الجزاء في الأول مرتبا على شيئين ، وفي الثانية على ثلاثة ، والسر في ذلك الإشارة إلى مزيد خباثة هؤلاء الآخرين ، وكلام العلامة البيضاوي - بيض اللّه تعالى غرة أحواله - في هذا المقام لا يخلو عن تعقيد ، وربما لا يوجد له محمل صحيح إلا بعد عناية وتكلف فتأمل جدا وَأُولئِكُمْ الموصوفون بما ذكر من الصفات الشنيعة.
جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة واضحة فيما أمرناكم به في حقهم لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وخبائثهم ، أو تسلطا لا خفاء فيه حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ شروع في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين ، وقيل : لما رغب سبحانه في قتال الكفار ذكر إثره ما يتعلق بالمحاربة في الجملة أي ما صح له وليس من شأنه أَنْ يَقْتُلَ بغير حق مُؤْمِناً فإن الإيمان زاجر عن ذلك إِلَّا خَطَأً فإنه مما لا يكاد يحترز عنه بالكلية. وقلما يخلو المقاتل عنه ، وانتصابه إما على أنه حال أي ما كان له أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، أو على أنه مفعول به أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ ، أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على ما يفهمه كلام بعض المحققين ، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعا حيث كان المعنى أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ.
وقال بعضهم : الاستثناء في الآية منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر ، وقيل : إلا بمعنى ولا ، والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ ، وقيل : الاستثناء من مؤمن أي إلا خاطئا ، والمختار مع الفصل الكثير في مثل ذلك النصب ، والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل ، أو الشخص ، أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا ، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه ، وقرى ء - خطاء - بالمد - وخطا - بوزن عمى بتخفيف الهمزة ،
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي - وكان أخا أبي جهل والحارث بن هشام لأمهما - أسلم وهاجر إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكان أحب ولد أمه إليها فشق ذلك عليها فحلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه ، فأقبل أبو جهل والحارث حتى قدما المدينة فأخبرا عياشا بما لقيت أمه ، وسألاه أن يرجع معهما فتنظر إليه ولا يمنعاه أن يرجع وأعطياه موثقا أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة ، وأعانهما على ذلك رجل من بني كنانة فحلف عياش ليقتلن الكناني إن قدر عليه فقدما به مكة فلم يزل محبوسا حتى فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة فخرج عياش فلقي الكناني وقد أسلم ، وعياش لا يعلم بإسلامه فضربه حتى قتله فأخبر بعد ذلك فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره الخبر فنزلت ، وروي مثل ذلك عن مجاهد وعكرمة.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد «أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف ، فقال : لا إله إلا اللّه فبدر فضربه ، ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ألا شققت عن قلبه وقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟! فقال : كيف بي يا رسول اللّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : فكيف بلا إله إلا اللّه؟! وتكرر ذلك - قال أبو الدرداء - فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ إسلامي ثم نزل القرآن»
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليه - أي فواجبه تحرير رقبة - والتحرير الإعتاق وأصل معناه جعله حرا أي كريما لأنه يقال لكل مكرم حر ، ومنه حر الوجه -

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 109
للخد - وأحرار الطير ، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضا ، والمراد بالرقبة النسمة تعبيرا عن الكل بالجزء ، قال الراغب :
إنها في المتعارف للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب ، فيقال : فلان يربط كذا رأسا وكذا ظهرا مُؤْمِنَةٍ محكوم بإيمانها وإن كانت صغيرة ، وإلى ذلك ذهب عطاء ، وعن ابن عباس والشعبي وإبراهيم والحسن لا يجزىء في كفارة القتل الطفل ولا الكافر ، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال في حرف أبي : فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي ، وفي الآية رد على من زعم جواز عتق كتابي صغير أو مجوسي كبير أو صغير ، واستدل بها على عدم إجزاء نصف رقبة ونصف أخرى وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي مؤداة إلى ورثة القتيل يقتسمونها بينهم على حسب الميراث ،
فقد أخرج أصحاب السنن الأربعة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال : كتب إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها ويقضى منها الدين وتنفذ الوصية ولا فرق بينها وبين سائر التركة ، وعن شريك لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية.
وعن ربيعة الغرة لأم الجنين وحدها وذلك خلاف قول الجماعة ، وتجب الرقبة في مال القاتل ، والدية تتحملها عنه العاقلة ، فإن لم تكن فهي في بيت المال ، فإن لم يكن ففي ماله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدق أهله عليه ، وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه ، وقد أخرج الشيخان عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم «كل معروف صدقة»
وهو متعلق بعليه المقدر قبل ، أو - بمسلمة - أي فعليه الدية أو يسلمها في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بها فحينئذ تسقط ولا يلزم تسليمها ، وليس فيه - كما قيل - دلالة على سقوط التحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله : وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ فالمنسبك في محل نصب على الاستثناء ، وقال الزمخشري : إن المنسبك في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو لظرف ، وتعقبه أبو حيان بأن كلا التخريجين خطأ لأن أَنْ والفعل لا يجوز وقوعهما حالا ، ولا منصوبا على الظرفية - كما نص عليه النحاة - وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع أَنْ وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله :
فقلت لها لا تنكحيه فإنه لأول سهم أن يلاقي مجمعا
أي لأول سهم زمان ملاقاته ، وابن مالك - كما قال السفاقسي - يقدر في الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا ، وبأن يلاقي ، وقرأ أبي - إلا أن يتصدقوا - فَإِنْ كانَ أي المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي كفار يناصبونكم الحرب وَهُوَ مُؤْمِنٌ ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أتاهم بعد أن أسلم أعلمهم ، أو بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم ، والآية نزلت - كما قال ابن جبير - في مرداس بن عمرو لما قتله خطأ أسامة بن زيد فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لا وراثة بينه وبين أهله فَإِنْ كانَ أي المقتول المؤمن - كما روي عن جابر بن زيد - مِنْ قَوْمٍ كفار بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عداء مؤقت أو مؤبد فَدِيَةٌ أي فعلى قاتله دية مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ من أهل الإسلام إن وجدوا ، ولا تدفع إلى ذوي قرابته من الكفار ، وإن كانوا معاهدين إذ لا يرث الكافر المسلم ، ولعل تقديم هذا الحكم - كما قيل - مع تأخير نظيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كما هو حكم سائر المسلمين ، ولعل إفراده بالذكر - كما قيل - أيضا مع اندراجه في حكم ما سبق في قوله سبحانه : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً إلخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه بين المحاربين.
وقيل : المراد بالمقتول هنا أحد أولئك القوم المعاهدين فيلزم قاتله تحرير الرقبة ، وأداء الدية إلى أهله المشركين للعهد الذي بيننا وبينهم ، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وأبي مالك ، واستدل بها على أن دية المسلم والذمي سواء لأنه تعالى ذكر في كل الكفارة والدية فيجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 110
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : بلغنا أن دية المعاهد كانت كدية المسلم ثم نقصت بعد في آخر الزمان فجعلت مثل نصف دية المسلم وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن دية أهل الكتاب كانت على عهد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم النصف من دية المسلمين وبذلك أخذ مالك.
وعن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشرها ، وزعم بعضهم وجوب الدية أيضا فيما إذا كان المقتول من قوم عدو لنا وهو مؤمن لعموم الآية الأولى ، وأن السكوت عن الدية في آيته لا ينفيها ، وإنما سكت عنها لأنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله لأنهم كفار بل تكون لبيت المال ، فأراد أن يبين بالسكوت أن أهله لا يستحقون شيئا ، وقال آخرون إن الدية تجب في المؤمن إذا كان من قوم معاهدين ، وتدفع إلى أهله الكفار وهم أحق بديته لعهدهم ، ولعل هؤلاء لا يعدون ذلك إرثا إذ لا يرث الكافر - ولو معاهدا - المسلم كما برهن عليه فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن فَصِيامُ أي فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ قال مجاهد : لا يفطر فيهما ولا يقطع صيامهما ، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامهما جميعا ، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما ، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستين مسكينا لكل مسكين مدّ ، رواه ابن أبي حاتم.
وأخرج عنه أيضا أنه قال : فمن لم يجد دية ، أو عتاقة فعليه الصوم ، وبه أخذ من قال : إن الصوم لفاقد الدية والرقبة يجزيه عنهما ، والاقتصار على تقدير الرقبة مفعولا - هو المروي عن الجمهور - وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنه قال :
الصيام لمن لم يجد رقبة ، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء ، ثم قال - وهو الصواب - لأن الدية في الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل ، فلا يجزىء صوم صائم عما لزم غيره في ماله ، واستدل بالآية من قال : إنه لا إطعام في هذه الكفارة ، ومن قال : ينتقل إليه عند العجز عن الصوم قاسه على الظهار وهو أحد قولين للشافعي رحمه اللّه تعالى ، وبذكر الكفارة في الخطأ دون العمد ، من قال إن لا كفارة في العمد ، والشافعي يقول : هو أولى بها من الخطأ تَوْبَةً نصب على أنه مفعول له أي شرع لكم ذلك توبة أي قبولا لها من تاب اللّه تعالى عليه إذ قبل توبته ، وفيه إشارة إلى التقصير بترك الاحتياط.
وقيل : التوبة هنا بمعنى التخفيف أي شرع لكم هذا تخفيفا عليكم ، وقيل : إنه منصوب على الحالية من الضمير المجرور في - عليه - بحذف المضاف أي فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة ، وقيل : على المصدرية أي تاب عليكم توبة ، وقوله سبحانه مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة أي توبة كائنة من اللّه تعالى.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بجميع الأشياء التي من جملتها حال هذا القاتل حَكِيماً في كل ما شرع وقضى من الأحكام التي من جملتها ما شرع وقضى في شأنه وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً بأن يقصد قتله بما يفرق الأجزاء ، أو بما لا يطيقه البتة عالما بإيمانه ، وهو نصب على الحال من فاعل «يقتل».
وروي عن الكسائي أنه سكن التاء وكأنه فر من توالي الحركات فَجَزاؤُهُ الذي يستحقه بجنايته جَهَنَّمُ خالِداً فِيها أي ماكثا إلى الأبد ، أو مكثا طويلا إلى حيث شاء اللّه تعالى ، وهو حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل : فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا.
وقال أبو البقاء : هو حال من الضمير المرفوع ، أو المنصوب في يجزاها المقدر ، وقيل : هو من المنصوب لا غير ويقدر جازاه ، وأيد بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة ، ومنع جعله حالا من الضمير المجرور في فَجَزاؤُهُ لوجهين : أحدهما أنه حال من المضاف إليه ، وثانيهما أنه فصل بين الحال وذيها بخبر المبتدأ ، وقول

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 111
سبحانه : وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل : يطريق الاستئناف تقريرا لمضمونها حكم اللّه تعالى بأن جزاءه ذلك - وغضب عليه - أي انتقم منه على ما عليه الأشاعرة وَلَعَنَهُ أي أبعده عن رحمته بجعل جزائه ما ذكر ، وقيل : هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضي على معنى المستقبل أي فجزاؤه جهنم وأن يغضب اللّه تعالى عليه إلخ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً لا يقادر قدره.
والآية - كما
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير - نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني «1» أنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه هشاما ذات يوم قتيلا في الأنصار في بني النجار فانطلق إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره بذلك فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا من قريش من بني فهر - ومعه مقيس إلى بني النجار ومنازلهم يومئذ بقباء - أن ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك وإلا فادفعوا إليه الدية فلما جاءهم الرسول قالوا : السمع والطاعة للّه تعالى وللرسول صلّى اللّه عليه وسلّم واللّه تعالى ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدّي الدية فدفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه ، فلما انصرف مقيس ، والفهري راجعين من قباء إلى المدينة ، وبينهما ساعة عمد مقيس إلى الفهري رسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقتله وارتد عن الإسلام ، وفي رواية أنه ضرب به الأرض وفضخ رأسه بين حجرين وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة ، وهو يقول في شعر له :
قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع
وأدركت ثاري وأضجعت موسدا وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت
هذه الآية مشتملة على إبراق وإرعاد وتهديد شديد وإبعاد ، وقد تأيدت بغير ما خبر ورد عن سيد البشر صلّى اللّه عليه وسلّم
فقد أخرج أحمد والنسائي عن معاوية سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : كل ذنب عسى اللّه تعالى أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ، وأخرج ابن المنذر عن أبي الدرداء مثله ،
وأخرج ابن عدي والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة اللّه تعالى» ،
وأخرجا عن البراء بن عازب «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : لزوال الدنيا وما فيها أهون عند اللّه تعالى من قتل مؤمن ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم اللّه تعالى النار» ،
وفي رواية الأصبهاني عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم اللّه تعالى على مناخرهم في النار ، وأن اللّه تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر» ،
واستدل بذلك ونحوه من القوارع المعتزلة على خلود من قتل مؤمنا متعمدا في النار ، وأجاب بعض المحققين بأن ذلك خارج مخرج التغليظ في الزجر لا سيما الآية لاقتضاء النظم له فيها كقوله تعالى : وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران : 97] في آية الحج ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم للمقداد بن الأسود - كما في الصحيحين حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب - «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال» ،
وعلى ذلك يحمل ما
أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : نازلت ربي في قاتل المؤمن أن يجعل له توبة فأبى علي»
وما أخرجه عن سعيد بن مينا أنه قال : «كنت جالسا بجنب أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه إذ أتاه رجل فسأله عن قاتل المؤمن هل له من توبة؟ فقال : لا والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط».
وشاع القول بنفي التوبة عن ابن عباس ، وأخرجه غير واحد عنه وهو محمول على ما ذكرنا ، ويؤيد ذلك ما
___________
(1) وهو الذي قتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح ا ه منه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 112
أخرجه ابن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول لمن قتل مؤمنا توبة فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال : لا إلا النار فلما قام الرجل قال له جلساؤه : ما كنت هكذا تفتينا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة فما شأن هذا اليوم؟! قال : إني أظنه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك ، وكان هذا أيضا شأن غيره من الأكابر فقد قال سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له فإذا ابتلي رجل قالوا له : تب ، وأجاب آخرون بأن المراد من الخلود في الآية المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم ، وأخرج ابن المنذر عن عون بن عبد اللّه أنه قال : فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ إن هو جازاه ، وروي مثله بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ،
قيل : وهذا كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر :
إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ، ثم إن لم يجازه لمن يكن ذلك منه كذبا ، والأصل في هذا على ما قال الواحدي : أن اللّه عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد وإن امتنع أن يخلف الوعد ، وبهذا وردت السنة
ففي حديث أنس رضي اللّه تعالى عنه «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : من وعده اللّه تعالى على عمله ثوابا فهو منجزه له ، ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار»
ومن أدعية الأئمة الصادقين رضي اللّه تعالى عنهم : يا من إذا وعد وفا ، وإذا توعد عفا ،
وقد افتخرت العرب بخلف الوعيد ، ولم تعده نقصا كما يدل عليه قوله :
وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
واعترض بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر ، وإذا جاز الخلف فيه وهو كذب لإظهار الكرم ، فلم لا يجوز في القصص والاخبار لغرض من الأغراض ، وفتح ذلك الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع كلها.
والقائلون بالعفو عن بعض المتوعدين منهم من زعم أن آيات الوعيد إنشاء ، ومنهم من قال إنها إخبار إلا أن هناك شرطا محذوفا للترهيب فلا خلف بالعفو فيها ، وقال شيخ الإسلام : والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه كيف لا وقد قال عز وجل : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : 40] ولو كان هذا إخبارا بأنه سبحانه يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وهذا مأخوذ من كلام أبي صالح وبكر بن عبد اللّه ، واعترضه أبو علي الجبائي بأن ما لا يفعل لا يسمى جزاء ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة فالدراهم التي عند مستأجرة لا تسمى جزاء ما لم تعط له وتصل إليه؟.
وتعقبه الطبرسي بأن هذا لا يصح لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل أم لم يفعل ، ولهذا يقال : جزاء المحسن الإحسان وجزاء المسيء الإساءة ، وإن لم يتعين المحسن والمسيء حتى يقال : فعل ذلك معهما أو لم يفعل ، ويقال لمن قتل غيره : جزاء هذا أن يقتل ، وهو كلام صادق وإن لم يفعل القتل وإنما لا يقال للدراهم إنها جزاء الأجير لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة لا في الدراهم المعينة فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها.
واعترض بأنا سلمنا أنه لا يلزم في الجزاء أن يفعل إلا أن كثيرا من الآيات كقوله تعالى : مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء : 123] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة : 8] يدل على أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين البتة ، وفي الآية ما يشير إليه ولا يخفى ما فيه لأن الآيات التي فيها أنه تعالى يوصل الجزاء إلى مستحقه كلها في حكم آيات الوعيد والعفو فيه جائز ، فلا معنى للقول بالبت ، ومن هنا قيل : إن الآية لا تصلح دليلا للمعتزلة مع قوله تعالى : وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء : 48].
وقد أخرج البيهقي عن قريش بن أنس قال : «كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول : يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي اللّه تعالى فيقول لي : لم قلت : إن القاتل في النار؟ فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 113
إلخ فقلت له وما في البيت أصغر مني : أرأيت إن قال لك فإني قد قلت : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء : 48 ، 116] فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال : فما استطاع أن يرد عليّ شيئا» ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المنذر عن إسماعيل بن ثوبان قال : «جالست الناس قبل الداء الأعظم في المسجد الأكبر فسمعتهم يقولون لما نزلت وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً الآية : قال المهاجرون والأنصار وجبت لمن فعل هذا النار حتى نزلت إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلخ ، فقال المهاجرون والأنصار يصنع اللّه تعالى ما شاء» وبآية المغفرة ردّ ابن سيرين على من تمسك بآية الخلود وغضب عليه وأخرجه من عنده وكون آية الخلود بعد تلك الآية نزولا بستة أشهر ، أو بأربعة أشهر - كما روى زيد بن ثابت - لا يفيد شيئا ، ودعوى النسخ في مثل ذلك مما لا يكاد يصح كما لا يخفى ، وأجاب بعض الناس بأن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل وكفره مما لا شك فيه فليس ذلك محلا للنزاع ، ويدل عليه أنها نزلت في الكناني حسبما مرت حكايته ، وقد روي عن عكرمة وابن جريج ، وجماعة أنهم فسروا مُتَعَمِّداً بمستحلا : واعترض بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وبأن تفسير المتعمد بالمستحل مما لا يكاد يقبل إذ ليس هو معناه لغة ولا شرعا فإن التزم المجاز فلا دليل عليه وسبب النزول لا يصلح أن يكون دليلا لما علمت الآن على أنه يفوت التقابل بين هذا القتل المذكور في هذه الآية والقتل المذكور في الآية السابقة وهو الخطأ الصرف ، وقيل :
إن الاستحلال يفهم من تعليق القتل بالمؤمن لأنه مشتق وتعليق الحكم بالمشتق يفيد علية مبدأ الاشتقاق ، فكأنه قيل ومن يقتل مؤمنا لأجل إيمانه ولا شك أن من يقتله لذلك لا يكون إلا مستحلا فلا يكون إلا كافرا فيخرج هذا القاتل عن محل النزاع وإن لم يعتبر سبب النزول ، واعترض بأن المؤمن وإن كان مشتقا في الأصل إلا أنه عومل معاملة الجوامد ، ألا ترى أن قولك كلمت مؤمنا مثلا لا يفهم منه أنك كلمته لأجل إيمانه؟ ولو أفاد تعليق الحكم بالمؤمن العلية لكان ضرب المؤمن وترك السلام عليه والقيام له كقتله كفرا ولا قائل به ، واعتبار الاشتقاق تارة وعدم اعتباره أخرى خارج عن حيز الاعتبار فليفهم ، ثم إنه سبحانه ذكر هنا حكم القتل العمد الأخروي ، ولم يذكر حكمه الدنيوي اكتفاء بما تقدم في آية البقرة.
[سورة النساء (4) : الآيات 94 إلى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)
فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 114
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في التحذير عما يوجب الندم من قتل من لا ينبغي قتله.
إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي سافرتم للغزو على ما يدل عليه السباق والسياق فَتَبَيَّنُوا أي فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وتذرون ولا تعملوا فيه من غير تدبر وروية ، وقرأ حمزة وعلي وخلف - فتثبتوا - أي فاطلبوا ثبات الأمر ولا تعجلوا فيه ، والمعنيان متقاربان ، وصيغة التفعيل بمعنى الاستقبال ، ودخلت الفاء لما في إِذا من معنى الشرط كأنه قيل : إن غزوتم فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ أي حياكم بتحية الإسلام ومقابلها تحية الجاهلية - كأنعم صباحا ، وحياك اللّه تعالى - وقرأ حمزة وخلف وأهل الشام - السلم - بغير ألف ، وفي بعض الروايات عن عاصم أنه قرأ - السلم - بكسر السين وفتح اللام ، ومعناه في القراءتين الاستسلام والانقياد ، وبه فسر بعضهم السَّلامَ أيضا في القراءة المشهورة ، واللام على ما قال السمين : للتبليغ ، والماضي بمعنى المضارع ، وَمَنْ موصولة ، أو موصوفة ، والمراد النهي عما هو نتيجة لترك المأمور به ، وتعيين مادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين والتثبيت ، وتقييد ذلك بالسفر لأن عدم التبيين كان فيه لا لأنه يجب إلا فيه ، والمعنى لا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدل على إسلامه :
لَسْتَ مُؤْمِناً وإنما فعلت ذلك خوف القتل بل اقبلوا منه ما أظهر وعاملوه بموجبه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 115
وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ومحمد بن علي الباقر رضي اللّه تعالى عنهما وأبي جعفر القاري أنهم قرؤوا «مؤمنا»
بفتح الميم الثانية أي مبذولا لك الأمان تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلبون ماله الذي هو حطام سريع الزوال وشيك الانتقال ، والجملة في موضع الحال من فاعل تَقُولُوا مشعرا بما هو الحامل لهم على العجلة ، والنهي راجع إلى القيد والمقيد ، وقوله تعالى : فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ تعليل للنهي عن القيد بما فيه من الوعد الضمني كأنه قيل : لا تبتغوا ذلك العرض القليل الزائل فإن عنده سبحانه وفي مقدوره مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يغنمكموها فيغنيكم عن ذلك ، وقوله سبحانه : كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تعليل للنهي عن المقيد باعتبار أن المراد منه ردّ إيمان الملقي لظنهم أن الإيمان العاصم ما ظهرت على صاحبه دلائل تواطئ الباطن والظاهر ولم تظهر فيه ، واسم الإشارة إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة والفاء في فَمَنَّ للعطف على كُنْتُمْ وقدم خبرها للقصر المفيد لتأكيد المشابهة كأنه قيل : لا تردّوا إيمان من حياكم بتحية الإسلام وَتَقُولُوا إنه ليس بإيمان عاصم ولا يعد المتصف به مؤمنا معصوما لظنكم اشتراط التواطؤ في العصمة ومجرد التحية لا يدل عليه ، فإنكم كنتم أنتم في مبادئ إسلامكم مثل هذا الملقي في عدم ظهور شيء للناس منكم غير ما ظهر منه لكم من التحية ونحوها ، ولم يظهر منكم ما تظنونه شرطا مما يدل على التواطؤ ، ومجرد أن الدخول في الإسلام لم يكن تحت ظلال السيوف لا يدل على ذلك فمنّ اللّه تعالى عليكم بأن قبل ذلك منكم ولم يأمر بالفحص عن تواطؤ ألسنتكم وقلوبكم ، وعصم بذلك دماءكم وأموالكم ، فإذا كان الأمر كذلك فَتَبَيَّنُوا هذا الأمر ولا تعجلوا وتدبروا ليظهر لكم أن ظاهر الحال كاف في الإيمان العاصم حيث كفى فيكم من قبل ، وأخر هذا التعليل على ما قيل : لما فيه من نوع تفصيل ربما يخلّ تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل
السابق وبين ما علل به ، أو لأن في تقديم الأول إشارة ما إلى ميل القوم نحو ذلك العرض ، وأن سرورهم به أقوى ، ففي تقديمه تعجيل لمسرتهم ، وفيه نوع حط عليهم - رفع اللّه تعالى قدرهم ورضي المولى عز شأنه عنهم - أو لأنه أوضح في التعليل من التعليل الأخير وأسبق للذهن منه ، ولعله لم يعطف أحد التعليلين على الآخر لئلا يتوهم أنهما تعليلا شيء واحد ، أو أن مجموعهما علة ، وقيل : موافقة لما علل بهما من القيد والمقيد حيث لم يتمايزا بالعطف ، وقيل : إنما لم يعطف لأن الأول تعليل للنهي الثاني بالوعد بأمر أخروي لأن المعنى لا تبتغوا عرض الحياة الدنيا لأن عنده سبحانه ثوابا كثيرا في الآخرة أعده لمن لم يبتغ ذلك ، وعبر عن الثواب - بالمغانم - مناسبة للمقام ، والتعليل الثاني للنهي الأول ليس كذلك ، وذكر الزمخشري وغيره في الآية ما رده شيخ الإسلام بما يلوح عليه مخايل التحقيق ، وقال بعض الناس فيها : إن المعنى كما كان هذا الذي قلتموه مستخفيا بدينه في قومه خوفا على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بدينكم حذرا من قومكم على أنفسكم ، فمنّ اللّه تعالى عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم الإسلام بعد ما كنتم تكتمونه من أهل الشرك فَتَبَيَّنُوا نعمة اللّه تعالى عليكم ، أو تبينوا أمر من تقتلونه ، ولا يخفى أن هذا - وإن كان بعضه مرويا عن ابن جبير - غير واف بالمقصود على أن القول : بأن المخاطبين كانوا مستخفين بدينهم حذرا من قومهم في حيز المنع اللهم إلا أن يقال : إن كون البعض كان مستخفيا كاف في الخطاب ، وقيل : إن قوله سبحانه : فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ منقطع عما قبله ، وذلك أنه تعالى لما نهى القوم عن قتل من ذكر أخبرهم بعد بأنه منّ عليهم بأن قبل توبتهم عن ذلك الفعل المنكر ، ثم أعاد الأمر بالتبيين مبالغة في التحذير ، أو أمر بتبيين نعمته سبحانه شكرا لما منّ عليهم به - وهو كما ترى.
واختلف في سبب الآية ،
فأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن حميد وصححه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا : ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت».

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 116
وأخرج ابن جرير عن السدي قال : «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة فلقوا رجلا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر فآوى إلى كهف جبل واتبعه أسامة فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل عليهم فقال : السلام عليكم أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته ، وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا ويسأل عنه أصحابه ، فلما رجعوا لم يسألهم عنه فجعل القوم يحدثون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويقولون : يا رسول اللّه لو رأيت أسامة وقد لقيه رجل فقال الرجل : لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه فشد عليه فقتله وهو معرض عنهم فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة فقال : كيف أنت ولا إله إلا اللّه؟! فقال يا رسول اللّه إنما قالها متعوذا يتعوذ بها فقال عليه الصلاة والسلام : هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟!» ثم نزلت الآية.
وأخرج عن ابن زيد أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء ، وذكر من قصته مثل ما ذكر من قصة أسامة ، والاقتصار على ذكر تحية الإسلام على هذا - مع أنها كانت مقرونة بكلمة الشهادة - للمبالغة في النهي والزجر ، والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن التحية كانت كافية في المكافة والانجزار عن التعرض لصاحبها. فكيف وهي مقرونة بتلك الكلمة الطيبة ، واستدل بالآية وسياقها على صحة إيمان المكره ، وإن المجتهد قد يخطىء وإن خطأه مغتفر ، وجه الدلالة على الأول أنه مع ظن القاتلين أن إسلام من ذكر لخوف القتل وهو إكراه معنى أنكر عليهم قتله فلولا صحة إسلامه لم ينكر ، ووجه الدلالة على الثاني أنه أمر فيها بالتبيين المشعر بأن العجلة خطأ.
ووجه الدلالة على الثالث مأخوذ من السياق وعدم الوعيد على ترك التبيين ، وذهب بعضهم إلى أنه لا عذر في ترك التثبت في مثل هذه الأمور ، وأن المخطئ آثم ، واحتج على ذلك بما
أخرجه ابن أبي حاتمو البيهقي عن الحسن «أن ناسا من أصحاب رسول اللّه ذهبوا يتطرقون فلقوا ناسا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال : إني مسلم إني مسلم فأوجره السنان فقتله وأخذ متيعه ، فرفع ذلك إلى رسول اللّه فقال عليه الصلاة والسلام للقاتل : أقتلته بعد ما قال : إني مسلم؟! قال : يا رسول اللّه إنما قالها متعوذا قال : أفلا شققت عن قلبه؟! قال لم يا رسول اللّه؟ قال : لتعلم أصادق هو أو كاذب؟ قال : كنت عالم ذلك يا رسول اللّه قال عليه الصلاة والسلام : إنما كان يبين عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه ، قال : فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض ، ثم عادوا فحفروا له ، فأصبح وقد وضعته الأرض إلى جنب قبره ، قال الحسن فلا أدري كم ، قال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دفناه مرتين ، أو ثلاثا كل ذلك لا تقبله الأرض فلما رأينا الأرض لا تقبله أخذنا برجله فألقيناه في بعض تلك الشعاب» فأنزل اللّه تعالى قوله سبحانه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية ،
وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : إن الأرض أبت أن تقبله فألقوه في غار من الغيران».
ووجه الدلالة في هذا على الإثم ظاهر ، وأجيب بأن هذا القاتل لعله لم يفعل ذلك لكون المقتول غير مقبول الإسلام عنده بل لأمر آخر ، واعتذر بما اعتذر كاذبا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويؤيد ذلك ما
أخرجه أحمد وابن المنذر والطبراني وجماعة عن عبد اللّه بن أبي حدرد الأسلمي قال : بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود معه متيع له ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ متيعه فلما قدمنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ ،
والظاهر أن الرجل المبهم في خبر الحسن هو هذا الرجل المصرح به في هذا الخبر ، وهو يدل على أن القتل كان لشيء كان في القلب من ضغائن

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 117
قديمة ، وإنما قلنا : إن هذا هو الظاهر لما
في خبر ابن عمر أن محلم بن جثامة لما رجع جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بردين فجلس بين يديه عليه الصلاة والسلام ليستغفر له فقال : لا غفر اللّه تعالى لك ، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاؤوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكروا ذلك له ، فقال : إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن اللّه تعالى أراد أن يعظكم ، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة ،
فإن الذي يميل القلب إليه اتحاد القصة ، واعترض على القول بعدم الوعيد بأن قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. يستفاد منه الوعيد أي أنه سبحانه لم يزل ولا يزال بكل ما تعملونه من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها ، ويدخل في ذلك التثبيت وتركه دخولا أوليا مطلع أتم اطلاع فيجازيكم بحسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والجملة تعليل بطريق الاستئناف ، وقرىء بفتح «أن» على أنه معمول - لتبينوا - أو على حذف لام التعليل.
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ شروع في الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه وليرغبوا عما يوجب خللا فيه ، والمراد بالقاعدين الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم ، وروى البخاري عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - هم القاعدون - عن بدر وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل ، وقال أبو حمزة : إنهم المتخلفون عن تبوك ، وروي أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بني واقف ، حين تخلفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في تلك الغزوة.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حال من القاعدين ، وجوز أن يكون من الضمير المستتر فيه ، وفائدة ذلك الإيذان من أول الأمر بأن القعود عن الجهاد لا يقعد بهم عن الإيمان ، والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتي من الحسنى أي لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد حال كونهم كائنين من المؤمنين غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالرفع على أنه صفة - للقاعدون - وهو إن كان معرفة ، وغَيْرُ لا تتعرف في مثل هذا الموضع لكنه غير مقصود منه - قاعدون - بعينهم بل الجنس ، فأشبه الجنس وصفه بها ، وزعم عصام الدين أن غَيْرُ هنا معرفة ، وغَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بمعنى من لا ضرر له ، ونقل عن الرضي - وبه ضعف ما تقدم - أن المعرف باللام المبهم وإن كان في حكم النكرة لكنه لا يوصف بما توصف به النكرة ، بل يتعين أن تكون صفته جملة فعلية فعلها مضارع كما في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني فأصد ثم أقول ما يعنيني
واستحسن بعضهم جعله بدلا من الْقاعِدُونَ لأن أل فيه موصولة ، والمعروف إرادة الجنس في المعرف بالألف واللام ، وبينهما فرق ، وجوز الزجاج الرفع على الاستثناء ، وتبعه الواحدي فيه ، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على أنه حال ، وهو نكرة لا معرفة ، أو على الاستثناء ظهر إعراب ما بعده عليه ، وقرىء بالجر على أنه صفة للمؤمنين ، أو بدل منه وكون النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة أكثري لا كلي ، والضَّرَرِ المرض والعلل التي لا سبيل معها إلى الجهاد ، وفي معناها - أو هو داخل فيها - العجز عن الأهبة ، وقد نزلت الآية وليس فيها غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ثم نزل بعد ،
فقد روى مالك عن الزهري عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثابت : «كنت أكتب بين يدي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في كثف - لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون - وابن أم مكتوم عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول اللّه قد أنزل اللّه تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لا أدري قال زيد :
وقلمي رطب ما جف حتى غشي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الوحي ووقع فخذه على فخذي حتى كادت تدق من ثقل الوحي ، ثم جلي عنه ، فقال لي : أكتب يا زيد غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ»
وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في منهاج دينه بِأَمْوالِهِمْ إنفاقا فيما يوهن كيد الأعداء وَأَنْفُسِهِمْ حملا لها على الكفاح عند اللقاء ، وكلا الجارين متعلق -

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 118
بالمجاهدون - وأوردوا بهذا العنوان دون عنوان الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه ، وقيده بما قيده مدحا لهم وإشعارا بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود كما قيل ، وقيل : إنما أوردوا بعنوان الجهاد إشعارا بأن القعود كان عنه ولكن ترك التصريح به هناك رعاية لهم في الجملة ، وقدم الْقاعِدُونَ على - المجاهدين - ولم يؤخر عنهم ليتصل التصريح بتفضيلهم بهم ، وقيل : للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهة القاعدين لا من جهة مقابليهم ، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد ، لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر ، وعليه قوله تعالى : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد : 16] إلى غير ذلك ، وأما قوله تعالى : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر : 9] فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول.
وأنت تعلم أنه لا تزاحم في النكات وأنه قد يكون في شيء واحد جهة تقديم وجهة تأخير ، فتعتبر هذه تارة وتلك أخرى ، وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله عز شأنه : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة : 111] لأن النفس أشرف من المال فقدم المشتري النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد وأخّر البائع تنبيها على أن المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في فائدة ، وعلى ذلك النمط جاء أيضا قوله تعالى : فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ في سبيله بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ من المؤمنين غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ دَرَجَةً لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها ، وهذا تصريح بما أفهمه نفي المساواة فإنه يستلزم التفضيل إلى أنه لم يكتف بما فهم اعتناء به وليتمكن أشد تمكن ، ولكون الجملة مبينة وموضحة لما تقدم لم تعطف عليه ، وجوز أن تكون جواب سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل : كيف وقع ذلك التفضيل؟ فقيل : فَضَّلَ اللَّهُ إلخ واللام كما أشرنا إليه في الجمعين للعهد ولا يأباه كون مدخولها وصفا - كما قيل - إذ كثيرا ما ترد أل فيه للتعريف كما صرح به النحاة ، ودَرَجَةً منصوب على المصدر لتضمنها التفضيل لأنها المنزلة والمرتبة وهي تكون في الترقي والفضل ، فوقعت موقع المصدر كأنه قيل : فضلهم تفضيلة ، وذلك مثل قولهم : ضربته سوطا أي ضربة ، وقيل : على الحال أي ذوي درجة ، وقيل : على التمييز ، وقيل : على تقدير حذف الجار أي بدرجة ، وقيل : هو واقع موقع الظرف أي في درجة ومنزلة ، وقوله تعالى : وَكُلًّا مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد ، وتنوينه عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين وَعَدَ اللَّهُ المثوبة الْحُسْنى وهي الجنة - كما قال قتادة وغيره - لا أحدهما فقط ، وقرأ الحسن - وكل - بالرفع على الابتداء ،
فالمفعول الأول - وهو العائد في جملة الخبر - محذوف أي وعده ، وكأن التزام النصب في المتواترة لأن قبله جملة فعلية وبذلك خالف ما في - الحديد - والْحُسْنى على القراءتين هو المفعول الثاني ، والجملة اعتراض جيء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول وقوله سبحانه :
وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ عطف على ما قبله ، وأغنت أل عن ذكر ما ترك على سبيل التدريج من القيود ، وإنما لم يعتبر التدريج في ترك ما ذكر مع القاعدين أولا بأن يترك من المؤمنين فقط ، ويذكر غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ في الآية الأولى ويتركهما معا في الآية الثانية ، بل تركهما دفعة واحدة عند أول قصد التدريج قيل : لأن قيد غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ كان بعد السؤال كما يشير إليه سبب النزول.
وفي بعض أخباره أن ابن أم مكتوم لما نزلت الآية جعل يقول : أي رب أين عذري ، أي رب أين عذري؟؟ فنزل ذلك فانسدت باب الحاجة إليه ، وقنع السائل بذكره مرة فأسقط مع ما معه الساقط لذلك القصد دفعة ، ولا كذلك ما

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 119
ذكر مع المجاهدين ، فإن الإتيان به كان عن محض الفضل والامتنان من غير سابقة سؤال فلما فتحت باب الإسقاط اعتبر فيه التدريج فرقا بين المقامين ، وقوله تعالى : أَجْراً عَظِيماً مصدر مؤكد - لفضل - وهو وإن كان بمعنى أعطي الفضل وهو أعم من الأجر لأنه ما يكون في مقابلة أمر لكن أريد به هنا الأخص لأنه في مقابلة الجهاد ، ويجوز أن يبقى على معناه ، وأَجْراً مفعول به ولتضمنه معنى الإعطاء نصب المفعول أي أعطاهم زيادة عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ، وقيل : هو منصوب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر.
وجعله - صفة لقوله تعالى : دَرَجاتٍ قدم عليها فانتصب على الحال ، ولكونه مصدرا في الأصل يستوي فيه الواحد وغيره جاز نعت الجمع به - بعيد ، وجوز في دَرَجاتٍ أين يكون بدلا من أَجْراً بدل الكل مبينا لكمية التفضيل ، وأن يكون حالا أي ذوي درجات ، وأن يكون واقعا موقع الظرف أي في درجات ، وقوله سبحانه : مِنْهُ متعلق بمحذوف وقع صفة - لدرجات - دالة على فخامتها وعلو شأنها ، أخرج عبد بن حميد عن ابن محيريز أنه قال :
هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة ، وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : من رضي باللّه تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها علي يا رسول اللّه فأعادها عليه ، ثم قال صلّى اللّه عليه وسلّم : وأخرى يرفع اللّه تعالى بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال : وما هي يا رسول اللّه؟ قال : الجهاد في سبيل اللّه تعالى» ،
وعن السدي أنها سبعمائة ، وجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك : ضربته أسواطا أي ضربات ، كأنه قيل : فضلهم تفضيلات ، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة ، وقيل : إنه على بابه.
والمراد بالدرجات ما ذكر في آية براءة ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ [التوبة : 120] إلى قوله سبحانه : لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة : 121] ونسب إلى عبد اللّه بن زيد ، وقوله عز شأنه : وَمَغْفِرَةً عطف على درجات الواقع بدلا من أَجْراً بدل الكل إلا أن هذا بدل البعض منه لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة ، أي ومغفرة عظيمة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون ، فحينئذ تعد من خصائصهم ، وقوله تعالى : وَرَحْمَةً عطف عليه أيضا وهو بدل الكل من أَجْراً ، وجوز أن يكون انتصابهما بفعل مقدر أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة.
هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة ، وتقييده - تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يستدعيه الظاهر إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير المؤذن بأن فضل المجاهدين بمحل لا تستطيع طير الأفكار الخضر أن تصل إليه ، ولما كان هذا مما يكاد أن يتوهم منه حرمان القاعدين اعتنى سبحانه بدفع ذلك بقوله عز قائلا : وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ثم أراد جل شأنه تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة ، فقال ما قال وسد باب الاحتمال.
ولا يخفى ما في الإبهام والتفسير من اللطف ، وأما ما قيل من إفراد الدرجة أولا لأن المراد هناك تفضيل كل مجاهد ، والجمع ثانيا لأن المراد فيه تفضيل الجمع ففي الدرجات مقابلة الجمع بالجمع ، فلكل مجاهد درجة ومآل العبارتين واحد والاختلاف تفنن ، فمن الكلام الملفوظ لا من اللوح المحفوظ ، وأما للاختلاف بالذات بين التفضيلين

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 120
وبين الدرجة والدرجات ، وفي هذا - رغب الراغب ، واستطيبه الطيبي - على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم اللّه تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيقي بكونه درجة واحدة ، وبالتفضيل الثاني ما ادخره سبحانه لهم من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة المتعالية عن الحصر كما ينبىء عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما ، كأنه قيل : فضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة ، وفي الأخرى درجات لا تحصى ، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول كذا قرره الفاضل مولانا شيخ الإسلام ، وقيل : المراد من التفضيل الأول رضوان اللّه تعالى ونعيمه الروحاني ، ومن التفضيل الثاني نعيم الجنة المحسوس ، وفيه أن عطف المغفرة والرحمة يبعد هذا التخصيص ، وقيل : المراد من المجاهدين الأولين من جاهد الكفار ، ومن المجاهدين الآخرين من جاهد نفسه ، وزيد لهم في الأجر لمزيد فضلهم كما يدل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»
وفيه أن السياق وسبب النزول يأبيان ذلك ، والحديث الذي ذكره لا أصل له ، كما قال المحدثون.
وقيل المراد من الْقاعِدِينَ في الأول الأضراء ، وفي الثاني غيرهم كما قال ابن جريج ، وأخرجه عنه ابن جرير ، وفيه من تفكيك النظم ما لا يخفى.
بقي أن الآية لا تدل نصا على حكم أولي الضرر بناء على التفسير المقبول عندنا ، نعم في بعض الأحاديث ما يؤذن بمساواتهم للمجاهدين ، فقد صح
من حديث أنس رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال : «إن في المدينة لأقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا : يا رسول اللّه وهم بالمدينة؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر»
وعليه دلالة مفهوم الصفة والاستثناء في غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ، وعن الزجاج أنه قال : إلا أولو الضرر فإنهم يساوون المجاهدين ، وعن بعضهم إن هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى غير الضرر قد ذكرت في قوله تعالى : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى إلى قوله سبحانه : إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة : 91] والذي يشهد له النقل والعقل أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة كما أنهم دون المجاهدين في الدرجة الدنيوية ، وأما أنهم مساوون لهم في الدرجة الأخروية فلا قطع به ، والآية - على ما قاله ابن جريج - تدل على أنهم دونهم في ذلك أيضا.
وقد أخرج ابن المنذر من طريق ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن ابن أم مكتوم كان بعد نزول الآية يغزو ، ويقول : ادفعوا إليّ اللواء وأقيموني بين الصفين فإني لن أفر ، وأخرج ابن منصور عن أنس بن مالك أنه قال : لقد رأيت ابن أم مكتوم بعد ذلك في بعض مشاهد المسلمين ومعه اللواء ، ويعلم من نفي المساواة في صدر الآية المستلزم للتفضيل المصرح به بعد بين المجاهد بالمال والنفس والقاعد نفيها بين المجاهد بأحدهما والقاعد واحتمال أن يراد من الآية نفي المساواة بين القاعد عن الجهاد بالمال والمجاهد به وبين القاعد عن الجهاد بالنفس والمجاهد بها بأن يكون المراد بالمجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم المجاهدين فيه بأموالهم ، والمجاهدين فيه بأنفسهم وبالقاعدين أيضا قسمي القاعد ، ويكون المراد نفي المساواة بين كل قسم من القاعد ومقابله بعيد جدا ، واحتج بها كما قال ابن الفرس : من فضل الغنى على الفقر بناء على أنه سبحانه فضل المجاهد بماله على المجاهد بغير ماله ، ولا شك أن الدرجة الزائدة من الفضل للمجاهد بماله إنما هي من جهة المال ، واستدلوا بها أيضا على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديوان ونحوه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً تذييل مقرر لما وعد سبحانه من قبل إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان القاعدين عن الجهاد ، أو بيان لحال

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 121
القاعدين عن نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والجهاد معه من المنافقين عقب بيان حال القاعدين من المؤمنين ، وتَوَفَّاهُمُ يحتمل أن يكون ماضيا ، وتركت علامة التأنيث للفصل ولأن الفاعل غير مؤنث حقيقي ، ويحتمل أن يكون مضارعا ، وأصله - تتوفاهم - فحذفت إحدى التاءين تخفيفا ، وهو لحكاية الحال الماضية ، ويؤيد الأول قراءة من قرأ توفتهم ، والثاني قراءة إبراهيم تَوَفَّاهُمُ بضم التاء على أنه مضارع وفيت بمعنى أن اللّه تعالى يوفي الملائكة أنفسهم ، فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها ، وإلى ذلك أشار ابن جني ، والمراد من التوفي قبض الروح ، وهو الظاهر الذي ذهب إليه ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه.
وعن الحسن أن المراد به الحشر إلى النار ، والمراد من الملائكة ملك الموت وأعوانه ، وهم - كما في البحر - ستة : ثلاثة لأرواح المؤمنين ، وثلاثة لأرواح الكافرين ، وعن الجمهور أن المراد بهم ملك الموت فقط وهو من إطلاق الجمع مرادا به الواحد تفخيما له وتعظيما لشأنه ، ولا يخفى أن إطلاق الجمع على الواحد لا يخلو عن بعد ، والتحقيق أنه لا مانع من نسبة التوفي إلى اللّه تعالى ، وإلى ملك الموت ، وإلى أعوانه ، والوجه في ذلك أن اللّه تعالى هو الآمر بل هو الفاعل الحقيقي ، والأعوان هم المزاولون لإخراج الروح من نحو العروق والشرايين والعصب ، والقاطعون لتعلقها بذلك ، والملك هو القابض المباشر لأخذها بعد تهيئتها ، وفي القرآن اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر : 42] ويَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة : 11] وتَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام : 61] ومثله تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بترك الهجرة ، واختيار مجاورة الكفار الموجبة للإخلال بأمور الدين ، أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وإعانتهم الكفرة ، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس «أنه كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية».
وأخرج ابن جرير عن الضحاك «أن هؤلاء أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فأصيبوا فيمن أصيب فأنزل اللّه فيهم هذه الآية» وروي عن عكرمة أن الآية نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليدة بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر مع المشركين من قريش فقتلوا هناك كفارا ، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه ،
وظالِمِي منصوب على الحالية من ضمير المفعول في تَوَفَّاهُمُ وإضافته لفظية فلا تفيده تعريفا ، والأصل ظالمين أنفسهم قالُوا أي الملائكة عليهم السلام للمتوفين توبيخا لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه وشعائره أو قالوا تقريعا لهم وتوبيخا بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وتكثير سوادهم وانتظامهم في عسكرهم وتقاعدهم عن نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم من أمور دينكم وحذفت ألف - ما - الاستفهامية المجرورة وفاء بالقاعدة ، وتكتب متصلة تنزيلا لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة. ولهذا تكتب - إلى وعلى وحتى في إلام وعلام وحتام بالألف ما لم يوقف على - م - بالهاء ، ولكن السؤال كما علمت طابقه الجواب بقوله تعالى : قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ وإلا فالظاهر في الجواب كنا في كذا ، أو لم نكن في شيء ، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل : فماذا قال أولئك المتوفون؟ في الجواب ، فقيل : قالوا في جوابهم : كنا مستضعفين فى أرض مكة بين ظهراني المشركين الأقرباء.
والمراد أنهم اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وإدخالهم الخلل فيه بالاستضعاف والعجز عن القيام بمواجب الدين بين أهل مكة فلذا قعدوا وناموا ، أو تعللوا عن الخروج معهم والانتظام في ذلك الجمع المكسر بأنهم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 122
كانوا مقهورين تحت أيديهم ، وأنهم فعلوا ذلك كارهين ، وعلى التقديرين لم تقبل الملائكة ذلك منهم كما يشير إليه قوله سبحانه : قالُوا أي الملائكة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أي إن عذركم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذي أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة ، أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء اللّه تعالى لما يغيظ رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأنكم مقهورون بين أولئك الأقوام غير مقبول لأنكم بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنون من المهاجرة عن مجاورتهم والخروج من تحت أيديهم فَأُولئِكَ الذين شرحت حالهم الفظيعة مَأْواهُمْ أي مسكنهم في الآخرة جَهَنَّمُ لتركهم الفريضة المحتومة ، فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام ، وعن السدي كان يقول : من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر ، والأصح الأول أو لنفاقهم وكفرهم ونصرتهم أعداء اللّه تعالى على سيد أحبائه عليه الصلاة والسلام ، وعدم التقييد بالتأييد ليس نصا في العصيان بما دون الكفر ، وإنما النص التقييد بعدمه ، واسم الإشارة مبتدأ أول ، ومَأْواهُمْ مبتدأ ثان ، وجَهَنَّمُ خبر الثاني وهما خبر الأول ، والرابط الضمير المجرور ، والمجموع خبر إن ، والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط ، وقوله سبحانه :
قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ في موضع الحال من الملائكة ، وقد معه مقدرة في المشهور ، وجعله حالا - من الضمير المفعول بتقدير قد أولا ، ولهم آخرا بعيد ، أو هو الخبر والعائد فيه محذوف أي لهم ، والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في خبره ، ولا يصح جعل شيء من قالوا الثاني ، والثالث خبرا لأنه جواب ، ومراجعة - فمن قال : لو جعل قالوا : الثاني خبرا لم يحتج إلى تقدير عائد فقد - وهم ، وقيل : الخبر محذوف تقديره هلكوا ونحوه ، و«تهاجروا» منصوب في جواب الاستفهام وقوله تعالى : وَساءَتْ من باب بئس أي بئست مَصِيراً والمخصوص بالذم مقدر أي مصيرهم ، أو جهنم.
واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه ، وهو مذهب الإمام مالك ، ونقل ابن العربي وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضا ، وفي كتاب الناسخ والمنسوخ أنها كانت فرضا في صدر الإسلام فنسخت وبقي ندبها ، وأخرج الثعلبي من حديث الحسن مرسلا من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ استثناء منقطع لأن الموصول وضمائره ، والإشارة إليه بأولئك لمن توفته الملائكة ظالما لنفسه ، فلم يندرج فيهم المستضعفون المذكورون ، وقيل : إنه متصل ، والمستثنى منه «أولئك مأواهم جهنم» وليس بشيء أي إلا الذين عجزوا عن الهجرة وضعفوا مِنَ الرِّجالِ كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد وَالنِّساءِ كأم الفضل لبابة بنت الحارث أم عبد اللّه بن عباس وغيرها وَالْوِلْدانِ كعبد اللّه المذكور وغيره رضي اللّه تعالى عنهم ، والجار حال من المستضعفين ، أو من الضمير المستتر فيه أي كائنين من هؤلاء ، وذكر الولدان للقصد إلى المبالغة في وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف بها الصغار ، أو يقال : إن تكليفهم عبارة عن تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر ، وأن المراد بهم المراهقون ، أو من قرب عهده بالصغر مجازا كما مر في اليتامى أو أن المراد التسوية بين هؤلاء في عدم الإثم والتكليف ، أو أن العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان ، أو المراد بهم العبيد والإماء.
لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي لا يجدون أسباب الهجرة ومبادئها وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أي ولا يعرفون طريق الموضع المهاجر إليه بأنفسهم أو بدليل ، والجملة صفة لما بعد من ، أو للمستضعفين لأن المراد به الجنس سواء

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 123
كانت أل موصولة أو حرف تعريف وهو في المعنى كالنكرة ، أو حال منه ، أو من الضمير المستتر فيه ، وجوز أن تكون مستأنفة مبينة لمعنى الاستضعاف المراد هنا فَأُولئِكَ أي المستضعفون عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ فيه إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه ينبغي أن يعد تركها ذنبا ، ولا يأمن ، ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها.
وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه.
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها ، والمراد من المراغم ، المتحول والمهاجر - كما روي ذلك عن ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم فهو اسم مكان ، وعبر عنه بذلك تأكيدا للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتحول الذي يجده يصل فيه المهاجر إلى ما يكون سببا لرغم أنف قومه الذين هاجرهم ، وعن مجاهد : إن المعنى يجد فيها متزحزحا عما يكره ، وقيل : متسعا مما كان فيه من ضيق المشركين ، وقيل : طريقا يراغم بسلوكه قومه - أي يفارقهم على رغم أنوفهم والرغم الذل والهوان ، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب ، وقرىء مرغما وَسَعَةً أي من الرزق ، وعليه الجمهور ، وعن مالك سعة من البلاد.
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ أي يحل به قبل أن يصل إلى المقصد ويحط رحال التسيار ، بل وإن كان ذلك خارج بابه كما يشعر به إيثار الخروج من بيته على المهاجرة ، وثمّ لا تأبى ذلك كما ستعرفه قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وهو معطوف على فعل الشرط ، وقرىء يُدْرِكْهُ بالرفع ، وخرجه ابن جني كما قال السمين ، على أنه فعل مضارع مرفوع للتجرد من الناصب والجازم ، والموت فاعله ، والجملة خبر لمبتدأ محذوف أي - ثم هو يدركه الموت - وتكون الجملة الاسمية معطوفة على الفعلية الشرطية وعلى ذلك حمل يونس قول الأعشى :
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا أو تنزلون فإنا معشر نزل
أي أو أنتم تنزلون وتكون الاسمية حينئذ كما قال بعض المحققين : في محل جزم وإن لم يصح وقوعها شرطا لأنهم يتسامحون في التابع ، وإنما قدروا المبتدأ ليصح رفعه مع العطف على الشرط المضارع ، وقال عصام الملة :
ينبغي أن يعلم أنه على تقدير المبتدأ يجب جعل مَنْ موصولة لأن الشرط لا يكون جملة اسمية ويكون يَخْرُجْ أيضا مرفوعا ويرد عليه حينئذ أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ ، فالأولى أن الرفع بناء على توهم رفع يَخْرُجْ لأن المقام من مظان الموصول ، ولا يخفى أنه خبط وغفلة عما ذكروا ، وقيل : إن ضم الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها ، ثم نقل حركتها إلى الكاف كقوله :
عجبت والدهر كثير عجبه من عنزي يسبني لم أضربه
وهو كما في الكشف ضعيف جدا لإجراء الوصل مجرى الوقف والنقل أيضا ، ثم تحريك الهاء بعد النقل بالضم وإجراء الضمير المتصل مجرى الجزء من الكلمة والبيت ليس فيه إلا النقل وإجراء الضمير مجرى الجزء ، وقرأ الحسن «يدركه» بالنصب ، وخرجه غير واحد على أنه بإضمار أن نظير ما أنشده سيبويه من قوله :
سأترك منزلي لبني تميم وألحق بالحجاز فاستريحا
ووجهه فيه أن سأترك مستقبل مطلوب فجرى مجرى الأمر ونحوه ، والآية - لكون المقصود منها الحث على الخروج وتقدم الشرط الذي هو شديد الشبه بغير الموجب - كانت أقوى من البيت ، وذكر بعض المحققين أن النصب في الآية جوزه الكوفيون لما أن الفعل الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم عندهم إذا وقع بعد

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 124
الواو والفاء كقوله :
ومن لا يقدم رجله مطمئنة فيثبتها في مستوى القاع يزلق
وقاسوا عليهما ثم ، وليس ما ذكر في البيت نظير الآية ، وقيل : من عطف المصدر المتوهم على المصدر المتوهم مثل - أكرمني وأكرمك - أي ليكن منك إكرام ومني ، والمعنى من يكن منه خروج من بيته وإدراك الموت له فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي وجب بمقتضى وعده وفضله وهو جواب الشرط ، وفي مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أن المهاجر له إحدى الحسنيين إما أن يرغم أنف أعداء اللّه ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصالهم بالخير والسعة ، وإما أن يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم ، وفي الآية ما لا يخفى من المبالغة في الترغيب فقد قيل : كان مقتضى الظاهر - ومن يهاجر إلى اللّه ورسوله ويمت يثبه - إلا أنه اختير «ومن يخرج مهاجرا من بيته» على - ومن يهاجر - لما أشرنا إليه آنفا ، ووضع يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ موضع - يمت - إشعارا بمزيد الرضا من اللّه تعالى ، وأن الموت كالهدية منه سبحانه له لأنه سبب للوصول إلى النعيم المقيم الذي لا ينال إلا بالموت ، وجي ء - بثم - بدل الواو تتميما لهذه الدقيقة ، وأن مرتبة الخروج دون هذه المرتبة ، وأقيم فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ مقام - يثبه - لما أنه مؤذن باللزوم والثبوت ، وأن الأجر عظيم لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه لأنه على الذات الأقدس المسمى بذلك الاسم الجامع وعن الزمخشري : إن فائدة ثُمَّ يُدْرِكْهُ بيان أن الأجر إنما يستقر إذا لم يحبط العمل الموت ، واختلف فيمن نزلت فأخرج ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة ، وكان بلغه قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى مسلميها فقال لبنيه :
احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي الطريق ، وإني لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ويقول : اللهم هذه لك ، وهذه لرسولك صلّى اللّه عليه وسلّم أبايعك على ما بايع عليه رسولك ، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم قالوا :
ليته مات بالمدينة فنزلت ، وروى الشعبي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت في أكثم بن صيفي لما أسلم ومات وهو مهاجر ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير أنها نزلت في خالد بن حزام وقد كان هاجر إلى الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات ، وروي غير ذلك ، وعلى العلات فالمراد عموم اللفظ لا خصوص السبب ، وقد ذكر أيضا غير واحد أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال وزيارة صديق وصالح ومات قبل الوصول إلى المقصد فحكمه كذلك ، وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا في سبيل اللّه تعالى فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» ،
واحتج أهل المدينة بالآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة ، والصحيح ثبوت الأجر الأخروي فقط وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً مبالغا في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج رَحِيماً مبالغا في الرحمة فيرحمه سبحانه بإكمال ثواب هجرته ونيته.
ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات : وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أي وما ينبغي لمؤمن الروح أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً وهو مؤمن القلب إلا أن يكون قتلا خطأ ، وذلك إنما يكون إذا خلصت الروح من حجب الصفات البشرية فإذا أرادت أن تتوجه إلى النفس أنوارها لتميتها وقع تجليها على القلب فخر صعقا من ذلك التجلي ودك جبل النفس دكا فكان قتله خطأ لأنه لم يكن مقصودا وَمَنْ قَتَلَ قلبا مُؤْمِناً خطأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة السر

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 125
الروحاني وتحريرها إخراجها عن رق المخلوقات وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ تسلمها العاقلة وهي الألطاف الإلهية إلى القوى الروحانية فيكون لكل منهما من حظ الأخلاق الربانية إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا وذلك وقت غنائهم بالفناء باللّه تعالى فَإِنْ كانَ المقتول بالتجلي مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ بأن كان من قوى النفس الأمارة وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة القلب فيطلقه من وثاق رق حب الدنيا والميل إليها ، ولا دية في هذه الصورة لأهل القتيل وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ بأن كان من قوى النفس القابلة للأحكام الشرعية ظاهرا والمهادنة للقلب فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ واجبة على عاقلة الرحمة إِلى أَهْلِهِ أي أهل تلك النفس من الصفات الأخر وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة الروح وتحريرها إفناؤها وإطلاقها عن سائر القيود فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة كذلك بأن كانت روحه محررة قبل فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي فعليه الإمساك عن العادات وترك المألوفات ستين يوما ، وهي مقدار مدة الميقات الموسوي ونصفها رجاء أن يحصل له البقاء بعد الفناء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ إشارة إلى أن النفس إذا قتلت القلب واستولت عليه بقيت معذبة في نيران الطبيعة مبعدة عن الرحمة مظهرا لغضب اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإرشاد عباده فَتَبَيَّنُوا حال المريد في الرد والقبول وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لا تنفروا من استسلم لكم وأسلم نفسه بأيديكم لترشدوه فتقولوا له لست مؤمنا صادقا لتعلق قلبك بالدنيا فسلم ما عندك من حطامها ليخلو قلبك لربك وتصلح لسلوك الطريق فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ للسالكين
إليه فإذا حظي بها السالك ترك لها ما في يده من الدنيا وأعرض قلبه عن ذلك كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا أي مثل هذا المريد كنتم أنتم في مبادئ طلبكم وتسليم أنفسكم للمشايخ حيث كان لكم تعلق بالدنيا فمنّ اللّه عليكم بعد السلوك بتلك المغانم الكثيرة التي عنده فأنساكم جميع ما في أيديكم وفطم قلوبكم عن الدنيا بأسرها فقيسوا حال من يسلم نفسه إليكم بحالكم لتعلموا أن اللّه سبحانه بمقتضى ما عود المتوجهين إليه الطالبين له سيمنّ على هؤلاء بما منّ به عليكم ، ويخرج حب الدنيا من قلوبهم بأحسن وجه كما أخرجه من قلوبكم.
والحاصل أنه لا ينبغي أن يقال لمن أراد التوجه إلى الحق جل وعلا من أرباب الدنيا في مبادئ الأمر : اترك دنياك واسلك لأن ذلك مما ينفره ويسد باب التوجه عليه لشدة ترك المحبوب دفعة واحدة ، ولكن يؤمر بالسلوك ويكلف من الأعمال ما يخرج ذلك عن قلبه لكن على سبيل التدريج إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بمنعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات المودعة فيها قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ حيث قعدتم عن السعي وفرطتم في جنب اللّه تعالى وقصرتم عن بلوغ الكمال الذي ندبتم إليه قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أي أرض الاستعداد باستيلاء قوى النفس الأمارة وغلبة سلطان الهوى وشيطان الوهم قالوا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أي ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم إلى نهاية كمالكم ، وذلك مجال واسع فلو تحركتم وسرتم بنور فطرتكم خطوات يسيرة بحيث ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى وخرجتم عن القرية الظالم أهلها التي هي مكة النفس الأمارة إلى البلدة الطيبة التي هي مدينة القلب ، وإنما نسب سبحانه وتعالى هنا التوفي إلى الملائكة لأن التوفي وهو استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه على ثلاثة أوجه : توفي الملائكة وتوفي ملك الموت وتوفي اللّه تعالى ، فأما توفي الملائكة فهو لأرباب النفوس ، وهم إما سعداء وإما أشقياء ، وأما توفي ملك الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب وأما توفي اللّه تعالى فهو للموحدين الذين عرج بهم عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربهم حجاب فهو سبحانه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 126
يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه عز وجل ، ولما لم يكن هؤلاء الظالمين من أحد الصنفين الأخيرين نسب سبحانه توفيهم إلى الملائكة ، وقيد ذلك بحال ظلمهم أنفسهم فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ الطبيعة وَساءَتْ مَصِيراً لما أن نار البعد والحجاب بها موقدة إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وهم كما قال بعض العارفين : أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذعنوا لقواهم الوهبية والخيالية فيبطل استعدادهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود وَالنِّساءِ أي القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي وسلوك طريق التحقيق الضعفاء القوى ، قيل : وهم البله المذكورون في خبر «أكثر أهل الجنة البله» وَالْوِلْدانِ أي القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لفترة تلحقهم من قبل صفات النفس لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر النفس وقمع الهوى وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لعدم علمهم بكيفية السلوك فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا عن الذنوب ما لم تتغير الفطرة غَفُوراً يستر بنور صفاته صفات النفوس القابلة لذلك وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عن مقار النفس المألوفة يَجِدْ فِي الْأَرْضِ أي أرض استعداده مُراغَماً كَثِيراً أي منازلا كثيرة يرغم فيها أنوف قوى نفسه وَسَعَةً أي انشراحا في الصدر لسبب الخلاص من مضايق صفات النفس وأسر الهوى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ أي مقامه الذي هو فيه مهاجرا إلى اللّه بالتوجه إلى توحيد الذات وَرَسُولِهِ بالتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ أي الانقطاع فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
حسبما توجه إليه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيستر بصفاته صفات من توجه إليه ويرحم من انقطع دون الوصول بما هو أهله ، واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل ، ثم إنه سبحانه بعد أن أمر بالجهاد ورغب في الهجرة أردف ذلك ببيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المئونة ما يؤكد العزيمة على ذلك ، فقال سبحانه وتعالى : وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم أيّ سفر كان ، ولذا لم يقيد بما قيد به المهاجرة ، والشافعي رضي اللّه تعالى عنه يخص السفر بالمباح - كسفر التجارة - والطاعة - كسفر الحج - ويخرج سفر المعصية - كقطع الطريق والإباق - فلا يثبت فيه الحكم الآتي لأنه رخصة ، وهي إنما تثبت تخفيفا وما كان كذلك لا يتعلق بما يوجب التغليظ لأن إضافة الحكم إلى وصف يقتضي خلافه فساد في الوضع ، ولنا إطلاق النصوص مع وجود قرينة في بعضها تشعر بإرادة المطلق وزيادة قيد عدم المعصية نسخ على ما عرف في موضعه ، ولأن نفس السفر ليس
بمعصية إذ هو عبارة عن خروج مديد وليس في هذا شيء من المعصية ، وإنما المعصية ما يكون بعده كما في السرقة ، أو مجاوره كما في الإباق فيصلح من حيث ذاته متعلق الرخصة لإمكان الانفكاك عما يجاوره كما إذا غصب خفا ولبسه فإنه يجوز له أن يمسح عليه لأن الموجب ستر قدمه ولا محظور فيه ، وإنما هو في مجاوره وهو صفة كونه مغصوبا وتمامه في الأصول.
والمراد من الأرض ما يشمل البر والبحر ، والمقصود التعميم أي إذا سافرتم في أي مكان يسافر فيه من بر أو بحر فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج وإثم أَنْ تَقْصُرُوا أي في أن تقصروا ، والقصر خلاف المد يقال : قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه ، فمتعلق القصر إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر ، فقوله تعالى : مِنَ الصَّلاةِ ينبغي على هذا أن يكون مفعولا لتقصروا ومِنَ زائدة حسبما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات ، وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة - على ما نقله الفاضل المذكور عن سيبويه - أي شيئا من الصلاة فينبغي أن يصار إلى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 127
وصف الجزء بوصف الكل ، أو يراد بالقصر الحبس كما في قوله تعالى : حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ [الرحمن :
72] أو يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصود بعضا منها وهي الرباعية أي فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها ، وقرىء «تقصروا» من أقصر ومصدره الإقصار.
وقرأ الزهري «تقصروا» بالتشديد ومصدره التقصير والكل بمعنى ، وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر في المشهور - عن الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه - مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ، ومشي الأقدام بالاقتصاد في البر ، وجري السفينة والريح معتدلة في البحر ، ويعتبر في الجبل كون هذه المسافة من طريق الجبل بالسير الوسط أيضا ، وفي رواية عنه رضي اللّه تعالى عنه التقدير بالمراحل وهو قريب من المشهور.
وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر الثالث ، والشافعي رحمه اللّه تعالى في قول : بيوم وليلة ، وقدر عامة المشايخ ذلك بالفراسخ ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : أحد وعشرون فرسخا.
وقال آخرون ثمانية عشر ، وآخرون خمسة عشر ، والصحيح عدم التقدير بذلك ، ولعل كل من قدر بقدر مما ذكر اعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام ولياليها ، والدليل على هذه المدة ما صح من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها»
لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم عمم الرخصة الجنس ، ومن ضرورته عموم التقدير ، والقول بكون «ثلاثة أيام» ظرفا للمسافر لا ليمسح يأباه أن السوق ليس إلا لبيان كمية مسح المسافر لا لإطلاقه ، وعلى تقدير كونه ظرفا للمسافر يكون يمسح مطلقا وليس بمقصود ، وأيضا يبطل كونه ظرفا لذلك أن المقيم يمسح يوما وليلة إذ يلزم عليه اتحاد حكم السفر والإقامة في بعض الصور وهي صورة مسافر يوم وليلة لأنه إنما يمسح يوما وليلة وهو معلوم البطلان للعلم بفرق الشرع بين المسافر والمقيم على أن ظرفية «ثلاثة» للمسافر تستدعي ظرفية اليوم للمقيم ليتفق طرفا الحديث ، وحينئذ - يكون لا يكاد ينسب إلى أفصح من نطق بالضاد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وربما يستدل للقصر في أقل من ثلاثة بما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» فإنه يفيد القصر في الأربعة برد وهي تقطع في أقل من ثلاثة ، وأجيب بأن راوي الحديث عبد الوهاب بن مجاهد ، وهو ضعيف عند النقلة جدا حتى كان سفيان يزريه بالكذب فليفهم ، واحتج الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه بظاهر الآية الكريمة على عدم وجوب القصر وأفضلية الإتمام ، وأيد ذلك بما
أخرجه ابن أبي شيبة والبزار والدار قطني عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقصر في السفر ويتم»
وما
أخرجه النسائي والدار قطني وحسنه البيهقي وصححه «أن عائشة رضي اللّه تعالى عنها لما اعتمرت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالت : يا رسول اللّه قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ فقال : أحسنت يا عائشة»
وبما روي عن عثمان رضي اللّه تعالى عنه أنه كان يتم ويقصر ، وعندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة ، وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة توفية إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل ، وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وجابر وجميع أهل البيت رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين ، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة ، وهو قول مالك ، وأخرج النسائي وابن ماجه عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام» وروى الشيخان عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت : «أول ما فرض اللّه تعالى الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر» وأما ما روي عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه وقالت : أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهي داري كما اعتذر عثمان رضي اللّه تعالى عنه من إتمامه بأنه تأهل بمكة وأزمع الإقامة بها كما روي عن الزهري فلا يرد أنها رضي اللّه تعالى عنها خالف رأيها روايتها ، وإذا خالف الراوي روايته في أمر لا يعمل بروايته فيه ،

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 128
والقول : بأن حديثها غير مرفوع لأنها لم تشهد فرض الصلاة غير مسلم لجواز أنها سمعته من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، نعم ذكر بعض الشافعية أن الخبر مؤول بأن الفرض في قولها : «فرضت ركعتين» بمعنى البيان وقد ورد بهذا المعنى ك فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم : 2].
وقال الطبري : معناه فرضت لمن اختار ذلك من المسافرين ، وهذا كما قيل في الحاج : إنه مخير في النفر في اليوم الثاني والثالث ، وأيا فعل فقد قام الفرض وكان صوابا ، وقال النووي : المعنى فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في الحضر ركعتان على سبيل التحتم ، وأقرت صلاة السفر على جواز الإتمام وحيث ثبتت دلائل الإتمام وجب المصير إلى ذلك جمعا بين الأدلة ، وقال ابن حجر عليه الرحمة : والذي يظهر لي في جمع الأدلة أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب ، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة ، وفيه : وتركت الفجر لطول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار ، ثم بعد ما استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية ، ويؤيده قول ابن الأثير : إن القصر كان في السنة الرابعة من الهجرة ، وهو مأخوذ من قول غيره : إن نزول آية الخوف فيها ، وقيل : القصر كان في ربيع الآخر من السنة الثانية كما ذكره الدولابي ، وقال السهيلي : إنه بعد الهجرة بعام أو نحوه ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوما فعلى هذا قول عائشة رضي اللّه تعالى عنها فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة انتهى.
واستبعد هذا الجمع بأنها لو كانت قبل الهجرة ركعتين لاشتهر ذلك ، وقال آخرون منهم : إن الآية صريحة في عدم وجوب الإتمام ، وما ذكر خبر واحد فلا يعارض النص الصريح على أنه مخصوص بغير الصبح والمغرب ، وحجية العام المخصوص مختلف فيها ، وذكر أصحابنا أن كثرة الأخبار ، وعمل الجم الغفير من الصحابة والتابعين وجميع العترة رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين بها يقوي القول بالوجوب ووردوه بنفي الجناح لأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فصرح بنفي الجناح عليهم لتطيب به نفوسهم وتطمئن إليه كما في قوله تعالى : فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة : 158] مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ، ركن عند الشافعي رحمه اللّه تعالى ، وعن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه أنه تلا هذه الآية لمن استبعد الوجوب بنفي الجناح إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا جوابه محذوف لدلالة ما قبل عليه أي إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال أو غيره فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ ، وقد أخذ بعضهم بظاهر هذا الشرط فقصر القصر على الخوف ، وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها ، والذي عليه الأئمة أن القصر مشروع في الأمن أيضا وقد تظاهرت الأخبار على ذلك
فقد أخرج النسائي ، والترمذي وصححه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «صلينا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين»
وأخرج الشيخان ، وغيرهما من أصحاب السنن عن حارثة بن وهب الخزاعي أنه قال : «صليت مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين»
إلى غير ذلك ، ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط ، وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده أيضا ، وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه.
وناهيك ما سمعت من الأدلة الواضحة ، وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما على نفي الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن فيه فائدة أخرى ، وقد خرج الشرط هاهنا مخرج الأغلب كما قيل في قوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 129
حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
[البقرة : 229] بل قد يقال إن الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكل ما ورد منه صلّى اللّه عليه وسلّم من القصر في حال الأمن وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب كما قاله شيخ الإسلام ، وقال بعضهم : إن القصر في الآية محمول على قصر الأحوال من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه وحينئذ يبقى الشرط على ظاهر مقتضاه المتبادر إلى الأذهان ، ونسب ذلك إلى طاوس والضحاك.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية : قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر اللّه تعالى وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا ، وقيل : إن قوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ إلخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله.
فقد أخرج ابن جرير عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : «سأل قوم من التجار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : يا رسول اللّه إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل اللّه تعالى : وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فصلى الظهر فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها فأنزل اللّه تعالى بين الصلاتين إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله سبحانه وتعالى : إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً فنزلت صلاة الخوف»
ولعل جواب الشرط على هذا محذوف أيضا على طرز ما تقدم ، ونقل الطبرسي عن بعضهم أن القصر في الآية بمعنى الجمع بين الصلاتين وليس بشيء أصلا. وقرأ أبيّ كما قال ابن المنذر : فأقصروا من الصلاة أن يفتنكم ، والمشهور أنه كعبد اللّه أسقط إِنْ خِفْتُمْ فقط ، وأيا ما كان فإن أَنْ يَفْتِنَكُمُ في موضع المفعول له لما دل عليه الكلام بتقدير مضاف كأنه قيل : شرع لكم ذلك كراهة أَنْ يَفْتِنَكُمُ إلخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة لاقتدار الكافرين على إيقاع الفتنة ، وقوله تعالى : إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً إما تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر ، أو تعليل لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال العداوة من موجبات التعرض بالسوء ، وعَدُوًّا كما قال أبو البقاء : في موضع أعداء ، وقيل : هو مصدر على فعول مثل الولوع والقبول ، ولَكُمْ حال منه ، أو متعلق بكان.
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ بيان لما قبله من النص المجمل في مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة ، والخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بطريق التجريد ، وتعلق بظاهره من خص صلاة الخوف بحضرته عليه الصلاة والسلام كالحسن بن زيد ، ونسب ذلك أيضا لأبي يوسف ، ونقله عنه الجصاص في كتاب الأحكام ، والنووي في المهذب ، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده صلّى اللّه عليه وسلّم نوابه وقوّام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى : خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة : 103] وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم قال : «كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال : أيكم صلى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة : أنا ، ثم وصف له ذلك فصلوا كما وصف ولم يقضوا ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ولم ينكره أحد منهم وهم الذين لا تأخذهم في اللّه تعالى لومة لائم» وهذا يحل محل الإجماع ، ويرد ما زعمه المزني من دعوى النسخ أيضا فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي أردت أن تقيم بهم الصلاة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى تجاه العدو للحراسة ولظهور ذلك ترك وَلْيَأْخُذُوا أي الطائفة المذكورة القائمة معك أَسْلِحَتَهُمْ مما لا يشغل عن الصلاة كالسيف والخنجر وعن ابن عباس أن الآخذة

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 130
هي الطائفة الحارسة فلا يحتاج حينئذ إلى التقييد إلا أنه خلاف الظاهر ، والمراد من الأخذ عدم الوضع وإنما عبر بذلك عنه للايذان بالاعتناء باستصحاب الأسلحة حتى كأنهم يأخذونها ابتداء فَإِذا سَجَدُوا أي القائمون معك أي إذا فرغوا من السجود وأتموا الركعة - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أي فلينصرفوا للحراسة من العدو.
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا بعد وهي التي كانت تحرس ، ونكرها لأنها لم تذكر قبل فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ الركعة الباقية من صلاتك ، والتأنيث والتذكير مراعاة للفظ ، والمعنى - ولم يبين في الآية الكريمة - حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين ، وقد بين ذلك بالسنة ،
فقد أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سالم عن أبيه في قوله سبحانه : فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ هي صلاة الخوف صلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، ثم انصرفت التي صلت مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقاموا مقام أولئك مقبلين على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم ، ثم قامت كل طائفة فصلوا ركعة ركعة فتم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ركعتان ولكل من الطائفتين ركعتان ركعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وركعة بعد سلامه.
وعن ابن مسعود أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما في الآية فجاءت الطائفة الأولى وذهبت إلى مقابلة العدو حتى قضت الأولى الركعة الأخرى بلا قراءة وسلموا ، ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان ،
وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، وإنما سقطت القراءة عن الطائفة الأولى في صلاتهم الركعة الثانية بعد سلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم وإن كانوا في ثانيته عليه الصلاة والسلام في مقابلة العدو إلا أنهم في الصلاة وفي حكم المتابعة فكانت قراءة الإمام قائمة مقام قراءتهم كما هو حكم الاقتداء ولا كذلك الطائفة الأخرى لأنهم اقتدوا بالإمام في الركعة الثانية وأتم الإمام صلاته فلا بد لهم من القراءة في ركعتهم الثانية إذ لم يكونوا مقتدين بالإمام حينئذ ، وذهب بعضهم إلى أن صلاة الخوف هي ما في هذه الآية ركعة واحدة ونسب ذلك إلى ابن عباس وغيره ،
فقد أخرج ابن جرير وابن أبي شيبة والنحاس عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : «فرض اللّه تعالى على لسان نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ،
وأخرج الأولان وابن أبي حاتم عن يزيد الفقير «قال سألت جابر بن عبد اللّه عن الركعتين في السفر أقصرهما فقال : الركعتان في السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال بينا نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قتال إذ أقيمت الصلاة فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصفت طائفة وطائفة وجوهها قبل العدو فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم وجاء أولئك فقاموا خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جلس فسلم وسلم الذين خلفه وسلم الأولون فكانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ركعتان وللقوم ركعة ركعة ثم قرأ الآية» ،
وذهب الإمام مالك رضي اللّه تعالى عنه إلى أن كيفية صلاة الخوف أن يصلي الإمام بطائفة ركعة فإذا قام للثانية فارقته وأتمت وذهبت إلى وجه العدو وجاء الواقفون في وجهه والإمام ينتظرهم فاقتدوا به وصلى الركعة الثانية فإذا جلس للتشهد قاموا فأتموا ثانيتهم ولحقوه وسلم بهم ، وهذه - كما رواه الشيخان - صلاة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بذات الرقاع ، وهي أحد الأنواع التي اختارها الشافعي رضي اللّه تعالى عنه ، واستشكل من ستة عشر نوعا ، ويمكن حمل الآية عليها ، ويكون المراد من السجود الصلاة والمعنى فإذا فرغوا من الصلاة فَلْيَكُونُوا إلخ ، وأيد ذلك بأنه لا قصور في البيان عليه ، وبأن ظاهر قوله سبحانه : فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ أن الطائفة الأخيرة تتم الصلاة مع الإمام ، وليس فيه إشعار بحراستها

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 131
مرة ثانية وهي في الصلاة البتة ، وتحتمل الآية ، بل قيل : إنها ظاهرة في ذلك أن الإمام يصلي مرتين كل مرة بفرقة وهي صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم - كما رواه الشيخان أيضا - ببطن نخل ، واحتمالها للكيفية التي فعلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعسفان بعيد جدا ، وذلك
أنه عليه الصلاة والسلام - كما قال ابن عباس ورواه عنه أحمد وأبو داود وغيرهما - صف الناس خلفه صفين ، ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم سجد بالصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع عليه الصلاة والسلام فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا ثم سجد هو والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم ، ثم انصرف صلّى اللّه عليه وسلّم
وتمام الكلام يطلب من محله.
وَلْيَأْخُذُوا أي الطائفة الأخرى حِذْرَهُمْ أي احترازهم وشبهه بما يتحصن به من الآلات ولذا أثبت له الأخذ تخييلا وإلا فهو أمر معنوي لا يتصف بالأخذ ، ولا يضر عطف قوله سبحانه :
وَأَسْلِحَتَهُمْ عليه للجمع بين الحقيقة والمجاز لأن التجوز في التخييل في الإثبات والنسبة لا في الطرف على الصحيح ، ومثله لا بأس فيه بالجمع كما في قوله تعالى : تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الحشر : 9] ، وقال بعض المحققين : إن هذا وأمثاله من المشاكلة لما يلزم على الكناية التصريح بطرفيها وإن دفع بأن المشبه به أعم من المذكور ، وإن فسر الحذر بما يدفع به فلا كلام ، ولعل زيادة الأمر بالحذر - كما قال شيخ الإسلام - في هذه المرة لكونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في شغل شاغل ، وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحراب.
وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً بيان لما لأجله أمروا بأخذ السلاح ، والخطاب للفريقين بطريق الالتفاف أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيحملون عليكم جملة واحدة ، والمراد بالأمتعة ما يمتع به في الحرب لا مطلقا وقرى ء - أمتعاتكم - والأمر للوجوب لقوله تعالى : وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ حيث رخص لهم في وضعها إذا ثقل عليهم حملها واستصحابها بسبب مطر أو مرض ، وأمروا بعد ذلك بالتيقظ والاحتياط فقال سبحانه : وَخُذُوا حِذْرَكُمْ أي بعد إلقاء السلاح للعذر لئلا يهجم عليكم العدو غيلة ، واختار بعض أئمة الشافعية أن الأمر للندب ، وقيدوه بما إذا لم يخف ضررا يبيح التيمم بترك الحمل ، أما لو خاف وجب الحمل على الأوجه ولو كان السلاح نجسا ومانعا للسجود ، وفي شرح المنهاج للعلامة ابن حجر ولو انتفى خوف الضرر وتأذى غيره بحمله كره إن خف الضرر بأن احتمل عادة ، وإلا حرم ، وبه يجمع بين إطلاق كراهته وإطلاق حرمته ، والآية كما أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا ، وذكر أبو ضمرة ، ورواه الكلبي عن أبي صالح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غزا محاربا وبني أنمار فهزمهم اللّه تعالى وأحرزهم الذراري والمال ، فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون ولا يرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش فحال الوادي بينه صلّى اللّه عليه وسلّم وبين أصحابه فجلس في ظل سمرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي فقال :
قتلني اللّه تعالى إن لم أقتله وانحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده ، فقال : يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : اللّه عزّ وجلّ ثم قال : اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت فانكب عدو اللّه تعالى لوجهه وقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخذ سيفه فقال : يا غورث من يمنعك مني الآن؟ فقال : لا أحد قال صلّى اللّه عليه وسلّم : أتشهد أن لا إله إلا اللّه وأني عبد اللّه ورسوله؟ قال : لا ، ولكني أعهد إليك

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 132
أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سيفه فقال له غورث : لأنت خير مني ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إني أحق بذلك فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا : يا غورث لقدر رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟
قال : اللّه عزّ وجلّ أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من لزجني بين كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي وسبقني إليه محمد عليه الصلاة والسلام فأخذه وأتم لهم القصة فآمن بعضهم ولم يلبث الوادي أن سكن ، فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أصحابه فأخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الآية.
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً تعليل للأمر بأخذ الحذر أي أعدّ لهم عذابا مذلا وهو عذاب المغلوبية لكم ونصرتكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا مباشرة الأسباب كي يعذبهم بأيديكم ، وقيل : لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لغلبته واعتزازه نفي ذلك الإيهام بالوعد بالنصر وخذلان العدو لتقوى قلوب المأمورين ويعلموا أن التحرز في نفسه عبادة كما أن النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لذلك لا للمنع عن الإقدام على الحرب ، وقيل : لا يبعد أن يراد بالعذاب المهين شرع صلاة الخوف فيكون لختم الآية به مناسبة تامة ، ولا يخفى بعده فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أي فإذا أديتم صلاة الخوف على الوجه المبين وفرغتم منها.
فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ أي فداوموا على ذكره سبحانه في جميع الأحوال حتى في حال المسابقة والمقارعة والمراماة ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال عقب تفسيرها : لم يعذر اللّه تعالى أحدا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله ، وقيل : المعنى وإذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف أو التحم القتال فصلوا كيفما كان ، وهو الموافق لمذهب الشافعي من جوب الصلاة حال المحاربة وعدم جواز تأخيرها عن الوقت ، ويعذر المصلي حينئذ في ترك القبلة لحاجة القتال لا لنحو جماح دابة وطال الفصل ، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح لا الصياح أو النطق بدونه ولو دعت الحاجة إليه كتنبيه من خشي وقوع مهلك به أو زجر الخيل أو الإعلام بأنه فلان المشهور بالشجاعة لندرة الحاجة ولا قضاء بعد الأمن فيه ، نعم لو صلوا كذلك لسواد ظنوه ولو بإخبار عدل عدوا فبان أن لا عدو وأن بينهم وبينه ما يمنع وصوله إليهم كخندق ، أو أن بقربهم عرفا حصنا يمكنهم التحصن به من غير أن يحاصرهم فيه قضوا في الأظهر ، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك في غاية البعد فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أي أقمتم - كما قال قتادة ومجاهد - وهو راجع إلى قوله تعالى : وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ولما كان الضرب اضطرابا وكني به عن السفر ناسب أن يكنى بالاطمئنان عن الإقامة ، وأصله السكون والاستقرار أي إذا استقررتم وسكنتم من السير والسفر في أمصاركم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أدوا الصلاة التي دخل وقتها وأتموها وعدلوا أركانها وراعوا شروطها وحافظوا على حدودها ، وقيل : المعنى فإذا أمنتم فأتموا الصلاة أي جنسها معدلة الأركان ولا تصلوها ماشين أو راكبين أو قاعدين ، وهو المروي عن ابن زيد ، وقيل : المعنى فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ في الجملة فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي حال القلق والانزعاج ، ونسب إلى الشافعي رضي اللّه تعالى عنه
وليس بالصحيح لما علمت من مذهبه وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر : 14].
إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً أي مكتوبا مفروضا مَوْقُوتاً محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال فلا بدّ من إقامتها سفرا أيضا ، وقيل : المعنى كانت عليهم أمرا مفروضا مقدرا في الحضر بأربع ركعات وفي السفر بركعتين فلا بدّ أن تؤدى في كل وقت حسبما قدر فيه ، واستدل بالآية من حمل الذكر فيما تقدم على الصلاة وأوجبها في حال القتال على خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي لا تضعفوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 133
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ تعليل للنهي وتشجيع لهم أي ليس ما ينالكم من الآلام مختصا بكم بل الأمر مشترك بينكم وبينهم ثم إنهم يصبرون على ذلك فما لكم أنتم لا تصبرون مع إنكم أولى بالصبر منهم حيث إنكم ترجون وتطمعون من اللّه تعالى ما لا يخطر لهم ببال من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة ، ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم في الآخرة.
وجوز أن يحمل الرجاء على الخوف فالمعنى - ان الألم لا ينبغي أن يمنعكم لأن لكم خوفا من اللّه تعالى ينبغي أن يحترز عنه فوق الاحتراز عن الألم وليس لهم خوف يلجئهم إلى الألم وهم يختارونه لإعلاء دينهم الباطل فما لكم والوهن - ولا يخلو عن بعد ، وأبعد منه ما قيل : إن المعنى أن الألم قدر مشترك وأنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه ، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى.
وقرأ أبو عبد الرحمن الأعرج «أن تكونوا» بفتح الهمزة أن لا تهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى : فَإِنَّهُمْ تعليل للنهي عن الوهن لأجله ، وقرى ء - تئلمون كما يئلمون - بكسر حرف المضارعة ، والآية قيل : نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد ، وقيل : نزلت يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد ، وروي ذلك عن عكرمة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم مصالحكم وأعمالكم ما تظهرون منها وما تسرون حَكِيماً فيما يأمر وينهى فجدوا في الامتثال لذلك فإن فيه عواقب حميدة وفوزا بالمطلوب إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ
أخرج غير واحد عن قتادة بن النعمان رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر ، وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم ينحله بعض العرب ، ويقول : قال فلان كذا ، وقال فلان كذا فإذا سمع أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك الشعر قالوا : واللّه ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال :
أو كلما قال الرجال قصيدة أضموا «1» فقالوا : ابن الأبيرق قالها
وكانوا أهل حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان طعام الناس بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك «2» ابتاع منها فخص بها نفسه فقدمت ضافطة فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم فقال بنو أبيرق : ونحن نسأل في الدار واللّه ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق ، وقال : أنا أسرق فو اللّه ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا : إليك عنا أيها الرجل فو اللّه ما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت له ذلك فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت : يا رسول اللّه إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : سأنظر في ذلك فلما سمع بنو أبيرق أتو رجلا منهم
___________
(1) أضم. كفرح. غضب ا ه منه. [.....]
(2) الدرمك. كجعفر. دقيق الحواري ا ه منه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 134
يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : يا رسول اللّه إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة :
فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكلمته فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال : اللّه تعالى المستعان فلم نلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ إلخ فلما نزل أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالسلاح فرده إلى رفاعة فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسى في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا قال : يا ابن أخي هو في سبيل اللّه فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ثم لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل اللّه تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء : 115] الآية ، ثم إن حسان بن ثابت رضي اللّه تعالى عنه هجا سلافة فقال :
فقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه
ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم وفينا نبي عنده الوحي واضعه
فلما سمعت ذلك حملت رحله على رأسها فألقته بالأبطح فقالت : أهديت إليّ شعر حسان ما كنت تأتيني بخير ، وأخرج ابن جرير عن السدي - واختاره الطبري - أن يهوديا استودع طعمة بن أبيرق درعا فانطلق بها إلى داره فحفر لها اليهودي ودفنها فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها فلما جاء اليهودي يطلب درعه كافره عنها فانطلق إلى أناس من اليهود من عشيرته فقال : انطلقوا معي فإني أعرف موضع الدرع فلما علم به طعمة أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مليك الأنصاري فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها وقع به طعمة وأناس من قومه فسبوه ، وقال طعمة : أتخونون ي فانطلقوا يطلبونها في داره فأشرفوا على دار أبي مليك فإذا هم بالدرع فقال طعمة : أخذها أبو مليك وجادلت الأنصار دون طعمة ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقولوا له : ينضح عني ويكذب حجة اليهود ، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فهمّ أن يفعل فأنزل اللّه تعالى الآية فلما فضح اللّه تعالى طعمة بالقرآن هرب حتى أتى مكة فكفر بعد إسلامه ونزل على الحجاج بن علاط السلمي فنقب بيته وأراد أن يسرقه فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعة جلود كانت عنده فنظر فإذا هو بطعمة فقال : ضيفي وابن عمي أردت أن تسرقني؟! فأخرجه فمات بحرة بني سليم كافرا وأنزل اللّه تعالى فيه وَمَنْ يُشاقِقِ إلخ ،
وعن عكرمة أن طعمة لما نزل فيه القرآن ولحق بقريش ورجع عن دينه وعدا على مشربة للحجاج سقط عليه حجر فلحج فلما أصبح أخرجوه من مكة فخرج فلقي ركبا من قضاعة فعرض لهم فقالوا : ابن سبيل منقطع به فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات ، وعن ابن زيد أنه بعد أن لحق بمكة نقب بيتا يسرقه فهدمه اللّه تعالى عليه فقتله ، وقيل : إنه أخرج فركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ وألقي في البحر.
هذا وفي تأكيد الحكم إيذان بالاعتناء بشأنه كما أن في إسناد الإنزال إلى ضمير العظمة تعظيما لأمر المسند ، وتقديم المفعول الغير الصريح للاهتمام والتشويق ، وقوله سبحانه : بِالْحَقِّ في موضع الحال أي إنا أنزلنا إليك القرآن متلبسا بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ برهم وفاجرهم بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما عرفك وأوحي به إليك ، و«ما» موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول - لأرى - وهي من رأى بمعنى عرف المتعدية لواحد وقد تعدت لاثنين بالهمزة ، وقيل : إنها من الرأي من قولهم : رأي الشافعي كذا وجعلها علمية يقتضي التعدي إلى ثلاثة مفاعيل وحذف اثنين منها أي بما أراكه اللّه تعالى حقا وهو بعيد ، وأما جعلها - من رأى البصرية مجازا - فلا حاجة إليه وَلا تَكُنْ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 135
لِلْخائِنِينَ
وهم بنو أبيرق ، أو طعمة ومن يعينه ، أو هو ومن يسير بسيرته ، واللام للتعليل ، وقيل : بمعنى عن أي لا تكن لأجلهم أو عنهم خَصِيماً أي مخاصما للبرآء ، والنهي معطوف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل : إنا أنزلنا إليك الكتاب فاحكم به وَلا تَكُنْ إلخ ، وقيل : عطف على أنزلنا بتقدير قلنا ، وجوز عطفه على الكتاب لكونه منزلا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما قلت لقتادة ، أو مما هممت به في أمرت طعمة وبراءته لظاهر الحال ، وما قاله صلّى اللّه عليه وسلّم لقتادة ، وكذا الهمّ بالشيء خصوصا إذ يظن أنه الحق ليس بذنب حتى يستغفر منه لكن لعظم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعصمة اللّه تعالى له وتنزيهه عما يوهم النقص وحاشاه - أمره بالاستغفار لزيادة الثواب وإرشاده إلى التثبت وأن ما ليس بذنب مما يكاد يعدّ حسنة من غيره إذا صدر منه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لعظمته ومقامه المحدود يوشك أن يكون كالذنب فلا متمسك بالأمر بالاستغفار في عدم العصمة كما زعمه البعض ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد وَاسْتَغْفِرِ لأولئك الذين برؤوا ذلك الخائن إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً مبالغا في المغفرة والرحمة لمن استغفره ، وقيل : لمن استغفر له وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
أي يخونونها وجعلت خيانة الغير خيانة لأنفسهم لأن وبالها وضررها عائد عليهم ، ويحتمل أنه جعلت المعصية خيانة فمعنى يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يظلمونها باكتساب المعاصي وارتكاب الآثام ، وقيل : الخيانة مجاز عن المضرة ولا بعد فيه ، والمراد بالموصول إما السارق أو المودع المكافر وأمثاله ، وإما هو ومن عاونه فإنه شريك له في الإثم والخيانة ، والخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو عليه الصلاة والسلام المقصود بالنهي ، والنهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي مرتكبا للمنهي عنه ، وقد يقال : إن ذلك من قبيل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر : 65] ومن هنا قيل : المعنى لا تجادل أيها الإنسان.
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
كثير الخيانة مفرطا فيها أَثِيماً
منهمكا في الإثم ، وتعليق عدم المحبة المراد منه البغض والسخط بصيغة المبالغة ليس لتخصيصه بل لبيان إفراط بني أبيرق وقومهم في الخيانة والإثم.
وقال أبو حيان : أتي بصيغة المبالغة فيهما ليخرج منه من وقع منه الإثم والخيانة مرة ومن صدر منه ذلك على سبيل الغفلة وعدم القصد ، وليس بشيء ، وإرداف الخوان بالأثيم قيل : للمبالغة ، وقيل : إن الأول باعتبار السرقة أو إنكار الوديعة ، والثاني باعتبار تهمة البريء ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وقدمت صفة الخيانة على صفة الإثم لأنها سبب له ، أو لأن وقوعهما كان كذلك ، أو لتواخي الفواصل على ما قيل : يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
أي يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم ، وأصل ذلك طلب الخفاء وضمير الجمع عائد على الذين يَخْتانُونَ
على الأظهر ، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع الحال من «من» وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
أي ولا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى منه ويخاف من عقابه ، وإنما فسر الاستخفاء منه تعالى بالاستحياء لأن الاستتار منه عز شأنه محال فلا فائدة في نفيه ولا معنى للذم في عدمه. وذكر بعض المحققين أن التعبير بذلك من باب المشاكلة وَهُوَ مَعَهُمْ
على الوجه اللائق بذاته سبحانه ، وقيل : المراد أنه تعالى عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى الاستخفاء منه تعالى سوى ترك ما يؤاخذ عليه والجملة في موضع الحال من ضمير يستخفون إِذْ يُبَيِّتُونَ
أي يدبرون ولما كان أكثر التدبير مما يبيت عبر به عنه والظرف متعلق بما تعلق به ما قبله ، وقيل : متعلق ب يَسْتَخْفُونَ.
ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
من رمي البريء وشهادة الزور. قال النيسابوري : وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولا لا إشكال فيها عند القائلين بالكلام النفسي وأما عند غيرهم فمجاز ، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى اللّه تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه سبحانه ، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هاهنا فتذكر وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ
أي بعملهم أو بالذي يعملونه من الأعمال الظاهرة والخافية مُحِيطاً
أي

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 136
حفيظا - كما قال الحسن - أو عالما لا يعزب عنه شيء ولا يفوت - كما قال غيره - وعلى القولين الإحاطة هنا مجاز ونظمها البعض في سلك المتشابه.
[سورة النساء (4) : الآيات 109 إلى 125]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
خطاب للذابين مؤذن بأن تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع ، والجملة مبتدأ وخبر ، وقوله سبحانه : جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا فهو بمعنى المجادلين وبه تتم الفائدة ، ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا كما هو مذهب بعض النحاة في كل اسم إشارة ، وجادَلْتُمْ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 137
صلته ، فالحمل حينئذ ظاهر ، والمجادلة أشد المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة الفتل ، ومنه قيل للصقر : أجدل والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشارت إليه الأخبار في الدنيا.
فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
أي فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لا يكتمون حديثا ولا يغني عنهم من عذاب اللّه تعالى شيء أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
يومئذ وَكِيلًا
أي حافظا ومحاميا من بأس اللّه تعالى وعقابه ، وأصل معنى الوكيل الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه ، وتفسيره بالحافظ المحامي مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه ، وأَمْ
هذه منقطعة كما قال السمين ، وقيل : عاطفة كما نقله في الدر المصون ، والاستفهام كما قال الكرخي : في الموضعين للنفي أي لا أحد يجادل عنهم ولا أحد يكون عليهم وكيلا.
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أي شيئا يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بما يختص به كالإنكار ، وقيل : السوء ما دون الشرك ، والظلم الشرك ، وقيل : السوء الصغيرة ، والظلم الكبيرة. ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
لما استغفره منه كائنا ما كان رَحِيماً
متفضلا عليه ، وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على التوبة والاستغفار ، قيل : وتخويف لمن لم يستغفر ولم يتب بحسب المفهوم فإنه يفيد أن من لم يستغفر حرم من رحمته تعالى وابتلي بغضبه وَمَنْ يَكْسِبْ
أي يفعل إِثْماً
ذنبا من الذنوب فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
بحيث لا يتعدى ضرره إلى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً
بكل شيء ومنه الكسب حَكِيماً
في كل ما قدر وقضى ، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى ، وقيل : عَلِيماً
بالسارق حَكِيماً
في إيجاب القطع عليه ، والأول أولى وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
أي صغيرة ، أو ما لا عمد فيه من الذنوب.
وقرأ معاذ بن جبل يَكْسِبْ
بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب أَوْ إِثْماً
أي كبيرة ، أو ما كان عن عمد ، وقيل : الخطيئة الشرك والإثم ما دونه ، وفي الكشاف : الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ، والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه ، وفي الكشف كأن هذا أصله ، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله تعالى : كَبائِرَ الْإِثْمِ [الشورى : 37 ، النجم : 32] ، ومن هذا يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
أي يقذف به ويسنده ، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل : ثُمَّ يَرْمِ
بأحد الأمرين ، وقيل : إنه عائد على إِثْماً
فإن المتعاطفين - بأو - يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة : 11] وعلى المعطوف نحو وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة : 34] ، وقيل : إنه عائد على الكسب على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة : 8] ، وقيل : في الكلام حذف أي - يرم بها وبه - وثُمَ
للتراخي في الرتبة ، وقرىء بهما بَرِيئاً
مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل ، أو بأبي مليك فَقَدِ احْتَمَلَ
بما فعل من رمي البريء ، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل ، وقيل : افتعل بمعنى فاقتدر وقدر بُهْتاناً
وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته ، وقيل : هو الكذب الذي يتحير في عظمه ، والماضي - بهت - كمنع ، ويقال في المصدر :
بهتا وبهتا وبهتا وَإِثْماً مُبِيناً
أي بينا لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة - لإثما - وقد اكتفي في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد هو رمي البريء بجناية نفسه.
وعبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 138
ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم في نفسه ، أما كونه بهتانا فظاهر ، وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البريء منه أيضا كذلك ، بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب محرم في سائر الأديان فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة ، وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمي البريء وإلا لكان الرمي بغير جنايته مثله في العظم ، ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمي بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله في العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البريء وإجراء عقوبتها عليه كما ينبىء عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر على ما يقتضيه ظاهر صيغة الافتعال ، نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمي البريء تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم فقط - كذا قاله شيخ الإسلام - ولا يخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام الكشاف من أن في التنزيل لفا ونشرا غير مرتب حيث قال إثر قوله تعالى : فَقَدِ احْتَمَلَ
إلخ : لأنه بكسبه الإثم آثم ، وبرميه البريء باهت فهو جامع بين الأمرين لخلوه عما يلزمه ، وإن أجيب عنه فافهم.
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
بإعلامك بما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق ، وقيل : لولا فضله بالنبوة ورحمته بالعصمة ، وقيل : لولا فضله بالنبوة ورحمته بالوحي وقيل : المراد لولا حفظه لك وحراسته إياك.
لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
أي من الذين يختانون ، والمراد بهم أسير بن عروة وأصحابه أو الذابون عن طعمة المطلعون على كنه القصة العالمون بحقيقتها ، ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الناس ، والمراد بالطائفة الذين انتصروا للسارق أو المودع الخائن ، وقيل : المراد بهم وفد ثقيف ،
فقد روي عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «أنهم قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا : يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وعلى أن نتمتع بالعزى سنة ، فلم يجبهم صلّى اللّه عليه وسلّم وعصمه اللّه تعالى من ذلك فنزلت».
وعن أبي مسلم أنهم المنافقون هموا بما لم ينالوا من إهلاك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فحفظه اللّه تعالى منهم وحرسه بعين عنايته أَنْ يُضِلُّوكَ
أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق ، أو عن اتباع ما جاءك في أمر الأصنام ، أو بأن يهلكوك ، وقد جاء الإضلال بهذا المعنى ، ومنه على ما قيل : قوله تعالى : وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة : 10] والجملة جواب لَوْ لا
وإنما نفى همهم مع أن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانا بانتفاء تأثيره بالكلية ، وقيل : المراد هو الهم المؤثر ولا ريب في انتفائه حقيقة.
وقال الراغب : إن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا بإضلاله صلّى اللّه عليه وسلّم أصلا وإنما كان ذلك صوابا عندهم وفي ظنهم وجوز أبو البقاء أن يكون الجواب محذوفا والتقدير - ولولا فضل اللّه عليك ورحمته لأضلوك - ثم استأنف بقوله سبحانه : لَهَمَّتْ
أي لقد همت بذلك وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
أي ما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم ، أو ما يهلكون إلا إياها لعود وبال ذلك وضرره عليهم ، والجملة اعتراضية ، وقوله تعالى : وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ
عطف عليه وعطفه على أَنْ يُضِلُّوكَ
وهم محض ومِنْ
صلة ، والمجرور في محل النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك عن الزيغ في الحكم ، وأما ما خطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر لك أن الحقيقة على خلاف ذلك ، أو لما أنه سبحانه عاصمك عن المداهنة والميل إلى آراء الملحدين والأمر بخلاف ما أنزل اللّه تعالى عليك ، أو لما أنه جل شأنه وعدك العصمة من الناس وحجبهم عن التمكن منك وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
أي القرآن الجامع بين العنوانين ، وقيل : المراد

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 139
بالحكمة السنة ، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك ، والجملة على ما قال الأجهوري : في موضع التعليل لما قبلها ، وإلى ذلك أشار الطبرسي وهو غير مسلم على ما ذهب إليه أبو مسلم. وَعَلَّمَكَ
بأنواع الوحي ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أي الذي لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور ، ومن جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين ، أو من أمور الدين وأحكام الشرع - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - أو من الخير والشر - كما قال الضحاك - أو من أخبار الأولين والآخرين - كما قيل - أو من جميع ما ذكر - كما يقال ..
ومن الناس من فسر الموصول بأسرار الكتاب والحكمة أي إنه سبحانه أنزل عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى ، واستظهر في البحر العموم.
وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
لا تحويه عبارة ولا تحيط به إشارة ، ومن ذلك النبوة العامة والرئاسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي الذين يختانون ، واختار جمع أن الضمير للناس ، وإليه يشير كلام مجاهد ، و- النجوى - في الكلام كما قال الزجاج : ما يتفرد به الجماعة ، أو الاثنان ، وهل يشترط فيه أن يكون سرا أم لا؟ قولان : وتكون بمعنى التناجي ، وتطلق على القوم المتناجين - كإذ هم نجوى - وهو إما من باب رجل عدل ، أو على أنه جمع نجي - كما نقله الكرماني - والظرف الأول خبر لا والثاني في موضع الصفة للنكرة أي كائن مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ أي إلا في نجوى من أمر بِصَدَقَةٍ فالكلام على حذف مضاف ، وبه يتصل الاستثناء ، وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على أحد الاعتبارين ، ولا يحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ ، ويكفي في صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ما توهمه عصام الدين من أن مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيدا لا يصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد في الكثير ، ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه ، ولا حاجة إلى ما تكلف في دفعه - بأن المراد لا خير في كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر إلخ ، فإنه في كثير من نجواه خير - فإنه على ما فيه لا يتأتى مثله على احتمال الجمع ، وجوز رحمه اللّه تعالى ، بل زعم أنه الأولى أن يجعل إِلَّا مَنْ أَمَرَ متعلقا بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو البدل ، ولا يخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر ، وجوز غير واحد أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن قلّت ففي نجواه الخير أَوْ مَعْرُوفٍ وهو كل ما عرفه الشرع واستحسنه ، فيشمل جميع أصناف البر كقرض وإغاثة ملهوف ، وإرشاد ضال إلى غير ذلك ، ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله تعالى : أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وتخصيصه بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع ، وتخصيص
الصدقة فيما تقدم بالصدقة الواجبة مما لا داعي إليه وليس له سند يعول عليه ، وخص الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام إيذانا بالاعتناء بهما لما في الأول من بذل المال الذي هو شقيق الروح ، وما في الثاني من إزالة فساد ذات البين - وهي الحالقة للدين - كما في الخبر ، وقدم الصدقة على الإصلاح لما أن الأمر بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب ، والنفس تنفر عمن يكلفها ذلك ، ولا كذلك الأمر بالإصلاح ، وذكر الإمام الرازي أن السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى الناس ، إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة ، والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف ، وإما رفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى : أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ولا يخفى ما فيه ، والمراد من الإصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف ، نعم أبيح الكذب لذلك ،
فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ، وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 140
ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها».
وعد غير واحد الإصلاح من الصدقة ، وأيد بما
أخرجه البيهقي عن أبي أيوب «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال له : يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى اللّه تعالى ورسوله موضعها؟ قال : بلى قال : تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا» ،
وعن عبد اللّه بن عمرو قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»
وهذا الخبر ظاهر في أن الإصلاح أفضل من الصدقة بالمال.
ومثله ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا : بلى قال : إصلاح ذات البين»
ولا يخفى أن هذا ونحوه مخرّج مخرج الترغيب ، وليس المراد ظاهره إذ لا شك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك أفضل من الإصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر عظيم وفساد بين الناس كبير.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي المذكور من الصدقة وأخويها والكلام تذييل للاستثناء ، وكان الظاهر ومن يأمر بذلك ليكون مطابقا للمذيل إلا أنه رتب الوعد على الفعل إثر بيان خيرية الآمر لما أن المقصود الترغيب في الفعل وبيان خيرية الآمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى ، وجوز أن يكون عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الأشياء كما إذا قيل : حلفت على زيد وأكرمته وكذا وكذا فتقول : نعم ما فعلت ، ولعل نكتة العدول عن يأمر إلى يَفْعَلْ حينئذ الإشارة إلى أن التسبب لفعل الغير الصدقة والإصلاح والمعروف بأي وجه كان كاف في ترتب الثواب ، ولا يتوقف ذلك على اللفظ ، ويجوز جعل ذلك إشارة إلى الأمر فيكون معنى من أمر وَمَنْ يَفْعَلْ الأمر واحدا ، وقيل : لا حاجة إلى جعله تذييلا ليحتاج إلى التأويل تحصيلا للمطابقة ، بل لما ذكر لآمر استطراد ذكر ممتثل أمره كأنه قيل : ومن يمتثل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لأجل طلب رضاء اللّه تعالى فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ بنون العظمة على الالتفات ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وقتيبة عن الكسائي وسهل وخلف بالياء أَجْراً عَظِيماً لا يحيط به نطاق الوصف ، قيل : وإنما قيد الفعل بالابتغاء المذكور لأن الأعمال بالنيات ، وإن من فعل خيرا لغيرذلك لم يستحق به غير الحرمان ، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الرياء محبط لثواب الأعمال بالكلية وهو ما صرح به ابن عبد السلام والنووي وقال الغزالي : إذا غلب الإخلاص فهو مثاب وإلا فلا ، وقيل :
هو مثاب غلب الإخلاص أم لا لكن على قدر الإخلاص ، وفي دلالة الآية - على أن غير المخلص لا يستحق غير الحرمان - نظر لأنه سبحانه أثبت فيها للمخلص أجرا عظيما وهو لا ينافي أن يكون لغيره ما دونه ، وكون العظمة بالنسبة إلى أمور الدنيا خلاف الظاهر وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالفه - من الشق فإن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر ، ولظهور الانفكاك بين الرسول - ومخالفة فك الإدغام هنا ، وفي قوله سبحانه في [الأنفال : 13] مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
- رعاية لجانب المعطوف ، ولم يفك في قوله تعالى في [الحشر : 4] وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ.
وقال الخطيب : في حكمة الفك والإدغام أن أل في الاسم الكريم لازمة بخلافها في الرسول ، واللزوم يقتضي الثقل فخفف بالإدغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول ، وفي آية الأنفال صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد ، وما ذكرناه أولى ، والتعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا إليه من المشاقة والمخالفة ، وتعليل الحكم الآتي بذلك ، والآية نزلت كما قدمناه في سارق الدرع أو مودعها ، وقيل : في قوم طعمة لما ارتدوا بعد أن أسلموا ، وأيا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيندرج فيه ذلك وغيره من المشاقين مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي ظهر له الحق فيما حكم به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو فيما يدعيه عليه الصلاة والسلام بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 141
وعمل فيعم الأصول والفروع والكل والبعض نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نجعله واليا لما تولاه من الضلال ويؤول إلى أنا نضله ، وقيل : معناه نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه ، وقيل : نكله في الآخرة إلى ما اتكل عليه وانتصر به في الدنيا من الأوثان وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ أي ندخله إياها ، وقد تقدم.
وقرىء بفتح النون من صلاه وَساءَتْ مَصِيراً أي جهنم أو التولية ، واستدل الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه على حجية الإجماع بهذه الآية ، فعن المزني أنه قال : كنت عند الشافعي يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا وكان مستندا لإسطوانة وسوى ثيابه فقال له : ما الحجة في دين اللّه تعالى؟ قال :
كتابه ، قال : وماذا؟ قال : سنة نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : وماذا؟ قال : اتفاق الأمة ، قال : من أين هذا الأخير أهو في كتاب اللّه تعالى؟
فتدبر ساعة ساكتا ، فقال له الشيخ : أجلتك ثلاثة أيام بلياليهنّ فإن جئت بآية ، وإلا فاعتزل الناس فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد تغير لونه فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس ، وقال : حاجتي ، فقال :
نعم أعوذ باللّه تعالى من الشيطان الرجيمبسم اللّه الرحمن الرحيم
قال اللّه عز وجل : وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ إلخ لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض ، قال : صدقت ، وقام وذهب ، وروي عنه أنه قال : قرأت القرآن في كل يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها ونقل الإمام عنه أنه سئل عن آية من كتاب اللّه تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية.
واعترض ذلك الراغب بأن سبيل المؤمنين الإيمان كما إذا قال اسلك سبيل الصائمين والمصلين أي في الصوم والصلاة ، فلا دلالة في الآية على حجية الإجماع ، ووجوب اتباع المؤمنين في غير الإيمان ، ورده في الكشف بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول ، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف مثلا تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه ، فسبيل المؤمنين هنا عام على ما أشرنا إليه.
واعترض بأن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فيلزم في المعطوف ذلك فإذا لم يكن في الإجماع فائدة لأن الهدى عام لجميع الهداية ، ومنها دليل الإجماع وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة ، وأجيب بمنع لزوم القيد في المعطوف ، وعلى تقدير التسليم فالمراد بالهداية الدليل على التوحيد والنبوة ، فتفيد الآية أن مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام ، فيكون الإجماع مفيدا في الفروع بعد تبين الأصول ، وأوضح القاضي وجه الاستدلال بها على حجية الإجماع وحرمة مخالفته بأنه تعالى رتب فيها الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما ، أو أحدهما ، أو الجمع بينهما ، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال : من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ ، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم ، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم.
«فإن قيل» : لا نسلم أن ترك اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لا يمتنع أن لا يتبع سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين «أجيب» بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون متبعا لهم ، وبعبارة أخرى إن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل البتة ، واعترض أيضا بأن هذا الدليل غير قاطع لأن «غير سبيل المؤمنين» يحتمل وجوها من التخصيص لجواز أن يراد سبيلهم في متابعة الرسول أو في مناصرته أو في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام أو فيما صاروا به مؤمنين ، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور ، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع ولولاه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 142
لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن فيكون إثباتا للإجماع بما لا يثبت حجيته إلا به فيصير دورا ، واستصعب التفصي عنه ، وقد ذكره ابن الحاجب في المختصر ، وقريب منه قول الأصفهاني ، في اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر وغيره صار عاما ، ودلالته على فرد من أفراده غير قطعية لاحتمال تخصيصه بما يخرجه مع ما فيه من الدور ، وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم لو لم يقم عليه دليل آخر ، وعليه دليل آخر ، وهو أنه مظنون يلزم العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده فإما أن نعمل به وبمقابله أو لا نعمل بهما ، أو نعمل بمقابله ، وعلى الأول يلزم الجمع بين النقيضين ، وعلى الثاني ارتفاعهما ، وعلى الثالث العمل بالمرجوح مع وجود الراجح والكل باطل ، فيلزم العمل به قطعا ، واعترض أيضا بمنع حرمة اتباع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مطلقا بل بشرط المشاقة ، وأجاب عنه القوم بما لا يخلو عن ضعف وبأن الاستدلال يتوقف على تخصيص المؤمنين بأهل الحل والعقد في كل عصر ، والقرينة عليه غير ظاهرة ، وبأمور أخر ذكرها الآمدي والتلمساني وغيرهما ، وأجابوا عما أجابوا عنه منها ، وبالجملة لا يكاد يسلم هذا الاستدلال من قيل وقال ، وليست حجية الإجماع موقوفة على ذلك كما لا يخفى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قد مر تفسيره فيما سبق وكرر للتأكيد ، وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة فلا يضر بعد العهد ، أو لأن للآية سببا آخر في النزول ،
فقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «أن شيخا من العرب جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك باللّه تعالى منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين أني أعجز اللّه تعالى هربا وإني لنادم تائب ، فما ترى حالي عند اللّه تعالى؟» فنزلت.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئا من الشرك ، أو أحدا من الخلق ، وفي معنى الشرك به تعالى نفي الصانع ، ولا يبعد أن يكون من أفراده فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق ، أو عن الوقوع ممن له أدنى عقل ، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا فَقَدْ ضَلَّ إلخ ، وفيما تقدم فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النساء : 48] لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ووجوب اتباع شريعته وما يدعو إليه من الإيمان باللّه تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصار ذلك افتراء واختلافا وجراءة عظيمة على اللّه تعالى ، وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا كتابا ولا عرفوا من قبل وحيا ولم يأتهم سوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالهدى ودين الحق فأشركوا باللّه عز وجل وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدا ، ولذلك جاء بعد تلك أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [النساء : 49] وقوله سبحانه : انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النساء : 50] وجاء بعد هذه قوله تعالى : إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أي ما يعبدون ، أو ما ينادون لحوائجهم من دون اللّه تعالى إلا أصناما ، والجملة مبينة لوجه ما قبلها ولذا لم تعطف عليه ، وعبر عن الأصنام بالإناث لما روي عن الحسن أنه كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان لأنهم يجعلون عليه الحلي وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان ، أو لما أن أسماءها مؤنثة - كما قيل - وهم يسمون ما اسمه مؤنث أنثى كما في قوله :
وما ذكر فإن يكبر فأنثى شديد اللزم ليس له ضروس
فإنه عنى القراد ، وهو ما دام صغيرا يسمى قرادا فإذا كبر سمي حلمة كثمرة ، واعترض بأن من الأصنام ما اسمه مذكر - كهبل وودّ وسواع وذي الخلصة - وكون ذلك باعتبار الغالب غير مسلم ، وقيل : إنها جمادات وهي كثيرا ما تؤنث لمضاهاتها الإناث لانفعالها ، ففي التعبير عنها بهذا الاسم تنبيه على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم حيث يدعون ما ينفعل ويدعون الفعال لما يريد ، وقيل : المراد بالإناث الأموات ، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن أن الأنثى كل

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 143
ميت ليس فيه روح مثل الخشبة اليابسة والحجر اليابس ، ففي التعبير بذلك دون أصناما التنبيه السابق أيضا إلا أن الظاهر أن وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز ، وقيل : سماها اللّه تعالى إناثا لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها ، وقيل :
لاتضاع منزلتها وانحطاط قدرها بناء على أن العرب تطلق الأنثى على كل ما اتضعت منزلته من أي جنس كان ، وقيل :
كان في كل صنم شيطانة تتراءى للسدنة وتكلمهم أحيانا فلذلك أخبر سبحانه أنهم ما يعبدون من دون إلا إناثا وروي ذلك عن أبيّ بن كعب ، وقيل : المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات اللّه عز اسمه ، وروي ذلك عن الضحاك ، وهو جمع أنثى - كرباب وربي - في لغة من كسر الراء.
وقرى ء - إلا أنثى - على التوحيد - وإلا أنثى - بضمتين كرسل ، وهو إما صفة مفردة مثل امرأة جنب ، وإما جمع أنيث كقليب وقلب ، وقد جاء حديد أنيث ، وإما جمع إناث كثمار وثمر ، وقرى ء - وثنا وأثنا - بالتخفيف والتثقيل ، وتقديم الثاء على النون - جمع وثن - كقولك : أسد وأسد ، وأسد ووسد ، وقلبت الواو ألفا كأجوه في وجوه.
وأخرج ابن جرير أنه كان في مصحف عائشة رضي اللّه تعالى عنها - إلا أوثانا - وَإِنْ يَدْعُونَ أي وما يعبدون بعبادة تلك الأوثان إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم فكانت طاعتهم له عبادة. فالكلام محمول على المجاز فلا ينافي الحصر السابق ، وقيل : المراد من يدعون يطيعون فلا منافاة أيضا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أنه قال : «ليس من صنم إلا فيه شيطان» والظاهر أن المراد من الشيطان هنا إبليس ، وهو المروي عن مقاتل وغيره ، والمريد والمارد والمتمرد : العاتي الخارج عن الطاعة ، وأصل مادة - م ر د - للملامسة والتجرد ، ومنه رْحٌ مُمَرَّدٌ
[النمل : 44] وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها ، ووصف الشيطان بذلك إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء ، وقيل : لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرده وأبعده عن رحمته ، وقيل : المراد باللعنة فعل ما يستحقها به من الاستكبار عن السجود كقولهم : أبيت اللعن أي ما فعلت ما تستحقه به ، والجملة في موضع نصب صفة ثانية لشيطان.
وجوز أبو البقاء أن تكون مستأنفة على الدعاء فلا موضع لها من الإعراب.
وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً عطف على الجملة المتقدمة ، والمراد شيطانا مريدا جامعا بين لعنة اللّه تعالى وهذا القول الشنيع الصادر منه عند اللعن ، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير قد أي وقد قال ، وأن تكون مستأنفة مستطردة كما أن ما قبلها اعتراضية في رأي ، والجار والمجرور إما متعلق بالفعل ، وإما حال مما بعده ، واختاره البعض ، والاتخاذ أخذ الشيء على وجه الاختصاص ، وأصل معنى الفرض القطع. وأطلق هنا على المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه ، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك ، وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، والظاهر أن هذا القول وقع نطقا من اللعين ، وكأنه عليه اللعنة لما نال من آدم عليه السلام ما نال طمع في ولده ، وقال ذلك ظنا ، وأيد بقوله تعالى : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ : 20] ، وقيل : إنه فهم طاعة الكثير له مما فهمت منه الملائكة حين قالوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة : 30] وادعى بعضهم أن هذا القول حالي كما في قوله :
امتلأ الحوض. وقال : قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني
وفي هذه الجمل ما ينادي على جهل المشركين وغاية انحطاط درجتهم عن الانخراط في سلك العقلاء على أتم وجه وأكمله ، وفيها توبيخ لهم كما لا يخفى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة ، وأقول لهم :
ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة. ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فافعلوا ما شئتم وقيل : أمنيهم بطول البقاء في الدنيا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 144
فيسوفون العمل ، وقيل : أمنيهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها وأدعو كلّا منهم إلى ما يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة ، وروى الأول عن الكلبي وَلَآمُرَنَّهُمْ بالتبتيك - كما قال أبو حيان - أو بالضلال كما قال غيره فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي
فليقطعنها من أصلها كما روي عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه ،
أو ليشقنها - كما قال الزجاج - بموجب أمري من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير كما يؤذن بذلك الفاء ، وهذا إشارة إلى ما كانت الجاهلية تفعله من شق أو قطع أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وتحريم ركوبها. والحمل عليها وسائر وجوه الانتفاع بها وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ ممتثلين به بلا ريث خَلْقَ اللَّهِ عن نهجه صورة أو صفة ، ويندرج فيه ما فعل من فقء عين فحل الإبل إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه ، ويقال له الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر واللواطة والسحاق ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلا. وتغيير فطرة اللّه تعالى التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من اللّه سبحانه زلفى.
وورد عن السلف الاقتصار على بعض المذكورات وعموم اللفظ بمنع الخصاء مطلقا ، وروي النهي عنه عن جمع من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال : «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن خصاء الخيل والبهائم» ،
وادعى عكرمة أن الآية نزلت في ذلك ، وأجاز بعضهم ذلك في الحيوان ، وأخرج ابن المنذر عن عروة أنه خصى بغلا له ، وعن طاوس أنه خصى جملا ، وعن محمد بن سيرين أنه سئل عن خصاء الفحول ، فقال : لا بأس به ، وعن الحسن مثله ، وعن عطاء أنه سئل عن خصاء الفحل فلم ير به عند عضاضه وسوء خلقه بأسا.
وقال النووي : لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره ولا في كبره ويجوز إخصاء المأكول في صغره لأن فيه غرضا وهو طيب لحمه ، ولا يجوز في كبره ، والخصاء في بني آدم محظور عند عامة السلف والخلف ، وعند أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه يكره شراء الخصيان واستخدامهم وإمساكهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى إخصائهم ، وخص من تغيير خلق اللّه تعالى الختان والوشم لحاجة وخضب اللحية وقص ما زاد منها على السنة ونحو ذلك ، وعن قتادة أنه قرأ الآية ، ثم قال : ما بال أقوام جهلة يغيرون صبغة اللّه تعالى ولونه سبحانه ، ولا يكاد يسلم له إن أراد ما يعم الخضاب المسنون كالخضاب بالحناء بل وبالكتم أيضا لإرهاب العدو ، وقد صح عن جمع من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم أنهم فعلوا ذلك منهم أبو بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه ، وحديث النهي محمول على غير ذلك وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر اللّه تعالى به ومجاوزته عن طاعة اللّه تعالى إلى طاعته ، وقيد مِنْ دُونِ اللَّهِ لبيان أن اتباعه ينافي متابعة أمر اللّه تعالى وليس احترازيا كما يتوهم ، وأما ما قيل : من أنه ما من مخلوق للّه تعالى إلا ولك فيه ولاية لو عرفتها ، ولك في وجوده منفعة لو طلبتها ، فلهذا قيدت الولاية بكونها من دون اللّه تعالى فناشىء من الغفلة عن تحقيق معنى الولاية فافهم فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي ظاهرا ، وأيّ خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار؟ وأي صفقة أخسر من فوات رضا الرحمن برضا الشيطان؟ يَعِدُهُمْ ما لا يكاد ينجزه ، وقيل : النصر والسلامة ، وقيل : الفقر والحاجة إن أنفقوا ، وقرأ الأعمش يَعِدُهُمْ بسكون الدال وهو تخفيف لكثرة الحركات.
وَيُمَنِّيهِمْ الأماني الفارغة ، وقيل : طول البقاء في الدنيا ودوام النعيم فيها ، وجوز أن يكون المعنى في الجملتين يفعل لهم الوعد ويفعل التمنية على طريقة : فلان يعطي ويمنع ، وضمير الجمع المنصوب في يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ راجع إلى - من - باعتبار معناها كما أن ضمير الرفع المفرد في يَتَّخِذِ وخَسِرَ راجع إليها باعتبار لفظها ، وأخبر سبحانه عن وقوع الوعد والتمنية مع وقوع غير ذلك مما أقسم عليه اللعين أيضا لأنهما من الأمور الباطنة

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 145
وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وهو إيهام النفع فيما فيه الضرر ، وهذا الوعد والأمر عندي مثله إما بالخواطر الفاسدة ، وإما بلسان أوليائه ، واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل ما يفعل بعيد ، وغُرُوراً إما مفعول ثان للوعد ، أو مفعول لأجله ، أو نعت لمصدر محذوف أي وعدا ذا غرور ، أو غارا ، أو مصدرا على غير لفظ المصدر لأن يَعِدُهُمْ في قوة يغرهم بوعده كما قال السمين ، والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد ، وفي البحر أنهما متقاربان فاكتفي بأولهما أُولئِكَ إشارة إلى من اتخذ الشيطان وليا باعتبار معناه ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الخسران مَأْواهُمْ ومستقرهم جميعا جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي معدلا ومهربا ، وهو اسم مكان ، أو مصدر ميمي من حاص يحيص إذا عدل وولى ، ويقال :
محيص ومحاص ، وأصل معناه كما قيل : الروغان ، ومنه وقعوا في حيص بيص ، وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه ، ويقال : حاص يحوص أيضا وحوصا وحياصا ، وعَنْها متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا.
ولم يجوزوا تعلقه ب يَجِدُونَ لأنه لا يتعدى بعن ، ولا بمحيصا لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد ، وإن كان مصدرا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه ، ومن جوز تقدمه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا جوزه هنا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مبتدا خبره قوله تعالى :
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول في موضع نصب بفعل محذوف يفسره ما بعده ولا يخفى مرجوحيته ، وهذا وعد للمؤمنين إثر وعيد الكافرين ، وإنما قرنهما سبحانه وتعالى زيادة لمسرة أحبائه ومساءة أعدائه وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدهم وعدا وأحقه حقا ، فالأول مؤكد لنفسه كله على ألف عرفا فإن مضمون الجملة السابقة لا تحتمل غيره إذ ليس الوعد إلا الإخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه ، والثاني مؤكد لغيره كزيد قائم حقا فإن الجملة الخبرية بالنظر إلى نفسها وقطع النظر عن قائلها تحتمل الصدق والكذب والحق والباطل ، وجوز أن ينتصب وعد على أنه مصدر ل سَنُدْخِلُهُمْ على ما قال أبو البقاء من غير لفظه لأنه في معنى نعدهم إدخال جنات ، ويكون حَقًّا حالا منه.
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا تذييل للكلام السابق مؤكد له ، فالواو اعتراضية ، و- القيل - مصدر قال ومثله القال.
وعن ابن السكيت : أنهما اسمان لا مصدران ، ونصبه على التمييز ، ولا يخفى ما في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجليل الجامع ، وبناء أفعل ، وإيقاع القول تمييزا من المبالغة ، والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه التي غرتهم حتى استحقوا الوعيد بوعد اللّه تعالى الصادق لأوليائه الذي أوصلهم إلى السعادة العظمى ، ولذا بالغ سبحانه فيه وأكده حثا على تحصيله وترغيبا فيه ، وزعم بعضهم أن الواو عاطفة والجملة معطوفة على محذوف أي صدق اللّه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي صدق ولا أصدق منه ، ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه ، وكأن الداعي إليه الغفلة عن حكم الواو الداخلة على الجملة التذييلة ، وتجويز أن تكون الجملة مقولا لقول محذوف أي وقائلين : من أصدق من اللّه قيلا ، فيكون عطفا على خالِدِينَ أدهى وأمر.
وقرأ الكوفي غير عاصم وورش بإشمام الصاد الزاي لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ الخطاب للمؤمنين ، والأماني بالتشديد والتخفيف - وبهما قرى ء - جمع أمنية على وزن أفعولة ، وهي كما قال الراغب : الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء أي تقديره في النفس وتصويره فيها ، ويقال : منى له الماني أي قدر له المقدر ، ومنه قيل : منية أي مقدرة ، وكثيرا ما يطلق التمني على تصور ما لا حقيقة له ، ومن هنا يعبر به عن الكذب لأنه تصور

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 146 ما ذكر ، وإيراده باللفظ فكأن التمني مبدأ له فلهذا صح التعبير به عنه ، ومنه قول عثمان رضي اللّه تعالى عنه : ما تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت ، والباء في بِأَمانِيِّكُمْ مثلها في - زيد بالباب - وليست زائدة والزيادة محتملة ، ونفاها البعض واسم لَيْسَ مستتر فيها عائد على الوعد بالمعنى المصدري ، أو بمعنى الموعود فهو استخدام كما قال السعد وقيل : عائد على الموعود الذي تضمنه عامل وعد اللّه ، أو على إدخال الجنة أو العمل الصالح ، وقيل : عائد على الإيمان المفهوم من الذين آمنوا وقيل على الأمر المتحاور فيه بقرينة سبب النزول.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى ، فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم ولَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة : 111] ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا صلّى اللّه عليه وسلّم بعد نبيكم ، وديننا بعد دينكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ، فأنزل اللّه تعالى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ ، وقوله سبحانه وَمَنْ أَحْسَنُ إلخ أي ليس وعد اللّه تعالى ، أو ما وعده سبحانه من الثواب أو إدخال الجنة ، أو العمل الصالح ، أو الإيمان ، أو ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم أيها المسلمون ولا أماني اليهود والنصارى ، وإنما يحصل بالسعي والتشمير عن ساق الجد لامتثال الأمر ، ويؤيد عود الضمير على الإيمان المفهوم مما قبله ، أنه
أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، وقالوا : نحسن الظن باللّه تعالى وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل»
وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مرفوعا «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب فأما علم القلب فالعلم النافع وعلم اللسان حجة على بني آدم».
وروي عن مجاهد وابن زيد أن الخطاب لأهل الشرك فإنهم قالوا : لانبعث ولا نعذب كما قال أهل الكتاب لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وأيد بأنه لم يجر للمسلمين ذكر في الأماني وجرى للمشركين ذكر في ذلك أي ليس الأمر بأماني المشركين وقولهم : لا بعث ولا عذاب ، ولا بأماني أهل الكتاب وقولهم ما قالوا : وقرر سبحانه ذلك بقوله عز من قائل : مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ عاجلا أو آجلا ،
فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه قال : «كنت عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت علي؟ فقلت : بلى يا رسول اللّه فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما لك يا أبا بكر؟ قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا اللّه تعالى ليس عليكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة».
وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : «لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء اللّه تعالى فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : سددوا وقاربوا فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها»
والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى ، ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلّت مشقتها يكفر اللّه تعالى بها الخطيئات ، والأكثرون على أنها أيضا يرفع بها الدرجات وتكتب الحسنات وهو الصحيح المعول عليه ، فقد صح في غير ما طريق
«ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة».

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 147
وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة ، وروي عن ابن مسعود - الوجع لا يكتب به أجر لكن يكفر به الخطايا - واعتمد على الأحاديث التي فيها التكفير فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات ، بقي الكلام في أنها هل تكفر الكبائر أم لا؟ ، وظاهر الأحاديث - ومنها خبر أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه - أنها تكفرها ، وقد جاء في خبر حسن عن عائشة أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ، وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن يزيد بن أبي حبيب قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لا يزال الصداع والمليلة بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء»
إلى غير ذلك.
ولا يخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم ، وخص بعضهم الجزاء بالآجل ، ومن بالمشركين وأهل الكتاب ، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وابن زيد قالوا : وهذا كقوله تعالى : وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ :
17] ، وقيل : المراد من السوء هنا الشرك ، وأخرجه ابن جريج عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه وابن جبير ، وكلا القولين خلاف الظاهر ، وفي الآية ردّ على المرجئة القائلين : لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مجاوزا لولاية اللّه تعالى ونصرته وَلِيًّا يلي أمره ويحامي عنه ويدفع ما ينزل به من عقوبة اللّه تعالى وَلا نَصِيراً ينصره وينجيه من عذاب اللّه تعالى إذا حل به ، ولا مستند في الآية لمن منع العفو عن العاصي إذ العموم فيها مخصص بالتائب إجماعا ، وبعد فتح باب التخصيص لا مانع من أن نخصصه أيضا بمن يتفضل اللّه تعالى بالعفو عنه على ما دلت عليه الأدلة الأخر وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الأعمال الصَّالِحاتِ أي بعضها وشيئا منها لأن أحدا لا يمكنه عمل كل الصالحات وكم من مكلف لا حج عليه ولا زكاة ولا جهاد ، «فمن» تبعيضية ، وقيل : هي زائدة.
واختاره الطبرسي وهو ضعيف ، وتخصيص الصالحات بالفرائض كما روي عن ابن عباس خلاف الظاهر ، وقوله سبحانه مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى في موضع الحال من ضمير يَعْمَلْ ومَنْ بيانية.
وجوز أن يكون حالا مِنَ الصَّالِحاتِ ومَنْ ابتدائية أي كائنة مِنْ ذَكَرٍ إلخ ، واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى ، ومع هذا الأظهر تقدير كائنا لا كائنة لأنه حال من شيئا منها. وكون المعنى - الصالحات الصادرة من الذكر والأنثى - لا يجدي نفعا لما في ذلك من الركاكة. ولعل تبيين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ المشركين في إهلاكهم إناثهم ، وجعلهن محرومات من الميراث ، وقوله تعالى : وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال أيضا ، وفي اشتراط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب الذي تضمنه ما يأتي تنبيه على أنه لا اعتداد به دونه ، وفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر والتذكير لتغليب الذكر على الأنثى كما قيل ، وقد مر لك قريبا ما ينفعك فتذكر فَأُولئِكَ إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح والإيمان ، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد السابق باعتبار لفظها ، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة.
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ جزاء عملهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر يَدْخُلُونَ مبنيا للمفعول من الإدخال وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً أي لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب أعمالهم ، فإن النقير علم في القلة والحقارة ، وأصله نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة ، ويعلم من نفي تنقيص ثواب المطيع نفي زيادة عقاب العاصي من باب الأولى لأن الأذى في زيادة العقاب أشد منه في تنقيص الثواب ، فإذا لم يرض بالأول - وهو أرحم الراحمين - فكيف يرضى بالثاني - وهو السر في تخصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب - مع أن المقام مقام ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا ، والجملة تذييل لما قبلها ، أو عطف عليه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 148
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف لها ربا سواه ، وقيل : أخلص توجهه له سبحانه ، وقيل : بذل وجهه له عزّ وجلّ في السجود ، والاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي ، والمقصود مدح من فعل ذلك على أتم وجه ، ودِيناً نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير : ومن دينه أحسن من دين من أسلم إلخ ، فيؤول الكلام إلى تفضيل دين على دين ، وفيه تنبيه على أن صرف العبد نفسه بكليتها للّه تعالى أعلى المراتب التي تبلغها القوة البشرية ، ومِمَّنْ متعلق بأحسن وكذا الاسم الجليل ، وجوز فيه أن يكون حالا من وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ أي آت بالحسنات تارك للسيئات ، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي ، وقد صح
أنه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن الإحسان فقال عليه الصلاة والسلام : «أن تعبد اللّه تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ،
وقيل : الأظهر أن يقال : المراد وَهُوَ مُحْسِنٌ في عقيدته ، وهو مراد من قال : أي وهو موحد ، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام الوجه للّه تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال ، والجملة في موضع الحال من فاعل أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها ، وهذا عطف على أَسْلَمَ وقوله سبحانه : حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الزائفة حال من إِبْراهِيمَ.
وجوز أن يكون حالا من فاعل اتَّبَعَ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته عليه السلام ، والإيذان بأنه نهاية في الحسن ، وإظهار اسمه عليه السلام تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح ، ولا يجوز العطف خلافا لمن زعمه على وَمَنْ أَحْسَنُ إلخ سواء كان استطرادا أو اعتراضا ، وتوكيدا لمعنى قوله تعالى :
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وبيانا لأن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة ، والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان ، ولا على صلة مَنْ لعدم صلوحه لها وعدم صحة عطفه على وَهُوَ مُحْسِنٌ أظهر من أن يخفى ، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر ، والعطف على حَنِيفاً لا يصح إلا بتكلف ، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء ، وهي إما من الخلال بكسر الخاء فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية ، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال :
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي وإذا ما سكت كنت الغليلا
وإما من الخلل كما قيل : على معنى أن كلّا من الخليلين يصلح خلل الآخر ، وإما من الخلة بالفتح ، وهو الطريق في الرمل لأنهما يتوافقان على طريقة ، وإما من الخلة بفتح الخاء إما بمعنى الخصلة والخلق لأنهما يتوافقان في الخصال والأخلاق ، وقد جاء - المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل - أو بمعنى الفقر والحاجة لأن كلّا منهما محتاج إلى وصال الآخر غير مستغن عنه ، وإطلاقه على إبراهيم عليه السلام قيل : لأن محبة اللّه تعالى قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة ، أو لتخلقه بأخلاق اللّه تعالى ، ومن هنا كان يكرم الضيف ويحسن إليه ولو كان كافرا ، فإن من صفات اللّه تعالى الإحسان إلى البر والفاجر ، وفي بعض الآثار - ولست على يقين في صحته - أنه عليه السلام نزل به ضيف من غير أهل ملته فقال له : وحد اللّه تعالى حتى أضيفك وأحسن إليك ، فقال : يا إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي فانصرف عنه. فأوحى اللّه تعالى : إليه يا إبراهيم صدقك لي سبعون سنة أرزقه وهو يشرك بي ، وتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فلحقه إبراهيم عليه السلام وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر إليه فقال له المشرك : يا إبراهيم ما بدا لك؟ فقال : إن ربي عاتبني فيك ، وقال : أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي وأنت تريد أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فقال المشرك : أو قد وقع هذا؟! مثل هذا ينبغي أن يعبد فأسلم ورجع مع

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 149
إبراهيم عليه السلام إلى منزله ثم عمت بعد كرامته خلق اللّه تعالى من كل وارد ورد عليه. فقيل له في ذلك فقال :
تعلمت الكرم من ربي رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا فأوحى اللّه تعالى إليه أنت خليلي حقا ، وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : يا جبريل لم اتخذ اللّه تعالى إبراهيم خليلا؟ قال : لإطعامه الطعام يا محمد» ،
وقيل - واختاره البلخي والفراء - لإظهاره الفقر والحاجة إلى اللّه تعالى وانقطاعه إليه وعدم الالتفات إلى من سواه كما يدل على ذلك
قوله لجبريل عليه السلام حين قال له يوم ألقي في النار : ألك حاجة؟ أما إليك فلا ، ثم قال :
حسبي اللّه تعالى ونعم الوكيل ،
وقيل : في وجه تسميته عليه السلام خليل اللّه غير ذلك ، والمشهور أن الخليل دون الحبيب.
وأيد بما
أخرجه الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «جلس ناس من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول : إن اللّه تعالى اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله وقال آخر : ماذا بأعجب من أن كلم اللّه تعالى موسى تكليما ، وقال آخر : فعيسى روح اللّه تعالى وكلمته وقال آخر : آدم اصطفاه اللّه تعالى فخرج عليهم فسلم فقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل اللّه تعالى وهو كذلك. وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه اللّه تعالى وهو كذلك ألا وإني حبيب اللّه تعالى ولا فخر ، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحها اللّه تعالى فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر» ،
وأخرج الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه وابن عساكر والديلمي قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : اتخذ اللّه تعالى إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا ، ثم قال وعزتي لأوثرون حبيبي على خليلي ونجيي» ،
والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة ، وأن المحبة أوسع دائرة ، وأن من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل عليه السلام ، وهي المرتبة الثابتة له صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأنه قد حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة ما لم يحصل لأبيه إبراهيم عليه السلام ، وفي الفرع ما في الأصل وزيادة ، ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق اللّه تعالى الذي هو من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم في نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم منه في إبراهيم عليه السلام ، فقد صح أن خلقه القرآن ، وجاء عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
وشهد اللّه تعالى له بقوله : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم : 4] ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كما يؤذن بذلك قوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء :
107] ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام.
وقد روى الحاكم وصححه عن جندب «أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول قبل أن يتوفى : إن اللّه تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ،
والتشبيه على حدّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة : 183] في رأي ، وقيل : إن يتوفى لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لا يخفى.
وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما ، ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع ، وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل ، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله ، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخليل حقيقة على معنى الصادق ، أو من أصفى المودة وأصحها أو نحو ذلك ، وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة والسلام مع أن مقام الخلة بالمعنى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 150
المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل نبي خليل اللّه تعالى ، إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة والسلام على وجه لم يثبت لغيره - كما قيل - وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول ، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟ أجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة فإنها تقتضيها قطعا ، واللّه تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون متصلا بقوله تعالى : وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ علبى أنه كالتعليل لوجوب العمل ، وما بينهما من قوله سبحانه : وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج من ملكوته شيء منها فيجازي كلّا بموجب أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن يكون متصلا بقوله جل شأنه : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إلخ بناء على أن معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه الصلاة والسلام بمحض مشيئته تعالى.
وقيل : لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شؤونه كما هو دأب المخلوقين ، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم ، بل لمجرد تكرمته وتشريفه ، وفيه أيضا إشارة إلى أن خلته عليه السلام لا تخرجه عن العبودية للّه تعالى.
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً إحاطة علم وقدرة بناء على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام ، فلا يوصف اللّه تعالى بذلك فلا بدّ من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف ، والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس ، أو لتحصيل أحوال الكمالات فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أي تنقصوا من الأعمال البدنية إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي حجبوا عن الحق من قوى الوهم والتخيل ، وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا في الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على القوى فتقل غائلتها فتركوا عند ذلك الأعمال البدنية ، ولا يجوز عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ولم تكن غائبا عنهم بسيرك في غيب الغيب وجلال المشاهدة وعائما في بحار
«لي مع اللّه تعالى وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل»
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي الأعمال البدنية فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وليفعلوا كما تفعل وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ من قوى الروح ويجمعوا حواسهم ليتأتى لهم المشابهة ، أو ليقفوا على ما في فعلك من الأسرار فلا تضلهم الوسائس فَإِذا سَجَدُوا وبلغوا الغاية في معرفة ما أقمته لهم وأتوا به على وجهه فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ذابين عنكم اعتراض الجاهلين ، أو قائمين بحوائجكم الضرورية وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى منهم لَمْ يُصَلُّوا بعد فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وليفعلوا فعلك وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ كما أخذا الأولون أسلحتهم ، وإنما أمر هؤلاء بأخذ الحذر أيضا حثا لهم على مزيد الاحتياط لئلا يقصروا فيها يراد منهم اتكالا على الأخذ بعد ممن أخذ أولا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وحاصل هذا الإشارة إلى أن تعليم الشرائع والآداب للمريدين ينبغي أن يكون لطائفة طائفة منهم ليتمكن ذلك لديهم أتم تمكن ، وقيل : الطائفة الأولى إشارة إلى الخواص ، والثانية إلى العوام ولهذا اكتفي في الأول بالأمر بأخذ الأسلحة ، وفي الثاني أمر الحذر أيضا وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم قوى النفس الأمارة لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وهي

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 151
قوى الروح وَأَمْتِعَتِكُمْ وهي المعارف الإلهية فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ويرمونكم بنبال الآفات والشكوك ويهلكونكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً بأن أصابكم شؤبوب مِنْ مَطَرٍ يعني مطر سحائب التجليات أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى بحمى الوجد والغرام وعجزتم عن أعمال القوى الروحانية أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وتتركوا أعمال تلك القوى حتى يتجلى ذلك السحاب وينقطع المطر وتهتز أرض قلوبكم بأزهار رحمة اللّه تعالى وتطفأ حمى الوجد بمياه القرب وَخُذُوا حِذْرَكُمْ عند وضع أسلحتكم واحفظوا قلوبكم من الالتفات إلى غير اللّه تعالى إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ من القوى النفسانية عَذاباً مُهِيناً أي مذلا لهم وذلك عند حفظ القلب وتنور الروح فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أي أديتموها فَاذْكُرُوا اللَّهَ في جميع الأحوال قِياماً في مقام الروح بالمشاهدة وَقُعُوداً في محل القلب بالمكاشفة وَعَلى جُنُوبِكُمْ أي تقلباتكم في مكان النفس بالمجاهدة فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ ووصلتم إلى محل البقاء فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فأدوها على الوجه الأتم لسلامة القلب حينئذ عن الوساوس النفسانية التي هي بمنزلة الحدث عند أهل الاختصاص إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً فلا تسقط عنهم ما دام العقل والحياة وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ الذين يحاربونكم وهم النفس وقواها فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ منكم لمنعكم لهم عن شهواتهم كَما تَأْلَمُونَ منهم لمعارضتهم لكم عن السير إلى اللّه تعالى وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ أي تأملون منه سبحانه ما لا يَرْجُونَ لأنكم ترجون التنعم بجنة القرب والمشاهدة ، ولا يخطر ذلك لهم ببال ، أو تخافون القطيعة وهم لا يخافونها وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً فيعلم أحوالكم وأحوالهم حَكِيماً فيفيض على القوابل حسب القابليات إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ أي علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها بِالْحَقِّ متلبسا ذلك الكتاب بالصدق أو قائما أنت بالحق لا بنفسك لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ خواصهم وعوامهم بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما علمك اللّه سبحانه من الحكمة وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ الذين لم يؤدوا أمانة اللّه تعالى التي أودعت عندهم في الأزل مما ذكر في استعدادهم من إمكان طاعته وامتثال أمره خَصِيماً تدفع عنهم العقاب وتسلط الخلق عليهم بالذل والهوان ، أو تقول للّه تعالى : يا رب لم خذلتهم وقهرتهم فإنهم ظالمون ، وللّه تعالى الحجة البالغة عليهم.
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ من الميل الطبيعي الذي اقتضته الرحمة التي أحاطت بك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فيفعل ما تطلبه منه وزيادة وَلا تُجادِلْ
أحدا عن الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
بتضييع حقوقها إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
لنفسه أَثِيماً
مرتكبا الإثم ميالا مع الشهوات يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
بإزالتها وقلعها وَهُوَ مَعَهُمْ
محيط بظواهرهم وبواطنهم إِذْ يُبَيِّتُونَ
أي يدبرون في ظلمة عالم النفس والطبيعة ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
من الوهميات والتخيلات الفاسدة وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
فيجازيهم حسب أعمالهم وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
بظهور صفة من صفات نفسه أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بنقص شيء من كمالاتها ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
ويطلب منه ستر ذلك بالتوجه إليه والتذلل بين يديه يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
فيستر ويعطى ما يقتضيه الاستعداد وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
بإظهار بعض الرذائل أَوْ إِثْماً
بمحو ما في الاستعداد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
بأن يقول : حملني اللّه تعالى على ذلك ، أو حملني فلان عليه فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
حيث فعل ونسب فعله إلى الغير ولو لم تكن مستعدة لذلك طالبة له بلسان الاستعداد في الأزل لم يفض عليه ولم يبرز إلى ساحة الوجود ، ولذا أفحم إبليس اللعين أتباعه بما قص اللّه تعالى لنا من قوله : إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ إلى أن قال : فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
أي توفيقه وإمداده لسلوك طريقه وَرَحْمَتُهُ
حيث وهب لك الكمال المطلق لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لعود ضرره عليهم ،

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 152
وحفظك في قلاع استعدادك عن أن ينالك شيء من ذلك وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
الجامع لتفاصيل العلم وَالْحِكْمَةَ
التي هي أحكام تلك التفاصيل مع العمل وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من علم عواقب الخلق وعلم ما كان وما سيكون وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
حيث جعلك أهلا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومنّ عليك بما لا يحيط به سوى نطاق الوجود لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ وهو ما كان من جنس الفضول ، والأمر الذي لا يعني إِلَّا نجوى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وأرشد إلى فضيلة السخاء الناشئ من العفة ، أَوْ مَعْرُوفٍ قولي كتعلم علم ، أو فعلي كإغاثة ملهوف أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ الذي هو من باب العدل وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ويجمع بين تلك الكمالات ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لا للرياء والسمعة من كل ما يعود به الفضيلة رذيلة فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ اللّه تعالى أَجْراً عَظِيماً ويدخله جنات الصفات وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسي وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما عليه أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومن اقتفى أثرهم من الأخيار أو القوى الروحانية نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ الحرمان وَساءَتْ مَصِيراً لمن يصلاها إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وهي الأصنام المسماة بالنفوس إذ كل من يعبد غير اللّه تعالى فهو عابد لنفسه مطيع لهواها ، أو المراد بالإناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شيء بالأنثى وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وهو شيطان الوهم حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه لَعَنَهُ اللَّهُ أي أبعده عن رياض قربه وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وهم غير المخلصين الذين استثنوا في آية أخرى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الطريق الحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الفاسدة من كسب اللذات الفانية وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي فليقطعن آذان نفوسهم عن سماع ما ينفعهم وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وهي الفطرة التي
فطر الناس عليها من التوحيد وَالَّذِينَ آمَنُوا ووحدوا وعملوا الصالحات واستقاموا سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات لَيْسَ أي حصول الموعود بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ بل لا بد من السعي فيما يقتضيه ، وفي المثل إن التمني رأس مال المفلس ، وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً أي حالا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وسلم نفسه إليه وفني فيه وَهُوَ مُحْسِنٌ مشاهد للجمع في عين التفصيل سالك طريق الإحسان بالاستقامة في الأعمال وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ في التوحيد حَنِيفاً مائلا عن السوي وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ما هو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه
معرفة ربه عزّ وجلّ فهو عارف به بكل جزء منه ، ومن هنا قيل : إن دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه اللّه وأنشد :
ما قدّ لي عضو ولا مفصل إلا وفيه لكم ذكر
[سورة النساء (4) : الآيات 126 إلى 147]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 153

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 154
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لأن كل ما برز في الوجود فهو شأن من شؤونه سبحانه وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً من حيث إنه الذي أفاض عليه الجود ، وهو رب الكرم والجود ، لا رب غيره ، ولا يرجى إلا خيره وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام في النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقا فإنه عليه الصلاة والسلام قد سئل عن أحكام كثيرة مما يتعلق بهن فما بين فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم يبين بعد بين هنا ، وقال غير واحد : إن المراد يَسْتَفْتُونَكَ في ميراثهن ، والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول ،
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا ، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس ، وقالوا : أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ ، ثم قالوا : سلوا فسألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيرا فنزلت ، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما نحوه ، وإلى الأول مال شيخ الإسلام : قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين لكم حكمه فيهن ، والإفتاء إظهار المشكل على السائل ، وفي البحر يقال : أفتاه إفتاء ، وفتيا وفتوى ، وأفتيت فلانا رؤياه عبرتها له.
وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ في ما ثلاثة احتمالات : الرفع والنصب والجر ، وعلى الأول : إما أن تكون مبتدأ والخبر محذوف أي - وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ويبين لكم - وإيثار صيغة المضارع للإيذان بدوام التلاوة واستمرارها ، وفي الكتاب متعلق - بيتلى - أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أي يتلى كائنا في الكتاب ، وإما أن تكون مبتدأ ، وفِي الْكِتابِ خبره ، والمراد بالكتاب حينئذ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له ، والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو ، وما يتلى متناول لما تلي وما سيتلى ، وإما أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في يُفْتِيكُمْ وصح ذلك للفصل ، والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز العقلي سائغ شائع ، فلا يرد أن اللّه تعالى فاعل حقيقي للفعل ، والمتلو فاعل مجازي له ، والإسناد إليه من قبيل الإسناد إلى السبب فلا يصح العطف ، ونظير ذلك أغناني زيد وعطاؤه ، وإما أن تكون معطوفة على الاسم الجليل ، والإيراد أيضا غير وارد ، نعم المتبادر أن هذا العطف من عطف المفرد على المفرد ، ويبعده إفراد الضمير كما لا يخفى ، وعلى الثاني تكون مفعولا لفعل محذوف أي ويبين لكم ما يتلى ، والجملة إما معطوفة على جملة يُفْتِيكُمْ وإما معترضة ، وعلى الثالث إما أن تكون في محل الجر على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل :
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وأقسم - بما يتلى عليكم في الكتاب - وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن محمد بن أبي موسى ، وما عند البصريين ليس بوحي فيجب اتباعه ، نعم فيه اختلال معنوي لا يكان ينفعه ، وإما أن تكون معطوفة على النساء كما نقله الطبرسي عن بعضهم ، ولا يخفى ما فيه ، وقوله سبحانه : فِي يَتامَى النِّساءِ متعلق - بيتلى - في غالب الاحتمالات أي ما يتلى عليكم في شأنهن ومنعوا ذلك على تقدير كون ما مبتدأ ، وفِي الْكِتابِ خبره لما يلزم عليه من الفصل بالخبر بين أجزاء الصلة ، وكذا على تقدير القسم إذ لا معنى لتقييده بالمتلو بذلك ظاهرا ، وجوزوا أن يكون بدلا من فِيهِنَّ وأن يكون صلة أخرى - ليفتيكم - ومتى لزم تعلق حرفي جر بشيء واحد بدون اتباع يدفع بالتزام كونهما ليسا بمعنى ، والممنوع تعلقهما كذلك إذا كانا بمعنى واحد ، وفي الثاني

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 155
هنا سببية كما
في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن امرأة دخلت النار في هرة»
فالكلام إذا مثل جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد أي بسببه ، وإضافة اليتامى إلى النساء بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه ، وجعلها أبو حيان بمعنى اللام ومعناها الاختصاص ، وادعي أنه الأظهر وليس بشي ء - كما قال الحلبي وغيره - وقرى ء - ييامى - بياءين على أنه جمع أيم والعرب تبدل الهمزة ياء كثيرا اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهن من الميراث وغيره على ما اختاره شيخ الإسلام ، أو ما فرض لهن من الميراث فقط على ما روي عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد رضي اللّه تعالى عنه ، واختاره الطبري ، أو ما وجب لهن من الصداق على ما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها ، واختاره الجبائي ، وقيل :
ما كُتِبَ لَهُنَّ من النكاح فإن الأولياء كانوا يمنعوهن من التزوج.
وروي ذلك عن الحسن وقتادة والسدي وإبراهيم وَتَرْغَبُونَ عطف على صلة اللَّاتِي أو على المنفي وحده ، وجوز أن يكون حالا من فاعل تُؤْتُونَهُنَّ فإن قلنا بجواز اقتران الجملة المضارعية الحالية بالواو : فظاهر ، وإذا قلنا بعدم الجواز : التزم تقدير مبتدأ أي وأنتم ترغبون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي في أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أو عن أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فإن أولياء اليتامى - كما ورد في غير ما خبر - كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون ما لهن ، وإلا كانوا يعضلوهن طمعا في ميراثهن ، وحذف الجار هنا لا يعد لبسا ، بل إجمال ، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل ، واستدل بعض أصحابنا بالآية على جواز تزويج اليتيمة لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه ، والشافعية يقولون : إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر ، وهذا الخلاف في غير الأب والجدّ ، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغير بلا خلاف وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على يتامى النساء ، وكانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء كما تقدّم آنفا.
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف على ما قبله ، وإن جعل في يتامى بدلا ، فالوجه النصب في هذا ، والْمُسْتَضْعَفِينَ عطفا على محل فيهن ومنعوا العطف على البدل ، بناء على أن المراد بالمستضعفين الصغار مطلقا الذين منعوهم عن الميراث ولو ذكورا ، ولو عطف على البدل لكان بدلا ، ولا يصح فيه غير بدل الغلط وهو لا يقع في فصيح الكلام ، وجوز في أَنْ تَقُومُوا الرفع على أنه مبتدأ ، والخبر محذوف أي خير ونحوه ، والنصب بإضمار فعل أي ويأمركم - أن تقوموا ، وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم ، أو للأولياء والأوصياء بالنصفة في حقهم وَما تَفْعَلُوا في حقوق المذكورين مِنْ خَيْرٍ حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق ويندرج فيه ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا.
فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم عليه ، واقتصر على ذكر الخير لأنه الذي رغب فيه ، وفي ذلك إشارة إلى أن الشر مما لا ينبغي أن يقع منهم أو يخطر ببال وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ شروع في بيان أحكام لم تبين قبل ، وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : «خشيت سودة رضي اللّه تعالى عنها أن يطلقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : يا رسول اللّه لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل» ونزلت هذه الآية ،
وأخرج الشافعي رضي اللّه تعالى عنه عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره ، فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في أبي السائب أي وإن خافت امرأة خافت ، فهو من باب الاشتغال ، وزعم الكوفيون أن امْرَأَةٌ مبتدأ وما بعده الخبر وليس بالمرضي ، وقدر بعضهم هنا - كانت - لاطراد حذف كان بعد إن ، ولم يجعله من الاشتغال وهو مخالف للمشهور بين الجمهور ، والخوف إما على حقيقته ، أو بمعنى التوقع أي وإن امرأة توقعت لما ظهر لها من المخايل

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 156
مِنْ بَعْلِها أي زوجها ، وهو متعلق- بخافت- أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى : نُشُوزاً أي استعلاء وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها لسبب من الأسباب ، ويطلق على كل من صفة أحد الزوجين أَوْ إِعْراضاً أي انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه ، وفي البحر : النشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما ، وأن يؤذيها بسب أو ضرب مثلا ، والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن ، أو دمامة ، أو شين في خلق ، أو خلق ، أو ملال ، أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك وهو أخف من النشوز فَلا جُناحَ أي فلا حرج ولا إثم «عليهما» أي الامرأة وبعلها حينئذ.
أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً أي في أن يصلحا بينهما بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي اللّه تعالى عنها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة ، أو كسوة ، أو تهبه المهر ، أو شيئا منه ، أو تعطيه مالا لتستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله ، وصدر ذلك بنفي الجناح لنفي ما يتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة فلا يحل ، وقرأ غير أهل الكوفة- يصالحا- بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها ، وأصله يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت ، وقرأ الجحدري- يصلحا- بالفتح والتشديد من غير ألف وأصله يصطلحا فخفف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صادا وأدغمت الأولى فيها لا أنه أبدلت التاء ابتداء صادا وأدغم- كما قال أبو البقاء- لأن تاء الافتعال يجب قلبها طاء بعد الأحرف الأربعة.
وقرى ء يصطلحا- وهو ظاهر ، وصُلْحاً على قراءة أهل الكوفة إما مفعول به على معنى يوقعا الصلح ، أو بواسطة حرف أي يصلح ، والمراد به ما يصلح به ، وبَيْنَهُما ظرف ذكر تنبيها على أنه ينبغي أن لا يطلع الناس على ما بينهما بل يسترانه عنهم أو حال من صُلْحاً أي كائنا بينهما ، وإما مصدر محذوف الزوائد ، أو من قبيل أَنْبَتَها اللّه نَباتاً [آل عمران : 37] وبَيْنَهُما هو المفعول على أنه اسم بمعنى التباين والتخالف ، أو على التوسع في الظرف لا على تقدير ما بينهما كما قيل ، ويجوز أن يكون بَيْنَهُما ظرفا ، والمفعول محذوف أي حالهما ونحوه ، وعلى قراءة غيرهم يجوز أن يكون واقعا موقع تصالحا واصطلاحا ، وأن يكون منصوبا بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما صُلْحاً واحتمال هذا في القراءة الأولى بعيد وجوز أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجر أي يصالحا أو يصلحا بصلح أي بشي ء تقع بسببه المصالحة وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة ، فاللام للعهد ، وإثبات الخيرية للمفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير أي إن يكن فيه خير فهذا أخير منه وإلا فلا خيرية فيما ذكر ، ويجوز أن لا يراد بخير التفضيل بل يراد به المصدر أو الصفة أي إنه خير من الخيور فاللام للجنس وقيل : إن اللام على التقديرين تحتمل العهدية والجنسية ، والجملة اعتراضية ، وكذا قوله تعالى : وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ولذلك اغتفر عدم تجانسهما إذ الأولى اسمية ، والثانية فعلية ولا مناسبة معنى بينهما ، وفائدة الأولى الترغيب في المصالحة ، والثانية تمهيد العذر في المماكسة والمشاقة كما قيل ، وحضر متعد لواحد وأحضر لاثنين ، والأول هو الْأَنْفُسُ القائم مقام الفاعل والثاني الشُّحَّ ، والمراد أحضر اللّه تعالى الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وهو البخل مع الحرص ، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثاني أي إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا ، أو أنها جعلت حاضرة له مطبوعة عليه فلا تكاد المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يكاد يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة مثلا على التي لا يريدها ، وذكر شيخ الإسلام أن في ذلك تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل من الزوجين عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في الشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه ، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته ، وكذا شح

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 157
نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقنع من قبلها بشي ء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح الذي هو خير وَإِنْ تُحْسِنُوا في العشرة مع النساء وَتَتَّقُوا النشوز والإعراض وإن تظافرت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شي ء من حقوقهن ، أو بذل ما يعز عليهن. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى ، أو بجميع ما تعملون ، ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا خَبِيراً فيجازيكم ويثيبكم على ذلك ، وقد أقام سبحانه كونه عالما مطلعا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم وإثابتهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب مقام المسبب ، ولا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات ، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان ، ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه ، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي لا تقدروا البتة على العدل بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب في شأن من الشؤون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه.
وأخرج البيهقي عن عبيدة أنه قال : لن تستطيعوا ذلك في الحب والجماع ، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال : في الجماع ، وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا : في المحبة ، وأخرجا عن أبي مليكة أن الآية نزلت في عائشة رضي اللّه تعالى عنها وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحبها أكثر من غيرها ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عنها أنها قالت : «كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»
وعنى صلّى اللّه عليه وسلّم «بما تملك» المحبة وميل القلب الغير الاختياري وَلَوْ حَرَصْتُمْ على إقامة ذلك وبالغتم فيه فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب التي تستطيعونها ، وانتصاب «كل» على المصدرية فقد تقرر أنها بحسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره فَتَذَرُوها أي فتدعوا التي ملتم عنها كَالْمُعَلَّقَةِ وهي كما قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : التي ليست مطلقة ولا ذات بعل ، وقرأ أبي- كالمسجونة- وبذلك فسر قتادة المعلقة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المنصوب في فَتَذَرُوها وجوز السمين كونه في موضع المفعول الثاني لتذر على أنه بمعنى تصير ، وحذف نون فَتَذَرُوها إما للناصب وهو أن المضمرة في جواب النهي ، إما للجازم بناء على أنه معطوف على الفعل قبله ، وفي الآية ضرب من التوبيخ ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال :
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» ، وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال : - كانت لي امرأتان فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعدّ القبل ، وعن مجاهد قال : كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه ، وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى. وَإِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون من أمورهن وَتَتَّقُوا الميل الذي نهاكم اللّه تعالى عنه فيما يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً فيغفر لكم ما مضى من الحيف رَحِيماً فيتفضل عليكم برحمته وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي المرأة وبعلها ، وقرى ء- يتفارقا- أي وإن لم يصطلحا ولم يقع بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا منهما أي يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه ما أهمه ، وقيل : يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر مِنْ سَعَتِهِ أي من غناه وقدرته ، وفي ذلك تسلية لكل من الزوجين بعد الطلاق ، وقيل : زجر لهما عن المفارقة ، وكيفما كان فهو مقيد بمشيئة اللّه تعالى وَكانَ اللَّهُ واسِعاً أي غنيا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 158
وكافيا للخلق ، أو مقتدرا أو عالما حَكِيماً متقنا في أفعاله وأحكامه.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة ، ولا الإيناس بعد الوحشة - ولا ولا - وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى ، والجملة مستأنفة جيء بها - على ما قيل - لذلك وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أمرناهم بأبلغ وجه ، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم ، والكتاب عام للكتب الإلهية ، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة ، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص ، ومِنْ متعلقة - بوصينا - أو - بأوتوا - وَإِيَّاكُمْ عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف أن يكون منفصلا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي وصينا كلا منهم ومنكم بأن اتقوا اللّه تعالى على أن أَنِ مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على المذهبين ، ووصلها بالأمر - كالنهي وشبهه - جائز كما نص عليه سيبويه ، ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول ، وقوله تعالى :
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عطف على وَصَّيْنَا بتقدير قلنا - أي وصينا وقلنا لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم ، كما أنه لا ينفعه شكركم وتقواكم وإنما وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته - وفي الكلام تغليب للمخاطبين على الغائبين ، ويشعر ظاهر كلام البعض أن العطف على اتَّقُوا اللَّهَ وتعقب بأن الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية ، أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاء أم إخبارا ، والفعل وَصَّيْنَا أو أمرنا أو غيره ، وقيل : إن العطف المذكور من باب :
علفتها تبنا وماء باردا.
وجوز أبو حيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها ، أو مع الذين أوتوا الكتاب وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا بالغنى الذاتي عن الخلق وعبادتهم حَمِيداً أي محمودا في ذاته حمدوه أم لم يحمدوه ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وقيل : إن قوله سبحانه : ولِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلخ تهديد على الكفر أي إنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء ، ولا منجى عن عقوبته فإن جميع ما في السّماوات والأرض له ، وقوله عز وجل : وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً للإشارة إلى أنه جل وعلا لا يتضرر بكفرهم ، وقوله سبحانه : وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون كلاما مبتدأ مسوقا للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف في ذلك كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة ، ويحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فإن جميع المخلوقات تدل لحاجتها وفقرها الذاتي على غناه وبما أفاض سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدا وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تذييل لما قبله ، والوكيل هو القيم ، والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه ، وهذا على الإطلاق هو اللّه تعالى ، وفي النهاية يقال : وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة أو عجزا عن القيام بأمر نفسه ، والوكيل في أسماء اللّه تعالى هو القيم بأرزاق العباد ، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه ، ولا يخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم ، وتوكل على اللّه تعالى ، وادعى البيضاوي - بيض اللّه تعالى غرة أحواله - أن هذه الجملة راجعة إلى قوله سبحانه : يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ فإنه إذا توكلت وفوضت فهو الغنى لأن من توكل على اللّه عز وجل كفاه ، ولما كان ما بينهما تقريرا له لم يعد فاصلا ، ولا يخفى أنه على بعده لا حاجة إليه إِنْ يَشَأْ إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين يُذْهِبْكُمْ يفنكم ويهلككم.
أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي يوجد مكانكم دفعة قوما آخرين من البشر ، فالخطاب لنوع من الناس ، وقد

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 159
أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه «أنه لما نزل قوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد : 38] ضرب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي اللّه تعالى عنه ، وقال :
إنهم قوم هذا»
وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية ، وما نقل عن العراقي أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه الجلال السيوطي وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون المراد خلقا آخرين أي جنسا غير جنس الناس ، وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز - كما قيل - لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب فإن - غيرا - تقع على المغاير في جنس أو وصف ، - وآخر - لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد.
وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون : ابتعت عبدا وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر ، وأخرى وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم : 19 ، 20] وقوله سبحانه : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة : 185] فوصف جل اسمه - مناة - بالأخرى لما جانست - العزى ، واللات - ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر ، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا يقال : جاءت هند ورجل آخر ، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من ، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت : قال : الفند الزماني ، وقال آخر : كان تقدير الكلام ، وقال آخر : من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها ، وكثرة استعمال آخر في النطق ، وفي الدر المصون : إن هذا غير متفق عليه ، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة وارتضاه نجم الأئمة الرضي إلا أنه يردّ على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف ، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب ، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف - وهنا ليست بخاصة - فلا بد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة : إن العرب لا تقول : مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعا ، وإفرادا ، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم :
ولقد شفعتهما بآخر ثالث وأبى الفرار إلى الغداة تكرمي
وقال أبو حية النميري :
وكنت أمشي على ثنتين معتدلا فصرت أمشي على أخرى من الشجر
وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون اسم الموصوف بآخر في اللفظ ، أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذي قوبل بآخر على جهة التواطؤ ولذلك لو قلت : جاءني زيد وآخر كان سائغا لأن التقدير ورجل آخر ، وكذا جاءني زيد وأخرى تريد نسمة أخرى وكذا اشتريت فرسا ومركوبا آخر سائغ ، وإن كان المركوب الآخر جملا لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فإن كان وقوع الاسم عليهما على جهة الاشتراك المحض فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة نحو قام أحد الزيدين وقعد الآخر ، وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز لأنه لم يقابل به ما هو من جنسه نحو رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب ، وبالآخر مقابل البائع ، وهل يشترط مع التواطؤ اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف ، فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءتني جاريتك وإنسان آخر ، واشترطه ابن جني ، والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة :
والخيل تقتحم الغبار عوابسا من بين منظمة وآخر ينظم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 160
وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من جنسه هو المختار ، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه ، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر ، فلو قلت : جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز ، ولو قلت : أكلت رغيفا ، وهذا قميص آخر لم يحسن ، وأما قول الشاعر :
صلى على عزة الرحمن وابنتها ليلى وصلى على جاراتها الأخر
فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها ، ولولا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات ، بل كان يقول وصلى على بناتها الأخر ، وقد قوبل في البيت أيضا - أخر - وهو جمع بابنتها وهو مفرد ، وزعم السهيلي أن - أخرى - في قوله تعالى : وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم : 20] استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير مَناةَ الطاغية التي كانوا يهلون إليها بقديد فجعلها ثالثة اللات والعزى ، وأخرى لمناة التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر ، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى ، وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى ، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى ، ألا ترى أن كل واحدة منهنّ ثالثة بالنظر إلى صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى.
وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق الكلام في الآية الآتي ذكرها ، وفي المسائل الصغرى للأخفش في باب عقده لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ما قبله ، فلو قلت : أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو من الكلام ، وهو يشبه - سائر وبقية وبعض - في أنه لا يستعمل إلا في جنسه ، فلو قلت : ضربت رجلا وتركت سائر النساء لم يكن كلاما ، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظرا إلى أنه دابة قال امرؤ القيس :
إذا قلت : هذا صاحبي ورضيته وقرت به العينان بدلت آخرا
وفي الحديث «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجد خفة في مرضه فقال : انظروا من أتكىء عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما».
وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلا ، وحينئذ لا يكون ما ذكره الزمخشري نصا في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ أي إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين قَدِيراً بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية.
فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ جزاء الشرط بتقدير الإعلام والإخبار أي مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فأعلمه وأخبره أن عند اللّه تعالى ثواب الدارين فما له لا يطلب ذلك كمن يقول : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة : 201] ، أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلا خالصا لوجه اللّه تعالى لم تخطه المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء ، وفي مسند أحمد عن زيد بن ثابت «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : من كان همه الآخرة جمع اللّه تعالى شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق اللّه تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له»
وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران ، فيقال : من كان يريد ثواب الدنيا فقط فقد خسر وهلك ، فعند اللّه تعالى ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ،

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 161
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : «سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء ، فقد قيل : ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما فعلت فيها؟ قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت ليقال : عالم ، وقرأت ليقال : هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل وسع اللّه تعالى عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها ، قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» ،
وقيل : إنه الجزاء إلا أنه مؤول بما يجعله مرتبا على الشرط لأن مآله أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد في الجزاء يقدره كما أشرنا إليه ، وقيل :
المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى. مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى : 20] الآية وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً تذييل لمعنى التوبيخ أي كيف يرائي المرائي وأن اللّه تعالى سميع بما يهجس في خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحواله كلها ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك ، وقد يقال : ذيل بذلك لأن إرادة الثواب إما بالدعاء وإما بالسعي ، والأول مسموع ، والثاني مبصر ، وقيل : السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء ، ولا يخفى أنه وإن كان لا يخلو عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم وهو خلاف المقرر في الكلام يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي مواظبين على العدل في جميع الأمور مجتهدين في ذلك كل الاجتهاد لا يصرفكم عنه صارف.
وعن الراغب أنه سبحانه نبه بلفظ القوّامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام ، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة ، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلا أي لا ينبغي أن يطلق فيه ذلك شُهَداءَ بالحق لِلَّهِ بأن تقيموا شهاداتكم لوجه اللّه تعالى لا لغرض دنيوي ، وانتصاب شُهَداءَ على أنه خبر ثان لكونوا ولا يخفى ما في تقديم الخبر الأول من الحسن.
وجوز أن يكون على أنه حال من الضمير المستكن فيه ، وأيد بما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في معنى الآية : أي كونوا قوّالين بالحق في الشهادة على من كانت ولمن كانت من قريب وبعيد ، وقيل : إنه صفة قَوَّامِينَ ، وقيل : إنه خبر كُونُوا وقوّامين حال وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم ، وفسرت الشهادة ببيان الحق مجازا فتشمل الإقرار المراد هاهنا ، والشهادة بالمعنى الحقيقي المراد فيما بعد فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وقيل : الكلام خارج مخرج المبالغة وليس المقصود حقيقته فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز ليشمل الإقرار حيث إن شهادة المرء على نفسه لم تعهد ، والجار - على ما أشير إليه - ظرف مستقر وقع خبرا لكان المحذوفة وإن كان في الأصل صلة الشهادة لأن متعلق المصدر قد يجعل خبرا عنه فيصير مستقرا مثل الحمد للّه ولا يجوز ذلك في اسم الفاعل ونحوه ، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بخبر محذوف أي ولو كانت الشهادة وبالا على أنفسكم ، وعلقه أبو البقاء بفعل دل عليه شُهَداءَ أي لو شهدتم على أنفسكم وجوز تعلقه - بقوّامين - وفيه بعد ، وَلَوْ إما على أصلها أو بمعنى إن وهي وصلية ، وقيل : جوابها مقدر أي لوجب أن تشهدوا عليها أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أي ولو كانت على والديكم وأقرب الناس إليكم أو ذوي قرابتكم ، وعطف الأول - بأو - لأنه مقابل للأنفس وعطف الثاني عليه بالواو لعدم المقابلة إِنْ يَكُنْ أي المشهود عليه غَنِيًّا يرجى في العادة ويخشى أَوْ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 162
فَقِيراً
يترحم عليه في الغالب ويحنى ، وقرأ عبد اللّه - إن يكن غني أو فقير - بالرفع على أن كان تامة ، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله تعالى : فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي فلا تمتنعوا عن الشهادة على الغني طلبا لرضاه أو على الفقير شفقة عليه لأن اللّه تعالى أولى بالجنسين وأنظر لهما من سائر الناس ، ولولا أن حق الشهادة مصلحة لهما لما شرعها فراعوا أمر اللّه تعالى فإنه أعلم بمصالح العباد منكم ، وقرأ أبيّ «فاللّه أولى بهم» بضمير الجمع وهو شاهد على أن المراد جنسا الغني والفقير وأن ضمير التثنية ليس عائدا على الغني والفقير المذكورين لأن الحكم في الضمير العائد على المعطوف - بأو - الإفراد كما قيل : لأنها لأحد الشيئين أو الأشياء ، وقيل : إن أَوِ بمعنى الواو ، والضمير عائد إلى المذكورين ، وحكي ذلك عن الأخفش ، وقيل : إنها على بابها وهي هنا لتفصيل ما أبهم في الكلام ، وذلك مبني على أن المراد بالشهادة ما يعم الشهادة للرجل والشهادة عليه ، فكل من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا فقد يكونان غنيين ، وقد يكونان فقيرين ، وقد يكون أحدهما فقيرا والآخر غنيا ، فحيث لم تذكر الأقسام أتي - بأو - لتدل على ذلك ، فضمير التثنية على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه ، وقيل : غير ذلك ، وقال الرضي : الضمير الراجع إلى المذكور المتعدد الذي عطف بعضه على بعض - بأو - يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدد ، وذلك يدور على القصد ، فيجوز : جاءني زيد أو عمرو وذهب ، أو وهما ذاهبان إلى المسجد ، وعلى هذا لا حاجة إلى التوجيه لعدم صحة التثنية ووجوب الإفراد في مثل هذا الضمير ، نعم قيل : إن الظاهر الإفراد دون التثنية ، وإن جاز كل منهما فيحتاج العدول عن الظاهر إلى نكتة.
وادعى بعضهم أنها تعميم الأولوية ودفع توهم اختصاصها بواحد ، فتأمل فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أي هوى أنفسكم أَنْ تَعْدِلُوا من العدول والميل عن الحق ، أو من العدل مقابل الجور وهو في موضع المفعول له ، إما للاتباع المنهي عنه أو للنهي ، فالاحتمالات أربعة : الأول أن يكون بمعنى العدول وهو علة للمنهي عنه ، فلا حاجة إلى تقدير ، والثاني أن يكون بمعنى العدل وهو علة للمنهي عنه فيقدر مضاف أي كراهة أن تعدلوا ، والثالث أن يكون بمعنى العدول وهو علة للنهي فيحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الثاني أي أنهاكم عن اتباع الهوى كراهة العدول عن الحق ، والرابع أن يكون بمعنى العدل وهو علة للنهي فلا يحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الأول ، أي أنهاكم عن اتباع الهوى للعدل وعدم الجور وَإِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن الشهادة بأن تأتوا بها على غير وجهها الذي تستحقه كما روي ذلك عن ابن زيد والضحاك ، وحكي عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه وهو الظاهر ، وقيل : اللي المطل في أدائها ، ونسب إلى ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما.
أَوْ تُعْرِضُوا أي تتركوا إقامتها رأسا وهو خطاب للشهود ، وقيل : إن الخطاب للحكام ، واللي الحكم بالباطل ، والإعراض عدم الالتفات إلى أحد الخصمين ، ونسب هذا إلى السدي ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أيضا ، وقرأ حمزة وَإِنْ تَلْوُوا بضم اللام وواو ساكنة وهو من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة ، وقيل : إن أصله تلووا بواوين أيضا نقلت ضمة الواو بعد قلبها همزة ، أو ابتداء إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، وعلى هذا فالقراءتان بمعنى فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من اللي والإعراض ، أو من جميع الأعمال التي من جملتها ما ذكر خَبِيراً عالما مطلعا فيجازيكم على ذلك ، وهو وعيد محض على القراءة الأولى ، وعلى القراءة الأخيرة يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون متضمنا للوعد ، والآية كما أخرج ابن جرير عن السدي نزلت في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان خلقه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى اللّه تعالى إلا أن يقول بالقسط في الغني والفقير ، وهي متضمنة للشهادة على من ذكره اللّه تعالى ، ولا تعرض فيها للشهادة لهم على ما هو الظاهر ، وحملها

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 163
بعضهم على ما يشمل القسمين ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كما أشرنا إليه فيجوز عنده شهادة الولد لوالده والوالد لولده.
وحكي عن ابن شهاب الزهري أنه قال : كان سلف المسلمين على ذلك حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم ، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدا ، وأبعد منه بمراحل - بل ينبغي أن يكون من باب الإشارة - كون المراد منها كونوا شُهَداءَ لِلَّهِ تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقيقة أحكامه ولو كان ذلك مضرا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك إِنْ يَكُنْ أي الشاهد غَنِيًّا تضر شهادته بغناه أَوْ فَقِيراً تسد شهادته باب دفع الحاجة عليه فَاللَّهُ تعالى أَوْلى بِهِما من أنفسهما ، فينبغي أن يرجحا اللّه تعالى على أنفسهما ، واستدل بالآية على أن العبد لا مدخل له في الشهادة إذ ليس قوّاما بذلك لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي وعلى وجوب التسوية بين الخصمين على الحاكم ، وهو ظاهر على رأي ، ووجه مناسبتها لما تقدم على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة عقبه بالقيام لأداء الحقوق ، وفي الشهادة حقوق ، أو لأنه سبحانه لما بين أن طالب الدنيا ملوم وأشار إلى أن طالب الأمرين أو أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الإنسان وفعله للّه تعالى ، أو لأنه تعالى شأنه لما ذكر في هذه السورة وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء : 3] والإشهاد عند دفع أموالهم إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل اللّه تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى : آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه ، وروي هذا عن الحسن ، واختاره الجبائي ، وقيل : الخطاب لهم ، والمراد ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا ، أو آمَنُوا بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمان بعضهم إجمالي ، وأيا ما كان فلا يلزم تحصيل الحاصل ، وقيل : الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا فمعنى آمَنُوا أخلصوا الإيمان ، واختاره الزجاج وغيره.
وقيل : لمؤمني اليهود خاصة ، ويؤيده ما
روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «أن عبد اللّه بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد اللّه بن سلام ويامين بن يامين أتوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا : نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : بل آمنوا باللّه تعالى ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا : لا نفعل» فنزلت فآمنوا كلهم ،
وقيل : لمؤمني أهل الكتابين ، وروي ذلك عن الضحاك ، وقيل : للمشركين المؤمنين باللات والعزى ، وقيل : لجميع الخلق لإيمانهم يوم أخذ الميثاق حين قال لهم سبحانه : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف : 172] والكتاب الأول القرآن ، والمراد من الكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية ، ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد : وَكُتُبِهِ والمراد بالإيمان بها الإيمان بها في ضمن الإيمان بالكتاب المنزل على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم على معنى أن الإيمان بكل واحد منها مندرج تحت الإيمان بذلك الكتاب ، وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها إلى ورود ما نسخها ، وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا تغيير يعتريه.
ومن هنا يعلم أن أمر مؤمني أهل الكتاب بالإيمان بكتابهم بناء على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من الإيمان غير حاصل لهم وهو المقصود ، ولا حاجة إلى القول بأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداه كأنه قيل : آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو - نزل ، وأنزل - على البناء

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 164
للمفعول ، واستعمال - نزل - أولا وأَنْزَلَ ثانيا لأن القرآن نزل مفرقا بالإجماع ، وكان تمامه في ثلاث وعشرين سنة على الصحيح ولا كذلك غيره من الكتب فتذكر.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو - كما قال العلامة الثاني - قد يرجع إلى كل واحد ، وقد يرجع إلى المجموع ، والتعويل على القرائن ، وهاهنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو بمعنى أو في شيء ، وجوز بعضهم رجوعه إلى المجموع لوصف الضلال بغاية البعد في قوله تعالى : فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ويستفاد منه أن الكفر بأي بعض كان ضلال متصف - ببعد - والمشهور أن المراد - بالضلال البعيد - الضلال البعيد عن المقصد بحيث لا يكاد يعود المتصف به إلى طريقه ، ويجوز أن يراد ضَلالًا بَعِيداً عن الوقوع ، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق وتأكيد له ، وزيادة - الملائكة واليوم الآخر - في جانب الكفر على ما ذكره شيخ الإسلام لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا ، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل ، وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه ، وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين اللّه عز وجل وبين الرسل في إنزال الكتب ، وقيل : اختلاف الترتيب في الموضعين من باب التفنن في الأساليب والزيادة في الثاني لمجرد المبالغة ، وقرىء بكتابه على إرادة الجنس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي ، وعن مجاهد وابن زيد أنهم أناس منافقون أظهروا الإيمان ، ثم ارتدوا ، ثم أظهروا ، ثم ارتدوا ، ثم ماتوا على كفرهم ، وجعلها ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما عامة لكل منافق في عهده صلّى اللّه عليه وسلّم في البر والبحر ، وعن الحسن أنهم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم ، ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون ، ثم يظهرون ، ثم يقولون : قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون ، ويستمرون على الكفر إلى الموت ، وذلك معنى قوله تعالى : وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران : 72] ، وقيل : هم اليهود آمنوا بموسى عليه السلام ، ثم كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم ، ثم آمنوا عند عوده إليهم ، ثم كفروا بعيسى عليه السلام ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وروي ذلك عن قتادة ، وقال الزجاج والفراء : إنهم آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بعده ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعيسى عليه السلام ، ثم ازدادوا كفرا بنبينا عليه الصلاة والسلام ، وأورد على ذلك بأن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه السلام ، ثم كافرين بعبادة العجل أو بشيء آخر ، ثم مؤمنين بعوده إليهم أو بعزير ، ثم كافرين بعيسى عليه السلام بل هم إما مؤمنون بموسى عليه السلام وغيره ، أو كفار لكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل.
وأجيب بأنه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس ، ويحصل التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم ، والذي يميل القلب إليه أن المراد قوم تكرر منهم الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم ، ويؤيده ما
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال في المرتد : إن كنت لمستتيبه ثلاثا ، ثم قرأ هذه الآية
وإلى رأي الإمام كرم اللّه تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال : يقتل المرتد في الرابعة ولا يستتاب ، وكأنه أراد أنه لا فائدة في الاستتابة إذ لا منفعة ، وعليه فالمراد من قوله سبحانه : لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أنه سبحانه لا يفعل ذلك أصلا وإن تابوا ، وعلى القول المشهور الذي عليه الجمهور :
المراد من نفي المغفرة والهداية نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت ومعنى نفيه استبعاد وقوعه فإن من تكرر

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 165
منهم الارتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.
وخص بعضهم عدم الاستتابة بالمتلاعب المستخف إذا قامت قرينة على ذلك ، وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام كما ذهب إليه البصريون أي ما كان اللّه تعالى مريدا للغفران لهم ، ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه.
وذهب الكوفيون إلى أن اللام زائدة والخير هو الفعل وضعف بأن ما بعدها قد انتصب فإن كان النصب باللام نفسها فليست بزائدة ، وإن كان - بأن - ففاسد لما فيه من الإخبار بالمصدر عن الذات وأجيب باختيار الشق الأول ، وأنه لا مانع من العمل مع الزيادة كما في حروف الجر الزائدة ، وباختيار الشق الثاني وامتناع الإخبار بالمصدر عن الذات لعدم كونه دالا بصيغته على فاعل وعلى زمان دون زمان ، والفعل المصدر - بأن - يدل عليهما فيجوز الإخبار به - وإن لم يجز بالمصدر - ولا يخفى ما فيه ، فإن الإخبار على هذا بالفعل لا بالمصدر وإن أول المصدر باسم الفاعل كان الإخبار باسم الفاعل لا به أيضا فافهم واختار قوم في القوم ما ذهب إليه مجاهد. وأيد ذلك بقوله تعالى : بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ووضع فيه بَشِّرِ موضع أنذر تهكما بهم ، ففي الكلام استعارة تهكمية وقيل :
موضع أخبر فهناك مجاز مرسل تهكمي.
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ في موضع النصب ، أو الرفع على الذم على معنى أريد بهم الذين أو هم الذين ، ويجوز أن يكون منصوبا على اتباع المنافقين ولا يمنع منه وجود الفاصل فقد جوزه العرب ، والمراد بالكافرين قيل : اليهود ، وقيل : مشركو العرب ، وقيل : ما يعم ذلك والنصارى ، وأيد الأول بما روي أنه كان يقول بعضهم لبعض :
إن أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لا يتم فتولوا اليهود.
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي متجاوزين ولاية المؤمنين ، وهو حال من فاعل يَتَّخِذُونَ أَيَبْتَغُونَ أي المنافقون عِنْدَهُمُ أي الكافرين الْعِزَّةَ أي القوة والمنعة وأصلها الشدة ، ومنه قيل : للأرض الصلبة : عزاز ، والاستفهام للإنكار ، والجملة معترضة مقررة لما قبلها ، وقيل : للتهكم ، وقيل : للتعجب. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي إنها مختصة به تعالى يعطيها من يشاء وقد كتبها سبحانه لأوليائه فقال عز شأنه : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والجملة تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم.
وقيل : بيان لوجه التهكم ، أو التعجب ، وقيل : إنها جواب شرط محذوف أي إن يبتغوا العزة من هؤلاء فَإِنَّ الْعِزَّةَ إلخ ، وهي على هذا التقدير قائمة مقام الجواب لا أنها الجواب حقيقة ، وجَمِيعاً قيل : حال من الضمير في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ ، وليس في الكلام مضاف أي لأولياء كما زعمه البعض ، وقوله سبحانه : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذي يستدعيه تعديد جناياتهم.
وقرأ - ما عدا عاصما - ويعقوب نَزَّلَ بالبناء لما لم يسم فاعله ، والجملة حال من ضمير يَتَّخِذُونَ مفيدة أيضا لكمال قباحة حالهم ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة أعداء اللّه تعالى مع تحقق ما يمنعهم عن ذلك ، وهو ورود النهي عن المجالسة المستلزم للنهي عن الموالاة على آكد وجه وأبلغه إثر بيان انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل : تتخذونهم أولياء والحال أنه تعالى نَزَّلَ عَلَيْكُمْ قبل هذا بمكة فِي الْكِتابِ أي القرآن العظيم الشأن.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 166
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وذلك قوله تعالى : وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام : 68] الآية ، وهذا يقتضي الانزجار عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحة ، فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم؟! وأَنْ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أي إنه إذا سمعتم ، وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أي إنكم ، وكون المخففة لا تعمل في غير ضمير الشأن إلا لضرورة - كما قال أبو حيان - في حيز المنع ، وقد صحح غير واحد جواز ذلك من غير ضرورة ، والجملة الشرطية خبر وهي تقع خبرا في كلام العرب ، وأَنْ وما بعدها في موضع النصب على أنه مفعول به - لنزل - وهو القائم مقام الفاعل على القراءة الثانية ، واحتمال أنه قد يجعل القائم مقامه عليكم ، وتكون أَنْ مفسرة لأن التنزيل في معنى القول لا يلتفت إليه ، ويُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ في موضع الحال من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة ، فإن قيد القيد قيد ، والمعنى لا تقعدوا معهم وقت كفرهم واستهزائهم بالآيات ، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها ، والضمير في مَعَهُمْ للكفرة المدلول عليهم ب يُكْفَرُ وَيُسْتَهْزَأُ والضمير في غيره راجع إلى تحديثهم بالكفر والاستهزاء ، وقيل : الكفر والاستهزاء لأنهما في حكم شيء واحد ، وقوله تعالى :
إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ تعليل للنهي غير داخل تحت التنزيل وإِذا ملغاة لأن شرط علمها النصب في الفعل أن تكون في صدر الكلام فلذا لم يجيء بعدها فعل ، و- مثل - خبر عن ضمير الجمع وصح مع إفراده لأنه في الأصل مصدر ، فيستوي فيه الواحد المذكر وغيره ، وقيل : لأنه كالمصدر في الوقوع على القليل والكثير أو لأنه مضاف لجمع فيعم ، وقد يطابق ما قبله كقوله تعالى : ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد : 38] ، والجمهور على رفعه ، وقرىء شاذا بالنصب ، فقيل : إنه منصوب على الظرفية لأن معنى قولك : زيد مثل عمرو في أنه حال مثله ، وقيل : إنه إذا أضيف إلى مبني اكتسب البناء ولا يختص ذلك بما المصدرية كما توهم بل يكون فيها مثل مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الصافات : 92] ، وفي غيرها كقوله :
فأصبحوا قد أعاد اللّه نعمتهم إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
وابن مالك يشترط لاكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية والجمع - كدون وغير وبين - ولم يصحح ذلك في - مثل - وأعربه حالا من الضمير المستتر في - حق - في قوله تعالى : إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ - ما - أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ، وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب ، والمراد من المنافقين إما المخاطبون ، وأقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الاشتقاق ، وإما للجنس وهم داخلون دخولا أوليا وتقديمهم لتشديد الوعيد على المخاطبين وانتصابه على الحال طرز ما مر ، واستشكل كون الخطاب للمنافقين بأنهم مثل الكافرين في الكفر من غير سببية القعود معهم فلا وجه لترتب الجزاء على الشرط ، والعدول عن كون المماثلة في الكفر إلى المماثلة في المجاهرة به لا يحسن معه كون جملة إِنَّ اللَّهَ إلخ تعليلا لكونهم مثلهم بتلك المماثلة بالطريق الذي ذكر ، وأيضا الذين نهوا عن مجالسة الكافرين والمستهزئين بمكة هم المؤمنون المخلصون لا المنافقون لأن نجم النفاق إنما ظهر بالمدينة ، فكيف يذكر المنافقون فيها بنهي نزل في مكة قبل أن يكونوا؟.
وأجيب عن هذا بأنه إن سلم أن المنزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة مخلصهم ومنافقهم إلى قيام الساعة ، صح دخول المنافقين وإن لم يكونوا وقت النزول وإن لم يسلم ذلك فإن ادعي الاقتصار على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يدخل المؤمنون المخلصون أيضا ، وإن ادّعي دخولهم فقط دون المنافقين الذين هم مؤمنون ظاهرا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 167
فلا دليل عليه ، كيف وجميع الأحكام متعلقة بالمؤمنين كيف كانوا ولسنا مكلفين بأن نشق على قلوب العباد ، بل لنا الظاهر واللّه تعالى يتولى السرائر ، على أنه قد قام الدليل على أن الأحكام الشرعية التي كانت صدر الإسلام ولم تنسخ مخاطب بها من نطق بالكلمة الطيبة وبلغته قبل يوم الساعة ، فقد قال اللّه تعالى : لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام : 19] ولهذه الدغدغة قال بعض المحققين : إن المقصود من الخطاب هنا المؤمنون الصادقون ، والمراد بمن يكفر ويستهزىء أعم من المنافقين والكافرين ، وضمير مَعَهُمْ للمفهوم من الفعلين ، ويؤيد ذلك ما نقل عن الواحدي أنه قال : كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى اللّه تعالى المسلمين عن مجالستهم ، والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار لا عاجزون كما في مكة ، أو في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك وهو مبني على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل ، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده : الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أما إذا لم يكن كذلك ولكن أحب الموت ، أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم اللّه تعالى منه فهذا لا يكون كفرا ، ومن تأمل قوله تعالى : رَبَّنَا اطْمِسْ [يونس : 88] الآية يظهر له صحة هذه الدعوى وهو المنقول عن الماتريدي ، وقول بعضهم : إن من جاءه كافر ليسلم فقال : اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان موافق لما روي عن الإمام لكن يدل على خلافه ما
روي في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي اللّه تعالى عنه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول اللّه بايعه فكف صلّى اللّه عليه وسلّم يده ونظر إليه ثلاث مرات
وهو معروف في السير ، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا.
واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا ، وإليه ذهب ابن مسعود وإبراهيم وأبو وائل ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر ، فقيل له في ذلك : فتلا الآية ، وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر ، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى ، ومن هنا قيل : إن مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي اللّه تعالى هو العلم بخوضهم ، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع ، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط ، وعن الجبائي أن المحذور مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه ، وعلى هذا - الذي ذهب إليه بعض المحققين - يحتمل أن يراد بالمنافقين والكافرين في جملة التعليل ما أريد بضمير معهم ، وصرح بهذا العنوان لما أشرنا إليه قبل ، ويحتمل أن يراد الجنس ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا ، والخطاب في قوله تعالى : الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ للمؤمنين الصادقين بلا خلاف ، والموصول إما بدل من - الذين يتخذون - أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين.
وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على الذم ، وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لا يخلو من تكلف ، والتربص الانتظار ، والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به أي ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضي أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر ، والفاء في قوله تعالى : فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك أي فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء قالُوا أي لكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ نجاهد عدوكم فأعطونا نصيبا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي حظ من الحرب ، فإنها سجال قالُوا أي المنافقون للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم ، أو ألم نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلّى اللّه عليه وسلّم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 168
وأصحابه ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا في مظاهرتهم وإلقائنا عليهم ما ضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم : وقيل : المعنى ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الدخول في جملة الْمُؤْمِنِينَ وهو خلاف الظاهر ، وأصل الاستحواذ الاستيلاء ، وكان القياس فيه استحاذ يستحيذ استحاذة بالقلب لكن صحت فيه الواو وكثر ذلك فيه. وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس وعدّ فصيحا ، وقال أبو زيد : إنه قياسي ، وعلى كل حال لا يرد على فصاحة القرآن كما حقق في موضعه. وقرىء وَنَمْنَعْكُمْ بالنصب بإضمار أن ، والتقدير لم يكن منا الاستحواذ والمنع كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، سمي ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين ، وقيل : سمي الأول فتحا إشارة إلى أنه من مداخل فتح دار الإسلام بخلاف ما للكافرين فإنه لا فتح لهم في استيلائهم بل سينطفئ ضياء ما نالوا فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه ، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في العصمة بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم» وفي الكلام قيل : تغليب ، وقيل : حذف أي بينكم وبينهم وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي
يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاء واستدراجا ، وروي ذلك عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تاما بالاستئصال ، أو حجة قائمة عليهم مفحمة لهم ، وحكي ذلك عن السدي ، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى ، واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه ، ونحن نقول : يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه ، واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح ، والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته ، وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة ، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لا بد لحدوث العلقة من موجب - وهو ظاهر - فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي ، والعود كالرجعة فلا ضعف فيه.
وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا بالاستئصال ، أو السبيل بمعنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا ولا الشافعية فلا تغفل إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
أي يفعلون ما يفعل المخادع فيظهرون الإيمان ويضمرون نقيضه ، وعن الحسن - واختاره الزجاج - أن المراد يخادعون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على حد إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح : 10] وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار ، وقيل : خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم بسور. وروي ذلك عن الحسن ، أيضا - والسدي - واختاره جماعة من المفسرين - وقد مر تحقيق ذلك ، وللّه تعالى الحمد.
والجملة في محل نصب على الحال أو معطوفة على خبر إِنَ
أو مستأنفة كالأولى.
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي متثاقلين متباطئين لا نشاط لهم ولا رغبة كالمكره على الفعل لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها ولا عقابا على تركها ، وقرىء بفتح الكاف وهما جمعا كسلان.
يُراؤُنَ النَّاسَ
ليحسبوهم مؤمنين ، والمراءاة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى التفعيل لأن فاعل بمعنى فعل وارد

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 169
في كلامهم - كنعم وناعم - وقراءة عبد اللّه وإسحاق - يروون - تدل على ذلك ، أو للمقابلة لأنهم لفعلهم في مشاهد الناس يرون الناس والناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى أعمالهم والناس يستحسنونها ، فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما الاختلاف في متعلق الإراءة ، فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة لا بد في حقيقتها من اتحاد الفعل ومتعلقه ، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فماذا يريدون بقيامهم هذا؟ فقيل : يُراؤُنَ
إلخ ، أو حال من ضمير قامُوا
أو من الضمير في كسالى.
وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
عطف على يُراؤُنَ
،
وقيل : حال من فاعله أي ولا يذكرونه سبحانه مطلقا إلا زمانا قليلا ، أو إلا ذكرا قليلا إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله ، أو لأن ذكرهم باللساني قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب ، وقيل : إنما وصف بالقلة لأنه لم يقبل وكل ما لم يقبله اللّه تعالى قليل وإن كان كثيرا ، وروي ذلك عن قتادة ، وأخرج البيهقي وغيره عن الحسن ما بمعناه.
وأخرج ابن المنذر عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : - لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل -
وقيل :
المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة نحو التكبير والتسبيح ، وإليه ذهب الجبائي ، وأيد بما
أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر اللّه تعالى فيها إلا قليلا» ،
وقيل : الذكر بمعنى الصلاة لأن الكلام فيها لا بمعناه المتبادر منه ، وجوز أن يراد بالقلة العدم ، واستشكل توجيه الاستثناء حينئذ.
وأجيب بأن المعنى لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
تعالى إِلَّا
ذكرا ملحقا بالعدم لأنه لا ينفعهم فلا إشكال ، ولا يخفى ما فيه فإن القلة بمعنى العدم مجاز ، وجعل العدم بمعنى ما لا نفع فيه مجاز آخر ، ومع ذلك ليس في الكلام ما يدل عليه ، وقال بعض المحققين : في توجيه الكلام على ذلك التقدير إن المعنى حينئذ لو صح أن يعد عدم الذكر ذكرا فذلك ذكرهم على طريقة قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وفيه - وإن كان أهون من الأول - ما فيه ، واستدل بالآية على استحباب دخول الصلاة بنشاط ، وعلى كراهة قول الإنسان كسلت ، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه يكره أن يقول الرجل إني كسلان ويتأول هذه الآية مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من فاعل يُراؤُنَ
أو من فاعل يَذْكُرُونَ
وجوز أن يكون حالا من فاعل قامُوا
أو منصوب على الذم بفعل مقدر ، وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين ، ولذا أضيف بَيْنَ إليه ، وروي هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين والكافرين فيكون ما بعده تفسيرا له على حد قوله :
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
والمعنى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان ، وأصل الذبذبة كما قال الراغب : صوت الحركة للشيء المعلق ، ثم استعير لكل اضطراب وحركة ، أو تردد بين شيئين ، والذال الثانية أصلية عند البصريين ، ومبدلة من باء عند الكوفيين ، وهو خلاف معروف بينهم ، وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما مُذَبْذَبِينَ بكسر الذال الثانية ومفعوله على هذا محذوف أي - مذبذبين قلوبهم ، أو دينهم ، أو رأيهم - ويحتمل أن يجعل لازما على أن فعلل بمعنى تفعلل كما جاء صلصل بمعنى تصلصل أي متذبذبين ، ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود متذبذبين.
وقرىء بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من - الدبة - بضم الدال وتشديد الباء بمعنى الطريقة والمذهب كما

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 170
في النهاية ، ويقال : هو على دبتي أي طريقتي وسمتي ، وفي حديث ابن عباس «اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة» والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي لا منسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر ، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان ، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين ، ومحله النصب على أنه حال من ضمير مُذَبْذَبِينَ أو على أنه بدل منه ، ويحتمل أن يكون بيانا وتفسيرا له وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ لعدم استعداده للهداية والتوفيق فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه ، والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ في التفظيع.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نهي المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط - كما قيل - أو ما يعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين ، أي لا تتخذوهم أولياء فإن ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم ، وقيل : المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون ، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين وقيل : المراد بالموصول المخلصون ، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل : قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء ، وإلى ذلك ذهب القفال ، وفي كلا القولين بعد أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة في العذاب ، وفيه دلالة على أن اللّه تعالى لا يعذب أحدا بمقتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه ، ويشعر بذلك كثير من الآيات ، وقيل : أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم موافقون «1» فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق.
ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف ، لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعا ، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف ، والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا ، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة ، وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع ، وعَلَيْكُمْ يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من سُلْطاناً ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال : أتجعلون إلخ للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها ، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل : جهنم ، والثانية لظى ، والثالثة الحطمة والرابعة السعير ، والخامسة سقر ، والسادسة الجحيم ، والسابعة الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى ، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض ، والدَّرْكِ كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط ، والدرج باعتبار الصعود ، وفي كون المنافق فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ إشارة إلى شدة عذابه.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود - أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل - وإنما كان أشدّ عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاء بالإسلام وخداعا لأهله ، وأما ما
روي في الصحيحين من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد غدر ، وإذا خاصم فجر»
فقد قال المحدثون فيه : إنه مخصوص بزمانه صلّى اللّه عليه وسلّم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه
___________
(1) قوله : «موافقون» وقوله بعده في الحديث : «وإذا وعد غدر» كذا بخطه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 171
الصلاة والسلام أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم ، ولم يعينهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين ، وقيل : ليس بمخصوص ولكنه مؤول بمن استحل ذلك ، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص ، وأطلق صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له ، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه ، أو هو منافق في أمور الدين عرفا والمنافق في العرف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانا وكفرا ، وكأنه مأخوذ من النافقاء ، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلّى اللّه عليه وسلّم باقتضاء المقام ، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع».
وقرأ الكوفيون الدَّرْكِ بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر ، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال ، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس ، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ ، وزند وأزناد. - وكونه استغني بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر ، فلا يندفع به الترجيح ، والكلام مخرّج مخرج الحقيقة ، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار ، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال : إن السلطان بلغ فلانا الحضيض وفلانا العرش ، يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة ، ولا يخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار ، ومِنَ النَّارِ في محل النصب على الحال وفي صاحبها وجهان : أحدهما أنه الدَّرْكِ والعامل الاستقرار ، والثاني أنه الضمير المستتر في الْأَسْفَلِ لأنه صفة ، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ وكون المراد وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً في الدنيا لتكون الآية وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى ، والخطاب لكل من يصلح له إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وهو استثناء من المنافقين ، أو من ضميرهم في الخبر ، أو من الضمير المجرور في لهم ، وقيل : هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد الفاء ودخلت - لما - في الكلام من معنى الشرط وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق ، وقيل : ثبتوا على التوبة في المستقبل ، والأول أولى وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي تمسكوا بكتابه ، أو وثقوا به وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس ، ودفع الضرر كما في النفاق ، وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال : قال الحواريون لعيسى عليه السلام : يا روح اللّه من المخلص للّه؟ قال : الذي يعمل للّه تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه
فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصفة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ آمنوا ، والمراد أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة ، أو معدودون من جملتهم في الدنيا والآخرة وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم.
وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود ، والتعميم أولى ، والمراد بالمؤمنين هاهنا ما أريد به فيما قبله. واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد ، ولولا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر.
وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها ، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلا ، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه ، والظاهر ما ذكرناه ، ورسم يُؤْتِ بغير ياء ، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وجاء الرسم تبعا للفظ والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فإنه يقف بالياء نظرا إلى الأصل.
وروي ذلك أيضا عن الكسائي وحمزة ونافع وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 172
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ خطاب للمنافقين - وقيل : للمؤمنين ، وضعف - مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شيء آخر ، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من ثباتهم عند توبتهم ، وما استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده ، وقيل : نافية والباء سببية ، وقيل : زائدة أي أيّ شيء يفعل اللّه سبحانه بسبب تعذيبكم أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب نفعا؟ أو يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك ، وهو الغني المطلق المتعالي عن أمثال ذلك؟ وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكا لا محيص عنه بالخلود في النار ، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته ، فقد ذكر العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبغث منه شوق إلى معرفة المنعم وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعيينه ، وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها ، وهي المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان ، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان ، ويقول :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم وهو مقدم على الإيمان ، فلا حاجة إلى ما زعمه الإمام من أن الكلام على التقديم والتأخير أي آمنتم وشكرتم ، وأما القول : بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير أن تكون الواو للترتيب ، وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما لا ينبغي أن يتفوه به من له أدنى ذوق في علم الفصاحة والبلاغة لأن الواو وإن لم تفد الترتيب لكن تقديم ما ليس مقدما لا يليق بالكلام الفصيح فضلا عن المعجز ، ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه وجها ونكتة ، وذكر النيسابوري وجها آخر في التقديم لكنه بناه على إفادة الواو للترتيب فقال : لعل الوجه في ذلك أن الآية مسوقة في شأن المنافقين ولا نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني ، فكان تقديم الشكر هاهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه اللّه تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة انتهى ، ولا يخفى أنه لم يحمل الشكر في الآية على الشكر المبهم ، ولا يخلو عن حسن.
وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري ، ثم رأيت العلامة الطيبي عليه الرحمة صرح به إن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين ، وأن قوله سبحانه ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ متصل بقوله تعالى : إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إلخ ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم اللّه تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى ، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلّى اللّه عليه وسلّم والانخراط في زمرة الذين مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح : 29] فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا باللّه تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران ، ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن اللّه تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات ، فقوله عز وجل : إِنْ شَكَرْتُمْ فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها ، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام باللّه تعالى ، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه ، فقوله عز

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 173
من قائل : وَآمَنْتُمْ تفسير له وتقرير لمعناه أي وَآمَنْتُمْ الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل ، فتقديم الشكر على الإيمان وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه ، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة اللّه تعالى العظمى والكفر تابع فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف ، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا :
وَكانَ اللَّهُ شاكِراً أي مثيبا على الشكر عَلِيماً بجميع الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر ، وإلى هذا ذهب الإمام ، وقال غير واحد : الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات ، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة ، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية ، وقيل : معناه المثنى على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : أما في قوله سبحانه : وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله عز وجل :
وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً فقد قال النيسابوري فيه : إن النفس للروح كالمرأة للزوج ، فِي يَتامَى النِّساءِ صفات النفوس ، وما كُتِبَ لَهُنَّ ما أوجب اللّه تعالى من الحقوق.
وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ فالروح تشح بترك حقوق اللّه تعالى ، والنفس تشح بترك حظوظها فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ في رفض حظوظ النفس ، فقد جاء في الخبر «إن لنفسك عليك حقا» فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين العالم العلوي والعالم السفلي وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي الروح والنفس يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ فالروح يجتذب بجذبة - خل نفسك وائتني إلى سعة غنى اللّه تعالى في عالم هويته - فيستغنى عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود ، والنفس تجتذب بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر : 28] إلى سعة غنى اللّه تعالى في عالم فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر :
29 ، 30] انتهى ، ولا يخفى أن باب التأويل واسع ، وما ذكره ليس بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد وأما في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا إلخ فنقول : إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونا ثابتين في مقام العدالة التي في أشرف الفضائل قَوَّامِينَ بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لا يمكن معها جور في شيء ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو رفع مضرة كذلك ، ثم قال جل وعلا : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من حيث البرهان آمَنُوا من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث العيان أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالإيمان التقليدي آمَنُوا بالإيمان العيني ، أو المراد يا أَيُّهَا المدعون تجريد الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط ، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم يكن للتقليد أصل ثُمَّ آمَنُوا بالاستدلال العقلي ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بالشبهات والاعتراضات ، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء اللّه تعالى ، والإيمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رئاسة القوم.
فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا وأنكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم ، ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا آمنوا فلما لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازدادوا إنكارا على إنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على الآخرة وجعلوا يقولون للخلق : إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد سلكنا ما سلكوا وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سرابا بقيعة ، وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس اللّه تعالى أسرارهم ما كان اللّه ليغفر لهم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 174
لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا إلى الحق ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ لمناسبتهم إياهم وشبيه الشيء منجذب إليه مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لعدم الجنسية أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي أيطلبون التعزز بهم في الدنيا والتقوى بمالهم وجاههم فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فلا سبيل لهم إليها إلا منه سبحانه عز وجل ، ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم - إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى - لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم يُراؤُنَ النَّاسَ
لاحتجابهم بهم عن رؤية اللّه تعالى وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها بجناحي الرغبة والرهبة بل يحنون إلى أوقاتها.
حنين أعرابية حنت إلى أطلال نجد فارقته ومرخه
ومن هنا
كان صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لبلال : «أرحنا يا بلال»
يريد عليه الصلاة والسلام أقم لنا الصلاة لنصلي فنستريح بها لا منها ، وظن الأخير برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كفر والعياذ باللّه تعالى وإذا عبدوا لا يرون إلا اللّه تعالى ، وما قدر السوي عندهم ليراؤوه؟ وإن كل جزء منهم يذكر اللّه تعالى ، نعم إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر ، وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنبا ، ولهذا قال قائلهم :
بذكر اللّه تزداد الذنوب وتنكشف الرذائل والعيوب
وترك الذكر أفضل كل شيء وشمس الذات ليس لها مغيب
لكن ذكر بعضهم أنه لا يصل العبد إلى ذلك المقام إلا بكثرة الذكر ، وأشار إلى مقام عال من قال :
لا يترك الذكر إلا من يشاهده وليس يشهده من ليس يذكره
والذكر ستر على مذكوره ستر فحين أذكره في الحال يستره
فلا أزال على الأحوال أشهده ولا أزال على الأنفاس أذكره
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لئلا تتعدى إليكم ظلمة كفرهم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها تميلون إلى ولايتهم إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ لتحيرهم بضعف استعدادهم وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ينصرهم من عذاب اللّه تعالى لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل اللّه تعالى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا رجعوا إلى اللّه تعالى ببقية نور الاستعداد وقبول مدد التوفيق وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى وكسر صفات النفس ورفع حجاب القوى وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ بالتمسك بأوامره والتوجه إليه سبحانه وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ بإزالة خفايا الشرك وقطع النظر عن السوي فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصادقين وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً من مشاهدة تجليات الصفات وجنات الأفعال ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ بالتوبة وإصلاح ما فسد والاعتصام بحبل الأوامر والتوجه إلى اللّه عز وجل وإخلاص الدين له سبحانه وَآمَنْتُمْ الإيمان الحائز لذلك وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً فيثبت ويوصل الثواب كاملا ، واللّه تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
«تم والحمد للّه الجزء الخامس من تفسير روح المعاني ، ويتلوه الجزء السادس إن شاء اللّه تعالى» أوله «لا يحب اللّه الجهر بالسوء من القول».

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 175
روح المعاني الجزء السادس

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 176

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 177
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة النساء (4) : الآيات 148 إلى 151]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ عدم محبته سبحانه لشيء كناية عن غضبه ، والباء متعلقة بالجهر وموضع الجار والمجرور نصب أو رفع ، ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع حالا من السوء ، و- الجهر بالشي ء - الإعلان به ، والإظهار كما يفهم من القاموس ، وفي الصحاح : جهر بالقول رفع صوته به ، ولعل المراد هنا الإظهار وإن لم يكن برفع صوت أي لا يحب اللّه سبحانه أن يعلن أحد بالسوء كائنا من القول إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي إلا جهر من ظلم فإنه غير مسخوط عنده تعالى ، وذلك بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وقتادة هو أن يدعو على من ظلمه ، وعن مجاهد أن المراد لا يحب اللّه سبحانه أن يذم أحد أحدا أو يشكوه إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيجوز له أن يشكو ظالمه ويظهر أمره ويذكره بسوء ما قد صنعه ، وعن الحسن والسدي - وهو المروي عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه - المراد لا يحب اللّه تعالى الشتم في الانتصار إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين ، وجوز الحسن للرجل إذا قيل له : يا زاني أن يقابل القائل له بمثل ذلك ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت ، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وأبيّ وابن جبير والضحاك وعطاء أنهم قرؤوا إِلَّا مَنْ ظُلِمَ على البناء للفاعل ، فالاستثناء منقطع ، والمعنى لكن الظالم يحبه أو لكنه يفعل ما لا يحبه اللّه تعالى فيجهر بالسوء ، والموصول في محل نصب ، وجوز الزمخشري أن يكون مرفوعا بالإبدال من فاعل يُحِبُّ كأنه قيل : لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول : ما جاءني زيد إلا عمرو بمعنى ما جاءني إلا عمرو ، ومنه لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل : 65] وهي لغة تميمية ، وعليها قول الشاعر :
عشية ما تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفي المصمم
وقد نقل هذه اللغة سيبويه وأنكرها البعض ، وكفى بنقل شيخ الصناعة سندا للمثبت ، ونقل عن أبي حيان أنه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 178
ليس البيت كالمثال لأنه قد يتخيل فيه عموم على معنى السلاح ، وأما زيد فلا يتوهم فيه عموم ولا يمكن تصحيحه إلا على أن أصله ما جاءني زيد ولا غيره ، فحذف المعطوف لدلالة الاستثناء وكذا الآية التي ذكرت ، ورد - كما قال الشهاب - بأنه لو كان التقدير ما ذكره في المثال لكان الاستثناء متصلا والمفروض خلافه ، وأن المراد - كما يفهمه كلام الطيبي - جعل المبدل منه بمنزلة غير المذكور حتى كأن الاستثناء مفرغ والنفي عام إلا إنه صرح بنفي بعض أفراد العام لزيادة اهتمام بالنفي عنه ، أو لكونه مظنة توهم الإثبات ، فيقولون : ما جاءني زيد إلا عمرو ، والمعنى ما جاءني إلا عمرو فكذا هاهنا المعنى - لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم - فأدخل لفظ اللَّهُ تأكيدا لنفي محبته تعالى يعني للّه سبحانه اختصاص في عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك.
فإن قيل : ما بعد إِلَّا حينئذ لا يكون فاعلا وهو ظاهر فتعين البدل وهو غلط ، أجيب بأنه إنما يكون غلطا لو لم يكن هذا الخاص في موقع العام ، ولم يكن المعنى ما جاءني أحد إلا عمرو «فإن قيل» : فيكون لفظ اللَّهُ مجازا عن أحد ولا سبيل إليه ، أجيب بأن لا يحب اللّه مؤول بلا يحب أحد ، وواقع موقعه من غير تجوز في لفظ اللَّهُ كذا قيل وتعقبه الشهاب بأن المستثنى منه إذا كان عاما ، فإما بتقدير لفظ - كما ذكره أبو حيان - وإما بالتجوز في لفظ العلم ، وكلاهما مرّ ما فيه ، ولا طريق آخر للعموم ، فما ذكره المجيب لا بد من بيان طريقه اللهم إلا أن يقال : إن الاستثناء من العلم يشترط فيه أن يكون صاحبه أحق بالحكم بحيث إذا نفي عنه يعلم نفيه عن غيره بالطريق الأولى من غير تقدير ولا تجوز فيقال هنا مثلا : إذا لم يحب اللّه سبحانه الجهر بالسوء وهو الغني عن جميع الأشياء فغيره لا يحبه بطريق من الطرق ، وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لأن الاشتراط المذكور مما لم يقم عليه دليل على أن دعوى كون نفي حب الجهر بالسوء عنه تعالى يعلم منه نفيه عن غيره بالطريق الأولى في غاية الخفاء ، فالأولى ما ذكره بعد بأن يقال يقدر في الكلام ما ذكر لكنه عد الاستثناء منقطعا بحسب المتبادر ، والنظر إلى الظاهر.
وجوّز على قراءة المعلوم أن يكون متعلقا بالسوء أي إلا سوء من ظلم فيجب الجهر به ويقبله ، وقيل : إنه متعلق بقوله تعالى : ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فقد روي عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقول هذا على التقديم والتأخير أي - ما يفعل اللّه بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ، إلا من ظلم - وكان يقرأها كذلك ، ولا يكاد يقبل هذا في تخريج كلام اللّه تعالى العزيز وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بجميع المسموعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم عَلِيماً بجميع المعلومات التي من جملتها حال المظلوم والظالم ، والجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء ولا يأبى ذلك التعميم كما توهم.
ووجه ربط هذه الآية بما قبلها - على ما قاله العلامة الطيبي - أنه سبحانه لما فرغ من بيان إيراد رحمته وتقرير إظهار رأفته جاء بقوله جل وعلا : لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ تتميما لذلك وتعليما للعباد التخلق بأخلاقه جل جلاله ، وفيه أن هذا مما لا محصل له ولا تتم به المناسبة ، وزعم أن الآية الأولى فيها أيضا إشارة إلى تعليم التخلق بالأخلاق العلية - كما قرره عصام الملة - ورجا أن يكون من الملهمات ، وحينئذ يشتركان في أن كلا منهما متضمنا «1» التعليم المذكور ليس بشيء كما لا يخفى ، ومثل ذلك ما ذكره علي بن عيسى في وجه الاتصال وهو أنه تعالى شأنه لما ذكر أهل النفاق ، وهو إظهار خلاف ما يبطن بيّن جل وعلا أن ما في النفس منه ما يجوز إبطانه ومنه ما يجوز إظهاره ، وقال شهاب الدين : الظاهر أنه لما ذكر الشكر على وجه علم منه رضاه سبحانه به ومحبة إظهاره تممه
___________
(1) قوله : «متضمنا» كذا بخطه ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 179
عز وجل بذكر ضده ، فكأنه قيل : إنه يحب الشكر وإعلانه ويكره السوء وإعلانه ، وفيه احتباك بديع إِنْ تُبْدُوا أي تظهروا خَيْراً أي خير كان من الأقوال والأفعال ، وقيل المراد إِنْ تُبْدُوا جميلا حسنا من القول فيمن أحسن إليكم شكرا له على إنعامه عليكم ، وقيل : المراد بالخير المال والمعنى إن تظهروا التصدق أَوْ تُخْفُوهُ أي تفعلوه سرا ، وقيل : تعزموا على فعله أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ أي تصفحوا عمن أساء إليكم مع ما سوّغ لكم من مؤاخذته وأذن فيها ، والتنصيص على هذا مع اندراجه في ابتداء الخير وإخفائه على أحد الأقوال للاعتداد به ، والتنبيه على منزلته وكونه من الخير بمكان ، وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة وتمهيدا له كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً فإن إيراد العفو في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة العفو مع القدرة ولو كان إبداء الخير وإخفاؤه أيضا مقصودا بالشرط لم يحسن الاقتصار في الجزاء على كون اللّه تعالى عفوّا قديرا أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة ، وقال الحسن : يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة اللّه تعالى ، وقال الكلبي : هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم ، وقيل : عَفُوًّا عمن عفا قَدِيراً على إيصال الثواب إليه ، نقله النيسابوري وغيره إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى :
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ في الإيمان بأن يؤمنوا به عز وجل ويكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام ، لكن لا يصرحون بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة ، بل بطريق الالتزام كما يحكيه قوله تعالى : وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ أي نؤمن ببعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونكفر ببعضهم كما فعل أهل الكتاب ، وما ذلك إلا كفر باللّه تعالى وتفريق بين اللّه تعالى ورسله ، لأنه عز وجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وباللّه تعالى أيضا من حيث لا يشعر وَيُرِيدُونَ بهذا القول أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي الإيمان والكفر سَبِيلًا أي طريقا يسلكونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعا ، إذ الحق لا يختلف ، فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس : 32]! هذا ما ذهب إليه البعض في تفسير الآية وهو الذي تؤيده الآثار ، فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فيها أولئك أعداء اللّه تعالى اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى عليه السلام ، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى عليه السلام وكفروا بالقرآن ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من اللّه عز وجل وتركوا الإسلام وهو دين اللّه تعالى الذي بعث به ورسله ، وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج مثله ، وقال بعضهم : الذين يكفرون باللّه تعالى رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع فنفوا الصانع مثلا وأنكروا النبوات ، والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا باللّه تعالى وكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام لا عكسه ، وإن قيل : إنه يتصور في النصارى
لإيمانهم بعيسى عليه السلام وكفرهم باللّه تعالى حيث قالوا : إنه ثالث ثلاثة ، والكفر باللّه سبحانه شامل للشرك والإنكار إذ لا يخفى ما فيه ، والذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهم السلام وكفروا ببعضهم كاليهود ، فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها - بأو - لكن أتي بالواو بدلها فهي بمعناها ، وقيل : إن الموصول مقدر بناء على جواز حذفه مع بقاء صلته ، وقيل : إن قوله تعالى وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا إلخ عطف تفسيري على قوله سبحانه : يَكْفُرُونَ لأن هذه الإرادة عين الكفر باللّه تعالى لأن من كفر برسل اللّه سبحانه فقد كفر باللّه تعالى كالبراهمة ، وأما قوله جل وعلا :
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ إلخ فعطف على صلة الموصول والواو بمعنى أو التنويعية ، فالأولون فرقوا بين الإيمان باللّه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 180
تعالى ورسوله والآخرون فرقوا بين رسل اللّه تعالى عليهم السلام فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود ، وعلى كل تقدير فخبر إِنَّ قوله تعالى : أُولئِكَ أي الموصوفون بالصفات القبيحة هُمُ الْكافِرُونَ الكاملون في الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيمانا أصلا حَقًّا مصدر مؤكد لغيره وعامله محذوف أي حق ذلك أي كونهم كاملين في الكفر حقا ، وجوّزوا أن يكون صفة لمصدر الكافرين ، أي هم الذين كفروا كفرا حقا أي لا شك فيه ولا ريب ، فالعامل مذكور وحَقًّا بمعنى اسم المفعول ، وليس بمعنى مقابل الباطل ، ولهذا صح وقوعه صفة صناعة ومعنى ، واحتمال الحالية - كما زعم أبو البقاء - بعيد ، والآية على ما زعمه البعض متعلقة بقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا إلخ على أنها كالتعليل له وما توسط بين العلة والمعلول من الجمل والآيات إما معترض أو مستطرد عند إمعان النظر وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ أي لهم ، ووضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصف الكفر الشنيع المؤذن بالعلية ، وقد يراد جميع الكفار وهم داخلون دخولا أوليا.
عَذاباً مُهِيناً يهينهم ويذلهم جزاء كفرهم الذي ظنوا به العزة.
[سورة النساء (4) : الآيات 152 إلى 169]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 181
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بآخرين كما فعل الكفرة ، ودخول بَيْنَ على أحد قد مرّ الكلام فيه والموصول مبتدأ خبره جملة قوله : أُولئِكَ أي المنعوتون بهذه النعوت الجليلة سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أي اللّه تعالى أُجُورَهُمْ الموعودة لهم ، فالإضافة للعهد.
وزعم بعضهم أن الخبر محذوف أي أضدادهم ومقابلوهم ، والإتيان بسوف لتأكيد الموعود الذي هو الإيتاء والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر لا الإخبار بأنه متأخر إلى حين ، فعن الزمخشري أن يفعل الذي للاستقبال موضوع لمعنى الاستقبال بصيغته فإذا دخل عليه سوف أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا أن يعطى ما ليس فيه من أصله فهو في مقابلة لن ومنزلته من يفعل منزلة لن من لا يفعل لأن لا لنفي المستقبل فإذا وضع لن موضعه أكد المعنى الثابت وهو نفي المستقبل فإذا كل واحد من - لن وسوف - حقيقته التوكيد ، ولهذا قال سيبويه : لن يفعل نفي سوف يفعل وكأنه اكتفى سبحانه ببيان ما لهؤلاء المؤمنين عن أن يقال : أولئك هم المؤمنون - حقا - مع استفادته مما دل على الضدية ، وفي الآية التفات من التكلم إلى الغيبة.
وقرأ نافع وابن كثير وكثير - نؤتيهم - بالنون فلا التفات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي والآثام رَحِيماً بهم فيضاعف حسناتهم ويزيدهم على ما وعدوا يَسْئَلُكَ يا محمد.
أَهْلُ الْكِتابِ الذين فرقوا بين الرسل أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فقالوا : إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند اللّه تعالى فأتنا بألواح من عنده تعالى فطلبوا أن يكون المنزل جملة ، وأن يكون بخط سماوي ، وروي ذلك عن محمد بن كعب القرظي والسدي.
وعن قتادة أنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم ، وقريب منه ما أخرجه ابن جرير عن ابن جريج قال : إن اليهود قالوا لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم : لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه تعالى من اللّه تعالى إلى فلان إنك رسول اللّه وإلى فلان إنك رسول اللّه ، وما كان مقصدهم بذلك إلا التحكم والتعنت ، قال الحسن : ولو سألوه ذلك استرشادا لا عنادا لأعطاهم ما سألوا فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى عليه السلام شيئا أو سؤلا.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 182
أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ المذكور وأعظم ، والفاء في جواب شرط مقدر والجواب مؤول ليصح الترتيب. أي إن استكبرت هذا وعرفت ما كانوا عليه تبين لك رسوخ عرقهم في الكفر ، وقيل : إنها سببية والتقدير لا تبال ولا تستكبر فإنهم قد سألوا موسى عليه السلام ما هو أكبر ، وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا على سيرتهم في كل ما يأتون ويذرون أسند إليهم ، وجعله بعض المحققين من قبيل إسناد ما للسبب للمسبب ، وجوز أن يكون من إسناد فعل البعض إلى الكل بناء على كمال الاتحاد نحو :
قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي
فيكون المراد بضمير سَأَلُوا جميع أهل الكتاب لصدور السؤال عن بعضهم ، وأن يكون المراد بأهل الكتاب أيضا الجميع فيكون إسناد يَسْئَلُكَ إلى أهل الكتاب من ذلك الإسناد ، وأن يكون المراد بهم هذا النوع ويكون المراد بيان قبائح النوع فلا تكلف ولا تجوّز لا في جانب الضمير ولا في المرجع.
وأنت تعلم أن إسناد فعل البعض إلى الكل مما ألف في الكتاب العزيز ، ووقع في نحو ألف موضع.
وقرأ الحسن أكثر بالمثلثة فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ الذي أرسلك جَهْرَةً أي مجاهرين معاينين فهو في موضع الحال من المفعول الأول - كما قال أبو البقاء - ويحتمل الحالية من المفعول الثاني أي معاينا على صيغة المفعول ولا لبس فيه لاستلزام كل منهما للآخر ، فلا يقال : إنه يتعين كونه حالا من الثاني لقربه منه.
وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف هو الرؤية لا الإرادة لأن الجهرة في كتب اللغة صفة للأول لا الثاني فيقال التقدير أَرِنَا نره رؤية جهرة ، وقيل : يقدر المصدر الموصوف سؤالا أي سؤالا جهرة ، وقيل : قولا أي قولا جهرة ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية : إنهم إذا رأوه فقد رأوه إنما قالوا جَهْرَةً أَرِنَا اللَّهَ تعالى فهو مقدم ومؤخر - وفيه بعد - والفاء تفسيرية فَأَخَذَتْهُمُ أي أهلكتهم لما سألوا وقالوا ما قالوا الصَّاعِقَةُ وهي نار جاءت من السماء.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : الصَّاعِقَةُ الموت أماتهم اللّه تعالى قبل آجالهم عقوبة بقولهم ما شاء اللّه تعالى أن يميتهم ، ثم بعثهم ، وفي ثبوت ذلك تردد.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه - الصعقة - بِظُلْمِهِمْ أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحالة التي كانوا عليها ، وإنكار طلب الكفار للرؤية تعنتا لا يقتضي امتناعها مطلقا ، واستدل الزمخشري بالآية على الامتناع مطلقا ، وبنى ذلك على كون الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد أنهم طلبوا الرؤية ثم قال : ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا به ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة ، كما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصواعق ، ثم أرعد وأبرق ودعا على مدعي جواز الرؤية بما هو به أحق.
وأنت تعلم أن الرجل قد استولى عليه الهوى فغفل عن كون اليهود إنما سألوا تعنتا ولم يعتبروا المعجز من حيث هو مع أن المعجزات سواسية الإقدام في الدلالة ويكفيهم ذلك ظلما ، والتنظير بسؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من العجب العجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وعبدوه.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي المعجزات التي أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء ، وفلق البحر وغيرها ، أو الحجج الواضحة الدالة على ألوهيته تعالى ووحدته لا التوراة لأنها إنما نزلت عليهم بعد الاتخاذ فَعَفَوْنا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 183
عَنْ ذلِكَ
الاتخاذ حين تابوا ، وفي هذا على ما قيل : استدعاء لهم إلى التوراة كأنه قيل : إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم.
وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أي تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم ، وهذا على ما قيل : وإن كان قبل العفو فإن الأمر بالقتل كان قبل التوبة لأن قبول القتل كان توبة لهم ، لكن الواو لا تقتضي الترتيب ، واستظهر أن لا يجعل التسلط ذلك التسلط بل تسلطا بعد العفو حيث انقادوا له ولم يتمكنوا بعد ذلك من مخالفته وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ وهو ما روي عن قتادة جبل كانوا في أصله فرفعه اللّه تعالى فجعله فوقهم كأنه ظلة ، وكان كمعسكرهم قدر فرسخ في فرسخ وليس هو - على ما في البحر - الجبل المعروف بطور سيناء ، والظرف متعلق - برفعنا - وجوز أن يكون حالا من الطور أي رفعنا الطور كائنا فوقهم بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب ميثاقهم ليعطوه - على ما روي - أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع عليهم فقبلوها ، أو ليخافوا فلا ينقضوا الميثاق - على ما روي - أنهم هموا بنقضه فرفع عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض ، قيل : وهو الأنسب بقوله تعالى : وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الأحزاب : 7] ، وزعم الجبائي أن المراد بنقض ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة فنقضوه بعبادة العجل ، وفيه أن التوراة إنما نزلت بعد عبادتهم العجل كما مر آنفا فلا يتأتى هذا ، وقال أبو مسلم : إنما رفع اللّه تعالى الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس جزاء لعهدهم وكرامة لهم ، ولا يخفى أن هذا خرق لإجماع المفسرين ، وليس له مستند أصلا.
وَقُلْنا لَهُمُ على لسان يوشع عليه السلام بعد مضي زمان التيه ادْخُلُوا الْبابَ قال قتادة فيما رواه ابن المنذر وغيره عنه : كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس ، وقيل : هو إيلياء ، وقيل : أريحا ، وقيل : هو اسم قرية ، أو قُلْنا لَهُمُ على لسان موسى عليه السلام والطور مظل عليهم ادْخُلُوا الْبابَ المذكور إذا خرجتم من التيه ، أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها لأنهم لم يخرجوا من التيه في حياته عليه السلام ، والظاهر عدم القيد سُجَّداً متطامنين خاضعين ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ركعا ، وقيل : ساجدين على جباهكم شكرا للّه تعالى وَقُلْنا لَهُمُ على لسان داود عليه السلام لا تَعْدُوا أي لا تتجاوزوا ما أبيح لكم أو لا تظلموا باصطياد الحيتان فِي السَّبْتِ ويحتمل - كما قال القاضي بيض اللّه تعالى غرة أحواله - أن يراد على لسان موسى عليه السلام حين ظلل الجبل عليهم فإنه شرع السبت لكن كان الاعتداء فيه ، والمسخ في زمن داود عليه السلام ، وقرأ ورش عن نافع لا تَعْدُوا بفتح العين وتشديد الدال ، وروي عن قالون تارة سكون العين سكونا محضا ، وتارة إخفاء فتحة العين ، فأما الأول فأصلها - تعتدوا - لقوله تعالى : اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [البقرة : 65] فإنه يدل على أنه من الاعتداء وهو افتعال من العدوان.
فأريد إدغام تائه في الدال فنقلت حركتها إلى العين وقلبت دالا وأدغمت ، وأما السكون المحض فشيء لا يراه النحويون لأنه جمع بين ساكنين على غير حدّهما ، وأما الإخفاء والاختلاس فهو أخف من ذلك لما أنه قريب من الإتيان بحركة ما ، وقرأ الأعمش «تعتدوا» على الأصل ، وأصل تَعْدُوا في القراءة المشهورة - تعدووا - بواوين الأولى واو الكلمة والثانية ضمير الفاعل فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فحذفت فالتقى ساكنان فحذف الأول - وهو الواو الأولى - وبقي ضمير الفاعل وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا وثيقا مؤكدا بأن يأتمروا بأوامر اللّه تعالى وينتهوا عن مناهيه ، قيل : هو قولهم : سمعنا وأطعنا وكونه مِيثاقاً ظاهر ، وكونه غَلِيظاً يؤخذ من التعبير بالماضي ، أو من عطف الإطاعة على السمع بناء على تفسيره بها ، وفي أخذ ذلك مما ذكر خفاء لا يخفى ، وحكي أنهم بعد أن قبلوا ما كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فاللّه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 184
تعالى يعذبهم بأي أنواع العذاب أراد ، فإن صح هذا كانت وكادة الميثاق في غاية الظهور ، وزعم بعضهم أن هذا الميثاق هو الميثاق الذي أخذه اللّه تعالى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتصديق بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والإيمان به ، وهو المذكور في قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ [آل عمران : 81] الآية ، وكونه غَلِيظاً باعتبار أخذه من كل نبي نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأخذ كل واحد واحد له من أمته فهو ميثاق مؤكد متكرر ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر الذي يقتضيه السياق فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ في الكلام مقدر والجار والمجرور متعلق بمقدر أيضا ، والباء للسببية وما مزيد لتوكيدها ، والإشارة إلى أنها سببية قوية ، وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده التقديم على العامل إن التزم هنا ، وجوز أن تكون - ما - نكرة تامة ، ويكون نَقْضِهِمْ بدلا منهما أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم ، وإن شئت أخرت العامل.
واختار أبو حيان عليه الرحمة تقدير لعناهم مؤخرا لوروده مصرحا به كذلك في قوله تعالى : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [المائدة : 13] ، وجوز غير واحد تعلق الجار - بحرمنا - الآتي على أن قوله تعالى : فَبِظُلْمٍ بدل من قوله سبحانه : فَبِما نَقْضِهِمْ ، وإليه ذهب الزجاج ، وتعقبه في البحر بأن فيه بعدا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ، ولأن المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم ، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا بتأويل بعيد ، وبيان ذلك أن قولهم - على مريم بهتانا عظيما - وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم ، واستحسنه السفاقسي ، ثم قال : وقد يتكلف لحله بأن دوام التحريم في كل زمن كابتدائه ، وفيه بحث ، وجعل العلامة الثاني الفاء في فَبِظُلْمٍ على هذا التقدير تكرارا للفاء في فَبِما نَقْضِهِمْ عطفا على أخذنا منهم ، أو جزاء شرط مقدر ، واستبعده أيضا من وجهين : لفظي ومعنوي ، وبين الأول بطول الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف ، أو الجزاء مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط ، والثاني بدلالته على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة ومترتب عليه ، ثم قال : ولو جعلت الفاء للعطف على فَبِما نَقْضِهِمْ كما في قولك : بزيد وبحسنه ، أو فبحسنه أو ثم حسنه افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلا ، وجوز أبو البقاء وغيره التعلق بمحذوف دل عليه قوله تعالى : بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ورد بأن ذلك لا يصلح مفسرا ولا قرينة للمحذوف ، أما الأول فلتعلقه بكلام آخر لأنه رد وإنكار لقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ ، وأما الثاني فلأنه استطراد يتم الكلام دونه وكونه قرينة لما هو عمدة في الكلام يوجب أن لا يتم دونه.
والحاصل أنه لا بد للقرينة من التعلق المعنوي بسابقتها حتى تصلح لذلك ، ومنه يعلم أنه لا مورد للنظر بأن الطبعين متوافقان في العروض ، أحدهما بالكفر ، والآخر بالنقض ، وقيل : هو متعلق بلا يؤمنون ، والفاء زائدة ، وقيل : بما دل عليه ولا يخفى ردّ ذلك وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ أي حججه الدالة على صدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام والقرآن ، أو ما في كتابهم لتحريفه وإنكاره وعدم العمل به.
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ كزكريا ويحيى عليهما السلام وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع غلاف بمعنى الظرف ، وأصله غلف بضمتين فخفف ، أي أوعية للعلم فنحن مستغنون بما فيها عن غيره ، قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وعطاء ، وقال الكلبي : يعنون أن قلوبنا بحيث لا يصل إليها شيء إلا وعته ولو كان في حديثك شيء لوعته أيضا ، ويجوز أن يكون جمع أغلف أي هي مغشاة بأغشية خلقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيكون كقوله تعالى : وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت : 5].
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ كلام معترض بين المعطوفين جيء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 185
زعمهم الفاسد ، أي ليس الأمر كما زعمتم من أنها أوعية العلم فإنها مطبوع عليها محجوبة من العلم لم يصل إليها شيء منه كالبيت المقفل المختوم عليه ، والباء للسببية ، وجوز أن تكون للآلة ، ويجوز أن يكون المعنى ليس عدم وصول الحق إلى قلوبكم لكونها في أكنة وحجب خلقية كما زعمتم بل لأن اللّه تعالى ختم عليها بسبب كفركم الكسبي ، وهذا الطبع بمعنى الخذلان والمنع من التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ عند الكثير وطبع حقيقي عند البعض ، وأيد بما
أخرجه البزار عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترأ على اللّه تعالى بعث اللّه تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا» وأخرجه البيهقي أيضا في الشعب
إلا أنه ضعفه.
فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا فهو كالتصديق بنبوّة موسى عليه السلام وهو غير مفيد لأن الكفر بالبعض كفر بالكل كما مر ، أو صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا ، أو نصب على الاستثناء من ضمير فَلا يُؤْمِنُونَ أي إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد اللّه بن سلام وأضرابه ، ورده السمين بأن الضمير عائد على المطبوع على قلوبهم ، ومن طبع على قلبه بالكفر لا يقع منه إيمان ، وأجيب بأن المراد بما مر الإسناد إلى الكل ما هو للبعض باعتبار الأكثر.
وقال عصام الملة : كما يجب استثناء القليل من عدم الإيمان المتفرع على الطبع على قلوبهم يجب استثناء قليل من القلوب من قلوبهم ، فكأن المراد بل طبع اللّه تعالى على أكثرها فليفهم وَبِكُفْرِهِمْ عطف على - بكفرهم - الذي قبله ، ولا يتوهم أنه من عطف الشيء على نفسه ولا فائدة فيه لأن المراد بالكفر المعطوف الكفر بعيسى عليه السلام والمراد بالكفر المعطوف عليه ، إما الكفر المطلق أو الكفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم لاقترانهبقوله تعالى : قُلُوبُنا غُلْفٌ ، وقد حكى اللّه عنهم هذه المقالة في مواجهتهم له عليه الصلاة والسلام في مواضع ، ففي العطف إيذان بصلاحية كل من الكفرين للسببية.
وقد يعتبر في جانب المعطوف المجموع ، ومغايرته للمفرد المعطوف عليه ظاهرة ، أو عطف على فَبِما نَقْضِهِمْ ويجوز اعتبار عطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله ، ولا يتوهم المحذور ، وإن قلنا باتحاد الكفر أيضا لمغايرة المجموع للمجموع وإن لم يغاير بعض أجزائه بعضا ، وقد يقال بمغايرة الكفر في المواضع الثلاثة بحمله في الأخيرين على ما أشرنا إليه ، وفي الأول على الكفر بموسى عليه السلام لاقترانه بنقض الميثاق ، وتقدم حديث العدو في السبت وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً لا يقادر قدره حيث نسبوها - وحاشاها - إلى ما هي عنه في نفسها بألف ألف منزل ، وتمادوا على ذلك غير مكترثين بقيام المعجزة بالبراءة ، والبهتان الكذب الذي يتحير من شدته وعظمه ، ونصبه على أنه مفعول به - لقولهم - وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا بهتانا ، وقيل :
هو مصدر في موضع الحال أي مباهتين وَقَوْلِهِمْ على سبيل التبجح.
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ذكروه بعنوان الرسالة تهكما واستهزاء كما في قوله تعالى حكاية عن الكفار : يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر : 6] إلخ ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم بناء على قوله عليه الصلاة والسلام وإن لم يعتقدوه ، وقيل : إنهم وصفوه بغير ذلك من صفات الذم فغير في الحكاية ، فيكون من الحكاية لا من المحكي ، وقيل : هو استئناف منه مدحا له عليه الصلاة والسلام ورفعا لمحله وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم في تبجحهم وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ حال أو اعتراض وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - أن رهطا من اليهود سبوه عليه السلام وأمه فدعا عليهم فمسخوا قردة وخنازير فبلغ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 186
ذلك يهوذا رأس اليهود فخاف فجمع اليهود فاتفقوا على قتله فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبريل عليه السلام بيتا ورفعه منه إلى السماء ولم يشعروا بذلك فدخل عليه طيطانوس ليقتله فلم يجده وأبطأ عليهم وألقى اللّه تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فلما خرج قتلوه وصلبوه.
وقال وهب بن منبه في خبر طويل رواه عنه ابن المنذر : «أتى عيسى عليه السلام ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صيرهم اللّه تعالى كلهم على صورة عيسى عليه السلام فقالوا لهم :
سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى عليه السلام أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه : من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟
فقال رجل منهم : أنا فخرج إليهم فقال : أنا عيسى فقتلوه وصلبوه ورفع اللّه تعالى عيسى عليه السلام» ،
وبه قال قتادة والسدي ومجاهد وابن إسحاق ، وإن اختلفوا في عدد الحواريين ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه عليه السلام ألقي على جميعهم بل قالوا : ألقي شبهه على واحد ورفع عيسى عليه السلام من بينهم.
ورجح الطبري قول وهب ، وقال : إنه الأشبه ، وقال أبو علي الجبائي : إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال ولم يمكنوا أحدا من الدنو منه فتغيرت حليته ، وقالوا : إنا قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامهم لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي به عيسى عليه السلام فلما دخلوه ولم يجدوه فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود ففعلوا ما فعلوا ، وقيل : كان رجل من الحواريين ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه وأخذ على ذلك ثلاثين درهما فدخل بيت عيسى عليه السلام فرفع عليه السلام وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام ، وقيل : غير ذلك ، وشُبِّهَ مسند إلى الجار والمجرور ، والمراد وقع لهم تشبيه بين عيسى عليه السلام ومن صلب ، أو في الأمر - على قول الجبائي - أو هو مسند إلى ضمير المقتول الذي دل عليه إنا قتلنا أي شُبِّهَ لَهُمْ من قتلوه بعيسى عليه السلام ، أو الضمير للأمر وشُبِّهَ من الشبهة أي التبس عليهم الأمر بناء على ذلك القول ، وليس المسند إليه ضمير المسيح عليه الصلاة والسلام لأنه مشبه به لا مشبه وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعضهم : إنه كان كاذبا فقتلناه حقا ، وتردد آخرون فقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟! وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا ، وقال من سمع منه - إن اللّه تعالى يرفعني إلى السماء - إنه رفع إلى السماء ، وقالت النصارى الذين يدعون ربوبيته عليه السلام : صلب الناسوت وصعد اللاهوت ، ولهذا لا يعدون القتل نقيصة حيث لم يضيفوه إلى اللاهوت ويرد هؤلاء أن ذلك يمتنع عنه اليعقوبية القائلين : إن المسيح قد صار بالاتحاد طبيعة واحدة إذ الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميز عن لاهوت والشيء الواحد لا يقال : مات ولم يمت ، وأهين ولم يهن.
وأما الروم القائلون : بأن المسيح بعد الاتحاد باق على طبيعتين ، فيقال لهم : فهل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل؟ فإن قالوا : فارقه فقد أبطلوا دينهم ، فلم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلا بالاتحاد ، وإن قالوا : لم يفارقه فقد التزموا ما ورد على اليعقوبية وهو قتل اللاهوت مع الناسوت ، وإن فسروا الاتحاد بالتدرع وهو أن الإله جعله مسكنا وبيتا ثم فارقه عند ورود ما ورد على الناسوت أبطلوا إلهيته في تلك الحالة ، وقلنا لهم : أليس قد أهين؟ وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف اللاهوت لمسكنه أن تناله هذه النقائص ، فإن كان قادرا على نفيها فقد أساء مجاورته ورضي بنقيصته وذلك عائد بالنقص عليه في نفسه ، وإن لم يكن قادرا فذلك أبعد له عن عز الربوبية ، وهؤلاء ينكرون إلقاء الشبه ، ويقولون : لا يجوز ذلك لأنه إضلال ، ورده أظهر من أن يخفى ، ويكفي في إثباته أنه لو لم يكن ثابتا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 187
لزم تكذيب المسيح ، وإبطال نبوته بل وسائر النبوات على أن قولهم في الفصل : إن المصلوب قال : إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني ، وهو ينافي الرضا بمرّ القضا ويناقض التسليم لأحكام الحكيم ، وأنه شكا العطش وطلب الماء والإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وليلة إلى غير ذلك مما لهم فيه إن صح مما ينادي على أن المصلوب هو الشبه كما لا يخفى.
فالمراد من الموصول ما يعم اليهود والنصارى جميعا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي لفي تردد ، وأصل - الشك - أن يستعمل في تساوي الطرفين وقد يستعمل في لازم معناه ، وهو التردد مطلقا وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا ولذا أكده بنفي العلم الشامل لذلك أيضا بقوله سبحانه : ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ والاستثناء منقطع ، أي لكنهم يتبعون الظن.
وجوز أن يفسر الشك بالجهل ، والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره فالاستثناء حينئذ متصل ، وإليه ذهب ابن عطية إلا أنه خلاف المشهور ، وما قيل : إن اتباع الظن ليس من العلم قطعا فلا يتصور اتصاله فمدفوع بأن من قال به جعله بمعنى الظن المتبع وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً الضمير لعيسى عليه السلام كما هو الظاهر أي ما قتلوه قتلا يقينا ، أو متيقنين ، ولا يرد أن نفي القتل المتيقن يقتضي ثبوت القتل المشكوك لأنه لنفي القيد ولا مانع من أنه قتل في ظنهم فإنه يقتضي أنه ليس في نفس الأمر كذلك فلا حاجة إلى التزام جعل يقينا مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، والتقدير تيقنوا ذلك يقينا ، وقيل : هو راجع إلى العلم وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة أي وما قتلوا العلم يَقِيناً من قولهم : قتلت العلم والرأي ، وقتلت كذا علما إذا تبالغ علمك فيه ، وهو مجاز كما في الأساس ، والمعنى ما علموه يقينا ، وقيل : الضمير للظن أي ما قطعوا الظن يَقِيناً ونقل ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما والسدي ، وحكى ابن الأنباري أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وأن يَقِيناً متعلق بقوله تعالى : بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أي بل رفعه سبحانه إليه يقينا ، ورده في البحر بأنه قد نص الخليل على أنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها ، والكلام ردّ وإنكار لقتله وإثبات لرفعه عليه الصلاة والسلام ، وفيه تقدير مضاف عند أبي حيان أي إلى سمائه ، قال : وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث المعراج ، وهو هنالك مقيم حتى ينزل إلى الأرض يقتل الدجال ويملؤها عدلا كما ملئت جورا ثم يحيا فيها أربعين سنة أو تمامها من سنّ رفعه ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث وثلاثين سنة ويموت كما تموت البشر ويدفن في حجرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، أو في بيت المقدس ، وقال قتادة : رفع اللّه تعالى عيسى عليه السلام إليه فكساه الريش وألبسه النور
وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا ، وهذا الرفع على المختار كان قبل صلب الشبه ، وفي إنجيل لوقا ما يؤيده وأما رؤية بعض الحواريين له عليه السلام بعد الصلب فهو من باب تطور الروح ، فإن للقدسيين قوة التطور في هذا العالم وإن رفعت أرواحهم إلى المحل الأسنى ، وقد وقع التطور لكثير من أولياء هذه الأمة ، وحكاياتهم في ذلك يضيق عنها نطاق الحصر وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغالب فيما يرده حَكِيماً في جميع أفعاله فيدخل فيه تدبيراته سبحانه في أمر عيسى عليه السلام وإلقاء الشبه على من ألقاه دخولا أوليا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود خاصة كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أو هم والنصارى كما ذهب إليه كثير من المفسرين وَإِنْ نافية بمعنى ما ، وفي الجار والمجرور وجهان : أحدهما أنه صفة لمبتدأ محذوف ، وقوله تعالى : إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ جملة قسمية ، والقسم مع جوابه خبر المبتدأ ولا يرد عليه أن القسم إنشاء لأن المقصود بالخبر جوابه وهو خبر مؤكد بالقسم ، ولا ينافيه كون جواب القسم لا محل له لأن ذلك من حيث كونه جوابا فلا يمتنع كونه له محل باعتبار آخر لو سلم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 188
أن الخبر ليس هو المجموع ، والتقدير وما أحد من أهل الكتاب إلا واللّه ليؤمنن به ، والثاني أنه متعلق بمحذوف وقع خبرا لذلك المبتدأ ، وجملة القسم صفة له لا خبر ، والتقدير وإن أحد إلا ليؤمنن به كائن من أهل الكتاب ومعناه كل رجل يؤمن به قبل موته من أهل الكتاب ، وهو كلام مفيد ، فالاعتراض على هذا الوجه - بأنه لا ينتظم من أحد والجار والمجرور إسناد لأنه لا يفيد - لا يفيد لحصول الفائدة بلا ريب ، نعم المعنى على الوجه الأول كل رجل من أهل الكتاب يؤمن به قبل موته ، والظاهر أنه المقصود ، وأنه أتم فائدة ، والاستثناء مفرغ من أعم الأوصاف ، وأهل الكوفة يقدرون موصولا بعد إلا ، وأهل البصرة يمنعون حذف الموصول وإبقاء صلته ، والضمير الثاني راجع للمبتدأ المحذوف أعني أحد والأول لعيسى عليه السلام فمفاد الآية أن كل يهودي ونصراني يؤمن بعيسى عليه السلام قبل أن تزهق روحه
بأنه عبد اللّه تعالى ورسوله ، ولا ينفعه إيمانه حينئذ لأن ذلك الوقت لكونه ملحقا بالبرزخ لما أنه ينكشف عنده لكل الحق ينقطع فيه التكليف ، ويؤيد ذلك أنه قرأ أبي - ليؤمنن به قبل موتهم - بضم النون وعود ضمير الجمع لأحد ظاهر لكونه في معنى الجمع ، وعوده لعيسى عليه السلام غير ظاهر.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه فسر الآية كذلك فقيل له : أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال : يتكلم به في الهواء ، فقيل : أرأيت إن ضرب عنقه؟ قال : يتلجلج بها لسانه.
وأخرج ابن المنذر أيضا عن شهر بن حوشب قال : قال لي الحجاج : يا شهر آية من كتاب اللّه تعالى ما قرأتها إلا اعترض في نفسي منها شيء قال اللّه تعالى : وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وإني أوتى بالأسارى فأضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئا فقلت : رفعت إليك على غير وجهها إن النصراني إذا خرجت روحه - أي إذا قرب خروجها كما تدل عليه رواية أخرى عنه - ضربته الملائكة من قبله ومن دبره ، وقالوا : أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه اللّه تعالى ، وأنه ابن اللّه سبحانه ، وأنه ثالث ثلاثة عبد اللّه وروحه وكلمته ، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه ، وأن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ودبره ، وقالوا : أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته عبد اللّه وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان ، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم ، فقال :
من أين أخذتها؟ فقلت : من محمد بن علي ، قال : لقد أخذتها من معدنها ، قال شهر : وايم اللّه تعالى ما حدثنيه إلا أم سلمة ، ولكني أحببت أن أغيظه ، والإخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض إلى المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يضطروا إليه مع انتفاء جدواه ، وقيل : الضميران لعيسى عليه السلام ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أيضا وأبي مالك والحسن وقتادة وابن زيد ، واختاره الطبراني ، والمعنى أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام إلا ليؤمنن به قبل أن يموت وتكون الأديان كلها دينا واحدا ، وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل. ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما»
قال : وتلا أبو هريرة رضي اللّه تعالى عنه وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وقيل : الضمير الأول للّه تعالى ولا يخفى بعده ، وأبعد من ذلك أنه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وروي هذا عن عكرمة ، ويضعفه أنه لم يجر له عليه الصلاة والسلام ذكر هنا ، ولا ضرورة توجب رد الكناية إليه ، لا أنه - كما زعم الطبري - لو كان صحيحا لما جاز إجراء أحكام الكفار على أهل الكتاب بعد موتهم لأن ذلك الإيمان إنما هو في حال زوال التكليف فلا يعتد به وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ أي عيسى عليه السلام عَلَيْهِمْ أي أهل الكتاب شَهِيداً فيشهد على اليهود بتكذيبهم إياه وعلى النصارى بقولهم فيه : إنه ابن اللّه تعالى ، والظرف متعلق - بشهيدا - وتقديمه يدل على جواز تقديم خبر كان مطلقا ، أو إذا كان ظرفا أو مجرورا لأن

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 189
المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقديم عامله ، وجوز أبو البقاء كون العامل فيه يكون.
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي تابوا من عبادة العجل ، والتعبير عنهم بهذا العنوان إيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد تلك التوبة الهائلة إثر بيان عظمه بالتنوين التفخيمي أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الأشياء والنظائر صادر عنهم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ولمن قبلهم لا لشيء غيره كما زعموا ، فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم ، ومع ذلك كانوا يفترون على اللّه تعالى الكذب ويقولون : لسنا بأول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهم الصلاة والسلام حتى انتهى الأمر إلينا فكذبهم اللّه تعالى في مواقع كثيرة وبكتهم بقوله سبحانه : كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمران : 93] الآية ، وقد تقدم الكلام فيها ، وذهب بعض المفسرين أن المحرم عليهم ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في الأنعام مفصلا.
واستشكل بأن التحريم كان في التوراة ولم يكن حينئذ كفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وبعيسى عليه السلام ولا ما أشار إليه قوله تعالى : وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي ناسا كثيرا ، أو صدا ، أو زمانا كثيرا وقيل في جوابه : إن المراد استمرار التحريم فتدبر ولا تغفل ، وهذا معطوف على الظلم وجعله ، وكذا ما عطف عليه في الكشاف بيانا له ، وهو - كما قال بعض المحققين - لدفع ما يقال : إن العطف على المعمول المتقدم ينافي الحصر ، ومن جعل الظلم بمعناه وجعل بِصَدِّهِمْ متعلقا بمحذوف فلا إشكال عليه ، ومن هذا يعلم تخصيص ما ذكره أهل المعاني من أنه مناف للحصر بما إذا لم يكن الثاني بيانا للأول كما إذا قلت : بذنب ضربت زيدا وبسوء أدبه ، فإن المراد فيه لا بغير ذنب ، وكذا خصصوا ذلك بما إذا لم يكن الحصر مستفادا من غير التقديم ، وأعيدت الباء هنا ولم تعد في قوله تعالى :
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ لأنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولا للمعطوف عليه ، وحيث فصل بمعموله لم تعد ، وجملة وَقَدْ نُهُوا حالية ، وفي الآية دلالة على أن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا ، وأن النهي يدل على حرمة المنهي عنه ، وإلا لما توعد سبحانه على مخالفته وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ أي للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم - كعبد اللّه بن سلام وأضرابه - عَذاباً أَلِيماً سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم ، وذكر في البحر أن التحريم كان عاما للظالم وغيره ، وأنه من باب وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال :
25] دون العذاب ، ولذا قال سبحانه : لِلْكافِرِينَ دون - لهم - وإلى ذلك ذهب الجبائي أيضا فتدبر لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ استدراك من قوله سبحانه : وَأَعْتَدْنا إلخ ، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا ، ومِنْهُمْ في موضع الحال أي لكن الثابتون المتقنون منهم في العلم المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة ، والمراد بهم عبد اللّه بن سلام وأسيد وثعلبة وأضرابهم ، وفي المذكورين نزلت الآية كما أخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وَالْمُؤْمِنُونَ أي منهم ، وإليه يشير كلام قتادة ، وقد وصفوا بالإيمان بعد ما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المبني على المغايرة بين المتعاطفين تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما مر ، وقوله سبحانه : يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب على الأنبياء والرسل حال من - المؤمنون - مبينة لكيفية إيمانهم ، وقيل : اعتراض مؤكد لما قبله ، وقوله تعالى : وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال سيبويه وسائر البصريين : نصب على المدح ، وطعن فيه الكسائي بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام ، وهنا ليس كذلك لأن الخبر سيأتي ، وأجيب بأنه لا دليل على أنه لا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 190
يجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره ، وحكى ابن عطية عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف لأن القطع لا يكون في العطف وإنما يكون في النعوت ، ومن ادعى أن هذا من باب القطع في العطف تمسك بما أنشده سيبويه للقطع مع حرف العطف من قوله :
ويأوي إلى نسوة عطل وشعثا مراضيع مثل السعالي
وقال الكسائي : هو مجرور بالعطف على بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ على أن المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قيل : وليس المراد بإقامة الصلاة على هذا أداؤها بل إظهارها بين الناس وتشريعها ليكون وصفا خاصا ، وقيل : المراد بالمقيمين الملائكة لقوله تعالى : يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء : 20] ، وقيل : المسلمون بتقدير مضاف أي وبدين المقيمين ، وقال قوم : إنه معطوف على ضمير مِنْهُمْ ، وقيل ضمير إِلَيْكَ ، وقيل : ضمير قَبْلِكَ والبصريون لا يجيزون هذه الأوجه الثلاثة لما فيها من العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، وزعم بعض المتأخرين أن الأشبه نصبه على التوهم لكون السابق مقام - لكن - المثقلة وضع موضعها لكِنِ المخففة ، ولا يخفى ما فيه ، وبالجملة لا يلتفت إلى من زعم أن هذا من لحن القرآن ، وأن الصواب والمقيمون بالواو كما في مصحف عبد اللّه ، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي إذ لا كلام في نقل النظم تواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا ، وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتى به إلى عثمان رضي اللّه تعالى عنه فقال : قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا ، فقد قال السخاوي : إنه ضعيف ، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع فإن عثمان رضي اللّه تعالى عنه جعل للناس إماما يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات ، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع وهم هم كيف يقيمه غيرهم؟! وتأول قوم اللحن في كلامه على تقدير صحته عنه بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله :
منطق رائع وتلحن أحيا نا وخير الكلام ما كان لحنا
أي المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه ، وكذا زيادة بعض الحروف وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر.
ثم الظاهر أن المقيمين على قراءة الرفع معطوف على سابقه وينزل أيضا التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي ، والعطف على ضمير يُؤْمِنُونَ ليس بشيء وكذا الحال في قوله تعالى :
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن المراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب لا يعترضهم شك ولا تزلزلهم شبهة إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان وأن من عداهم إنما بقوا مصرين لعدم رسوخهم فيه ، بل هم كريشة في بيداء الضلال تقلبهم زعازع الشكوك والأوهام ، ثم بكونهم مؤمنين بجميع ما أنزل من الكتاب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم بكونهم عاملين بما فيها من الأحكام ، واكتفى من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية ، ولما أن في إقامة الصلاة على وجهها انتصابا بين يدي الحق جل جلاله ، وانقطاعا عن السوي ، وتوجها إلى المولى كسا المقيمين حلة النصب ليهون عليهم النصب وقطعهم عن التبعية ، فيا ما أحيلى قطع يشير إلى الاتصال بأعلى الرتب ، ثم وصفهم بكونهم بالمبتدأ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه ، وإحاطتهم به من طرفيه ، وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا مؤمنين بواحد منهما حقيقة لأنهم قد مزجوا الشهد سما وغدوا عن اتباع الحق الصرف عميا وصما أُولئِكَ إشارة إلى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 191
الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة الشأن المحكمة البنيان ، وهو مبتدأ وقوله تعالى : سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً خبره ، والجملة خبر المبتدأ الذي هو الراسخون ، والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا ، وتنكير الأجر للتفخيم كما مر غير مرة ، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ، ووعد الآخرون بالأجر العظيم ، وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ الأول جملة يُؤْمِنُونَ وحمل المؤمنين على أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ممن عدا أهل الكتاب والمناسبة عليه غير تامة ، وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى : يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النساء : 153] الآية كأنه قيل : لكن هؤلاء لا يسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من السماء لأنهم قد علموا صدق قولك فيما قرؤوا من الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووجوب اتباعك عليهم فلا حاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى إذ قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم ما يكفيهم عن ذلك ، وروي هذا عن قتادة وتجاوب طرفي الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور. وقرأ حمزة «سيؤتيهم» بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى : الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كتابا من السماء ، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين لا ريب في نبوّتهم ، وقيل : هو تعليل لقوله تعالى : الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال سكين وعدي بن زيد : يا محمد ما نعلم اللّه تعالى أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليه السلام فأنزل اللّه تعالى هذه الآية»
والكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح عليه السلام ، أو حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأي سيبويه أي إنا أوحينا الإيحاء مشبها بإيحائنا إلخ ، وما في الوجهين مصدرية.
وجوّز أبو البقاء أن تكون موصولة فيكون الكاف مفعولا به أي أوحينا إليك مثل الذي أوحيناه إلى نوح من التوحيد وغيره وليس بالمرضي : ومِنْ بعده متعلق - بأوحينا - ولم يجوّزوا أن يكون حالا من النبيين لأن ظروف الزمان لا تكون أحوالا للجثث ، وبدأ سبحانه بنوح عليه السلام تهديدا لهم لأنه أول نبي عوقب قومه ، وقيل : لأنه أول من شرع اللّه تعالى على لسانه الشرائع والأحكام ، وتعقب بالمنع ، وقيل : لمشابهته بنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم في عموم الدعوة لجميع أهل الأرض ، ولا يخلو عن نظر لأن عموم دعوته عليه السلام اتفاقي لا قصدي ، وعموم الفرق على القول به ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيقه ليس قطعي الدلالة على ذلك كما لا يخفى.
وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ عطف على أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ داخل معه في حكم التشبيه أي كما أوحينا إلى إبراهيم وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب عليه السلام في المشهور ، وقال غير واحد :
إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل ، وقد بعث منهم عدة رسل ، فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم كما تقول : أرسلت إلى بني تميم ، وتريد أرسلت إلى وجوههم ، ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء بل الذي صح عندي - وألف فيه الجلال السيوطي رسالة - خلافه وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ ذكروا مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم على ما هو المعروف في ذكر الخاص بعد العام في مثل هذا المقام ، وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي ، وبدأ بذكر إبراهيم بعد التكرير لمزيد شرفه ولأنه الأب الثالث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما نص عليه الأجهوري وغيره ، وقدم عيسى عليه السلام على من بعده تحقيقا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 192
لنبوته وقطعا لما رآه اليهود فيه ، وقيل : ليكون الابتداء بواحد من أولي العزم بعد تغير صفة المتعاطفات إفرادا وجمعا وكل هذه الأسماء - على ما ذكره أبو البقاء - أعجمية إلا الأسباط ، وفي ذلك خلاف معروف ، وفي يُونُسَ لغات أفصحها ضم النون من غير همز ، ويجوز فتحها وكسرها مع الهمز وتركه وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً عطف على أوحينا داخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء ، وكما آتينا داود زبورا - وإيثاره على أوحينا إلى داود - لتحقق المماثلة في أمر خاص ، وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها في مطلق الإيحاء والزبور بفتح الزاي عند الجمهور وهو فعول بمعنى مفعول - كالحلوب والركوب - كما نص عليه أبو البقاء.
وقرأ حمزة وخلف زَبُوراً بضم الزاي حيث وقع ، وهو جمع زبر بكسر فسكون بمعنى مزبور أي مكتوب ، أو زبر بالفتح والسكون كفلس وفلوس ، وقيل : إنه مصدر كالقعود والجلوس ، وقيل : إنه جمع زبور على حذف الزوائد ، وعلى العلات جعل اسما للكتاب المنزل على داود عليه السلام ، وكان إنزاله عليه عليه السلام منجما وبذلك يحصل الإلزام ، وكان فيه - كما قال القرطبي - مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام ، وإنما هي حكم ومواعظ والتحميد والتمجيد والثناء على اللّه تعالى شأنه وَرُسُلًا نصب بمضمر أي أرسلنا رسلا والقرينة عليه قوله سبحانه :
أَوْحَيْنا السابق لاستلزامه الإرسال ، وهو معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه ، وقيل : القرينة قوله تعالى : قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ لا أنه منصوب - بقصصنا - بحذف مضاف أي قصصنا أخبار رسل ، ولا أنه منصوب بنزع الخافض أي كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل - كما قيل - لخلوه عما في الوجه الأول من تحقيق المماثلة بين شأنه صلّى اللّه عليه وسلّم وبين شؤون من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم السلام في مطلق الإيحاء ، ثم في إيتاء الكتاب ، ثم في الإرسال ، فإن قوله سبحانه : إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ منتظم لمعنى آتَيْناكَ وأَرْسَلْناكَ حتما فكأنه قيل : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى فلان وفلان ، وآتيناك مثل ما آتينا فلانا ، وأرسلناك مثل ما أرسلنا الرسل الذي قصصناهم وغيرهم ولا تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء والإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ومعنى قصصهم عليه عليه الصلاة والسلام حكاية إخبارهم له وتعريف شأنهم وأمورهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه السورة ، أو اليوم ، قيل : قصصهم عليه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة في سورة الأنعام وغيرها ، وقال بعضهم : قصهم سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي في غير القرآن ثم قصهم عليهم بعد في القرآن وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أي من قبل فلا تنافي الآية ما ورد في الخبر من أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وعن كعب أنهم ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لأن نفي قصهم من قبل لا يستلزم نفي قصهم مطلقا فإن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام ، فيمكن أن يكون قصهم عليه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد فعلمهم ، فأخبر بما أخبر على أن القبلية تفهم من الكلام ولو لم تكن في القابل لأن لَمْ في المشهور إذا دخلت على المضارع تقلب معناه للمضي على أن القص ذكر الأخبار ، ولا يلزم من نفي ذكر
أخبارهم له صلّى اللّه عليه وسلّم نفي ذكر عددهم مجردا من ذكر الأخبار والقصص ، فيمكن أن يقال : لم يذكر سبحانه له صلّى اللّه عليه وسلّم أخبارهم أصلا لكن ذكر جل شأنه له عليه الصلاة والسلام أنهم كذا رجلا فاندفع ما توهمه بعض المعاصرين من أن الآية نص في عدم علمه «وحاشاه عليه الصلاة والسلام» عدة المرسلين عليهم الصلاة والسلام فيأخذ بها ويرد الحديث وكأن الذي أوقعه في الوهم كلام بعض المحققين. والأولى أن لا يقتصر على عدد الآية ، فأخطأ في الفهم ومات في ربقة التقليد نسأل اللّه تعالى العافية.
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى برفع الجلالة ونصب موسى ، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرآ على القلب.
تَكْلِيماً مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز على ما ذكره غير واحد ، ونظر فيه الشهاب بأنه مؤكد للفعل

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 193
فيرفع المجاز عنه ، وأما رفعه المجاز عن الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة كما يقال قال الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا ، مع أنه أكد الفعل ، والمراد به معنى مجازي كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان.
بكى الخز من روح وأنكر جلده وعجت عجيجا من جذام المطارف
فأكدت «عجت» مع أنه مجاز لأن الثياب لا تعج وما نقل عن الفراء من أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر. فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام لا يفي بالمقصود إذ نهاية ما فيه رفع المجاز عن الفعل في هذه المادة ، ولا تعرض له لرفع المجاز عن الإسناد فللخصم أن يقول : التكليم حقيقة إلا أن إسناده إلى اللّه تعالى مجاز ولا تقوم الآية حجة عليه إلا بنفي ذلك الاحتمال ، نعم إنها ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة. والجملة إما معطوفة على قوله تعالى : إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ عطف القصة على القصة لا على - آتينا - وما عطف عليه ، وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات ، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي وأعلاها ، وقد خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى عليه السلام ولم يقدح ذلك فيهم أصلا فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور حكمة ذلك.
هذا وقد تقدم لك كيفية سماع موسى عليه السلام لكلام اللّه عز وجل ، وقد وقع التكليم أيضا لنبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في الإسراء مع زيادة رفعة ، بل ما من معجزة لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم مثلها مع زيادة شرف له شرفه اللّه تعالى ، بل ما من ذرة نور شعث في العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاته صلّى اللّه عليه وسلّم ، وللّه سبحانه در البوصيري حيث يقول :
وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم
فصلى اللّه تعالى عليه وسلّم تسليما كثيرا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ نصب على المدح ، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال من رُسُلًا الذي قبله ، أو ضميره وهي حال موطئة والمقصود وصفها. وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها ، وجوز أن يكون نصبا على البدلية من رُسُلًا الأول ، وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظا بعيد ، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي مُبَشِّرِينَ من آمن وأطاع بالجنة والثواب وَمُنْذِرِينَ من كفر وعصى بالنار والعقاب لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ أي معذرة يعتذرون بها قائلين لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه : 134] فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزئيات المصالح ، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها. فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل وأن العقل لا يغني عن ذلك ، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار ، فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على اللّه حجة ، وسيأتي ردّ ذلك إن شاء اللّه تعالى مع تحقيق هذا المبحث.
وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حُجَّةٌ مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها ، فلا يبطل قول أهل السنة إنه لا اعتراض لأحد على اللّه تعالى في فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء ، واللام متعلقة - بأرسلنا - المقدر ، أو - بمبشرين ومنذرين - على التنازع ، وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه ، وحُجَّةٌ اسم كان وخبرها لِلنَّاسِ ، وعَلَى اللَّهِ حال من حُجَّةٌ ويجوز أن يكون الخبر عَلَى اللَّهِ ولِلنَّاسِ حال ، ولا يجوز أن

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 194
يتعلق على - بحجة - لأنها مصدر ومعموله لا يتقدم عليه ، ومن جوزه في الظرف جوزه هنا ، وقوله تعالى : بَعْدَ الرُّسُلِ - أي بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم - ظرف لحجة ، وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر كما يخبر به عنها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغالب في أمر يريده.
حَكِيماً في جميع أفعاله ، ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة مسألة المتعنتين ، وقطع الحجة بإرسال الرسل وتنوع الوحي إليهم والإعجاز ، وقيل : عَزِيزاً في عقاب الكفار حَكِيماً في الأعذار بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب اللّه تعالى لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بتخفيف النون ورفع الجلالة.
وقرأ السليمي بتشديد النون ونصب الجلالة ، وهو استدراك عن مفهوم ما قبله كأنهم لما سألوه صلّى اللّه عليه وسلّم إنزال كتاب من السماء وتعنتوا ورد عليهم بقوله تعالى : إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إلخ قيل : إنهم لا يشهدون لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ.
وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فاللّه تعالى يشهد ، وقيل : إنه سبحانه لما شبه الإيحاء إليه صلّى اللّه عليه وسلّم بالإيحاء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوهم ذلك التشبيه مزية الإيحاء إليهم ، فاستدرك عنه بأن للإيحاء إليك مزية شهادة اللّه تعالى بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أي بحقية الذي أنزله إليك وهو القرآن ، فالجار والمجرور متعلق - بيشهد - والباء صلة والمشهود به هو الحقية ، ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة وتعلق بما أنزل تعلق الآلية أي يشهد بنبوتك بسبب ما أنزل إليك لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوتك ، ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد فإن شهادته سبحانه بحقية ما أنزله من القرآن بإظهار المعجز المقصود منه إثبات نبوته صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «دخل جماعة من اليهود على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام لهم : إني واللّه أعلم أنكم تعلمون أني رسول اللّه فقالوا : ما نعلم ذلك فنزلت لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ» وفي رواية ابن جرير عنه «أنه لما نزل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» ، قالوا : ما نشهد لك فنزل لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ»
وقرىء «أنزل» على البناء للمفعول أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ذكر فيه أربعة أوجه : الأول أن يكون المعنى أنزله بعلمه الخاص به الذي لا يعلمه غيره سبحانه ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، واختاره جماعة من المفسرين ، والثاني أن يكون المعنى أَنْزَلَهُ وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك لقيامك فيه بالحق ودعائك الناس إليه ، واختاره الطبرسي ، والثالث أن يكون المعنى أَنْزَلَهُ بما علم من مصالح العباد مشتملا عليه ، والرابع أن يكون المعنى أَنْزَلَهُ وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة ، والعلم على الوجه الأول قيل : بمعنى المعلوم ، والمراد به التأليف والنظم المخصوص وليس من جعل العلم مجازا عن ذلك ولو جعل عليه العلم بمعناه المصدري ، والباء للملابسة ويكون تأليفه بيانا لتلبسه لا للعلم نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل أثره ، ويحتمل على هذا أن تكون الباء للآلية كما يقال : فعله بعلمه إذا كان متقنا وعلى ما ينبغي ، فيكون وصفا للقرآن بكمال الحسن والبلاغة ، وأما على الوجه الثاني والثالث فالعلم بمعناه ، أو هو في الثالث بمعنى المعلوم ، والظرف حال من الفاعل أو المفعول ، ومتعلق العلم مختلف وهو أنك أهل لإنزاله أو مصالح العباد ، وظاهر كلام البعض أنه على الثاني حال من الفاعل ، وعلى الثالث من المفعول ، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مطلقا أي إنزالا متلبسا بعلمه ، وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة على ما نص عليه الزمخشري ، وعلى الوجهين موقع التقرير والبيان للصلة وقيل : إنها في الأوجه الثلاثة كالتفسير - لأنزل إليك - لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص ، وأما على الوجه الرابع فقد ضمن العلم بمعنى الرقيب والحافظ ، والظرف حال من الفاعل ، ويكون أَنْزَلَهُ تكريرا ليعلق به ما علق أو كما قيل ، ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه لأنه لا
مساس له بهذا المقام ، وقيل : إن فيه تعظيما لأمر القرآن بحفظه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 195
من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضا من شياطين الإنس فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضا ، وقرىء نزله وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضا بما شهد اللّه تعالى به لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة ، والجملة عطف على ما قبلها ، وقيل : حال من مفعول أَنْزَلَهُ أي أنزلهوَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ
بصدقه وحقيته ، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه صلّى اللّه عليه وسلّم في دعواه بإتيانهم لإعانته عليه الصلاة والسلام في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر ، وأيّا ما كان - فيشهدون - من الشهادة ، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود للحفظ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما شهد به لك حيث نصب الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ في ذلك على وجه لا يحتاج معه إلى شهادة غيره عز وجل.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي لا يحب أن يهتك العبد ستره إذا صدرت منه هفوة أو اتفقت منه كبوة إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي إلا جهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه فإنه مأذون له بإظهار ما فيه من تلك الملكات وعرضها على أطباء القلوب ليصفوا له دواءها ، وقيل : لا يُحِبُّ اللَّهُ تعالى إفشاء سر الربوبية وإظهار مواهب الألوهية ، أو كشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني ، وفي تسمية تلك الغلبة ظلما خفاء لا يخفى.
وفي ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين حيث بين سبحانه أنه لا يرضى بهتك الستر إلا من المظلوم فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جل جلاله ، وإنما ظلموا أنفسهم كما نطق بذلك الكتاب إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل ، فأنكروا الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعا مباينا للتفصيل ، ومن هنا عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات وتركوا الصلوات وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي الإيمان بالكل جمعا وتفصيلا والكفر بالكل سَبِيلًا أي طريقا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ المحجوبون حقا بذواتهم وصفاتهم لأن معرفتهم وهم وغلط ، وتوحيدهم زندقة وضلال ، ولقتل واحد منهم أنفع من قتل ألف كافر حربي على ما أشار إليه حجة الإسلام الغزالي قدس سره وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وهم المؤمنون جمعا وتفصيلا لا يحجبهم جمع عن تفصيل ولا تفصيل عن جمع كالسادة الصادقين من أهل الوحدة أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ من الجنات الثلاث وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً يستر ذواتهم وصفاتهم رَحِيماً يرحمهم بالوجود الموهوب الحقاني والبقاء السرمدي يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ أي علما يقينا بالمكاشفة من سماء الروح فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي طلبوا المشاهدة ولا شك أنها أكبر وأعلى من المكاشفة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي استولت عليهم نار الأنانية وأهلكت استعدادهم بِظُلْمِهِمْ وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عجل الشهوات الذي صاغه لهم سامري
النفس الأمارة مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الرادعة لهم عن ذلك وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً وهو سطوع نور التجلي من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة بخفافيش أمته وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ أي جعلناه مستوليا عليهم بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب أن يعطوا الميثاق ، وأشير بالطور إلى موسى عليه السلام ، أو إلى العقل ورفعه فوقهم تأييده بالأنوار الإلهية وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس وملك الموت سُجَّداً خضعا متذللين ، وقوله تعالى : بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أشير به - على ما ذكره بعض القوم ، والعهدة عليه - إلى اتصال روحه عليه السلام بالعالم العلوي عند مفارقته للعالم السفلي ، وذلك الرفع عندهم إلى السماء الرابعة لأن مصدر فيضان روحه عليه السلام

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 196
روحانية فلك الشمس الذي هو بمثابة قلب العالم ، ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو درجة المحبة لم يكن له بدّ من النزول مرة أخرى في صورة جسدانية ، يتبع الملة المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية ، وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب أي أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد كلهم عن آخرهم قبل موته عليه السلام بالفناء باللّه عز وجل ، فإذا آمنوا به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية وانتباههم عن نوم الغفلة شهيدا ، وذلك بأن يتجلى الحق عليهم في صورته فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا وهو عبادتهم عجل الشهوات واتخاذه إلها وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس واعتدائهم في السبت بمخالفة الشرع الذي هو المظهر الأعظم والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق اللّه تعالى واحتجابهم عن توحيد الصفات الذي هو كفر بآيات اللّه تعالى إلى غير ذلك من المساويء.
مساو لو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق
حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ عظيمة جليلة وهي ما في الجنات الثلاث أُحِلَّتْ لَهُمْ بحسب استعدادهم لولا هذه الموانع وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي طريقه الموصلة إليه سبحانه كَثِيراً أي خلقا كثيرا وهي القوى الروحانية وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وهو فضول العلم الرسمي الجدلي الذي هو كشجرة الخلاف لا ثمرة له ، وكاللذات البدنية والحظوظ النفسانية وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ لما أنه الحجاب العظيم وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي استعمال علوم القوى الروحانية في تحصيل الخسائس الدنيوية ، أو أخذ ما في أيدي العباد برذيلة الحرص والطمع لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ المستقيمون في السماع الخاص من اللّه سبحانه من غير معارضة النفوس واضطراب الأسرار وَالْمُؤْمِنُونَ بالإيمان العياني حال كونهم يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الأحكام الشرعية والأسرار الإلهية وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ على أكمل وجه وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ببذل قوامهم في أصناف الطاعة وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بالمبدأ والمعاد ، والمراد من المتعاطفات طائفة واحدة كما قدمنا أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً لا يقادر قدره فيما أعدّ لهم من الجنات إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ الآية التشبيه على حد التشبيه في قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ على قول رُسُلًا مُبَشِّرِينَ بتجليات اللطف وَمُنْذِرِينَ بتجليات القهر لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أي لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد ما محي ذلك بإمداد الرسل وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً فيمحو صفاتهم ويفني ذواتهم حَكِيماً فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم في ذاته حسبما تقتضيه الحكمة لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ
بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ لتجليه فيه سبحانه أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي متلبسا بعلمه المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
ومن هنا علم صلّى اللّه عليه وسلّم ما كان وما هو كائن وَالْمَلائِكَةُ هم أصحاب النفوس القدسية يَشْهَدُونَ أيضا لعدم احتجابهم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً لأنه الجامع ولا موجود غيره ، واللّه تعالى الموفق للصواب.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزل إليك ، أو بكل ما يجب الإيمان به ويدخل ذلك فيه دخولا أوليا ، والمراد بهم اليهود ، وكأن الجملة لبيان حكم اللّه سبحانه فيهم بعد بيان حالهم وتعنتهم وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دين الإسلام من أراد سلوكه بإنكارهم نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقولهم : لا نعرفه في كتابنا وأن شريعة موسى عليه السلام لا تنسخ ، وأن الأنبياء لا يكونون إلا من أولاد هارون وداود عليهما السلام.
وقرىء «صدوا» بالبناء للمفعول قَدْ ضَلُّوا بالكفر والصد ضَلالًا بَعِيداً لأنهم جمعوا بين الضلال

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 197
والإضلال ولأن المضل يكون أقوى وأدخل في الضلال وأبعد عن الانقلاع عنه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما ذكر آنفا وَظَلَمُوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بإنكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة ، أو الناس بصدهم لهم عن الصراط المستقيم ، والمراد أن الذين جمعوا بين الكفر وهذا النوع من الظلم.
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر ، والآية في اليهود على الصحيح ، وقيل : إنها في المشركين وما قبلها في اليهود ، وزعم بعضهم أن المراد من الظلم ما ليس بكفر من سائر أنواع الكبائر ، وحمل الآية على معنى أن الذين كان بعضهم كافرين ، وبعضهم ظالمين أصحاب كبائر لَمْ يَكُنِ إلخ ، ولا يخفى أن ذلك عدول عن الظاهر لم يدع إليه إلا اعتقاد أن العصاة مخلدون في النار تخليد الكفار ، والآية تنبو عن هذا المعتقد ، فإنه قد جعل فيها الفعلان كلاهما صلة للموصول فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده ، ألا تراك إذا قلت :
الزيدون قاموا فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع ، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة ، وسياق الآية أيضا يأبى ذلك المعنى لكن لم يزل ديدن المعتزلة اتباع الهوى فلا يبالون بأي واد وقعوا وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة ، والمراد من الهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الإشارة كما قال غير واحد : خلقه سبحانه لأعمالهم السيئة المؤدية لهم إلى جهنم حسب استعدادهم ، أو سوقهم إلى جهنم يوم القيامة بواسطة الملائكة ، وذكر بعضهم أن التعبير بالهداية تهكم إن لم يرد بها مطلق الدلالة ، والطريق على عمومه ، والاستثناء متصل كما اختاره أبو البقاء وغيره ، وجوز السمين أن يراد بالطريق شيء مخصوص وهو العمل الصالح والاستثناء منقطع خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من الضمير المنصوب لأن الخلود يكون بعد إيصالهم إلى جهنم ، ولو قدر يقيمون خالدين لم يلتئم ، وقيل : يمكن أن يستغنى عن جعله حالا مقدرة بأن هذا من الدلالة الموصلة إلى جهنم ، أو الدلالة إلى طريق يوصل إليها فهو حال عن المفعول باعتبار الإيصال لا الدلالة فتدبر ، وقوله تعالى : أَبَداً نصب على الظرفية رافع احتمال أن يراد بالخلود المكث الطويل وَكانَ ذلِكَ أي انتفاء غفرانه وهدايته سبحانه إياهم وطرحهم في النار إلى الأبد عَلَى اللَّهِ يَسِيراً سهلا لا صارف له عنه ، وهذا تحقير لأمرهم وبيان لأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي.
[سورة النساء (4) : الآيات 170 إلى 176]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 198
يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لجميع المكلفين بعد أن حكى سبحانه لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم تعلل اليهود بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا ، ورد جل شأنه عليهم بما رد وأكد ذلك بما أكد ، وفي توجيه الخطاب إليهم وأمرهم بالإيمان مشفوعا بالوعد والوعيد بعد تنبيه على أن المحجة قد وضحت والحجة قد لزمت فلم يبق لأحد عذر في القبول ، وقيل :
الخطاب لأهل مكة لأن الخطاب - بيا أيها الناس - أينما وقع لهم ، ولا يخفى أن التعميم أولى ، وما ذكر في حيز الاستدلال ، وإن روي عن بعض السلف أغلبي ، وقيل : هو للكفار مطلقا إبقاء للأمر على ظاهره ، ولم يحتج إلى حمله على ما يعم الأحداث والثبات قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني به محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته بِالْحَقِّ أي متلبسا به ، وفسر بالقرآن ، وبدين الإسلام وبشهادة التوحيد ، وجوز أن تكون الباء للتعدية أو للسببية متعلقة - بجاء - أي جاءكم بسبب إقامة الحق ، وقوله سبحانه : مِنْ رَبِّكُمْ متعلق إما بالفعل أيضا أو بمحذوف وقع حالا من الحق أي جاءكم به من عند اللّه تعالى ، أو كائنا منه سبحانه ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم في الامتثال لما بعد من الأمر كما أن في ذكر الجملة تمهيدا لما يعقبها من ذلك وقيل : إنها تكرير للشهادة وتقرير للمشهود به وتمهيد لما ذكر فَآمِنُوا أي بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به من الحق ، والفاء للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها ، وقوله سبحانه : خَيْراً لَكُمْ منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره وافعلوا أو ائتوا خيرا لكم ، وإلى هذا ذهب الخليل وسيبويه ، وذهب الفراء إلى أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا خيرا لكم ، وأورد عليه أنه يقتضي أن الإيمان ينقسم إلى خير وغيره ، ودفع بأنه صفة مؤكدة ، وأن مفهوم الصفة قد لا يعتبر ، وعلى القول باعتباره قد يقال : إن ذكره تعريض بأهل الكتاب فإن لهم إيمانا ببعض ما يجب الإيمان به كاليوم الآخر مثلا إلا أنه ليس خيرا حيث لم يكن على الوجه المرضي.
وذهب الكسائي وأبو عبيد إلى أنه خبر كان مضمرة ، والتقدير يكن الإيمان خيرا لكم ، ورد بأن كان تحذف مع اسمها دون خبرها إلا في مواضع اقتضته ، وأن المقدر جواب شرط محذوف فيلزم حذف الشرط وجوابه إذ التقدير إن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا ، وأجيب بأن تخصيص حذف كان واسمها في مواضع لا يسلمه هذا القائل وبأن لزوم حذف الشرط وجوابه مبني على أن الجزم بشرط مقدر ، وإن قلنا : بأنه بنفس الأمر وأخواته كما هو مذهب لبعض النحاة لم يرد ذلك ، ونقل مكي عن بعض الكوفيين أنه منصوب على الحال وهو بعيد وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده ، أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم ويدخل في ذلك المخاطبون دخولا أوليا أي كل ذلك له تعالى خلقا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 199
وملكا وتصرفا ، ولا يخرج من ملكوته وقهره ذرة فما دونها ، والجملة دليل الجواب أقيم مقامه لأن مضمونها مقرر قبل كفرهم فلا يصلح للجواب ، والتقدير وإن تكفروا فهو سبحانه قادر على تعذيبكم بكفرهم لأن له جل شأنه ما في السموات والأرض ، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم ، وقال بعضهم : التقدير «وإن تكفروا» فقد كابرتم عقولكم.
فَإِنَّ لِلَّهِ سبحانه ما له مما يدل على ما ينافي حالكم واعتقادكم فكيف يتأتى الكفر به مع ذلك ، وقيل :
التقدير وَإِنْ تَكْفُرُوا فإن عبيدا غيركم لا يكفرون بل يعبدونه وينقادون لأمره ، ولا يخلو عن بعد.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوال ، كل ويدخل في ذلك كفرهم دخولا أوليا حَكِيماً في جميع أفعاله وتدبيراته ، ويدخل في ذلك كذلك تعذيب من كفر يا أَهْلَ الْكِتابِ تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الضلال البعيد ، وإلى ذلك ذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم وجماعة من المفسرين ، وعن الحسن أنه خطاب لهم ولليهود لأن الغلو أي مجاوزة الحد والإفراط المنهي عنه في قوله تعالى :
لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وقع منهم جميعا ، أما النصارى ، فقال بعضهم : عيسى عليه السلام ابن اللّه عز وجل ، وبعضهم أنه اللّه سبحانه ، وآخرون ثالث ثلاثة وأما اليهود فقالوا : إنه عليه السلام ولد لغير رشده ، ورجح ما عليه الجماعة بأن قول اليهود قد نعى فيما سبق وبأنه أوفق بما بعد وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي لا تذكروا ولا تعتقدوا إلا القول الحق دون القول المتضمن لدعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد والاستثناء مفرغ ، وهو متصل عند الأكثرين.
وادعى بعض أن المراد من الحق هنا تنزيهه تعالى عن الصاحبة والولد ، والأشبه بالاستثناء الانقطاع لأن التنزيه لا يكون مقولا عليه بل له وفيه لأن معنى قال عليه افترى وهو مخالف لما عليه الأكثر في الاستثناء المفرغ فافهم إِنَّمَا الْمَسِيحُ بالتخفيف ، وقد مر معناه ، وقرىء المسيح بكسر الميم وتشديد السين كالسكيت وهو مبتدأ ، وقوله تعالى :
عِيسَى بدل منه أو عطف بيان له - كما قال أبو البقاء وغيره - وقوله تعالى :
ابْنُ مَرْيَمَ صفة له مفيدة بطلان ما زعموه فيه من نبوته عليه السلام له عز وجل ، وقوله سبحانه :
رَسُولُ اللَّهِ خبر المبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أي أنه عليه السلام مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها إلى ما تقولون وَكَلِمَتُهُ عطف على رَسُولُ اللَّهِ ومعنى كونه «كلمة» أنه حصل بكلمة كن من غير مادة معتادة ، وإلى ذلك ذهب الحسن وقتادة.
وقال الغزالي قدس سره : لكل مولود سبب قريب وبعيد ، فالأول المني والثاني قول كن ، ولما دل الدليل على عدم القريب في حق عيسى عليه السلام أضافه إلى البعيد ، وهو قول كن إشارة إلى انتفاء القريب ، وأوضحه بقوله سبحانه : أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي أوصلها إليها وحصلها فيها ، فجعله كالمني الذي يلقى في الرحم فهو استعارة ، وقيل : معناه أنه يهتدي به كما يهتدي بكلام اللّه تعالى ، وروي ذلك عن أبي علي الجبائي ، وقيل : معناه بشارة اللّه تعالى التي بشر بها مريم عليها السلام على لسان الملائكة كما قال سبحانه : إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ [آل عمران : 45] وجملة أَلْقاها حال على ما قيل : من الضمير المجرور في كَلِمَتُهُ بتقدير قد والعامل فيها معنى الإضافة ، والتقدير - وكملته ملقيا إياها - وقيل : حال من ضميره عليه السلام المستكن فيما دل عليه وَكَلِمَتُهُ من معنى المشتق الذي هو العامل فيها ، وقيل : حال من فاعل كان مقدرة مع إذ المتعلقة بالكلمة باعتبار أن المراد بها المكون ، والتقدير إذ كان أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ عطف على ما قبله وسمي عليه السلام

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 200
روحا لأنه حدث عن نفخة جبرائيل عليه السلام في درع مريم عليها السلام بأمره سبحانه ، وجاء تسمية النفخ روحا في كلامهم ، ومنه قول ذي الرمة في نار وأحيها بروحك. و- من - متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح ، وهي لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى.
يحكى أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر علي بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية ، فقرأ الواقدي قوله تعالى : وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية : 13] فقال : إذن يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءا منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا فانقطع النصراني فأسلم ، وفرح الرشيد فرحا شديدا ، ووصل الواقدي بصلة فاخرة ، وقيل : سمي روحا لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح ، وإلى ذلك ذهب الجبائي ، وقيل : الروح هنا بمعنى الرحمة كما في قوله تعالى :
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة : 22] على وجه ، وقيل : أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم عليها السلام بالبشارة ، وقيل : جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا : إنه روح فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح ، وقيل : أريد بالروح السر كما يقال : روح هذه المسألة كذا أي أنه عليه السلام سر من أسرار اللّه تعالى وآية من آياته سبحانه ، وقيل : المراد ذو روح على حذف المضاف ، أو استعمال الروح في معنى ذي الروح ، والإضافة إلى اللّه تعالى للتشريف ، ونظير ذلك ما في التوراة إن موسى عليه السلام رجل اللّه وعصاه قضيب اللّه. وأورشليم بيت اللّه ، وقيل : المراد من الروح جبريل عليه السلام ، والعطف على الضمير المستكن في أَلْقاها والمعنى ألقاها اللّه تعالى وجبريل إلى مريم ، ولا يخفى بعده وعلى العلات لا حجة للنصارى على شيء مما زعموا في تشريف عيسى عليه السلام بنسبة الروح إليه لغيره عليه السلام مشاركة له في ذلك ، ففي إنجيل لوقا قال يسوع لتلاميذه : إن أباكم السماوي يعطي روح القدس الذين يسألونه ، وفي إنجيل متى : إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه ، وفي التوراة : قال اللّه تعالى لموسى عليه السلام اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك فيحملوا عنك ثقل هذا النعت ، ففعل فأفاض عليهم من روحه فتبنوا لساعتهم ، وفيها في حق يوسف عليه السلام يقول الملك : هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح اللّه تعالى عز وجل فيه ، وفيها أيضا : إن روح اللّه تعالى حلت على دانيال إلى غير ذلك.
ولعل الروح في جميع ذلك أمر قدسي وسر إلهي يفيضه اللّه تعالى على من يشاء من عباد حسبما يشاء وفي أي وقت يشاء ، وإطلاق ذلك على عيسى عليه السلام من باب المبالغة على حد ما قيل في زيد : عدل ، وليس المراد به الروح الذي به الحياة أصلا ، وقد يظهر ذلك بصورة كما يظهر القرآن بصورة الرجل الشاحب ، والموت بصورة الكبش ، ويؤيد ذلك في الجملة ما في إنجيل متى في تمام الكلام على تعميد عيسى عليه السلام : إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء انفتحت له أبواب السماء ونظر روح اللّه تعالى جاءت له في صفة حمامة وإذا بصوت من السماء هذا ابن الحبيب الذي سرت به نفسي فإنه على تقدير صحته يهدم ما يزعمه النصارى من أنه عليه السلام تجسد بروح القدس في بطن أمه : وما فيه من وصفه عليه السلام بالنبوة سيأتي إن شاء اللّه تعالى الجواب عنه.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وخصوه بالألوهية وَرُسُلِهِ أجمعين ولا تخرجوا أحدا منهم إلى ما يستحيل وصفه به من الألوهية وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي الآلهة ثلاثة : اللّه سبحانه ، والمسيح ، ومريم كما ينبىء عنه قوله تعالى : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة : 116] إذ معناه «إلهين» غير اللّه تعالى فيكونون معه ثلاثة.
وحكي هذا التقدير عن الزجاج ، أو اللّه سبحانه ثلاثة إن صح عنهم أنهم يقولون : اللّه تعالى جوهر واحد ثلاثة

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 201
أقانيم ، أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنهم يريدون بالأول الذات أو الوجود ، وبالثاني العلم أي الكلمة ، وبالثالث الحياة كذا قيل ، وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما ذكره بعض المحققين أن النصارى اتفقوا على أن اللّه تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز. ولا مختص بجبهة ، ولا مقدر بقدر ولا يقبل الحوادث بذاته ولا يتصور عليه الحدوث والعدم ، وأنه واحد بالجوهرية ، ثلاثة بالأقنومية ، والأقانيم صفات للجوهر القديم ، وهي الوجود والعلم والحياة ، وعبروا عن الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة.
ثم اختلفوا فذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم ، وأن كل واحد منها إله ، وصرحوا بإثبات التثليث ، وقالوا : إن اللّه ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عما يشركون ، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة وحدة وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي ، وأن مريم ولدت إلها أزليا مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي ، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم ، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا ، وأطلقوا لفظ الأب على اللّه تعالى ، والابن على عيسى عليه السلام ، وذهب نسطور الحكيم - في زمان المأمون - إلى أن اللّه تعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ولا نفس ذاته ، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح لا بمعنى الامتزاج بل بمعنى الإشراق أي أشرقت عليه كإشراق الشمس من كوة على بلور.
ومن النسطورية من قال : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود ، وصرحوا بالتثليث كالملكانية ، ومنهم من منع ذلك ، ومنهم من أثبت صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوها لكن لم يجعلوها أقانيم ، وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد ، والحدوث راجع إلى الناسوت ، فالمسيح إله تام وإنسان تام ، وهما قديم وحادث ، والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث. وقالوا : إن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت ، وذهب بعض اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح ، وقالوا :
إن اللّه هو المسيح عيسى ابن مريم ، ورووا عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر إنجيله : إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا ، وقال : في البدء كانت الكلمة والكلمة عند اللّه واللّه تعالى هو الكلمة ، ومنهم من قال : ظهر اللاهوت بالناسوت بحيث صار هو هو وذلك كظهور الملك في الصورة المشار إليه بقوله تعالى : فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مريم : 17] ومنهم من قال : جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركب النفس الناطقة مع البدن وصارا جوهرا واحدا ، وهو المسيح ، وهو الإله ، ويقولون صار الإله إنسانا وإن لم يصر الإنسان إلها كما يقال في الفحمة الملقاة في النار صارت نارا ، ولا يقال : صارت النار فحمة ، ويقولون : إن اتحاد اللاهوت بالإنسان الجزئي دون الكلي ، وإن مريم ولدت إلها وإن القتل والصلب واقع على اللاهوت والناسوت جميعا إذ لو كان على أحدهما بطل الاتحاد ، ومنهم من قال : المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه ، محدث من وجه ، ومن اليعقوبية من قال : إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا وإنما مرت بها كمرور الماء بالميزاب ، ومنهم من زعم أن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح فتصدر عنه الآيات التي كانت تظهر عنه وتفارقه تارة فتحله الآفات والآلام ، ومن النصارى من زعم أن معنى اتحاد اللاهوت بالناسوت ظهور اللاهوت على الناسوت وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه ، وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع والصورة المرئية في المرآة ، ومنهم من قال : إن الوجود والكلمة قديمان والحياة مخلوقة ومنهم من قال إن اللّه تعالى واحد وسماه أبا وأن المسيح كلمة اللّه تعالى وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل العالم وهو خالق للأشياء كلها.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 202
وحكى المؤرخون وأصحاب النقل أن أريوس أحد كبار النصارى كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره ولا يرى في المسيح ما يراه النصارى بل يعتقد رسالته وأنه مخلوق بجسمه وروحه ففشت مقالته في النصرانية فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نيقية عند الملك قسطنطين وتناظروا فشرح أريوس مقالته ، فرد عليه الاكصيدروس بطريق الإسكندرية وشنع على مقالته عند الملك ، ثم تناظروا فطال تنازعهم فتعجب الملك من انتشار مقالتهم وكثرة اختلافهم وقام لهم البترك وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي فاتفق رأيهم على شيء فحرروه وسموه بالأمانة وأكثرهم اليوم عليها ، وهي نؤمن باللّه تعالى الواحد الأب صانع كل شيء. مالك كل شيء ، صانع ما يرى وما لا يرى ، وبالرب الواحد المسيح ابن اللّه تعالى الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع ، إله حق.
من إله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معاشر الناس ، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومريم وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول واتجع ، وصلب أيام فيلاطس ودفن وقام في اليوم الثالث - كما هو مكتوب - وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبعمودية واحدة لغفران الخطايا ، والجماعة واحدة قدسية كاطولكية وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين انتهى.
وهذه جملة الأقاويل وما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل وهي مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول مما لا مستند لها ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم والأخذ بظواهر ألفاظ لا يحيطون بها علما على أن ما سموه أمانة لا أصل له في شرع الإنجيل ولا مأخوذة من قول المسيح ولا من أقوال تلاميذه ، وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت يكذب بعضه بعضا ويعارضه ويناقضه ، وإذ قد علمت ذلك فاستمع لما يتلى عليك في ردهم تتميما للفائدة وتأكيدا لإبطال تلك العقائد الفاسدة ، أما قولهم : بأن اللّه تعالى جوهر بالمعنى المذكور فلا نزاع لنا معهم فيه من جهة المعنى بل من جهة الإطلاق اللفظي سمعا ، والأمر فيه هين ، وأما حصرهم الأقانيم في ثلاثة : صفة الوجود ، وصفة الحياة ، وصفة العلم فباطل لأنه بعد تسليم أن صفة الوجود زائدة لو طولبوا بدليل الحصر لم يجدوا إليه سبيلا سوى قولهم :
بحثنا فلم نجد غير ما ذكرناه وهو غير يقيني كما لا يخفى ، ثم هو باطل بما تحقق في موضعه من وجوب صفة القدرة والإرادة والسمع والبصر فإن قالوا : الأقانيم هي خواص الجوهر وصفات نفسه ، ومن حكمها أن تلزم الجوهر ولا تتعداه إلى غيره وذلك متحقق في الوجود والحياة إذ لا تعلق لوجود الذات القديمة وحياتها بغيرها ، وكذلك العلم إذ العلم مختص بالجوهر من حيث هو معلوم به ، وهذا بخلاف القدرة ، والإرادة فإنهما لا اختصاص لهما بالذات القديمة بل يتعلقان بالغير مما هو مقدور ، ومراد ، والذات القديمة غير مقدورة ولا مرادة وأيضا فإن الحياة تجزيء عن القدرة والإرادة من حيث إن الحي لا يخلو عنهما بخلاف العلم فإنه قد يخلو عنه ، ولأنه يمتنع أجزاء الحياة عن العلم لاختصاص الحياة بامتناع جريان المبالغة والتفضيل بخلاف العلم ، قلنا : أما قولهم : إن الوجود والحياة مختصة بذات القديم - ولا تعلق لهما بغيره - فمسلم ، ولكن يلزم عليه أن لا يكون العلم أقنوما لتعلقه بغير ذات القديم إذ هو معلوم به فلئن قالوا : العلم إنما كان أقنوما من حيث كان متعلقا بذات القديم لا من حيث كان متعلقا بغيره فيلزمهم أن يكون البصر أقنوما لتعلقه بذات القديم من حيث إنه يرى نفسه ولم يقولوا به ، ويلزمهم من ذلك أن يكون بقاء ذات اللّه تعالى أقنوما لاختصاص البقاء بنفسه وعدم تعلقه بغيره كما في الوجود والحياة ، فلئن قالوا : البقاء هو نفس الوجود فيلزم أن يكون الموجود في زمان حدوثه باقيا وهو محال.
وقولهم : بأن الإرادة تجزىء عن القدرة والإرادة إما أن يريدوا به أن القدرة والإرادة نفس الحياة ، أو أنهما

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 203
خارجتان عنها لازمتان لها لا تفارقانها ، فإن كان الأول فقد نقضوا مذهبهم حيث قالوا : إن الحياة أقنوم لاختصاصها بجوهر القديم ، والقدرة والإرادة غير مختصتين بذات القديم تعالى ، وذلك مشعر بالمغايرة ولا اتحاد معها ، وإن قالوا :
إنها لازمة لها مع المغايرة فهو ممنوع فإنه كما يجوز خلو الحي ، عن العلم ، فكذلك قد يجوز خلوه عن القدرة والإرادة كما في حالة النوم والإغماء مثلا ، وقولهم : إنه يمتنع اجزاء الحياة عن العلم لاختصاص العلم بالمبالغة والتفضيل ، فيلزم منه أن لا تكون مجزئة عن القدرة أيضا لاختصاصها بهذا النوع من المبالغة والتفضيل ، وأما قولهم : بأن الكلمة حلت في المسيح وتدرعت به فهو باطل من وجهين.
الأول أنه قد تحقق امتناع حلول صفة القديم في غيره ، الثاني أنه ليس القول بحلول الكلمة أولى من القول بحلول الروح وهي الحياة ، ولئن قالوا : إنما استدللنا على حلول العلم فيه لاختصاصه بعلوم لا يشاركه فيها غيره ، قلنا :
أولا لا نسلم ذلك. فقد روى النصارى أنه عليه السلام سئل عن القيامة فلم يجب ، وقال لا يعرفها إلا اللّه تعالى وحده ، وثانيا سلمنا لكنه قد اختص عندكم بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وبأمور لا يقدر عليها غيره من المخلوقين بزعمكم ، والقدرة عندكم في حكم الحياة إما بمعنى أنها عينها أو ملازمة لها فوجب أن يقال : بحلول الحياة فيه ولم تقولوا به.
وأما قول الملكانية بالتثليث في الآلهة ، وأن كل أقنوم إله فلا يخلو إما أن يقولوا : إن كل واحد متصف بصفات الإله تعالى من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات أو ألا يقولوا به ، فإن قالوا به فهو خلاف أصلهم ، وهو مع ذلك ممتنع لقيام الأدلة على امتناع إلهين ، وأيضا فإنهم إما أن يقولوا : بأن جوهر القديم أيضا إله أو ألا يقولوا فإن كان الأول فقد أبطلوا مذهبهم فإنهم مجمعون على الثالوث ، وبقولهم هذا يلزم التربيع ، وإن كان الثاني لم يجدوا إلى الفرق سبيلا مع أن جوهر القديم أصل والأقانيم صفات تابعة ، فكان أولى أن يكون إلها ، وإن قالوا بالثاني فحاصله يرجع إلى منازعة لفظية ، والمرجع فيها إلى ورود الشرع بجواز إطلاق ذلك ، وأما قولهم : بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح فيبطله امتناع حلول صفات القديم بغير ذات اللّه تعالى ، ودعواهم الاتحاد ممتنعة من جهة الدلالة والإلزام ، أما الأول فإنهما عند الاتحاد إما أن يقال : ببقائهما أو بعدمهما أو ببقاء أحدهما وعدم الآخر ، أما على التقدير الأول فهما اثنان كما كانا ، وإن كان الثاني فالواحد الموجود غيرهما وإن كان الثالث فلا اتحاد للاثنينية وعدم أحدهما ، وأما على التقدير الثاني فمن أربعة أوجه : الأول أنه إذا جاز أقنوم الجوهر القديم بالحادث ، فما المانع من اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم؟ فلئن قالوا المانع أن اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم يوجب نقصه وهو ممتنع ، واتحاد صفة القديم بالحادث يوجب شرفه ، وشرف الحادث بالقديم غير ممتنع ، قلنا : فكما أن ذات القديم تنقص باتحاد صفة الحادث بها فالأقنوم القديم ينقص باتحاده بالناسوت الحادث فليكن ذلك ممتنعا ، الثاني أنه قد وقع الاتفاق على امتناع اتحاد أقنوم الجوهر القديم بغير ناسوت المسيح فما الفرق بين ناسوت وناسوت؟ فلئن قالوا : إنما اتحد بالناسوت الكلي دون الجزئي رددناه بما ستعلمه قريبا إن شاء اللّه تعالى ، الثالث
أن مذهبهم أن الأقانيم زائدة على ذات الجوهر القديم مع اختصاصها به ولم يوجب قيامها به الاتحاد فأن لا يوجب اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى.
الرابع أن الإجماع منعقد على أن أقنوم الجوهر القديم مخالف للناسوت كما أن صفة نفس الجوهر تخالف نفس العرض ، وصفة نفس العرض تخالف الجوهر ، فإن قالوا : بجواز اتحاد صفة الجوهر بالعرض أو صفة العرض بالجوهر حتى أنه يصير الجوهر في حكم العرض والعرض في حكم الجوهر ، فقد التزموا محالا مخالفا لأصولهم ، وإن قالوا : بامتناع اتحاد صفة نفس الجوهر بالعرض ونفس العرض بالجوهر مع أن العرض والجوهر أقبل للتبدل والتغير فلأن

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 204
يمتنع في القديم والحادث أولى ، وقولهم إن المسيح إنسان كلي باطل من أربعة أوجه : الأول أن الإنسان الكلي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي من الناس ، وقد اتفقت النصارى أن المسيح مولود من مريم عليهما السلام ، وعند ذلك فإما أن يقال : إن إنسان مريم أيضا كلي - كما حكي عن بعضهم - أو جزئي ، فإن كان كليا فإما أن يكون هو عين إنسان المسيح أو غيره ، فإن كان عينه لزم أن يولد الشيء من نفسه وهو محال ، ثم يلزم أن يكون المسيح مريم ومريم المسيح ولم يقل به أحد ، وإن كان غيره فالإنسان الكلي ما يكون عاما مشتركا بين جميع ، وطبيعته جزء من معنى كل إنسان ، ويلزم من ذلك أن يكون إنسان المسيح بطبيعته جزء من مفهوم إنسان مريم وبالعكس وذلك محال ، وإن كان إنسان مريم جزئيا فمن ضرورة كون المسيح مولودا عنها أن يكون الكلي الصالح لاشتراك الكثرة منحصرا في الجزئي الذي لا يصلح لذاته وهو ممتنع ، الثاني أن النصارى مجمعون على أن المسيح كان مرئيا ومشارا إليه ، والكلي ليس كذلك.
الثالث أنهم قائلون : إن الكلمة حلت في المسيح إما بجهة الاتحاد أولا بجهة الاتحاد. فلو كان المسيح إنسانا كليا لما اختص به بعض أشخاص الناس دون البعض ولما كان المولود من مريم مختصا بحلول الكلمة دون غيره ولم يقولوا به ، الرابع أن الملكانية متفقون على أن القتل وقع على اللاهوت والناسوت ، ولو كان ناسوت المسيح كليا لما تصور وقوع الجزئي عليه.
وأما ما ذهب إليه نسطور من أن الأقانيم ثلاثة ، فالكلام معه في الحصر على طرز ما تقدم ، وقوله : ليست عين ذاته ولا غير ذاته فإن أراد بذلك ما أراد به الأشعري في قوله : إن الصفات لا عين ولا غير فهو حق ، وإن أراد غيره فغير مفهوم وأما تفسيره العلم بالكلمة ، فالنزاع معه - في هذا الإطلاق - لفظي ، ثم لا يخلو إما أن يريد بالكلمة الكلام النفسي أو الكلام اللساني ، والكلام في ذلك معروف وقوله : إن الكلمة اتحدت بالمسيح بمعنى أنها أشرقت عليه لا حاصل له لأنه إما أن يريد إشراق الكلمة عليه عليه السلام ما هو مفهوم من مثاله ، وهو أن يكون مطرحا لشعاعها عليه ، أو يريد أنها متعلقة به كتعلق العلم القديم بالمعلومات ، أو يريد غير ذلك فإن كان الأول يلزم أن تكون الكلمة ذات شعاع ، وفي جهة من مطرح شعاعها ، ويلزم من ذلك أن تكون جسما ، وأن لا تكون صفة للجوهر القديم وهو محال ، وإن كان الثاني فهو حق غير أن تعلق الأقنوم بالمسيح بهذا التفسير لا يكون خاصة ، وإن كان الثالث فلا بدّ من تصويره ليتكلم عليه.
وأما قول بعض النسطورية : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة إله حي ناطق فهو باطل بأدلة إبطال التثليث ، وأما من أثبت منهم للّه تعالى صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوهما فقد أصاب خلا أن القول بإخراجها عن كونها من الأقانيم مع أنها مشاركة لها في كونها من الصفات تحكم بحت ، والفرق الذي يستند إليه باطل كما علمت وأما قولهم : إن المسيح إنسان تام وإله تام ، وهما جوهران : قديم وحادث ، فطريق ردّه من وجهين الأول التعرض لإبطال كون الأقنوم المتحد بجسد المسيح إلها وذلك بأن يقال : إما أن يقولوا : بأن ما اتحد بجسد المسيح هو إله فقط أو أن كل أقنوم إله كما ذهبت إليه الملكانية ، فإن كان الأول فهو ممتنع لعدم الأولوية ، وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لما تقدم ، الثاني أنه إذا كان المسيح مشتملا على الأقنوم والناسوت الحادث فإما أن يقولوا : بالاتحاد ، أو بحلول الأقنوم في الناسوت ، أو حلول الناسوت في الأقنوم ، أو أنه لا حلول لأحدهما في الآخر ، فإن كان الأول فهو باطل بما سبق في إبطال الاتحاد ، وإن كان الثاني فهو باطل بما يبطل حلول الصفة القديمة في غير ذات اللّه تعالى ، وحلول الحادث في القديم ، وإن كان الثالث ، فإما أن يقال : بتجاورهما واتصالهما أولا ، فإن قيل : بالأول فإما أن يقال : بانفصال الأقنوم القديم عن الجوهر الحادث أو لا يقال به ، فإن قيل : بالانفصال فهو ممتنع لوجهين الأول ما يدل على إبطال انتقال

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 205
الصفة عن الموصوف ، الثاني أنه يلزم منه قيام صفة حال مجاورتها للناسوت بنفسها وهو محال ، وإن لم يقل بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم يلزم منه أن يكون ذات الجوهر القديم متصلة بجسد المسيح ضرورة اتصال أقنومها به ، وعند ذلك فليس اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى من اتحاد الجوهر القديم به ولم يقولوا بذلك ، وإن لم يقل بتجاورهما واتصالهما فلا معنى للاتحاد بجسد المسيح ، وليس القول بالاتحاد مع عدم الاتصال بجسد المسيح أولى من العكس ، وأما قول من قال منهم : إن الإله واحد ، وإن المسيح ولد من مريم وإنه عبد صالح مخلوق إلا أن اللّه تعالى شرفه بتسميته ابنا فهو كما يقول الموحدون ، ولا خلاف معهم في غير إطلاق اسم الابن ، وأما قول بعض اليعقوبية : إن الكلمة انقلبت لحما ودما وصار الإله هو المسيح فهو أظهر بطلانا مما تقدم وبيانه من وجهين : الأول أنه لو جاز انقلاب الأقنوم لحما ودما مع اختلاف حقيقتيهما لجاز انقلاب المستحيل ممكنا والممكن مستحيلا والواجب ممكنا أو ممتنعا والممكن - أو الممتنع - واجبا ، ولم يبق لأحد وثوق بشيء من القضايا البديهية ، ولجاز انقلاب الجوهر عرضا والعرض جوهرا ، واللحم والدم أقنوما ، والأقنوم ذاتا ، والذات أقنوما ، والقديم حادثا والحادث قديما ، ولم يقل به أحد من العقلاء ، الثاني أنه لو انقلب الأقنوم لحما ودما ، فإما أن يكون هو عين الدم واللحم اللذين كانا للمسيح ، أو زائدا عليه منضما إليه ، والأول ظاهر الفساد ، والثاني لم يقولوا به وأما ما نقل عن يوحنا من قوله : في البدء كانت الكلمة والكلمة عند اللّه واللّه هو الكلمة ، فهو مما انفرد به ولم يوجد في شيء من الأناجيل ، والظاهر أنه كذب ، فإنه بمنزلة قول القائل : الدينار عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار ، ولا يكاد يتفوه به عاقل ، وكذا قوله : إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا غير مسلم الثبوت ، وعلى تقدير تسليمه يحتمل التقديم والتأخير.
أي إن الجسد الذي صار بالتسمية كلمة حل فينا ، وعنى بذلك الجسد عيسى عليه السلام ، ويحتمل أنه أشار بذلك إلى بطرس ، كبير التلاميذ ووصي المسيح ، فإنه أقام بعده عليه السلام بتدبير دينه وكانت النصارى تفزع إليه على ما تشهد به كتبهم ، فكأنه يقول : إن ذهبت الكلمة أي عيسى الذي سماه اللّه تعالى بذلك من بيننا فإنها لم تذهب حتى صارت جسدا وحل فينا ، يريد أن تدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو بطرس.
ومن الناس من خرج كلامه على إسقاط همزة الإنكار عند إخراجه من العبراني إلى اللسان العربي ، والمراد أصارت وفيه بعد ، ومن العجب العجيب أن يوحنا ذكر أن المسيح قال لتلاميذه : إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم بعدي لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق ، ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأثبت فيه ، فلما سمع تلاميذه هذه الكلمة قالوا : ما أصعبها من يطيق سماعها فرجع كثير منهم عن صحبته ، فإن هذا مع قوله : إن اللّه سبحانه هو الكلمة والكلمة صارت جسدا في غاية الإشكال إذ فيه أمر الحادث بأكل اللّه تعالى القديم الأزلي وشربه ، والحق أن شيئا من الكلامين لم يثبت ، فلا نتحمل مؤنة التأويل.
وأما قولهم : إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو ، فإما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت كما يصرح به قولهم : صار هو هو ، فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال كما علمت وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهو أيضا محال لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالقديم ، أو أن الناسوت اتصف باللاهوت وهو أيضا محال لامتناع حلول القديم بالحادث ، وأما من قال منهم : بأن جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرا واحدا هو المسيح فباطل من وجهين : الأول ما ذكر من إبطال الاتحاد ، الثاني أنه ليس جعل الناسوت لاهوتا بتركبه مع اللاهوت أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه مع الناسوت ولم يقولوا به ، وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت في النار فلا نسلم أنه صار بعينه جوهر النار بل صار مجاورا لجوهر النار ، وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة وأعراضها بطلت بمجاورة جوهر النار ، أما إن جوهر أحدهما صار جوهر الآخر فلا.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 206
وأما قولهم : إن الاتحاد بالناسوت الجزئي دون الكلي فمحال لأدلة إبطال الاتحاد وحلول القديم بالحادث وبذلك يبطل قولهم : إن مريم ولدت إلها ، وقولهم : القتل وقع على اللاهوت والناسوت معا على أنه يوجب موت الإله وهو بديهي البطلان ، وأما قول من قال : إن المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه محدث من وجه فباطل لأنه إذا كان جوهر المسيح متحدا لا كثرة فيه ، فالحدوث إما أن يكون لعين ما قيل بقدمه ، أو لغيره فإن كان الأول فهو محال وإلا لكان الشيء الواحد قديما لا أول له حادثا له أول وهو متناقض ، وإن كان الثاني فهو خلاف المفروض ، وأما قول من قال : إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء في الميزاب فيلزم منه انتقال الكلمة وهو ممتنع كما لا يخفى ، وبه يبطل قول من قال : إن الكلمة كانت تدخل جسد المسيح تارة وتفارقه أخرى ، وقولهم : إن ما ظهر من صورة المسيح في الناسوت لم يكن جسما بل خيالا كالصورة المرئية في المرآة باطل لأن من أصلهم أن المسيح إنما أحيا الميت وأبرأ الأكمه والأبرص بما فيه من اللاهوت ، فإذا كان ما ظهر فيه من اللاهوت لا حقيقة له بل هو خيال محض لا يصلح لحدوث ما حدث عن الإله عنه ، والقول : بأن أقنوم الحياة مخلوق حادث ليس كذلك لقيام الأدلة على قدم الصفات فهو قديم أزلي كيف وأنه لو كان حادثا لكان الإله قبله غير حي ، ومن ليس بحي لا يكون عالما ولا ناطقا ، وقول من قال : إن المسيح مخلوق قبل العالم وهو خالق لكل شيء باطل لقيام الأدلة على أنه كان اللّه تعالى ولا شيء غيره.
وأما الأمانة التي هم بها متقربون وبما حوته متعبدون فبيان اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه : الأول أن قولهم : نؤمن بالواحد الأب صانع كل شيء ، يناقض قولهم : وبالرب الواحد المسيح إلخ مناقضة لا تكاد تخفى ، الثاني أن قولهم : إن يسوع المسيح ابن اللّه تعالى بكر الخلائق مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه ابنه إلا تأخره عنه إذ الوالد والولد لا يكونان معا في الوجود وكونهما معا مستحيل ببداهة العقول لأن الأب لا يخلو إما أن يكون ولد ولدا لم يزل أو لم يكن ، فإن قالوا : ولد ولدا لم يزل ، قلنا : فما ولد شيئا إذ الابن لم يزل وإن ولد شيئا لم يكن ، فالولد حادث مخلوق وذلك مكذب لقولهم : إله حق من إله حق من جوهر أبيه وأنه أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء ، الثالث أن قولهم : إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح في الإنجيل : وقد سئل عن يوم القيامة فقال : لا أعرفه ولا يعرفه إلا الأب وحده ، فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب على أنه لو جاز أن يكون إله ثان من إله أول لجاز أن يكون إله ثالث من إله ثان ولما وقف الأمر على غاية وهو محال ، الرابع أن قولهم : إن يسوع أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء باطل مكذب لما في الإنجيل إذ يقول متى : هذا مولد يسوع المسيح ابن داود ، وأيضا خالق العالم لا بد وأن يكون سابقا عليه وأنى يسبق المسيح وقد ولدته مريم؟! وأيضا في الإنجيل إن إبليس قال للمسيح : اسجد لي وأعطيك جميع العالم وأملكك كل شيء ولا زال يسحبه من مكان إلى مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له فكيف يكون خالق العالم محصورا في يد بعض العالم؟! نعوذ باللّه تعالى من الضلالة.
الخامس أن قولهم : المسيح الإله الحق الذي نزل من السماء لخلاص الناس وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد ، فيه عدة مفاسد : منها أن المسيح لا يخص مجرد الكلمة ولا مجرد الجسد بل هو اسم يخص هذا الجسد الذي ولدته مريم عليها السلام ولم تكن الكلمة في الأزل مسيحا فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء ، ومنها أن الذي نزل من السماء لا يخلو إما أن يكون الكلمة أو الناسوت ، فإن زعموا أن الذي نزل هو الناسوت فكذب صراح لأن ناسوته من مريم ، وإن زعموا أنه اللاهوت فيقال : لا يخلو إما أن يكون الذات أو العلم المعبر عنه بالكلمة فإن كان الأول لزم لحوق النقائص للباري عز اسمه ، وإن كان الثاني لزم انتقال الصفة وبقاء الباري بلا علم وذلك باطل.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 207
ومنها أن قولهم : إنما نزل لخلاص معشر الناس يريدون به أن آدم عليه السلام لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود في النار فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به وذلك دعوى لا دلالة عليها ، هب أنا سلمناها لهم لكن يقال : أخبرونا مم هذا الخلاص الذي تعنى الإله الأزلي له وفعل ما فعل بنفسه لأجله؟
ولم خلصكم؟ وممن خلصكم؟ وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينهم؟ وكيف ابتذل وامتهن في خلاصكم دون الأب والروح؟ فإن زعموا أن الخلاص من تكاليف الدنيا وهمومها أكذبهم الحس ، وإن كان من تكاليف الشرع وأنهم قد حط عنهم الصلاة والصوم مثلا أكذبهم المسيح والحواريون بما وضعوه عليهم من التكاليف ، وإن زعموا أنهم قد خلصوا من أحكام الدار الآخرة فمن ارتكب محرما منهم لم يؤاخذ أكذبهم الإنجيل والنبوات إذ يقول المسيح في الإنجيل : إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين : فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا ، وأقول لأهل الشمال : فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم ، السادس أن قولهم : وتجسد من روح القدس باطل بنص الإنجيل إذ يقول : متى في الفصل الثاني منه ، إن يوحنا المعمداني حين عمد المسيح جاءت روح القدس إليه من السماء في صفة حمامة وذلك بعد ثلاثين من عمره.
السابع أن قولهم : إن المسيح نزل من السماء وحملت به مريم وسكن في رحمها مكذب بقول لوقا الإنجيلي إذ يقول في قصص الحواريين في الفصل الرابع عشر منه : إن اللّه تعالى هو خالق العالم بما فيه وهو رب السماء والأرض لا يسكن الهياكل ولا تناله أيدي الرجال ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء لأنه الذي أعطى الناس الحياة ، فوجودنا به وحياتنا وحركاتنا منه ، فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا تسكن الهياكل ولا تناله الرجال بأيديها ، وهذا ينافي كون الكلمة سكنت في هيكل مريم وتحولت إلى هيكل المسيح ، الثامن أن قولهم : إنه بعد أن قتل وصلب قام من بين الأموات وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه من الكذب الفاحش المستلزم للحدوث ، التاسع أن قولهم : إن يسوع هذا الرب الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء بمنزلة قول القائل :
لألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادا
إذ زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تم عليه من أعدائه ما تم فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية ، العاشر أن قولهم : ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه مناقضة لأصولهم ، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم تغفر خطاياهم بدون قتل المسيح ، ولذلك سموه جمل اللّه تعالى الذي يحمل عليه الخطايا ، ودعوه مخلص العالم من الخطيئة فإذا آمنوا بأن المعمودية الواحدة هي التي تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد صرحوا بأنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة فإن كان التعميد كافيا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع القتل عبث وإن كانت لا تحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد وما هذا الإيمان؟ فهذه عشرة وجوه كاملة في ردّ تلك الأمانة وإظهار ما لهم فيها من الخيانة ، ومن أمعن نظره ردّها بأضعاف ذلك. وقال أبو الفضل المالكي بعد كلام :
بطلت أمانتهم فمن مضمونها ظهرت خيانتها خلال سطورها
بدؤوا بتوحيد الإله وأشركوا عيسى به ، فالخلف في تعبيرها
قالوا : بأن إلههم عيسى الذي ذر الوجود على الخليقة كلها
خلق أمه قبل الحلول ببطنها ما كان أغنى ذاته عن مثلها

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 208
هل كان محتاجا لشرب لبانها أو أن يربى في مواطن حجرها
جعلوه ربا جوهرا من جوهر ذهبوا لما لا يرتضيه أولو النهى
قالوا : وجاء من السماء عناية لخلاص آدم من لظاه وحرها
قد تاب آدم توبة مقبولة فضلا لهم جعل الفداء بغيرها
لو جاء في ظلل الغمام وحوله شرفا ملائكة السماء بأسرها
وفدى الذي بيديه أحكم طينه بالعفو عن كل الأمور وسترها
ثم اجتباه محببا ومفضلا ووقاه من غيّ النفوس وشرها
كنتم تحلون الإله مقامه فيما تراه نفوسكم من شركها
من غير أن يحتاج في تلخيصه كل الخلائق أن تبوء بضرها
ويشينه الأعداء بما لا يرتضي من كيدها وبما دهى من مكرها
هذي أمانتهم وهذا شرحها اللّه أكبر من معاني كفرها
ثم اعلم أنه لا حجة للنصارى القائلين بالتثليث بما روي عن متى التلميذ أنه قال : إن المسيح عند ما ودعهم قال : اذهبوا وعمدوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس ، ومن هنا جعلوا مفتتح الإنجيل ذلك كما أن مفتتح القرآنبسم اللّه الرحمن الرحيم
، ويوهم كلام بعض منا أن هذه التسمية نزلت من السماء كالبسملة عندنا لأنا نقول - على تقدير صحة الرواية ، ودونها خرط القتاد : يحتمل أن يراد بالأب المبدأ ، فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء ، ومن الابن الرسول ، وسمي بذلك تشريفا وإكراما كما سمي إبراهيم عليه السلام خليلا ، أو باعتبار أنهم يسمون الآثار أبناء ، وقد رووا عن المسيح عليه السلام أنه قال : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، وقال : لا تعطوا صدقاتكم قدّام الناس لتراءوهم فإنه لا يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء.
وربما يقال : إن الابن بمعنى الحبيب أو نحوه ، ويشير إلى ذلك ما
رووه أنه عليه السلام قال عقيب وصية وصى بها الحواريين : لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء وتكونوا تامّين كما أن أباكم الذي في السماء تام ،
ويراد بروح القدس جبريل عليه السلام ، والمعنى عمدوا ببركة اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم والملك المؤيد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تبليغ أوامر ربهم ، وفي كشف الغين عن الفرق بين البسملتين للشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره أن بسملة النصارى مشيرة إلى ثلاث حضرات للأمر الإلهي الواحد الأحد : الغيب المطلق ، فالأب إشارة إلى الروح الذي هو أول مخلوق للّه تعالى كما في الخبر وهو المسمى بالعقل والقلم والحقيقة المحمدية ، ويضاف إلى اللّه تعالى فيقال : روح اللّه تعالى للتشريف والتعظيم ك (ناقة اللّه) تعالى ، وروح القدس إشارة إليه أيضا باعتبار ظهوره بصورة البشر السوي النافخ في درع مريم عليها السلام ، والابن إشارة إلى عيسى عليه السلام وهو ابن لذلك الروح باعتبار أن تكوّنه بسبب نفخه ، والأب هو الابن ، والابن هو روح القدس في الحقيقة والغيب المطلق منزه مقدس عن هذه الثلاثة ، فإنه سبحانه من حيث هو لا شيء معه ولا يمكن أن يكون معه شيء ، فبسملة الإنجيل من مقام الصفات الإلهية والأسماء الربانية لا من مقام الذات الأقدسية.
ثم لا يتوهمن أن كلمات ساداتنا الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم تدندن حول كلمات النصارى كما يزعمه من لا اطلاع له على تحقيق كلامهم ولا ذوق له في مشربهم ، وذلك لأن القوم نفعنا اللّه تعالى بهم مبرؤون عما نسبه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 209
المحجوبون إليهم من اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول ، أما إنهم لم يقولوا بالتجسيم فلما تقرر عندهم من أن الحق سبحانه هو الوجود المحض الموجود بذاته القائم بذاته المتعين بذاته ، وكل جسم فهو صورة في الوجود المنبسط على الحقائق المعبر عنه بالعماء متعينة بمقتضى استعداد ماهية المعدومة ولا شيء من الوجود المجرد من الماهية المتعين بذاته بالصورة المتعينة في الوجود المنبسط بمقتضى الماهية المعدومة فلا شيء من الجسم بالوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته ، وتنعكس إلى لا شيء من الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته بجسم وهو المطلوب ، وأما إنهم لم يقولوا بالعينية ، فلأن الحق تعالى هو ما علمت من الوجود المحض ، إلخ ، والمخلوق هو الصورة الظاهرة في الوجود المنبسط على الحقائق المتعين بحسب ماهيته المعدومة ولا شيء من المجرد عن الماهية المتعين بذاته بالمقترن بالماهية المتعين بحسبها ، ومما يشهد لذلك قول الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة من الفتوحات في حضرة البديع بعد بسط : وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا ، وقوله في هذا الباب أيضا في قوله تعالى : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام : 59] انفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه. فأثبتك في هذه الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو لعلمت مفاتح الغيب بذاتك ، وما لا تعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف ، وكذا قال غير واحد ، وقال الشيخ شرف الدين إسماعيل بن سودكين في شرح التجليات نقلا عن الشيخ قدس سره أيضا : لما ظهرت الممكنات بإظهار اللّه تعالى لها وتحقق ذلك تحققا لا يمكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدا فبقي متواضعا لكبرياء اللّه خاشعا له وهذه سجدة الأبد وهي عبارة عن معرفة العبد بحقيقته.
ومن هنا يعلم حقيقة
قوله سبحانه : «كنت سمعه وبصره» الحديث ،
ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح قال : أنا الحق فسكر وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته انتهى ، وأما أنهم لم يقولوا بالاتحاد فلأن الاتحاد إما بصيرورة الوجود المحض المجرد المتعين بذاته وجودا مقترنا بالماهية المعدومة متعينا بحسبها أو بالعكس ، وذلك محال بوجهيه لأن التجرد عن الماهية ذاتي للحق تعالى والاقتران بها ذاتي للممكن وما بالذات لا يزول.
وفي كتاب المعرفة للشيخ الأكبر قدس سره إذا كان الاتحاد مصيّر الذاتين واحدة فهو محال لأنه إن كان عين كل منهما موجودا في حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة وثبتت الأخرى فليست إلا واحدة ، وقال في كتاب الياء وهو كتاب ألهو الاتحاد محال ، وساق الكلام إلى أن قال : فلا اتحاد البتة لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة ، وقال في الباب الخامس من الفتوحات خطابا من الحق تعالى للروح الكلي : وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بالأسرار الإلهية إذ لا طاقة لك بحمل مشاهدتها ، إذ لو عرفتها لاتحدت الإنية واتحاد الانية محال ، فمشاهدتك لذلك محال ، هل ترجع إنية المركب البسيط؟ لا سبيل إلى قلب الحقائق ، وأما إنهم لم يقولوا بالحلول فلأنهم فسروا الحلول تارة بأنه الحصول على سبيل التبعية ، وتارة بأنه كون الموجود في محل قائما به ، ومن المعلوم أن الواجب تعالى - وهو الوجود المحض القائم بذاته المتعين كذلك - يستحيل عليه القيام بغيره.
قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثاني والتسعين ومائتين من الفتوحات : نور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا يعطيه من الحكم بغير البدر لا شك في ذلك ، كذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبد يظهر الأفعال عن الخلق فهو وإن كان بالاقتدار الإلهي ، لكن يختلف الحكم لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه ، وكما يعلم عقلا أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليها بذاتها وإنما كان لها مجلى ، كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه وإنما هو مجلى له وخاصة ومظهر له انتهى.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 210
وهذا نص في نفي الحلول ومنشأ غلط المحجوبين المنكرين عدم الفهم لكلام هؤلاء السادة نفعنا اللّه تعالى بهم على وجهه ، وعدم التمييز بين الحلول والتجلي ولم يعلموا أن كون الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلا له ، فإن الظاهر في المرآة خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه فالظهور غير الحلول فإن الظهور في المظاهر للواسع القدوس يجامع التنزيه بخلاف الحلول ، نعم وقع في كلامهم التعبير بالحلول ومرادهم به الظهور ، ومن ذلك قوله :
يا قبلتي قابليني بالسجود فقد رأيت شخصا لشخص فيه قد سجدا
لاهوته حل ناسوتي فقدسني إني عجبت لمثلي كيف ما عبدا
وكان الأولى بحسب الظاهر عدم التعبير بمثل ذلك ولكن للقوم أحوال ومقامات لا تصل إليها أفهامنا ، ولعل عذرهم واضح عند المنصفين ، إذا علمت ذلك وتحققت اختلاف النصارى في عقائدهم ، فاعلم أنه سبحانه إنما حكى في بعض الآيات قول بعض منهم ، وفي بعض آخر قول آخرين ، وحكاية دعواهم ألوهية مريم عليها السلام كدعواهم ألوهية عيسى عليه السلام مما نطق بها القرآن ولم يشع ذلك عنهم صريحا لكن يلزمهم ذلك بناء على ما حققه الإمام الرازي رحمه اللّه تعالى ، والنصارى اليوم ينكرونه واللّه تعالى أصدق القائلين ، ويمكن أن يقال : إن مدعي ألوهيتها عليها السلام صريحا طائفة منهم هلكت قديما كالطائفة اليهودية التي تقول عزير ابن اللّه تعالى على ما قيل ، ثم إنه سبحانه بالغ في زجر القائلين فأردف سبحانه النهي بقوله عز من قائل : انْتَهُوا عن القول بالتثليث خَيْراً لَكُمْ قد مر الكلام في أوجه انتصابه إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي أسبحه تسبيحا عن ، أو من أن يكون له ولد ، أو سبحوه عن ، أو من ذلك لأن الولد يشابه الأب ويكون مثله واللّه تعالى منزه عن التشبيه والمثل ، وأيضا الولد إنما يطلب ليكون قائما مقام أبيه إذا عدم ولذا كان التناسل واللّه تعالى باق لا يتطرق ساحته العلية فناء فلا يحتاج إلى ولد ولا حكمة تقتضيه ، وقد علمت ما أوقع النصارى في اعتقادهم أن عيسى عليه السلام ابن اللّه تعالى.
ومن الاتفاقات الغريبة ما نقله مولانا راغب باشا رحمه اللّه تعالى ملخصا من تعريفات أبي البقاء قال : قال الإمام العلامة محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري نور اللّه تعالى ضريحه : إن بعض النصارى انتصر لدينه وانتزع من البسملة الشريفة دليلا على تقوية اعتقاده في المسيح عليه السلام وصحة يقينه به فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدّم فيها وأخر وفكر وقدّر. فقتل كيف قدّر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر ، فقال : قد انتظم من البسملة المسيح ابن اللّه المحرر ، فقلت له : حيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكما وحزت منها أحكاما وحكما فلتنصرن البسملة منا الأخيار على الأشرار ، ولتفضلن أصحاب الجنة على أصحاب النار إذ قد قالت لك البسملة بلسان حالها : إنما اللّه المسيح راحم النحر لأمم لها المسيح رب ، ما برح اللّه راحم المسلمين ، سل ابن مريم أحل له الحرام ، لا المسيح ابن اللّه المحرر ، لا مرحم للئام أبناء السحرة رحم حرّ مسلم أناب إلى اللّه ، للّه نبي مسلم حرم الراح ، ربح رأس مال كلمة الإيمان ، فإن قلت : إنه عليه السلام رسول صدقتك ، وقالت : إيل أرسل الرحمة بلحم ، وإيل من أسماء اللّه تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم ببيت لحم ، وهو المكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام إلى غير ذلك مما يدل على إبطال مذهب النصارى ، ثم انظر إلى البسملة قد تخبر أن من وراء حلها خيولا وليوثا ، ومن دون طلها سيولا وغيوثا ، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة فنسجت على منوالها وقابلت الواحدة بعشر أمثالها بل أتيتك بما يغنيك فيبهتك ويسمعك ما يصمك عن الإجابة فيصمتك ، فتعلم أن هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ومستودع لجوهر سرها

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 211
المكنون ، ألا ترى أن البسملة إذا حصلت جملتها كان عددها سبعمائة وستة وثمانين فوافق جملها أن مثل عيسى كآدم ليس للّه من شريك بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة ولا أشرك بربي أحدا ، يهدي اللّه لنوره من يشاء ، بإسقاط ألف الجلالة ، فقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خبرا ، وجاءك ما لم تستطع عليه صبرا انتهى.
وقد تقدم نظير ذلك في الباقي بعد إسقاط المكرر من حروف المعجم في أوائل السور حيث رتب الشيعي منه ما ظنه مقويا لما هو عليه أعني صراط على حقا نمسكه وقابلناه بما يبهته مرتبا من هذا الحروف أيضا فتذكر ، وقرأ الحسن «إن يكون» بكسر الهمزة ورفع النون أي سبحانه ما يكون له ولد على أن الكلام جملتان.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه ، وبيان ذلك أنه سبحانه مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها لا يخرج من ملكوته شيء منها ، ولو كان له ولد لكان مثله في المالكية فلا يكون مالكا لجميعها ، وقوله تعالى : وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا إشارة إلى دليل آخر لأن الوكيل بمعنى الحافظ فإذا استقل سبحانه وتعالى في الحفظ لم يحتج إلى الولد فإن الولد يعين أباه في حياته ويقوم مقامه بعد وفاته واللّه تعالى منزه عن كل هذا فلا يتصور له ولد عقلا ويكون افتراؤه حمقا وجهلا.
ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
استئناف مقرر لما سبق من التنزيه ، وروي أن وفد نجران قالوا لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى عليه السلام ، قال : وأي شيء أقول فيه؟ قالوا تقول : إنه عبد اللّه ورسوله فنزلت»
والاستنكاف استفعال من النكف ، وأصله - كما قال الراغب - من نكفت الشيء نحيته وأصله تنحية الدمع عن الخد بالأصبع ، وقالوا : بحر لا ينكف أي لا ينزح ، ومنه قوله :
فبانوا ولولا ما تذكر منهم من الخلف لم ينكف لعينيك مدمع
وقيل : النكف قول السوء ، ويقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف ، واستفعل فيه للسلب قاله المبرد ، وفي الأساس استنكف ونكف امتنع وانقبض أنفا وحمية.
وقال الزجاج : الاستنكاف تكبر في تركه أنفة وليس في الاستكبار ذلك ، والمعنى لن يأنف ولن يمتنع ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لن يستكبر المسيح نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
أي عن ، أو من أن يكون عبد اللّه تعالى مستمرا على عبادته تعالى وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف ، وقد أشار القاضي عياض إلى شرف العبودية بقوله :
ومما زادني عجبا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك : يا عبادي وجعلك خير خلقك لي نبيا
والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه السلام عن ذلك مع أن شأنه عليه السلام المباهاة به كما تدل عليه أحواله وتفصح عنه أقواله لوقوعه في موضع الجواب عما قاله الكفرة كما علمت آنفا. وهو السر في جعل المستنكف منه كونه عليه السلام عبدا له تعالى دون أن يقال : عن عبادة اللّه تعالى ونحو ذلك مع إفادته - كما قيل - فائدة جليلة هي كمال نزاهته عليه السلام عن الاستنكاف بالكلية لاستمرار هذا الوصف واستتباعه وصف العبادة فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم استنكاف ذلك بخلاف وصف العبادة فإنها حالة متجددة غير مستلزمة للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرة ، فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عنها عدم الاستنكاف عن دوامها.
ومما يدل على عبوديته عليه السلام من كتب النصارى أن قولس قال في رسالته الثانية : انظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع المؤتمن من عند من خلقه مثل موسى عليه السلام في جميع أحواله غير أنه أفضل من موسى عليه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 212
السلام ، وقال مرقس في إنجيله : قال يسوع : إن نفسي حزينة حتى الموت ، ثم خر على وجهه يصلي للّه تعالى ، وقال أيها الأب كل شيء بقدرتك أخر عني هذا الكأس لكن كما تريد لا كما أريد ، ثم خرّ على وجهه يصلي للّه تعالى ، ووجه الدلالة في ذلك ظاهر إذ هو سائل واللّه تعالى مسؤول ، وهو مصل واللّه تعالى مصلى له ، وأي عبودية تزيد على ذلك ، ونصوص الأناجيل ناطقة بعبوديته عليه السلام في غير ما موضع ، وللّه تعالى در أبي الفضل حيث يقول فيه :
هو عبد مقرب ونبيّ ورسول قد خصه مولاه
طهر اللّه ذاته وحباه ثم أتاه وحيه وهداه
وبكن خلقه بدا كلما الل ه إلى مريم البتول براه
والأناجيل شاهدات وعنه إنما اللّه ربه لا سواه
هكذا شأن ربه خالق الخلق بكن خلقهم فنعم الإله
كان للّه خاشعا مستكينا راغبا راهبا يرجى رضاه
ليس يحيا وليس يخلق إلا أن دعاه وقد أجاب دعاه
إنما فاعل الجميع هو الل ه ولكن على يديه قضاه
ويكفي في إثبات عبوديته عليه السلام ما أشار اللّه تعالى إليه بقوله : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة : 75] وفي التعبير بالمسيح ما يشعر بالعبودية أيضا لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
عطف على المسيح كما هو الظاهر أي لا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا للّه تعالى ، وقيل : إنه عطف على الضمير المستتر في كُونَ
أوبْداً
لأنه صفة وليس بشيء ، وتقدير متعلق الفعل لازم على ما ذهب إليه الأكثرون ، وقيل : أريد - بالملائكة - كل واحد منهم فلا حاجة إلى التقدير ، وزعم بعضهم أنه من عطف الجمل والتزم تقدير الفعل وهو كما ترى واحتج بالآية القاضي أبو بكر ، والحليمي والمعتزلة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الذي يقتضيه السياق وقواعد المعاني وكلام العرب الترقي الفاضل إلى الأفضل فيكون المعنى لا يستنكف المسيح ولا من هو فوقه ، كما يقال : لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان دون العكس ، وأجيب بأن سوق الآية وإن كان ردا على النصارى لكنه أدمج فيه الرد على عبدة الملائكة المشاركين لهم في رفع بعض المخلوقين عن مرتبة العبودية إلى درجة المعبودية ، وادعاء انتسابهم إلى اللّه تعالى بما هو من شوائب الألوهية ، وخصْ مُقَرَّبُونَ
لأنهم كانوا يعبدونهم دون غيرهم ، ورد هذا الجواب بأن هذا لا ينفي فوقية الثاني كما هو مقتضى علم المعاني قيل : ولا ورود له لأنه يعلم من التقرير دفعه لأن المقصود بالذات أمر المسيح فلذا قدم ، ولو سلم أنه لا ينفي الفوقية فهو لا يثبتها كما إذا قلت : ما فعل هذا زيد ولا عمرو ، وهو يكفي لدفع حجة الخصم ، وأما كون السباق والسياق يخالفه فليس بشيء لأن المجيب قال : إنه إدماج ، واستطراد ، وأجيب أيضا على تقدير تسليم اختصاص الرد بالنصارى بأن الملائكة المقربون صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة ، فهذا العطف يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح ، ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح ، قال في الانتصاف : وفيه نظر لأن مورده إذا بني على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال : يلزمه القول بأنه أفضل من الكل كما أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما كان أفضل من كل واحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان أفضل من كلهم ، ولم يفرق بين التفضيل على التفضيل ، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى.
وقد كان طار عن بعض الأئمة المعاصرين تفضيله بين التفضيلين ، ودعوى أنه لا يلزم منه على التفضيل تفضيل

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 213
على الجملة ، ولم يثبت عنه هذا القول ، ولو قاله فهو مردود بوجه لطيف ، وهو أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة ، والأحاديث متظافرة بذلك ، وحينئذ لا يخلو إما أن ترتفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق أنه أفضل من كل واحد منهم ، أو لا ترتفع درجة أحد منهم عليه لا سبيل إلى الأول لأنه يلزم منه رفع المفضول على الفاضل فيتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا انتهى.
قلت : فما شاع من الخلاف بين الحنفية والشافعية في أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من الجميع أم أنه أفضل من الجميع فقط دون المجموع ليس في محله على هذا فتدبر ، وقيل في الجواب : إن غاية ما تدل عليه الآية تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش ، أو من هم أعلى رتبة منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وفيه النزاع ورد بأن المدعى أن في مثل هذا الكلام مقتضى قواعد المعاني الترقي من الأدنى إلى الأعلى دون العكس أو التسوية ، وقد علم أن الحكم في الجمع المحلى بأل على الآحاد وأن المدعى ليس إلا دلالة الكلام على أن الملك المقرب أفضل من عيسى عليه السلام ، وهذا كاف في إبطال القول بأن خواص البشر أفضل من خواص الملك وزعم بعضهم أن عطف الملائكة على المسيح بالواو لا يقتضي ترتيبا ، وما يورد من الأمثلة لكون الثاني أعلى مرتبة من الأول معارض بأمثلة لا تقتضي ذلك كقول القائل : ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو ، وكقولك : لا تؤذ مسلما ولا ذميا بل لو عكست في هذا المثال وجعلت الأعلى ثانيا لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة - كما قال في الانتصاف - ثم قال فيه : ولكن الحق أولى من المراد وليس بين المثالين تعارض ، ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء ، فنقول : النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى وفي مواضع تأخيره ، وتلك النكتة أن مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول فإذا اعتمدت ذلك فهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله ، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده ، وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول ، مثاله الآية المذكورة فإنك لو
ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبدا غير مستنكف من العبودية لزم من ذلك أن ما دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا للّه تعالى وهم الملائكة على هذا التقدير ، فلم يتجدد إذن بقوله تعالى : لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
إلا ما سلف أول الكلام ، وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فكأنك ترقيت من تعظيم اللّه تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له تعالى إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك ، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل ، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة إذ لم يستلزم الأول الآخر فصار الكلام على هذا التقدير متجدد الفائدة متزائدها ، ومتى كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز لأنه الغاية في البلاغة.
وبهذه النكتة يجب أن تقول : لا تؤذ مسلما ولا ذميا ، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية لأنك إذا نهيته عن أذى المسلم فقد يقال ذاك من خواصه احتراما لدين الإسلام ، فلا يلزم من ذلك نهيه عن أذى الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية ، فإذا قلت : ولا ذميا فقد جددت فائدة لم تكن في الأول وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى إلى النهي عن أكثر منه ، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت : لا تؤذ ذميا فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي إذ يساوي الذميّ في سبب الالتزام وهو الإنسانية مثلا ، ويمتاز عنه بسبب هو أجلّ وأعظم وهو الإسلام ، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم ، فإن قلت : ولا مسلما لم تجدد له فائدة ولم تعلمه غير ما أعلمته

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 214
أولا ، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره ، ولا يميز لك ذلك إلا السياق ، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى ، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء : 23] استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقديم الأدنى ، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن يريد نهيا عن أعلى من التأفيف والانتهار لأنه مستغنى عنه ، وما يحتاج المدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها ، ولما اقتضى الإنصاف تسليم اقتضاء الآية لتفضيل الملائكة ، وكان القول بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة والشيعة التزم حمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف ، وذلك تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار.
وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الردّ على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة ، فناسب ذلك أن يقال : هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة اللّه تعالى بل من هو أكثر خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام ، وقد بلغ من قوته وإقدار اللّه تعالى له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار ، ولا خلاف في أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر ، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء ، وليس في الآية عليه دليل ، وقد يقال : لما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى عليه السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ اللّه تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة اللّه تعالى ولا الملائكة الموجودون من غير أب ولا أم ، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه السلام ، ويشهد لذلك أن اللّه تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام ، فنظر الغريب بالأغرب وشبه العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من آدم عليهما الصلاة والسلام وآدم عليه السلام من غير أب ولا أم ، ولذلك قال سبحانه : خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران : 59] ومدار هذا البحث على النكتة التي أشير إليها. فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة الآية انتهى.
وبالجملة المسألة سمعية ، وتفصيل الأدلة والمذاهب فيها حشو الكتب الكلامية ، والقطع فيها منوط بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر.
وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار بعد بسط كلام ونقض وإبرام أن هذه المسألة ظنية لا حظ للقطع فيها نفيا وإثباتا ، ومدارها على الأدلة السمعية دون الأدلة العقلية ، وقال أفضل المعاصرين صالح أفندي الموصلي تغمده اللّه تعالى برحمته في تعليقاته على البيضاوي : الأولى عندي التوقف في هذه المسألة بالنسبة إلى غير نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم إذ لا قاطع يدل على الحكم فيها وليس معرفة ذلك ما كلفنا به ، والباب ذو خطر لا ينبغي المجاذفة فيه ، فالوقف أسلم واللّه تعالى أعلم مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ
أي طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى وإنما جعل المستنكف عنه هاهنا عبادته تعالى لا ما سبق - كما قال شيخ الإسلام - لتعليق الوعيد بالوصف الظاهر الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إلى إنكار اتصافهم به ، وعبر سبحانه عن عدم طاعتهم له بالاستنكاف مع أن ذلك كان منهم بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهذا هو الاستنكاف عن طاعة اللّه تعالى إذ لا أمر له صلّى اللّه عليه وسلّم سوى أمره عز وجل مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء : 80].

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 215
وقيل : التعبير بالاستنكاف من باب المشاكلة يَسْتَكْبِرْ
أي عن ذلك ، وأصل الاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآله محض بدون حصول المطلوب ، ونظير ذلك على ما قيل : قوله تعالى : يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً [الأعراف : 45 ، هود : 19 ، إبراهيم : 3] ، والاستكبار على ما أشار إليه الزجاج - وتقدم - دون الاستنكاف وجاء في الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل : يا رسول اللّه إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال : إن اللّه جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس».
وللناس في تأويل الحديث أقوال ذكرها الإمام النووي في شرح مسلم ، منها أن المراد بالكبر المانع من دخول الجنة هو التكبر على الإيمان ، واختاره مولانا أفضل المعاصرين ، ثم قال : وعليه فالمنفي أصل الدخول كما هو الظاهر المتبادر ، وتنكير الكبر للنوعية ، والمعرف في آخر الحديث هو جنس الكبر لا هذا النوع بخصوصه وإن كان الغالب في إعادة النكرة معرفة إرادة عين الأول ، وإنما خص صلّى اللّه عليه وسلّم حكم ذلك النوع بالبيان ليكون أبلغ في الزجر عن الكبر فإن جنسا يبلغ بعض أنواعه بصاحبه من وخامة العاقبة وسوء المغبة ، هذا المبلغ أعني الشقاء المؤبد جدير بأن يحترز عنه غاية الاحتراز ، ثم عرف صلّى اللّه عليه وسلّم الكبر بما عرفه لئلا يتوهم انحصار الكبر المذموم في النوع المذكور.
وبهذا التقرير اندفع استبعاد النووي رحمه اللّه تعالى لهذا التأويل بأن الحديث ورد في سياق الزجر عن الكبر المعروف وهو إنكار الحق واحتقار الناس ، فحمل الكبر على ذلك خاصة خروج عن مذاق الكلام ووجه اندفاعه غير خفي على ذوي الأفهام انتهى. والظاهر أن ما في الحديث تعريف باللازم للمعنى اللغوي سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
أي المستنكفين ومقابليهم المدلول عليهم بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة المقربين عليهم السلام ، وقد ترك ذكر أحد الفريقين في المفصل تعويلا على انباء التفصيل عنه وثقة بظهور اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق أجمعين كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ مع عموم الخطاب لهما ثقة بمثل ذلك فلا يقال : التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد ، وقيل في توجيه المطابقة : إن المقصود من الحشر المجازاة ويكون قوله تعالى :
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ إلخ تفصيلا للجزاء كأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب اللّه تعالى ، فالضمير راجع إلى المستنكفين المستكبرين لا غير وقد روعي لفظ من ومعناها.
وتعقب العلامة التفتازاني ذلك بأنه غير مستقيم لأن دخول أَمَّا على الفريقين لا على قسمي الجزاء ، وأورد هذا الفريق بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات ، ومعنى توفيتهم أجورهم إيتاؤهم إياها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا ، وقرىء «فسيحشرهم» بكسر الشين وهي لغة ، وقرى ء - فسنحشرهم - بنون العظمة ، وفيه التفات وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بتضعيف أجورهم أضعافا مضاعفة وبإعطائهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم» قال : يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا»
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن عبادة اللّه تعالى وَاسْتَكْبَرُوا عنها فَيُعَذِّبُهُمْ بسبب ذلك عَذاباً أَلِيماً لا يحيط به الوصف وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 216
دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا
يلي أمورهم ويدبر مصالحهم وَلا نَصِيراً ينصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم بما تخر له صم الجبال ، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر قَدْ جاءَكُمْ أتاكم ووصل إليكم بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي حجة قاطعة ، والمراد بها المعجزات على ما قيل.
وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه إن المراد بالبرهان هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وعبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، والتنوين للتفخيم ، و- من - لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة - بجاء - أو بمحذوف وقع صفة مشرفة - لبرهان - مؤكدة لما أفاده التنوين ، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيء ذلك لتربيتهم وتكميلهم.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ بواسطة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الأعذار نُوراً مُبِيناً وهو القرآن - كما قاله قتادة ومجاهد والسدي واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلّى اللّه عليه وسلّم بعيد غاية البعد ، وإذا كان المراد من البرهان القرآن أيضا فقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية ، وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به ، وإطلاق النور المبين لأنه بيّن بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من اللّه تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره ، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل ، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجيء المسند إليه المنبئ عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيثبت ما ثبت من غير أن يجيء به أحد ، ويجيء على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا توفيرا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به ، وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه - قاله مولانا شيخ الإسلام - والأمر على غير ذلك التقدير هين فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ حسبما يوجبه البرهان الذي جاءهم وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي عصموا به سبحانه أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أن الضمير راجع إلى القرآن أعني النور المبين ، وهو خلاف الظاهر فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ أي ثواب عظيم قدره بإزاء إيمانهم وعملهم رحمة منه سبحانه لا قضاء لحق واجب ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد بالرحمة الجنة ، فعلى الأول التجوز في كلمة فِي لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف ، وعلى الثاني التجوز في المجرور دون الجار - قاله الشهاب - والبحث في ذلك شهير ومِنْهُ متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة وَفَضْلٍ أي إحسان لا يقادر قدره زائد على ذلك.
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي إلى اللّه عز وجل ، والمراد في المشهور إلى عبادته سبحانه ، وقيل : الضمير عائد على جميع ما قبله باعتبار أنه موعود ، وقيل : على الفضل صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الإسلام والطاعة في الدنيا ، وطريق الجنة في الأخرى ، وتقديم ذكر الوعد بالإدخال في الرحمة الثواب أو الجنة على الوعد بهذه الهداية للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي.
وفي وجه انتصاب صِراطاً أقوال ، فقيل : إنه مفعول ثان لفعل مقدر أي يعرفهم صِراطاً ، وقيل : إنه مفعول ثان ليهديهم باعتبار تضمينه معنى يعرفهم ، وقيل : مفعول ثان له بناء على أن الهداية تتعدى إلى مفعولين حقيقة.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 217
ومن الناس من جعل إِلَيْهِ متعلقا بمقدر أي مقربين إليه ، أو مقربا إياهم إليه على أنه حال من الفاعل أو المفعول ، ومنهم من جعله حالا من صِراطاً ثم قال : ليس لقولنا : يَهْدِيهِمْ طريق الإسلام إلى عبادته كبير معنى ، فالأوجه أن يجعل صِراطاً بدلا من إِلَيْهِ وتعقبه عصام الملة والدين بأن قولنا : يَهْدِيهِمْ طريق الإسلام موصلا إلى عبادته معناه واضح ، ولا وجه لكون صِراطاً بدلا من الجار والمجرور فافهم يَسْتَفْتُونَكَ أي - في الكلالة - استغني عن ذكره لوروده في قوله تعالى : قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ والجار متعلق ب يُفْتِيكُمْ ، وقال الكوفيون : ب يَسْتَفْتُونَكَ وضعفه أبو البقاء بأنه لو كان كذلك لقال يفتيكم فيها في الكلالة ، وقد مر تفسير الكلالة في مطلع السورة ، والآية نزلت في جابر بن عبد اللّه كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره.
وأخرج الشيخان وخلق كثير عنه قال : «دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب عليّ فعقلت ، فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض»
وهي آخر آية نزلت ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن البراء قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء ، والمراد من الآيات المتعلقة بالأحكام - كما نص على ذلك المحققون ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى - وتسمى آية الصيف ،
أخرج مالك ومسلم عن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال : «ما سألت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري ، وقال : يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء»
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ استئناف مبين للفتيا ، وارتفع امْرُؤٌ بفعل يفسره المذكور على المشهور ، وقوله تعالى : لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ صفة له ولا يضر الفصل بالمفسر لأنه تأكيد ، وقيل : حال منه ، واعترض بأنه نكرة ، ومجيء الحال منها خلاف الظاهر إذ المتبادر في الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات ، وقال الحلبي : يصح كونه حالا منه وهَلَكَ ، صفة له ، وجعله أبو البقاء حالا من الضمير المستكن في هَلَكَ وقيل عليه : إن المفسر غير مقصود حتى ادعى بعضهم أنه لا ضمير فيه لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير ، وإن رد بقوله تعالى : قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ [الإسراء : 100] ، وقال أبو حيان : الذي يقتضيه النظم أن ذلك ممتنع ، وذلك لأن المسند إليه في الحقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له ، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق ، وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد ومؤكد فالوجه أن يكون للمؤكد بالفتح إذ هو معتمد الإسناد الأصلي ، ووافقه الحلبي ، وقال السفاقسي : الأظهر أن هذا مرجح لا موجب ، والمراد من - الولد - على ما اختاره البعض الذكر لأنه المتبادر ولأن الأخت وإن ورثت مع البنت - عند غير ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما والإمامية - لكنها لا ترث النصف بطريق الفرضية ، وتعقبه بعض المحققين مختارا العموم بأنه تخصيص من غير مخصص ، والتعليل بأن الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد لأن الحكم تعيين النصف ، وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما ، أما الابن فلأنه يسقط الأخت ، وأما البنت فلأنها تصيرها عصبة فلا يتعين لها فرض ، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية فلا حاجة إلى تفسير الولد بالابن لا منطوقا ولا مفهوما ، وأيضا الكلام في الكلالة - وهو من لا يكون له ولد أصلا - وكذا ما لا يكون له والد إلا أنه اقتصر
على عدم ذكر الولد ثقة بظهور الأمر والولد مشترك معنوي في سياق النفي فيعم ، فلا بد للتخصيص من مخصص وأنى به؟ فليفهم ، وقوله تعالى : وَلَهُ أُخْتٌ عطف على ليس له ولد ، ويحتمل الحالية ، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين والأب لأن الأخت من الأم فرضها السدس ، وقد مر بيانه في صدر السورة الكريمة.
فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ أي بالفرض والباقي للعصبة ، أو لها بالردّ إن لم يكن له عصبة ، والفاء واقعة في جواب الشرط وَهُوَ أي المرء المفروض يَرِثُها أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه ، والجملة مستأنفة لا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 218
موضع لها من الإعراب وقد سدت - كما قال أبو البقاء - مسدّ جواب الشرط في قوله تعالى : إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى ، فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا إرثه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتها ، والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به ، وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب إذ صح
عنه صلّى اللّه عليه وسلّم «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر»
ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ عطف على الشرطية الأولى ، والضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى وحكم ما فوق الاثنتين كحكمهما ، واستشكل الإخبار عن ضمير التثنية بالاثنتين لأن الخبر لا بد أن يفيد غير ما يفيده المبتدأ ، ولهذا لا يصح سيد الجارية مالكها ، وضمير التثنية دال على الاثنينية فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا ، وأجيب عن ذلك أن الاثنينية تدل على مجرد التعدد من غير تقييد بكبر أو صغر أو غير ذلك من الأوصاف فكأنه قيل : إنهما يستحقان ما ذكر بمجرد التعدد من غير اعتبار أمر آخر وهذا مفيد ، وإليه ذهب الأخفش ، ورد بأن ضمير التثنية يدل على ذلك أيضا فعاد الإشكال ، وروى مكي عنه أنه أجاب بأن ذلك حمل على معنى من يرث ، وأن الأصل والتقدير إن كان من يرث بالأخوة اثنين ، وإن كان من يرث ذكورا وإناثا فيما يأتي وإنما قيل : كانَتَا وكانُوا لمطابقة الخبر كما قيل : من كانت أمك ، ورد بأنه غير صحيح وليس نظير المثال ، لأنه صرح فيه بمن وله لفظ ومعنى ، فمن أنث راعى المعنى وهو الأم ولم يؤنث لمراعاة الخبر ، ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما نحن فيه فإن مدلولهما واحد.
وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين : الأول أن ضمير كانَتَا لا يعود على الأختين بل على الوارثين ، وثم صفة محذوفة لاثنتين ، والصفة مع الموصوف هو الخبر ، والتقدير فَإِنْ كانَتَا أي الوارثتان اثْنَتَيْنِ من الأخوات فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ، والثاني أن يكون الضمير عائدا على الأختين - كما ذكروا - ويكون خبر «كان» محذوفا لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلا ، ويكون اثْنَتَيْنِ حالا مؤكدة ، والتقدير فإن كانتا أي الأختان له أي للمرء الهالك ، ويدل على حذف له وَلَهُ أُخْتٌ.
وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أصله وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر بقرينة رِجالًا وَنِساءً الواقع بدلا ، وقيل : فيه اكتفاء يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها ، وإلى هذا ذهب أبو مسلم أَنْ تَضِلُّوا أي كراهة أن تضلوا في ذلك وهو رأي البصريين وبه صرح المبرد.
وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام ولا في طرفي إِنِ أي لئلا تضلوا ، وقيل : ليس هناك حذف ولا تقدير وإنما المنسبك مفعول يُبَيِّنُ أي يبين لكم ضلالكم ، ورجح هذا بأنه من حسن الختام والالتفات إلى أول السورة وهو يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية ، ولما تم تفصيله قال عز وجل لهم : إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم فإن الشر إذا عرف اجتنب ، والخير إذا عرف ارتكب ، واعترض بأن المبين صريحا هو الحق والضلال يعلم بالمقايسة ، فكان الظاهر يبين لكم الحق إلا أن يقال : بيان الحق واضح وبيان الضلال خفي فاحتيج إلى التنبيه عليه وفيه تأمل ، وذكر الجلال السيوطي أن حسن الختام في هذه السورة أنها ختمت بآية الفرائض ، وفيها أحكام الموت الذي هو آخر أمر كل حي وهي أيضا آخر ما نزل من الأحكام وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم عَلِيمٌ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 219
مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا ما اقتضاه استعدادهم وَصَدُّوا ومنعوا غيرهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لحرمانهم أنفسهم وغيرهم عما فيه النجاة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا منعوا استعدادهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب الرذائل لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لبطلان استعدادهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً لجهلهم المركب واعتقادهم الفاسد إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ وهي نيران أشواق نفوسهم الخبيثة وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لانجذابهم إليها بالطبيعة يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ نهي لليهود ، والنصارى عند الكثيرين من ساداتنا ، وقد غلا الفريقان في دينهم ، أما اليهود فتعمقوا في الظواهر ونفي البواطن فحطوا عيسى عليه السلام عن درجة النبوة والتخلق بأخلاق اللّه تعالى ، وأما النصارى فتعمقوا في البواطن ونفي الظواهر فرفعوا عيسى عليه السلام إلى درجة الألوهية وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفصيل كما هو التوحيد المحمدي إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ الداعي إليه وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي حقيقة من حقائقه الدالة عليه وَرُوحٌ مِنْهُ أي أمر قدسي منزه عن سائر النقائص ، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن سبب تخصيص عيسى عليه السلام بهذا الوصف أن النافخ له من حيث الصورة الجبريلية هو الحق تعالى لا غيره فكان بذلك روحا كاملا مظهرا لاسم اللّه تعالى صادرا من اسم ذاتي ولم يكن صادرا من الأسماء الفرعية كغيره وما كان بينه وبين اللّه تعالى وسائط كما في أرواح الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام فإن أرواحهم - وإن كانت من حضرة اسم اللّه تعالى - لكنها بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الاسمائية فما سمي
عيسى عليه السلام روح اللّه تعالى وكلمته إلا لكونه وجد من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية ولذلك صدرت منه الأفعال الخاصة باللّه تعالى من إحياء الموتى وخلق الطير وتأثيره في الجنس العالي والجنس الدون ، وكانت دعوته عليه السلام إلى الباطن والعالم القدسي فإن الكلمة إنما هي من باطن اسم اللّه تعالى وهويته الغيبية ، ولذلك طهر اللّه تعالى جسمه من الأقذار الطبيعية لأنه روح متجسدة في بدن مثالي روحاني إلى آخر ما ذكره الإمام الشعراني في الجواهر والدرر فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بالجمع والتفصيل وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ لأن ذلك ينافي التوحيد الحقيقي ، وعيسى عليه السلام في الحقيقة فإن وجوده بوجود اللّه تعالى وحياته عليه السلام بحياته جل شأنه وعلمه عليه السلام بعلمه سبحانه إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي أنزهه عن أن يكون موجود غيره متولد منه مجالس له في الوجود لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ما في سموات الأرواح وأرض الأجساد لأنها مظاهر أسمائه وصفاته عز شأنه نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
في مقام التفصيل إذ كل ما ظهر فهو ممكن والممكن لا وجود له بنفسه فيكون عبدا محتاجا ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة العبودية لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
الذين هم أرواح مجردة وأنوار قدسية محضة ، وأما في مقام الجمع ، فلا عيسى ولا ملك ولا قرب ولا بعد ولا ولا ...
مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ
بظهور أنانيته ويستكبر بطغيانه في الظهور بصفاته سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
بظهور نور وجهه وتجليه بصفة القهر حتى يفنوا بالكلية في عين الجمع فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي بمحو الصفات وطمس الذات وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وراعوا تفاصيل الصفات وتجلياتها فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ من جنات صفاته وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بالوجود الموهب لهم بعد الفناء وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وأظهروا الأنانية وَاسْتَكْبَرُوا وطغوا فقال قائلهم : أنا ربكم الأعلى مع رؤيته نفسه فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً باحتجابهم وحرمانهم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 220
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو التوحيد الذاتي وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً وهو التفصيل في عين الجمع فالأول إشارة إلى القرآن ، والثاني إلى الفرقان فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ولم يلتفتوا إلى الأغيار من حيث إنها أغيار فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وهي جنات الأفعال وَفَضْلٍ وهو جنات الصفات وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو الفناء في الذات ، أو - الرحمة - جنات الصفات ، و- الفضل - جنات الذات و- الهداية إليه صراطا مستقيما - الاستقامة على الوحدة في تفاصيل الكثرة ، ولا حجر على أرباب الذوق ، فكتاب اللّه تعالى بحر لا تنزفه الدلاء ، واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل ، ونسأله التوفيق لفهم كلامه ، وشرح صدورنا بعوائد إحسانه وموائد إنعامه لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 221
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سورة المائدة
وتسمى أيضا العقود والمنقذة ، قال ابن الفرس : لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب وهي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي : إنها مدنية إلا قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة : 3] فإنه نزل بمكة.
وأخرج أبو عبيد عن محمد القرظي قال : «نزلت سورة المائدة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وذلك من ثقل الوحي»
وأخرج غير واحد عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : المائدة آخر سورة نزلت ، وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أن آخر سورة المائدة والفتح ، وقد تقدم آنفا عن البراء أن آخر سورة نزلت براءة ، ولعل كلا ذكر ما عنده ، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، نعم
أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها»
وهو غير واف بالمقصود لمكان «من».
واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شيء ، وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل والحسن رضي اللّه تعالى عنهما ، كما أخرج ذلك عنهما أبو داود ، وأخرج عن الشعبي أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ [المائدة : 2] ، وأخرج ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله سبحانه : فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة : 42] وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللّه تعالى.
وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين ، وثلاث وعشرون عند البصريين ، واثنان وعشرون عند غيرهم ، ووجه اعتلاقها بسورة النساء - على ما ذكره الجلال السيوطي عليه الرحمة - أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا ، فالصريح عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان ، والضمني عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة ، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء : 58] فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل : يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت ، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود ، ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك يا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء : 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بتنزيل المكي ، وأول هذه يا أَيُّهَا

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 222
الَّذِينَ آمَنُوا
[المائدة : 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني ، وتقديم العام وشبه المكي أنسب.
ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران ، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما ، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.
وقد ختمت المائدة في صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك ، وافتتحت النساء ببدء الخلق ، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء ، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى ، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل.
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 إلى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجبه ، ويقال : وفى ووفى وأوفى بمعنى ، لكن في المزيد مبالغة ليست في المجرد ، وأصل العقد الربط محكما. ثم تجوز به عن العهد الموثوق ، وفرق الطبرسي بين العقد والعهد ، بأن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ولا يكون إلا بين اثنين ، والعهد قد يتفرد به واحد ، واختلفوا في المراد بهذه العقود على أقوال : أحدها أن المراد به العهود التي أخذ اللّه تعالى على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وثانيهما العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد الايمان وعقد النكاح وعقد البيع. ونحو ذلك وإليه ذهب ابن زيد وزيد بن

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 223
أسلم ، وثالثها العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم ، وروي ذلك عن مجاهد ، والربيع وقتادة وغيرهم ورابعها العهود التي أخذها اللّه تعالى على أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل مما يقتضيه التصديق بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به ، وروي ذلك عن ابن جريج وأبي صالح ، وعليه فالمراد من الَّذِينَ آمَنُوا مؤمنو أهل الكتاب وهو خلاف الظاهر ، واختار بعض المفسرين أن المراد بها ما يعم جميع ما ألزمه اللّه تعالى عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية ، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به ، أو يحسن دينا ، ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبا أو وجوبا ، ويدخل في ذلك اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة.
واستظهر الزمخشري كون المراد بها عقود اللّه تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه لما فيه - كما في الكشف - من براعة الاستهلال والتفصيل بعد الإجمال ، لكن ذكر فيه أن مختار البعض أولى لحصول الغرضين وزيادة التعميم ، وأن السور الكريمة مشتملة على أمهات التكاليف الدينية في الأصول والفروع. ولو لم يكن إلا تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى واعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة : 8] لكفى ، وتعقب بما لا يخلو عن نظر.
وزعم بعضهم أن فيه نزع الخف قبل الوصول إلى الماء ، وما استظهره الزمخشري خال عن ذلك. والأمر فيه هين ، وفي القول بالعموم رغب الراغب - كما هو الظاهر - فقد قال : العقود باعتبار المعقود ، والعاقد ثلاثة أضرب ، عقد بين اللّه تعالى وبين العبد ، وعقد بين العبد ونفسه ، وعقد بينه وبين غيره من البشر ، وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان : ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز اللّه تعالى معرفته في الإنسان فتوصل إليه إما ببديهة العقل ، وإما بأدنى نظر دل عليه قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف : 172] الآية ، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب اللّه تعالى وسنة نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم فذلك ستة أضرب ، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه ، والثاني أربعة أضرب : فالأول واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول : عليّ أن أصوم إن عافاني اللّه تعالى ، والثاني مستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك ، والثالث يستحب ترك الوفاء به ، وهو ما
قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه» ،
والرابع واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول : عليّ أن أقتل فلانا المسلم ، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا تغفل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ شروع في تفصيل الأحكام التي أمر بإيفائها ، وبدأ سبحانه بذلك لأنه مما يتعلق بضروريات المعاش ، و- البهيمة - من ذوات الأرواح ما لا عقل له مطلقا ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وسمي «بهيمة» لعدم تمييزه وإبهام الأمر عليه.
ونقل الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن سبب تسمية البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب الخلق لا أن الأمر أبهم عليها ، وذكر ما يدل على عقلها وعلمها ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى.
وقال غير واحد : البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر ، وإضافته إلى الأنعام للبيان كثوب خز أي أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام ، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها ، واعترض بأن البهيمة اسم جنس ، والأنعام نوع منه ، فإضافتها إليه كإضافة حيوان إنسان وهي مستقبحة ، وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة - كمدينة بغداد - فإن لفظ بغداد لما كان غير عربي لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 224
مسماه وتوضيحه - وكشجر الأراك - فإنه لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن ، وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه على ما قيل ، ولذا لا يقال : النعم إلا لها أضيف إليه بهيمة إشارة إلى ما قصد به ، وذكر البهيمة وإفرادها لإرادة الجنس ، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها وألحق بها الظباء وبقر الوحش ، وقيل : هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب ، وروي ذلك عن الكلبي والفراء ، وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما ، وجوز بعض المحققين في إضافة المشبه للمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل ملابسة المشبه اختصاصا بينهما ، أي بمعنى من البيانية على جعل المشبه نفس المشبه به ، وفائدة هذه الإضافة هنا الإشعار بعلة الحكم المشتركة بين المتضايفين كأنه قيل : أحلت لكم البهيمة المشبهة بالأنعام التي بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها في مناط الحكم ، وقيل :
المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر - وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهم -
فيكون مفاد الآية صريحا حل أكلها ، وبه قال الشافعي ، واستدل عليه بغير ما خبر ، ويفهم منها حل الأنعام ، وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لإظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر.
وفي الآية ردّ على المجوس فإنهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها قالوا : لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح خصوصا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم.
وزعموا لعنهم اللّه أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور ، والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداء بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم ، والتزموا أن البهائم مكلفة عالمة بما يجري عليها من الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولولا ذلك لما تصور انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف.
وزعم البعض منهم أنه ما من جنس من البهائم إلا وفيهم نبي مبعوث إليهم من جنسهم ، بل زعم آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير والشر ، ونسب نحوا من ذلك الإمام الشعراني إلى السادة الصوفية ، وأبى أهل الظاهر ذلك كل الإباء ، ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من اللّه تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون ، ولا يخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم ، وأجاب المعتزلة بما ردّه أهل السنة ، وأجابوا بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من اللّه تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه ، والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط الكلام فيهما في علم الكلام وكذا القول بالنور والظلمة ، وقال بعض المحققين : لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلا جعل شيء مما دونه غذاء له مأذونا بذبحه وإيلامه اعتناء بمصلحته حسبما تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار ، وقال بعض الناس : الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو الكل ، وفيه نظر لأن ظهور تقدير الأكل مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان ، نعم ذكر ابن السبكي وغيره أن قوله تعالى : إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ مجمل للجهل بمعناه قبل نزول مبينه ، ويسري الإجمال إلى ما تقدم ، ولكن ذاك ليس محل النزاع ، والاستثناء متصل من بَهِيمَةُ بتقدير مضاف محذوف م ما يُتْلى أي إلا محرم ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ، وعني بالمحرم الميتة وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إلى آخر ما ذكر في الآية الثالثة من السورة ، أو من فاعل يُتْلى أي إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 225
آية تحريمه لتكون ما عبارة عن البهيمة المحرمة لا اللفظ المتلو ، وجوز اعتبار التجوز في الإسناد من غير تقدير وليس بالبعيد وأما جعله مفرغا من الموجب في موقع الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد - كما قال الشهاب - جدا ، وذهب بعضهم إلى أنه منقطع بناء على الظاهر لأن المتلو لفظ ، والمستثنى منه ليس من جنسه والأكثرون على الأول ، ومحل المستثنى النصب وجوز الرفع على ما حقق في النحو غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حال من الضمير في لَكُمْ على ما عليه أكثر المفسرين ، والصَّيْدِ يحتمل المصدر والمفعول ، وقوله تعالى : وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال عما استكن في «محل» والحرم جمع حرام وهو المحرم ، ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الاصطياد ، أو أكل الصيد في الإحرام ، وفسر الزمخشري عدم إجلال الصيد في حالة الإحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال : كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ لئلا يكون عليكم حرج ، ولم يحمل الاحلال على اعتقاد الحل ظنّا منه أن تقييد الإحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه ، وقد يقال :
إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لو كان المراد عدم اعتقاد ناشئ من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبي عنه كما لا يخفى على المتدبر ، وأشار إليه شيخ مشايخنا جرجيس أفندي الاربلي رحمة اللّه تعالى عليه.
واعترض في البحر على ما ذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم ، وهي قد أحلت لهم مطلقا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره ، ودفع بأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم ، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام اللّه تعالى عليهم بما رخص لهم من ذلك وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم.
وعبارة الزمخشري كالصريحة في ذلك ، ودفعه العلامة الثاني بأن المراد من الْأَنْعامِ ما هو أعم من الإنسي والوحشي مجازا أو تغليبا أو دلالة أو كيفما شئت ، وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين الصيد في الإحرام إذ معه يحرم البعض وهو الوحش ، ولا يخفى أنه توجيه وحشي لا ينبغي لحمزة - غابة التنزيل - أن يقصده من مراصد عباراته ، وذهب الأخفش إلى أن انتصاب غَيْرَ على الحالية من ضمير أَوْفُوا وضعف بأن فيه الفصل من الحال وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هي مبينة ، وتخلل بعض أجزاء المبين بين أجزاء المبين مع ما يجب فيه من تخصيص العقود بما هو واجب أو مندوب في الحج ، وإلا فلا يبقى للتقييد بتلك الحال - مع أنهم مأمورون بمطلق العقود مطلقا - وجه.
وزعم العلامة أنه أقرب من الأول معنى وإن كان أبعد لفظا ، واستدل عليه بما هو على طرف الثمام ، ثم قال :
ومنهم من جعله حالا من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله تعالى : أُحِلَّتْ لَكُمْ ويستلزم جعل وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أيضا حالا من مقدر أي حال كوننا غير محلين الصيد في حال إحرامكم وليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ.
وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا يصير نسيا منسيا فلا يجوز وقوع الحال منه ، فقد قالوا : لو قلت : أنزل الغيث مجيبا لدعائهم على أن مجيبا حال من فاعل الفعل المبني للمفعول لم يجز لا سيما على مذهب القائلين : بأن المبني للمفعول صيغة أصلية ليست محولة عن المعلوم على أن في التقييد أيضا مقالا ، وجعله بعضهم حالا من الضمير المجرور في عَلَيْكُمْ ويرده أن الذي يُتْلى لا يتقيد بحال انتفاء

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 226
إحلالهم الصيد وهم حرم ، بل هو يتلى عليهم في هذه الحال وفي غيرها ، ونقل العلامة البيضاوي عن بعض أن النصب على الاستثناء ، وذكر أن فيه تعسفا ، وبينه مولانا شيخ الكل في الكل صبغة اللّه أفندي الحيدري عليه الرحمة بأنه لو كان استثناء لكان إما من الضمير في لَكُمْ أو في أَوْفُوا إذ لا جواز لاستثنائه من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وعلى الأول يجب أن يخص البهيمة بما عدا الأنعام مما يماثلها ، أو تبقى على العموم لكن بشرط إدارة المماثل فقط في حيز الاستثناء ، وأن يجعل قوله تعالى : وَأَنْتُمْ حُرُمٌ من تتمة المستثنى بأن يكون حالا عما استكن في مُحِلِّي ليصح الاستثناء إذ لا صحة له بدون هذين الاعتبارين ، فسوق العبارة يقتضي أن يقال : وهم حرم لأن الاستثناء أخرج المحلين من زمرة المخاطبين ، واعتبار الالتفات هنا بعيد لكونه رافعا فيما هو بمنزلة كلمة واحدة ، وعلى الثاني يجب تخصيص العقود بالتكاليف الواردة في الحج ، وتأويل الكلام الطلبي بما يلزمه من الخبر مع ما يلزمه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالأجنبي ، وكل ذلك تعسف أي تعسف انتهى ، وكأنه رحمه اللّه تعالى لم يذكر احتمال كون الاستثناء من الاستثناء ، مع أن القرطبي نقله عن البصريين لأن ذلك فاسد - كما قاله القرطبي وأبو حيان - لا متعسف إذ يلزم عليه إباحة الصيد في الحرم لأن المستثنى من المحرم حلال ، نعم ذكر أبو حيان أنه استثناء من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ على وجه عينه وأنفه التكلف والتعسف فقد قال رحمه اللّه تعالى : إنما عرض الإشكال في الآية حتى اضطرب الناس في تخريجها من كون رسم مُحِلِّي بالياء فظنوا أنه اسم فاعل من أحل ، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة ، وأصل غير محلين الصيد.
والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله تعالى : غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ من باب قولهم : حسان النساء ، والمعنى النساء الحسان ، وكذا هذا أصله غير الصيد المحل ، والمحلّ صفة للصيد لا للناس ، ووصف الصيد بأنه محل ، إما بمعنى داخل في الحل كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل ، وأحرم أي دخل في الحرم ، أو بمعنى صار ذا حل أي حلالا بتحليل اللّه تعالى ، ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب ، فمن الأول أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتهم ، ومن الثاني أعشبت الأرض وأبقلت ، وأغد البعير ، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار الوجهين اتضح كونه استثناء ثانيا ، ثم إن كان المراد ب بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أنفسها فهو استثناء منقطع ، أو الظباء ونحوها فمتصل على تفسير المحل بالذي يبلغ الحل في حال كونهم محرمين ، «فإن قلت» ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟.
قلت : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم ، والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم.
فإن قلت : ما ذكرته من هذا التوجيه الغريب يعكر عليه رسمه في المصحف بالياء والوقف عليه بها.
قلت : قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق نحو «لأذبحنه» بالألف ، والوقف اتبعوا فيه الرسم انتهى.
وتعقبه السفاقسي بمثل ما قدمناه من حيث زيادة الياء ، وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرّون من زيادة أو نقصان في الرسم ، فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة الصفة للموصوف وهو غير مقيس ، وقال الحلبي : إن فيه خرقا للإجماع فإنهم لم يعربوا غير إلا حالا ، وإنما اختلفوا في صاحبها ، ثم قال السفاقسي : ويمكن فيه تخريجان : أحدهما أن يكون غير استثناء منقطعا ، ومُحِلِّي جمع على بابه ، والمراد به الناس الداخلون حل الصيد ، أي لكن إن دخلتم حل الصيد فلا يجوز لكم الاصطياد ، والثاني أن يكون متصلا من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ، وفي الكلام حذف مضاف ، أي أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فلا يحل ، ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل ، ويكون الاستثناء متصلا والمضاف محذوف ، أي إلا صيد محلي الاصطياد وَأَنْتُمْ

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 227
حُرُمٌ
، والمراد بالمحلين الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل ، ويكون معناه أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقا ، ويحتمل أن يكون حالا من ضمير لكم ، وحذف المعطوف للدلالة عليه وهو كثير ، وتقديره غير محلي الصيد محليه كما قال تعالى : تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل : 81] أي والبرد ، وهو تخريج حسن.
هذا ولا يخفى أن يد اللّه تعالى مع الجماعة ، وأن ما ذكره غيرهم لا يكاد يسلم من الاعتراض.
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تقف دونها الأفكار ، فيدخل فيها ما ذكره من التحليل والتحريم دخولا أوليا ، وضمن يَحْكُمُ معنى يفعل ، فعداه بنفسه وإلا فهو متعد بالياء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لما بين سبحانه حرمة إحلال الحرم الذي هو من شعائر الحج عقب جل شأنه ببيان إحلال سائر الشعائر ، وهو جمع شعرة ، وهي اسم لما أشعر ، أي جعل شعارا وعلامة للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والمسعى ، والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر ، وإضافتها إلى اللّه تعالى لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها ، والمراد منه التهاون بحرمتها ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها ، وروي عن عطاء أنه فسر الشعائر بمعالم حدود اللّه تعالى وأمره ونهيه وفرضه ، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بها العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم ، ومعنى إحلالها عنده مجاوزتها إلى مكة بغير إحرام ، وقيل : هي الصفا والمروة ، والهدي من البدن وغيرها ، وروي ذلك عن مجاهد وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تحلوه بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين - كما روي عن ابن عباس وقتادة - أو بالنسيء كما نقل عن القتيبي ، والأول هو الأولى بحال المؤمنين.
واختلف في المراد منه فقيل : رجب ، وقيل : ذو القعدة ، وروي ذلك عن عكرمة ، وقيل : الأشهر الأربعة الحرم ، واختاره الجبائي والبلخي ، وإفراده لإرادة الجنس وَلَا الْهَدْيَ بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع من أن يبلغ محله ، والمراد به ما يهدى إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء ، وهو جمع هدية - كجدي وجدية - وهي ما يحشى تحت السرج والرحل ، وخص ذلك بالذكر بناء على دخوله في الشعائر لأن فيه نفعا للناس ، ولأنه مالي قد يتساهل فيه ، وتعظيما له لأنه من أعظمها وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له ، والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي وهي البدن ، وخصت بالذكر تشريفا لها واعتناء بها ، أو التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها كما في قوله تعالى : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور : 31] فإنهن إذا نهين عن إظهار الزينة كالخلخال والسوار علم النهي عن إبداء محلها بالطريق الأولى ، ونقل عن أبي علي الجبائي أن المراد النهي عن إحلال نفس القلائد ، وإيجاب التصدق بها إن كانت لها قيمة ، وروي ذلك عن الحسن ، وروي عن السدي أن المراد من القلائد أصحاب الهدي فإن العرب كانوا يقلدون من لحاء شجر مكة يقيم الرجل بمكة حتى إذا انقضت الأشهر الحرم ، وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله ، وقال الفراء : أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر ، وغير أهل الحرم كانوا يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما ، وعن الربيع وعطاء أن المراد نهي المؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يقلدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي ولا تحلوا أقواما قاصدين البيت الحرام بأن تصدوهم عنه بأي وجه كان ، وجوز أن يكون على حذف مضاف أي قتال قوم أو أذى قوم آمِّينَ.
وقرى ء - ولا آمي البيت الحرام - بالإضافة ، والْبَيْتَ مفعول به لا ظرف ، ووجه عمل اسم الفاعل فيه ظاهر ، وقوله تعالى : يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من المستكن في آمِّينَ ، وجوز أن يكون صفة ،

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 228
وضعف بأن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الذي عمل بالحمل عليه لأن الموصوفية تبعد الشبه بأنها من خواص الأسماء ، وأجيب بأن الوصف إنما يمنع من العمل إذا تقدم المعمول ، فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه كما صرح به صاحب اللب وغيره ، وتنكير فَضْلًا وَرِضْواناً للتفخيم ، ومِنْ رَبِّهِمْ متعلق بنفس الفعل ، أو بمحذوف وقع صفة - لفضلا - مغنية عن وصف ما عطف عليه بها ، أي فضلا كائنا من ربهم ورضوانا كذلك ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعار بحصول مبتغاهم ، والمراد بهم المسلمون خاصة ، والآية محكمة.
وفي الجملة إشارة إلى تعليل النهي واستنكار المنهي عنه كذا قيل ، واعترض بأن التعرض للمسلمين حرام مطلقا سواء كانوا آمين أم لا؟ فلا وجه لتخصيصهم بالنهي عن الإحلال ، ولذا قال الحسن وغيره : المراد بالآمين هم المشركون خاصة ، والمراد من الفضل حينئذ الربح في تجاراتهم ، ومن الرضوان ما في زعمهم ، ويجوز إبقاء الفضل على ظاهره إذا أريد ما في الزعم أيضا لكنه لما أمكن حمله على ما هو في نفس الأمر كان حمله عليه أولى ، ويؤيد هذا القول إن الآية نزلت - كما قال السدي وغيره - في رجل من بني ربيعة يقال له الحطيم بن هند ، وذلك
أنه أتى إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وحده وخلف خيله خارج المدينة فقال : إلام تدعو الناس؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فقال : حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده ، فلما خرج قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم ، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول :
قد لفها بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بخوار على ظهر قطم باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم مدملج الساقين ممسوح القدم
فطلبه المسلمون فعجزوا ، فلما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : هذا الحطيم وأصحابه فدونكموه وكان قد قلد ما نهب من السرح وجعله هديا فلما توجهوا لذلك نزلت الآية فكفوا.
وروي عن ابن زيد «أنها نزلت يوم فتح مكة في فوارس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون : يا رسول اللّه هؤلاء المشركون مثل هؤلاء ، دعنا نغير عليهم ، فأنزل اللّه سبحانه الآية»
واختلف القائلون بأن المراد من الآمين المشركون في النسخ وعدمه ، فعن ابن جريج أنه لا نسخ لأنه يجوز أن يبتدىء المشركون في الأشهر الحرم بالقتال ، وأنت تعلم أن الآية ليست نصا في القتال على تقدير تسليم ما في حيز التعليم ، وقال أبو مسلم :
إن الآية منسوخة بقوله تعالى : فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة : 28] ، وقيل : بآية السيف ، وقيل :
بهما ، وقيل : لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد ، وروي ذلك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وادعى بعضهم أن المراد بالآمين كافة المسلمين والمشركين وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ، والنسخ حينئذ في حق المشركين خاصة.
وبعض الأئمة يسمي مثل ذلك تخصيصا كما حقق في الأصول ، ولا بد على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين ، وقرأ حميد بن قيس الأعرج تبتغون بالتاء على خطاب المؤمنين ، والجملة على ذلك حال من ضمير المخاطبين في لا تُحِلُّوا على أن المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهي عنه لا تقييد النهي بها ، واعترض بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم وأجيب بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولا يرضى بما فعلوه وفيه بلاغة لا تخفى. وإشارة إلى ما مر من أن اللّه تعالى رب العالمين لا المسلمين فقط ، وقال

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 229
شيخ الإسلام : إن إضافة الرب إلى ضمير آمِّينَ على قراءة الخطاب للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى ، وفي ذلك من تعليل النهي وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهي عنه ما لا يخفى وَإِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه : وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَاصْطادُوا أي فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع ، فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي إذا أديت أبيح لك دخولها ، وإلى كون الأمر للإباحة بعد الحظر ذهب كثير.
وقال صاحب القواطع : إنه ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن ، ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر قرينة صارفة ، وهو أحد ثلاثة مذاهب في المسألة ، ثانيها أنه للوجوب لأن الصيغة تقتضيه ، ووروده بعد الحظر لا تأثير له ، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق والسمعاني والإمام في المحصول ، ونقله الشيخ أبو حامد الأسفرايني في كتابه عن أكثر الشافعية ، ثم قال : وهو قول كافة الفقهاء وأكثر المتكلمين ، وثالثها الوقف بينهما ، وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر ، ولا يبعد على - ما قاله الزركشي - أن يقال هنا برجوع الحال إلى ما كان قبل ، كما قيل في مسألة النهي الوارد بعد الوجوب. ومن قال : إن حقيقة الأمر المذكور للإيجاب قال : إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب ، وقيل : إن الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز في المادة كأنه قيل : اعتقدوا حل الصيد وليس بشيء ، وقرى ء - أحللتم - وهو لغة في حل ، وعن الحسن أنه قرىء فَاصْطادُوا بكسر الفاء بنقل حركة همزة الوصل عليها ، وضعفت من جهة العربية بأن النقل إلى المتحرك مخالف للقياس ، وقيل : إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء ، وإن كانت من المستعلية وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة ، ونقل عن ثعلب والكسائي وغيرهما ، وأنشدوا له بقوله :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن تغضبا
فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه ، وإلى الآخر بعلى ، وقال الفراء وأبو عبيدة : المعنى لا يكسبنكم ، وجرم جار مجرى كسب في المعنى ، والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال : جرم ذنبا نحو كسبه ، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه ، وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني ، ومنه الجريمة ، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه ، وقد يقال : أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال : أكسبته ذنبا ، وعليه قراءة عبد اللّه «لا يجرمنكم» بضم الياء شَنَآنُ قَوْمٍ بفتح النون وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ، وإسماعيل عن نافع بسكونها ، وفيهما احتمالان : الأول أن يكونا مصدرين بمعنى البغض أو شدته شذوذا لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة - كجولان - ولا يكون لفعل متعد كما قال : س ، وهذا متعد إذ يقال : شنئته ، ولا دلالة له على الحركة إلا على بعد ، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو - لويته ليانا - بمعنى مطلته ، والثاني أن يكونا صفتين لأن فعلان في الصفات كثير كسكران ، وبالفتح ورد فيها قليلا - كحمار قطوان عسر السير ، وتيس عدوان كثير العدو - فإن كان مصدرا فالظاهر أن إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قوما ، وجوز أن تكون إلى الفاعل أي إن يبغضكم قوم ، والأول أظهر - كما في البحر - وإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض ، وإضافته بيانية وليس مضافا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة - للشنآن - أي لأن صدوكم عام الحديبية ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن أَنْ شرطية ، وما قبلها دليل الجواب ، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه ، وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 230
وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض ، وذلك كقوله تعالى : أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف : 5] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم ، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ بعد ظهور الإسلام وقوته ، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي عن زيارته والطواف به للعمرة ، وهذه - كما قال شيخ الإسلام - آية بينة في عموم آمِّينَ للمشركين قطعا ، وجعلها البعض دليلا على تخصيصه بهم أَنْ تَعْتَدُوا أي عليهم ، وحذف تعويلا على الظهور ، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم ، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا ، والمحل بعده إما جر ، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي ، أو لا حذف ، والمنسبك ثاني مفعولي يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم ، وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده ، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية ، ويقال : لا أرينك هاهنا والمقصود نهي المخاطب على الحضور.
ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى : وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم ، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ.
وقال شيخ الإسلام : لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية ، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمّين بالطريق الأولى ، ولعله الأولى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى عطف على وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ من حيث المعنى كأنه قيل : لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء ، وقال بعضهم : هو استئناف والوقف على أَنْ تَعْتَدُوا لازم ، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقا ، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلا للكلام ، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج ، فقد قال تعالى : فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج : 32] ويدخل العفو والإغضاء أيضا دخولا أوليا ، وعلى العموم أيضا حمل قوله تعالى : وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فيعم النهي كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي ، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه ، والعدوان بمجاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم ، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات ، وقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ أمر بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي ، ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني.
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لا يتقيه ، وهذا في موضع التعليل لما قبله ، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه : إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ والمراد تحريم أكل الميتة ، وهي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه وَالدَّمُ أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه ، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح ، وأما الطحال فالأكثرون على

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 231
إباحته ، وأجمعت الإمامية على حرمته ، ورويت الكراهة فيه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ إقحام اللحم لما مر ، وأخذ داود وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره ، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره ، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة أنه قال : «من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل» وهو غريب ، ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار ، وفيه تأمل وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي رفع الصوت لغير اللّه تعالى عند ذبحه ، والمراد بالإهلال هنا ذكر ما يذبح له - كاللات والعزى - وَالْمُنْخَنِقَةُ قال السدي : هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت ، وقال الضحاك وقتادة : هي التي تختنق بحبل الصائد فتموت.
وقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين ، والأولى أن تحمل على التي ماتت بالخنق مطلقا وَالْمَوْقُوذَةُ أي التي تضرب حتى تموت ، قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وقتادة والسدي ، وهو من وقذته بمعنى ضربته ، وأصله أن تضربه حتى يسترخي ، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي التي تقع من مكان عال أو في بئر فتموت وَالنَّطِيحَةُ أي التي ينطحها غيرها فتموت ، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء ، وقال بعض الكوفيين : إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل - كف خضيب وعين كحيل - وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه ، ولا حاجة إلى القول بأنها للنقل ، وقرىء والمنطوحة وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي ما أكل منه السبع فمات وفسر بذلك لأن ما أكله كله لا يتعلق به حكم ولا يصح أن يستثنى منه قوله تعالى : إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه وعن السيدين السندين الباقر والصادق رضي اللّه تعالى عنهما أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن أو الذنب أو الجفن ،
وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد ، وقال بعضهم : يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل : أن يضطرب بعد الذبح لا وقته ، وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع على تقدير إبقائه على ظاهره ، وقيل : هو استثناء من التحريم لا من المحرمات ، والمعنى حرم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله اللّه تعالى بالتذكية فإنه حلال لكم.
وروي ذلك عن مالك وجماعة من أهل المدينة ، واختاره الجبائي ، والتذكية في الشرع قطع الحلقوم والمريء بمحدد ، والتفصيل في الفقه ، واستدل بالآية على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحل.
وقرأ الحسن : «السبع» بسكون الباء ، وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وأكيل السبع .. وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جمع نصاب كحمر وحمار ، وقيل : واحد الأنصاب كطنب وأطناب ، واختلف فيها فقيل هي حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين حجرا ، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها - فعلى - على أصلها ، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير اللّه تعالى وقيل : هي الأصنام لأنها تنصب فتعبد من دون اللّه تعالى ، وعَلَى إما بمعنى اللام ، أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام.
واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه : وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والأمر في ذلك هين ، والموصول معطوف على المحرمات ، وقرىء النُّصُبِ بضم النون وتسكين الصاد تخفيفا ، وقرىء بفتحتين ، وبفتح فسكون وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ جمع زلم - كجمل - أو زلم - كصرد - وهو القدح ، أي وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 232
وذلك أنهم - كما روي عن الحسن وغيره - إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح ، مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الثاني نهاني ربي وأبقوا الثالث غفلا لم يكتب عليه شيء فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم ، وإن خرج الناهي تجنبوا ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام ، واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل ، وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يحب الفأل.
وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى ذلك ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما من أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا فلهذا صار حراما ، وقيل : لأن فيه افتراء على اللّه تعالى إن أريد - بربي - اللّه تعالى ، وجهالة وشركا إن أريد به الصنم ، وقيل : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر اللّه تعالى به ، واعترض بأنا لا نسلم أن الدخول في علم الغيب حرام ، ومعنى استئثار اللّه تعالى بعلم الغيب أنه لا يعلم إلا منه ، ولهذا صار استعلام الخير والشر من المنجمين والكهنة ممنوعا حراما بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه استعلام من اللّه تعالى ، ولهذا أطبقوا على جوازها ومن ينظر في ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه سبحانه فلو كان طلب علم الغيب حراما لا نسد طريق الفكر والرياضة ، ولا قائل به.
وقال الإمام رحمه اللّه تعالى : لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفرا لأنه طلب للغيب ، وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا ، ومعلوم أن كل ذلك باطل ، وتعقب القول - بجواز الاستخارة بالقرآن - بأنه لم ينقل فعلها عن السلف ، وقد قيل : إن الإمام مالكا كرهها. وأما ما في فتاوى الصوفية نقلا عن الزندوستي من أنه لا بأس بها وأنه قد فعلها علي كرم اللّه تعالى وجهه ومعاذ رضي اللّه تعالى عنه.
وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : - من أراد أن يتفاءل بكتاب اللّه تعالى فليقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص : 1] سبع مرات ، وليقل ثلاث مرات : اللهم بكتابك تفاءلت ، وعليك توكلت ، اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في غيبك ، ثم يتفاءل بأول الصحيفة - ففي النفس منه شيء.
وفي كتاب الأحكام للجصاص أن الآية تدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ما أخرجته القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على ما بين في الفقه ، ولا يرد أن القرعة قد جازت في قسمة الغنائم مثلا ، وفي إخراج النساء لأنا نقول : إنها فيما ذكر لتطييب النفوس والبراءة من التهمة في إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة ، وأما الحرية الواقعة على واحد من البعيد فيما نحن فيه فغير جائز نقلها عنه إلى غيره ، وفي استعمال القرعة النقل ، وخالف الشافعي في ذلك ، فجوز القرعة في العتق كما جوزها في غيره ، وظواهر الأدلة معه ، وتحقيق ذلك في موضعه.
والحق عندي أن الاستقسام الذي كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا شبهة كما هو نص الكتاب ، وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد ، وأنه لا يخلو عن تشاؤم ، وليس بتقاؤل محض ، وإن مثل ذلك ليس من الدخول في علم الغيب أصلا بل هو من باب الدخول في الظن ، وأن الاستخارة بالقرآن مما لم يرد فيها شيء يعول عليه عن الصدر الأول ، وتركها أحب إليّ لا سيما وقد أغنى اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة في غير ما خبر صحيح ، وأن تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولا فيه ، وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب ، ونقل الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم عن القاضي كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب : أحدها أن يكون للإنسان رئي من الجن يخبره به بما يسترقه من السمع من السماء ، وهذا القسم بطل من حين بعث اللّه تعالى نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم الثاني أن يخبره بما يطرأ ويكون في

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 233
أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد ، وهذا لا يبعد وجوده ، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما ، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون ، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام ، الثالث المنجمون وهذا الضرب بخلق اللّه تعالى في بعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب ، ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عرّاف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها - كالزجر والطرق بالحصى - وهذه الأضراب كلها تسمى كهانة ، وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم انتهى.
ولعل النهي عن ذلك لغلبة الكذب في كلامهم ولأن في تصديقهم فتح باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لا سيما من العوام ، واستثناء ما هو من جنس الكسوف والخسوف لندرة خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب ، ولا كذلك ما يخبرون به من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض ، أو مع بعض الثوابت ولا شك أن ذلك لا يكفي في الغرض والوقوف على جميع الأوضاع ، وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام الغيوب فليفهم ، وقيل : المراد بالاستقسام استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب قسم من الجزور أو ما قسمه اللّه تعالى عنهم ، ورجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام ، وروي عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها.
وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج ذلِكُمْ أي الاستقسام بالأزلام ، ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر فِسْقٌ أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة اللّه تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن ذلِكُمْ إشارة إلى تناول جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق الْيَوْمَ أي الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية ، وقيل : يوم نزول الآية ، وروي ذلك عن ابن جريج ومجاهد وابن زيد ، وكان - كما رواه الشيخان عن عمر رضي اللّه تعالى عنه - عصر يوم الجمعة عرفة حجة الوداع ، وقيل : يوم دخوله صلّى اللّه عليه وسلّم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع ، وقيل : سنة ثمان ، وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى : يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.
والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها ، أو من أن يغلبوكم عليه لما شاهدوا أن اللّه تعالى وفى بوعده حيث أظهره على الدين كله.
وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلّى اللّه عليه وسلّم في الموقف فلم ير إلا مسلما ، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله سبحانه : فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس وَاخْشَوْنِ أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار لأنهم بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه ، وهذا كما تقول : تم لي الملك إذا كفيت ما تخافه ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وعن ابن عباس والسدي أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي بتنزيل ما أنزلت وبيان ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم ، وكان يوم عرفة عام حجة الوداع ، واختاره الجبائي والبلخي وغيرهما ، وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في تحليل ولا تحريم ، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يوما ، ومضى - روحي فداه - إلى الرفيق الأعلى صلّى اللّه عليه وسلّم.
وفهم عمر رضي اللّه تعالى عنه لما سمع الآية نعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ،
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عنترة «أن عمر رضي اللّه تعالى عنه لما نزلت الآية بكى فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ما يبكيك؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة والسلام : صدقت»
ولا يحتج بها على هذا القول على إبطال

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 234
القياس - كما زعم بعضهم - لأن المراد إكمال الدين نفسه ببيان ما يلزم بيانه ، ويستنبط منه غيره والتنصيص على قواعد العقائد ، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد ، وروي عن سعيد بن جبير وقتادة أن المعنى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين - واختاره الطبري - وقال : يرد على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي اللّه تعالى عنهم أن اللّه تعالى أنزل بعد ذلك آية الكلالة وهي آخر آية نزلت ، واعترض بالمنع ، وتقديم الجار للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم ، وفيه أيضا تشويق إلى ذكر المؤخر كما في قوله تعالى : وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وليس الجار فيه متعلقا - بنعمتي - لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله ، وقيل : متعلق به ولا بأس بتقدم معمول المصدر إذا كان ظرفا ، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكة ، ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكها ، والنهي عن حج المشركين وطواف العريان ، وقيل : بإتمام الهداية والتوفيق بإتمام سببهما ، وقيل : بإكمال الدين ، وقيل : بإعطائهم من العلم والحكمة ما لم يعطه أحدا قبلهم ، وقيل : معنى أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أنجزت لكم وعدي بقوله سبحانه : وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي اخترته لكم من بين الأديان ، وهو الدين عند اللّه تعالى لا غير وهو المقبول وعليه المدار.
وأخرج ابن جبير عن قتادة قال : «ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة ، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام فيقول : رب أنت السلام وأنا الإسلام ، فيقول : إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي»
وقد نظر في الرضا معنى الاختيار ولذا عدي باللام ، ومنهم من جعل الجار - صفة لدين - قدم عليه فانتصب حالا ، والْإِسْلامَ ودِيناً مفعولا رَضِيتُ إن ضمن معنى صير ، أو دِيناً منصوب على الحالية من الإسلام ، أو تمييز من لَكُمْ والجملة - على ما ذهب إليه الكرخي - مستأنفة لا معطوفة على أَكْمَلْتُ وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم دينا ، وليس كذلك إذ الإسلام لم يزل دينا مرضيا للّه تعالى وللنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه رضي اللّه تعالى عنهم منذ شرع والجمهور على العطف ، وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا باختياره حكما أبديا لا ينسخ وهو كان في ذلك اليوم. وأخرج الشيعة عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت بعد أن قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعلي كرم اللّه تعالى وجهه في غدير خم : من كنت مولاه فعلي مولاه فلما نزلت قال عليه الصلاة والسلام : اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتي وولاية علي كرم اللّه تعالى وجهه بعدي ،
ولا يخفى أن هذا من مفترياتهم ، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك في مبتدأ الأمر ، نعم ثبت عندنا
أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال في حق الأمير كرم اللّه تعالى وجهه هناك : من كنت مولاه فعلي مولاه
وزاد على ذلك - كما في بعض الروايات - لكن لا دلالة في الجميع على ما يدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى غير بعيد.
وقد بسطنا الكلام عليه في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية ولم يتم إلى الآن ونسأل اللّه تعالى إتمامه ، ورواياتهم في هذا الفصل ينادي لفظها على وضعها ، وقد أكثر منها يوسف إلا والى عليه ما عليه فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات وما بينهما ، وهو سبع جمل - على ما قال الطيبي - اعتراض بما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسق عظيم ، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي ، والاضطرار الوقوع في الضرورة ، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات فِي مَخْمَصَةٍ أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها أو مبادئه غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائدا على ما يمسك رمقه ، فإن ذلك حرام - كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي اللّه تعالى عنهم - وبه قال أهل العراق ، وقال أهل

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 235
المدينة : يجوز أن يشبع عند الضرورة ، وقيل : المراد غير عاص بأن يكون باغيا ، أو عاديا بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجا في معصيته ، وروي هذا أيضا عن قتادة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في الحقيقة ، وقد أقيم سببه مقامه ، وقيل : إنه مقدر في الكلام يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ شروع في تفصيل المحللات التي ذكر بعضها على وجه الإجمال إثر بيان المحرمات ،
أخرج ابن جرير والبيهقي في سننه وغيرهما عن أبي رافع قال : «جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال عليه الصلاة والسلام : قد أذنا لك قال : أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو ، قال أبو رافع : فأمرني صلّى اللّه عليه وسلّم أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت ، وجاء الناس فقالوا : يا رسول اللّه ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه تعالى يسألونك الآية.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السائل عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيان ، وقد ضمن السؤال معنى القول ، ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول ، وليس معلقا لأنه وإن لم يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له ، فيعلق كما يعلق خلافا لأبي حيان ، فاندفع ما قيل : إن السؤال ليس مما يعمل في الجمل ويتعدى بحرف الجر ، فيقال : سئل عن كذا ، وادعى بعضهم لذلك أنه بتقدير مضاف أي جواب ماذا ، والأول مختار الأكثرين ، وضمير الغيبة دون ضمير المتكلم الواقع في كلامهم لما أن يسألون بلفظ الغيبة كما تقول : أقسم زيد ليضربن ، ولو قلت : لأضربن جاز ، والمسئول نظرا للكلام السابق ما أحل من المطاعم والمآكل ، وقيل : إن المسئول ما أحل من الصيد والذبائح قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه ، وإلى ذلك ذهب البلخي ، وعن أبي علي الجبائي وأبي مسلم هي ما أذن سبحانه في أكله من المأكولات والذبائح والصيد ، وقيل : ما لم يرد بتحريمه نص أو قياس ، ويدخل في ذلك الإجماع إذ لا بد من استناده لنص وإن لم نقف عليه ، والطيب - على هذين القولين - بمعنى الحلال ، وعلى الأول بمعنى المستلذ ، وقد جاء بالمعنيين وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن ما موصولة ، والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه ، قيل : والمراد مصدره لأنه الذي أحل بعطفه على الطَّيِّباتُ من عطف الخاص على العام ، وقيل : الظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد بمعنى المصيد لأنه الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل ، ويحتمل أن تكون ما شرطية مبتدأ ، والجواب فكلوا ، والخبر الجواب ، والشرط على المختار ، والجملة عطف على جملة أُحِلَّ لَكُمُ ولا يحتاج إلى تقدير مضاف.
ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه ، وقال تقديره لا يبطل كون ما شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه - كما تقول - غلام من يضرب أضرب - كما تقول - من يضرب أضرب ، وتعقب بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجعل مِمَّا أَمْسَكْنَ من وضع الظاهر موضع ضمير ما عَلَّمْتُمْ فافهم ، وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضا ، والخبر كلوا ، والفاء إنما دخلت تشبيها للموصول باسم الشرط لكنه خلاف الظاهر ، ومِنَ الْجَوارِحِ حال من الموصول ، أو من ضميره المحذوف ، والْجَوارِحِ جمع جارحة ، والهاء فيها - كما قال أبو البقاء - للمبالغة ، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها الموصوف ، وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير ، وهو من قولهم : جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم ، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم ، وقيل : سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غالبا.
وعن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما والسدي والضحاك - وهو
المروي عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة - أنها

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 236
الكلاب فقط
مُكَلِّبِينَ أي معلمين لها الصيد ، والمكلب مؤدب الجوارح ومضربها بالصيد ، وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان المعروف لأن التأديب كثيرا ما يقع فيه أو لأن كل سبع يسمى كلبا على ما قيل ،
فقد أخرج الحاكم في المستدرك - وقال : صحيح الإسناد - من حديث أبي نوفل قال : «كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم :
اللهم سلط عليه كلبا من كلابك - أو كلبك - فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فيه سباع فقال : إني أخاف دعوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فجعلوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به» ،
ولا يخفى أن في شمول ذلك لسباع الطير نظرا ، ولا دلالة في تسمية الأسد كلبا عليه.
وجوز أن يكون مشتقا من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة ، يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به ، وانتصابه على الحالية من فاعل عَلَّمْتُمْ ، وفائدتها المبالغة في التعليم لما أن المكلب لا يقع إلا على النحرير في علمه ، وعن ابن عباس وابن مسعود والحسن رضي اللّه تعالى عنهم أنهم قرؤوا مُكَلِّبِينَ بالتخفيف من أكلب ، وفعل وأفعل قد يستعملان بمعنى واحد تُعَلِّمُونَهُنَّ حال من ضمير مُكَلِّبِينَ أو استئنافية إن لم تكن ما شرطية وإلا فهي معترضة ، وجوز أن تكون حالا ثانية من ضمير عَلَّمْتُمْ ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين وفيه نظر ، ولم يستحسن جعلها حالا من الْجَوارِحِ للفصل بينهما.
مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الحيل وطرق التعليم والتأديب ، وذلك إما بالإلهام منه سبحانه ، أو بالعقل الذي خلقه فيهم جل وعلا ، وقيل : المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد بأن يسترسل بإرسال صاحبه وينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه.
ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغي أن يكون مكلبا فقيها أيضا ، و- من - أجلية ، وقيل : تبعيضية أي بعض ما علمكم اللّه فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة مبينة للمضاف المقدر ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره ، أو جواب للشرط ، أو خبر للمبتدأ ، و- من - تبعيضية إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم وغير ذلك ، وقيل : «زائدة على رأي الأخفش وخروج ما ذكر بديهي وما موصولة أو موصوفة ، والعائد محذوف أي أمسكنه ، وضمير المؤنث للجوارح ، وعَلَيْكُمْ متعلق بأمسكن ، والاستعلاء مجازي والتقييد بذلك لإخراج ما أمسكنه على أنفسهن ، وعلامته أن يأكلن منه فلا يؤكل منه وقد أشار إلى ذلك صلّى اللّه عليه وسلّم ،
روى أصحاب السنن عن عدي بن حاتم قال : «سألت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن صيد الكلب المعلم فقال عليه الصلاة والسلام : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه تعالى فكل مما أمسك عليك ، فإن أكل منه فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه»
وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء ، وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه والشعبي وعكرمة ، وقال أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه وأصحابه : إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده ، ويؤكل صيد البازي ونحوه وإن أكل ، لأن تأديب سباع الطير إلى حيث لا تؤكل متعذر ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، فقد أخرج عبد بن حميد عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل ، لأن الكلب تستطيع أن تضربه ، والصقر لا تستطيع أن تضربه ، وعليه إمام الحرمين من الشافعية ، وقال مالك والليث : يؤكل وإن أكل الكلب منه ، وقد روي عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة رضي اللّه تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وقد ذكرت اسم اللّه تعالى عليه فكل وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير - لما علمتم - كما يدل عليه الخبر السابق ، والمعنى سموا عليه عند إرساله وروي ذلك عن ابن عباس والحسن والسدي ، وقيل : - لما أمسكن - أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، وقيل : للمصدر المفهوم من - كلوا - أي سموا اللّه تعالى على الأكل - وهو بعيد - وإن استظهره أبو حيان ، والأمر

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 237
للوجوب عند أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، وللندب عند الشافعي ، وهو على القول الأخير للندب بالاتفاق وَاتَّقُوا اللَّهَ في شأن محرماته ، ومنها أكل صيد الجوارح الغير المعلمة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي سريع إتيان حسابه ، أو سريع إتمامه إذا شرع فيه ، فقد جاء - أنه سبحانه يحاسب الخلق كلهم في نصف يوم - والمراد على التقديرين أنه جل شأنه يؤاخذكم على جميع الأفعال حقيرها وجليلها ، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم ، ولعل ذكر هذا إثر بيان حكم الصيد لحث متعاطيه على التقوى لما أنه مظنة التهاون والغفلة عن طاعة اللّه تعالى فقد رأينا أكثر من يتعاطى ذلك يترك الصلاة ولا يبالي بالنجاسة ، والمحتاجون للصيد - الحافظون لدينهم - أعز من الغراب الأبيض وهم مثابون فيه.
فقد أخرج الطبراني عن صفوان بن أمية «أن عرفطة بن نهيك التميمي قال : يا رسول اللّه إني وأهل بيتي مرزوقون من هذا الصيد ولنا فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر اللّه تعالى ، وعن الصلاة في جماعة ، وبنا إليه حاجة أفتحله أم تحرمه؟ قال صلّى اللّه عليه وسلّم : أحله لأن اللّه تعالى قد أحله ، نعم العمل واللّه تعالى أولى بالعذر قد كانت قبلي رسل كلهم يصطاد أو يطلب الصيد ويكفيك من الصلاة في جماعة إذا غبت عنها في طلب الرزق حبك الجماعة وأهلها وحبك ذكر اللّه تعالى وأهله وابتغ على نفسك وعيالك حلالها فإن ذلك جهاد في سبيل اللّه تعالى»
واعلم أن عون اللّه تعالى في صالح التجار ، واستدل بالآية على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة لأن التعليم قد يحتاج لذلك ، وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد وقيس به الحراسة ، وعلى أنه لا يحل صيد الكلب المجوس ، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، فقد روي عنه في المسلم يأخذ كلب المجوسي أو بازه أو صقره أو عقابه فيرسله أنه قال : لا تأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوس ، وإنما قال اللّه تعالى : تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إعادة هذا الحكم للتأكيد والتوطئة لما بعده ، وسبب ذكر اليوم يعلم مما ذكر أمس.
وقال النيسابوري : فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره ، والأول أولى. وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أي حلال ، والمراد بالموصول اليهود والنصارى حتى نصارى العرب عندنا ، وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه استثنى نصارى بني تغلب ، وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ،
وإلى ذلك ذهب ابن جبير ، وحكاه الربيع عن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة - كما روي عن ابن عباس وأبي الدرداء وإبراهيم وقتادة والسدي والضحاك ومجاهد رضوان اللّه عليهم أجمعين وبه قال الجبائي والبلخي وغيرهم.
وفي البخاري عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد به الذبائح لأن غيرها لم يختلف في حله وعليه أكثر المفسرين ، وقيل :
إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية وهو المروي عند الإمامية عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه ،
وبه قال جماعة من الزيدية ، فلا تحل ذبائحهم عند هؤلاء ، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه ، وقال صاحباه : الصابئة صنفان : صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرؤون كتابا ويعبدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب ، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لما
روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد بن علي قال : «كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم»
وهو وإن كان مرسلا ، وفي إسناده قيس بن الربيع - وهو ضعيف - إلا أن إجماع أكثر المسلمين - كما قال البيهقي - عليه يؤكده ، واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 238
غير اللّه تعالى - كعزير وعيسى عليهما السلام - فقال ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما : لا تحل وهو قول ربيعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل - وهو قول الشعبي وعطاء - قالا : فإن اللّه تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر اسم غير اللّه تعالى وأنت تسمع فلا تأكل ، فإذا غاب عنك فكل فقد أحل اللّه تعالى لك وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ قال الزجاج وكثير من المتأخرين : إن هذا خطاب للمؤمنين ، والمعنى لا جناح عليكم أيها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم ، فلا تصلح الآية دليلا لمن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن التحليل حكم ، وقد علقه سبحانه بهم فيها كما علق الحكم بالمؤمنين ، واعترض على ظاهره بأنه إنما يتأتى لو كان الإطعام بدل الطعام فإن زعموا أن الطعام يقوم مقام الإطعام توسعا ورد الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ ، وهو ممتنع فقد صرحوا بأنه لا يجوز إطعام زيد حسن للمساكين وضربك شديد زيدا فكيف جاز وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ؟ وعن بعضهم فإن قيل : ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ أجيب بأن المعنى انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم فإن أطعمكموه فكلوه ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم ، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم ، ثم نسخ ذلك في شريعتنا ، فالآية بيان لنا لا لهم أي اعلموا أن ما كان محرما عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لكم أيضا ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا : هو حلال في شريعتنا ، وقد أباح اللّه تعالى لكم طعامنا كذبناهم وقلنا : إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا لا غيره ، فحاصل المعنى طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذي أحللته لكم ، وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره فافهمه فقد أشكل على بعض المعاصرين.
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ عطف على الطيبات أو مبتدأ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي حل لكم أيضا ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات ، أو من الضمير فيها على ما قاله أبو البقاء ، والمراد بهن عند الحسن ، والشعبي وإبراهيم العفائف ، وعند مجاهد الحرائر ، واختاره أبو علي ، وعند جماعة العفائف والحرائر ، وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن ، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه صحيح بالاتفاق ، وكذا نكاح غير العفائف منهن ، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإن كن حربيات كما هو الظاهر ، وقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : لا يجوز نكاح الحربيات ، وخص الآية بالذميات ، واحتج له بقوله تعالى : لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة : 22] والنكاح مقتض للمودة لقوله تعالى : خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم : 21] قال الجصاص : وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة ، وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل الحرب ، وذهبت الإمامية إلى أنه لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيات لقوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة : 221] ولقوله سبحانه : وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة : 10].
وأولوا هذه الآية بأن المراد من المحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهن ، والمراد من المحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات ، وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين اللّه تعالى أنه لا حرج في ذلك ، وإلى تفسير المحصنات بمن أسلمن ذهب ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أيضا ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ويأباه النظم ، ولذلك زعم بعضهم أن المراد هو الظاهر إلا أن الحل مخصوص بنكاح المتعة وملك اليمين ، ووطؤهن حلال بكلا الوجهين عند الشيعة ، وأنت تعلم أن هذا أدهى وأمر ، ولذلك هرب بعضهم إلى دعوى أن الآية منسوخة بالآيتين المتقدمتين آنفا احتجاجا بما رواه الجارود عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه في ذلك ، ولا يصح ذلك من طريق أهل السنة ، نعم
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 239
عنهما قال : «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام».
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن جابر بن عبد اللّه «أنه سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال :
تزوجناهن زمن الفتح ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا فلما رجعنا طلقناهن.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال : ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر اللّه تعالى المسلمات فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة ، قال الرجل : وما المسافحة؟ قال : هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينة اتبعته» إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وهي عوض الاستمتاع بهن - كما قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وغيره - وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها لا للاحتراز ، ويجوز أن يراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازا ، ولعله أقرب من الأول ، وإن كان المآل واحدا ، و«إذا» ظرف لحل المحذوف ، ويحتمل أن تكون شرطية حذف جوابها أي إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ حللن لكم. مُحْصِنِينَ أي إعفاء بالنكاح وهو منصوب على الحال من فاعل آتَيْتُمُوهُنَّ وكذا قوله تعالى : غَيْرَ مُسافِحِينَ ، وقيل : هو حال من ضمير مُحْصِنِينَ ، وقيل :
صفة - لمحصنين - أي غير مجاهرين بالزنا ، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي ولا مسرين به ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى ، وقيل : الأول نهي عن الزنا ، والثاني نهي عن مخالطتهنّ ، ومُتَّخِذِي يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على مُسافِحِينَ وزيدت لا لتأكيد النفي المستفاد من غير ، ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا على غَيْرَ مُسافِحِينَ باعتبار أوجهه الثلاثة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي من ينكر المؤمن به ، وهو شرائع الإسلام التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ، ويمتنع عن قبولها فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي الذي عمله واعتقد أنه قربة له إلى اللّه تعالى. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أي الهالكين ، والآية تذييل لقوله تعالى : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إلخ تعظيما لشأن ما أحله اللّه تعالى وما حرمه ، وتغليظا على من خالف ذلك ، فحمل الإيمان على المعنى المصدري وتقدير مضاف - كما قيل - أي بموجب الإيمان ، وهو اللّه تعالى ليس بشيء ، وإن أشعر به كلام مجاهد ، وضمير الرفع مبتدأ ، ومِنَ الْخاسِرِينَ خبره ، وفِي متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق ، وقيل : بمحذوف دلّ عليه المذكور أي خاسرين في الآخرة ، وقيل : بالخاسرين على أن أل معرفة لا موصولة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها ، وقيل : يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله :
ربيته «1» حتى إذا ما تمعددا كان جزائي بالعصا أن أجلدا
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالإيمان العلمي أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أي بعزائم التكليف ، وقال أبو الحسن الفارسي : أمر اللّه تعالى عباده بحفظ النيات في المعاملات ، والرياضات في المحاسبات ، والحراسة في الخطرات ، والرعاية في المشاهدات ، وقال بعضهم : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عقد القلب بالمعرفة ، وعقد اللسان بالثناء ، وعقد الجوارح بالخضوع ، وقيل : أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ما سواه ، والعقد الثاني عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة التي لا يغلب عليها السبعية والشره إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ من
___________
(1) قوله : «ربيته» إلخ هكذا بخطه وليس بمستقيم الوزن كما هو ظاهر لمن له إلمام بفن الشعر ، فلعل «ما» زيدت من قلمه اه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 240
التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي لا متمتعين بالحظوظ في حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال وتوجهكم إلى حرم صفات الجمال والجلال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ فليرض السالك بحكمه ليستريح ، ويهدي إلى سبيل رشده يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ من المقامات والأحوال التي يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه من الصبر والتوكل والشكر ونحوها أي لا تخرجوا عن حكمها وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وهو وقت الحج الحقيقي وهو وقت السلوك إلى ملك الملوك ، وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما فيه وَلَا الْهَدْيَ وهو النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى الحضرة ، وإحلالها باستعمالها بما يصرفها ، أو تكليفها بما يكون سبب مللها وَلَا الْقَلائِدَ وهي ما قلدته النفس من الأعمال الشرعية التي لا يتم الوصول إلا بها ، وإحلالها بالتطفيف بها وعدم إيقاعها على الوجه الكامل وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ وهم السالكون ، وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ بتجليات الأفعال وَرِضْواناً بتجليات الصفات ، وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء فلا جناح عليكم في التمتع وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أي لا يكسبنكم بغض القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك أَنْ تَعْتَدُوا عليها ، وتقهروها بالكلية فتتعطل أو تضعف عن منافعها ، أو لا يكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم أن تعتدوا عليهم بمقتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى بتدبير تلك القوى وسياستها ، أو بمراعاة الأهل والأصدقاء والإحسان إليهم وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ
الْعُدْوانِ فإن ذلك يقطعكم عن الوصول ، وعن سهل أن الْبِرِّ الإيمان وَالتَّقْوى السنة والْإِثْمِ الكفر وَالْعُدْوانِ البدعة ، وعن الصادق رضي اللّه تعالى عنه الْبِرِّ الايمان وَالتَّقْوى الإخلاص وَالْإِثْمَ الكفر وَالْعُدْوانِ المعاصي ،
وقيل : الْبِرِّ ما توافق عليه العلماء من غير خلاف وَالتَّقْوى مخالفة الهوى وَالْإِثْمَ طلب الرخص وَالْعُدْوانِ التخطي إلى الشبهات وَاتَّقُوا اللَّهَ في هذه الأمور إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقبكم بما هو أعلم حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وهي خمود الشهوة بالكلية فإنه رذيلة التفريط المنافية للعفة وَالدَّمُ وهو التمتع بهوى النفس وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ أي وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة الغيرة وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ من الأعمال التي فعلت رياء وسمعة وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها ، وَالْمَوْقُوذَةُ وهي الأفعال التي أجبر عليها الهوى وَالْمُتَرَدِّيَةُ وهي الأفعال المائلة إلى التفريط والنقصان وَالنَّطِيحَةُ وهي الأفعال التي تصدر خوف الفضيحة وزجر المحتسب مثلا وَما أَكَلَ السَّبُعُ وهي الأفعال التي هي من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ من الأفعال الحسنة التي تصدر بإرادة قلبية لم يمازجها ما يشينها وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وهو ما يفعله أبناء العادات لا لغرض عقلي أو شرعي وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ بأن تطلبوا السعادة والكمال بالحظوظ والطوالع وتتركوا العمل وتقولوا : لو كان مقدرا لنا لعملنا فإنه ربما كان القدر معلقا بالسعي ذلِكُمْ فِسْقٌ خروج عن الدين الحق لأن فيه الأمر والنهي ، والاتكال على المقدر يجعلهما عبثا الْيَوْمَ وهو وقت حصول الكمال يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ بأن يصدّوكم عن طريق الحق فَلا
تَخْشَوْهُمْ فإنهم لا يستولون عليكم بعد وَاخْشَوْنِ لتنالوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ببيان ما بينت وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بذلك أو بالهداية إليّ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ أي الانقياد للانمحاء دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول لذة في مخمصة ، وهي الهيجان الشديد للنفس غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير منحرف لرذيلة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيستر ذلك ويرحم بمدد التوفيق.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 241
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ من الحقائق التي تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وهي الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى والآلات البدنية مُكَلِّبِينَ معلمين لها على اكتساب الفضائل تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من علوم الأخلاق والشرائع فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ مما يؤدي إلى الكمال وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بأن تقصدوا أنه أحد أسباب الوصول إليه عز شأنه لا أنه لذة نفسانية وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وهو مقام الفرق والجمع وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا عليكم أن تطعموهم منه بأن تضموا لأهل الفرق جمعا ، ولأهل الجمع فرقا وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وهي النفوس المهذبة الكاملة وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي حقوقهن من الكمال اللائق بهن وألحقتموهن بالمحصنات من المؤمنات مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ
بل قاصدين تكميلهن واستيلاء الآثار النافعة منهن لا مجرد الصحبة وإفاضة ماء المعارف من غير ثمرة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ بأن ينكر الشرائع والحقائق ويمتنع من قبولها فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ بإنكاره الشرائع وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ بإنكاره الحقائق ، والظاهر عدم التوزيع ، واللّه تعالى أعلم بمراده ، وهو الموفق للصواب.
[سورة المائدة (5) : الآيات 6 إلى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان الشرائع المتعلقة بدينهم بعد بيان ما يتعلق بدنياهم ، ووجه التقديم والتأخير ظاهر إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيامة إليها والاشتغال بها ، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها مجازا ، وفائدة الإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، وقيل : يجوز أن يكون المراد إذا قصدتم الصلاة ، فعبر عن أحد لازمي الشيء بلازمه الآخر وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص بالمحدثين ، وإن لم

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 242
يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل ، وإنما ذلك من خارج على الصحيح ، لكن الإجماع على خلاف ذلك ، وقد أخرج مسلم وغيره «أنه صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : صنعت شيئا لم تكن تصنعه ، فقال عليه الصلاة والسلام : عمدا فعلته يا عمر؟؟»
يعني بيانا للجواز ، فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة ، والمعنى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ محدثين بقرينة دلالة الحال ، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا ، وقوله تعالى : فَلَمْ تَجِدُوا ماءً صريح في البدلية ، وبعض المتأخرين أن في الكلام شرطا مقدرا أي إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا إلخ إن كنتم محدثين لأنه يلائمه كل الملاءمة عطف وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا عليه ، وقيل : الأمر للندب ، ويعلم الوجوب للمحدث من السنة واستبعد لإجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل ، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض ، ووجوب بالنسبة إلى آخرين ، وقيل : هو للوجوب ، وكان الوضوء واجبا على كل قائم أول الأمر ثم نسخ ،
فقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والحاكم «1» عن عبد اللّه بن حنظلة الغسيل «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث»
ولا يعارض ذلك
خبر أن المائدة آخر القرآن نزولا إلخ
لأنه ليس في القوة مثله حتى قال العراقي : لم أجده مرفوعا ، نعم الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا ، ثم نسخ الوجوب عنهم آخرا بما يدل على الوجوب عليه عليه الصلاة والسلام أولا ، ونسخه عنه آخرا لا يخلو عن شيء كما لا يخفى.
وأخرج مالك والشافعي وغيرهما عن زيد بن أسلم أن تفسير الآية إِذا قُمْتُمْ من المضاجع يعني النوم إِلَى الصَّلاةِ والأمر عليه ظاهر ، ويحكى عن داود : أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والخلفاء من بعده كانوا يتوضؤون كذلك ، وكان علي كرم اللّه تعالى وجهه يتوضأ كذلك ويقرأ هذه الآية ، وفيه أن حديث عمر رضي اللّه تعالى عنه يأبى استمرار النبي عليه الصلاة والسلام على ما ذكر ، والخبر عن علي كرم اللّه تعالى وجهه لم يثبت ، وفعل الخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب ، وقد ورد «من توضأ على طهر كتب اللّه تعالى له عشر حسنات»
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أي أسيلوا عليها الماء ، وحد الإسالة أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما ، وعند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى لا يشترط التقاطر ، وأما الدلك فليس من حقيقة الغسل خلافا لمالك فلا يتوقف حقيقته عليه ، قيل :
ومرجعهم فيه قول العرب : غسل المطر الأرض ، وليس في ذلك إلا الإسالة ، ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أيّ دلك. وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض ، وهو إنما يكون بدلك ، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل ، وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدي الرب سبحانه وتعالى الذي لا يتم بالنسبة إلى سائر المتوضئين إلا بالدلك.
وحكي عنه أن الدلك ليس واجبا لذاته ، وإنما هو واجب لتحقق وصول الماء فلو تحقق لم يجب - كما قاله ابن الحاج في شرح المنية - ومن الغريب أنه قال : باشتراط الدلك في الغسل ولم يشترط السيلان فيما لو أمر المتوضئ الثلج على العضو فإنه قال : يكفي ذلك وإن لم يذب الثلج ويسيل ، ووافقه عليه الأوزاعي مع أن ذلك لا يسمى غسلا أصلا ويبعد قيامه مقامه ، وحد الوجه عندنا طولا من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل اللحيين ، وعرضا ما بين
___________
(1) قوله : «والحاكم» كذا بخط المؤلف مكررا مع ما قبله فليحرر اه.

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 243
شحمتي الأذن لأن المواجهة تقع بهذه الجملة وهو مشتق منها ، واشتقاق الثلاثي من المزيد - إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه - شائع ، وقال العلامة أكمل الدين : إن ما ذكروا من منع اشتقاق الثلاثي من المزيد إنما هو في الاشتقاق الصغير ، وأما في الاشتقاق الكبير وهو أن يكون بين كلمتين تناسب في اللفظ والمعنى فهو جائز ، ويعطي ظاهر التحديد وجوب إدخال البياض المعترض بين العذار والأذن بعد نباته ، وهو قولهما خلافا لأبي يوسف ، ويعطي أيضا وجوب الاسالة على شعر اللحية ، وقد اختلفت الروايات فيه عن الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه وغيره ، فعنه يجب مسح ربعها ، وعنه مسح ما يلاقي البشرة ، وعنه لا يتعلق به شيء ، وهو رواية عن أبي يوسف ، وعن أبي يوسف يجب استيعابها ، وعن محمد أنه يجب غسل الكل ، قيل : - وهو الأصح - وفي الفتاوى الظهيرية ، وعليه الفتوى لأنه قام مقام البشرة فتحول الفرض إليه كالحاجب.
وقال في البدائع عن ابن شجاع : إنهم رجعوا عما سوى هذا وكل هذا في الكثة ، أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها ولو أمرّ الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب غسل الذقن ، وفي البقال : لو قص الشارب لا يجب تخليله ، وإن طال وجب تخليله وإيصال الماء إلى الشفتين وكأن وجهه أن قطعة مسنون فلا يعتبر قيامه في سقوط ما تحته بخلاف اللحية فإن إعفاءها هو المسنون ، وعد شيخ الإسلام المرغيناني في التجنيس إيصال الماء إلى منابت شعر الحاجبين والشارب من الآداب من غير تفصيل ، وأما الشفة فقيل : تبع للفم وقال أبو جعفر : ما انكتم عند انضمامه تبع له وما ظهر فللوجه ، وروي هذا التحديد عن ابن عباس وابن عمر والحسن وقتادة والزهري رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين وغيرهم ، وقيل : الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر ، وما بطن كداخل الأنف والفم ، وكذا ما أقبل من الأذنين ، وروي عن أنس بن مالك وأم سلمة وعمار ومجاهد وابن جبير وجماعة فأوجبوا غسل ذلك كله ولم أر لهم نصا في باطن العين ، والظاهر عدم وجوب غسله عندهم لمزيد الحرج وتوقع الضرر ، ولهذا صرح البعض بعدم سنية الغسل أيضا ، بل قال بعضهم : يكره ، نعم يخطر في الذهن رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه كان يوجب غسل باطن العين في الغسل ويفعله ، وأنه كان سببا في كف بصره رضي اللّه تعالى عنه وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ جمع مرفق بكسر ففتح افصح من عكسه ، وهو موصل الذراع في العضد ، ولعل وجه تسميته بذلك أنه يرتفق به أي يتكئ عليه من اليد ، وجمهور الفقهاء على دخولها.
وحكي عن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها ، ولذلك قيل :
«إلى» بمعنى مع كما في قوله تعالى : وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ [هود : 52] ومَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران :
52] [الصف : 14] ، وقيل : هي إنما تفيد معنى الغاية ، ومن الأصول المقررة أن ما بعد الغاية إن دخل في المسمى لولا ذكرها دخل وإلا فلا ، ولا شك أن المرافق داخلة في المسمى فتدخل ، وما أورد على هذا الأصل من أنه لو حلف لا يكلم فلانا إلى غد لا يدخل مع أنه يدخل لو تركت الغاية غير قادح فيه لأن الكلام هنا في مقتضى اللغة والأيمان تبنى على العرف ، وجاز أن يخالف العرف اللغة.
وذكر بعض المحققين أن إِلَى جاءت وما بعدها داخل في الحكم فيما قبلها ، وجاءت وما بعدها غير داخل ، فمنهم من حكم بالاشتراك ، ومنهم من حكم بظهور الدخول ، ومنهم من حكم بظهور انتفاء الدخول ، وعليه النحويون ، ودخول المرافق ثابت بالسنة ، فقد صح عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه أدار الماء عليها.
ونقل أصحابنا حكاية عدم دخولها عن زفر ، واستدل بتعارض الأشباه وبأن في الدخول في المسمى اشتباها

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 244
أيضا فلا تدخل بالشك ، وحديث الإدارة لا يستلزم الافتراض لجواز كونه على وجه السنة كالزيادة في مسح الرأس إلى أن يستوعبه ، وأجيب بأنه لا تعارض مع غلبة الاستعمال في الأصل المقرر ، وأيضا على ما قال يثبت الإجمال في دخولها فيكون اقتصاره صلّى اللّه عليه وسلّم على المرفق وقع بيانا للمراد من اليد ، فيتعين دخول ما أدخله - واغسل يدك للأكل - من إطلاق اسم الكل على البعض اعتمادا على القرينة.
وقال العلامة ابن حجر : دل على دخولها الاتباع والإجماع ، بل والآية أيضا بجعل إِلَى غاية للترك المقدر بناء على أن اليد حقيقة إلى المنكب كما هو الأشهر لغة ، وكأنه عنى بالإجماع إجماع أهل الصدر الأول وإلا فلا شك في وجود المخالف بعد ، وعدوا داود - وكذا الإمام مالك رضي اللّه تعالى عنه من ذلك - ولي في عد الأخير تردد ، فقد نقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على فرضية غسل اليدين مع المرفقين ، قيل : ويترتب على هذا الخلاف أن فاقد اليد من المرفق يجب عليه إمرار الماء على طرف العظم عند القائل بالدخول ، ولا يجب عند المخالف لأن محل التكليف لم يبق أصلا كما لو فقد اليد مما فوق المرفق ، نعم يندب له غسل ما بقي من العضد محافظة على التحجيل ، هذا واستيعاب غسل المأمور به من الأيدي فرض كما هو الظاهر من الآية ، فلو لزق بأصل ظفره طين يابس أو نحوه ، أو بقي قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز ولا يجب نزع الخاتم وتحريكه إذا كان واسعا ، والمختار في الضيق الوجوب ، وفي الجامع الأصغر إن كان وافر الأظفار وفيها درن أو طين أو عجين جاز في القروي والمدني على الصحيح المفتي به - كما قال الدبوسي - وقيل : يجب إيصال الماء إلى ما تحتها إلا الدرن لتولده منه.
وقال الصفار : يجب الإيصال مطلقا إن طال الظفر ، واستحسنه ابن الهمام لأن الغسل وإن كان مقصورا على الظواهر لكن إذا طال الظفر بمنزلة عروض الحائل كقطرة شمعة ، وفي النوازل يجب في المصري لا القروي لأن دسومة أظفار المصري مانعة من وصول الماء بخلاف القروي ، ولو طالت أظفاره حتى خرجت عن رؤوس الأصابع وجب غسلها قولا واحدا ، ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هي الأصلية يجب غسلها ، والأخرى زائدة فما حاذى منها محل الفرض وجب غسله ، وما لا فلا ، ومن الغريب أن بعضا من الناس أوجب البداية في غسل الأيدي من المرافق ، فلو غسل من رؤوس الأصابع لم يصح وضوءه.
وقد حكى ذلك الطبرسي في مجمع البيان ، والظاهر أن هذا البعض من الشيعة ، ولا أجد لهم في ذلك متمسكا وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ، قيل : الباء زائدة لتعدي الفعل بنفسه وقيل : للتبعيض ، وقد نقل ابن مالك عن أبي علي في التذكرة أنها تجيء لذلك ، وأنشد :
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج
وقيل : إن العرف نقلها إلى التبعيض في المتعدي ، والمفروض في المسح عندنا مقدار الناصية ، وهو ربع الرأس من أي جانب كان فوق الأذنين لما
روى مسلم عن المغيرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم توضأ فمسح بناصيته
والكتاب مجمل في حق الكمية فالتحق بيانا له ، والشافعي رضي اللّه تعالى عنه يمنع ذلك ، ويقول : هو مطلق لا مجمل فإنه لم يقصد إلى كمية مخصوصة أجمل فيها ، بل إلى الإطلاق فيسقط عنده بأدنى ما يطلق عليه مسح الرأس على أن في حديث المغيرة روايتان : على ناصيته وبناصيته ، والأولى لا تقتضي استيعاب الناصية لجواز كون ذكرها لدفع توهم أنه مسح على الفود ، أو القذال ، فلا يدل على مطلوبكم ولو دل مثل هذا على الاستيعاب لدل - مسح على الخفين - عليه أيضا ، ولا قائل به هناك عندنا وعندكم ، وإذا رجعنا إلى الثانية كان محل النزاع في الباء كالآية ، ويعود التبعيض ، ومن هنا قال بعضهم : الأولى أن يستدل
برواية أبي داود عن أنس رضي اللّه تعالى عنه «رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتوضأ وعليه عمامة

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 245
قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه»
وسكت عليه أبو داود فهو حجة ، وظاهره استيعاب تمام المقدم ، وتمام مقدم الرأس هو الربع المسمى بالناصية ، ومثله ما
رواه البيهقي عن عطاء «أنه صلّى اللّه عليه وسلّم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه ، أو قال : ناصيته»
فإنه حجة وإن كان مرسلا عندنا ، وكيف وقد اعتضد بالمتصل؟ بقي شيء وهو أن ثبوت الفعل كذلك لا يستلزم نفي جواز الأقل فلا بد من ضم الملازمة القائلة لو جاز الأقل لفعله مرة تعليما للجواز ، وقد يمنع بأن الجواز إذا كان مستفادا من غير الفعل لم يحتج إليه فيه ، وهنا كذلك نظرا إلى الآية فإن الباء فيها للتبعيض وهو يفيد جواز الأقل فيرجع البحث إلى دلالة الآية ، فيقال حينئذ : إن الباء للإلصاق وهو المعنى المجمع عليه لها بخلاف التبعيض ، فإن الكثير من محققي أئمة العربية ينفون كونه معنى مستقلا للباء بخلاف ما إذا كان في ضمن الإلصاق كما فيما نحن فيه ، فإن إلصاق الآلة بالرأس الذي هو المطلوب لا يستوعب الرأس ، فإذا ألصق فلم يستوعب خرج عن العهدة بذلك البعض ، وحينئذ فتعين الربع لأن اليد إنما تستوعب قدره غالبا فلزم.
وفي بعض الروايات أن المفروض مقدار ثلاث أصابع ، وصححها بعض المشايخ إلى أن الواجب إلصاق اليد والأصابع أصلها ، ولذا يلزم كمال دية اليد بقطعها والثلاث أكثرها ، وللأكثر حكم الكل ، ولا يخفى ما فيه ، وإن قيل :
إنه ظاهر الرواية ، وذهب الإمام مالك رضي اللّه تعالى عنه والإمام أحمد في أظهر الروايات عنه إلى أنه يجب استيعاب الرأس بالمسح ، والإمامية إلى ما ذهب إليه الشافعي رضي اللّه تعالى عنه ، ولو أصاب المطر قدر الفرض سقط عندنا ، ولا يشترط إصابته باليد لأن الآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل فحيث وصل استغنى عن استعمالها ، ولو مسح ببل في يده لم يأخذه من عضو آخر جاز ، وإن أخذه لا يجوز ، ولو مسح بإصبع واحدة مدها قدر الفرض ، وكذا بإصبعين - على ما قيل - لا يجوز خلافا لزفر ، وعللوه بأن البلة صارت مستعملة وهو على إشكاله بأن الماء لا يصير مستعملا قبل الانفصال ليستلزم عدم جواز مد الثلاث على القول بأنه لا يجزىء أقل من الربع ، والمشهور في ذلك الجواز ، واختار شمس الأئمة أن المنع في مد الأصبع والاثنتين غير معلل باستعمال البلة بدليل أنه لو مسح بإصبعين في التيمم لا يجوز مع عدم شيء يصير مستعملا خصوصا إذا تيمم على الحجر الصلد ، بل الوجه عنده أنا مأمورون بالمسح باليد والإصبعان منها لا تسميان يدا بخلاف الثلاث لأنها أكثر ما هو الأصل فيها ، وهو حسن - كما قال ابن الهمام - لكنه يقتضي تعين الإصابة باليد وهو منتف بمسألة المطر ، وقد يدفع بأن المراد تعينها أو ما يقوم مقامها من الآلات عند قصد الإسقاط بالفعل اختيارا غير أن لازمه كون تلك الآية التي هي غير اليد مثلا قدر ثلاث أصابع من اليد حتى لو كان عودا مثلا لا يبلغ ذلك القدر قلنا : بعدم جواز مده ، وقد يقال : عدم الجواز بالإصبع بناء على أن البلة تتلاشى وتفرغ قبل بلوغ قدر الفرض بخلاف الإصبعين ، فإن الماء يتحمل بين الإصبعين المضمومتين فضل زيادة تحتمل الامتداد إلى قدر الفرض وهذا مشاهد أو مظنون ، فوجب إثبات الحكم باعتباره ، فعلى اعتبار صحة الاكتفاء بقدر ثلاث أصابع يجوز مد الإصبعين لأن ما بينهما من الماء يمتد قدر إصبع ثالثة ، وعلى اعتبار توقف الإجزاء على الربع لا يجوز
لأن ما بينهما لا يغلب على الظن إيعابه الربع إلا أن هذا يعكر عليه عدم جواز التيمم بإصبعين فلو أدخل رأسه إناء ماء ناويا للمسح جاز ، والماء طهور عند أبي يوسف لأنه لا يعطى له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال والذي لاقى الرأس من أجزائه لصق به فطهره ، وغيره لم يلاقه فلا يستعمل.
واتفقت الأئمة على أن المسح على العمامة غير مجزىء إلا أحمد فإنه أجاز ذلك بشرط أن يكون من العمامة شيء تحت الحنك رواية واحدة ، وهل يشترط أن يكون قد لبسها على طهارة؟ فيه روايتان ، واختلفت الرواية عنه أيضا في مسح المرأة على قناعها المستدير تحت حلقها ، فروي عنه جواز المسح كعمامة الرجل ذات الحنك وروي عنه

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 246
المنع ، ونقل عن الأوزاعي والثوري جواز المسح على العمامة ، ولم أر حكاية الاشتراط ولا عدمه عنهما ، وقد ذكرنا دليل الجواز في كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم ، ومنه الكاعب - وهي الجارية التي تبدو ثديها للنهود - وروى هشام عن محمد أن الكعب هو المفصل الذي في وسط القدم عند معترك الشراك لأن الكعب اسم للمفصل ، ومنه كعوب الرمح والذي في وسط القدم مفصل دون ما على الساق ، وهذا صحيح في المحرم إذا لم يجد نعلين فإنه يقطع خفيه أسفل من الكعبين ، ولعل ذلك مراد محمد ، فأما في الطهارة فلا شك أنه ما ذكرنا ، وفي الأرجل ثلاث قراءات : واحدة شاذة واثنتان متواترتان أما الشاذة فالرفع - وهي قراءة الحسن - وأما المتواترتان فالنصب ، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب ، والجر وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم وفي رواية أبي بكر عنه ، ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما.
قال الإمام الرازي : فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي اللّه تعالى عنهم أن الواجب فيها المسح ،
وهو مذهب الإمامية ، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين : فرضهما الغسل ، وقال داود : يجب الجمع بينهما ، وهو قول الناصر للحق من الزيدية ، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين المسح والغسل وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح فيها وجب فيها والقول إنه جرّ بالجوار كما في قولهم :
هذا جحر ضب خرب ، وقوله :
كان ثبيرا في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل
باطل من وجوه : أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام اللّه تعالى يجب تنزيهه عنه ، وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما فيما استشهدوا به ، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل ، وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف ، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب ، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا : إنها تقتضي المسح أيضا لأن العطف حينئذ على محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم وهذا مذهب مشهور للنحاة ، ثم قالوا أولا : يجوز رفع ذلك بالإخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز ، ثم قال الإمام : واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين : الأول أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل ، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس ، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط ، فوجب المصير إليه ، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها ، والثاني أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين ، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح ، والقوم أجابوا عنه من وجهين : الأول أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم ، وعلى هذا التقدير يجب المسح على ظهر القدمين ، والثاني أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق ، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يسمح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لا يبقى هذا السؤال انتهى.
ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام ، وطالما زلت فيه أقدام ، وما ذكره الإمام رحمه اللّه تعالى يدل على أنه راجل في هذا الميدان ، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوي ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان ، فالنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك ، فنقول وباللّه تعالى التوفيق ، وبيده أزمة التحقيق : إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين بل بإطباق أهل الإسلام كلهم ، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين ، فلا بد لنا أن نسعى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 247
ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما أمكن لأن الأصل في الدلائل الأعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما ، ثم إذا لم يتيسر لها الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة ، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق ، ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت ، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض ، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين : الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبو زيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة ، فيقال للرجل إذا توضأ : تمسح ويقال : مسح اللّه تعالى ما بك أي أزال عنك المرض ، ومسح الأرض المطر إذا غسلها فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة.
واعترض ذلك من وجوه : أولها أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة ، وقد فرق اللّه تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة ، فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا؟! وثانيها أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس - وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف - وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك ، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وثالثها أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل
بخبر «أنه صلّى اللّه عليه وسلّم غسل رجليه»
لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحها فسمي المسح غسلا.
ورابعها أن استشهاد أبي زيد بقولهم : تمسحت للصلاة لا يجدي نفعا لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز ، ولم يجز أن يقولوا : تغسلت للصلاة لأن ذلك يوهم الغسل ، قالوا بدله : تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا ، فتجوزوا بذلك تعويلا على فهم المراد ، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل ، وأجيب عن الأول بأنّا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا ولا تفرقة اللّه تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء ، لكنا ندعي أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز وليس في اللغة والشرع ما يأباه ، على أنه قد ورد ذلك في كلامهم ، وعن الثاني بأنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى ولا محذور فيه ، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي وفي المعطوف بالمعنى المجازي ، وقالوا : في آية لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [النساء : 43] : إن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي - وهو الأركان المخصوصة - وفي المعطوف بالمعنى المجازي - وهو المسجد - فإنه محل الصلاة ، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الاستخدام ، وبذلك فسر الآية جمع من مفسري الإمامية وفقهائهم ، وعليه فيكون هذا العطف من عطف الجمل في التحقيق ، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي ، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي ، على أن من أصول الإمامية - كالشافعية - جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وكذا استعمال المشترك في معنييه ، ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل فتدبر ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما ويبعد وقوع ذلك في التنزيل لأنا نقول : إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء وعلمه عليه الصلاة والسلام
روح القدس إياه في ابتداء البعثة بسنين فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام ، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية ، ولم تترك الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر ، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 248
المشبع ، وعن الثالث بأن حمل المسح على الغسل لداع لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع ، فكيف يسقط الاستدلال؟! سبحان اللّه تعالى هذا هو العجب العجاب.
وعن الرابع بأنا لا نسلم أن العدول عن تغسلت لإيهامه الغسل فإن تمسحت يوهم ذلك أيضا بناء على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا سلمنا ذلك لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك ، ويكفي - مسح الأرض المطر - في الفرض.
والوجه الثاني أن يبقى المسح على الظاهر ، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات كما في قراءة النصب ، والجر للمجاورة ، واعترض أيضا من وجوه : الأول والثاني والثالث ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحنا وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا أمن فيما نحن فيه ، وكونه إنما يكون بدون حرف العطف ، والرابع أن في العطف على المغسولات سواء كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية وهو غير جائز عند النحاة ، على أن الكلام حينئذ من قبيل ضربت زيدا ، وأكرمت خالدا وبكرا بجعل بكر عطفا على زيد ، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم ، وهو مستهجن جدا تنفر عنه الطباع ، ولا تقبله الأسماع ، فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام اللّه تعالى عليه؟! وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار ، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى ، ولم ينكره إلا الزجاج - وإنكاره مع ثبوته في كلامهم - يدل على قصور تتبعه ، ومن هنا قالوا : المثبت مقدم على النافي ، وعن الثاني بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا نقل في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة ، نعم قال بعضهم :
شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة وهو هنا كذلك لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بممسوح إذ المسح لم يوجد مغيا في كلامهم ، ولذا لم يغي في آية التيمم ، وإنما يغيا الغسل ، ولذا غيي في الآية حين احتيج إليه فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه ، ولا قول المرتضى : إنه لا مانع من تغييه ، والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح ، وعن الثالث بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة ، وقوله تعالى :
عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود : 84] بجر مُحِيطٍ مع أنه نعت للعذاب ، وفي التوكيد كقوله :
ألا بلغ ذوي الزوجات كلهم أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر - كلهم - على ما حكاه الفراء ، وفي العطف كقوله تعالى : وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة :
22 ، 23] على قراءة حمزة والكسائي ، وفي رواية المفضل عن عاصم فإنه مجرور بجوار بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ ومعطوف على وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة : 17] ، وقول النابغة :
لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق في حبال القد مجنوب
بجر - موثق - مع أن العطف على أسير ، وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة لكثرته ولما فيه من المشاكلة وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك ، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لا يعبأ به ، وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ متعلقة بجملة المغسولات فإن كان معناها وامسحوا الأيدي بعد الغسل برؤوسكم فلا إخلال - كما هو مذهب كثير من أهل السنة - من جواز المسح ببقية ماء الغسل ، واليد المبلولة من المغسولات ، ومع ذلك لم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفتين ، أو معطوف ومعطوف عليه ، بل صرح الأئمة بالجواز ، بل نقل أبو البقاء إجماع النحويين على ذلك ، نعم توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة وهي هنا ما أشرنا إليه ، أو الإيماء إلى

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 249
الترتيب ، وكون الآية من قبيل ما ذكر من المثال في حيز المنع ، وربما تكون كذلك لو كان النظم - وامسحوا رؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين - والواقع ليس كذلك ، وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر في التطبيق ، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفيف ، وقراءة النصب على حال دونه ، واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما ، لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة ، وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما ، وأيضا المسح على الخف لا يجب إلى الكعبين اتفاقا ، وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزىء عليه المسح لأنه لا يجزىء على ساقه ، نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد ، والقلب لا يميل إليه ، وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية ، وللإمامية في تطبيق القراءتين وجهان أيضا - لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة - أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة ، وقراءة الجر تعاد إليها وعند الإمامية بالعكس ، الوجه الأول : أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل بِرُؤُسِكُمْ فيكون حكم الرؤوس والأرجل كليهما مسحا. الوجه الثاني : أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل استوى الماء والخشبة ، وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه : الأول أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين ، والظاهر العطف على المغسولات والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز وإن استدلوا بقراءة الجر ، قلنا : إنها لا تصلح دليلا لما علمت ، والثاني أنه لو عطف وَأَرْجُلَكُمْ على محل بِرُؤُسِكُمْ جاز أن نفهم منه معنى الغسل ، إذ من القواعد المقررة في العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى - ويكون لكل منهما متعلق - جاز حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقه ، ومن ذلك قوله :
يا ليت بعلك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا
فإن المراد وحاملا رمحا ، ومنه قوله :
إذا ما الغانيات برزن يوما وزجّجن الحواجب والعيونا
فإنه أراد وكحلن العيونا ، وقوله :
تراه كان مولاه يجدع أنفه وعينيه إن مولاه كان له وفر
أي يفقئ عينيه إلى ما لا يحصى كثرة ، والثالث أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز ، ولا قرينة هاهنا على أنه يلزم كما قيل : فعل المسحين معا بالزمان ، ولا قائل به بالاتفاق ، بقي لو قال قائل : لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية ما لم ينضم إليها من خارج ما يقوي تطبيق أهل السنة فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسا رهان ، قيل له : إن سنة خير الورى صلّى اللّه عليه وسلّم وآثار الأئمة رضي اللّه تعالى عنهم شاهدة على ما يدعيه أهل السنة وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى ، وأما من طريق القوم ، فقد روى العياشي عن علي عن أبي حمزة قال : «سألت أبا هريرة عن القدمين فقال : تغسلان غسلا».
وروى محمد بن النعمان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه قال : «إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك»
وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي وأبو جعفر الطوسي بأسانيد صحيحة بحيث لا يمكن تضعيفها ولا الحمل على التقية لأن المخاطب بذلك شيعي خاص ، وروى محمد بن الحسن الصفار عن زيد بن علي عن أبيه عن جده أمير المؤمنين كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : «جلست أتوضأ فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلما غسلت قدمي قال : يا علي خلل بين الأصابع».

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 250
ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين كرم اللّه تعالى وجهه في نهج البلاغة حكاية وضوئه صلّى اللّه عليه وسلّم وذكر فيه غسل الرجلين ، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة ، ولم يدع أحد منهم النسخ ليتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له ، وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم ، فإن أحدا منهم ما روي عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح ، إلا أن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فإنه قال بطريق التعجب : «لا نجد في كتاب اللّه تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل» ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته ، ولكن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل ، ففي كلامه هذا إشارة إلى قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، ونسبة جواز المسح - إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي - زور وبهتان أيضا ، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح ، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة ، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير ، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة ، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند ، واتسع الخرق على الراقع ، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد في الإمامة لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة ، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه ، ولا حجة لهم في دعوى المسح بما
روي عن أمير المؤمنين علي كرم اللّه تعالى وجهه «أنه مسح وجهه ويديه ، ومسح رأسه ورجليه ، وشرب فضل طهوره قائما ، وقال : إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز ، وقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صنع مثل ما صنعت»
وهذا وضوء من لم يحدث لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا ، وأما ما
روي عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه صلّى اللّه عليه وسلّم توضأ ومسح على قدميه
فهو كما قال الحفاظ : شاذ منكر لا يصلح للاحتجاج مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد ، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ما
رواه الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن حماد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال : «سألت أبا جعفر رضي اللّه تعالى عنه عن المسح على الرجلين فقال : هو الذي نزل به جبريل عليه السلام»
وما
روي عن أحمد بن محمد قال : «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر رضي اللّه تعالى عنه عن المسح على القدمين كيف هو؟
فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له : لو أن رجلا قال : بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال : لا إلا بكفه كلها»
إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب ، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم.
وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا - النفحات القدسية في رد الإمامية - على أن لنا أن نقول : لو فرض أن حكم اللّه تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه. فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة ، وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة ، فلا يرد ما قيل : من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض ، وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجة المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضا لكون سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت دون المسح للاختلاف في سنده ، وقال بعض المحققين : قد يلزمهم - بناء على قواعدهم - أن يجوزوا الغسل والمسح ولا يقتصروا على المسح

روح المعاني ، ج 3 ، ص : 251
فقط ، وزعمالجلال السيوطي أنه لا إشكال في الآية بحسب القراءتين عند المخيرين إلا أنه يمكن أن يدعى لغيرهم أن ذلك كان مشروعا أولا ثم نسخ بتعيين الغسل ، وبقيت القراءتان ثابتتين في الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وبقي رسم ذلك ثابتا ، ولا يخفى أنه أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت.
هذا وأما قراءة الرفع فلا تصلح في الاستدلال للفريقين إذ لكل أن يقدر ما شاء ، ومن هنا قال الزمخشري فيها :
إنها على معنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة ، لكن ذكر الطيبي أنه لا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها ، وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا يلتبس ، وإنما يكون كذلك إذا جعلت القرينة ما علم من منطوق القراءتين ومفهومهما وشوهد وتعورف من فعل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه رضي اللّه تعالى عنهم ، وسمع منهم واشتهر فيما بينهم.
وقد قال عطاء : واللّه ما علمت أن أحدا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسح على القدمين ، وكل ذلك دافع لتفسيره هذه القراءة بقوله : وَأَرْجُلَكُمْ مغسولة أو ممسوحة على الترديد لا سيما العدول من الإنشائية إلى الإخبارية المشعر بأن القوم كأنهم سارعوا فيه وهو يخبر عنه انتهى ، فالأولى أن يقدر ما هو من جنس الغسل على وجه يبقى معه الإنشاء.
وبمجموع ما ذكرنا يعلم ما في كلام الإمام الرازي قدس اللّه تعالى سره ، ونقله مما قدمناه ، فاعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال ، واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن الآية هل تقتضي وجوب النية أم لا؟ فقال الحنفية : إن ظاهره لا يقتضي ذلك ، والقول بوجوبها يقتضي زيادة في النص ، والزيادة فيه تقتضي النسخ ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير واقع بل غير جائز عند الأكثرين ، وكذا بالقياس على المذهب المنصور للشافعي رضي اللّه تعالى عنه - كما قاله المروزي - فإذن لا يصح إثبات النية ، وقال بعض الشافعية : إن الآية تقتضي الإيجاب لأن معنى قوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إذا أردتم القيام وأنتم محدثون ، والغسل وقع جزاء لذلك ، والجزاء مسبب عن الشرط فيفيد وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة ، وبذلك يثبت المطلوب ، وقال آخرون - وعليه المعول عندهم - وجه الاقتضاء أن الوضوء مأمور به فيها وهو ظاهر ، وكل مأمور به يجب أن يكون عبادة وإلا لما أمر به ، وكل عبادة لا تصح بدون النية لقوله تعالى : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [البينة : 5] والإخلاص لا يحصل إلا بالنية ، وقد جعل حالا للعابدين ، والأحوال شروط فتكون كل عبادة مشروطة بالنية ، وقاسوا أيضا الوضوء على التيمم في كونهما طهارتين للصلاة ، وقد وجبت النية في المقيس عليه فكذا في المقيس ، ولنا القول بموجب العلة يعني سلمنا أن كل عبادة بنية ، والوضوء لا يقع عبادة بدون لكن ليس كلامنا في ذلك بل في أنه لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الآية ولا في الحديث المشهور الذي يوردونه في هذا المقام دلالة على نفيه ولا إثباته ، فقلنا : نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته ، فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة؟! وباقي شروط الصلاة التي لا يفتقر اعتبارها إلى أن ينوي ، ومن ادعى - أن الشرط وضوء هو عبادة - فعليه البيان ، والقياس المذكور على التيمم فاسد ، فإن من المتفق عليه أن شرط القياس أن لا يكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع ، وإلا لثبت حكم الفرع بلا
دليل وشرعية التيمم متأخرة عن الوضوء فلا يقاس الوضوء على التيمم في حكمه ، نعم إن قصد الاستدلال بآية التيمم بمعنى أنه لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء وكان معنى القياس أنه لا فارق لم يرد ذلك ، وذكر بعض المحققين في الفرق بين الوضوء والتيمم وجهين : الأول أن التيمم ينبئ لغة عن القصد فلا يتحقق بدونه==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...