الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج29.و30.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

29. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 60
باليمين أو توبيخ وتفضيح وتهكم بهم فتأمل فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم توعدون في الدنيا والفاء فصيحة كأنه قيل : إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه أي فنخبركم أنه قد تبين بطلان إنكاركم وجوز أن تكون عاطفة والتعقب ذكرى أو تعليلة وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق لتفريطكم في النظر فتستعجلون به استهزاء ، وقيل : لا تعلمون البعث ولا تتعرفون به فلذا صار مصيركم إلى النار.
وقرأ الحسن «البعث» بفتح العين فيهما ، وقرىء بكسرهما وهو اسم والمفتوح مصدر ، وفي الآية من الدلالة على فضل العلماء ما لا يخفى فَيَوْمَئِذٍ أي إذ يقع ذلك من أقسام الكفار وقول أولي العلم لهم لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ أي عذرهم.
وقرأ الأكثر «تنفع» بالتاء محافظة على ظاهر الأمر للفظ وإن توسط بينهما فاصل وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ الاستيعاب طلب العتبى وهي الاسم من الإعتاب بمعنى إزالة العتب كالعطاء والاستعطاء أي لا يطلب منهم إزالة عتب اللّه تعالى ، والمراد به غضبه سبحانه عليهم بالتوبة والطاعة فإنه قد حق عليهم العذاب وإن شئت قلت : أي لا يقال ارضوا ربكم بتوبة وطاعة كما كان يقال لهم ذلك في الدنيا ، وقيل : أي لا يستقيلون فيستقالون بردهم إلى الدنيا.
وقال ابن عطية : هذا إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة بأنهم لا ينفعهم الاعتذار ولا يعطون عتبى وهي الرضا يُسْتَعْتَبُونَ بمعنى يعتبون كما تقول يملك ويستملك والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى يفسد إذ كان المفهوم منه ولا يطلب منهم عتبى انتهى ، فجعل استفعل بمعنى فعل.
وحاصل المعنى عليه على ما في البحر هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب ، وقيل :
المعنى عليه هم لا يعاتبون على سيئاتهم بل يعاقبون ، وما ذكرناه أولا هو الذي ينبغي أن يعول عليه ، ويا ليت شعري أين ما ادعاه ابن عطية من الفساد إذا كان المفهوم منه لا يطلب منهم عتبى على ما سمعت.
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي وباللّه تعالى لقد وصفنا للناس من كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل صفة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم ، فضرب المثل اتخاذه وصنعه من ضرب الخاتم واللبن.
والمثل مجاز عن الصفة الغريبة ، والمراد بهذا القرآن إما هذه السورة الجليلة الشأن أو المجموع وهو الظاهر ، ومِنْ تبعيضية وجوزت الزيادة وقيل : المعنى وباللّه تعالى لقد بينا للناس من كل مثل ينبؤهم عن التوحيد والبعث وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، فضرب بمعنى بين والمثل على أصله ، وقيل : بمعنى الدليل العجيب والقرآن بمعنى المجموع وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ أي مع ضربنا لهم من كل مثل في هذا القرآن الجليل الشأن لئن جئتهم بآية من آياته لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لفرط عتوهم وعنادهم وقساوة قلوبهم مخاطبين لك وللمؤمنين إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي مزورون ، وجوز حمل الآية على المعجزة أي لئن جئتهم بمعجزة من المعجزات التي اقترحوها ليقولن الذين كفروا إلخ ، والإتيان بالموصول دون الضمير لبيان السبب الحامل على القول المذكور ، وإذا أريد بالناس ما يعم الكفرة غيرهم فوجه الإظهار ظاهر ، وتوحيد الخطاب في جِئْتَهُمْ على ما يقتضيه الظاهر ، وأما جمعه في قولهم : إِنْ أَنْتُمْ فلئلا يبقى بزعمهم له عليه الصلاة والسلام شاهد من المؤمنين حيث جعلوا الكل مدعين ، وقال الإمام : في توحيد الخطاب في جِئْتَهُمْ وجمعه في أَنْتُمْ لطيفة وهي أن اللّه تعالى قال : إن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل عليهم السلام ويمكن أن يجاء بها يقولوا : أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون انتهى ، ولا يخفى أن ما ذكرناه أحسن وألطف كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الفظيع ، وجوز أن يكون المعنى مثل ذلك القول يَطْبَعُ أي يختم اللَّهُ الذي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 61
جلت عظمته وعظمت وقدرته عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها ، فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق ، ومن هنا قالوا : هو شر من الجهل البسيط ، وما ألطف ما قيل :
قال حمار الحكيم توما لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب
وإطلاق العلم على الطلب مجاز لما أنه لازم له عادة ، وقيل : المعنى يطبع اللّه تعالى على قلوب الذين ليسوا من أولي العلم ، وليس بذاك ، والمراد من الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يحتمل أن يكون الذين كفروا فيكون قد وضع الموصول موضع ضميرهم بما في حيز الصلة ، ويحتمل أن يكون عاما ويدخل فيه أولئك دخولا أوليا.
وظاهر كلام بعض الأجلة يميل إلى الاحتمال الأول ، وقد تقدم الكلام في طبعه وختمه عزّ وجلّ على القلب.
فَاصْبِرْ أي إذا علمت حالهم وطبع اللّه تعالى على قلوبهم فاصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وقد وعدك عزّ وجلّ بالنصرة وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق ولا بد من إنجازه والوفاء به لا محالة وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ لا يحملنك على الخفة والقلق الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وإيذائهم لك بأباطيلهم التي من جملتها قولهم : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ فإنهم شاكون ضالون ولا يستبدع أمثال ذلك منهم ، وقيل : أي لا يوقنون بأن وعد اللّه حق وهو كما ترى ، والحمل وإن كان لغيره صلى اللّه تعالى عليه وسلم لكن النهي راجع إليه عليه الصلاة والسلام فهو من باب لا أرينك هاهنا وقد مرّ تحقيقه فكأنه قيل : لا تخف لهم جزعا ، وفي الآية من إرشاده تعالى لنبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وتعليمه سبحانه له كيف يتلقى المكاره بصدر رحيب ما لا يخفى.
وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب «ولا يستحقنك» بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق ، والمعنى لا يفتننك الذين لا يوقنون ويكونوا أحق بك من المؤمنين على أنه مجاز عن ذلك لأن من فتن أحدا استماله إليه حتى يكون أحق به من غيره ، والنهي على هذه القراءة راجع إلى أمته عليه الصلاة والسلام دونه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لمكان العصمة ، وقد تقدّم نظائر ذلك وما للعلماء من الكلام فيها.
وقرأ الجمهور بتشديد النون وخففها ابن أبي عبلة ، ويعقوب ، ومن لطيف ما يروى ما
أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أن رجلا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فأجابه كرّم اللّه تعالى وجهه وهو في الصلاة فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ
ولا بدع في هذا الجواب من باب مدينة العلم وأخي رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إلى آخره ، قيل : الألف إشارة إلى إلفة طبع المؤمنين واللام إلى لؤم طبع الكافرين والميم إلى مغفرة رب العالمين جلّ شأنه ، والروم إشارة إلى القلب ، وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس ، والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل ، ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد اللّه تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى وذلك في بضع سنين أيام الطلب ويومئذ يفرح المؤمنون

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 62
الروح والسر والعقل ، وعلى هذا المنهاج سلك النيسابوري : يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا فيه إشارة إلى حال المحجوبين ووقوفهم على ظواهر الأشياء ، وما من شيء إلّا له ظاهر وهو ما تدركه الحواس الظاهرة منه ، وباطن وهو ما يدركه العقل بإحدى طرق الإدراك من وجوه الحكمة فيه ، ومنه ما هو وراء طور العقل وهو ما يحصل بواسطة الفيض الإلهي وتهذيب النفس أتم تهذيب وهو وإن لم يكن من مستنبطات العقل إلّا أن العقل يقبله ، وليس معنى أنه ما وراء طور العقل أن العقل يحيله ولا يقبله كما يتوهم ، ومما ذكرنا يعلم أن الباطن لا يجب أن يتوصل إليه بالظاهر بل قد يحصل لا بواسطته وذلك أعلى قدرا من حصوله بها ، فقول من يقول : إنه لا يمكن الوصول إلى الباطن إلا بالعبور على الظاهر لا يخلو عن بحث فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي يسرون بالسماع في روضة الشهود وذلك غذاء أرواحهم ونعيمها ، وأعلى أنواع السماع في هذه النشأة عند السادة الصوفية ما يكون من الحضرة الإلهية بالأرواح القدسية والأسماع الملكوتية ، وهذه الأسماع لم يفارقها سماع أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف :
172] واشتهر عندهم السماع في سماع الأصوات الحسنة وسماع الأشياء المحركة لما غلب عليهم من الأحوال من الخوف والرجاء والحب والتعظيم وذلك كسماع القرآن والوعظ والدف والشبابة والأوتار والمزمار والحداء والنشيد وفي ذلك الممدوح والمذموم. وفي قواعد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الكبرى تفصيل الكلام في ذلك على أتم وجه ، وسنذكر إن شاء اللّه تعالى قريبا ما يتعلق بذلك واللّه تعالى هو الموفق للصواب فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ إلخ فيه إشارة إلى أنه ينبغي استغراق الأوقات في تنزيه اللّه سبحانه والثناء عليه جلّ وعلا بما هو سبحانه وتعالى أهله فإن ذلك روضة هذه النشأة ، وفي الأثر أن حلق الذكر رياض الجنة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله :
إنما الورد من الشوك ولا ينبت النرجس إلّا من بصل
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها فيه إشارة إلى أن الاشتراك في الجنسية من أسباب الإلفة إن الطيور على أشباهها تقع كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فيه إشارة إلى أنه عزّ وجلّ لم يكره أحدا ما هو عليه إن حقا وإن باطلا ، وإنما وقع التعاشق بين النفوس بحسب استعدادها وما هي عليه فأعطى سبحانه جلت قدرته كل عاشق معشوقه الذي هام به قلب استعداده وصار حبه ملء فؤاده وهذا سرح الفرح ، وما ألطف ما قال قيس بن ذريح :
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ومن قبل ما كنا نطافا وفي المهد
فزاد كما زدنا فأصبح ناميا وليس إذا متنا بمنفصم العقد
ولكنه باق على كل حادث وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ الآية فيها إشارة إلى أن طبيعة الإنسان ممزوجة من هداية الروح وإطاعتها ومن ضلال النفس وعصيانها ، فالناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية وانكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخصلت أرواحهم عن أسر ظلمة شهواتها رجعت أرواحهم إلى الحضرة ووافقتها النفوس على خلاف طباعها فدعوا ربهم منيبين إليه فإذا جاد سبحانه عليهم بكشف ما نالهم ونظر جلّ وعلا باللطف فيما أصابهم عاد منهم من تمرد إلى عادته المذمومة وطبيعته الدنية المشئومة ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إلخ في إشارة إلى أن الشرور ليست مرادة لذاتها بل هي كبط الجرح وقطع الأصبع التي فيها آكلة فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ فيه إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 63
أحوالهم ولذا يستخفون بهم وينظرون إليهم بنظر الحقارة ويعيرونهم وينكرون عليهم فما يقولون ويفعلون ، نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من الموقنين وأن يحفظنا وأولادنا وإخواننا من الأمراض القلبية والقالبية بحرمة نبيه الأمين صلى اللّه تعالى وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 64
سورة لقمان
أخرج ابن الضريس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : أنزلت سورة لقمان بمكة ، ولا استثناء في هذه الرواية. وفي رواية النحاس في تاريخه عنه استثناء ثلاث آيات منها وهي وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان : 27] إلى تمام الثلاث فإنها نزلن بالمدينة ، وذلك
أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما هاجر قال له أحبار اليهود : بلغنا أنك تقول : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : 85] أعنيتنا أم قومك؟ قال : كلّا عنيت فقالوا : إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء فقال عليه الصلاة والسلام : ذلك في علم اللّه تعالى قليل فأنزل الآيات.
ونقل الداني عن عطاء ، وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا : هي مكية إلا آيتين هما وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ إلى آخر الآيتين ، وقيل : هي مكية إلّا آية وهي قوله تعالى : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [لقمان : 4] فإن إيجابهما بالمدينة ، وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء كما في صحيح البخاري وغيره فما ذكر من أن إيجابها بالمدينة غير مسلم ، ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا فلا يتم التقريب فيها ، نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها ، ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة ، وقيل : إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة وعليه لا تقريب فيهما ، وايها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين.
وسبب نزولها على ما في البحر أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت. ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم : 58] وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة ، وأنه كان في آخر ما قبلها وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [الروم : 58] وفيها وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان : 7] وقال الجلال السيوطي : ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح - بألم إن قوله تعالى : هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لقمان : 43] متعلق بقوله تعالى فيما قبل : وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم : 56] الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر ، وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وابتداء الخلق.
وذكر في السابقة فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم : 15] وقد فسر بالسماع وذكر هنا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان : 6] وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي ا ه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 65
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في ذلك ، وأقول في الاتصال أيضا : إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم : 27] وهنا قوله سبحانه : ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان : 28] وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا بقوله عزّ وجلّ قائلا : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وذكر سبحانه هناك قوله تعالى : وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم : 33] وقال عزّ وجلّ هنا : وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان : 32] فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك.
وما ألطف هذا الاتصال من حيث إن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم وغلبتهم المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرج بذلك عن مقتضى الحكمة فإن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية لا تعدل عند اللّه تعالى جناح بعوضة وهذه ذكر فيها قصة عبد مملوك على كثير من الأقوال حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا ملتفت إليها أوصى ابنه بما يأبى المحاربة ويقتضي الصبر والمسالمة وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى.
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 إلى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة ، ووصف الكتاب بذلك عند بعض المغاربة مجاز لأن الوصف بذلك للتملك وهو لا يملك الحكمة بل يشتمل عليها ويتضمنها فلأجل ذلك وصف بالحكيم بمعنى ذي الحكمة ، واستظهر الطيبي أنه على ذلك من الاستعارة المكنية. والحق أنه من باب عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة : 21] على حد لابن وتامر.
نعم يجوز أن يكون هناك استعارة بالكناية أي الناطق بالحكمة كالحي ، ويجوز أن يكون الحكيم من صفاته عزّ وجلّ ووصف الكتاب به من باب الإسناد المجازي فإنه منه سبحانه بدا ، وقد يوصف الشيء بصفة مبدئه كما في قول الأعشى :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 66
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها
وأن يكون الأصل الحكيم منزله أو قائله فحذف المضاف إلى الضمير المجرور وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا ثم استسكن في الصفة المشبهة وأن يكون الْحَكِيمِ فعيلا بمعنى مفعل كما قالوا : عقدت العسل فهو عقيد أي معقد وهذا قليل ، وقيل : هو بمعنى حاكم ، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في الكلام على نظيرها هُدىً وَرَحْمَةً بالنصب على الحالية من آياتُ والعامل فيهما معنى الإشارة على ما ذكره غير واحد وبحث فيه.
وقرأ حمزة ، والأعمش ، والزعفراني ، وطلحة ، وقنبل من طريق أبي الفضل الواسطي ، ونظيف بالرفع على الخبر بعد الخبر - لتلك - على مذهب الجمهور أو الخبر لمحذوف أي هي أو هو هدى ورحمة عظيمة لِلْمُحْسِنِينَ أي العاملين الحسنات ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة للمتعاطفين ، وقوله تعالى :
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إما مجرور على أنه صفة كاشفة أو بدل أو بيان لما قبله ، وإما منصوب أو مرفوع على القطع وعلى كل فهو تفسير للمحسنين على طريقة قول أوس بن حجر :
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
فقد حكي عن الأصمعي أنه سأل عن الألمعي فأنشده ولم يزد عليه ، وهذا ظاهر على تقدير أن يراد بالحسنات مشاهيرها المعهودة في الدين ، وأما على تقدير أن يراد بها جميع ما يحسن من الأعمال فلا يظهر إلا باعتبار جعل المذكورات بمنزلة الجميع من باب «كل الصيد في جوف الفرا» ، وقيل : إذا أريد بالحسنات المذكورات يكون الموصول صفة كاشفة وقوله تعالى : أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ استئنافا ، وإذا أريد بها جميع ما يحسن من الأعمال وكان تخصيص المذكورات بالذكر لفضل اعتداد بها يكون الموصول مبتدأ وجملة أُولئِكَ عَلى هُدىً إلخ خبره والكلام استئناف بذكر الصفة الموجبة للاستئهال.
وقيل : إن الموصول على التقديرين صفة إلا أنه على التقدير الأول كاشفة وعلى التقدير الثاني صفة مادحة للوصف لا للموصوف ، وبناء يُوقِنُونَ على هُمْ للتقوى ، وأعيد الضمير للتأكيد ولدفع توهم كون بِالْآخِرَةِ خبرا وجبرا للفصل بين المبتدأ وخبره ولم يؤخر الفاصل للفاصلة.
وذكر بعض أجلة المفسرين في قوله تعالى أول سورة البقرة : وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إن بناء يُوقِنُونَ على هُمْ يدل على أن مقابليهم ليسوا من اليقين في ظل ولا فيء وأن تقديم «في الآخرة» يدل على أن ما عليه مقابلوهم ليس من الآخرة في شيء وذلك لإفادة تقديم الفاعل المعنوي وتقديم الجار على متعلقه الاختصاص فانظر هل يتسنى نحو ذلك هنا ، وقد مر أول سورة البقرة ما يعلم منه وجه اختيار اسم الإشارة ووجه تكراره ، وفي الآية كلام بعد لا يخفى على من راجع ما ذكروه من الكلام على ما يشبهها هناك وتأمل فراجع وتأمل.
وَمِنَ النَّاسِ أي بعض من الناس أو بعض الناس مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي الذي أو فريق يشتري على أن مناط الإفادة والمقصود بالأصالة هو اتصافهم بما في حيز الصلة أو الصفة لا كونهم ذوات أولئك المذكورين ، والجملة عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل : من الناس هاد مهدي ومنهم ضال مضل أو عطف قصة على قصة ، وقيل : إنها حال من فاعل الإشارة أي أشير إلى آيات الكتاب حال كونها هدى ورحمة والحال من الناس من يشتري إلخ ، ولَهْوَ الْحَدِيثِ على ما روي عن الحسن كل ما شغلك عن عبادة اللّه تعالى وذكره من السمر والأضاحيك والخرافات والغناء ونحوها ، والإضافة بمعنى من أن أريد بالحديث المنكر كما
في حديث «الحديث في

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 67
المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش»
بناء على أنها بيانية وتبعيضية أن أريد به ما هو أعم منه بناء على مذهب بعض النحاة كابن كيسان ، والسيرافي قالوا : إضافة ما هو جزء من المضاف إليه بمعنى من التبعيضية كما يدل عليه وقوع الفصل بها في كلامهم ، والذي عليه أكثر المتأخرين وذهب إليه ابن السراج ، والفارسي وهو الأصح أنها على معنى اللام كما فصله أبو حيان في شرح التسهيل وذكره شارح اللمع.
وعن الضحاك أن لَهْوَ الْحَدِيثِ الشرك ، وقيل : السحر ، وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الصهباء قال سألت عبد اللّه بن مسعود عن قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال : هو واللّه الغناء وبه وفسر كثير ، والأحسن تفسيره بما يعم كل ذلك كما ذكرناه عن الحسن ، وهو الذي يقتضيه ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال : لَهْوَ الْحَدِيثِ هو الغناء ، وأشباهه ، وعلى جميع ذلك يكون الاشتراء استعارة لاختياره على القرآن واستبداله به ، وأخرج ابن عساكر عن مكحول في قوله تعالى : مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال الجواري الضاربات.
وأخرج آدم ، وابن جرير ، والبيهقي في سننه عن مجاهد أنه قال فيه : هو اشتراؤه المغني والمغنية والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل ، وفي رواية ذكرها البيهقي في السنن عن ابن مسعود أنه قال : في الآية هو رجل يشتري جارية تغنيه ليلا أو نهارا واشتهر أن الآية نزلت في النضر بن الحارث ، ففي رواية جويبر عن ابن عباس أنه اشترى قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته ، فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ويقول : خذ أخير مما يدعوك إليه محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه فنزلت.
وفي أسباب النزول للواحدي عن الكلبي ، ومقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم وفي بعض الروايات كتب الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشا ويقول لهم : إن محمدا عليه الصلاة والسلام يحدثكم بحديث عاد ، وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم ، وإسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزلت ، وقيل : إنها نزلت في ابن خطل اشترى جارية تغني بالسب ، ولا يأبى نزولها فيمن ذكر الجمع في قوله تعالى بعد : أُولئِكَ لَهُمْ كما لا يخفى على الفطن ، والاشتراء على أكثر هذه الروايات على حقيقته ويحتاج في بعضها إلى عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى على من دقق النظر ، وجعل المغنية ونحوها نفس لهو الحديث مبالغة كما جعل النِّساءِ في قوله تعالى : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ [آل عمران :
14] نفس الزينة.
وفي البحر إن أريد بلهو الحديث ما يقع عليه الشراء كالجواري المغنيات وككتب الأعاجم فالاشتراء حقيقة ويكون الكلام على حذف مضاف أي من يشتري ذات لهو الحديث.
وقال الخفاجي : عليه الرحمة لا حاجة إلى تقدير ذات لأنه لما اشتريت المغنية لغنائها فكأن المشتري هو الغناء نفسه فتدبره ، وفي الآية عند الأكثرين ذم للغناء بأعلى صوت وقد تضافرت الآثار وكلمات كثير من العلماء الأخيار على ذمه مطلقا لا في مقام دون مقام ، فأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي ، في شعبه عن ابن مسعود قال : إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه شيطان فقال : تغنه فإن كان لا يحسن قال : تمنه ، وأخرجا أيضا عن الشعبي قال : عن القاسم بن محمد أنه سأل عن الغناء فقال للسائل : أنهاك عنه وأكرهه لك فقال السائل : أحراء هو؟ قال : انظر يا ابن أخي إذا ميز اللّه تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء ، وأخرجا عنه أيضا أنه قال : «لعن اللّه تعالى المغني والمغني له» ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 68
وفي السنن عن ابن مسعود قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»
، وأخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا ورواه عن أبي هريرة ، والديلمي عنه وعن أنس وضعفه ابن القطان ، وقال النووي لا يصح ، وقال العراقي : رفعه غير صحيح لأن في إسناده من لم يسم وفيه إشارة إلى أن وقفه على ابن مسعود صحيح وهو في حكم المرفوع إذ مثله لا يقال من قبل الرأي. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث اللّه تعالى إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك»
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي عثمان الليثي قال : قال يزيد بن الوليد الناقص : يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا ، وقال الضحاك : الغناء منفدة للمال مسخطة للرب مفسدة للقلب ، وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وغيرهم عن أبي أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ إلى آخر الآية»
وفي رواية ابن أبي الدنيا ، وابن مردويه عن عائشة قالت : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن اللّه تعالى حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
ويعود هذا ونحوه إلى ذم الغناء.
وقيل : الغناء جاسوس القلب وسارق المروءة والعقول يتغلغل في سويداء القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى بيت التخييل فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة والسخافة والرعونة فبينما ترى الرجل وعليه سمت الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار العلم كلامه حكمة وسكوته عبرة فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه وذهبت مروءته وبهاؤه فيستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه ويبدي من أسراره ما كان يكتمه وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهذيان والاهتزاز كأنه جان وربما صفق بيديه ودق الأرض برجليه وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك ، واختلف العلماء في حكمه فحكي تحريمه عن الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه القاضي أبو الطيب ، والقرطبي ، والماوردي ، والقاضي عياض.
وفي التاتار خانية اعلم أن التغني حرام في جميع الأديان ، وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب ، وحكي عن ظهير الدين المرغيناني : أنه قال من قال لمقرىء زماننا أحسنت عند قراءته كفر. وصاحبا الهداية والذخيرة سمياه كبيرة. هذا في التغني للناس في غير الأعياد والأعراس ويدخل فيه تغني صوفية زماننا في المساجد والدعوات بالأشعار والأذكار مع اختلاط أهل الأهواء والمراد بل هذا أشد من كل تغني لأنه مع اعتقاد العبادة وأما التغني وحده بالأشعار لدفع الوحشة أو في الأعياد والأعراس فاختلفوا فيه والصواب منعه مطلقا في هذا الزمان انتهى.
وفي الدر المختار التغني لنفسه لدفع الوحشة لا بأس به «1» عند العامة على ما في العناية وصححه العيني «2»
___________
(1) قوله لا بأس به إلخ لما جاء عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من دهاة الصحابة وكان يتغنى وأجيب بأنه يجوز أن يكون معنى يتغنى ينشد الأشعار أي المباحة ا ه منه.
(2) قوله وصححه العيني وإليه ذهب شمس الأئمة السرخسي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 69
وغيره. قال ولو فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقا ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدف فيه ومنهم من أباحه مطلقا ومنهم من كرهه مطلقا انتهى. وفي البحر والمذهب حرمته مطلقا فانقطع الاختلاف بل ظاهر الهداية أنه كبيرة ولو لنفسه وأقره المصنف وقال : ولا تقبل شهادة من يسمع الغناء أو يجلس مجلسه انتهى كلام الدر.
وذكر الإمام أبو بكر الطرسوسي في كتابه في تحريم السماع أن الإمام أبا حنيفة يكره الغناء ويجعله من الذنوب وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان ، وحماد ، وإبراهيم ، والشعبي ، وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا بين أهل البصرة في كراهة ذلك والمنع منه انتهى وكأن مراده بالكراهة الحرمة ، والمتقدمون كثيرا ما يريدون بالمكروه الحرام كما في قوله تعالى : كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء : 38] ونقل عليه الرحمة فيه أيضا عن الإمام مالك انه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال : إذا اشترى جارية فوجدها مغنية فله أن يردها بالعيب وإنه سئل ما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق؟ ونقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح المقنع وغيره ، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب البلغة أن أكثر أصحابهم على التحريم وعن عبد اللّه ابن الإمام أحمد انه قال : سألت أبي عن الغناء فقال ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثم ذكر قول مالك : إنما يفعله عندنا الفساق ، وقال المحاسبي في رسالة الإنشاء الغناء حرام كالميتة ، ونقل الطرسوسي أيضا عن كتاب أدب القضاء أن الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه قال : إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته ، وفيه أنه صرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب ، والطبري ، والشيخ أبي إسحاق في التنبيه وذكر بعض تلامذة البغوي في كتابه الذي سماه التقريب أن الغناء حرام فعله وسماعه ، وقال ابن الصلاح في فتاواه بعد كلام طويل : فإذن هذا السماع حرام بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين انتهى.
والذي رأيته في الشرح الكبير للجامع الصغير للفاضل المناوي أن مذهب الشافعي أنه مكروه تنزيها عند أمن الفتنة ، وفي المنهاج يكره الغناء بلا آلة قال العلامة ابن حجر لما صح عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه وذكر الحديث السابق الموقوف عليه وإنه جاء مرفوعا من طرق كثيرة بينها في كتابه كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ثم قال : وزعم أنه لا دلالة فيه على كراهته لأن بعض المباح كلبس الثياب الجميلة ينبت النفاق في القلب وليس بمكروه يرد بأنا لا نسلم أن هذا ينبت نفاقا أصلا ، ولئن سلمناه فالنفاق مختلف فالنفاق الذي ينبته الغناء من التخنث وما يترتب عليه أقبح وأشنع كما لا يخفى ثم قال : وقد جزم الشيخان يعني النووي والرافعي في موضع بأنه معصية وينبغي حمله على ما فيه وصف نحو خمر أو تشبب بأمرد أو أجنبية ونحو ذلك مما يحمل غالبا على معصية ، قال الأذرعي : أما ما اعتيد عند محاولة عمل وحمل ثقيل كحداء الأعراب لإبلهم والنساء لتسكين صغارهن فلا شك في جوازه بل ربما يندب إذا نشط على سير أو رغب في خير كالحداء في الحج والغزو ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض الصحابة انتهى ، وقضية قولهم بلا آلة حرمته مع الآلة ، قال الزركشي لكن القياس تحريم الآلة فقط وبقاء الغناء على الكراهة انتهى.
ومثل الاختلاف في الغناء الاختلاف في السماع فأباحه قوم كما أباحوا الغناء واستدلوا على ذلك بما
رواه البخاري عن عائشة قالت : «دخل على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه - وفي رواية لمسلم - تسجى بثوبه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال مزمارة الشيطان عند النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأقبل عليه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : دعهما فلما غفل غمرتهما فخرجتا وكان يوم عيد» الحديث
ووجه الاستدلال أن هناك غناء أو سماعا وقد أنكر عليه الصلاة والسلام إنكار أبي بكر رضي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 70
اللّه تعالى عنه بل فيه دليل أيضا على جواز سماع الرجل صوت الجارية ولو لم تكن مملوكة لأنه عليه الصلاة والسلام سمع ولم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره وقد استمرتا تغنيان إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج. وإنكار أبي بكر على ابنته رضياللّه تعالى عنهما مع علمه بوجود رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان لظن أن ذلك لم يكن بعلمه عليه الصلاة والسلام لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائما. وفي فتح الباري استدل جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة.
ويكفي في رد ذلك ما
رواه البخاري أيضا بعيده عن عائشة أيضا قالت : «دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت : وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر : أبمزامير الشيطان في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وذلك في يوم عيد فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا»
فنفت فيه عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح.
قال القرطبي : قولها «ليستا بمغنيتين» أي ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منهما تجوز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال ، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرقة واللّه تعالى المستعان انتهى كلام القرطبي ، وكذا الغرض من كلام فتح الباري وهو كلام حسن بيد أن قوله :
وإنما يسمى بذلك من ينشد إلخ لا يخلو عن شيء بناء على أن المتبادر عموم ذلك لما يكون في المنشد منه تعريض أو تصريح بالفواحش ولما لا يكون فيه ذلك ، وقال بعض الأجلة : ليس في الخبر الإباحة مطلقا بل قصارى ما فيه إباحته في سرور شرعي كما في الأعياد والأعراس فهو دليل لمن أجازه في العرس كما أجاز ضرب الدف فيه ، وأيضا إنكار أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه ظاهر في أنه كان سمع من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ذم الغناء والنهي عنه فظن عموم الحكم فأنكر ، وبإنكاره عليه الصلاة والسلام عليه إنكاره تبين له عدم العموم. وفي الخبر الآخر ما يدل على أنه أوضح له صلى اللّه تعالى عليه وسلم مقرونا ببيان الحكمة وهو أنه يوم عيد فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس ، ومع هذا أشار صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالتفافه بثوبه وتحويل وجهه الشريف إلى أن الإعراض عن ذلك أولى ، وسماع صوت الجارية الغير المملوكة بمثل هذا الغناء إذا أمنت الفتنة مما لا بأس به فليكن الخبر دليلا على جوازه.
واستدل بعضهم على ذلك بما جاء عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من دهاة الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم وكان يتغنى ، ولا يخفى ما فيه فإن هذا التغني ليس بالمعنى المشهور ، ونحوه التغني في
قوله عليه الصلاة والسلام : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»
وسفيان بن عيينة وأبو عبيدة فسرا التغني في هذا الحديث بالاستغناء فكأنه قيل : ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره ، وهو مع هذا تغن لإزالة الوحشة عن نفسه في عقر داره ، ومثله ما روي عن عبد اللّه بن عوف قال : أتيت باب عمر رضي اللّه تعالى عنه فسمعته يغني :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 71
فكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وطرا منها جميل بن معمر
أراد به جميلا الجمحي وكان خاصا به فلما استأذنت عليه قال لي : أسمعت ما قلت؟ قلت : نعم قال : إنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم. وحرم جماعة السماع مطلقا ، وقال الغزالي : السماع إما محبوب بأن غلب على السامع حب اللّه تعالى ولقائه ليستخرج به أحوالا من المكاشفات والملاطفات ، وإما مباح بأن كان عنده عشق مباح لحليلته أو لم يغلب عليه حب اللّه تعالى ولا الهوى ، وإما محرم بأن غلب عليه هوى محرم.
وسئل العز بن عبد السلام عن استماع الإنشاد في المحبة والرقص فقال : الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل فلا يصلح إلا للنساء ، وأما استماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به بل يندب عند الفتور وسآمة القلب ، ولا يحضر السماع من في قلبه هوى خبيث فإنه يحرك ما في القلب ، وقال أيضا : السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم ، وهم أما عارفون باللّه تعالى ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم فمن غلب عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخوفات نحو حزن وبكاء وتغير لون ، وهو إما خوف عقاب أو فوات ثواب أو أنس وقرب وهو أفضل الخائفين والسامعين وتأثير القرآن فيه أشد ، ومن غلب عليه الرجاء أثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات ، فإن كان رجاؤه للأنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في المرتبة الثانية ، وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني ، ومن غلب عليه حب اللّه تعالى لإنعامه فيؤثر فيه سماع الإنعام والإكرام ، أو لجماله سبحانه المطلق فيؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات ، وهو أفضل مما قبله لأن سبب حبه أفضل الأسباب ، ويشتد التأثير فيه عند ذكر الإقصاء والأبعاد ، ومن غلب عليه التعظيم والإجلال وهو أفضل من جميع ما قبله ، وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه ، فالسماع من الولي أشد تأثيرا من السماع من عامي ومن نبي أشد تأثيرا منه ومن ولي ، ومن الرب عزّ وجلّ أشد تأثيرا من السماع من نبي لأن كلام المهيب أشد تأثيرا في الهائب من كلام غيره كما أن كلام الحبيب أشد تأثيرا في المحب من كلام غيره ، ولهذا لم يشتغل النبيون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء واقتصروا على كلام ربهم جلّ شأنه ، ومن يغلب عليه هوى محرم يعشق حليلته فهو يؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فسماعه لا بأس به ، ومن يغلب عليه هوى محرم كعشق أمرد أو
أجنبية فهو يؤثر فيه السعي إلى الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام ، وأما من لم يجد في نفسه شيئا من هذه الأقسام الستة فيكره سماعه من جهة أن الغالب على العامة إنما هي الأهواء الفاسدة فربما هيجه السماع إلى صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها ، ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم ، وقد يحضر السماع قوم من الفجرة فيبكون وينزعجون لأغراض خبيثة انطووا عليها ويراؤون الحاضرين بأن سماعهم لشيء محبوب ، وهؤلاء قد جمعوا بين المعصية وبين إيهام كونهم من الصالحين ، وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكرهم المنشد فراق الأحبة وعدم الأنس فيبكي أحدهم ويوهم الحاضرين أن بكاءه لأجل رب العالمين جل وعلا وهذا مراء بأمر غير محرم ، ثم قال : اعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنية والأفعال الرضية ، ولكل صفة من الصفات حال مختص بها ، فمن ذكر صفة الرحمة أو ذكر بها كانت حاله حال الراجين وسمعه سماعهم ، ومن ذكر شدة النقمة أو ذكر بها كانت حاله حال الخائفين وسماعه سماعهم ، وعلى هذا القياس ، وقد تغلب الأحوال على بعضهم بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد ولا يلتفت إليه لغلبة حاله الأولى عليه انتهى ، وقد نقله بعض الأجلة وأقره وفيه ما يخالف ما نقل عن الغزالي.
ونقل القاضي حسين عن الجنيد قدس سره أنه قال : الناس في السماع إما عوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 72
وإما زهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهدتهم ، وإما عارفون وهو مستحب لهم لحياة قلوبهم ، وذكر نحوه أبو طالب المكي وصححه السهروردي عليه الرحمة في عوارفه ، والظاهر أن الجنيد أراد بالحرام معناه الاصطلاحي.
واستظهر بعضهم أنه لم يرد ذلك وإنما أراد أنه لا ينبغي ، ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه سئل عن السماع فقال : هو ضلال للمبتدي والمنتهي لا يحتاج إليه ، وفيه مخالفة لما سمعت.
وقال القشيري رحمه اللّه تعالى : إن للسماع شرائط منها معرفة الأسماء والصفات ليعلم صفات الذات من صفات الأفعال وما يمتنع في نعت الحق سبحانه وما يجوز وصفه تعالى به وما يجب وما يصح إطلاقه عليه عز شأنه من الأسماء وما يمتنع ، ثم قال : فهذه شرائط صحة السماع على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول ، وأما عند أهل الحقائق فالشرط فناء النفس بصدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة فمن لم تتقدم بالصحة معاملته ولم تحصل بالصدق منازلته فسماعه ضياع وتواجده طباع ، والسماع فتنة يدعو إليها استيلاء العشق إلا عند سقوط الشهوة وحصول الصفوة ، وأطال بما يطول ذكره ، قيل : وبه يتبين تحريم السماع على أكثر متصوفة الزمان لعقد شروط القيام بأدائه. ومن العجب أنهم ينسبون السماع والتواجد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ويروون عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام دخل على أصحاب الصفة يوما فجلس بينهم ، وقال عليه الصلاة والتحية : هل فيكم من ينشدنا أبياتا. فقال واحد :
لسعت حية الهوى كبدي ولا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي فقام عليه الصلاة والسلام وتمايل حتى سقط الرداء الشريف عن منكبيه فأخذه أصحاب الصفة فقسموه فيما بينهم بأربعمائة قطعة
،
وهو لعمري كذب صريح وإفك قبيح لا أصل له بإجماع محدثي أهل السنة وما أراه إلا من وضع الزنادقة. فهذا القرآن العظيم يتلوه جبريل عليه السلام صلى اللّه تعالى عليه وسلم ويتلوه هو أيضا ويسمعه من غير واحد ولا يعتريه عليه الصلاة والسلام شيء مما ذكروه في سماع بيتين هما كما سمعت سبحانك هذا بهتان عظيم ، وأنا أقول : قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والخانات وسائر ما يعد من المحظورات ، ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم الممجدين ، ويعدون خلو الجوامع من ذلك من قلة الاكتراث بالدين ، وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم ثم إنهم قبحهم اللّه تعالى إذا اعترض عليهم بما اشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون : نعني بالخمر المحبة الإلهية وبالسكر غلبتها وبمية ، وليلى ، وسعدى مثلا المحبوب الأعظم وهو اللّه عزّ وجلّ ، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف : 180] وفي القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام ليس من أدب السماع أن يشبه غلبة المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء الأدب وكذا تشبيه المحبة بالخمر أم الخبائث فلا يشبه ما أحبه اللّه تعالى بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته فإن تشبيه النفيس بالخسيس سوء الأدب بلا شك فيه ، وكذا التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات ، ولقد كره لبعضهم قوله : أنتم روحي ومعلم راحتي ولبعضهم قوله : فأنت السمع والبصر لأنه لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما ، ثم إنه وإن أباح بعض أقسام السماع حط على من يرقص ويصفق عنده فقال : أما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة برعونة الإناث لا
يفعلها إلا أرعن أو متصنع كذاب ، وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم»
ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 73
وإنما استحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق باللّه تعالى شأنه ولقد مانوا فيما قالوا وكذبوا فيما ادعوا من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين. إحداهما لذة قليل من الأحوال المتعلقة بذي الجلال. والثانية لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات ليست من آثار الدين ولا متعلقة بأموره فلما عظمت عندهم اللذات غلطوا فظنوا أن مجموع ما حصل لهم إنما حصل بسبب حصول ذلك القليل من الأحوال وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين في شيء. وقد حرم بعض العلماء التصفيق
لقوله عليه الصلاة والسلام : «إنما التصفيق للنساء»
ولعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ، ومن هاب الإله أدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ولا يصدر أن إلا من جاهل ، ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء ولا معتبر من أتباعهم وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء ، وقد قال تعالى : وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل : 89] ولقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئا من ذلك فما ذاك إلا غرض من أغراض النفس وليس بقربة إلى الرب جلّ وعلا ، وفاعله إن كان ممن يقتدى به ويعتقد أنه ما فعله إلا لكونه قربة فبئس ما صنع لإيهامه أن هذا من الطاعات وإنما هو من أقبح الرعونات. وأما الصياح والتغاشي ونحوهما فتصنع ورياء ، فإن كان ذلك عن حال لا يقتضيهما فإثم الفاعل من جهتين. إحداهما إيهامه الحال الثابتة الموجبة لهما. والثانية تصنعه ورياؤه ، وإن كان عن مقتض أثم إثم رياء لا غير.
وكذلك نتف الشعور وضرب الصدور وتمزيق الثياب محرم لما فيه من إضاعة المال ، وأي ثمرة لضرب الصدور ونتف الشعور وشق الجيوب إلا رعونات صادرة عن النفوس ا ه كلامه ، ومنه يعلم ما في نقل الأسنوي عنه رحمه اللّه تعالى أنه كان يرقص في السماع ، والعلامة ابن حجر قال : يحمل ذلك على مجرد القيام والتحرك لغلبة وجد وشهود وتجل لا يعرفه إلا أهله ، ومن ثم قال الإمام إسماعيل الحضرمي : موقف الشمس عن قوم يتحركون في السماع هؤلاء قوم يروحون قلوبهم بالأصوات الحسنة حتى يصيروا روحانيين فهم بالقلوب مع الحق وبالأجساد مع الخلق ، ومع هذا فلا يؤمن عليهم العدو ولا يعول عليهم فيما فعلوا ولا يقتدى بهم فيما قالوا ا ه ، وما ذكره فيمن يصدر عنه نحو الصياح والتغاشي عن حال يقتضيه لا يخلو عن شيء ، فقد قال البلقيني فيما يصدر عنهم من الرقص الذي هو عند جمع ليس بمحرم ولا مكروه لأنه مجرد حركات على استقامة أو اعوجاج ولأنه عليه الصلاة والسلام ، أقر الحبشة عليه في مسجده يوم عيد ، وعند آخرين مكروه ، وعند هذا القائل حرام إذا كثر بحيث أسقط المروءة إن كان باختيارهم فهم كغيرهم وإلا فليسوا بمكلفين ، واستوضحه بعض الأجلة وقال : يجب اطراده في سائر ما يحكى عن الصوفية مما يخالف ظواهر الشرع فلا يحتج به لأنه إن صدر عنهم في حال تكليفهم فهم كغيرهم أو مع غيبتهم لم يكونوا مكلفين به ، والذي يظهر لي أن غناء الرجل بمثل هذه الألحان إن كان لدفع الوحشة عن نفسه فمباح غير مكروه كما ذهب إليه شمس الأئمة السرخسي لكن بشرط أن لا يسمعه من يخشى عليه الفتنة من امرأة أو غيرها ولا من يستخف به ويسترذله وبشرط أن لا يغير اسم معظم بنحو زيادة ليست فيه في أصل وضعه لأجل أن لا يخرج عن مقتضى الصنعة مثل أن يقول في اللّه إيلاه وفي محمد موحامد ، هذا مع كون ما يتغنى به مما لا بأس بإنشاده وإن كان للناس للهو في غير حادث سرور كعرس بأجرة أو بدونها ازدرى به لذلك
أو لم يزدر كان ما يتغنى به مباح الإنشاد أو لم يكن فحرام وإن أمنت الفتنة وأراه من الصغائر كما يقتضيه كلام الماوردي حيث قال : وإذا قلنا بتحريم الأغاني والملاهي فهي من الصغائر دون الكبائر ، وإن كان في حادث سرور فهو مباح إن أمنت الفتنة وكان ما يتغنى به جائز الإنشاد ولم يغير فيه اسم معظم ولم يكن سببا للازدراء به وهتك مروءته ولا لاجتماع الرجال والنساء على وجه محظور ، وإن كان سببا لمحرم فهو حرام وتتفاوت مراتب حرمته حسب تفاوت حرمة ما كان هو سببا له وإن كان للناس لا للهو بل لتنشيطهم على ذكر اللّه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 74
تعالى كما يفعل في بعض حلق التهليل في بلادنا فمحتمل الإباحة إن لم يتضمن مفسدة ولعله إلى الكراهة أقرب.
وربما يقال : إنه حينئذ قربة كالحداء وهو ما يقال خلف الإبل من زجر وغيره إذا كان منشطا لسير هو قربة لأن وسيلة القربة به اتفاقا فيقال : لم نقف على خبر في اشتمال حلق الذكر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وكذا على عهد خلفائه وأصحابه رضي اللّه تعالى عنهم وهم أحرص الناس على القرب على هذا الغناء ولا على سائر أنواعه وصحت أحاديث في الحداء ولذا أطلق جمع القول بندبه وكونهم نشطين بدون ذلك لا يمنع أن يكون فيهم من يزيده ذلك نشاطا فلو كان لذلك قربة لفعلوه ولو مرة ولم ينقل أنهم فعلوه أصلا ، على أنه لا يبعد أن يقال : إنه يشوش على الذاكرين ولا يتم لهم معه معنى الذكر وتصوره وهو بدون ذلك لا ثواب فيه بالإجماع ، ولعل ما يفعل على المنائر مما يسمونه تمجيدا منتظم عند الجهلة في سلك وسائل القرب بل يعده أكثرهم قربة من حيث ذاته وهو لعمري عند العالم بمعزل عن ذلك ، وإن كان لحاجة مرض تعين شفاؤه به فلا شك في جوازه والإكباب على المباح منه يخرم المروءة كاتخاذه حرفة ، وقول الرافعي : لا يخرمها إذا لاق به رده الزركشي بأن الشافعي نص على رد شهادته وجرى عليه أصحابه لأنها حرفة دنية ويعد فاعلها في العرف ممن لا حياء له ، وعن الحسن أن رجلا قال له : ما تقول في الغناء؟ قال : نعم الشيء الغناء يوصل به الرحم وينفس به عن المكروب ويفعل فيه المعروف قال : إنما أعني الشد ، قال : وما الشد أتعرف منه شيئا؟ قال : نعم قال : فما هو؟ فاندفع الرجل يغني ويلوي شدقيه ومنخريه ويكسر عينيه فقال الحسن : ما كنت أرى أن عاقلا يبلغ من نفسه ما أرى ، واختلفوا في تعاطي خارم المروءة على أوجه. ثالثها إن تعلقت به شهادة حرم وإلا فلا.
قال بعض الأجلة : وهو الأوجه لأنه يحرم عليه التسبب في إسقاط ما تحمله وصار أمانة عنده لغيره ويظهر لي أنه إن كان ذلك من عالم يقتدى به أو كان ذلك سببا للازدراء حرم أيضا وإن سماعه أي استماعه لا مجرد سماعه بلا قصد عند أمن الفتنة وكون ما يتغنى به جائز الإنشاد وعدم تسببه لمعصية كاستدامة مغن لغناء آثم به مباح والإكباب عليه كما قال النووي : بسقط المروءة كالإكباب على الغناء المباح ، والاختلاف في تعاطي مسقطها قد ذكرناه آنفا وأما سماعه عند عدم أمن الفتنة وكون ما يتغنى به غير جائز الإنشاد وكونه متسببا لمعصية فحرام ، وتتفاوت مراتب حرمته ولعلها تصل إلى حرمة كبيرة ، ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا عن رقص فإن مفاسده أكثر من أن تحصى وكثير مما يسمعونه من الأشعار من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة ويزعمون أن أكثرهم رغبة فيه أشدهم رغبة أو رهبة قاتلهم اللّه تعالى أنى يؤفكون.
ولا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم عن القشيري وغيره أن سماعهم مذموم عند من يعتقدون انتصاره لهم ويحسبون أنهم وإياه من حزب واحد فويل لمن شفعاؤه خصماؤه وأحباؤه أعداؤه ، وأما رقصهم عليه فقد زادوا به في الطنبور رنة وضموا كسر اللّه تعالى شوكتهم بذلك إلى السفه جنة. وقد أفاد بعض الأجلة أنه لا تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف الذي قيل يباح أو يسن ضربه لعرس وختان وغيرهما من كل سرور ، ومنه قدوم عالم ينفع المسلمين رادا على من زعم القبول فقال : وعن بعضهم تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف لاعتقادهم أن ذلك قربة كما تقبل شهادة حنفي شرب النبيذ لاعتقاده إباحته وكذا كل من فعل ما اعتقد إباحته ا ه ، ورد بأنه خطأ قبيح لأن اعتقاد الحنفي نشأ عن تقليد صحيح ولا كذلك غيره وإنما منشؤه الجهل والتقصير فكان خيالا باطلا لا يلتفت إليه ا ه.
ثم إني أقول : لا يبعد أن يكون صاحب حال يحركه السماع ويثير منه ما يلجئه إلى الرقص أو التصفيق أو الصعق والصياح وتمزيق الثياب أو نحو ذلك مما هو مكروه أو حرام فالذي يظهر لي في ذلك أنه إن علم من نفسه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 75
صدور ما ذكر كان حكم الاستماع في حقه حكم ما يترتب عليه ، وإن تردد فيه فالأحوط في حقه إن لم نقل بالكراهة عدم الاستماع ،
ففي الخبر «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
ثم إن ما حصل له شيء من ذلك بمجرد السماع من غير قصد ولم يقدر على دفعه أصلا فلا لوم ولا عتاب فيه عليه ، وحكمه في ذلك حكم من اعتراه نحو عطاس وسعال قهريين ولا يشترط في دفع اللوم والعتاب عنه كون ذلك مع غيبته فلا يجب على من صدر منه ذلك إن لم يغب إعادة الوضوء للصلاة مثلا ، ولينظر فيما لو اعتراه وهو في الصلاة بدون غيبة هل حكمه حكم نحو العطاس والسعال إذا اعتراه فيها أم لا ، والذي سمعته عن بعض الكبار الثاني فتدبر. ومن الناس من يعتريه شيء مما ذكر عند سماع القرآن إما مطلقا أو إذا كان بصوت حسن ، وقلما يقع ذلك من سماع القرآن أو غيره لكامل.
وعن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنه قيل لها : إن قوما إذا سمعوا القرآن صعقوا فقالت : القرآن أكرم من أن يسرق منه عقول الرجال ولكنه كما قال اللّه تعالى : تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر : 23] وكثيرا ما يكون لضعف تحمل الوارد ، وبعض المتصنعين يفعله رياء ، وعن ابن سيرين أنه سئل عمن يسمع القرآن فيصعق فقال : ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره فإن صعقوا فهو كما قالوا ، ولا يرد على إباحة الغناء وسماعه في بعض الصور
خبر ابن مسعود «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»
لا لأن الغناء فيه مقصور وأن المراد به غنى المال الذي هو ضد الفقر إذ يرد ذلك أن الخبر روي من وجهآخر بزيادة والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع ، ومقابلة الغناء بالذكر ظاهر في المراد به التغني ، على أن الرواية كما قال بعض الحفاظ بالمد بل لأن المراد أن الغناء من شأنه أن يترتب عليه النفاق أي العملي بأن يحرك إلى غدر وخلف وعد وكذب ونحوها ولا يلزم من ذلك اطراد الترتب.
وربما يشير إلى ذلك التشبيه في قوله : كما ينبت الماء البقل فإن إنبات الماء البقل غير مطرد ، ونظير ذلك في الكلام كثير ، والقائل بإباحته في بعض الصور إنما يبيحه حيث لا يترتب عليه ذلك. نعم لا شك أن ما هذا شأنه الأحوط بعد كل قيل وقال عدم الرغبة فيه كذا قيل.
وقيل : يجوز أن يكون أريد بالنفاق الإيماني ، ويؤيده مقابلته في بعض الروايات بالإيمان ويكون مساق الخبر للتنفير عن الغناء إذ كان الناس حديثي عهد بجاهلية كان يستعمل فيها الغناء للهو ويجتمع عليه في مجالس الشرب ، ووجه انباته للنفاق إذ ذاك أن كثيرا منهم لقرب عهده بلذة الغناء وما يكون عنده من اللهو والشرب وغيره من أنواع الفسق يتحرك قلبه لما كان عليه ويحن حنين العشار إليه ويكره لذلك الإيمان الذي صده عما هنالك ولا يستطيع لقوة شوكة الإسلام أن يظهر ما أضمر وينبذ الإيمان وراء ظهره ويتقدم إلى ما عنه تأخر فلم يسعه إلا النفاق لما اجتمع عليه مخافة الردة والاشتياق فتأمل ذاك واللّه تعالى يتولى هداك ، وأما الآية فإن كان وجه الاستدلال بها تسمية الغناء لهوا فكم لهو هو حلال وإن كان الوعيد على اشترائه واختياره فلا نسلم أن ذلك على مجرد الاشتراء لجواز أن يكون على الاشتراء ليضل عن سبيل اللّه تعالى ولا شك أن ذلك من الكبائر ولا نزاع لنا فيه وقال ابن عطية : الذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله تعالى : لِيُضِلَّ إلخ ا ه.
ومما ذكرنا يعلم ما في الاستدلال بها على حرمة الملاهي كالرباب والجنك والسنطير والكمنجة والمزمار وغيرها من الآلات المطربة بناء على ما روي عن ابن عباس والحسن أنهما فسرا لَهْوَ الْحَدِيثِ بها نعم أنه يحرم استعمالها واستماعها لغير ما ذكر فقد صح من طرق خلافا لما وهم فيه ابن حزم الضال المضل فقد علقه البخاري ووصله الإسماعيلي ، وأحمد ، وابن ماجة ، وأبو نعيم وأبو داود بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها وصححه جماعة آخرون

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 76
من الأئمة كما قاله بعض الحفاظ
أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «ليكونن في أمتي قوم يستحلون الخز والخمر والمعازف»
وهو صريح في تحريم جميع آلات اللهو المطربة ومما يشبه الصريح في ذلك ما
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي عن أنس ، وأحمد ، والطبراني عن ابن عباس ، وأبي أمامة مرفوعا «ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف»
وهي الملاهي التي سمعتها ، ومنها الصنج العجمي وهو صفر يجعل عليه أوتار يضرب بها على ما ذهب إليه غير واحد خلافا للماوردي حيث قال : إن الصنج يكره مع الغناء ولا يكره منفردا لأنه بانفراده غير مطرب ، ولعله أراد به العربي وهو قطعتان من صفر تضرب أحدهما بالأخرى فإنه بحسب الظاهر هو الذي لا يطرب منفردا لكن يزيد الغناء طربا ، وذكر أنه يستعمله المخنثون في بعض البلاد ، ولا يبعد عليه القول بالحرمة ، ومنها اليراع وهو الشبابة فإنه مطرب بانفراده بل قال بعض أهل الموسيقى : إنه آلة كاملة جامعة لجميع النغمات إلا يسيرا ، وقد أطنب الإمام الدولعي وهو من أجلة العلماء في دلائل تحريمه ومنها القياس وهو إما أولى أو مسار وقال : العجب كل العجب ممن هو من أهل العلم بزعم أن الشبابة حلال ا ه ومنه يعلم ما في قول التاج السبكي في توشيحه لم يقر عندي دليل على تحريم اليراع مع كثرة التتبع والذي أراه الحل فإن انضم إليه محرم فلكل منهما حكمة ، ثم الأولى عندي لمن ليس من أهل الذوق الإعراض عنه مطلقا لأن غاية ما فيه حصول لذة نفسانية وهي ليست من المطالب الشرعية وأما أهل الذوق فحالهم مسلم إليهم وهم على حسب ما يجدونه من أنفسهم ا ه.
وحكي عن العز بن عبد السلام ، وابن دقيق العيد أنهما كانا يسمعان ذلك والظاهر أنه كذب لا أصل له وبذلك جزم بعض الأجلة ، ولا يبعد حلها إذا صفر فيها كالأطفال والرعاء على غير القانون المعروف من الإطراب.
ومنها العود وهو آلة للهو غير الطنبور وأطلقه بعضهم عليه وحكاية النجس ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان يسمع العود من جملة كذبه وتهوره كدعواه إجماع الصحابة والتابعين على إباحة الغناء واللهو ، ومثله في المجازفة وارتكاب الأباطيل على الجزم ابن حزم لا الدف فيجوز ضربه من رجل وامرأة لا من امرأة فقط خلافا للحليمي واستماعه لعرس ونكاح وكذا غيرهما من كل سرور في الأصح وبحل ذي الجلاجل منه وهي إما نحو حلق يجعل داخله كدف العرب أو صنوج عراض من صفر تجعل في حروف دائرته كدف العجم جزم جماعة وجزم آخرون بحرمته وبها أقول لأنه كما قال الأذرعي أشد إطرابا من أكثر الملاهي المتفق على تحريمها ، وبعض المتصوفة ألفوا رسائل في حل الأوتار والمزامير وغيرها من آلات اللهو وأتوا فيها بكذب عجيب على اللّه تعالى وعلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وعلى أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم والتابعين والعلماء العاملين وقلدهم في ذلك من لعب به الشيطان وهوى به الهوى إلى هوة الحرمان فهو عن الحق بمعزل وبينه وبين حقيقة التصوف ألف ألف منزل ، وإذا تحقق لديك قول بعض الكبار بحل شيء من ذلك فلا تغتر به لأنه مخالف لما عليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من الأكابر المؤيد بالأدلة القوية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك ما عدا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ومن رزق عقلا مستقيما وقلبا من الأهواء الفاسدة سليما لا يشك في أن ذلك ليس من الدين وأنه بعيد بمراحل عن مقاصد شريعة سيد المرسلين صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين واستدل بعض أهل الإباحة على حل الشبابة بما
أخرجه ابن حبان في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه سمع صوت زمارة راع فجعل إصبعيه في أذنيه وعدل عن الطريق وجعل يقول : يا نافع أتسمع فأقول : نعم فلما قلت : لا رجع إلى الطريق ثم قال : هكذا رأيت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يفعله ، وأخرجه ابن أبي الدنيا ، والبيهقي عن نافع أيضا ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 77
وسأل عنه الحافظ محمد بن نصر السلامي فقال : إنه حديث صحيح ، ووجه الاستدلال به أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم يأمر ابن عمر وكان عمره إذ ذاك كما قال الحافظ المذكور سبع عشرة سنة بسد أذنيه ولا نهى الفاعل فلو كان ذلك حراما لأمر ونهى عليه الصلاة والسلام ، وسد أذنيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يحتمل أن يكون لكونه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك في حال ذكر أو فكر وكان السماع يشغله عليه الصلاة والسلام والتحية ويحتمل أن يكون إنما فعله صلّى اللّه عليه وسلم تنزيها وقال الأذرعي : بهذا الحديث استدل أصحابنا على تحريم المزامير وعليه بنوا التحريم في الشبابة ا ه.
والحق عندي أنه ليس نصا في حرمتها لأن سد الأذنين عند السماع من باب فعله صلّى اللّه عليه وسلم وليس مما وضح فيه أمر الجبلة ولأثبت تخصيصه به عليه الصلاة والسلام ولا مما وضح أنه بيان لنص علم جهته من الوجوب والندب والإباحة فإن كان مما علمت صفته فلا يخلو من أن تكون الوجوب أو الندب أو الإباحة لا جائز أن تكون الوجوب المستلزم لحرمة سماع اليراع إذ لا قائل بأنه يجب على أحد سد الأذنين عند سماع محرم إذ يأمن الإثم بعدم القصد فقد قالوا :
إن الحرام الاستماع لا مجرد السماع بلا قصد ، وفي الزواجر الممنوع هو الاستماع لا السماع لا عن قصد اتفاقا ، ومن ثم صرح أصحابنا - يعني الشافعية - أن من بجواره آلات محرمة ولا يمكنه إزالتها لا يلزمه النقلة ولا يأثم بسماعها لا عن قصد وإصغاء ا ه ، والظاهر أن الأمر كذلك عند سائر الأئمة ، نعم لهم تفصيل في القعود في مكان فيه نحو ذلك ، قال في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار : دعي إلى وليمة وثمة لعب وغناء قعد وأكل ولو على المائدة لا ينبغي أن يقعد بل يخرج معرضا لقوله تعالى : فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام : 68] فإن قدر على المنع فعل وإلا يقدر صبر إن لم يكن ممن يقتدى به فإن كان مقتدى به ولم يقدر على المنع خرج ولا يقعد لأن فيه شين الدين ، والمحكي عن الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه كان قبل أن يصير مقتدى به ، وإن علم أولا لا يحضر أصلا سواء كان ممن يقتدى به أولا ا ه فتعين كونها الندب أو الإباحة وكلا الأمرين لا يستلزمان الحرمة فيحتمل أن يكون ذلك حراما أو مكروها يندب سد الأذنين عند سماعه احتياطا من أن يدعو إلى الاستماع المحرم أو المكروه ، وإن كان مما لم تعلم صفته فقد قالوا فيما كان كذلك المذاهب فيه بالنسبة إلى الأمة خمسة الوجوب والندب والإباحة والوقف والتفصيل وهو أنه إن ظهر قصد القربة فالندب وإلا فالإباحة ويعلم مما ذكرنا الحال على كل مذهب والذي يغلب على الظن أن ما أشار إليه الخبر إن كان الزمر بزمارة الراعي على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات كما يفعله من جعل ذلك صنعته اليوم فاستماعه حرام وسد الأذنين المشار إليه فيه لعله كان منه عليه الصلاة والسلام تعليما للأمة أحد طرق الاحتياط المعلوم حاله لئلا يجرهم ذلك إلى الاستماع وإلا فالاستماع لمكان العصمة مما لا يتصور في حقه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ومن عرف قدر الصحابة واطلع
على سبيلهم وحرصهم على التأسي به عليه الصلاة والسلام لم يشك في أن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنه سد أذنيه أيضا تأسيا ويكون حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام الذي يشير إليه الخبر له رضي اللّه تعالى عنه أتسمع على معنى تسمع «1» أتسمع وإنما أسقط تسمع لدلالة الحال عليه إذ من سد أذنيه لا يسمع ، وإنما أذن له صلى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك لموضع الحاجة وهذا أقرب من احتمال كون سد الأذنين منه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأنه كان في حال ذكر أو فكر وكان يشغله صلى اللّه تعالى عليه وسلم عند السماع.
وأما عدم نهيه عليه الصلاة والسلام من كان يرمز عن الزمر والإنكار عليه فلا يسلم دلالته على الجواز فإنه يجوز
___________
(1) قوله على معنى تسمع هي بشد الميم في خط المؤلف ا ه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 78
أن يكون الصوت جاء من بعيد وبين الزامر وبينه عليه الصلاة والسلام ما يمنع من الوصول إليه أو لم يعرف عينه صلّى اللّه عليه وسلم لأن الصوت قد جاء من وراء حجاب ولا تتحقق القدرة معه على الإنكار ، ويجوز أيضا أن يكون التحريم معلوما من قبل وعلم من النبي صلّى اللّه عليه وسلم الإصرار عليه وأن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله فيكون ذلك كاختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم ، وفي مثل ذلك لا يدل السكوت وعدم الإنكار على الجواز إجماعا ، ومن قال بأن الكافر غير مكلف بالفروع قال : يجوز أن يكون ذلك الزامر كافرا وأن السكوت في حقه ليس دليل الجواز وإن كان الزمر بها لا على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات فلا بعبد في أن يقال بالجواز والإباحة فعلا واستماعا ، وسد الأذنين عليه لغاية التنزه اللائق به عليه الصلاة والسلام ، وقول الأذرعي في الجواب إن قوله في الخبر : زمارة راع لا يعين أنها الشبابة فإن الرعاة يضربون بالشعيبية وغيرها يوهم أن ما يسمى شعيبية مباح مفروغ منه وفيه نظر فإنها عبارة عن عدة قصبات صغار ولها اطراب بحسب حذق متعاطيها فهي شبابة أو مزمار لا محالة ، وفي إباحة ذلك كلام ، وبعد هذا كله نقول :
إن الخبر المذكور رواه أبو داود وقال : إنه منكر وعليه لا حجة فيه للطرفين وكفى اللّه تعالى المؤمنين القتال ، ثم إنك إذا ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو استماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له من المتصوفة فلو كان الأمر كما زعموا لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويأمروا اتباعهم به ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء ، وقد قال اللّه تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ولو كان استعمال الملاهي المطربات او استماعها من الدين ومما يقرب إلى حضرة رب العالمين لبينه صلّى اللّه عليه وسلم وأوضحه كمال الإيضاح لأمته ، وقد قال عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه»
وما ذكر داخل في الشق الثاني كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل مستقيم فتأمل وأنصف وإياك من الاعتراض قبل أن تراجع تعرف ، ولنا عودة إن شاء اللّه تعالى للكلام في هذا المطلب يسر اللّه تعالى ذلك لنا بحرمة حبيبه الأعظم صلّى اللّه عليه وسلم.
واستدل بعضهم بالآية على القول بأن لهو الحديث الكتب التي اشتراها النضر بن الحارث على حرمة مطالعة كتب تواريخ الفرس القديمة وسماع ما فيها وقراءته ، وفيه بحث ، ولا يخفى أن فيها من الكذب ما فيها فالاشتغال بها لغير غرض ديني خوض في الباطل ، وعده ابن نجيم في رسالته في بيان المعاصي من الصغائر ومثل له بذكر تنعم الملوك والأغنياء فافهم هذا ، ومن الغريب البعيد وفيه جعل الاشتراء بمعنى البيع ما ذهب إليه صاحب التحرير قال :
يظهر لي أنه أراد سبحانه بلهو الحديث ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم والأمر بالدوام عليه وتغيير صفة الرسول عليه الصلاة والسلام وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق عليه السلام يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان وأطلق اسم الاشتراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم ، وقال : يؤيده قوله تعالى : لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو كما ترى ، والمراد بسبيله تعالى دينه عزّ وجلّ أو قراءة كتابه سبحانه أو ما يعمهما ، واللام في لِيُضِلَّ للتعليل. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «ليضل» بفتح الياء ، والمراد ليثبت على ضلاله ويزيد فيه فإن المخبر عنه ضال قبل : واللام للعاقبة وكونها على أصلها كما قيل بعيد ، وجوز الزمخشري أن يكون قد وضع «ليضل» على هذه القراءة موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة فدل بالرديف وهو الضلال على المردوف وهو الإضلال ، ووجه الدلالة أنه أريد بالضلال المضاعف في شأن من جانب سبيل اللّه تعالى وتركه رأسا وهذا الضلال لا ينفك عن الإضلال وبالعكس ، وبه يندفع نظر صاحب الفرائد بأن الضلال لا يلزمه إلا ضلال ، وفيه توافق القراءتين وبقاء اللام على حقيقتها ، وهي على الوجهين متعلقة بقوله سبحانه : يَشْتَرِي وقوله عزّ وجلّ : بِغَيْرِ عِلْمٍ يجوز أن يكون

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 79
متعلقا به أيضا أي يشتري ذلك بغير علم بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق ، ويجوز أن يكون متعلقا بيضل أي ليضل عن سبيله تعالى جاهلا أنها سبيله عزّ وجلّ أو جاهلا أنه يضل أو جاهلا الحق وَيَتَّخِذَها بالنصب عطفا على «يضل» والضمير للسبيل فإنه مما يذكر ويؤنث ، وجوز أن يكون للآيات ، وقيل :
يجوز أن يكون للأحاديث لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث وهو كما ترى هُزُواً أي مهزوءا به. وقرأ جمع من السبعة يَتَّخِذَها بالرفع عطفا على يَشْتَرِي وجوز أن يكون على إضمار هو أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ لما اتصفوا به من اهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه وترغيب الناس فيه والجزاء من جنس العمل ، وأُولئِكَ إشارة إلى مِنَ وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد المنزلة في الشرارة ، والجمع في اسم الإشارة والضمير باعتبار معناها كما أن الأفراد في الفعلين باعتبار لفظها ، وكذا في قوله تعالى : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ ففي الآية مراعاة اللفظ ثم مراعاة المعنى ثم مراعاة اللفظ ونظيرها في ذلك قوله تعالى في سورة [الطلاق : 2] وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ الآية ، قال أبو حيان :
ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين ، وقال الخفاجي : ليس كذلك فإن لها نظائر أي وإذا تتلى على المشتري المذكور آياتُنا الجليلة الشأن وَلَّى أعرض عنها غير معتد بها مُسْتَكْبِراً مبالغا في التكبر فالاستفعال بمعنى التفعل كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها حال من ضمير وَلَّى أو من ضمير مُسْتَكْبِراً أي مشابها حاله في أعراضه تكبرا أو في تكبره حال من لم يسمعها وهو سامع ، وفيه رمز إلى أن من سمعها لا يتصور منه التولية والاستكبار لما فيها من الأمور الموجبة للإقبال عليها والخضوع لها على طريقة قول الخنساء :
أيا شجر الخابور ما لك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
وكَأَنْ المخففة ملغاة لا حاجة إلى تقدير ضمير شأن فيها وبعضهم يقدره كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي صمما مانعا من السماع ، وأصل معنى الوقر الجمل الثقيل استعير للصمم ثم غلب حتى صار حقيقة فيه. والجملة حال من ضمير لم يسمعها أو هي بدل منها بدل كل من كل أو بيان لها ويجوز أن تكون حالا من أحد السابقين ، ويجوز أن تكون كلتا الجملتين مستأنفتين والمراد من الجملة الثانية الترقي في الذم وتثقيل كَأَنْ في الثانية كأنه لمناسبته للثقل في معناه ، وقرأ نافع «في أذنيه» بسكون الذال تخفيفا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي أعلمه أن العذاب المفرط في الإيلام لاحق به لا محالة ، وذكر البشارة للتهكم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لحال المؤمنين بآياته تعالى إثر بيان حال الكافرين بها أي أن الذين آمنوا بآياته تعالى وعملوا بموجبها لَهُمْ بمقابلة ما ذكر من إيمانهم وعملهم جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي النعيم الكثير وإضافة الجنات إليه باعتبار اشتمالها عليه نظير قولك : كتب الفقه.
وفي هذا إشارة إلى أن لهم نعيمها بطريق برهاني فهو أبلغ من لهم نعيم الجنات إذ لا يستدعي ذلك على أن تكون نفس الجنات ملكا لهم فقد يتنعم بالشيء غير مالكه ، وقيل : في وجه الأبلغية إنه لجعل النعيم فيه أصلا ميزت به الجنات فيفيد كثرة النعيم وشهرته ، وأيا ما كان فجنات النعيم هي الجنات المعروفة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار قال : جنات النعيم بين جنات الفردوس وبين جنات عدن وفيها جوار خلقن من ورد الجنة قيل : ومن يسكنها؟ قال : الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمتي راقبوني والذين انثنت أصلابهم في خشيتي
،
واللّه تعالى أعلم بصحة الخبر ، والجملة خبر أن ، قيل : والأحسن أن يجعل لَهُمْ هو الخبر لأن وجَنَّاتُ النَّعِيمِ مرتفعا به على الفاعلية ، وقوله تعالى : خالِدِينَ فِيها حال من الضمير المجرور أو المستتر

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 80
في لَهُمْ بناء على أنه خبر مقدم أو من جَنَّاتُ بناء على أنه فاعل الظرف لاعتماده بوقوعه خبرا والعامل ما تعلق به اللام.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «خالدون» بالواو وهو بتقدير هو وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه أي لما هو كنفسه وهي الجملة الصريحة في معناه أعني قوله تعالى : لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ فإنه صريح في الوعد.
وقوله تعالى : حَقًّا مصدر مؤكد لتلك الجملة أيضا إلا أنه يعد مؤكدا لغيره إذ ليس كل وعد حقا في نفسه.
وجوز أن يكون مؤكدا لوعد اللّه المؤكد ، وأن يكون مؤكدا لتلك الجملة معدودا من المؤكد لنفسه بناء على دلالتها على التحقيق والثبات من أوجه عدة وهو بعيد. وفي الكشف لا يصح ذلك لأن الأخبار المؤكدة لا تخرج عن احتمال البطلان فتأمل وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء ليمنع من انجاز وعده وتحقيق وعيده الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، ويفهم هذا الحصر من الفحوى ، والجملة تذييل لحقية وعده تعالى المخصوص بمن ذكر المؤمي إلى الوعيد لأضدادهم خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ إلخ استئناف جيء به للاستشهاد بما فصل فيه على عزته عزّ وجلّ التي هي كمال القدرة وحكمته التي هي كمال العلم وإتقان العمل وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال أمر الإشراك وتبكيت أهله ، والعمد جمع عماد كأهب جمع أهاب وهو ما يعمد به أي يسند يقال عمدت الحائط إذا دعمته أي خلقها بغير دعائم على أن الجمع لتعدد السماوات ، وقوله تعالى : تَرَوْنَها استئناف في جواب سؤال تقديره ما الدليل على ذلك؟ فهو مسوق لإثبات كونها بلا عمد لأنها لو كانت لها عمد رؤية فالجملة لا محل لها من الاعراب والضمير المنصوب للسماوات والرؤية بصرية لا علمية حتى يلزم حذف أحد مفعوليها ، وجوز أن يكون صفة لعمد فالضمير لها أي خلقها بغير عمد مرئية على التقييد للرمز إلى أنه تعالى عمدها بعمد لا ترى وهي عمد القدرة ، وروي ذلك عن مجاهد وكون عمادها في كل عصر الإنسان الكامل في ذلك العصر ولذا إذا انقطع الإنسان الكامل وذلك عند انقطاع النوع الإنساني تطوى السماوات كطي السجل للكتب كلام لا عماد له من كتاب أو سنة فيما نعلم وفرق كل ذي علم عليم وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ بيان لصنعه تعالى البديع في قرار الأرض إثر بيان صنعه عزّ وجلّ الحكيم في قرار السماوات أي ألقى فيها جبالا شوامخ أو ثوابت كراهة أَنْ تَمِيدَ أو لئلا تميد أي تضطرب بِكُمْ لو
لم يلق سبحانه وتعالى فيها رواسي لما أن الحكمة اقتضت خلقها على حال لو خلت معه عن الجبال لمادت بالمياه المحيطة بها الغامرة لأكثرها والرياح العواصف التي تقتضي الحكمة هبوبها أو بنحو ذلك ، وقد يعد منه حركة ثقيل عليها ، وقد ذكر بعض الفلاسفة أنه يلزم بناء على كرية الأرض ووجوب انطباق مركز ثقلها على مركز العالم حركتها مع ما فيها من الجبال بسبب حركة ثقيلة من جانب منها إلى آخر لتغير مركز الثقل حينئذ إلا أنه لم يظهر ذلك لكون الأثقال المتحركة عليها كلا شيء بالنسبة إليها مع ما فيها ، ولعل من يعد حركة الثقيل عليها من أسباب الميد لو خلت من الجبال يقول : لا يبعد حركة ثقيل عليها كماء جرى من من مكان إلى آخر فاجتمع حتى صار بحرا عظيما مع ما ينضم إلى ذلك مما تنقله الأهوية من الرمال الكثيرة والتراب يكون له مقدار يعتد به بالنسبة إلى الأرض خالية من الجبال فتتحرك بحركته إلى خلاف جهته ، ثم إن الميد لولا الرواسي بنحو المياه والرياح متصور على تقدير كون الأرض كرية كما ذهب إلى الغزالي وكذا ذهب إليه كرية السماء ، وجاء في رواية عن ابن عباس ما يقتضيه وإليه ذهب أكثر الفلاسفة مستدلين عليه بما في التذكرة وشروحها وغير ذلك وهو الذي يشهد له الحس والحدس ، وعلى تقدير كونها غير كروية كما ذهب إليه من ذهب واختلفوا في شكلها عليه وتفصيل ذلك

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 81
يطلب من محله ، ولا دلالة في الآية على انحصار حكمة إلقاء الرواسي فيها بسلامتها عن الميد فإن لذلك حكما لا تحصى.
وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الاستدارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس ، ووراءه مذاهب أظهر بطلانا منه. نعم الأدلة النقلية والعقلية على ذلك كثيرة وَبَثَّ فِيها أي أوجد وأظهر ، وأصل البث الإثارة والتفريق ومنه فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة : 6] وكَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة : 4] وفي تأخيره إشارة إلى توقفه على إزالة الميد مِنْ كُلِّ دابَّةٍ من كل نوع من أنواعها وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر والمراد بالسماء جهة العلو ، وجوز تفسيرها بالمظلة وكون الإنزال منها بضرب من التأويل ، وترك التأويل لا ينبغي أن يعول عليه إلا إذا وجد من الأدلة ما يضطرنا إليه لأن ذلك خلاف المشاهد فَأَنْبَتْنا فِيها أي بسبب ذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف كَرِيمٍ أي شريف كثير المنفعة ، والالتفات إلى ضمير العظمة في الفعلين لإبراز مزيد الاعتناء بهما لتكررهما مع ما فيهما من استقامة حال الحيوان وعمارة الأرض ما لا يخفى.
هذا أي ما ذكر من السماوات والأرض وسائر الأمور المعدودة خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي أي أعلموني وأخبروني ، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم ذلك فأروني ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة حتى استحقوا به العبودية ، وما ذا يجوز أن يكون اسما واحدا استفهاميا ويكون مفعولا لخلق مقدما لصدارته وأن يكون ما وحدها اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبرها وتكون الجملة معلقا عنها سادة مسد المفعول الثاني لأروني ، وأن يكون ماذا كله اسما موصولا فقد استعمل كذلك على قلة على ما قال أبو حيان ويكون مفعولا ثانيا له والعائد محذوف في الوجهين وقوله تعالى :
بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إضراب عن تبكيتهم بما ذكر إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة لإستحالة أن يفهموا منها شيئا فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه ومتعدون عن الحد وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد.
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 إلى 25]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 82
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك بالنقل بعد الإشارة إلى بطلانه بالعقل ..
ولقمان اسم اعجمي لا عربي مشتق من اللقم وهو على ما قيل : ابن باعوراء قال وهب : وكان ابن أخت أيوب عليه الصلاة والسلام ، وقال مقاتل : كان ابن خالته ، وقال عبد الرحمن السهيلي : هو ابن عنقا بن سرون ، وقيل : كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال : ألا أكتفي إذا كفيت ، وقيل : كان قاضيا في بني إسرائيل ، ونقل ذلك عن الواقدي إلا أنه قال : وكان زمانه بين محمد ، وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وقال عكرمة ، والشعبي كان نبيا ، والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه السلام ولم يكن نبيا. واختلف فيه أكان حرا أو عبدا والأكثرون على أنه كان عبدا. واختلفوا فقيل :
كان حبشيا ، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
وأخرج ذلك ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا
، وذكر مجاهد في وصفه أنه كان غليظ الشفتين مصفح القدمين ، وقيل : كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر ، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس وابن المسيب ، ومجاهد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن الزبير قال : قلت لجابر بن عبد اللّه ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال :
كان قصيرا أفطس من النوبة ، وأخرج هو ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه قال : إن لقمان كان أسود من سودان مصر ذا مشافر أعطاه اللّه تعالى الحكمة ومنعه النبوة. واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال فقال خالد بن الربيع : كان نجارا بالراء وفي معاني الزجاج كان نجادا بالدال وهو على وزن كتان من يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما.
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه كان خياطا وهو أعم من النجاد ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه كان راعيا وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة ولا وثوق لي بشيء من هذه الأخبار وإنما نقلتها تأسيا بمن نقلها من المفسرين الأخيار عن أني أختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ولم يكن نبيا.
والْحِكْمَةَ على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس العقل والفهم والفطنة. وأخرج الفريابي ، وأحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنها العقل والفقه والإصابة في القول ، وقال الراغب : هي معرفة الموجودات وفعل الخيرات وقال الإمام : هي عبارة عن توفيق العمل بالعلم ثم قال : وإن أردنا تحديدا بما يدخل فيه حكمة اللّه تعالى فنقول : حصول العمل على وفق المعلوم وقال أبو حيان : هي المنطق الذي يتعظ به ويتنبه ويتناقله الناس لذلك ، وقيل :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 83
إتقان الشيء علما وعملا وقيل : كمال حاصل باستكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها وفسرها كثير من الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية. ولهم تفسيرات أخر وما لها وما عليها من الجرح والتعديل مذكوران في كتبهم ومن حكمته
قوله لابنه : أي بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى اللّه تعالى وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على اللّه تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيا ، وقوله : من كان له من نفسه واعظ كان له من اللّه عزّ وجلّ حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده اللّه تعالى بذلك عزا والذل في طاعة اللّه تعالى أقرب من التعزز بالمعصية وقوله : ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع وقوله : يا بني إياك والدّين فإنه ذلّ النهار وهم الليل وقوله يا بني ارج اللّه عزّ وجلّ رجاء لا يجزيك على معصيته تعالى وخف اللّه سبحانه خوفا لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه ، وقوله : من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم ، وقوله : يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء ، وذقت المرار فلم أذق شيئا هو أمر من الفقر ، يا بني لا ترسل رسولك جاهلا فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك ، يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه ، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا ، يا بني لا تأكل شبعا على شبع فإن القاءك إياه للكلب خير من أن تأكله ، يا بني لا تكن حلوا فتبلع ولا مرا فتلفظ ، وقوله لابنه :
لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء ، وقوله : لا خير في أن تتعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك رجل احتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى ، وقوله : يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره ، وقوله : لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء ، وقوله : يا بني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بد لك منه ، يا بني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، وقوله : يا بني امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك
إلى غير ذلك مما لا يحصى أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي أي أشكر على أن أَنِ تفسيرية وما بعدها تفسير لإيتاء الحكمة وفيه معنى القول دون حروفه سواء كان بإلهام أو وحي أو تعليم.
وجوز أن يكون تفسيرا للحكمة باعتبار ما تضمنه الأمر ، وجعل الزجاج أَنِ مصدرية بتقدير اللام التعليلية ولا يفوت معنى الأمر كما مرّ تحقيقه.
وحكى سيبويه كتبت إليه بأن قم ، والجار متعلق بآياتنا ، وجوز كونها مصدرية بلا تقدير على أن المصدر بدل اشتمال من الحكمة ، وهو بعيد وَمَنْ يَشْكُرْ إلخ استئناف مقرر لمضمون ما قبله موجب للامتثال بالأمر أي ومن يشكر له تعالى فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن نفعه من ارتباط القيد واستجلاب المزيد والفوز بجنة الخلود مقصورة عليها وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن كل شيء فلا يحتاج إلى الشكر ليتضرر بكفر من كفر حَمِيدٌ حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد أو محمود بالفعل ينطق بحمده تعالى جميع المخلوقات بلسان الحال ، فحميد فعيل بمعنى محمود على الوجهين ، وعدم التعرض لكونه سبحانه وتعالى مشكورا لما أن الحمد متضمن للشكر بل هو رأسه كما
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «الحمد رأس الشكر لم يشكر اللّه تعالى بعد لم يحمده»
فإثباته له تعالى إثبات للشكر له قطعا ، وفي اختيار صيغة المضي في هذا الشق قيل : إشارة إلى قبح الكفران وأنه لا ينبغي إلا أن يعد في خبر كان ، وقيل :
إشارة إلى أنه كثير متحقق بخلاف الشكر وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ : 13] وجواب الشرط محذوف قام مقامه قوله تعالى : فَإِنَّ اللَّهَ إلخ ، وكان الأصل ومن كفر فإنما يكفر على نفسه لأن اللّه غني حميد ، وحاصله ومن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 84
كفر فضرر كفره عائد عليه لأنه تعالى غني لا يحتاج إلى الشكر ليتضرر سبحانه بالكفر محمود بحسب الاستحقاق أو بنطق ألسنة الحال فكلا الوصفين متعلقات بالشق الثاني ، وجوز أن يكون غَنِيٌّ تعليلا لقوله سبحانه : فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وقوله عزّ وجلّ : حَمِيدٌ تعليلا للجواب المقدر للشرط بقرينة مقابله وهو فإنما يكفر على نفسه ، وأن يكون كل منهما متعلقا بكل منهما ، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف الذي لم يدع إليه ولم تقم عليه قرينة فتدبر.
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ تاران على ما قال الطبري ، والقتيبي ، وقيل : ما ثان بالمثلثة ، وقيل : أنعم ، وقيل : أشكم وهما بوزن أفعل ، وقيل : مشكم بالميم بدل الهمزة ، وَإِذْ معمول لا ذكر محذوفا ، وقيل : يحتمل أن يكون ظرفا لآتينا والتقدير وآتيناه الحكمة إذا قال واختصر لدلالة المقدم عليه ، وقوله تعالى : وَهُوَ يَعِظُهُ جملة حالية ، والوعظ - كما قال الراغب - زجر مقترن بتخويف ، وقال الخليل ، هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب يا بُنَيَّ تصغير اشفاق ومحبة لا تصغير تحقير :
ولكن إذا ما حب شيء تولعت به أحرف التصغير من شدة الوجد
وقال آخر :
ما قلت حبيبي من التحقير بل يعذب اسم الشيء بالتصغير
وقرأ البزي هنا «يا بنيّ» بالسكون وفيما بعد «يا بني إنها» بكسر الياء ويا بُنَيَّ أَقِمِ [لقمان : 17] بفتحها ، وقنبل بالسكون في الأولى والثالثة والكسر في الوسطى ، وحفص ، والمفضل عن عاصم بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا والاجتزاء بالفتحة عن الألف ، وقرأ باقي السبعة بالكسر فيها لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل : كان ابنه كافرا ولذا نهاه عن الشرك فلم يزل يعظه حتى أسلم ، وكذا قيل في امرأته.
وأخرج ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين عن الفضل الرقاشي قال : ما زال لقمان يعظ ابنه حتى مات.
وأخرج عن حفص بن عمر الكندي قال : وضع لقمان جرابا من خردل وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة فنفذ الخردل فقال : يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظتها جبلا لتفطر فتفطر ابنه ، وقيل : كان مسلما والنهي عن الشرك تحذير له عن صدوره منه في المستقبل ، والظاهر أن الباء متعلق بما عنده ، ومن وقف على لا تُشْرِكْ جعل الباء للقسم أي أقسم باللّه تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والظاهر أن هذا من كلام لقمان ويقتضيه كلام مسلم في صحيحه ، والكلام تعليل للنهي أو الانتهاء عن الشرك ، وقيل : هو خير من اللّه تعالى شأنه منقطع عن كلام لقمان متصل به في تأكيد المعنى ، وكون الشرك ظلما لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه وكونه عظيما لما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه سبحانه ومن لا نعمة له.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلخ كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيه من النهي عن الإشراك فهو من كلام اللّه عزّ وجلّ لم يقله سبحانه للقمان ، وقيل : هو من كلامه تعالى قاله جلّ وعلا له وكأنه قيل : قلنا له أشكر وقلنا له وصينا الإنسان إلخ ، وفي البحر لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه كان ذلك حثا على طاعة اللّه تعالى ثم بين أن الطاعة أيضا تكون للأبوين وبين السبب في ذلك فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه أخبر اللّه تعالى عنه بذلك ، وكلا القولين كما ترى ، والمعنى وأمرنا الإنسان برعاية والديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً أي ضعفا عَلى وَهْنٍ أي ضعف ، والمصدر حال من أُمُّهُ بتقدير مضاف أي ذات وهن وجوز جعله نفسه حالا مبالغة لكنه مخالف للقياس إذ القياس في الحال كونه مشتقا ، ويجوز أن يكون مفعولا لا مطلقا لفعل مقدر أي تهن وهنا ، والجملة حال من أُمُّهُ أيضا.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 85
وأيا ما كان فالمراد تضعف ضعفا متزايدا بازدياد ثقل الحمل إلى مدة الطلق ، وقيل : ضعفا متتابعا وهو ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف النفاس ، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في حَمَلَتْهُ العائد على الْإِنْسانَ وهو الذي يقتضيه ما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : وَهْناً الولد عَلى وَهْنٍ الوالدة وضعفها ، والمراد أنها حملته حال كونه ضعيفا على ضعيف مثله ، وليس المراد أنها حملته حال كونه متزايد الضعف ليقال أن ضعفه لا يتزايد بل ينقص. وقرأ عيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية وَهْناً عَلى وَهْنٍ بفتح الهاء فيهما فاحتمل أن يكون من باب تحريك العين إذا كانت حرف حلق كالشعر والشعر على القياس المطرد عند الكوفي كما ذهب إليه ابن جني ، وأن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن بفتحها فإن مصدره جاء كذلك وهذا كما يقال تعب يتعب تعبا كما قيل ، وكلام صاحب القاموس ظاهر في عدم اختصاص أحد المصدرين بأحد الفعلين قال :
الوهن الضعف في العمل ويحرك والفعل كوعد وورث وكرم.
وَفِصالُهُ أي فطامه وترك إرضاعه. وقرأ الحسن ، وأبو رجاء وقتادة ، والجحدري ، ويعقوب «وفصله» وهو أعم من الفصال ، والفصال هاهنا أوقع من الفصل لأنه موقع يختص بالرضاع وإن رجعنا إلى أصل واحد على ما قاله الطيبي فِي عامَيْنِ أي في انقضاء عامين أي في أول زمان انقضائهما ، وظاهر الآية أن مدة الرضاع عامان وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي ، والإمام أحمد ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وهو مختار الطحاوي.
وروي عن مالك ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا لقوله تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف : 15] ، ووجه الاستدلال به أنه سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال : أجلت الدين الذي لي على فلان والدين الذي لي على فلان سنة فإنه يفهم أن السنة بكمالها لكل ، أو على شخص بأن قال لفلان على ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة فصدقه المقر له في الأجل فإذا مضت السنة يتم أجلهما جميعا إلا أنه قام النقص في أحدهما أعني مدة الحمل لقول عائشة الذي لا يقال مثله إلّا سماعا : الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل فتبقى مدة الفصال على ظاهرها ، وما ذكر هنا أقل مدته وفيه بحث أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تفسير لوصينا كما اختاره النحاس فإن تفسيرية ، وجوز أن تكون مصدرية بتقدير لام التعليل قبلها وهو متعلق بوصينا وبلا تقدير على أن يكون المصدر بدلا من - والديه - بدل الاشتمال ، وعليه كأنه قيل : وصينا الإنسان بوالديه بشكرهما وذكر شكر اللّه تعالى لأن صحة شكرهما تتوقف على شكره عزّ وجلّ كما قيل في عكسه لا يشكر اللّه تعالى من لا يشكر الناس ولذا قرن بينهما في الوصية ، وفي هذا من البعد ما فيه ، وأما القول بأن الأمر يأبى التفسير والتعليل والبدلية فليس بشيء كما أشرنا إليه قريبا ، وعلى الأوجه الثلاثة يكون قوله تعالى : حَمَلَتْهُ أُمُّهُ - إلى - عامَيْنِ اعتراضا مؤكدا للتوصية في حق الأم خصوصا لذكر ما قاسته في تربيته وحمله ، ولذا
قال النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما في حديث صحيح رواه الترمذي ، وأبو داود عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لمن سأله عمن يبره : أمك وأجابه عن سؤاله به ثلاث مرات ،
وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه :
أحمل أمي وهي الحمالة. ترضعني الدرة والعلالة
ولا يجازي والد فعاله وللّه تعالى در من قال :
لأمك حق لو علمت كبير كثيرك يا هذا لديه يسير

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 86
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جراها أنة وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص لها الفؤاد
يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك
سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك
نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنوا وإشفاقا وأنت
صغير فآها لذي عقل ويتبع الهوى وآها لأعمى القلب وهو
بصير فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو به لفقير
واختلف في المراد بالشكر المأمور به فقيل هو الطاعة وفعل ما يرضي كالصلاة والصيام بالنسبة إليه تعالى وكالصلة والبر بالنسبة إلى الوالدين ، وعن سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر اللّه تعالى ومن دعا لوالديه في أدبارها فقد شكرهما ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر إِلَيَّ الْمَصِيرُ تعليل لوجوب الامتثال بالأمر أي إلى الرجوع لا إلى غيري فأجازيك على ما صدر عنك مما يخالف أمري.
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ أي باستحقاقه الإشراك أو بشركته له تعالى في استحقاق العبادة ، والجار متعلق بقوله تعالى : عِلْمٌ وما مفعول تُشْرِكَ كما اختاره ابن الحاجب ثم قال : ولو جعل تُشْرِكَ بمعنى الذي يمعنى تكفر وجعلت ما نكرة أو بمعنى كفرا أو الكفر وتكون نصبا على المصدرية لكان وجها حسنا ، والكلام عليه أيضا بتقدير مضاف أي وأن جاهدك الوالدان على أن تكفر بي كفرا ليس لك أو الكفر الذي ليس لك بصحته أو بحقيته علم فَلا تُطِعْهُما في ذلك والمراد استمرار نفي العلم لا نفي استمراره فلا يكون الإشراك إلا تقليدا. وفي الكشاف أراد سبحانه بنفي العلم نفي ما يشرك أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد عزّ وجلّ الأصنام كقوله سبحانه ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت : 42] وجعله الطيبي على ذلك من باب نفي الشيء بنفي لازمه وذلك ان العلم تابع للمعلوم فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجودا ، ونقل عن ابن المنير أنه عليه من باب :
على لاحب لا يهتدى بمناره أي ما ليس باله فيكون لك علم بإلهيته وفي الكشف أن الزمخشري أراد أنه بولغ في نفي الشريك حتى جعل كلا شيء ثم بولغ حتى ما لا يصح أن يتعلق به علم والمعدوم يصح أن يعلم ويصح أن يقال إنه شيء فادخل في سلك المجهول مطلقا وليس من قبيل نفي العلم لنفي وجوده وهذا تقرير حسن وفيه مبالغة عظيمة منه يظهر ترجيح هذا المسلك في هذا المقام على أسلوب :
ولا ترى الضب بها ينجحر ا ه فافهم ولا تغفل وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم والمروءة كإطعامهما واكسائهما وعدم جفائهما وانتهارهما وعيادتهما إذا مرضا ومواراتهما إذا ماتا ، وذكر فِي الدُّنْيا لتهوين أمر الصحبة والإشارة إلى أنها في أيام قلائل وشيكة الانقضاء فلا يضر تحمل مشقتها لقلة أيامها وسرعة انصرامها وقيل للإشارة إلى أن الرفق بهما في الأمور الدنيوية دون الدينية.
وقيل : ذكره لمقابلته بقوله تعالى : «ثم إليّ مرجعكم» وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ أي رجع إِلَيَّ بالتوحيد والإخلاص بالطاعة ، وحاصله اتبع سبيل المخلصين لا سبيلهما ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعك ورجوعهما وزاد

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 87
بعضهما من أناب وهو خلاف الظاهر ، وأيا ما كان ففيه تغليب للخطاب على الغيبة فَأُنَبِّئُكُمْ عند رجوعكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن أجازي كلّا منكم بما صدر عنه من الخير والشر ، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص أخرج أبو يعلى ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال : أنزلت في هذه الآية وَإِنْ جاهَداكَ الآية كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت : يا سعد وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه قلت : لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني هذا لشيء فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه تعلمين واللّه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا الشيء فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت فنزلت هذه الآية ، وذكر بعضهم أن هذه وما قبلها أعني قوله تعالى :
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ
الآية نزلتا فيه قيل ولكون النزول فيه قيل : من أناب بتوحيد الضمير حيث أريد بذلك أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه فإن إسلام سعد كان بسب إسلامه.
وأخرج الواحدي عن عطاء عن ابن عباس قال إنه يريد بمن أناب أبو بكر وذلك أنه حين أسلم رآه عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وعثمان وطلحة والزبير فقالوا لأبي بكر آمنت وصدقت محمدا صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال أبو بكر : نعم فأتوا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فآمنوا وصدقوا فأنزل اللّه تعالى يقول لسعد : وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يعني أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه ، وابن جريج يقول كما أخرج عنه ابن المنذر من أناب محمد عليه الصلاة والسلام ، وغير واحد يقول هو صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنون ، والظاهر هو العموم.
يا بُنَيَّ إلخ رجوع إلى القصة بذكر بقية ما أريد حكايته من وصايا لقمان أثر تقرير ما في مطلعه من النهي عن الشرك وتأكيده بالاعتراض إِنَّها أي الخصلة من الإساءة والإحسان لفهمها من السياق. وقيل : وهو كما ترى إنها أي التي سألت عنها ، فقد روي أن لقمان سأله ابنه أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر أيعلمها اللّه تعالى فقال يا بني إنها أي التي سألت عنها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي إن تكن مثلا في الصغر كحبة الخردل والمثقال ما يقدر به غيره لتساوي ثقلهما وهو في العرف معلوم.
وقرأ نافع ، والأعرج ، وأبو جعفر «مثقال» بالرفع على أن الضمير للقصة وتَكُ مضارع كان التامة والتأنيث لإضافة الفاعل إلى المؤنث كما في قول الأعشى :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
أو لتأويله بالزنة أو الحسنة والسيئة فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أي فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر والقماءة في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي ، وقيل : في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو أعلاه كمحدب السماوات أو أسفله كمقعر الأرض ، ولا يخفى أنه لا دلالة في النظم على تخصيص المحدب والمقعر ولعل المقام يقتضيه إذ المقصود المبالغة.
وفي قوله تعالى : فِي السَّماواتِ لا يأبى ذلك لأنها ذكرت بحسب المكانية أو للمشاكلة أو هي بمعنى على ، وعبر بها للدلالة على التمكن ومع هذا الظاهر ما تقدم ، وفي البحر أنه بدأ بما يتعقله السامع أولا وهو كينونة الشيء في صخرة وهو ما صلب من الحجر وعسر الإخراج منه ثم أتبعه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض ، وقيل : إن خفاء الشيء وصعوبة نيله بطرق بغاية صغره ويبعده عن الرائي وبكونه في ظلمة وباحتجاجه فمثقال حبة من خردل إشارة إلى غاية الصغر ، وفِي صَخْرَةٍ إشارة إلى الحجاب وفِي السَّماواتِ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 88
إشارة إلى البعد وفِي الْأَرْضِ إشارة إلى الظلمة فإن جوف الأرض أشد الأماكن ظلمة أو يقال فليس المراد بصخرة صخرة معينة ، وعن ابن عباس ، والسدي أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن الأرض على نون والنون على البحر بحر على صخرة خضراء خضرة الماء منها والصخرة على قرن ثور وذلك الثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلّا اللّه تعالى.
وفسر بعضهم الصخرة بهذه الصخرة ، وقيل : هي صخرة في الريح ، قال ابن عطية : وكل ذلك ضعيف لا يثبت سنده وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم أي إن قدرته عزّ وجلّ تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وما يكون في الأرض ا ه ، والأقوى عندي وضع هذه الأخبار ونحوها فليست الأرض إلّا في حجر الماء وليس الماء إلّا في جوف الهواء وينتهي الأمر إلى عرش الرحمن جلّ وعلا والكل في كف قدرة اللّه عزّ وجلّ.
وقرأ عبد الرحيم الجزري فَتَكُنْ بكسر الكاف وشد النون وفتحها ، وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي «فتكن» بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة ، وقرأ قتادة «فتكن» بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ورويت هذه القراءة عن الجزري أيضا ، والفعل في جميع ما ذكر من وكن الطائر إذا استقر في وكنته أي عشه ففي الكلام استعارة أو مجاز مرسل كما في المشفر ، والضمير للمحدث عنه فيما يسبق ، وجوز أن يكون للابن والمعنى أن تختف أو تخف وقت الحساب يحضرك اللّه تعالى ، ولا يخفى أنه غير ملائم للجواب أعني قوله تعالى : يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يحضرها فيحاسب عليها ، وهذا إما على ظاهره أو المراد يجعلها كالحاضر المشاهدة لذكرها والاعتراف بها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه تعالى إلى كل خفي خَبِيرٌ عالم بكنهه.
وعن قتادة لطيف باستخراجها خبير بمستقرها ، وقيل : ذو لطف بعباده فيلطف بالإتيان بها بأحد الخصمين خبير عالم بخفايا الأشياء وهو كما ترى ، والجملة علة مصححة للإتيان بها ، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن رباح اللخمي إنه لما وعظ لقمان ابنه وقال : إِنَّها إِنْ تَكُ الآية أخذ حبة من خردل فأتى بها إلى اليرموك وهو واد في الشام فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء اللّه تعالى ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته واللّه تعالى أعلم ، وبعد ما أمره بالتوحيد الذي هو أول ما يجب على المكلف في ضمن النهي عن الشرك ونبهه على كمال علمه تعالى وقدرته عزّ وجلّ أمره بالصلاة التي هي أكمل العبادات تكميلا من حيث العمل بعد تكميله من حيث الاعتقاد فقال مستميلا له : يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك ، ويروى أنه قال له : يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء صلها واسترح منها فإنها دين ، وصل في جماعة ولو على رأس زج وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلا لغيرك والظاهر أنه ليس المراد معروفا ومنكرا معينين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال : وأمر بالمعروف يعني التوحيد وانه عن المنكر يعني الشرك وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد والمحن لا سيما فيما أمرت به من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واحتياج الآخرين للصبر على ما ذكر ظاهر ، والأول لأن إتمام الصلاة والمحافظة عليها قد يشق ولذا قال تعالى : وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة : 45] وقال ابن جبير : واصبر على ما أصابك في أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول : إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر وأصابك في ذلك أذى وشدة فاصبر عليه إِنَّ ذلِكَ أي الصبر على ما أصابك عند ابن جبير ، وهو يناسب إفراد اسم الإشارة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته في الفضل ، أو الإشارة إلى الصبر وإلى سائر ما أمر به والأفراد للتأويل بما ذكر وأمر البعد على ما سمعت مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي مما عزمه اللّه تعالى وقطعه قطع إيجاب وروي ذلك عن ابن جريج ، والعزم بهذا المعنى مما ينسب إلى اللّه تعالى ومنه ما

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 89
ورد من عزمات اللّه عزّ وجلّ
، والمراد به هنا المعزوم إطلاقا للمصدر على المفعول ، والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور المعزومة.
وجوز أن يكون العزم بمعنى الفاعل أي عازم الأمور من عزم الأمر أي جد فعزم الأمور من باب الإسناد المجازي كمكر الليل لا من باب الإضافة على معنى في وإن صح ، وقيل : يريد من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة ، واستظهر أبو حيان إنه أراد من لازمات الأمور الواجبة ، ونقل عن بعضهم أن العزم هو الحزم بلغة هذيل ، والحزم والعزم أصلان ، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء لاطراد تصاريف كل من اللفظين فليس أحدهما أصلا للآخر ، والجملة تعليل لوجوب الامتثال بما سبق وفيه اعتناء بشأنه وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون قاله ابن عباس ، وجماعة وأنشدوا :
وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقوما
فهو من الصعر بمعنى الصيد وهو داء يعتري البعير فيلوي منه عنقه ويستعار للتكبر كالصعر ، وقال ابن خويز منداد :
نهى أن يذل نفسه من غير حاجة فيلوى عنقه ، ورجح الأول بأنه أوفق بما بعد ، ولام لِلنَّاسِ تعليلية والمراد ولا تصعر خدك لأجل الإعراض عن الناس أو صلة. وقرأ نافع وأبو عمرو. وحمزة ، والكسائي «تصاعر» بألف بعد الصاد. وقرأ الجحدري تصعر مضارع أصعر والكل واحد مثل علاه وعالاه وأعلاه.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ التي هي أحط الأماكن منزلة مَرَحاً أي فرحا وبطرا ، مصدر وقع موقع الحال للمبالغة أو لتأويله بالوصف أو تمرح مرحا على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة في موضع الحال أو لأجل المرح على أنه مفعول له ، وقرىء مرحا بكسر الراء على أنه وصف في موضع الحال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تعليل للنهي أو موجبه والمختال من الخيلاء وهو التبختر في المشي كبرا ، وقال الراغب : التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه ، ومنه تؤول لفظ الخيل لما قيل إنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة ، والفخور من الفخر وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لظهور أنه مباهاة بالمال ، وعن مجاهد تفسير الفخور بمن يعدد ما أعطى ولا يشكر اللّه عزّ وجلّ ، وفي الآية عند الزمخشري لف ونشر معكوس حيث قال : المختال مقابل للماشي مرحا وكذلك الفخور للمصعر خده كبرا وذلك لرعاية الفواصل على ما قيل ، ولا يأبى ذلك كون الوصية لم تكن باللسان العربي كما لا يخفى.
وجوز أن يكون هناك لف ونشر مرتب فإن الاختيال يناسب الكبر والعجب وكذا الفخر يناسب المشي مرحا.
والكلام على رفع الإيجاب الكلي والمراد السلب الكلي ، وجوز أن يبقى على ظاهره ، وصيغة فَخُورٍ للفاصلة ولأن ما يكره من الفخر كثرته فإن القليل منه يكثر وقوعه فلطف اللّه تعالى بالعفو عنه وهذا كما لطف بإباحة اختيال المجاهد بين الصفين وإباحة الفخر بنحو المال لمقصد حسن وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ بعد الاجتناب عن المرح فيه أي توسط فيه بين الدبيب والإسراع من القصد وهو الاعتدال ، وجاء في عدة روايات إلّا أن في أكثرها مقالا يخرجها عن صلاحية الاحتجاج بها كما لا يخفى على من راجع
شرح الجامع الصغير للمناوي عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن»
أي هيبته وجماله أي تورثه حقارة في أعين الناس ، وكأن ذلك لأنها تدل على الخفة وهذا أقرب من قول المناوي لأنها تتعب فتغير البدن والهيئة.
وقال ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشيا بين ذلك ، وما في النهاية من أن عائشة نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا فقالت : ما لهذا؟ فقيل : إنه من القراء فقالت : كان عمر رضي اللّه تعالى عنه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 90
سيد القراء وكان إذا مشى أسرع وإذا قال أسمع وإذا ضرب أوجع. فالمراد بالإسراع فيه ما فوق دبيب المتماوت «1» وهو الذي يخفي صوته ويقل حركاته مما يتزيا بزي العباد كأنه يتكلف في اتصافه بما يقربه من صفات الأموات ليوهم أنه ضعف من كثرة العبادة فلا ينافي الآية ، وكذا ما ورد في صفته صلى اللّه تعالى عليه وسلم إذا يمشي كأنما ينحط من صبب وكذا لا ينافيها قوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان : 63] إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل ، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه ، وقال السخاوي : محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمر ديني ، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مثلا مما قالوا أنه مما لا ينبغي فلا تغفل ، وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه ، وقيل : جعل البصر موضع القدم ، والمعول عليه ما تقدم : وقرىء. «وأقصد» بقطع الهمزة ونسبها ابن خالويه للحجازي من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها أي سدد في مشيك والمراد أمش مشيا حسنا ، وكأنه أريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء فتتوافق القراءتان وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي انقص منه واقصر من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به وضع منه وحط من درجته. وفي البحر الغض رد طموح الشيء كالصوت والنظر ويستعمل متعديا بنفسه كما في قوله : فغض الطرف إنك من نمير ومتعديا بمن كما هو ظاهر قول الجوهري غض من صوته. والظاهر إن ما في الآية من الثاني ، وتكلف بعضهم جعل من فيها للتبعيض ، وادعى آخر كونها زائدة في الإثبات ، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به في الجاهلية ومنه ، قول الشاعر :
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم
ويخطو على العم خطو الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم
والحكمة في غض الصوت المأمور به أنه أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أي أقبحها يقال وجه منكر أي قبيح قال في البحر : وهو أفعل بني من فعل المفعول كقولهم : أشغل من ذات النحيين وبناؤه من ذلك شاذ ، وقال بعض : أي أصعبها على السمع وأوحشها من نكر بالضم نكارة ومنه يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [القمر : 6] أي أمر صعب لا يعرف ، والمراد بالأصوات أصوات الحيوانات أي إن أنكر أصوات الحيوانات لَصَوْتُ الْحَمِيرِ جمع حمار كما صرح به أهل اللغة ولم يخالف فيه عير السهيلي قال : إنه فعيل اسم جمع كالعبيد وقد يطلق على اسم الجمع الجمع عند اللغويين ، والجملة تعليل للأمر بالغض على أبلغ وجه وآكده حيث شبه الرافعون أصواتهم بالحمير وهم مثل في الذم البليغ والشتيمة ومثلت أصواتهم بالنهاق الذي أوله زفير وآخره شهيق ثم أخلى الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة ، وفي ذلك من المبالغة في الذم والتهجين والإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه ما فيه ، وإفراد الصوت مع جمع ما أضيف هو إليه للإشارة إلى قوة تشابه أصوات الحمير حتى كأنها صوت واحد هو أنكر الأصوات ، وقال الزمخشري أن ذلك لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع بل بيان صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس. قيل : فعلى هذا كان المناسب لصوت الحمار بتوحيد المضاف إليه وأجيب بأن المقصود من الجمع التتميم والمبالغة في التنفير فإن الصوت إذا توافقت عليه الحمير كان أنكر. وأورد عليه أنه يوهم أن الأنكرية في التوافق دون الانفراد وهو لا يناسب
___________
(1) ورأى عمر رضي اللّه تعالى عنه رجلا متماوتا فقال : لا تمت علينا ديننا أماتك اللّه تعالى ، ورأى رجلا مطأطئا رأسه فقال : ارفع رأسك فإن الإسلام ليس بمريض ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 91
المقام وأجيب بأنه لا يلتفت إلى مثل هذا التوهم وقيل : لم يجمع الصوت المضاف لأنه مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع ما لم تقصد الأنواع كما في أَنْكَرَ الْأَصْواتِ فتأمل ، والظاهر أن قوله تعالى : إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ من كلام لقمان لابنه تنفيرا له عن رفع الصوت ، وقيل : هو من كلام اللّه تعالى وانتهت وصية لقمان بقوله :
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ رد سبحانه به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ورفعه مع أن ذلك يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأذن وبين عزّ وجلّ أن مثلهم في رفع أصواتهم مثل الحمير وأن مثل أصواتهم التي يرفعونها مثل نهاقها في الشدة مع القبح الموحش وهذا الذي يليق أن يجعل وجه شبه لا الخلو عن ذكر اللّه تعالى كما يتوهم بناء على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري قال : صياح كل شيء تسبيحه إلّا الحمار لما أن وجه الشبه ينبغي أن يكون صفة ظاهرة وخلو صوت الحمار عن الذكر ليس كذلك ، على أنا لا نسلم صحة هذا الخبر فإن فيه ما فيه. ومثله ما شاع بين الجهلة من أن نهيق الحمار لعن للشيعة الذين لا يزالون ينهقون بسبب الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ومثل هذا من الخرافات التي يمجها السمع ما عدا سمع طويل الأذنين ، والظاهر أن المراد بالغض من الصوت الغض منه عند التكلم والمحاورة ، وقيل : الغض من الصوت مطلقا فيشمل الغض منه عند العطاس فلا ينبغي أن يرفع صوته عنده أن أمكنه عدم الرفع ، وروي عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه ما يقتضيه ثم إن الغض ممدوح إن لم يدع داع شرعي إلى خلافه ، وأردف الأمر بالقصد في المشي بالأمر بالغض من الصوت لما أنه كثيرا ما يتوصل إلى المطلوب بالصوت بعد العجز عن التوصل إليه بالمشي كذا قيل ، هذا وأبعد بعضهم في الكلام على هذين الأمرين فقال : إن الأول إشارة إلى التوسط في الأفعال والثاني إشارة إلى الاحتراز من فضول الكلام والتوسط في الأقوال ، وجعل قوله تعالى : إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إلخ إشارة إلى إصلاح الضمير وهو كما ترى.
وقرأ ابن أبي عبلة «أصوات الحمير» بالجمع بغير لام التأكيد أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصة لقمان من خطاب المشركين وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد ، والتسخير على ما قال الراغب سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا ، وفي إرشاد العقل السليم المراد به أما جعل المسخر بحيث ينفع المسخر له أعم من أن يكون منقادا له يتصرف فيه كيف يشاء ويستعمله كيف يريد كعامة ما في الأرض من الأشياء المسخرة للإنسان المستعملة له من الجماد والحيوان أو لا يكون كذلك بل يكون سببا لحصول مراده من غير أن يكون له دخل في استعماله كجميع ما في السماوات من الأشياء التي نيطت بها مصالح العباد معاشا أو معادا ، وأما جعله منقادا للأمر مذللا على أن معنى لَكُمْ لأجلكم فإن جميع ما في السماوات والأرض من الكائنات مسخرة للّه تعالى مستتبعة لمنافع الخلق وما يستعمله الإنسان حسبما يشاء وإن كان مسخرا له بحسب الظاهر فهو في الحقيقة مسخر للّه عزّ وجلّ وَأَسْبَغَ أي أتم وأوسع عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ جمع نعمة وهي في الأصل الحالة المستلذة فإن بناء الفعلة كالجلسة والركبة للهيئة ثم استعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة إطلاقا للمسبب على السبب ، وفي معنى ذلك قولهم : هي ما ينتفع به ويستلذ ومنهم من زاد ويحمد عاقبته ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى هذه الزيادة لأن اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته وعليه لا يكون للّه عز وجلّ على كافر نعمة ، ونقل الطيبي عن الإمام أنه قال : النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، ومنهم من يقول : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا : وإنما زدنا قيد الحسنة لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر ، والحق أن هذا القيد غير معتبر
لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة الشكر كونه إحسانا وجهة استحقاق الذم والعقاب الحظر فأي امتناع في

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 92
اجتماعهما ، ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر لإنعامه والذم لمعصية اللّه تعالى فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك ، أما قولنا : المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة ، وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمه وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها ا ه ، ويعمل منه حكم زيادة ويحمد عاقبته ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي محسوسة ومعقولة معروفة لكم وغير معروفة ، وعن مجاهد النعمة الظاهرة وظهور الإسلام والنصرة على الأعداء والباطنة الإمداد من الملائكة عليهم السلام ، وعن الضحاك الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة ، وقيل : الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح والباطنة القلب والعقل والفهم ، وقيل : الظاهرة نعم الدنيا والباطنة نعم الآخرة ، وقيل : الظاهرة نحو إرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق لقبول الإسلام والإتيان به والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية والباطنة ما أصاب الأرواح في عالم الذر من رشاش نور النور وأول الغيث قطر ثم ينسكب.
ونقل بعض الإمامية عن الباقر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : الظاهرة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وما جاء به من معرفة اللّه تعالى وتوحيده والباطنة ولا يتنا أهل البيت وعقد مودتنا
، والتعميم الذي أشرنا إليه أولا أولى ، لكن
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عطاء قال : سألت ابن عباس رضي اللّه عنهما عن قوله تعالى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً قال : هذه من كنوز علمي سألت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال أما الظاهرة فما سوي من خلقك وأما الباطن فما ستر من عورتك ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم.
وفي رواية أخرى رواها ابن مردويه ، والديلمي ، والبيهقي ، وابن النجار عن ابن عباس أنه قال : سألت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى وَأَسْبَغَ إلخ قال : أما الظاهرة فالإسلام وما سوي من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه وأما الباطنة فما ستر من مساوئ عملك
فإن صح ما ذكر فلا يعدل عنه إلى التعميم إلا أن يقال : الغرض من تفسير الظاهرة والباطنة بما فسرنا به التمثيل وهو الظاهر لا التخصيص وإلا لتعارض الخبران.
ثم إن ظاهر هذين الخبرين يقتضي كون الذنب وهو المعبر عنه في الأول بما ستر من العورة وفي الثاني بما ستر من مساوئ العمل نعمة ولم نر في كلامهم التصريح بإطلاقها عليه ويلزمه أن من كثرت ذنوبه كثرت نعم اللّه تعالى عليه فكان المراد أن النعمة الباطنة هي ستر ما ستر من العورة ومساوئ العمل ولم يقل كذلك اعتمادا على وضوح الأمر ، وجاء في بعض الآثار ما يقتضي ذلك ، أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن مقاتل أنه قال في الآية : ظاهِرَةً الإسلام وَباطِنَةً ستره تعالى عليكم المعاصي ، بل جاء في بعض روايات الخبر الثاني وأما ما بطن فستر مساوئ عملك.
وجوز أن يكون ما في ما ستر في الخبرين مصدرية ومن صلة ستر لا بيان لما وقرأ يحيى بن عمارة وأصبغ بالصاد وهي لغة بني كلب يبدلون من السين إذا اجتمعت مع أحد الحروف المستعلية الغين والخاء والقاف صادا فيقولون في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سائغ صائغ ولا فرق في ذلك بين أن يفصل بينهما فاصل وأن لا يفصل ، وظاهر كلام بعضهم أنه لا فرق أيضا بين أن تتقدم السين على أحد تلك الأحرف وأن تتأخر ، واشترط آخر تقدم السين ، وذكر الخفاجي أنه ابدال مطرد.
وقرأ بعض السبعة وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «نعمة» بالإفراد وقرىء «نعمته» بالإفراد والإضافة ، ووجه الافراد بإرادة الجنس كما قيل ذلك في قوله تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وقال الزجاج : من قرأ «نعمة» فعلى معنى ما أعطاهم من التوحيد ومن قرأ نعمه بالجمع فعلى جميع ما أنعم به عليهم والأول أولى ، ونصب ظاهِرَةً

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 93
وَباطِنَةً في قراءة التعريف على الحالية وفي قراءة التنكير على الوصفية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ من الجدال وهو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كان المتجادلين يفتل كل منهما صاحبه عن رأيه وقيل : الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة وكأن الجملة في موضع الحال من ضميره تعالى فيما قيل أي ألم تروا إن اللّه سبحانه فعل ما فعل من الأمور الدالة على وحدته سبحانه وقدرته عزّ وجلّ والحال من الناس من ينازع ويخاصم كالنضر بن الحارث وأبي ابن خلف كانا يجادلان النبي صلّى اللّه عليه وسلم فِي اللَّهِ أي في توحيده عزّ وجلّ وصفاته جلّ شأنه كالمشركين المنكرين وحدته سبحانه وعموم قدرته جلت قدرته وشمولها للبعث ولم يقل فيه بدل في اللّه بإرجاع الضمير للاسم الجليل في قوله تعالى :
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ تهويلا لأمر الجدال بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل عقلي وَلا هُدىً راجع إلى رسول مأخوذ منه ، وجوز جعل الهدى نفس الرسول مبالغة وفيه بعد وَلا كِتابٍ أنزله اللّه تعالى مُنِيرٍ أي ذي نور والمراد به واضح الدلالة على المقصود ، وقيل : منقذ من ظلمة الجهل والضلال بل يجادلون بمجرد التقليد كما قال سبحانه وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمن يجادل والجمع باعتبار المعنى اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يريدون عبادة ما عبدوه من دون اللّه عزّ وجلّ ، وهذا ظاهر في منع التقليد في أصول الدين والمسألة خلافية فالذي ذهب إليه الأكثرون ورجحه الإمام الرازي والآمدي أنه لا يجوز التقليد في الأصول بل يجب النظر والذي ذهب إليه عبيد اللّه بن الحسن العنبري وجماعة الجواز وربما قال بعضهم أنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام ، وعلى كل يصح عقائد المقلد المحق وإن كان آثما بترك النظر على الأول ، وعن الأشعري أنه لا يصح إيمانه ، وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : هذا مكذوب عليه لما يلزمه تكفير العوام وهم غالب المؤمنين ، والتحقيق أنه إن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك ووهم بأن لا يجزم المقلد فلا يكفي إيمانه قطعا لأنه لا إيمان مع أدنى تردد فيه وإن كان لكن جزما فيكفي عند الأشعري وغيره خلافا لأبي هاشم في قوله لا يكفي بل لا بد لصحة الإيمان من النظر ، وذكر الخفاجي أنه لا خلاف في امتناع تقليد من لم يعلم أنه مستند إلى دليل حق ، وظاهر ذم المجادلين بغير علم ولا هدى ولا كتاب أنه يكفي في النظر الدليل النقلي الحق كما يكفي فيه الدليل العقلي.
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أي يدعو آباءهم لا أنفسهم كما قيل : فإن مدار إنكار الاستتباع كون المتبوعين تابعين للشياطين وينادي عليه قوله تعالى : أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة : 170] بعد قوله سبحانه : بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [البقرة : 170] ويعلم منه حال رجوع الضمير إلى المجموع أي أولئك المجادلين وآباؤهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي إلى ما يؤول إليه أو يستبب منه من الإشراك وإنكار شمول قدرته عزّ وجلّ للبعث ونحو ذلك من الضلالات ، وجوز بقاء عَذابِ السَّعِيرِ على حقيقته والاستفهام للإنكار ويفهم التعجيب من السياق أو للتعجيب ويفهم الإنكار من السياق والواو حالية والمعنى أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب ، وجوز كون الواو عاطفة على مقدر أي أيتبعونهم لو لم يكن الشيطان يدعوهم إلى العذاب ولو كان يدعوهم إليه ، وهما قولان مشهوران في الواو الداخلة على لَوْ الوصلية ونحوها ، وكذا في احتياجها إلى الجواب قولان قول بالاحتياج وقول بعدمه لانسلاخها عن معنى الشرط ، ومن ذهب إلى الأول قدره هنا لا يتبعوهم وهم مما لا غبار عليه على تقدير كون الواو عاطفة ، وأما على تقدير كونها حالية فزعم بعضهم أنه لا يتسنى وفيه نظر ، وقد مرّ الكلام على نحو هذه الآية الكريمة فتذكر.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 94
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن فوض إليه تعالى جميع أموره وأقبل عليه سبحانه بقلبه وقالبه ، فالإسلام كالتسليم التفويض ، والوجه الذات ، والكلام كناية عما أشرنا إليه من تسلم الأمور جميعها إليه تعالى والإقبال التام عليه عزّ وجلّ وقد يعدى الإسلام باللام قصدا لمعنى الإخلاص.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه ، والسلمي ، وعبد اللّه بن مسلم بن يسار «يسلّم» بتشديد اللام من التسليم وهو أشهر في معنى التفويض من الإسلام وَهُوَ مُحْسِنٌ أي في أعماله والجملة في موضع الحال.
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تعلق أتم تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وهذا تشبيه تمثيلي مركب حيث شبه حال المتوكل على اللّه عزّ وجلّ المفوض إليه أموره كلها المحسن في أعماله بمن ترقى في جبل شاهق أو تدلى منه فتمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه ، وجوز أن يكون هناك استعارة في المفرد وهو العروة الوثقى بأن يشبه التوكل النافع المحمود عاقبته بها فتستعار له وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي هي صائرة إليه عزّ وجلّ لا إلى غيره جلّ جلاله فلا يكون لأحد سواه جلّ وعلا تصرف فيها بأمر ونهي وثواب وعقاب فيجازي سبحانه هذا المتوكل أحسن الجزاء ، وقيل : فيجازي كلا من هذا المتوكل وذاك المجادل بما يليق به بمقتضى الحكمة ، وأل في الأمور للإستغراق ، وقيل : تحتمل العهد على أن المراد الأمور المذكورة من المجادلة وما بعدها ، وتقديم إِلَى اللَّهِ للحصر ردا على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور.
واختار بعضهم كونه إجلالا للجلالة ورعاية للفاصلة ظنا منه أن الاستغراق مغن عن الحصر وهو ليس كذلك.
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي فلا يهمنك ذلك إِلَيْنا لا إلى غيرنا مَرْجِعُهُمْ رجوعهم بالبعث يوم القيامة فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي بعملهم أو بالذي عملوه في الدنيا من الكفر والمعاصي بالعذاب والعقاب ، وقيل :
إلينا مرجعهم في الدارين فنجازيهم بالإهلاك والتعذيب والأول أظهر وأيا ما كان فالجملة في موضع التعليل كأنه قيل :
لا يهمنك كفر من كفر لأنا ننتقم منه ونعاقبه على عمله أو الذي عمله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الافراد في الأول باعتبار لفظها ، وقرىء في السبع «ولا يحزنك» مضارع أحزن مزيد حزن اللام وقدر اللزوم ليكون للنقل فائدة وحزن وأحزن لغتان ، قال اليزيدي : حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرىء بهما ، وذكر الزمخشري أن المستفيض في الاستعمال ماضي الأفعال ومضارع الثلاثي والعهدة في ذلك عليه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل للتنبئة المعبر بها عن المجازاة أي يجازيهم سبحانه لأنه عزّ وجلّ عليم بالضمائر فما ظنك بغيرها.
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ثقيل عليهم ثقل الإجرام الغلاظ ، والمراد بالاضطرار أي الإلجاء إلزامهم ذلك العذاب الشديد إلزام المضطر الذي لا يقدر على الانفكاك مما ألجئ إليه ، وفي الانتصاف تفسير هذا الاضطرار ما في الحديث من أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد فيرسل عليهم الزمهرير فيكون أشد عليهم من اللهب فيتمنون عود اللهب اضطرارا فهو اختيار عن اضطرار وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث قال :
يرون الموت قداما وخلفا فيختارون والموت اضطرار
وقيل : المعنى نضم إلى الإحراق الضغط والتضييق فلا تغفل وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي خلقهن اللّه تعالى ، وجوز أن يكون التقدير اللّه خلقهن والأول أولى كما فصل في محله وقولهم ذلك لغاية وضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به جلّ شأنه في العبادة التي لا يستحقها غير الخالق والمنعم الحقيقي.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 95
وجوز جعل المحمود عليه جعل دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها المكابر أيضا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك يلزمهم قيل : وفيه إيغال حسن كأنه قال سبحانه : وإن جهلهم انتهى إلى أن لا يعلموا أن الحمد للّه ما موقعه في هذا المقام ، وقد مر تمام الكلام في نظير الآية في العنكبوت فتذكر.
[سورة لقمان (31) : الآيات 26 إلى 34]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا وتصرفا ليس لأحد سواه عزّ وجلّ استقلالا ولا شركة فلا يستحق العبادة فيهما غيره سبحانه وتعالى بوجه من الوجوه ، وهذا إبطال لمعتقدهم من وجه آخر لأن المملوك لا يكون شريكا لمالكه فكيف يستحق ما هو حقه من العبادة وغيرها إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء الْحَمِيدُ المستحق للحمد وإن لم يحمده جلّ وعلا أحد أو المحمود بالفعل يحمده كل مخلوق بلسان الحال ، وكأنه الجملة جواب عما يوشك أن يخطر ببعض الأذهان السقيمة من أنه هل اختصاص ما في السموات والأرض به عزّ وجلّ لحاجته سبحانه إليه ، وهو جواب بنفي الحاجة على أبلغ وجه فقد كان يكفي في الجواب إن اللّه غني الا أنه جيء بالجملة متضمنة للحصر للمبالغة وجيء بالحميد أيضا تأكيدا لما تفيده من نفي الحاجة بالإشارة إلى أنه تعالى منعم على من سواه سبحانه أو متصف بسائر صفات الكمال فتأمل جدا ، وقال الطيبي : إن قوله تعالى : لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تهاون بهم وإبداء أنه تعالى مستغن عنهم وعن حمدهم وعبادتهم ولذلك علل بقوله سبحانه :
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عن حمد الحامدين الْحَمِيدُ أي المستحق للحمد وإن لم يحمدوه عزّ وجلّ.
وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما - فإن - وما بعدها فاعل ثبت مقدر بقرينة كون أَنَّ دالة على الثبوت والتحقق وإلى هذا ذهب المبرد ، وقال سيبويه : إن ذلك مبتدأ مستغن عن الخبر لذكر المسند والمسند إليه بعده ، وقيل : مبتدأ خبره ، مقدر قبله ، وقال ابن عصفور : بعده وما فِي الْأَرْضِ اسم أن ومِنْ شَجَرَةٍ بيان - لما - أو للضمير العائد إليها في الظرف فهو في موضع الحال منها أو منه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 96
أي ولو ثبت أن الذي استقر في الأرض كائنا من شجرة ، وأَقْلامٌ خبر أن قال أبو حيان : وفيه دليل دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله : إن خبر أن الجائية بعد - لو - لا يكون اسما جامدا ولا اسما مشتقا بل يجب أن يكون فعلا وهو باطل ولسان العرب طافح بخلافه ، قال الشاعر :
ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنما
وقال آخر :
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
إلى غير ذلك ، وتعقب بأن اشتراط كون خبرها فعلا إنما هو إذا كان مشتقا فلا يرد أَقْلامٌ هنا ولا ما ذكر في البيتين ، وأما قوله تعالى : لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ [الأحزاب : 20] فلو فيه للتمني والكلام في خبر أن الواقعة بعد لو الشرطية. والمراد بشجرة كل شجرة والنكرة قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام ذلك كما في قوله تعالى : عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير : 14] وقول ابن عباس رضي اللّه عنهما لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها؟ تمرة خير من جرادة على ما اختاره جمع ولا نسلم المنافاة بين هذا العموم وهذه التاء فكأنه قيل : ولو أن كل شجرة في الأرض أقلام إلخ ، وكون كل شجرة أقلاما باعتبار الأجزاء أو الأغصان فيؤول المعنى إلى لو أن أجزاء أو أغصان كل شجرة في الأرض أقلاما إلخ ، ويحسن إرادة العموم في نحو ما نحن فيه كون الكلام الذي وقعت فيه النكرة شرطا بلو وللشرط مطلقا قرب ما من النفي فما ظنك به إذا كان شرطا بها وإن كانت هنا ليست بمعناها المشهور من انتفاء الجواب لانتفاء الشرط أو العكس بل هي دالة على ثبوت الجواب أو حرف شرط في المستقبل على ما فصل في المغني ، واختيار شَجَرَةٍ على أشجار أو شجر لأن الكلام عليه أبعد عن اعتبار التوزيع بأن تكون كل شجرة من الأشجار أو الشجر قلما المخل بمقتضى المقام من المبالغة بكثرة كلماته تعالى شأنه.
وفي البحر أن هذا مما وقع فيه المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة ، ونظيره ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة : 106] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر : 2] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ [النحل : 49] وقول العرب : هذا أول فارس وهذا أفضل عالم يراد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب وأول الفرسان وأفضل العلماء ذكر المفرد النكرة وأريد به معنى الجمع المعرف باللام وهو مهيع في كلام العرب معروف وكذلك يقدر هنا من الشجرات أو من الأشجار ا ه فلا تغفل.
وقال الزمخشري : إنه قال سبحانه شَجَرَةٍ على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر لأنه أريد تفصيل الشجر شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاما وتعقب بأن إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار غير معهود والمعهود إفادته ذلك بالتكرير نحو جاؤوني رجلا رجلا فتأمل ، واختيار جمع القلة في أَقْلامٌ مع أن الأنسب للمقام جمع الكثرة لأنه لم يعهد للقلم جمع سواه وقلام غير متداول فلا يحسن استعماله وَالْبَحْرُ أي المحيط فأل للعهد لأنه المتبادر ولأنه الفرد للكامل إذ قد يطلق على شعبه وعلى الأنهار العظام كدجلة والفرات ، وجوز إرادة الجنس ولعل الأول أبلغ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نفاده وقيل من ورائه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مفروضة كل منها مثله في السعة والإحاطة وكثرة الماء ، والمراد بالسبعة الكثرة بحيث تشمل المائة والألف مثلا لا خصوص العدد المعروف كما في
قوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء»
واختيرت لها لأنها عدد تام كما عرفت عند الكلام في قوله تعالى : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وكثير من المعدودات التي لها شأن كالسماوات والكواكب السيارة والأقاليم الحقيقية وأيام الأسبوع إلى غير ذلك منحصر في سبع فلعل في ذكرها هنا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 97
دون سبعين المتجوز به عن الكثرة أيضا رمزا إلى شأن كون تلك الأبحر عظيمة ذات شأن ولما لم تكن موضوعة في الأصل لذلك بل للعدد المعروف القليل جاء تمييزها أبحر بلفظ القلة دون بحور وإن كان لا يراد به إلا الكثرة ليناسب بين اللفظين فكما تجوز في السبعة واستعملت للتكثير تجوز في أبحر واستعمل فيه أيضا ، وكان الظاهر بعد جعل ما في الأرض من شجر أقلاما أن يقال : والبحر مداد لكن جيء بما في النظم الجليل لأن يمده يغني عن ذكر المداد لأنه من قولك : مد الدواة وأمدها أي جعلها ذات مداد وزاد في مدادها ففيه دلالة على المداد مع ما يزيد في المبالغة وهو تصوير الامداد المستمر حالا بعد حال كما تؤذن به صيغة المضارع فأفاد النظم الجليل جعل البحر المحيط بمنزلة الدواة وجعل أبحر سبعة مثله مملوءة مدادا فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع ، ورفع الْبَحْرُ على ما استظهره أبو حيان فيه على الابتداء وجملة يمده خبره والواو للحال والجملة حال من الموصول أو الضمير الذي في صلته أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما في حال كون البحر ممدودا بسبعة أبحر ، ولا يضر خلو الجملة عن ضمير ذي الحال فإن الواو يحصل بها من الربط ما لا يتقاعد عن الضمير لدلالتها على المقارنة ، وأشار الزمخشري إلى أن هذه الجملة وما أشبهها كقوله :
وقد اغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل
وجئت والجيش مصطف من الأحوال التي حكمها حكم الظروف لأنها في معناها إذ معنى جئت والجيش مصطف مثلا ومعنى جئت وقت اصطفاف الجيش واحد وحيث إن الظرف يربطه بما قبله تعلقه به وإن لم يكن فيه ضمير وهو إذا وقع حالا استقر فيه الضمير فما يشبهه كأنه فيه ضمير مستقر ، ولا يرد عليه اعتراض أبي حيان بأن الظرف إذا وقع حالا ففي العامل فيه الضمير ينتقل إلى الظرف ، والجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو فليس فيها ضمير منتقل فكيف يقال انها في حكم الظرف. نعم الحق أن الربط بالواو كاف عن الضمير ولا يحتاج معه إلى تكلف هذه المئونة ، وجوز أن تكون الجملة حالا من الأرض والعامل فيه معنى الاستقرار والرابط ما سمعت أو أل التي في الْبَحْرُ بناء على رأي الكوفيين من جواز كون أل عوضا عن الضمير كما في قوله تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص : 50] أي ولو ثبت كون الذي استقر في الأرض من شجرة أقلاما حال كون بحرها ممدودا بسبعة أبحر قال في الكشف : ولا بد أن يجعل مِنْ شَجَرَةٍ بيانا للضمير العائد إلى ما لئلا يلزم الفضل بين أجزاء الصلة بالأجنبي.
والْبَحْرُ على تقدير جعل آل فيه عوضا عن المضاف إليه العائد إلى الأرض يحتمل أن يراد به المعهود وأن يراد به غيره ، وقال الطيبي : إن البحر على ذلك يعم جميع الأبحر لقرينة الإضافة ويفيد أن السبعة خارجة عن بحر الأرض وعلى ما سواه يحتمل الحصة المعهودة المعلومة عند المخاطب. ورد بأنه لا فرق بينهما بل كون بحرها للعهد أظهر لأن العهد أصل الإضافة ولا ينافيه كون الأرض شاملة لجميع الأقطار لأن المعهود البحر المحيط وهو محيط بها كلها ، وجوز الزمخشري كون رفعه بالعطف على محل أن ومعمولها ، وجملة يَمُدُّهُ حال على تقدير لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما وثبت أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر ، وتعقب بأن الدال على الفعل المحذوف هو أن وخبره على ما قرر في بابه فإذن لا يمكن إفضاء إلى المعطوف دون ملاحظة دال وفي هذا العطف إخراج عن الملاحظة ، وأجيب بأنه يحتمل في التابع ما لا يحتمل في المتبوع ، ثم لا يخفى أن العطف على هذا من عطف المفرد لا المفرد على الجملة كما قيل إذ الظاهر أن المعطوف عليه إنما هو المصدر الواقع فاعلا لثبت وهو مفرد لا جملة ، وجوز أن يكون العطف على ذلك بناء على رأي من يجعله مبتدأ ، وتعقب بأنه يلزم أن يلي لو الاسم الصريح الواقع مبتدأ إذ يصير

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 98
التقدير ولو البحر على ما قال أبو حيان لا يجوز إلّا في ضرورة شعر نحو قوله :
لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري «1»
وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع كما في نحو رب رجل وأخيه يقولان ذلك ، وقال بعضهم : إنه يلزم على العطف السابق أن يلي لو الاسم الصريح وهو أيضا مخصوص بالضرورة وأجاب بما أجيب وفيه عندي تأمل ، وجوز كون الرفع على الابتداء وجملة يَمُدُّهُ خبر المبتدأ والواو واو المعية وجملة المبتدأ وخبره في موضع المفعول معه بناء على أنه يكون جملة كما نقل عن ابن هشام ولا يخفى بعده ، وجوز كون الواو على ذلك للاستئناف وهو استئناف بياني كأنه؟ قيل : ما المداد حينئذ فقيل : والبحر إلخ ، وتعقب بأن اقتران الجواب بالواو وإن كانت استئنافية غير معهود ، وما قيل إنه يقترن بها إذا كان جوابا للسؤال على وجه المناقشة لا للاستعلام مما لا يعتمد عليه ، ومن هنا قيل :
الظاهر على إرادة الاستئناف أن يكون نحويا ، وجوز في هذا التركيب غير ما ذكر من أوجه الإعراب أيضا.
وقرأ البصريان «والبحر» بالنصب على أنه معطوف على اسم أن ويَمُدُّهُ خبر له أي ولو أن البحر ممدود بسبعة أبحر.
قال ابن الحاجب في أماليه : ولا يستقيم أن يكون يَمُدُّهُ حالا لأنه يؤدي أيضا إلى تقييد المبتدأ الجامد بالحال ولا يجوز لأنها بيان الفاعل أو المفعول والمبتدأ ليس كذلك ويؤدي إلى كون المبتدأ لا خبر له ولا يستقيم أن يكون أَقْلامٌ خبرا له لأنه خبر الأول ا ه ، ولم يذكر احتمال تقدير الخبر لظهور أنه خلاف الظاهر.
وجوز أن يكون منصوبا على شريطة التفسير عطفا على الفعل المحذوف أعني ثبت ودخول لو على المضارع جائزة ، وجملة يَمُدُّهُ إلخ حينئذ لا محل لها من الإعراب.
وقرأ عبد اللّه «وبحر» بالتنكير والرفع وخرج ذلك ابن جني على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي هناك بحر يمده إلخ ، والواو واو الحال لا محالة ، ولا يجوز أن يعطف على أَقْلامٌ لأن البحر وما فيه ليس من حديث الشجر والأقلام وإنما هو من حديث المداد. وفي البحر أن الواو على هذه القراءة للحال أو للعطف على ما تقدم ، وإذا كانت للحال كان الْبَحْرُ مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة تقدم تلك الواو فقد عد من مسوغات ابتداء بالنكرة كما في قوله :
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوءه كل شارق
ا ه ولا يخفى أنه إذا عطف على فاعل ثبت فجملة يَمُدُّهُ في موضع الصفة له لا حال منه وجوز ذلك من جوز مجيء الحال من النكرة ، والظاهر على تقدير كونه مبتدأ جعل الجملة خبره ولا حاجة إلى جعل خبره محذوفا كما فعل ابن جني.
وقرأ ابن مسعود ، وأبي «تمده» بتاء التأنيث من مد كالذي في قراءة الجمهور ، وقرأ ابن مسعود أيضا ، والحسن ، وابن مصرف ، وابن هرمز «يمده» بضم الياء التحتية من الأمداد ، وقال ابن الشيخ : يمد بفتح فضم ويمد بضم فكسر لغتان بمعنى ، وقرأ جعفر بن محمد رضي اللّه تعالى عنهما «والبحر مداده» أي ما يكتب به من الحبر ، وقال ابن عطية : هو
___________
(1) الاعتصار بالماء أن يشربه قليلا ليسيغ ما غص به من الطعام ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 99
مصدر ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ جواب لَوْ وفي الكلام اختصار يسمى حذف إيجاز ويدل على المحذوف السياق والتقدير ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات اللّه تعالى ما نفدت لعدمتناهيها ونفد تلك الأقلام والمداد لتناهيها ، ونظير ذلك في الاشتمال على إيجاز الحذف قوله تعالى : أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة : 196] أي فحلق رأسه لدفع ما به من الأذى ففدية ، والمراد بكلماته تعالى كلمات علمه سبحانه وحكمته جلّ شأنه وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم عن الروح فأنزل سبحانه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : 85] فقالوا : تزعم «1» أنا لم نؤت من العلم إلّا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت وَلَوْ أَنَ
إلخ. وظاهر هذا أن اليهود قالوا ذلك له عليه الصلاة والسلام مشافهة وهو ظاهر في أن الآية مدنية ، وقيل : إنهم أمروا وفد قريش أن يقولوا له صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ذلك وهذا القائل يقول : إنها مكية ، وحاصل الجواب أنه وإن كان ما أوتيتموه خيرا كثيرا لكونه حكمة إلّا أنه قليل بالنسبة إلى حكمته عزّ وجلّ. وفي رواية أنه أنزل بمكة قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ إلخ فلما هاجر عليه الصلاة والسلام أتاه أحبار اليهود فقالوا بلغنا أنك تقول : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أفعنيتنا أم قومك فقال صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «كلا عنيت» فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال عليه الصلاة والتحية : «وهي في علم اللّه تعالى قليل وقد أتاكم ما إن علمتم به نجوتم» «قالوا : يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول : وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة : 269] فكيف يجتمع؟ فقال صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «هذا علم قليل وخير كثير» فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وهذا نص في أن الآية مدنية ، وقيل : المراد بها مقدوراته جلّ وعلا وعجائبه عزّ وجلّ التي إذا أراد سبحانه شيئا منها قال تبارك وتعالى : كُنْ فَيَكُونُ [البقرة : 117 وغيرها] ومن ذلك قوله تعالى في عيسى : وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء : 171] وإطلاق الكلمات على ما ذكر من إطلاق السبب على المسبب ، وعلى هذا وجه ربط الآية بما قبلها أظهر على ما قيل وهو أنه سبحانه لما قال : لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وكان موهما لتناهي ملكه جلّ جلاله أردف سبحانه ذلك بما هو ظاهر بعدم التناهي وهذا ما اختاره الإمام المراد بكلماته تعالى إلّا أن في انطباقه على سبب النزول خفاء ، وعن أبي مسلم المراد بها ما وعد سبحانه به أهل طاعته من الثواب وما أوعد جلّ شأنه به أهل معصيته من العقاب ، وكأن الآية عليه بيان لأكثرية ما لم يظهر بعد من ملكه تعالى بعد بيان كثرة ما ظهر ، وقيل : المراد بها ما هو المتبادر منها بناء على ما أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهم عن قتادة قال : قال المشركون إنما هذا كلام يوشك أن ينفذ فنزلت وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية ، وفي وجه ربط الآية عليه بما قبلها وكذا بما بعدها خفاء جدا إلّا أنه لا يقتضي كونها مدنية ، وإيثار الجمع المؤنث سالم بناء على أنه كجمع المذكر جمع قلة لأشعاره وإن اقترن بما قد يفيد معه الاستغراق والعموم من أل أو الإضافة نظرا لأصل وضعه وهو القلة بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. وقرأ الحسن «ما نفد» بغير تاء «كلام اللّه» بدل كلمات اللّه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه جلّ شأنه شيء حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه تعالى وحكمته سبحانه شيء ، والجملة تعليل لعدم نفاد كلماته تبارك وتعالى.
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إلّا كخلقها وبعثها في سهولة التأتي بالنسبة إليه عزّ وجلّ إذ لا
___________
(1) قوله فقالوا تزعم عن ابن جريج أن القائل حيي بن أخطب ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 100
يشغله تعالى شأن عن شأن لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته تعالى الواجبة أو قوله جلّ وعلا : كن مع قدرته سبحانه الذاتية وإمكان المتعلق ولا توقف لذلك على آلة ومباشرة تقتضي التعاقب ليختلف عنده تعالى الواحد والكثير كما يختلف ذلك عند العباد إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ يبصر كل مبصر في حالة واحدة لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض فكذا الخلق والبعث وحاصله كما أنه تعالى شأنه ببصر واحد يدرك سبحانه المبصرات وبسمع واحد يسمع جلّ وعلا المسموعات ولا يشغله بعض ذلك عن بعض كذلك فيما يرجع إلى القدرة والفعل فهو استشهاد بما سلموه فشبه المقدورات فيما يراد منها بالمدركات فيما يدرك منها كذا في الكشف. واستشكل كون ذلك مسلما بأنه قد كان بعضهم إذا طعنوا في الدين يقول : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فنزل وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك : 13].
وأجيب بأنه لا اعتداد بمثله من الحماقة بعد ما رد عليهم ما زعموا وأعلموا بما أسروا ، وقيل : إن الجملة تعليل لإثبات القدرة الكاملة بالعلم الواسع وأن شيئا من المقدورات لا يشغله سبحانه عن غيره لعلمه تعالى بتفاصيلها وجزئياتها فيتصرف فيها كما يشاء كما يقال : فلان يجيد عمل كذا لمعرفته بدقائقه ومتمماته ، والمقصود من إيراد الوصفين إثبات الحشر والبشر لأنهما عمدتان فيه ألّا ترى كيف عقب ذلك بما يدل على عظيم القدرة وشمول العلم.
وأيّا ما كان يندفع توهم أن المناسب لما قبل أن يقال : إن اللّه قوي قدير أو نحو ذلك دون ما ذكر لأن الخلق والبعث ليسا من المسموعات والمبصرات ، وعن مقاتل أن كفار قريش قالوا : إن اللّه تعالى خلقنا أطوارا نطفة علقة مضغة لحما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة فنزلت وذكر النقاش أنها نزلت في أبي بن خلف ، وأبي الأسود ، ونبيه ، ومنبه ابني الحجاج ، وذكر في سبب نزولها فيهم نحو ما ذكر ، وعلى كون سبب النزول ذلك قيل : المعنى أنه تعالى سميع بقولهم ذلك بصير بما يضمرونه وهو كما ترى أَلَمْ تَرَ قيل : خطاب لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلم وقيل : عام لكل من يصلح للخطاب وهو الأوفق لما سبق وما لحق أي ألم تعلم.
أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل كل واحد منها في الآخر ويضيفه سبحانه إليه فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا ، وعدل عن يولج أحد الملوين في الآخر مع أنه أخصر للدلالة على استقلال كل منهما في الدلالة على كمال القدرة ، وقدم الليل على النهار لمناسبته لعالم الإمكان المظلم من حيث إمكانه الذاتي ، وفي بعض الآثار كان العالم في ظلمة فرش اللّه تعالى عليهم من نوره ، وهذا الإيلاج إنما هو في هذا العالم ليس عند ربك صباح ولا مساء ، وقدم الشمس على القمر في قوله تعالى : وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مع تقديم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لأنها كالمبدأ للقمر ولأن تسخيرها لغاية عظمها أعظم من تسخير القمر وأيضا آثار ذلك التسخير أعظم من آثار تسخيره وقال الإمام في تعليل تقديم كل على ما قدم وعليه : لأن الأنفس تطلب سبب المقدم أكثر مما تطلب سبب المؤخر وبين ذلك بما بين ، ولعل ما ذكرناه أولى لا سيما إذا صح أن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وعطف قوله سبحانه سَخَّرَ على قوله تعالى يُولِجُ والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد في كل حين وأما التسخير فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد وإنما التعدد والتجدد في آثاره كما يشير ذلك إلى قوله تعالى : كُلٌّ أي كل واحد من الشمس والقمر يَجْرِي يسير سيرا سريعا مستمرا إِلى أَجَلٍ أي منتهى للجري مُسَمًّى سماه اللّه تعالى وقدره لذلك ، وهو كما قال الحسن يوم القيامة فإنه لا ينقطع جرى النيرين وتبطل حركتهما إلّا في ذلك اليوم ، والظاهر أن هذا الجري هو هذه الحركة التي يشاهدها كل ذي بصر من أهل المعمورة ، وهي عند الفلاسفة بواسطة الفلك الأعظم فإن حركته كذلك وبها حركة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 101
سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب ويسمى حركة الكل والحركة اليومية والحركة السريعة والحركة الأولى والحركة على خلاف التوالي والحركة الشرقية ، وبعضهم يسميها الحركة الغربية ، وقيل : ما يعم هذه الحركة وحركتهما الخاصة بهما وهي حركتهما بواسطة فلكيهما على التوالي من المغرب إلى المشرق وهي للقمر أسرع منها للشمس ، وليس في العقل الصريح والنقل الصحيح ما يأبى إثبات هاتين الحركتين لكل من النيرين كما لا يخفى على المنصف العارف ، ومنتهى هذا الجري العام لهاتين الحركتين يوم القيامة أيضا ، والجملة على تقدير عموم الخطاب اعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الاستطراد ، وعلى تقدير اختصاصه به صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يجوز أن تكون حالا من الشمس والقمر فإن جريهما إلى يوم القيامة من جملة ما في حيز رؤيته عليه الصلاة والسلام ، وقيل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما والأجل المسمى لجري الشمس آخر السنة المسماة بالسنة الشمسية الحقيقية وهي زمان مفارقة الشمس أية نقطة تفرض من فلك البروج إلى عودها إليها بحركتها الخاصة ، وجعلوا ابتداءها من حين حلول الشمس رأس الحمل ومدتها عند بعض ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وعند بطليموس ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وخمس ساعات وخمسة وخمسون دقيقة واثنتا عشر ثانية ، وعند بعض المتأخرين ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وخمس ساعات وست وأربعون دقيقة وأربع وعشرون ثانية ، وعند الحكيم محيي الدين الكسر الزائد خمس ساعات ودقيقة ، وبالرصد الجديد الذي تولاه الطوسي بمراغة خمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة ، ووجد برصد سمرقند أزيد من هذا بربع دقيقة ، وأما الاصطلاحية فاعتبرها بعض كالروم والأقدمين من الفرس ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وأخذ الكسر ربعا تاما إلّا أن الروم يجعلون ثلاث سنين ثلاثمائة وخمسة وستين ويكبسون في
الرابعة بيوم والفرس كانوا يكسبون في مائة وعشرين سنة بشهر ، واعتبرها بعض آخر كالقبط والمستعملين لتاريخ الفرس من المحدثين ثلاثمائة وستين يوما بليلته وأسقط الكسر رأسا ولجري القمر آخر الشهر القمري الحقيقي وهو زمان مفارقة القمر أي وضع يعرض له من الشمس إلى عوده إليه ، وجعلوا ابتداءه من اجتماع الشمس والقمر وزمان ما بين الاجتماعين المتتالين كط لان من الأيام ودقائقها وثوانيها تقريبا وأما الشهر الغير الحقيقي فالمعتبر
فيه الهلال ويختلف زمان ما بين الهلالين كما هو معروف.
قيل : وعلى هذا فالجملة بيان لحكم تسخيرهما أو تنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر ، وكون ذلك بحسب اختلاف جريان الشمس على مداراتها اليومية فكلما كان جريانها متوجها إلى سمت الرأس تزداد القوس التي فوق الأرض كبرا فيزداد النهار طولا بانضمام بعض أجزاء الليل إليه إلى أن يبلغ المدار الذي هو أقرب المدارات إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها إلى رأس السرطان ثم ترجع متوجهة إلى التباعد عن سمت الرأس فلا تزال القسي التي فوق الأرض تزداد صغرا فيزداد النهار قصرا بانضمام بعض أجزائه إلى الليل إلى أن يبلغ المدار الذي هو أبعد المدارات اليومية عن سمت الرأس وذلك عند بلوغها رأس الجدي.
وأنت تعلم أنه لا مدخل لجريان القمر في الإيلاج فالتعرض له في الآية الكريمة يبعد هذا الوجه ، ولعل الأظهر على تقدير جعل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما أن يجعل الأجل المسمى عبارة عن يوم القيامة أو يجعل عبارة عن آخر السنة والشهر المعروفين عند العرب فتأمل ، وجرى يتعدى بإلى تارة وباللام أخرى وتعديته بالأول باعتبار كون المجرور غاية وبالثاني باعتبار كونه غرضا فتكون اللام لام تعليل أو عاقبة وجعلها الزمخشري للاختصاص ولكل وجه ، ولم يظهر لي وجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام. وقال النيسابوري : وجه ذلك أن هذه الآية صدرت بالتعجيب فناسب التطويل وهو كما ترى فتدبر ، وقوله تعالى :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 102
وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عطف على قوله : أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ إلخ داخل معه في حيز الرؤية على تقديري خصوص الخطاب وعمومه فإن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق والتدبير اللائق لا يكاد يغفل عن كون صانعه عزّ وجلّ محيطا بحلائل أعماله ودقائقها وقرأ عياش عن أبي عمرو «بما يعملون» بياء الغيبة ذلِكَ إشارة إلى ما تضمنته الآيات وأشارت إليه من سعة العلم وكمال القدرة واختصاص الباري تعالى شأنه بها بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي بسبب أنه سبحانه وحده الثابت المتحقق في ذاته أي الواجب الوجود.
وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلها الْباطِلُ المعدوم في حد ذاته وهو الممكن الذي لا يوجد إلّا بغيره وهو الواجب تعالى شأنه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ على الأشياء الْكَبِيرُ عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف جلّ وعلا بنقص لا بشيء أعلى منه تعالى شأنه شأنا وأكبر سلطانا ، ووجه سببية الأول لما ذكر أن كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته يستلزم أن يكون هو سبحانه وحده الموجد لسائر المصنوعات البديعة الشأن فيدل على كمال قدرته عزّ وجلّ وحده والإيجاب قد أبطل في الأصول ومن صدرت عنه جميع هاتيك المصنوعات لا بد من أن يكون كامل العلم على ما بين في الكلام ، ووجه سببية الثالث لذلك أن كونه تعالى وحده عليا على جميع الأشياء متسلطا عليها متنزها عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف بنقص عزّ وجلّ يستلزم كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته وقد سمعت الكلام فيه ، وأما وجه سببية كون ما يدعونه من دونه إلها باطلا ممكنا في ذاته لذلك فهو أن إمكانه على علو شأنه عندهم على ما عداه مما لم يعتقدوا إلهيته يستلزم إمكان غيره مما سوى اللّه عزّ وجلّ لأن ما فيه مما يدل على إمكانه موجود في ذلك حذو القذة بالقذة ومتى كان ما يدعونه إلها من دونه تعالى وغيره مما سوى اللّه سبحانه وتعالى ممكنا انحصر وجوب الوجود في اللّه تعالى فيكون جلّ وعلا وحده واجب الوجود في ذاته وقد علمت إفادته للمطلوب وكأنه إنما قيل إن ما يدعون من دونه الباطل دون أن ما سواه الباطل مثلا نظير قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل تنصيصا على فظاعة ما هم عليه واستلزم ذلك إمكان ما سوى اللّه تعالى من الموجودات من باب أولى بناء على ما يزعم المشركون في آلهتهم من علو الشأن ولم يكتف في بيان السبب بقوله سبحانه : بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بل عطف عليه ما عطف مع أنه مما يعود إليه وتشعر تلك الجملة به إظهارا لكمال العناية بالمطلوب وبما يفيده منطوق المعطوف من بطلان الشريك وكونه تعالى هو العلي الكبير.
وقيل : أي ذلك الاتصاف بما تضمنته الآيات من عجائب القدرة والحكمة بسبب أن اللّه تعالى هو الإله الثابت إلهيته وأن من دونه سبحانه باطل الإلهية وإن اللّه تعالى هو العلي الشأن الكبير السلطان ومدار أمر السببية على كونه سبحانه هو الثابت الإلهية وبين ذلك الطيبي بأنه قد تقرر أن من كان إلها كان قادرا خالقا عالما إلى غير ذلك من صفات الكمال ثم قال إن قوله تعالى بأن اللّه هو الحق كالفذلكة لما تقدم من قوله تعالى : أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ إلى هذا المقام وقوله تعالى : وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ كالفذلكة لتلك الفواصل المذكورة هنالك كلها.
ولعل ما قدمنا أولى بالاعتبار ، وقال العلامة أبو السعود في الاعتراض على ذلك : أنت خبير بأن حقيته تعالى وعلوه وكبرياءه وإن كانت صالحة لمناطية ما ذكر من الصفات لكن بطلان إلهية الأصنام لا دخل له في المناطية قطعا فلا مساغ لنظمه في سلك الأسباب بل هو تعكيس للأمر ضرورة أن الصفات المذكورة هي المقتضية لبطلانها لا أن بطلانها يقتضيها انتهى ، وفيه تأمل والعجب منه أنه ذكر مثل ما اعترض عليه في نظير هذه الآية في سورة الحج ولم يتعقبه بشيء.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 103
وجوز أن يكون المعنى ذلك أي ما تلي من الآيات الكريمة بسب بيان أن اللّه هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد ولأجل بيان بطلان إلهية ما يدعون من دونه لكونها شاهدة شهادة بينة لا ريب فيها ولأجل بيان أنه تعالى هو المرتفع على كل شيء المتسلط عليه فإن ما في تضاعيف تلك الآيات الكريمة مبين لاختصاص العلو والكبرياء به أي بيان وهو وجه لا تكلف فيه سوى اعتبار حذف مضاف كما لا يخفى وكأنه إنما قيل هنا : وأن ما يدعون من دونه الباطل بدون ضمير الفصل ، وفي سورة الحج وأن ما يدعون من دونه هو الباطل بتوسيط ضمير الفصل لما أن الحط على المشركين وآلهتهم في هذه السورة دون الحط عليهم في تلك السورة.
وقال النيسابوري في ذلك إن آية الحج وقعت بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين فناسب ذلك توسيط الضمير بخلاف ما هنا ويمكن أن يقال تقدم في تلك السورة ذكر الشيطان مرات فلهذا ذكرت تلك المؤكدات بخلاف هذه السورة فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان فيها نحو ذكره هناك ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر «تدعون» بتاء الخطاب أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ استشهاد آخر على باهر قدرته جلّ وعلا وغاية حكمته عزّ وجلّ وشمول إنعامه تبارك وتعالى ، والمراد بنعمة اللّه تعالى إحسانه سبحانه في تهيئة أسباب الجري من الريح وتسخيرها فالباء للتعدية كما في مررت بزيد أو سببية متعلقة بتجري.
وجوز أن يراد بنعمته تعالى ما أنعم جلّ شأنه به بما تحمله الفلك من الطعام والمتاع ونحوه فالباء للملابسة والمصاحبة متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الفلك أي تجري مصحوبة بنعمته تعالى وقرأ موسى بن الزبير «الفلك» بضم اللام ومثله معروف في فعل مضموم الفاء.
حكي عن عيسى بن عمر أنه قال : ما سمع فعل بضم الفاء وسكون العين إلّا وقد سمع فيه فعل بضم العين.
وفي الكشاف كل فعل يجوز فيه فعل كما يجوز في كل فعل فعل ، وجعل ضم العين للإتباع وإسكانها للتخفيف.
وقرأ الأعرج ، والأعمش ، وابن يعمر «بنعمات اللّه» بكسر النون وسكون العين جمعا بالألف والتاء وهو جمع نعمة بكسر فسكون ، ويجوز كما قال غير واحد في كل جمع مثله تسكين العين على الأصل وكسرها اتباعا للفاء وفتحها تخفيفا.
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ سالك القصد أي الطريق المستقيم لا يعدل عنه لغيره ، وأصله استقامة الطريق ثم أطلق عليه مبالغة ، والمراد بالطريق المستقيم التوحيد مجازا فكأنه قيل : فمنهم مقيم على التوحيد ، وقول الحسن : أي مؤمن يعرف حق اللّه تعالى في هذه النعمة يرجع إلى هذا ، وقيل : مقتصد من الاقتصاد بمعنى اتوسط والاعتدال.
والمراد حينئذ على ما قيل متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء موف بما عاهد عليه اللّه تعالى في البحر ، وتفسيره بموف بعهده مروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ويدخل في هذا البعض على هذا المعنى عكرمة بن أبي جهل
فقد روى السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : لما كان فتح مكة أمر رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم الناس أن يكفوا عن قتل أهلها إلّا أربعة نفر منهم قال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل ، وعبد اللّه بن خطل ، وقيس بن ضبابة ، وعبد اللّه بن أبي سرح
. فأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال أهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجني في البر غيره. اللهم إن لك عليّ عهدا إن أنت عافيتي مما أنا فيه أن آتي محمّدا صلّى اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 104
عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء وأسلم ، وقيل : متوسط في الكفر لانزجاره بما شاهده بعض الانزجار.
وقيل : متوسط في الإخلاص الذي كان عليه في البحر فإن الإخلاص الحادث عند الخوف قلما يبقى لأحد عند زوال الخوف. وأيا ما كان فالظاهر أن المقابل لقسم المقتصد محذوف دل عليه قوله تعالى :
وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ والآية دليل ابن مالك ومن وافقه على جواز دخول الفاء في جواب لما ومن لم يجوز قال : الجواب محذوف أي فلما نجاهم إلى البر انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم جاهد ، والختار من الختر وهو أشد الغدر ومنه قولهم : إنك لا تمد لنا شبرا من غدر إلّا مددنا لك باعا من غدر ، وبنحو ذلك فسره ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لابن الأزرق وأنشد قول الشاعر :
لقد علمت واستيقنت ذات نفسها بأن لا تخاف الدهر صرمي ولا ختري
ونحوه قول عمرو بن معد يكرب :
وإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر
وفي مفردات الراغب الختر غدر يختر فيه الإنسان أي يضعف ويكسر لاجتهاده فيه أي وما يجحد بآياتنا ويكفر بها إلّا كل غدار أشد الغدر لأن كفره نقض للعهد الفطري ، وقيل : لأنه نقض لما عاهد اللّه تعالى عليه في البحر من الإخلاص له عزّ وجلّ كَفُورٍ مبالغ في كفران نعم اللّه تعالى ، وخَتَّارٍ مقابل لصبار لأن من غدر لم يصبر على العهد وكفور مقابل لشكور يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم بعد ذكر دلائل الوحدانية ، ويجزى من جزى بمعنى قضى ومنه قيل للمتقاضي المتجازي أن لا يقضي والد عن ولده شيئا.
وقرأ أبو السمال ، وعامر بن عبد اللّه ، وأبو السوار «لا يجزى ء» بضم الياء وكسر الزاي مهموزا ومعناه لا يغني والد عن ولده ولا يفيده شيئا من أجزأت عنك مجزأ فلان أي أغنيت.
وقرأ عكرمة «يجزي» بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول والجملة على القراءات صفة يوما والراجع إلى الموصوف محذوف أي فيه فأما أن يحذف برمته وأما على التدريج بأن يحذف حرف الجر فيعدى الفعل إلى الضمير ثم يحذف منصوبا ، وقوله تعالى : وَلا مَوْلُودٌ أما عطف على والِدٌ فهو فاعل يَجْزِي وقوله تعالى : هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً في موضع الصفة له والمنفي عنه هو الجزاء في الآخرة والمثبت له الجزاء في الدنيا أو معنى هو جاز أي من شأنه الجزاء لعظيم حق الوالد أو المراد بلا يجزي لا يقبل ما هو جاز به ، وأما مبتدأ والمسوغ للابتداء به مع أنه نكرة تقدم النفي ، وذهل المهدوي عن ذلك فمنع صحة كونه مبتدأ وجملة هُوَ جازٍ خبره وشَيْئاً مفعول به أو منصوب على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف وعلى الوجهين قيل تنازعه يَجْزِي وجازٍ واختيار ما لا يفيد التأكيد في الجملة الأولى وما يفيده في الجملة الثانية لأن أكثر المسلمين وأجلتهم حين الخطاب كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر وعلى الدين الجاهلي فلما كان غناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج نفيه إلى التأكيد ، ولما كان غناء المسلم عن الكافر مما يقع في الأوهام أكد نفيه قاله الزمخشري.
وتعقبه ابن المنير بأنه يتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ والصحيح أنه عام لهم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 105
ولكل من ينطلق عليه اسم الناس ، ورده في الكشف بأن المتقدمتين فاسدتان ، أما الثانية فلما تقرّر في أصول الفقه أن يا أَيُّهَا النَّاسُ يتناول الموجودين ، وأما لغيرهم فبالإعلام أو بطريقه والمالكية موافقة ، وأما الأولى فعلى تقدير التسليم لا شك أن أجلة المؤمنين وأكابرهم إلى انقراض الدنيا هم النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه رضي اللّه تعالى عنهم ومعلوم أن أكثرهم قبض آباؤهم على الكفر فمن أين التوقيف ا ه.
واختار ابن المنير في وجه ذلك أن اللّه تعالى لما أكد الوصية بالآباء وقرن وجوب شكرهم بوجوب شكره عزّ وجلّ وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسوء بحسب نهاية إمكانه قطع سبحانه هاهنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه حقه عليه ويكفيه ما يلقاه من أهوال يوم القيامة كما أوجب اللّه تعالى عليه في الدنيا ذلك في حقه فلما كان جزاء الولد عن الوالد مظنة الوقوع لأنه سبحانه حض عليه في الدنيا كان جديرا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم ولا كذلك العكس وقريب منه ما قاله الإمام : إن الولد من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق والولد يجزي لما فيه من النفقة وليس ذلك بواجب عليه فلذا قال سبحانه في الولد : لا يَجْزِي وفي الولد وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ ألا ترى أنه يقال لمن يحيك وليست الحياكة صنعته هو يحيك ولمن يحيك وهي صنعته هو حائك ، وقيل : إن التأكيد في الجملة الثانية الدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي لأنه دون الوالد في الحنو والشفقة فلما كان أولى بهذا الحكم استحق التأكيد وفي القلب منه شيء ، وقد يقال : إن العرب كانوا يدخرون الأولاد لنفعهم ودفع الأذى عنهم وكفاية ما يهمهم ولعل أكثر الناس كذلك فأريد حسم توهم نفعهم ودفعهم الأذى ، وكفاية المهم في حق آبائهم يوم القيامة فأكدت الجملة المفيدة لنفي ذلك عنهم وعد من جملة المؤكدات التعبير بالمولود لأنه من ولد بغير واسطة بخلاف الولد فإنه عام يشمل ولد الولد فإذا أفادت الجملة أن الولد الأدنى لا يجزي عن والده علم أن من عداه من ولد لا يجزي عن جده من باب أولى.
واعترض بأن هذه التفرقة بين الولد والمولود لم يثبتها أهل اللغة ، ورد بأن الزمخشري ، والمطرزي ذكرا ذلك وكفى بهما حجة ، ثم إن في عموم الولد لولد الولد أيضا مقالا فقد ذهب جمع أنه خاص بالولد الصلبي حقيقة.
وقال صاحب المغرب يقال للصغير مولود وإن كان الكبير مولودا أيضا لقرب عهده من الولادة كما يقال لبن حليب ورطب جني للطري منهما ، ووجه أمر التأكيد عليه بأنه إذا كان الصغير لا يجزي حينئذ مع عدم اشتغاله بنفسه لعدم تكليفه في الدنيا فالكبير المشغول بنفسه من باب أولى وهو كما ترى ، وخصص بعضهم العموم بغير صبيان المسلمين لثبوت الأحاديث بشفاعتهم لوالديهم.
وتعقب بأن الشفاعة ليست بقضاء ولو سلم فلتوقفها على القبول يكون القضاء منه عزّ وجلّ حقيقة فتدبر.
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ قيل بالثواب والعقاب على تغليب الوعد على الوعيد أو هو بمعناه اللغوي حَقٌّ ثابت متحقق لا يخلف وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه وأما عدم إخلاف الوعد بالعقاب ففيه كلام والحق أنه لا يخلف أيضا ، وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين فليس من إخلاف الوعيد في شيء لما أن الوعيد في حقهم كان معلقا بشرط لم يذكر ترهيبا وتخويفا ، والجملة على هذا تعليل لنفي الجزاء ، وقيل : المراد أن وعد اللّه بذلك اليوم حق ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه لما قيل : يا أيها الناس اتقوا يوما «1» إلخ سأل سائل أن يكون ذلك اليوم؟ فقيل : إن وعد اللّه حق أي نعم يكون لا محالة لمكان الوعد به فهو جواب على أبلغ وجه ، وإليه يشير كلام
___________
(1) قوله «اتقوا يوما» إلخ هكذا بخطه والتلاوة تقدمت اتقوا ربكم واخشوا يوما.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 106
الإمام فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان كما روي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، ومجاهد والضحاك بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم ويرجيكم التوبة والمغفرة منه تعالى أو يذكر لكم أنها لا تضر من سبق في علم اللّه تعالى موته على الإيمان وأن تركها لا ينفع من سبق في العلم موته على الكفر ، وعن أبي عبيدة كل شيء غرك حتى تعصي اللّه تعالى وتترك ما أمرك سبحانه به فهو غرور شيطانا أو غيره ، وإلى ذلك ذهب الراغب قال : الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان.
وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل : الدنيا تغر وتضر وتمر ، وأصل الغرور من غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد والمراد به الخداع ، والظاهر أن بِاللَّهِ صلة يَغُرَّنَّكُمْ أي لا يخدعنكم بذكر شيء من شؤونه تعالى يجسركم على معاصيه سبحانه.
وجوز أن يكون قسما وفيه بعد ، وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب ، «تغرنكم» بالنون الخفيفة ، وقرأ سمال بن حرب ، وأبو حيوة «الغرور» بضم الغين وهو مصدر والكلام من باب جد جده ، ويمكن تفسيره بالشيطان يجعله نفس الغرور مبالغة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلخ ،
أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوارث بن عمرو جاء إلى النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : يا محمد متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت ، فنزلت هذه الآية ، وذكر نحوه محيي السنة البغوي
،
والواحدي ، والثعلبي فهو نظرا إلى سبب النزول جواب لسؤال محقق ونظرا إلى ما قبلها من الآي جواب لسؤال مقدر كأن قائلا يقول : متى هذا اليوم الذي ذكر من شأنه ما ذكر؟ فقيل إن اللّه ، ولم يقل إن علم الساعة عند اللّه مع أنه أخصر لأن اسم اللّه سبحانه أحق بالتقديم ولأن تقديمه وبناء الخبر عليه يفيد الحصر كما قرّره الطيبي مع ما فيه من مزية تكرر الإسناد ، وتقديم الظرف يفيد الاختصاص أيضا بل لفظ عند كذلك لأنها تفيد حفظه بحيث لا يوصل إليه فيفيد الكلام من أوجه اختصاص علم وقت القيامة باللّه عزّ وجلّ ، وقوله تعالى : وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي في إبانه من غير تقديم ولا تأخير في بلد لا يتجاوزه به وبمقدار تقتضيه الحكمة ، الظاهر أنه عطف على الجملة الظرفية المبنية على الاسم الجليل على عكس قوله تعالى : نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ [المؤمنون : 21] فيكون خبرا مبنيا على الاسم الجليل مثل المعطوف عليه فيفيد الكلام الاختصاص أيضا والمقصود تقييدات التنزيل الراجعة إلى العلم لا محض القدرة على التنزيل إذ لا شبهة فيه فيرجع الاختصاص إلى العلم بزمانه ومكانه ومقداره كما يشير إلى ذلك كلام الكشف ، وقال العلامة الطيبي في شرح الكشاف : دلالة هذه الجملة على علم الغيب من حيث دلالة المقدور المحكم المتقن على العلم الشامل وقوله تعالى وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي أذكر أم أنثى أتام أم ناقص وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال عطف على الجملة الظرفية أيضا نظير ما قبله ، وخولف بين عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وبين هذا ليدل في الأول على مزيد الاختصاص اعتناء بأمر الساعة ودلالة على شدة خفائها ، وفي هذا على استمرار تجدد التعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص ، ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله بأن يقال : ويعلم الغيث مثلا إشارة بإسناد التنزيل إلى الاسم الجليل صريحا إلى عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع
لأجناس الخلائق وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم قال تعالى : وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى [الروم : 49 ، 50] وقال سبحانه : وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم : 19] إلى غير ذلك ، وربما يقال : إن لتنزيل الغيث وإن لم يكن الغيث

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 107
المعهود دخلا في المبعث بناء على ما
ورد من حديث مطر السماء بعد النفخة الأولى مطرا كمني الرجال
، وقيل :
الاختصاص راجع إلى التنزيل وما ترجع إليه تقييداته التي يقتضيها المقام من العلم ، وفي ذلك ردّ على القائلين مطرنا بنوء كذا وللاعتناء برد ذلك لما فيه من الشرك في الربوبية عدل عن يعلم إلى يُنَزِّلُ وهو كما ترى ، وقوله تعالى : وَما تَدْرِي نَفْسٌ أي كل نفس برة كانت أو فاجرة كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي ماذا تَكْسِبُ غَداً أي في الزمان المستقبل من خير أو شر ، وقوله سبحانه : وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ عطف على ما استظهره صاحب الكشف على قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وأشار إلى أنه لما كان الكلام مسوقا للاختصاص لا لإفادة أصل العلم له تعالى فإنه غير منكر لزم من النفي على سبيل الاستغراق اختصاصه به عزّ وجلّ على سبيل الكناية على الوجه الأبلغ ، وفي العدول عن لفظ العلم إلى لفظ الدراية لما فيها من معنى الختل والحيلة لأن أصل دري رمي الدرية وهي الحلقة التي يقصد رميها الرماة وما يتعلم عليه الطعن والناقة التي يسببها الصائد ليأنس بها الصيد فيستتر من ورائها فيرميه وفي كل حيلة ، ولكونها علما بضرب من الختل والخيلة لا تنسب إليه عزّ وجلّ إلّا إذا أولت بمطلق العلم كما
في خبر خمس «لا يدريهن إلا اللّه تعالى»
وقيل : قد يقال الممنوع نسبتها إليه سبحانه بانفراده تعالى أما مع غيره تبارك اسمه تغليبا فلا ، ويفهم من كلام بعضهم صحة النسبة إليه جلّ وعلا على سبيل المشاكلة كما في قوله :
لا هم لا أدري وأنت الداري.
فلا حاجة إلى ما قيل : إنه كلام أعرابي جلف لا يعرف ما يجوز إطلاقه على اللّه تعالى وما يمتنع فيكون المعنى لا تعرف كل نفس وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد وأبعد ، وقد روعي في هذا الأسلوب الإدماج المذكور ولذا لم يقل : ويعمل ماذا تكسب كل نفس ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت ، وجوز أن يكون أصل وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وأن ينزل الغيث فحذف أن وارتفع الفعل كما في قوله : أيهذا الزاجري أحضر الوغى وكذا قوله سبحانه :
وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ والعطف على عِلْمُ السَّاعَةِ فكأنه قيل : إن اللّه عنده علم الساعة وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام ، ودلالة ذلك على اختصاص علم تنزيل الغيث به سبحانه ظاهر لظهور أن المراد بعنده تنزيل الغيث عنده علم تنزيله ، وإذا عطف يُنَزِّلُ على السَّاعَةِ كان الاختصاص أظهر لانسحاب علم المضاف إلى الساعة إلى الإنزال حينئذ فكأنه قيل : إن اللّه عنده علم الساعة وعلم تنزيل الغيث ، وهذا العطف لا يكاد يتسنى في وَيَعْلَمُ إذ يكون التقدير وعنده علم علم ما في الأرحام وليس ذاك بمراد أصلا.
وجعل الطيبي وَما تَدْرِي نَفْسٌ إلخ معطوفا على خبر إن من حيث المعنى بأن يجعل المنفي مثبتا بأن يقال :
ويعلم ماذا تكسب كل نفس غدا ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت وقال : إن مثل ذلك جائز في الكلام إذا روعي نكتة كما في قوله تعالى : أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام : 151] فإن العطف فيه باعتبار رجوع التحريم إلى ضد الإحسان وهي الإساءة ، وذكر في بيان نكتة العدول عن المثبت إلى المنفي نحو ما ذكرنا آنفا. وتعقب ذلك صاحب الكشف بأن عنه مندوحة أي بما ذكر من عطفه على جملة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وقال الإمام : في وجه نظم الجمل الحق أنه تعالى لما قال : وَاخْشَوْا يَوْماً إلخ وذكر سبحانه أنه كائن بقوله عزّ وجلّ قائلا : إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فكأن قائلا يقول : فمتى هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لم يحصل لغيره تعالى وذلك قوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ثم ذكر جلّ وعلا الدليلين اللذين ذكرا مرارا على البعث. أحدهما إحياء الأرض بعد موتها المشار إليه بقوله تعالى : وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ والثاني الخلق ابتداء المشار

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 108
إليه بقوله سبحانه : وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ فكأنه قال عزّ وجلّ : يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة واللّه تعالى قادر عليها كما هو سبحانه قادر على إحياء الأرض وعلى الخلق في الأرحام ثم بعد جلّ شأنه له أن يعلم ذلك بقوله عزّ وجلّ وما تدري إلخ فكأنه قال تعالى : يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها وإن من الأشياء ما هو أهم منها لا تعلم معاشك ومعادك فما تعلم ماذا تكسب غدا مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة متى يكون واللّه تعالى ما علمك كسب غدك ولا علمك أين تموت مع أن لك في ذلك فوائد شتى وإنما لم يعلمك لكي تكون في كل وقت بسبب الرزق راجعا متوكلا عليه سبحانه ولكيلا تأمن الموت إذا كنت في غير الأرض التي أعلمك سبحانه أنك تموت فيها فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه وهو وقت القيامة وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمك جلّ وعلا بذلك على ألسنة أنبيائه تعالى عليهم الصلاة والسلام انتهى ، ولا يخفى أن الظاهر على ما ذكره أن يقال : وبخلق ما في الأرحام كما قال سبحانه :
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ووجه العدول عن ذلك إلى ما في النظم الجليل غير ظاهر على أن كلامه بعد لا يخلو عن شيء ، وكون المراد اختصاص علم هذه الخمس به عزّ وجلّ هو الذي تدل عليه الأحاديث والآثار ،
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة من حديث طويل «أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم سئل متى الساعة؟ فقال للسائل : ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل إليهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا اللّه تعالى ثم تلا النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ الآية»
أي إلى آخر السورة كما في بعض الروايات ، وما وقع عند البخاري في التفسير من قوله : إلى الأرحام تقصير من بعض الرواة ، وأخرجها أيضا هما وغيرهما عن ابن قال : عمر قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «مفتاح - وفي رواية مفاتح - الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه تعالى لا يعلم أحد ما يكون في غد ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت وما يدري أحد متى يجيء المطر».
وأخرج أحمد ، والبزار ، وابن مردويه ، والروياني ، والضياء بسند صحيح عن بريدة قال «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : خمس لا يعلمهن إلّا اللّه إن اللّه عنده علم الساعة الآية»
وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن ما عدا هذه الخمس من المغيبات قد يعلمه غيره عزّ وجلّ وإليه ذهب من ذهب. أخرج حميد بن زنجويه عن بعض الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل الظهور فأنكر عليه فقال : إنما الغيب خمس وتلا هذه الآية وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم ، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن علم هذه الخمس لم يؤت للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ويلزمه أنه لم يؤت لغيره عليه الصلاة والسلام من باب أولى.
أخرج أحمد ، والطبراني ، عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «أوتيت مفاتيح كل شيء إلّا الخمس إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» الآية
وأخرج أحمد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : أوتي نبيكم صلّى اللّه عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير الخمس إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : لم يغم على نبيكم صلّى اللّه عليه وسلم إلّا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان إن اللّه عنده علم الساعة إلى آخر السورة
، وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والبخاري في الأدب عن ربعي بن حراش قال : حدثني رجل من بني عامر أنه قال : يا رسول اللّه هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟
فقال عليه الصلاة والسلام : لقد علمني اللّه تعالى خيرا وإن من العلم ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى الخمس إن اللّه عنده علم الساعة الآية
، وصرح بعضهم باستئثار اللّه تعالى بهن ، أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة أنه قال في الآية : خمس

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 109
من الغيب استأثر اللّه تعالى بهن فلم يطلع عليهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا إن اللّه عنده علم الساعة ولا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة ولا في أي شهر أليلا أم نهارا وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أليلا أم نهارا ويعمل ما في الأحلام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكرا أم أنثى أحمر أو أسود ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا أخيرا أم شرا وما تدري بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في بر في سهل أم في جبل ، والذي ينبغي أن يعلم أن كل غيب لا يعلمه إلا اللّه عزّ وجلّ وليس المغيبات محصورة بهذه الخمس وإنما خصت بالذكر لوقوع السؤال عنها أو لأنها كثيرا ما تشتاق النفوس إلى العلم بها ، وقال القسطلاني : ذكر صلّى اللّه عليه وسلم خمسا وإن كان الغيب لا يتناهى لأن العدد لا ينفي زائدا عليه ولأن هذه الخمسة هي التي كانوا يدعون علمها انتهى ، وفي التعليل الأخير نظر لا يخفى وأنه يجوز أن يطلع اللّه تعالى بعض أصفيائه على إحدى هذه الخمس ويرزقه عزّ وجلّ العلم بذلك في الجملة وعلمها الخاص به جلّ وعلا ما كان على وجه الإحاطة والشمول لأحوال كل منها وتفصيله على الوجه الأتم ، وفي شرح المناوي الكبير للجامع الصغير في الكلام على حديث بريدة السابق خمس لا يعلمهن إلا اللّه على وجه الإحاطة والشمول كليا وجزئيا فلا ينافيه اطلاع اللّه تعالى بعض خواصه على بعض المغيبات من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة ، وإنكار المعتزلة لذلك مكابرة انتهى ، ويعلم مما ذكرنا وجه الجمع بين الأخبار الدالة على استئثار اللّه تعالى بعلم ذلك وبين ما يدل على خلافه كبعض إخباراته عليه الصلاة والسلام بالمغيبات التي هي من هذا القبيل يعلم ذلك من راجع نحو الشفاء والمواهب اللدنية مما ذكر فيها معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم وأخباره عليه الصلاة والسلام بالمغيبات ، وذكر القسطلاني أنه عزّ وجلّ
إذا أمر بالغيث وسوقه إلى ما شاء من الأماكن علمته الملائكة الموكلون به ومن شاء سبحانه من خلقه عزّ وجلّ ، وكذا إذا أراد تبارك تعالى خلق شخص في رحم يعلم سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جلّ وعلا كما يدل عليه ما
أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إن اللّه تعالى وكل بالرحم ملكا يقول : يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد اللّه تعالى أن يقضي خلقه قال : أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه فحينئذ يعلم بذلك الملك ومن شاء اللّه تعالى من خلقه عزّ وجلّ»
وهذا لا ينافي الاختصاص والاستئثار بعلم المذكورات بناء على ما سمعت منا من أن المراد بالعلم الذي استأثر سبحانه به العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل فما يعلم به الملك ويطلع عليه بعض الخواص يجوز أن يكون دون ذلك العلم بل هو كذلك في الواقع بلا شبيهة ، وقد يقال فيما يحصل للأولياء من العلم بشيء مما ذكر إنه ليس بعلم يقيني قال : علي القارئ في شرح الشفا : الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون يقينيا وإلهامهم لا يفيد إلا أمرا ظنيا ومثل هذا عندي بل هو دونه بمراحل علم النجومي ونحوه بواسطة أمارات عنده بنزول الغيث وذكورة الحمل أو أنوثته أو نحو ذلك ولا أرى كفر من يدعي مثل هذا العلم فإنه ظن عن أمر عادي ، وقد نقل العسقلاني في فتح الباري عن القرطبي أنه قال : من ادعى علم شيء من الخمس غير مسندة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان كاذبا في دعواه وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم ، وعليه فقول القسطلاني من ادعى علم شيء منها فقد كفر بالقرآن العظيم ينبغي أن يحمل العلم فيه على نحو العلم الذي استأثر اللّه تعالى به دون مطلق العلم الشامل للظن وما يشبهه ، وبعد هذا كله أن أمر الساعة أخفى الأمور المذكورة وأن ما أطلع اللّه تعالى عليه نبيه صلّى اللّه عليه وسلم من وقت قيامها في غاية الإجمال وإن كان أتم من علم غيره من البشر صلّى اللّه عليه وسلم وقوله عليه الصلاة والسلام : «بعثت أنا والساعة كهاتين»
لا يدل على أكثر من العلم الإجمالي بوقتها ولا أظن أن خواص الملائكة عليهم السلام أعلم منه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك ، ويؤيد ظني ما رواه الحميدي في نوادره بالسند عن الشعبي قال : سأل عيسى ابن مريم جبريل عليهما السلام عن الساعة فانتفض بأجنحته ، وقال : ما المسئول بأعلم من السائل ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 110
والمراد التساوي في العلم بأن اللّه تعالى استأثر بعلمها على الوجه الأكمل ويرشد إلى العلم الإجمالي بها ذكر أشراطها كما لا يخفى ، ويجوز أن يكون اللّه تعالى أطلع حبيبه عليه الصلاة والسلام على وقت قيامها على وجه كامل لكن لا على وجه يحاكي علمه تعالى به إلّا أنه سبحانه أوجب عليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كتمه لحكمة ويكون ذلك من خواصه عليه الصلاة والسلام ، وليس عندي ما يفيد الجزم بذلك ، هذا وخص سبحانه المكان في قوله تعالى : وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ليعرف الزمان من باب أولى فإن الأول في وسع النفس في الجملة بخلاف الثاني ، وأخرج أحمد وجماعة عن أبي غرة الهذلي قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا أراد اللّه تعالى قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ عليه الصلاة والسلام وما تدري نفس بأي أرض تموت»
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن خيثمة أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل : من هذا؟ قال : ملك الموت فقال : كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك :
كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
وتَدْرِي في الموضعين معلقة فالجملة من قوله تعالى : ماذا تَكْسِبُ في موضع المفعول ، ويجوز أن تكون ماذا كلها موصولا منصوب المحل بتدري كأنه قيل : وما تدري نفس الشيء الذي تكسبه غدا وبِأَيِّ متعلق بتموت والباء ظرفية ، والجملة في موضع نصب بتدري.
وقرأ غير واحد من السبعة «ينزل» من الإنزال ، وقرأ موسى الأسواري ، وابن أبي عبلة «بأية أرض» بتاء التأنيث لإضافتها إلى المؤنث وهي لغة قليلة فيها كما أن كلا إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث نادرا فيقال : كلتهن فعلن ذلك فليعلم واللّه عزّ جلّ أعلم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ مبالغ في العلم فلا يعزب عن علمه سبحانه شيء من الأشياء خَبِيرٌ يعلم بوطنها كما يعلم ظواهرها فالجمع بين الوصفين للإشارة إلى التسوية بين علم الظاهر والباطن عنده عزّ وجلّ والجملة على ما قيل في موضع التعليل لعلمه سبحانه بما ذكر ، وقيل : جواب سؤال نشأ من نفي دراية الأنفس ماذا تكسب غدا وبأي أرض تموت كأنه قيل : فمن يعلم ذلك فقيل : إن اللّه عليم خبير وهو جواب بأن اللّه تعالى يعلم ذلك وزيادة ، ولا يخفى أنه إذا كانت هذه الجملة من تتمة الجملتين اللتين قبلها كانت دلالة الكلام على انحصار العلم بالأمرين اللذين نفي العلم بهما عن كل نفس ظاهرة جدا فتأمل ذاك واللّه عزّ وجلّ يتولى هداك ومن باب الإشارة في السورة الكريمة الم إشارة إلى آلائه تعالى ولطفه جلّ شأنه ومجده عزّ وجلّ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بحضور القلب والإعراض عن السوي وهي صلاة خواص الخواص ، وأما صلاة الخواص فبنفي الخطرات الردية والإرادات الدنيوية ولا ضر فيها طلب الجنة ونحوه ، وأما صلاة العوام فما يفعله أكثر الناس ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ببذل الوجود للملك المعبود لنيل المقصود وهي زكاة الأخص ، وزكاة الخاصة ببذل المال كله لتصفية قلوبهم عن صدأ محبة الدنيا ، وزكاة العامة ببذل القدر المعروف من المال المعلوم على الوجه المشروع المشهور لتزكية نفوسهم عن نجاسة البخل وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ هو ما يشغل عن اللّه تعالى ذكره ويحجب عنه عزّ وجلّ استماعه ، وأما الغناء فهو عند كثير منهم أقسام منها ما هو من
لهو الحديث ، ونقل بعضهم عن الجنيد قدّس سره أنه قال : السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم ، وعن أبي بكر الكناني سماع العوام على متابعة الطبع وسماع المريدين رغبة ورهبة وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعم وسماع العارفين على المشاهدة وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان ولكل من هؤلاء مصدر ومقام ، وذكروا أن من القوم من يسمع في اللّه وللّه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 111
وباللّه ومن اللّه جلّ وعلا ولا يسمع بالسمع الإنساني بل يسمع بالسمع الرباني كما
في الحديث القدسي «كنت سمعه الذي يسمع به»
وقالوا : إنما حرم اللهو لكونه لهوا فمن لا يكون لهوا بالنسبة إليه لا يحرم عليه إذ علة لحرمة في حقه منتفية والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ، ويلزمهم القول بحل شرب المسكر لمن لا يسكره لا سيما لمن يزيده نشاطا للعبادة مع ذلك ، ومن زنادقة القلندرية من يقول بحل الخمر والحشيشة ونحوها من المسكرات المحرمة بلا خلاف زاعمين أن استعمال ذلك يفتح عليهم أبواب الكشوف ، وبعض الجهلة الذين لعب بهم الشيطان يطلبون منهم المدد في ذلك الحال قاتلهم اللّه تعالى أنى يؤفكون وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ قيل : هي إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام ، وذكروا أن الحكمة موهبة الأولياء كما أن الوحي موهبة الأنبياء عليهم السلام فكل ليس بكسبي إلا أن للكسب مدخلا ما في الحكمة ،
فقد ورد «من أخلص للّه تعالى أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه»
والحكمة التي يزعم الفلاسفة أنها حكمة ليست بحكمة إذ هي من نتائج الفكر ويؤتاها المؤمن والكافر وقلما تسلم من شوائب آفات الوهم ، ولهذا وقع الاختلاف العظيم بين أهلها وعدها بعض الصوفية من لهو الحديث ولم يبعد في ذلك عن الصواب ، وأشارت قصة لقمان إلى التوحيد ومقام جمع الجمع وعين الجمع واتباع سبيل الكاملين والإعراض عن السوي وتكميل الغير والصبر على الشدائد والتواضع للناس وحسن المماشاة والمعاملة والسيرة وترك التماوت في المشي وترك رفع الصوت ، وقيل : الْحَمِيرِ في قوله تعالى : إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ هم الصوفية الذين يتكلمون بلسان المعرفة قبل أن يؤذن لهم ، وطبق بعضهم جميع ما في القصة على ما في الأنفس وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً قال الجنيد : النعم الظاهرة حسن الأخلاق والنعم الباطنة أنواع المعارف ، وقيل : على قراءة النعمة الظاهرة اتباع ظاهر العلم والباطنة طلب الحقيقة في الاتباع ، وقيل : النعمة الظاهرة بلا زلة والباطنة قلب بلا غفلة.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ يشير إلى أهل الجدل من الفلاسفة فإنهم يجادلون في ذات اللّه تعالى وصفاته عزّ وجلّ كذلك عند التحقيق لأنهم لا يعتبرون كلام الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا الكتب المنزلة من السماء وأكثر علومهم مشوب بآفة الوهم ومع هذا فشؤون اللّه جلّ وعلا طور ما وراء طور العقل :
هيهات أن تصطاد عنقاء البقا بلعابهن عناكب الأفكار
وأبعد من محدب الفلك التاسع حصول علم باللّه عزّ وجلّ وبصفاته جل شأنه يعتد به بدون نور إلهي يستضيء العقل به وعقولهم في ظلمات بعضها فوق بعض ، وقد سدت أبواب الوصول إلّا على متبع للرسول صلّى اللّه عليه وسلم قال بعضهم مخاطبا لحضرة صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام :
وأنت باب اللّه أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إلى قوله سبحانه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فيه إشارة إلى أنه سبحانه تمام وفوق التمام ، والمراد بالأول من حصل له كل ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى : هُوَ الْحَقُّ والمراد بالثاني من حصل له ذلك وحصل لما عداه ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى : هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ووراء هذين الشيئين ناقص وهو ما ليس له ما ينبغي كالصبي والمريض والأعمى ومكتف وهو من أعطى ما تندفع به حاجته في وقته كالإنسان الذي له من الآلات ما تندفع به حاجته في وقته ولكنها في معرض التحلل والزوال إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية ذكر غير واحد حكايات عن الأولياء متضمنة لاطلاع اللّه تعالى إياهم على ما عدا علم الساعة من الخمس وقد علمت

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 112
الكلام في ذلك ، وأغرب ما رأيت ما ذكره الشعراني عن بعضهم أنه كان يبيع المطر فيمطر على أرض من يشتري منه متى شاء ، ومن له عقل مستقيم لا يقبل مثل هذه الحكاية ، وكم للقصاص أمثالها من رواية نسأل اللّه تعالى أن يحفظنا وإياكم من اعتقاد خرافات لا أصل لها وهو سبحانه ولي العصمة والتوفيق.
وقرأ ابن أبي عبلة «بنعمات اللّه» بفتح النون وكسر العين جمعا لنعمة بفتح النون وهي اسم للتنعيم ، وقيل : بمعنى النعمة بالكسر لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي بعض دلائل ألوهيته تعالى ووحدته سبحانه وقدرته جلّ شأنه وعمله عزّ وجلّ ، وقوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ تعليل لما قبله أي أن فيما ذكر لآيات عظيمة في ذاتها كثيرة في عددها لكل مبالغ في الصبر على بلائه سبحانه ومبالغ في الشكر على نعمائه جلّ شأنه.
وصَبَّارٍ شَكُورٍ كناية عن المؤمن من باب حي مستوي القامة عريض الأظفار فإنه كناية عن الإنسان لأن هاتين الصفتين عمدتا الإيمان لأنه وجميع ما يتوقف عليه إما ترك للمألوف غالبا وهو بالصبر أو فعل لما يتقرب به وهو شكر لعمومه فعل القلب والجوارح واللسان ، ولذا ورد الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ، وذكر الوصفين بعد الفلك فيه أتم مناسبة لأن الراكب فيه لا يخلو عن الصير والشكر ، وقيل : المراد بالصبار كثير الصبر على التعب في كسب الأدلة من الأنفس والآفاق وإلّا فلا اختصاص للآيات بمن تعب مطلقا وكلا الوصفين بنيا بناء مبالغة ، وفعال على ما في البحر أبلغ من فعول لزيادة حروفه ، قيل : وإنما اختير زيادة المبالغة في الصبر إيماء إلى أن قليله لشدة مرارته وزيادة ثقله على نفس كثير وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ أي علاهم وغطاهم من الغشاء بمعنى الغطاء من فوق وهو المناسب هنا ، وقيل : أي أي أتاهم من الغشيان بمعنى الإتيان وضمير غَشِيَهُمْ أن اتحد بضمير المخاطبين قبله ففي الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة وإلّا فلا التفات ، والموج ما يعلو من غوارب الماء وهو اسم جنس واحدة موجة وتنكيره للتعظيم والتكثير ، ولذا أفرد مع جمع المشبه به في قوله تعالى : كَالظُّلَلِ وهو جمع ظلة كغرفة وغرف وقربة وقرب ، والمراد بها ما أظل من سحال أو جبل أو غيرهما.
وقال الراغب : الظلة السحابة تظل وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره ، وفسر قتادة الظل هنا بالسحاب ، وبعضهم بالجبال ، وقرأ محمد بن الحنفية رضي اللّه تعالى عنه «كالظلال» وهو جمع ظلة أيضا كعلبة وعلاب وجفرة وجفار ، وإذا ظرف لقوله تعالى : دَعَوُا أي دعوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إذا غشيهم موج كالظلل وإنما فعلوا ذلك حينئذ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 113
سورة السجدة
وتسمى المضاجع أيضا كما في الإتقان ، وفي مجمع البيان أنها كما تسمى سورة السجدة تسمى سجدة لقمان لئلا تلتبس بحم السجدة ، وأطلق القول بمكيتها ، أخرج ابن الضريس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس إنها نزلت بمكة ، وأخرج ابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير مثله ، وجاء في رواية أخرى عن الحبر استثناء ، أخرج النحاس عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى تمام الآيات الثلاث ، وروي مثله عن مجاهد ، والكلبي ، واستثنى بعضهم أيضا آيتين أخريين وهما قوله تعالى : تَتَجافى جُنُوبُهُمْ [السجدة : 16] إلخ ، واستدل عليه ببعض الروايات في سبب النزول وستطلع على ذلك إن شاء اللّه تعالى واستبعد استثناؤهما لشدة ارتباطهما بما قبلهما ، وهي تسع وعشرون آية في البصري وثلاثون في الباقية ، ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمال كل على دلائل الألوهية ، وفي البحر لما ذكر سبحانه فيما قبل دلائل التوحيد وهو الأصل الأول ثم ذكر جلّ وعلا المعاد وهو الأصل الثاني وختم جل شأنه به السورة ذكر تعالى في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو النبوة وقال الجلال السيوطي في وجه الاتصال بما قبلها : إنها شرح لمفاتيح الغيب الخمسة التي ذكرت في خاتمة ما قبل ، فقوله تعالى : ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة : 5] شرح قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان : 34] ولذلك عقب بقوله سبحانه : عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [السجدة : 6] وقوله تعالى :
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [السجدة : 7] شرح قوله سبحانه : وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان : 34] وقوله تبارك وتعالى : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة : 7] الآيات شرح قوله جل جلاله : وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان : 34] وقوله عزّ وجلّ : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة : 5] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة : 13] شرح قوله تعالى : وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وقوله جلّ وعلا : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة : 10] إلى قوله تعالى : قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة : 11] شرح قوله سبحانه : وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان : 34] اه ، ولا يخلو عن نظر ، وجاء في فضلها أخبار كثيرة ،
أخرج أبو عبيد وابن الضريس من مرسل المسيب بن رافع أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «تجيء الم تنزيل - وفي رواية - الم السجدة يوم القيامة لها جناحان تظل صاحبها وتقول : لا سبيل عليه لا سبيل عليه».
وأخرج الدارمي ، والترمذي ، وابن مردويه عن طاوس قال : الم السجدة ، وتبارك الذي بيده الملك تفضلان على كل سورة في القرآن بستين حسنة ، وفي رواية عن ابن عمر تفضلان ستين درجة على غيرهما من سور القرآن.
وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن جابر قال : «كان النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك»
.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 114
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من قرأ تبارك الذي بيده الملك والم تنزيل السجدة بين المغرب والعشاء الآخرة فكأنما قام ليلة القدر».
وروى نحوه هو ، والثعلبي ، والواحدي من حديث أبي بن كعب ، والثعلبي دونهم من حديث ابن عباس ، وتعقب ذلك الشيخ ولي الدين قائلا : لم أقف عليه وهذه الروايات كلها موضوعة ، لكن رأيت في الدر المنثور أن الخرائطي أخرج في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال : ما على الأرض رجل يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلّا كتب له مثل أجر ليلة القدر ، قال : حاتم : فذكرت ذلك لعطاء فقال : صدق طاوس واللّه ما تركتهن منذ سمعت بهن إلّا أن أكون مريضا ، ولم أقف على ما قيل في هذا الخبر صحة وضعفا ووضعا ، وفيه أخبار كثيرة في فضلها غير هذا اللّه تعالى أعلم بحالها ، وكان عليه الصلاة والسلام يقرؤوها وهَلْ أَتى [الإنسان : 1] في صلاة فجر الجمعة وهو مشعر بفضلها والحديث في ذلك صحيح لا مقال فيه.
أخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجة عن أبي هريرة قال «كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان» وأخرج أبو داود ، وهؤلاء إلا البخاري نحوه عن ابن عباس.
[سورة السجده (32) : الآيات 1 إلى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم
إن جعل اسما للسورة أو القرآن فحمله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا ألم ، وقوله تعالى : تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر بعد خبر على أنه مصدر باق على معناه لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أو هو مؤول باسم المفعول أي منزل وإضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف أو بيانية بمعنى من ، وقوله سبحانه : لا رَيْبَ فِيهِ خبر ثالث ، وقوله تعالى : مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر رابع ، وجوز أن يكون الم مبتدأ وما بعده أخبار له أي المسمى بألم الكتاب المنزل لا ريب فيه كائن من رب العالمين ، وتعقب بأن ما يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالنسبة قبل فحقها الإخبار بها.
وقال أبو البقاء : الم يجوز أن يكون مبتدأ وتَنْزِيلُ بمعنى منزل خبره ولا رَيْبَ فِيهِ حال من

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 115
الْكِتابِ والعامل فيها المضاف وهي حال مؤكدة وهي حال مؤكدة ومِنْ رَبِّ متعلق بتنزيل ، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف هو حال من الضمير المجرور في فِيهِ والعامل فيها الظرف لا رَيْبَ لأنه هنا مبني وفيه ما سمعت ، وهذا التعليق يجوز أيضا على تقدير أن يكون الم خبر مبتدأ محذوف وما بعده أخبارا لذلك المحذوف ، وإن جعل الم مسرودا على نمط التعديد فلا محل له من الإعراب ، وفي إعراب ما بعد عدة أوجه ، قال البقاء : يجوز أن يكون تَنْزِيلُ مبتدأ ولا رَيْبَ فِيهِ الخبر ومِنْ رَبِّ حال كما تقدم ، ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل لأن المصدر قد أخبر عنه ، ويجوز أن يكون الخبر مِنْ رَبِّ ولا رَيْبَ حالا من الْكِتابِ وأن يكون خبرا بعد خبر انتهى.
ووجه منع التعليق بالمصدر بعد ما أخبر عنه أنه عامل ضعيف فلا يتعدى عمله لما بعد الخبر وعن التزام حديث التوسع في الظرف سعة هنا أو أن المتعلق من تمامه والاسم لا يخبر عنه قبل تمامه ، وجوز ابن عطية تعلق مِنْ رَبِّ ريب وفيه أنه بعيد عن المعنى المقصود ، وجوز الحوفي كون تَنْزِيلُ خبر مبتدأ محذوف أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب ، وقال أبو حيان : الذي أختاره أن يكون تَنْزِيلُ مبتدأ ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محل له من الإعراب ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الخبر وضمير فِيهِ راجع لمضمون الجملة أعني كونه منزلا من رب العالمين لا للتنزيل ولا للكتاب كأنه قيل : لا ريب في ذلك أي في كونه منزلا من رب العالمين وهذا ما اعتمد عليه الزمخشري وذكر أنه الوجه ويشهد لوجاهته قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ فإن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين أي فالأنسب أن يكون نفي الريب عما أنكروه وهو كونه من رب العالمين جلّ شأنه ، وقيل : أي فلا بد من أن يكون مورده حكما مقصودا بالإفادة لا قيد للحكم بنفي الريب عنه ، وفيه بحث ، وكذا قوله سبحانه : بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فإن تقرير لما قبله فيكون مثله في الشهادة ثم قال في نظم الكلام على ذلك : إنه أسلوب صحيح محكم أثبت سبحانه أولا أن تنزيله من رب العالمين وإن ذلك مما لا ريب فيه أي لا مدخل للريب في أنه تنزيل اللّه تعالى وهو أبعد شيء منه لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك أصلا عنه وهو كونه معجزا للبشر ، ثم أضرب جلّ وعلا عن ذلك إلى قوله تعالى : «أم يقولون افتراه» لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة إنكارا لقولهم وتعجيبا منه لظهور عجز بلغائهم عن مثل أقصر سورة منه فهو أما قول متعنت مكابر أو جاهل عميت منه النواظر ، ثم أضرب سبحانه عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك ، وفي الكشف أن الزمخشري بين وجاهة كون تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ ولا
رَيْبَ فِيهِ اعتراضا ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبرا بحسن موقع الاعتراض إذ ذاك حسن الإنكار على الزاعم إنه مفتري مع وجود نافي الريب ومميطه ثم إثبات ما هو المقصود وعدم الالتفات إلى شغب هؤلاء المكابرة بعد التلخيص البليغ بقوله تعالى : بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وما في إيثار لفظ الْحَقُّ وتعريفه تعريف الجنس من الحسن ويقرب عندي من هذا الوجه جعل تَنْزِيلُ مبتدأ وجملة لا رَيْبَ فِيهِ في موضع الحال من الْكِتابِ ومِنْ رَبِّ خبرا فتدبر ولا تغفل ، وزعم أبو عبيدة أن أَمْ بمعنى بل الانتقالية وقال : إن هذا خروج من حديث إلى حديث وليس بشيء.
والظاهر أن مِنْ رَبِّكَ في موضع الحال أي كائنا من ربك ، وقيل : يجوز جعله خبر ثانيا وإضافة الرب إلى العالمين أولا ثم إلى ضمير سيد المخاطبين صلى اللّه تعالى عليه وسلم ثانيا بعد ما فيه من حسن التخلص إلى إثبات النبوة وتعظيم شأنه علا شأنه فيه أنه عليه الصلاة والسلام العبد الجامع الذي جمع فيه ما فرق في العالم بالأسر ، ووروده على أسلوب الترقي دلّ على أن جمعيته صلى اللّه تعالى عليه وسلم أتم مما لكل العالم وحق له ذلك صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ بيان للمقصود من تنزيله فقيل هو متعلق بتنزيل ، وقيل :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 116
بمحذوف أي أنزله لتنذر إلخ ، وقيل : بما تعلق به مِنْ رَبِّكَ وقَوْماً مفعول أول لتنذر والمفعول الثاني محذوف أي العقاب وما نافية كما هو الظاهر ومِنْ الأولى صلة وَنَذِيرٌ فاعل أَتاهُمْ ويطلق على الرسول وهو المشهور وعلى ما يعمه والعالم الذي ينذر عنه عزّ وجلّ قيل : وهو المراد هنا كما في قوله تعالى : وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر : 24].
وجوز أن يكون النذير هاهنا مصدرا بمعنى الإنذار ومِنْ قَبْلِكَ أي من قبل إنذارك أو من قبل زمانك متعلق بأتى والجملة في موضع الصفة لقوما ، والمراد بهم قريش على ما ذهب إليه غير واحد ، قال في الكشف : الظاهر أنه لم يبعث رسول منهم قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وكانوا ملزمين بشرائع الرسل من قبل وإن كانوا مقصرين في البحث عنها لا سيما دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إن قلنا : إن دعوتي موسى ، وعيسى عليهما السلام لم تعما وهو الأظهر ، وقد تقدم لك القول بانقطاع حكم نبوة كل نبي ما عدا نبينا صلّى اللّه عليه وسلم بعد موته فلا يكلف أحد مطلقا يجيء بعده باتباعه والقول بالانقطاع إلا بالنسبة لمن كان من ذريته ، والظاهر أن قريشا كانوا ملزمين بملة ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإنهم لم يزالوا على ذلك إلى أن فشت في العرب عبادة الأصنام التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه اللّه تعالى فلم يبق منهم على الملة الحنيفية إلّا قليل بل أقل من القليل فهم داخلون في عموم قوله تعالى وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ فإنه عام للرسول وللعالم ينذر كذا قيل. واستشكل مع ما هنا ، وأجيب بأن المراد ما أتاهم نذير منهم من قبلك وإليه يشير كلام الكشف وهناك أو من غيرها أو يحمل النذير فيه على الرسول ، وفي تلك الآية على الأعم قال أبو حيان : في تفسير سورة الملائكة إن الدعاء إلى اللّه تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلم والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم وآباءهم الأقربين قربين وإما أن النذارة انقطعت فلا نعم لما شرعت آثارها تندرس بعث محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم.
وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات فإن ذلك على حسب الفرض لا أنه واقع فلا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى اللّه عزّ وجلّ وعبادته انتهى.
وفي القلب منه شيء ، ومقتضاه أن المنفي هاهنا إتيان نذير مباشر أي نبي من الأنبياء عليهم السلام قريشا الذين كانوا في عصره عليه الصلاة والسلام قبله صلّى اللّه عليه وسلم وأنه كان فيهم من ينذرهم ويدعوهم إلى عبادة اللّه تعالى وحده بالنقل أي عن نبي كان يدعو إلى ذلك ، والأول مما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان بل لا ينبغي أن يتوقف فيه إنسان ، والثاني مظنون التحقق في زيد بن عمرو بن نفيل العدوي والد سعيد أحد العشرة فإنه عاصر النبي صلّى اللّه عليه وسلم واجتمع وآمن به قبل بعثته عليه والصلاة السلام ولم يدركها إذ قد مات وقريش تبني الكعبة وكان ذلك قبل البعثة بخمس سنين ، وكان على ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، فقد صح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري ، وفي بعض طرق الخبر عنه أيضا بزيادة ، وكان يقول : اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته ، وذكر موسى بن عقبة في المغازي سمعت من أرضي يحدث أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبحهم لغير اللّه تعالى وصح أنه لم يأكل من ذبائح المشركين التي أهل بها لغير اللّه ، وأخرج الطيالسي في مسنده عن ابنه سعيد أنه قال : قلت للنبي صلّى اللّه عليه وسلم : إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك أفأستغفر له : قال ، نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده
ولا يبعد ممن كان هذا شأنه الإنذار والدعوة إلى عبادة اللّه تعالى بل من أنصف يرى تضمن كلامه الذي حكته أسماء وإنكاره على قريش الذبح لغير اللّه تعالى الذي ذكره الطيالسي الدعوة إلى دين إبراهيم عليه السلام وعبادة اللّه سبحانه وحده ، وكذا تضمن كلامه النقل أيضا ، ويعلم مما نقلناه أن الرجل رضي اللّه تعالى عنه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 117
لم يكن نبيا وهو ظاهر ، وزعم بعضهم أنه كان نبيا ، واستدل على ذلك بأنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول : هلموا إلى فإنه لم يبق على دين الخليل غيري وصحة ذلك ممنوعة ، وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على المقصود كما لا يخفى على من له أدنى ذوق ، ومثل زيد رضي اللّه تعالى عنه قس بن ساعدة الإيادي فإنه رضي اللّه تعالى عنه كان مؤمنا باللّه عزّ وجلّ داعيا إلى عبادته سبحانه وحده وعاصر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ومات قبل البعثة على الملة الحنيفية وكان من المعمرين ، ذكر السجستاني أنه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة ، وقال المرزباني : ذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة وذكروا في شأنه أخبارا كثيرة لكن قال الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة قد أفرد بعض الرواة طريق قس وفيه شعره وخطبته هو في الطوالات للطبراني وغيرها وطرقه كلها ضعيفة وعد منها ما عد فليراجع ، ثم إن الإشكال إنما يتوهم لو أريد بقريش جميع أولاد قصي أو فهر أو النضر أو الياس أو مضر أما إذا أريد من كان منهم حين بعث صلّى اللّه عليه وسلم فلا كما لا يخفى على المتأمل فتأمل ، وقيل : المراد بهم العرب قريش وغيرهم ولم يأت المعاصرين منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نذير من الأنبياء عليهم السلام غيره صلّى اللّه عليه وسلم وكان فيهم من ينذر ويدعو إلى التوحيد وعبادة اللّه تعالى وحده وليس بنبي على ما سمعت آنفا ، وأما العرب غير المعاصرين فلم يأتهم من عهد إسماعيل عليه السلام نبي منهم بل لم يرسل إليهم نبي مطلقا ، وموسى.
وعيسى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا إليهم على الأظهر ، وخالد بن سنان العبسي عند الأكثرين ليس بنبي ، وخبر ورود بنت له عجوز على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم لها : مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه ونحوه من الأخبار مما للحفاظ فيه مقال لا يصلح معه للاستدلال ، وفي شروح الشفاء والإصابة للحافظ ابن حجر بعض الكلام في ذلك ، وقيل : المراد بهم أهل الفترة من العرب وغيرهم حتى أهل الكتاب ، والمعنى ما أتاهم نذير من قبلك بعد الضلال الذي حدث فيهم.
هذا وكأني بك تحمل النذير هنا على الرسول الذي ينذر عن اللّه عزّ وجلّ وكذا في قوله تعالى : وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ليوافق قوله تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل : 36] وأظن أنك تجعل التنوين في أمة للتعظيم أي وأن من أمة جليلة معتنى بأمرها إلّا خلا فيها نذير ولقد بعثنا في كل أمة جليلة معتنى بأمرها رسولا أو تعتبر العرب أمة وبني إسرائيل أمة ونحو ذلك أمة دون أهل عصر واحد وتحمل من لم يأتهم نذير على جماعة من أمة لم يأتهم بخصوصهم نذير ، ومما يستأنس به في ذلك أنه حين ينفي إتيان النذير ينفي عن قوم ونحوه لا عن أمة فليتأمل ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في هذا المقام ، وجوز كون ما موصولة وقعت مفعولا ثانيا لتنذر ومِنْ نَذِيرٍ عليه متعلق بأتاهم أي لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك أي على لسان نذير من قبلك واختاره أبو حيان ، وعليه لا مجال لتوهم الإشكال لكن لا يخفى أنه خلاف المتبادر الذي عليه أكثر المفسرين ، والاقتصار على الإنذار في بيان الحكمة لأنه الذي يقتضيه قولهم : افْتَراهُ دون التبشير لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لأجل أن يهتدوا بإنذارك إياهم أو راجيا لاهتدائهم ، وجعل الترجي مستعارا للإرادة منسوبا إليه عزّ وجلّ نزغة اعتزالية :
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مرّ بيانه فيما سلف على مذهبي السلف والخلف ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي ما لكم مجاوزين اللّه عزّ وجلّ أي رضاه سبحانه وطاعته تعالى ولي ولا شفيع أي لا ينفعكم هذان من الخلق عنده سبحانه دون رضاه جل جلاله - فمن دونه - حال من مجرور لَكُمْ والعامل الجار أو متعلقه ، وعلى هذا المعنى لا دليل في الخطاب على أنه تعالى شفيع دون غيره ليقال : كيف ذاك وتعالى جل شأنه أن يكون شفيعا ، وكفى في ذلك رده صلّى اللّه عليه وسلم على الأعرابي حيث
قال : إنا نستشفع باللّه تعالى إليك
، وقد يقال : الممتنع اطلاق الشفيع عليه تعالى بمعناه الحقيقي وأما إطلاقه عليه سبحانه بمعنى الناصر مجازا فليس بممتنع ، ويجوز أن يعتبر ذلك هنا وحينئذ يجوز أن يكون مِنْ دُونِهِ حالا مما بعد قدم عليه لأنه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 118
نكرة ودون بمعنى غير ، والمعنى ما لكم ولي ولا ناصر غير اللّه تعالى ، ويجوز أن يكون حالا من المجرور كما في الوجه السابق ، والمعنى ما لكم إذا جاوزتم ولايته ونصرته جل وعلا ولي ولا ناصر ، ويظهر لي أن التعبير بالشفيع هنا من قبيل المشاكلة التقديرية لما أن المشركين المنذرين كثيرا ما كانوا يقولون في آلهتهم هؤلاء شفعاؤنا ويزعمون أن كل واحد منها شفيع لهم أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أي ألا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها ، فالإنكار على الأول متوجه إلى عدم السماع وعدم التذكر معا ، وعلى الثاني إلى عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قيل : أي أمر الدنيا وشؤونها ، وأصل التدبير النظر في دابر الأمر والتفكر فيه ليجيء محمود العاقبة وهو في حقه عزّ وجلّ مجاز عن إرادة الشيء على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة والفعل مضمن معنى الإنزال والجار أن في قوله تعالى : مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ متعلقان به ومن ابتدائية وإلى انتهائية أي يريده تعالى على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة منزلا له من السماء إلى الأرض ، وإنزاله من السماء باعتبار أسبابه فإن أسبابه سماوية من الملائكة عليهم السلام وغيرهم ثُمَّ يَعْرُجُ أي يصعد ويرتفع ذلك الأمر بعد تدبيره إِلَيْهِ عزّ وجلّ وهذا العروج مجاز عن ثبوته في علمه تعالى أي تعلق علمه سبحانه به تعلقا تنجيزيا بأن يعمله جلّ وعلا موجودا بالفعل أو عن كتابته في صحف الملائكة عليهم السلام القائمين بأمره عزّ وجلّ موجودا كذلك فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي في برهة متطاولة من الزمان فليس المراد حقيقة العدد ، وعبر عن المدة المتطاولة بالألف لأنها منتهى المراتب وأقصى الغايات وليس مرتبة فوقها إلا ما يتفرع منها من أعداد مراتبها ، والفعلان متنازعان في الجار والمجرور وقد أعمل الثاني منهما فيه فتفيد الآية طول امتداد الزمان بين تعلق إرادته سبحانه بوجود الحوادث في أوقاتها متقنة مراعي فيها الحكمة وبين وجودها كذلك ، وظاهرها يقتضي أن وجودها لا يتوقف على تعلق الإرادة مرة أخرى بل يكفي فيه التعلق السابق وقيل : فِي يَوْمٍ متعلق بيعرج وليس الفعلان متنازعين فيه ، والمراد بعروج الأمر إليه بعد تدبيره سبحانه إياه وصول خبر وجوده بالفعل كما دبر جل وعلا بواسطة الملك وعرضه ذلك في حصرة قد أعدها سبحانه للاختبار بما هو جلّ جلاله أعلم به اظهار الكمال عظمته تبارك وتعالى وعظيم سلطنته جلت سلطنته وهذا كعرض الملائكة عليهم السلام أعمال العباد الوارد في الأخبار ، وألف سنة على حقيقتها وهي مسافة ما بين الأرض ومحدب السماء الدنيا بالسير المعهود للبشر فإن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام وثخن السماء كذلك كما جاء في الأخبار الصحيحة والملك يقطع ذلك في زمان يسير فالكلام على التشبيه فكأنه قيل : يريد تعالى الأمر متقنا مراعي فيه الحكمة بأسباب سماوية نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض فيكون كما أراد سبحانه فيعرج ذلك الأمر مع الملك ويرتفع خبره إلى حضرته سبحانه في زمان هو كألف سنة مما تعدون ، وقيل : العروج إليه تعالى صعود خبر الأمر مع الملك إليه عزّ وجلّ كما هو مروي عن ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك والفعلان متنازعان في يَوْمٍ والمراد أنه زمان تدبير الأمر لو دبره البشر وزمان العروج لو كان منهم أيضا وإلا فزمان التدبير والعروج يسير ، وقيل : المعنى يدبر أمر الدنيا بإظهاره في اللوح المحفوظ فينزل الملك الموكل به من السماء إلى الأرض ثم يرجع الملك أو الأمر مع الملك إليه تعالى في زمان هو نظر للنزول والعروج كألف سنة مما تعدون ، وأريد به مقدار ما بين الأرض ومقعر سماء الدنيا ذهابا وإيابا ، والظاهر أن يُدَبِّرُ عليه مضمن معنى الإنزال ، والجاران متعلقان به لا بفعل محذوف أي فينزل به الملك من السماء إلى الأرض كما قيل ، وزعم بعضهم أن ضمير إِلَيْهِ للسماء وهي قد تذكر كما في قوله تعالى : السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل : 18] وقيل : المعنى يدبر سبحانه أمر الدنيا كلها من السماء

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 119
الى الأرض لكل يوم من أيام الرب جلّ شأنه وهو ألف سنة كما قال سبحانه : وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج : 47] ثم يصير إليه تعالى ويثبت عنده عزّ وجلّ ويكتب في صحف ملائكته جلّ وعلا كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ثم يدبر أيضا ليوم آخر وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة ، ويشير إلى هذا ما روي عن مجاهد قال : إنه تعالى يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من سنينا وهو اليوم عنده تعالى فإذا فرغت ألقي إليهم مثلها ، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال منه ولا تضمين في يُدَبِّرُ والعروج إليه تعالى مجاز عن ثبوته وكتبه في صحف الملائكة وأَلْفَ سَنَةٍ على ظاهره وفِي يَوْمٍ يتعلق بالفعلين واعمل الثاني كأنه
قيل : يدبر الأمر ليوم مقداره كذا ثم يعرج إليه تعالى فيه كما تقول : قصدت ونظرت في الكتاب أي قصدت إلى الكتاب ونظرت فيه ، ولا يمنع اختلاف الصلتين من التنازع ، وتكرار التدبير إلى يوم القيامة يدل عليه العدول إلى المضارع مع أن الأمر ماض كأنه قيل : يجدد هذا الأمر مستمرا وقيل : المعنى يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ثم يعرج إليه تعالى ذلك الأمر كله أي يصير إليه سبحانه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة ، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال له كما في سابقه ، والعروج إليه تعالى الصيرورة إليه سبحانه لا ليثبت في صحف الملائكة بل ليحكم جلّ وعلا فيه.
وفِي يَوْمٍ متعلق بالعروج ولا تنازع ، والمراد بيوم مقداره كذا يوم القيامة ، ولا ينافي هذا قوله تعالى : كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج : 4] بناء على أحد الوجهين فيه لتفاوت الاستطالة على حسب الشدة أو لأن ثم خمسين موطنا كل موطن ألف سنة ، وقيل : المعنى ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض ثم يرجع إليه تعالى ما كان من قبوله أو رده مع جبريل عليه السلام في يوم مقدار مسافة السير فيه ألف سنة وهو ما بين السماء والأرض هبوطا وصعودا ، فالأمر عليه مراد به الوحي كما في قوله تعالى : يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ [غافر : 15] والعروج إليه تعالى عبارة عن خبر القبول والرد مع عروج جبريل عليه السلام والتدبير والعروج في اليوم لكن على التوسع والتوزيع فالفعلان متنازعان في الظرف ولكن لا اختلاف في الصلة ولا تنافي الآية على هذا قوله تعالى شأنه : تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ بناء على الوجه الآخر فيه وستعرفهما إن شاء اللّه تعالى لأن العروج فيه إلى العرش وفيها إلى السماء الدنيا وكلاهما عروج إلى اللّه تعالى على التجوز.
وقيل : المراد بالأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحات ، والمعنى ينزل سبحانه ذلك مدبرا من السماء إلى الأرض ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه تعالى ذلك المأمور به خالصا يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة الخلص من العباد وعليه يُدَبِّرُ مضمن معنى الإنزال ومن وإلى متعلقان به ، ومعنى العروج الصعود كما في قوله تعالى : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر : 10] والغرض من الألف استطالة المدة ، والمعنى استقلال عبادة الخلص واستطالة مدة ما بين التدبير والوقوع ، وثُمَّ للاستبعاد ، واستدل لهذا المعنى بقوله تعالى إثر ذلك : قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [الأعراف : 10 ، المؤمنون : 78 ، السجدة : 9] لأن الكلام بعضه مربوط بالبعض وقلة الشكر مع وجود تلك الإنعامات دالة على الاستقلال المذكور.
وقيل : المعنى يدبر أمور الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض وزمان طلوعها إلى أن تغرب وترجع إلى موضعها من الطلوع مقداره في المسافة ألف سنة وهي تقطع ذلك في يوم وليلة. هذا ما قالوه في الآية الكريمة في بيان المراد منها ، ولا يخفى على ذي لب تكلف أكثر هذه الأقوال

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 120
ومخالفته للظاهر جدا وهي بين يديك فاختر لنفسك ما يحلو ، ويظهر لي أن المراد بالسماء جهة العلو مثلها في قوله تعالى : أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك : 16] وبعروج الأمر إليه تعالى صعود خبره كما سمعت عن الجماعة وفِي يَوْمٍ متعلق بالعروج بلا تنازع ، وأقول : إن الآية من المتشابه وأعتقد أن اللّه تعالى يدبر أمور الدنيا وشؤونها ويريدها متقنة وهو سبحانه مستو على عرشه وذلك هو التدبير من جهة العلو ثم يصعد خبر ذلك مع الملك إليه عزّ وجلّ إظهارا لمزيد عظمته جلت عظمته وعظيم سلطنته عظمت سلطنته إلى حكم هو جلّ وعلا أعلم بها وكل ذلك بمعنى لائق به تعالى مجامع للتنزيه مباين للتشبيه حسبما يقوله السلف في أمثاله ، وقول بعضهم : العرش موضع التدبير وما دونه موضع التفصيل وما دون السماوات موضع التصريف فيه رائحة ما مما ذكرنا ، وأما تقدير يوم العروج هنا بألف سنة وفي آية أخرى بخمسين ألف سنة فقد كثر الكلام في توجيهه وقد تقدم لك بعض منه.
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم وصححه عن عبد اللّه بن أبي مليكة قال : دخلت على ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنا وعبد اللّه بن فيروز مولى عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه فسأله عن قوله تعالى : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ فكأن ابن عباس اتهمه فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال : إنما سألتك لتخبرني فقال رضي اللّه تعالى عنه : هما يومان ذكرهما اللّه تعالى في كتابه اللّه تعالى أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب اللّه ما لا أعلم فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب فسأله عنهما إنسان فلم يخبر ولم يدر فقلت : ألا أخبرك بما سمعت من ابن عباس؟ قال : بلى أخبرته فقال للسائل : هذا ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أبى أن يقول فيهما وهو أعلم مني.
وبعض المتصوفة يسمون اليوم المقدر بألف سنة باليوم الربوبي واليوم المقدر بخمسين ألف سنة باليوم الإلهي ، ومحيي الدين قدس سره يسمى الأول يوم الرب والثاني يوم المعارج ، وقد ذكر ذلك وأياما أخر كيوم الشأن ويوم المثل ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل وأيام سائر السيارة ويوم الحمل وأيام سائر البروج في الفتوحات. وقد سألت رئيس الطائفة الكشفية الحادثة في عصرنا في كربلاء عن مسألة فكتب في جوابها ما كتب واستطرد بيان إطلاقات اليوم وعد من ذلك أربعة وستين إطلاقا ، منها إطلاقه على اليوم الربوبي وإطلاقه على اليوم الإلهي وأطال الكلام في ذلك المقام ، ولعلنا إن شاء اللّه تعالى ننقل لك منه شيئا معتدا به في موضع آخر ، وسنذكر إن شاء اللّه تعالى أيضا تمام الكلام فيما يتعلق بالجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج : 4] وقوله تعالى : مِمَّا تَعُدُّونَ صفة أَلْفَ أو صفة سَنَةٍ.
وقرأ ابن أبي عبلة «يعرج» بالبناء للمفعول والأصل يعرج به فحذف الجار واستتر الضمير. وقرأ جناح بن حبيش «ثم يعرج الملائكة» إليه بزيادة الملائكة قال أبو حيان : ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف.
وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، والأعمش والحسن بخلاف عنه «يعدون» بياء الغيبة ذلِكَ أي الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية للقدرة التامة والحكمة العامة عالِمُ الْغَيْبِ أي كل ما غاب عن الخلق وَالشَّهادَةِ أي كل ما شاهده الخلق فيدبر سبحانه ذلك على وفق الحكمة ، وقيل : الغيب الآخرة والشهادة الدنيا الْعَزِيزُ الغالب على أمره الرَّحِيمُ للعباد ، وفيه إيماء بأنه عزّ وجلّ متفضل فيما يفعل جلّ وعلا ، واسم الإشارة مبدأ والأوصاف الثلاثة بعده أخبار له ، ويجوز أن يكون الأول خبرا والأخيران نعتان للأول.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما بخفض الأوصاف الثلاثة على أن ذلك إشارة إلى الأمر مرفوع المحلى

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 121
على أنه فاعل يَعْرُجُ والأوصاف مجرورة على البدلية من ضمير إِلَيْهِ وقرأ أبو زيد النحوي بخفض الوصفين الأخيرين على أن ذلِكَ إشارة إلى اللّه تعالى مرفوع المحل على الابتداء وعالِمُ خبره والوصفان مجروران على البدلية من الضمير ، وقوله تعالى : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خبر رابع أو نعت ثالث أو نصب على المدح ، وجوز أبو البقاء كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي ، وكون الْعَزِيزُ مبتدأ والرَّحِيمُ صفته وهذا خبره وجملة خَلَقَهُ في محل جر صفة شَيْءٍ ويجوز أن تكون في محل نصب صفة كُلَّ واحتمال الاستئناف بعيد أي حسن سبحانه كل مخلوق من مخلوقاته لأنه ما من شيء منها إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة واستدعته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت في مراتب الحسن كما يشير إليه قوله تعالى :
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين : 4] ونفى التفاوت في خلقه تعالى في قوله سبحانه : ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك : 3] على معنى ستعرفه إن شاء اللّه تعالى غير مناف لما ذكر ، وجوز أن يكون المعنى علم كيف يخلقه من قوله ، قيمة المرء ما يحسن وحقيقته يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإيقان ، ولا يخفى بعده.
وقرأ العربيان ، وابن كثير «خلقه» بسكون اللام فقيل : هو بدل اشتمال من كُلَّ والضمير المضاف إليه له وهو باق على المعنى المصدري ، وقيل : هو بدل كل من كل أو بدل بعض من كل والضمير للّه تعالى وهو بمعنى المخلوق ، وقيل : هو مفعول ثان لأحسن على تضمينه معنى أعطى أي أعطى سبحانه كل شيء خلقه اللائق به بطريق الإحسان والتفضل ، وقيل : هو المفعول الأول وكُلَّ شَيْءٍ المفعول الثاني وضميره للّه سبحانه على تضمين الإحسان معنى الإلهام كما قال الفراء أو التعريف كما قال أبو البقاء ، والمعنى أللهم أو عرف خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه فيؤول إلى معنى قوله تعالى : أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه : 50].
واختار أبو علي في الحجة ما ذكره سيبويه في الكتاب أنه مفعول مطلق لأحسن من معناه والضمير للّه تعالى نحو قوله تعالى : صُنْعَ اللَّهِ [النمل : 88] ووَعْدَ اللَّهِ [النساء : 122 وغيرها] وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ أي آدم عليه السلام مِنْ طِينٍ أو بدأ خلق هذا الجنس المعروف مِنْ طِينٍ حيث بدأ خلق آدم عليه السلام خلقا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا منه ، وقرأ الزهري «بدا» بالألف بدلا من الهمزة قال في البحر :
وليس القياس في هدأ هدا بإبدال الهمزة ألفا بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين على أن الأخفش حكى في قرأت قريت قيل : وهي لغة الأنصار فهم يقولون في بدأ بدي بكسر عين الكلمة وياء بعدها ، وطيىء يقولون في فعل هذا نحو بقي بقي كرمي فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة بأن يكون الأصل بدى ثم صار بدا ، وعلى لغة الأنصار قال ابن رواحة :
باسم الإله وبه بدينا ولو عبدنا غيره شقينا
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته سميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه مِنْ سُلالَةٍ أي خلاصة وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن لا يعتنى به وهو المني ثُمَّ سَوَّاهُ عدله بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي ، وأصل التسوية جعل الأجزاء متساوية ، وثُمَّ للترتيب الرتبي أو الذكري وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أضاف الروح إليه تعالى تشريفا له كما في بيت اللّه تعالى وناقة اللّه تعالى وإشعارا بأنه خلق عجيب وصنع بديع ، وقيل : إضافة لذلك إيماء إلى أن له شأنا له مناسبة ما إلى حضرة الربوبية.
ومن هنا قال أبو بكر الرازي : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، ونفخ الروح قيل : مجاز عن جعلها متعلقة بالبدن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 122
وهو أوفق بمذهب القائلين بتجرد الروح وأنها غير داخلة في البدن من الفلاسفة وبعض المتكلمين كحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة ، وقيل : هو على حقيقته والمباشر له الملك الموكل على الرحم وإليه ذهب القائلون بأن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر ، وهو الذي تشهد له ظواهر الأخبار وأقام العلامة ابن القيم عليه نحو مائة دليل.
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ التفات إلى الخطاب لا يخفى موقع ذكره بعد نفخ الروح وتشريفه بخلعة الخطاب حين صلح للخطاب والجعل ابداعي واللام متعلقة به ، والتقدم على المفعول الصريح لما مرّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم ، وتقديم السمع لكثرة فوائده فإن أكثر أمور الدين لا تعلم إلّا من جهته وأفرد لأنه في الأصل مصدر.
وقيل : للإيماء إلى أن مدركه نوع واحد وهو الصوت بخلاف البصر فإنه يدرك الضوء واللون والشكل والحركة والسكون وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك مدركات الحواس بواسطتها وزيادة على ذلك أي خلق لمنفعتكم تلك المشاعر لتعرفوا أنها مع كونها في أنفسها نعما جليلة لا يقادر قدرها وسائل إلى التمتع بسائر النعم الدينية والدنيوية الفائضة عليكم وتشكروها بأن تصرفوا كلا منها إلى ما خلق هو له فتدركوا بسمعكم الآيات التنزيلية الناطقة بالتوحيد والبعث وبأبصاركم الآيات التكوينية الشاهدة بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيتهما ، وقوله تعالى : قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الاعتراض التذييلي والقلة بمعنى النفي كما ينبىء عنه ما بعده.
ونصب الوصف على أنه صفة لمحذوف وقع معمولا لتشكرون أي شكرا قليلا تشكرون أو زمانا قليلا تشكرون.
واستظهر الخفاجي عليه الرحمة كون الجملة حالية لا اعتراضية
[سورة السجده (32) : الآيات 10 إلى 30]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 123
وَقالُوا كلام مستأنف مسوق لبيان أباطيلهم بطريق الالتفات إيذانا بأن ما ذكر من عدم شكرهم تلك النعم موجب للاعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة ، وروي أن القائل أبي بن خلف فضمير الجمع لرضا الباقين بقوله أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي ضعنا فيه بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميز منه فهو من ضل المتاع إذا ضاع أو غبنا فيها بالدفن وإن لم نصر ترابا وإليه ذهب قطرب ، وأنشد قول النابغة يرثي النعمان بن المنذر :
وآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن محيصن ، وأبو رجاء ، وطلحة ، وابن وثاب «ضللنا» بكسر اللام ويقال : ضل يضل كضرب يضرب وضل يضل كعلم يعلم وهما بمعنى والأول اللغة المشهورة الفصيحة وهي لغة نجد والثاني لغة أهل العالية. وقرأ أبو حيوة
ضللنا بضم الضاد المعجمة وكسر اللام ورويت عن علي كرم اللّه تعالى وجهه.
وقرأ الحسن ، والأعمش ، وأبان بن سعيد بن العاصي
«صللنا» بالصاد المهملة وفتح اللام ونسبت إلى علي كرم اللّه تعالى وجهه
وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وعن الحسن أنه كسر اللام ويقال فيه نحو ما يقال في ضل بالضاد المعجمة وزيادة أصل بالهمزة كافعل ، قال الفراء : والمعنى صرنا بين الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة كأنها من الصليل لأن اليابس الصلب إذا انشق يكون له صليل. وقيل : أنتنا من الصلة وهو النتن ، وقيل للأرض الصلة لأنها است الدنيا وتقول العرب ضع الصلة على الصلة ، وقال النحاس لا نعرف في اللغة صللنا ولكن يقال أصل اللحم وصل وأخم وخم إذا نتن وهذا غريب منه. وقرأ ابن عامر «إذا» بترك الاستفهام والمراد الإخبار على سبيل الاستهزاء والتهكم والعامل في «إذا» ما دلّ عليه قوله تعالى : إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو يجدد خلقنا ، ولا يصح أن يكون هو العامل لمكان الاستفهام وإن وكل منهما لا يعمل ما بعده فيما قبله ويعتبر ما ذكر من نبعث أو يجدد خلقنا جوابا لإذا إذا اعتبرت شرطية لا ظرفية محضة والهمزة للإنكار والمراد تأكيد الإنكار لا إنكار التأكيد كما هو المتبادر من تقديمها على أداته فإنها مؤخرة عنها في الاعتبار وتقديمها عليها لقوة اقتضائها الصدارة.
وقرأ نافع ، والكسائي ، ويعقوب «إنا» بترك الاستفهام على نحو ما ذكر آنفا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ إضراب وانتقال عن بيان كفرهم بالبعث إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه وهو كفرهم بلقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده جميعا ، وقيل : هو إضراب وترق من التردّد في البعث واستبعاده إلى الجزم بجحده بناء على أن لقاء الرب كناية عن البعث ، ولا يضر فيه على ما يقال الخفاجي كون الاستفهام السابق إنكاريا وهو يؤول إلى الجحد فتأمل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 124
قُلْ ردا عليهم يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئا من أجزائها أو لا يترك شيئا من جزئياتها ولا يبقي أحدا منكم ، وأصل التوفي أخذ الشيء بتمامه ، وفسر بالاستيفاء لأن التفعل والاستفعال يلتقيان كثيرا كتقضيته واستقضيته وتعجلته واستعجلته ، ونسبة التوفي إلى ملك الموت باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام يباشر قبض الأنفس بأمره عزّ وجلّ كما يشير إلى قوله سبحانه : الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي بقبض أنفسكم ومعرفة انتهاء آجالكم.
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما قال : دخل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عليه السلام عند رأسه فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال : أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق واعلم يا محمد أني لأقبض روح ابن آدم فيصرح أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول واللّه ما لي من ذنب وإن لي لعودة وعودة الحذر الحذر وما خلق اللّه تعالى من أهل بيت ولا مدر ولا شعر ولا وبر في بر ولا بحر إلّا وأنا أتصفحهم فيه كل يوم وليلة خمس مرات حتى أني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم واللّه يا محمد إني لا أقدر أقبض روح بعوضة حتى يكون اللّه تبارك وتعالى الذي يأمر بقبضه ، وأخرج نحوه الطبراني ، وأبو نعيم ، وابن منده
ونسبته إليه عزّ وجلّ في قوله سبحانه : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر : 42] باعتبار أن أفعال العباد كلها مخلوطة له جلّ وعلا لا مدخل للعباد فيها بسوى الكسب كما يقوله الأشاعرة أو باعتبار أن ذلك بإذنه تعالى ومشيئته جلّ شأنه ونسبته إلى الرسل في قوله تعالى : تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام : 61] وإلى الملائكة في قوله سبحانه : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النحل : 28] لما أن ملك الموت لا يستقل به بل له أعوان كما جاء في الآثار يعالجون نزع الروح حتى إذا قرب خروجها قبضها ملك الموت ، وقيل : المراد بملك الموت الجنس ، وقال بعضهم : إن بعض الناس يتوفاهم ملك الموت وبعضهم يتوفاهم اللّه عزّ وجلّ بنفسه ،
أخرج ابن ماجة عن أبي أمامة قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : يقول إن اللّه تعالى وكل ملك الموت عليه السلام بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم».
وجاء ذلك أيضا في خبر آخر يفيد أن ملك الموت للأنس غير ملك الموت للجن والشياطين وما لا يعقل.
أخرج ابن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : وكل ملك الموت عليه السلام بقبض أرواح المؤمنين فهو الذي يلي قبض أرواحهم وملك في الجن وملك في الشياطين وملك في الطير والوحش والسباع والحيتان والنمل فهم أربعة أملاك والملائكة يموتون في الصعقة الأولى وأن ملك الموت يلي قبض أرواحهم ثم يموت وأما الشهداء في البحر فإن اللّه تعالى يلي قبض أرواحهم لا يكل ذلك إلى ملك الموت بكرامتهم عليه سبحانه.
والذي ذهب إليه الجمهور أن ملك الموت لمن يعقل وما لا يعقل من الحيوان واحد وهو عزرائيل ومعناه عبد اللّه فيما قيل نعم له أعوان كما ذكرنا ، وخبر الضحاك عن ابن عباس اللّه تعالى أعلم بصحته ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ بالبعث للحساب والجزاء. ومناسبة هذه الآية لما قبلها على ما ذكرنا في توجيه الإضراب ظاهرة لأنهم لما جحدوا لقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده ذكر لهم حديث توفى ملك الموت إياهم إيماء إلى أنهم سيلاقونه وحديث الرجوع إلى اللّه تعالى بالبعث للحساب والجزاء ، وأما على ما قيل فوجه المناسبة أنهم لما أنكر والبعث والمعاد رد عليهم بما ذكر لتضمن قوله تعالى : ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ البعث وزيادة ذكر توفي ملك الموت إياهم وكونه موكلا بهم لتوقف البعث على وفاتهم ولتهديدهم وتخويفهم وللإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء ، وقيل : إن ذلك لرد ما يشعر به كلامهم من أن الموت بمقتضى الطبيعة حيث أسندوه إلى أنفسهم في قولهم : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ فليس عندهم بفعل اللّه تعالى ومباشرة ملائكته ، ولا يخفى بعده. وأبعد منه ما قيل في المناسبة :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 125
إن عزرائيل وهو عبد من عبيده تعالى إذا قدر على تخليص الروح من البدن مع سريانها فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر فكيف لا يقدر خالق القوى والقدر جل شأنه على تمييز أجزائهم المختلطة بالتراب وكيف يستبعد البعث مع القدرة الكاملة له عزّ وجلّ لما أن ذلك السريان مما خفي على العقلاء حتى أنكره بعضهم فكيف بجهلة المشركين فتأمل. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «ترجعون» بالبناء للفاعل وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ وهم القائلون : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أو جنس المجرمين وهو من حملتهم ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ مطرقوها من الحياء والخزي عِنْدَ رَبِّهِمْ حين حسابهم لم يظهر من قبائحهم التي اقترفوها في الدنيا.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «نكسوا رؤوسهم» فعلا ماضيا ومفعولا رَبَّنا بتقدير القول الواقع حالا والعامل فيه ناكِسُوا أي يقولون ربنا إلخ وهو أولى من تقدير يستغيثون بقولهم : ربنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والآيات المسموعة وكنا من قبل عميا صما لا ندرك شيئا فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً حسبما تقتضيه تلك الآيات وهذا على ما قيل ادعاء منهم لصحة مشعري البصر والسمع ، وقوله تعالى : إِنَّا مُوقِنُونَ استئناف لتعليل ما قبله ، وقيل : استئناف لم يقصد به التعليل ، وعلى التقديرين هو متضمن لادعائهم صحة الأفئدة والاقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بما يوجبها ، وفيه من إظهار الثبات على الإيقان وكمال رغبتهم فيه ما فيه ، وكأنه لذلك لم يقولوا : أبصرنا وسمعنا وأيقنا فارجعنا إلخ ، ولعل تأخير السمع لأن أكثر العمل الصالح الموعود يترتب عليه دون البصر فكان عدم الفصل بينهما بالبصر أولى ، ويجوز أن يقدر لكل من الفعلين مفعول مناسب له مما يبصرونه ويسمعونه بأن يقال : أبصرنا البعث الذي كنا ننكره وما وعدتنا به على إنكاره وسمعنا منك ما يدل على تصديق رسلك عليهم السلام ويراد به نحو قوله تعالى : ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
[الأنعام : 130] لا الإخبار الصريح بلفظ أن رسلي صادقون مثلا أو يقال أبصرنا البعث وما وعدتنا به وسمعنا قول الرسل أي سمعناه سمع طاعة وإذعان أو يقال : أبصرنا قبح أعمالنا التي كنا نراها في الدنيا حسنة وسمعنا قول الملائكة لنا إن مردكم إلى النار ، وقيل : أرادوا أبصرنا رسلك وسمعنا كلامهم حين كنا في الدنيا أو أبصرنا آياتك التكوينية وسمعنا آياتك التنزيلية في الدنيا فلك الحجة علينا وليس لنا حجة فارجعنا إلخ ، ولا يخفى حال هذا القيل ، وعلى سائر هذه التقادير وجه تقديم الأبصار على السماع ظاهر ، و«لو» هي التي سماها غير واحد امتناعية وجوابها محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا لا يقادر قدره.
والخطاب في «ترى» لكل أحد ممن يصح منه الرؤية إذ المراد بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها واستفظاعها براء دون راء ممن اعتاد مشاهدة الأمور البديعة والدواهي الفظيعة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعته ، وقيل : لأن القصد إلى بيان أن حالهم قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها البتة فلا يختص برؤيتها راء دون راء ، والجواب المقدر أوفق بما ذكر أولا ، والفعل منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول أي لو تكن منك رؤية في ذلك الوقت لرأيت أمرا فظيعا ، وجوز أن يكون الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلم ولَوْ للتمني كأنه قيل : ليتك ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم لتشمت بهم ، وحكم التمني منه تعالى حكم الترجي وقد تقدم ، ولا جواب لها حينئذ عند الجمهور ، وقال أبو حيان ، وابن مالك : لا بد لها من الجواب استدلالا بقول مهلهل في حرب البسوس :
فلو نبش المقابر عن كليب فيخبر بالذنائب أي زير
بيوم الشعثمين لقر عينا وكيف لقاء من تحت القبور

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 126
فإن لو فيه للتمني بدليل نصب فيخبر وله جواب وهو قوله لقر ، ورد بأنها شرطية ويخبر عطف على مصدر متصيد من نبش كأنه قيل : لو حصل نبش فأخبار ، ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وقال الخفاجي عليه الرحمة : لو قيل :
إنها لتقدير التمني معها كثيرا أعطيت حكمه واستغنى عن تقدير الجواب فيها إذا لم يذكر كما في الوصلية ونصب جوابها كان أسهل مما ذكر ، وجوز أن يقدر لترى مفعول دلّ عليه ما بعد أي لو ترى المجرمين أو لو ترى نكسهم رؤوسهم والمضي في لو الامتناعية وإذ لأن أخباره تعالى عما تحقق في علمه الأزلي لتحققه بمنزلة الماضي فيستعمل فيه ما دلّ على المضي مجازا كلو وإذ ، هذا ومن الغريب قول أبي العباس في الآية : المعنى قل يا محمد للمجرم ولو ترى وقد حكاه عنه أبو حيان ثم قال : رأى أن الجملة معطوفة على يَتَوَفَّاكُمْ داخلة تحت قُلْ السابق ولذا لم يجعل الخطاب فيه للرسول عليه الصلاة والسلام انتهى كلامه فلا تغفل.
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها مقدر بقول معطوف على مقدر قبل قوله تعالى : رَبَّنا أَبْصَرْنا إلخ وهو جواب لقولهم فَارْجِعْنا يفيد أنهم لو أرجعوا لعادوا لما نهوا عنه لسوء اختيارهم وأنهم ممن لم يشأ اللّه تعالى إعطاؤهم الهدى أي ونقول : لو شئنا أي لو تعلقت مشيئتنا تعلقا فعليا بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة هداها أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح ، وفسره بعضهم بنفس الإيمان والعمل الصالح والأول أولى ، وأما تفسيره بما سأله الكثرة من الرجوع إلى الدنيا أو بالهداية إلى الجنة فليس بشيء لأعطيناها إياه في الدنيا التي هي دار الكسب وما أخرناه إلى دار الجزاء وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي ثبت وتحقق قولي وسبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله : لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص : 84 ، 85] وهو المعنى بقوله تعالى : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ كما يلوح به تقديم الجنة على الناس فإنه في الخطاب لإبليس مقدم وتقديمه هناك لأنه الأوفق لمقام تحقير ذلك المخاطب عليه اللعنة ، وقيل : التقديم في الموضعين لأن الجهنميين من الجنة أكثر.
ويعلم مما ذكرنا وجه العدول عن ضمير العظمة في قوله سبحانه : وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا إلى ضمير الوحدة في قوله جلّ وعلا : وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي وذلك لأن ما ذكر إشارة إلى ما وقع في الرّد على اللعين وقد وقع فيه القول والإملاء مسندين إلى ضمير الوحدة ليكون الكلام على طرز لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ [ص : 82 ، 83] في توحيد الضمير ، وقد يقال : ضمير العظمة أوفق بالكثرة الدال عليها «كل نفس» والضمير الآخر أوفق بما دون تلك الكثرة الدال عليه مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أو يقال : إنه وحد الضمير في الوعيد لما أن المعنى به المشركون فكأنه أخرج الكلام على وجه لا يتوهم فيه متوهم نوعا من أنواع الشركة أصلا أو أخرج على وجه يلوح بما عدلوا عنه من التوحيد إلى ما ارتكبوه مما أوجب لهم الوعيد من الشرك ، أو يقال : وحد الضمير في لَأَمْلَأَنَّ لأن الإملاء لا تعدد فيه فتوحيد الضمير أوفق به ويقال نظير ذلك في حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي والإيتاء يتعدد المؤتى فضمير العظمة أوفق به ويقال نظيره في شِئْنا فتدبر ، ولا يلزم من قوله تعالى : أَجْمَعِينَ دخول جميع الجن والإنس فيها ، وأما قوله تعالى : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم : 71] فالورود فيه غير الدخول ، وقد مرّ الكلام في ذلك لأن أَجْمَعِينَ تفيد عموم الأنواع لا الإفراد فالمعنى لأملأنها من ذينك النوعين جميعا كملأت الكيس من الدراهم والدنانير جميعا كذا قيل ، ورد بأنه لو قصد ما ذكر لكان المناسب التثنية دون الجمع بأن يقال كليهما ، واستظهر أنها لعموم الأفراد والتعريف في الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ للعهد والمراد عصاتهما ويؤيده الآية المتضمنة خطاب إبليس ، وحاصل الآية لو شئنا إيتاء كل نفس هداها لآتيناها إياه لكن تحقق القول مني لأملأن جهنم إلخ فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم بل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 127
منعناه من أتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم حيث صرفتم اختياركم إلى الغي بإغوائه ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها فلما لم تختاروا الهدى واخترتم الضلال لم نشأ إعطاءه لكم وإنما أعطيناه الذين اختاروه من البررة وهم المعنيون بما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من قوله سبحانه : إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الآية فيكون مناط عدم مشيئته تعالى إعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم لا تحقق القول ، وإنما قيدت المشيئة بما مرّ من التعلق الفعلي بأفعال العباد عند حدوثها لأن المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم إجمالا متقدمة على تحقق كلمة العذاب فلا يكون عدمها منوطا بتحققها وإنما مناطه علمه تعالى أنه لا يصرف اختيارهم فيما سيأتي إلى الغي وإيثارهم له على الهدى فلو أريدت هي من تلك الحيثية لاستدرك بعدمها بأن يقال : ولكن لم نشأ ونيط ذلك بما ذكر من المناط على منهاج قوله تعالى : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال : 23] كذا قال بعض الأجلة.
وقد يقال : يجوز أن يراد بالمشيئة المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم ويراد بالقول علم اللّه تعالى فإنه وكذا كلمة اللّه سبحانه يطلق على ذلك كما قال الراغب ، وذكر منه قوله تعالى : لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس : 7] وقوله سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس : 96] وحاصل المعنى لو شئنا في الأزل إيتاء كل نفس هداها في الدنيا لآتيناها إياه ولكن ثبت وتحقق علمي أزلا بتعذيب العصاة فبموجب ذلك لم نشأ إذ لا بد من وقوع المعلوم على طبق العلم لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا ووقوع ذلك يستدعي وجود العصاة إذ تعذيب العصاة فرع وجودهم ومشيئة إيتاء الهدى كل نفس تستلزم طاعة كل نفس ضرورة استلزام العلة للمعلول فيلزم أن تكون النفس المعذبة عاصية طائعة وهو محال وهذا المحال جاء من مشيئته إيتاء كل نفس هداها مع علمه تعالى بتعذيب العصاة فإما أن ينتفي العلم المذكور وهو محال لأن تعلق علمه سبحانه بالمعلوم على ما هو عليه ضروري فتعين انتفاء المشيئة لذلك ويرجح هذا بالآخرة إلى أن سبب انتفاء مشيئته إيتاء الهدى للعصاة سوء ما هم عليه في أنفسهم لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع للمعلوم في نفسه فعلمه تعالى بتعذيب العصاة يستدعي علمه سبحانه إياهم بعنوان كونهم عصاة فلا يشاؤهم جلّ جلاله إلّا بهذا العنوان الثابت لهم في أنفسهم ولا يشاؤهم سبحانه على خلافه لأن مشيئته تعالى إياهم كذلك تستدعي تعلق العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر وليس ذلك علما.
ويمكن أن يبقى العلم على ظاهره ويقال : إنه تعالى لم يشأ هداهم لأنه جلّ وعلا قال لإبليس عليه اللعنة : إنه سبحانه يعذب أتباعه ولا بد ولا يقول تعالى خلاف ما يعلم فلا يشاء تبارك وتعالى خلاف ما يقول ويرجع بالآخرة أيضا إلى أنه تعالى لم يشأ هداهم لسوء ما هم عليه في أنفسهم بأدنى تأمل ، وما آل الجواب على التقريرين لا فائدة لكم في الرجوع لسوء ما أنتم عليه في أنفسكم ، ولا يخفى أن ما ذكر مبني على القول بالأعيان الثابتة وأن الشقي شقي في نفسه والسعيد سعيد في نفسه وعلم اللّه تعالى إنما تعلق بهما على ما هما عليه في أنفسهما وأن مشيئته تعالى إنما تعلقت بإيجادهما حسبما علم جلّ شأنه فوجدا في الخارج بإيجاده تعالى على ما هما عليه في أنفسهما فإذا تم هذا تم ذاك وإلا فلا ، والفاء في قوله تعالى : فَذُوقُوا لترتيب الأمر بالذوق على ما يعرب عنه ما قيل من نفي الرجع إلى الدنيا أو على قوله تعالى : وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي إلخ ، ولعل هذا أسرع تبادرا ، وجعلها بعضهم واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا يئستم من الرجوع أو إذا حق القول فذوقوا ، وجوز كونها تفصيلية والأمر للتهديد والتوبيخ ، والباء في قوله سبحانه : بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا للسببية و(ما) مصدرية وهذا صفة يوم جيء به للتهويل ، وجوز كونه مفعول ذُوقُوا وهو إشارة إلى ما هم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم ، وعلى الأول يكون مفعول ذُوقُوا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 128
محذوفا والوصفية أظهر أي فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل وترككم التفكر فيه والتزود له بالكلية ، وهذا تصريح بسبب العذاب من قبلهم فلا ينافي أن يكون له سبب آخر حقيقيا كان أو غيره ، والتوبيخ به من بين الأسباب لظهوره وكونه صادرا منهم لا يسعهم إنكاره ، والمراد بنسيانهم ذلك تركهم التفكر فيه والتزود له كما أشرنا إليه وهو بهذا المعنى اختياري يوبخ عليه ولا يكاد يصح إرادة المعنى الحقيقي وإن صح التوبيخ عليه باعتبار تعمد سببه من الانهماك في اتباع الشهوات ، ومثله في كونه مجازا النسيان في قوله تعالى : إِنَّا نَسِيناكُمْ أي تركناكم في العذاب ترك المنسي بالمرة وجعل بعضهم هذا من باب المشاكلة ولم يعتبر كون الأول مجازا مانعا منها قيل : والقرينة على قصد المشاكلة فيه أنه قصد جزاؤهم من جنس العمل فهو على حد وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : 40] ، وقوله تعالى : وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تكرير للتأكيد والتشديد وتعيين المفعول المبهم للذوق والإشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل به أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا ، ولما كان فيه زيادة على الأول حصلت به مغايرته له استحق العطف عليه ولم ينظم الكل في سلك واحد للتنبيه على استقلال كل من النسيان وما ذكر في استيجاب العذاب ، وفي إبهام المذوق أولا وبيانه ثانيا بتكرير الأمر وتوسيط الاستئناف المنبئ عن كمال السخط بينهما من الدلالة على غاية التشديد في الانتقام منهم ما لا يخفى.
وقوله تعالى : إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا استئناف مسوق لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى والإشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل : إنكم لا تؤمنون بآياتنا الدالة على شؤوننا ولا تعملون بموجبها عملا صالحا ولو ارجعناكم إلى الدنيا وإنما يؤمن الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا خَرُّوا سُجَّداً أثر ذي أثير من غير تردّد ولا تلعثم فضلا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا ساجدين تواضعا للّه تعالى وخشوعا وخوفا من عذابه عزّ وجلّ ، قال أبو حيان : هذه السجدة من عزائم سجود القرآن ، وقال ابن عباس : السجود هنا الركوع.
وروي عن ابن جريج ، ومجاهد ان الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ لآية السجدة يركع واستدل بقوله تعالى وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص : 24] اه.
ولا يخفى ما في الاستدلال من المقال وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ونزهوه تعالى عند ذلك عن كل ما لا يليق به سبحانه من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه جلّ وعلا التي من أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق إلى الاهتداء بها فالحمد في مقابلة النعمة ، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال ، والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة التسبيح والتحميد بانهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبرا كأن لم يسمع الآيات ، والجملة عطف على الصلة أو حال من أحد ضميري خَرُّوا وسَبَّحُوا وجوز عطفها على أحد الفعلين ، وقوله تعالى : تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ جملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم.
وجوز أن تكون حالية أو خبرا ثانيا للمبتدأ ، والتجافي البعد والارتفاع والجنوب جمع جنب الشقوق ، وذكر الراغب أن أصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال ، والْمَضاجِعِ جمع المضجع أماكن الاتكاء للنوم أي تتنحى وترتفع جنوبهم عن مواضع النوم وهذا كناية عن تركهم النوم ومثله قول عبد اللّه بن رواحة يصف النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 129
نبي تجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
والمشهور أن المراد بذلك التجافي القيام لصلاة النوافل بالليل وهو قول الحسن ، ومجاهد ، ومالك ، والأوزاعي ، وغيرهم. وفي الأخبار الصحيحة ما يشهد له ،
أخرج أحمد ، والترمذي ، وصححه ، والنسائي ، وابن ماجة ، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن معاذ بن جبل قال : «كنت مع النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت : يا نبي اللّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال : لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسره اللّه تعالى عليه تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يعملون الحديث.
وقال أبو الدرداء ، وقتادة ، والضحاك هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة ، وعن الحسن ، وعطاء هو أن لا ينام الرجل حتى يصلي العشاء ، أخرج الترمذي وصححه ، وابن جرير ، وغيرهما عن أنس قال : إن هذه الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ زلت في انتظار الصلاة التي تدعي العتمة ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال فيها نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقيل : هو أن يصلي الرجل المغرب ويصلي بعدها إلى العشاء ، فقد أخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن عدي ، وابن مردويه عن مالك بن دينار قال : سألت أنس بن مالك عن هذه الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال : كان قوم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى عشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم ، وقال قتادة ، وعكرمة : هو أن يصلي الرجل ما بين المغرب والعشاء واستدل له بما أخرجه محمد بن نصر عن عبد اللّه بن عيسى قال : كان ناس من الأنصار يصلون ما بين المغرب والعشاء فنزلت فيهم تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية : تتجافى جنوبهم لذكر اللّه تعالى كلما استيقظوا ذكروا اللّه عزّ وجلّ إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون اللّه تعالى ، وروى نحوه هو ومحمد بن نصر عن الضحاك ، والجمهور عولوا على ما هو المشهور ، وفي فضل التهجد ما لا يحصى من الأخبار وأفضله على ما نص عليه غير واحد ما كان في الأسحار.
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ حال من ضمير جُنُوبُهُمْ وقد أضيف إليه ما هو جزء ، وجوز على احتمال كون جملة تَتَجافى إلخ حالية أن تكون حالا ثانية مما جعلت تلك حالا منه وعلى احتمال كونها خبرا ثانيا للمبتدأ أن تكون خبرا ثالثا ، وجوز كونها مستأنفة ، والظاهر أن المراد بدعائهم ربهم سبحانه المعنى المتبادر ، وقيل : المراد به الصلاة خَوْفاً أي خائفين من سخطه تعالى وعذابه عزّ وجلّ وعدم قبول عبادتهم وَطَمَعاً في رحمته تبارك وتعالى فالمصدران حالان من ضمير يَدْعُونَ وجوز أن يكونا مصدرين لمقدر أي يخافون خوفا ويطمعون طمعا وتكون الجملة حينئذ حالا ، وأن يكونا مفعولا له ولا يخفى أن الآية على الحالية أمدح.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ إياه من المال يُنْفِقُونَ في وجوه الخير فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ أي كل نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عمن عداهم فإن النكرة في سياق النفي تعم. والفاء سببية أو فصيحة أي أعطوا فوق

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 130
رجاءهم فلا تعلم نفس ما أُخْفِيَ لَهُمْ أي لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي ما تقر به أعين ، وفي إضافة القرة إلى الأعين على الإطلاق لا إلى أعينهم تنبيه على أن ما أخفي لهم في غاية الحسن والكمال.
وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول اللّه تعالى : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه اقرؤوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين»
وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إنه لمكتوب في التوراة «لقد أعد اللّه تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر» ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنه لفي القرآن فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي جوزوا جزاء بسبب ما كانوا يعملونه من الأعمال الصالحة فجزاء مفعول مطلق لفعل مقدر والجملة مستأنفة.
وجوز جعلها حالية ، وقيل : يجوز جعله مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة المتقدمة ، وقيل : يجوز أن يكون مفعولا له لقوله تعالى : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ على معنى منعت العلم للجزاء أو لأخفى فإن إخفاءه لعلو شأنه ، وعن الحسن أنه قال : أخفى القوم أعمالا في الدنيا فأخفى اللّه تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت أي أخفى ذلك ليكون الجزاء من جنس العمل.
وفي الكشف أن هذا يدل على أن الفاء في قوله تعالى : فَلا تَعْلَمُ رابطة للأحق بالسابق وأصله فلا يعلمون والعدول لتعظيم الجزاء ، وعدم ذكر الفاعل في أُخْفِيَ ترشيح له لأن جازيه من هو العظيم وحده فلا يذهب وهل إلى غيره سبحانه اه فتأمل.
وقرأ حمزة ، ويعقوب ، والأعمش «أخفي» بسكون الياء فعلا مضارعا للمتكلم ، وابن مسعود «نخفي» بنون العظمة ، والأعمش أيضا «أخفيت» بالإسناد إلى ضمير المتكلم وحده ، ومحمد بن كعب أُخْفِيَ فعلا ماضيا مبنيا للفاعل.
وما في جميع ذلك اسم موصول مفعول تَعْلَمُ والعلم بمعنى المعرفة والعائد الضمير المستتر النائب عن الفاعل على قراءة الجمهور وضميره محذوف على غيرها ، وقال أبو البقاء : يجوز أن تكون ما استفهامية وموضعها رفع بالابتداء وأُخْفِيَ لَهُمْ خبره على قراءة من فتح الياء وعلى قراءة من سكنها وجعل أُخْفِيَ مضارعا يكون ما في موضع نصب بأخفى ويعلم منه حالها على سائر القراءات ، وإذا كانت استفهامية يجوز أن يكون العلم بمعنى المعرفة وأن يكون على ظاهره فيتعدى لمفعولين تسد الجملة الاستفهامية مسدهما ، وعلى كل من احتمالي الموصولية والاستفهامية فالإيهام للتعظيم ، وقرأ عبد اللّه ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة وعون ، والعقيلي «من قرأت» على الجمع بالألف والتاء ، وهي رواية عن أبي عمرو ، وأبي جعفر ، والأعمش ، وجمع المصدر أو اسمه لاختلاف أنواع القرة ، والجار والمجرور في موضع الحال.
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً أي أبعد ظهور ما بينهما من التباين البين يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالفاسق الذي ذكرت أحواله القبيحة العاطلة ، وأصل الفسق الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها ثم استعمل في الخروج عن الطاعة وأحكام الشرع مطلقا فهو أعم من الكفر وقد يخص به كما في قوله تعالى : وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور : 55] وكما هنا لمقابلته بالمؤمن مع ما ستسمعه بعد إن شاء اللّه تعالى : لا يَسْتَوُونَ التصريح به مع إفادة الإنكار لنفي المشابهة بالمرة على أبلغ وجه وآكده لزيادة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 131
التأكيد وبناء التفصيل الآتي عليه ، والجمع باعتبار معنى من كما أن الافراد فيما سبق باعتبار لفظها ، وقيل : الضمير لاثنين وهما المؤمن والكافر والتثنية جمع.
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى تفصيل لمراتب الفريقين بعد نفي استوائهما وقيل : بعد ذكر أحوالهما في الدنيا ، وأضيفت الجنان إلى المأوى لأنها المأوى والمسكن الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة ، وقيل : المأوى علم لمكان مخصوص من الجنان كعدن ، وقيل : جنة المأوى لما روي عن ابن عباس ، أنها تأوي إليها أرواح الشهداء ، وروي أنها عن يمين العرش ولا يخفى ما في جعله علما من البعد وأيا ما كان فلا يبعد أن يكون فيه رمز إلى ما ذكر من تجافيهم عن مضاجعهم التي هي مأواهم في الدنيا.
وقرأ طلحة «جنة المأوى» بالإفراد نُزُلًا أي ثوابا وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب والصلة ثم عم كل عطاء ، وانتصابه على أنه حال من جَنَّاتُ والعامل فيه الظرف ، وجوز أن يكون جمع نازل فيكون حالا من ضمير الَّذِينَ آمَنُوا وقرأ أبو حيوة «نزلا» بإسكان الزاي كما في قوله :
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب الذي كانوا يعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة على أن ما موصولة والعائد محذوف والباء سببية ، وكون ذلك سببا بمقتضى فضله تعالى ووعده عزّ وجلّ فلا ينافي حديث «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» ويجوز أن تكون الباء للمقابلة والمعارضة كعلى في نحو بعتك الدار على ألف درهم أي فلهم ذلك على الذي كانوا يعملونه.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أي خرجوا عن الطاعة فكفروا وارتكبوا المعاصي فَمَأْواهُمُ أي فمسكنهم ومحلهم النَّارُ وذكر بعضهم أن المأوى صار متعارفا فيما يكون ملجأ للشخص ومستراحا يستريح إليه من الحر والبرد ووهما فإذا أريد هنا يكون في الكلام استعارة تهكمية كما في قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران : 21 ، التوبة : 34 ، الانشقاق : 24] ، وجوز أن يكون استعمال ذلك من باب المشاكلة لأنه لما ذكر في أحد القسمين فلهم جنات المأوى ذكر في الآخر فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا استئناف لبيان كيفية كون النار مأواهم والكلام على حد قوله تعالى : جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف : 77] على ما قيل ، والمعنى كلما شارفوا الخروج منها وقربوا منه أعيدوا فيها ودفعوا إلى قعرها ،
فقد روي أنهم يضربهم لهب النار فيرتفعون إلى أعلاها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها وهكذا يفعل بهم أبدا
، وقيل : الكلام على ظاهره إلا أن فيه حذفا أي كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا من معظمها أعيدوا فيها ، ويشير إلى أن الخروج من معظمها قوله تعالى : فِيها دون إليها ، وجوز أن يكون الكلام هنا عبارة عن خلودهم فيها ، وأيا ما كان لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى : وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة : 167] وَقِيلَ لَهُمْ تشديدا عليهم وزيادة في غيظهم.
ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ أي بعذاب النار تُكَذِّبُونَ على الاستمرار في الدنيا وأظهرت النار مع تقدمها قبل لزيادة التهديد والتخويف وتعظيم الأمر ، وذكر ابن الحاجب في أماليه وجها آخر للإظهار وهو أن الجملة الواقعة بعد القول حكاية لما يقال لهم يوم القيامة عند إرادتهم الخروج من النار فلا يناسب ذلك وضع الضمير إذ ليس القول حينئذ مقدما عليه ذكر النار وإنما ذكرها سبحانه قبل إخبارا عن أحوالهم ، ونظر فيه الطيبي عليه الرحمة بأن هذا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 132
القول داخل أيضا في حيز الأخبار لعطفه على أُعِيدُوا الواقع جوابا لكلما فكما جاز الإضمار في المعطوف عليه جاز فيه أيضا إن لم يقصد زيادة التهديد والتخويف.
ورد بأن المانع أنه حكاية لما يقال لهم يوم القيامة والأصل في الحكاية أن تكون على وفق المحكي عنه دون تغيير ولا إضمار في المحكي لعدم تقدم ذكر النار فيه. وتعقب بأنه قد يناقش فيه بأن مراده أنه يجوز رعاية المحكي والحكاية وكما أن الأصل رعاية المحكي الأصل الإضمار إذا تقدم الذكر فلا بد من مرجح.
وقال بعض المحققين : أراد ابن الحاجب أن الإظهار هو المناسب في هذه الجملة نظرا إلى ذاتها ونظرا إلى سياقها أما الأول فلأنها تقال من غير تقدم ذكر النار ، وأما الثاني فلأن سياق الآية للتهديد والتخويف وتعظيم الأمر وفي الإظهار من ذلك ما ليس في الإضمار ، وهذا بعيد من أن يرد عليه نظر الطيبي ، والإنصاف أن كلا من الإضمار والإظهار جائز وأنه رجح الإظهار اقتضاء السياق لذلك ونقل عن الراغب ما يدل على أن المقام في هذه الآية مقام الضمير حيث ذكر عنه أنه قال في درة التنزيل : إنه تعالى قال هاهنا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وقال سبحانه في آية أخرى : عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [سبأ : 42] فذكر جل وعلا هاهنا وأنث سبحانه هناك والسر في ذلك أن النار هاهنا وقعت موقع الضمير والضمير لا يوصف فأجرى الوصف على العذاب المضاف إليها وهو مذكر وفي تلك الآية لم يجر ذكر النار في سياقها فلم تقع النار موقع الضمير فأجرى الوصف عليها وهي مؤنثة دون العذاب فتأمل وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي الأقرب ، وقيل : الأقل وهو عذاب الدنيا فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه ، واختلف في المراد به فروى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن ابن مسعود أنه سنون أصابتهم وروي ذلك عن النخعي ، ومقاتل ، وروى الطبراني وآخرون وصححه والحاكم عن ابن مسعود أيضا أنه ما أصابهم يوم بدر. وروي نحوه عن الحسن بن علي رضي اللّه تعالى عنهما بلفظ هو القتل بالسيف نحو يوم بدر ، وعن مجاهد القتل والجوع.
وأخرج مسلم ، وعبد اللّه بن أحمد في زوائد المسند ، وأبو عوانة في صحيحه ، وغيرهم عن أبي بن كعب أنه قال : هو مصائب الدنيا والروم والبطشة والدخان ، وفي لفظ مسلم أو الدخان.
وأخرج ابن المنذر ، وابن جرير ، عن ابن عباس أنه قال : هو مصائب الدنيا وأسقامها وبلاياها ، وفي رواية عنه وعن الضحاك وابن زيد بلفظ مصائب الدنيا في الأنفس والأموال ، وفي معناه ما
أخرج ابن مردويه عن أبي إدريس الخولاني قال : سألت عبادة بن الصامت عن قوله تعالى : وَلَنُذِيقَنَّهُمْ الآية فقال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم عنها فقال عليه الصلاة والسلام : هي المصائب والأسقام والأصار عذاب للمسرف في الدنيا دون عذاب الآخرة قلت :
يا رسول اللّه فما هي لنا؟ قال : زكاة وطهور ، وفي رواية عن ابن عباس أنه الحدود
. وأخرج هنا عن أبي عبيدة أنه فسره بعذاب القبر ، وحكي عن مجاهد أيضا دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ هو عذاب يوم القيامة كما روي عن ابن مسعود ، وغيره ، وقال : ابن عطية لا خلاف في أنه ذلك ، وفي التحرير إن أكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار ، وقيل : هو القتل والسبي والأسر ، وعن جعفر بن محمد رضي اللّه تعالى عنهما أنه خروج المهدي بالسيف
انتهى. وعليهما يفسر العذاب الأدنى بالسنين أو الأسقام أو نحو ذلك مما يكون أدنى مما ذكر ، وعن بعض أهل البيت تفسيره بالدابة والدجال ، والمعول عليه ما عليه الأكثر.
وإنما لم يقل الأصغر في مقابلة الْأَكْبَرِ أو إلّا بعد في مقابلة الْأَدْنى لأن المقصود هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر وبالكبر لا بالبعد ، قاله النيسابوري ملخصا له من كلام الإمام ، وكذا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 133
أوجب أبو حيان إلّا أنه قال : إن الأدنى يتضمن الأصغر لأنه منقض بموت المعذب والأكبر يتضمن الأبعد لأنه واقع في الآخرة فحصلت المقابلة من حيث التضمن وصرح بما هو آكد في التخويف لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل من بقي منهم يتوب قاله ابن مسعود ، وقال الزمخشري : أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله تعالى : فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السجدة : 12] وسميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة : 6] ويدل عليه قراءة من قرأ «يرجعون» على البناء للمفعول انتهى.
وهو على ما حكي عن مجاهد وروي عن أبي عبيدة فيتعلق لَعَلَّهُمْ إلخ بقوله تعالى : ولَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى كما في الأول إلا أن الرجوع هنالك التوبة وهاهنا الرجوع إلى الدنيا ويكون من باب فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص : 8] أو يكون الترجي راجعا إليهم ، ووجه دلالة القراءة المذكورة عليه أنه لا يصح الحمل فيها على التوبة ، والظاهر التفسير المأثور ، والقراءة لا تأباه لجواز أن يكون المعنى عليهم لعلهم يرجعهم ذلك العذاب عن الكفر إلى الإيمان ، و(لعل) لترجي المخاطبين كما فسرها بذلك سيبويه ، وعن ابن عباس تفسيرها هنا بكى وكأن المراد كي نعرضهم بذلك للتوبة ، وجعلها الزمخشري لترجيه سبحانه ولاستحالة حقيقة ذلك منه عزّ وجلّ حمله على إرادته تعالى ، وأورد على ذلك سؤالا أجاب عنه على مذهبه في الاعتزال فلا تلتفت إليه ، هذا والآيات من قوله تعالى : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً إلى هنا نزلت في علي كرم اللّه وجهه ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه لأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس ،
أخرج أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني ، والواحدي ، وابن عدي ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال : قال الوليد بن عقبة لعلي كرم اللّه تعالى وجهه أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ للكتيبة منك فقال علي رضي اللّه تعالى عنه : اسكت فإنما أنت فاسق فنزلت أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحو ذلك ، وأخرج هذا أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنها نزلت في علي كرم اللّه تعالى وجهه ، والوليد بن عقبة
ولم يذكر ما جرى. وفي رواية أخرى عنه أنها نزلت في علي كرم اللّه تعالى وجهه ، ورجل من قريش ولم يسمه
، وفي الكشاف روي في نزولها أنه شجر بين علي رضي اللّه تعالى عنه ، والوليد بن عقبة يوم بدر كلام فقال له الوليد : اسكت فإنك صبي أنا أشب منك شبابا وأجلد منك جلدا وأدرب منك لسانا وأحد منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة فقال له علي كرم اللّه تعالى وجهه : اسكت فإنك فاسق فنزلت
، ولم نره بهذا اللفظ مسندا ، وقال الخفاجي : قال ابن حجر إنه غلط فاحش فإن الوليد لم يكن يوم بدر رجلا بل كان طفلا لا يتصور منه حضور بدر وصدور ما ذكر.
ونقل الجلال السيوطي عن الشيخ ولي الدين هو غير مستقيم فإن الوليد يصغر عن ذلك وأقول : بعض الأخبار تقتضي أنه لم يكن مولودا يوم بدر أو كان صغيرا جدا ، أخرج أبو داود في السنن من طريق ثابت بن الحجاج عن أبي موسى عبد اللّه الهمداني عنه أنه قال : لما افتتح رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم فأتي بي إليه عليه الصلاة والسلام وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق إلّا أن ابن عبد البر قال : إن أبا موسى مجهول ، وأيضا ذكر الزبير ، وغيره من أهل العلم بالسير أن أم كلثوم بنت عقبة لما خرجت مهاجرة إلى النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم في الهدنة سنة سبع خرج أخواها الوليد وعمارة ليرداها ، وهو ظاهر في أنه لم يكن صبيا يوم الفتح إذ من يكون كذلك كيف يكون ممن خرج ليرد أخته قبل الفتح ، وبعض الأخبار تقتضي أنه كان رجلا يوم بدر ، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة أنه قدم في فداء ابن عم أبيه الحارث بن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 134
أبي وجرة بن أبي عمرو بن أمية وكان أسر يوم بدر فافتداه بأربعة آلاف وقال : حكاه أهل المغازي ولم يتعقبه بشيء ، وسوق كلامه ظاهر في ارتضائه ووجه اقتضائه ذلك أن ما تعاطاه من أفعال الرجال دون الصبيان ، وهذا الذي ذكرناه عن ابن حجر يخالف ما ذكره عنه الخفاجي عليه الرحمة مما مرّ آنفا ، ولا ينبغي أن يقال : يجوز أن يكون صغيرا ذلك اليوم صغرا يمكن معه عادة الحضور فحضر وجرى ما جرى لأن وصفه بالفسق بمعنى الكفر والوعيد عليه بما سمعت في الآيات مع كونه دون البلوغ مما لا يكاد يذهب إليه إلّا من يلتزم أن التكليف بالإيمان إذ ذاك كان مشروطا بالتمييز ، ولا أن يقال : يجوز أن تكون هذه القصة بعد إسلامه وقد أطلق عليه فاسق وهو مسلم في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات : 60] فقد قال ابن عبد البر : لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن إنها نزلت فيه حيث إنه صلّى اللّه عليه وسلم بعثه مصدقا إلى بني المصطلق فعاد وأخبر أنهم ارتدوا ومنعوا الصدقة ولم يكن الأمر كذلك لأن الفسق هاهنا بمعنى الكفر وهناك ليس كذلك ، ثم اعلم أن القول بأنها نزلت في علي كرم اللّه تعالى وجهه والوليد لكلام جرى يوم بدر يقتضي أنها مدنية والمختار عند بعضهم خلافه.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها بيان إجمالي لمن قابل آيات اللّه تعالى بالإعراض بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد ، وكلمة ثُمَّ لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادة الدارين كما في قول جعفر بن علية الحارثي :
ولا يكشف الغماء إلّا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
والمراد أن ذلك أظلم من كل ظالم إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ قيل : أي من كل من اتصف بالإجرام وكسب الأمور المذمومة وإن لم يكن بهذه المثابة مُنْتَقِمُونَ فكيف ممن هو أظلم من كل ظالم وأشد جرما من كل جارم ، ففي الجملة إثبات الانتقام منه بطريق برهاني.
وجوز أن يراد بالمجرم المعرض المذكور وقد أقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى مَنْ باعتبار معناها وكان الأصل إنا منهم منتقمون ليؤذن بأن علة الانتقام ارتكاب هذا المعرض مثل هذا الجرم العظيم : وفسر البغوي المجرمين هنا بالمشركين. وقال الطيبي عليه الرحمة بعد حكايته : ولا ارتياب أن الكلام في ذم المعرضين وهذا الأسلوب أذم لأنه يقر أن الكافر إذا وصف بالظلم والإجرام حمل على نهاية كفره وغاية تمرده لأن هذه الآية كالخاتمة لأحوال المكذبين القائلين : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [السجدة : 3] وغيرها والتخلص إلى قصة الكليم مسلاة لقلب الحبيب عليهما الصلاة والسلام إلى آخر ما ذكره فليراجع.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي جنس الكتاب فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ أي شك. وقرأ الحسن «مرية» بضم الميم مِنْ لِقائِهِ أي لقائك ذلك الجنس على أن لقاء مصدر مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف وهو ضمير النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم والضمير المذكور للكتاب المراد به الجنس وإيتاء ذلك الجنس باعتبار إيتاء التوراة ولقاؤه باعتبار لقاء القرآن ، وهذا كقوله تعالى : وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل : 6] وقوله سبحانه :
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء : 13] وحمل بعضهم الْكِتابَ على العهد أي الكتاب المعهود وهو التوراة ولما لم يصح عود الضمير إليه ظاهرا لأنه عليه الصلاة والسلام لم يلق عين ذلك الكتاب قيل :
الكلام على تقدير مضاف أي لقاء مثله أو على الاستخدام أو أن الضمير راجع إلى القرآن المفهوم منه ، ولا يخفى ما في كل من البعد ، والمعنى إنّا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه من الوحي مثل ما لقيناك من الوحي فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره ، وخلاصة ما تؤذن به الفاء التفريعية أن معرفتك بأن موسى عليه السلام أوتي التوراة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 135
ينبغي أن تكون سببا لإزالة الريب عنك في أمر كتابك ونهيه عليه الصلاة والسلام عن أن يكون في شك المقصود منه نهي أمته صلّى اللّه تعالى عليه وسلم والتعريض بمن اتصف بذلك ، وقيل المصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف هو ضميره عليه الصلاة والسلام أي من لقائه إياك وصوله إليك ، وفي التعبير باللقاء دون الإيتاء من تعظيم شأنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ما لا يخفى على المتدبر ، وقد يقال : إن التعبير به على الوجه السابق مؤذن بالتعظيم أيضا لكن من حيثية أخرى فتدبر.
وقل : الكتاب التوراة وضمير لِقائِهِ عائد إليه من غير تقدير مضاف ولا ارتكاب استخدام ، ولقاء مصدر مضاف إلى مفعوله وفاعله موسى أي من لقاء موسى الكتاب أو مضاف إلى فاعله ومفعوله موسى أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه ، فالفاء مثلها في قوله :
ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا
دخلت على الجملة المعترضة بدل الواو اهتماما بشأنها ، وعن الحسن أن ضمير لِقائِهِ عائد على ما تضمنه الكلام من الشدة والمحنة التي لقي موسى عليه السلام فكأنه قيل : ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من الشدة والمحنة بالناس ، والجملة اعتراضية ولا يخفى بعده ، وأبعد منه بمراحل ما قيل :
الضمير لملك الموت الذي تقدم ذكره والجملة اعتراضية أيضا ، بل ينبغي أن يجل كلام اللّه تعالى عن مثل هذا التخريج. وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في الآية : أي من لقاء موسى ، وأخرج ابن المنذر ، وغيره عن مجاهد نحوه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أنه قال كذلك فقيل له :
أو لقي عليه الصلاة والسلام موسى؟ قال : نعم ألا ترى إلى قوله تعالى : وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف : 45] وأراد بذلك لقاءه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إياه ليلة الإسراء كما ذكر في الصحيحين ، وغيرهما ، وروي نحو ذلك عن قتادة وجماعة من السلف ، وقاله المبرد حين امتحن الزجاج بهذه الآية ، وكان المراد من قوله تعالى : «فلا تكن في مرية من لقائه» على هذا وعده تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بلقاء موسى وتكون الآية نازلة قبل الإسراء ، والجملة اعتراضية بالفاء بدل الواو كما سمعت آنفا.
وجعلها مفرعة على ما قبلها غير ظاهر ، وبهذا اعترض بعضهم على هذا التفسير ، وبالفرار إلى الإعراض سلامة من الاعتراض وكأني بك ترجحه على التفسير الأول من بعض الجهات واللّه تعالى الموفق وَجَعَلْناهُ أي الكتاب الذي آتيناه موسى ، وقال قتادة أي وجعلنا موسى عليه السلام هُدىً أي هاديا من الضلالة لِبَنِي إِسْرائِيلَ خصوا بالذكر لما أنهم أكثر المنتفعين به ، وقيل : لأنه لم يتعبد بما في كتابه عليه الصلاة والسلام ولد إسماعيل صلّى اللّه تعالى عليه وسلم.
وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً قال قتادة : رؤساء في الخير سوى الأنبياء عليهم السلام ، وقيل : هم الأنبياء الّذين كانوا في بني إسرائيل يَهْدُونَ بقيتهم بما في تضاعيف الكتاب من الحكم والأحكام إلى طريق الحق أو يهدونهم إلى ما فيه من دين اللّه تعالى وشرائعه عزّ وجلّ بِأَمْرِنا إياهم بأن يهدوا على أن الأمر واحد الأوامر ، وهذا على القول بأنهم أنبياء ظاهر ، وأما على القول بأنهم ليسوا بأنبياء فيجوز أن يكون أمره تعالى إياهم بذلك على حد أمر علماء هذه الأمة بقوله تعالى : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الآية.
وجوز أن يكون الأمر واحد الأمور والمراد يهدون بتوفيقنا لَمَّا صَبَرُوا قال قتادة : على ترك الدنيا ، وجوز

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 136
غيره أن يكون المراد لما صبروا على مشاق الطاعة ومقاساة الشدائد في نصرة الدين ، ولَمَّا يحتمل أن تكون هي التي فيها معنى الجزاء نحو لما أكرمتني أكرمتك أي لما صبروا جعلنا أئمة ، ويحتمل أن تكون هي التي بمعنى الحين الخالية عن معنى الجزاء ، والظاهر أنها حينئذ ظرف لجعلنا أي أئمة حين صبروا ، وجوز أبو البقاء كونها ظرفا ليهدون.
وقرأ عبد اللّه ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، ورويس لَمَّا بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام للتعليل وما مصدرية أي لصبرهم وهو متعلق بجعلنا أو بيهدون. وقرأ عبد اللّه أيضا «بما» بالباء السببية وما المصدرية أي بسبب صبرهم وَكانُوا بِآياتِنا التي في تضاعيف الكتاب ، وقيل : المراد بها ما يعم الآيات التكوينية ، والجار متعلق بقوله تعالى : يُوقِنُونَ أي كانوا يوقنون بها لإمعانهم فيها النظر لا بغيرها من الأمور الباطلة ، وهو تعريض بكفرة أهل مكة ، والجملة معطوفة على صَبَرُوا فتكون داخلة في حيز لَمَّا وجوز أن تكون معطوفة على جَعَلْنا وأن تكون في موضع الحال من ضمير صَبَرُوا.
والمراد كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه أو لنجعلنك هدى لأمتك ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ أي يقضي بَيْنَهُمْ قيل : بين الأنبياء عليهم السلام وأممهم ، وقيل : بين المؤمنين والمشركين يَوْمَ الْقِيامَةِ فيميز سبحانه بين المحق والمبطل فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمور الدين.
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الهمزة للإنكار والواو للعطف على منوي يقتضيه المقام ويناسب المعطوف معنى على ما اختاره غير واحد ، وفعل الهداية أما من قبيل فلان يعطي في أن المراد إيقاع نفس الفعل بلا ملاحظة المفعول ، وأما بمعنى التبيين والمفعول محذوف والفاعل ضمير عائد إلى ما في الذهن ويفسره قوله تعالى :
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ وكم في محل نصب بأهلكنا أي أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم أو ولم يبين لهم مآل أمرهم أو طريق الحق كثرة من أهلكنا أو كثرة إهلاك من أهلكنا من القرون الماضية مثل عاد ، وثمود وقوم لوط ، ولا يجوز أن تكون كَمْ فاعلا لصدارتها كما نص على ذلك الزجاج حاكيا له عن البصريين ، وقال الفراء : كم في موضع رفع بيهد كأنك قلت : أو لم يهد لهم القرون الهالكة فيتعظوا ولا أن يكون محذوفا لأن الفاعل لا يحذف إلّا في مواضع مخصوصة ليس منها ولا مضمرا عائدا إلى ما بعد لأنه يلزم عود الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة في غير محل جوازه ، ولا الجملة نفسها لأنها لا تقع فاعلا على الصحيح إلّا إذا قصد لفظها نحو تعصم لا إله إلّا اللّه الدماء والأموال ، وجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى شأنه لسبق ذكره سبحانه في قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ إلخ وأيد بقراءة زيد «نهد لهم» بنون العظمة ، قال الخفاجي : والفعل بكم عن المفعول وهو مضمون الجملة لتضمنه معنى العلم فلا تغفل.
يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم ، والجملة حال من ضمير لَهُمْ ، وقيل : من الْقُرُونِ ، والمعنى أهلكناهم حال غفلتهم ، وقيل : مستأنفة بيان لوجه هدايتهم.
وقرأ ابن السميفع «يمشّون» بالتشديد على أنه تفعيل من المشي للتكثير إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من إهلاكنا للأمم الخالية العاتية أو في مساكنهم لَآياتٍ عظيمة في أنفسها كثيرة في عددها أَفَلا يَسْمَعُونَ هذه الآيات سماع تدبر واتعاظ أَوَلَمْ يَرَوْا الكلام فيه كالكلام في أَوَلَمْ يَهْدِ أي أعموا ولم يشاهدوا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ بسوق السحاب الحامل له ، وقيل : نسوق نفس الماء بالسيول ، وقيل : بإجرائه في الأنهار ومن العيون إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي التي جرز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل كما في الكشاف.
وفي مجمع البيان الأرض الجرز اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها من قولهم سيف جراز أي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 137
قطاع لا يبقي شيئا إلّا قطعه وناقة جراز إذا كانت تأكل كل شيء فلا تبقي شيئا إلّا قطعته بفيها ورجل «1» جروز أي أكول ، قال الراجز :
خب حروز وإذا جاع بكى وقال الراغب : الجرز منقطع النبات من أصله وأرض مجروزة أكل ما عليها ، وفي مثل لا ترضى شانئة إلّا بجروزة أي بالاستئصال ، والجارز الشديد من السعال تصور منه معنى الجرز وهو القطع بالسيف ا ه ، ويفهم مما قاله أن الجرز يطلق على ما انقطع نباته لكونه ليس من شأنه الإنبات كالسباخ وهو غير مناسب هنا لقوله تعالى : فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً والظاهر أن المراد الأرض المتصفة بهذه الصفة أي أرض كانت ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنها قرى بين اليمن والشام.
وأخرج هو وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي شيبة عن ابن عباس أنها أرض باليمن ، وإلى عدم التعيين ذهب مجاهد ، أخرج عنه جماعة أنه قال : الأرض الجرز هي التي لا تنبت وهي أبين ونحوها من الأرض وقرىء «الجرز» بسكون الراء ، وضمير بِهِ للماء والكلام على ظاهره عند السلف الصالح وقالت الأشاعرة : المراد فنخرج عنده ، والزرع في الأصل مصدر وعبر به عن المزروع والمراد به ما يخرج بالمطر مطلقا فيشمل الشجر وغيره ولذا قال سبحانه : تَأْكُلُ مِنْهُ أي من ذلك الزرع أَنْعامُهُمْ كالتبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها وَأَنْفُسُهُمْ كالبقول والحبوب التي يقتاتها الإنسان ، وفي البحر يجوز أن يراد بالزرع النبات المعروف وخص بالذكر تشريفا له ولأنه أعظم ما يقصد من النبات ، ويجوز أن يراد به النبات مطلقا ، وقدم الأنعام لأن انتفاعها مقصور على ذلك والإنسان قد يتغذى بغيره ولأن أكلها منه مقدم لأنها تأكله قبل أن يثمر ويخرج سنبله ، وقيل ليترقى من الأدنى إلى الأشرف وهم بنو آدم.
وقرأ أبو حيوة ، وأبو بكر في رواية «يأكل» بالياء التحتية أَفَلا يُبْصِرُونَ أي ألا يبصرون فلا يبصرون ذلك ليستدلوا به على كمال قدرته تعالى وفضله عزّ وجلّ ، وجعلت الفاصلة هنا يُبْصِرُونَ لأن ما قبله مرئي وفيما قبله يَسْمَعُونَ لأن ما قبله مسموع ، وقيل : ترقيا إلى الأعلى في الاتعاظ مبالغة في التذكير ورفع العذر.
وقرأ ابن مسعود «يبصرون» بالتاء الفوقية وَيَقُولُونَ على وجه التكذيب والاستهزاء مَتى هذَا الْفَتْحُ أي الفصل للخصومة بينكم وبيننا ، وكأن هذا متعلق بقوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وقيل : أي النصر علينا ، أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : قال الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم إن لنا يوما يوشك أن نستريح فيه وننتقم فيه فقال المشركون : متى هذا الفتح إلخ فنزلت وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أن اللّه تعالى هو يفصل بين المحقين والمبطلين ، وقيل : في أن اللّه تعالى ينصركم علينا.
قُلْ تبكيتا لهم وتحقيقا للحق يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : يوم الفتح يوم القيامة ، وهو كما في البحر منصوب بلا ينفع ، والمراد بالذين كفروا إما أولئك القائلون المستهزءون فالإظهار في مقام الإضمار لتسجيل كفرهم وبيان علة الحكم ، وإما ما يعمهم وغيرهم وحينئذ يعلم حكم أولئك المستهزئين بطريق برهاني ، والمراد من
___________
(1) قوله جروز أي أكول قال الراغب هو الذي يأكل ما على الخوان ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 138
قوله تعالى : وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ استمرار النفي الظاهر أن الجملة عطف على لا يَنْفَعُ إلخ والقيد معتبر فيها ، وظاهر سؤالهم بقولهم مَتى هذَا الْفَتْحُ يقتضي الجواب بتعيين اليوم المسئول عنه إلّا أنه لما كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالا منهم على وجه التكذيب والاستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم فكأنه قيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا ، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم هذا وتفسير يَوْمَ الْفَتْحِ بيوم القيامة ظاهر على القول بأن المراد بالفتح الفصل للخصومة فقد قال سبحانه : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ولا يكاد يتسنى على القول بأن المراد به النصر على أولئك القائلين إذا كانوا عانين به النصر والغلبة عليهم في الدنيا كما هو ظاهر مما سمعت عن مجاهد ، وعليه قيل : المراد بيوم الفتح يوم بدر ، أخرج ذلك الحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقيل : يوم فتح مكة ، وحكي ذلك عن الحسن ، ومجاهد ، واستشكل كلا القولين بأن قوله تعالى : يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ ظاهر في عدم قبول الإيمان من الكافر يومئذ مع أنه آمن ناس يوم بدر فقبل منهم وكذا يوم فتح مكة.
وأجيب بأن الموصول على كل منهما عبارة عن المقتولين في ذلك اليوم على الكفر ، فمعنى لا ينفعهم إيمانهم أنهم لا إيمان لهم حتى ينفعهم فهو على حد قوله :
على لا حب لا يهتدى بمناره سواء أريد بهم قوم مخصوصون استهزؤوا أم لا وسواء عطف قوله تعالى : وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ على المقيد أو على المجموع فتأمل.
وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر ، وأيضا كون يوم الفتح يوم بدر بعيد عن كون السورة مكية وكذا كونه يوم فتح مكة ، ويبعد هذا أيضا قلة المقتولين في ذلك اليوم جدا تدبر.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، وعن ابن عباس أن ذلك منسوخ بآية السيف ، ولا يخفى أنه يحتمل أن المراد الإعراض عن مناظرتهم لعدم نفعها أو تخصيصه بوقت معين فلا يتعين النسخ.
وَانْتَظِرْ النصرة عليهم وهلاكهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ قال الجمهور : أي الغلبة عليكم كقوله تعالى :
فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة : 52] وقيل : الأظهر أن يقال : إنهم منتظرون هلاكهم كما في قوله تعالى :
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ الآية ، ويقرب منه ما قيل : وانتظر عذابنا لهم أنهم منتظرون أي هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون فإن استعجالهم المذكور وعكوفهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي في حكم انتظارهم العذاب المترتب عليه لا محالة وقرأ اليماني «منتظرون» بفتح الظاء اسم مفعول على معنى أنهم أحقاء أن ينتظر هلاكم أو أن الملائكة المترتب عليه السلام ينتظرونه والمراد أنهم هالكون لا محالة هذا.
«ومن باب الإشارة» قوله تعالى : ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الالتفات إلى الأسباب والاعتماد عليها ، وقوله سبحانه : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ فيه إشارة إلى أن تدبير العباد عند تدبيره عزّ وجلّ لا أثر له فطوبى لمن رزق الرضا بتدبير اللّه تعالى واستغنى عن تدبيره الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فيه إرشاد إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يستقبح شيئا من المخلوقات ، وقد حكي أن نوحا عليه السلام بصق على كلب أجرب فأنطق اللّه تعالى الكلب فقال : يا نوح أعبتني أم عبت خالقي فناح عليه السلام لذلك زمانا طويلا
فالأشياء كلها حسنة كل في بابه والتفاوت إضافي ، وفي قوله تعالى : وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ إلى آخر الآية بعد قوله

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 139
سبحانه : الَّذِي أَحْسَنَ إلخ إشارة إلى التنقل في أطوار الحسن والعروج في معارجه فكم بين الطين والإنسان السميع البصير العالم فإن الإنسان مشكاة أنوار الذات والصفات والطين بالنسبة إليه كلا شيء إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ إشارة إلى حال كاملي الإيمان وعلو شأن السجود والتسبيح والتحميد والتواضع لعظمته عزّ وجلّ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً إشارة إلى سهرهم في مناجاة محبوبهم وملاحظة جلاله وجماله ، وفي قوله : وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي من المعارف وأنواع الفيوضات يُنْفِقُونَ إشارة إلى تكميلهم للغير بعد كما لهم في أنفسهم وذكر القوم أن العذاب الأدنى الحرص على الدنيا ، والعذاب الأكبر العذاب على ذلك.
وقال بعضهم : الأول التعب في طلب الدنيا والثاني شتات السر ، وقيل : الأول حرمان المعرفة والثاني الاحتجاب عن مشاهدة المعروف ، وقيل : الأول الهوان والثاني الخذلان وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ فيه إشارة إلى ما ينبغي أن يكون المرشد عليه من الأوصاف وهو الصبر على مشاق العبادات وأنواع البليات وحبس النفس عن ملاذ الشهوات والإيقان بالآيات فمن يدعي الإرشاد وهو غير متصف بما ذكر فهو ضال مضلل فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ فيه إشارة إلى أنه ينبغي الإعراض عن المنكرين المستهزئين بالعارفين والسالكين إذا لم ينجع فيهم الإرشاد والنصيحة وإلى أنهم هالكون لا محال فإن الإنكار الذي لا يعذر صاحبه سمّ قاتل وسهم هدفه المقاتل نعوذ باللّه تعالى من الحور بعد الكور بحرمة حبيبة إلّا كرم صلّى اللّه تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 140
سورة الأحزاب
أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : نزلت سورة الأحزاب بالمدينة ، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله ، وهي ثلاث وسبعون آية قال الطبرسي بالإجماع ، وقال الداني هذا متفق عليه ، وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وعبد اللّه بن أحمد في زوائد المسند ، والنسائي والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة وآخرون عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب رضي اللّه تعالى عنه كائن «1» تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية فقال : اقطع «2» لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم» فرفع فيما رفع وأراد رضي اللّه تعالى عنه بذلك النسخ ، وأما كون الزيادة كانت في صحيفة عند عائشة فأكلها الداجن «3» فمن وضع الملاحدة وكذبهم في أن ذلك ضاع بأكل الداجن من غير نسخ كذا في الكشاف.
وأخرج أبو عبيد في الفضائل ، وابن الانباري ، وابن مردويه عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان رضي اللّه تعالى عنه المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن ، وهو ظاهر في الضياع من القرآن ، ومقتضى ما سمعت أنه موضوع ، والحق أن كل خبر ظاهره ضياع شيء من القرآن إما موضوع أو مؤول ، ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي تشابه مطلع هذه ومقطع تلك فإن تلك ختمت بأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين وانتظار عذابهم وهذه بدأت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه عزّ وجلّ حيث قال سبحانه وتعالى :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 إلى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15)
___________
(1) أي كم ا ه منه.
(2) أي احسب ا ه منه.
(3) الداجن وكذا الراجن بالراء ما يألف البيوت ويأنس من شاة وغيرها ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 141
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ناداه جلّ وعلا بوصفه عليه الصلاة والسلام دون اسمه تعظيما له وتفخيما ، قال في الكشاف إنه تعالى جعل نداءه من بين الأنبياء عليهم السلام بالوصف كرامة له عليه الصلاة والسلام وتشريفا وربأ بمحله وتنويها بفضله ، وأوقع اسمه في الأخبار في قوله تعالى : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح :
29] وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران : 144] لتعليم الناس بأنه رسول اللّه وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به فلا تفاوت بين النداء والإخبار ، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره تعالى بنحو ما ذكره في النداء كما في قوله تعالى : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة : 128] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ [الفرقان : 30] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب : 6] إلى غير ذلك.
وتعقبه في الكشف بأن أمر التعليم والتلقين في قوله تعالى : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ظاهر أما في قوله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ فلا ، على أن قوله تعالى : وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [محمد : 2] ينقض ما بناه ، نعم النداء يناسب التعظيم وربما يكون نداء سائر الأنبياء عليهم السلام في كتبهم أيضا على نحو منه ، وحكي في القرآن بأسمائهم دفعا للإلباس ، والأشبه أنه لما قل ذكره صلّى اللّه تعالى عليه وسلم باسمه دلّ على أنه أعظم شأنا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 142
صلوات اللّه تعالى وسلامه وعليهم أجمعين ، وفيه نظر.
واختار الطيبي طيب اللّه تعالى ثراه أن النداء المذكور هنا للاحتراس وجبر ما يوهمه الأمر والنهي كقوله تعالى :
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة : 43] وظاهر سياق ما بعد أن المعنى بالأمر بالتقوى هو النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لا أمته كما قيل في نظائره والمقصود الدوام والثبات عليها ، وقيل : الازدياد منها فإن لها بابا واسعا وعرضا عريضا لا ينال مداه وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي المجاهدين بالكفر وَالْمُنافِقِينَ المضمرين لذلك فيما يريدون من الباطل أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم «1» وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فنزلت ، وذكر الثعلبي والواحدي بغير إسناد أن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور «2» السلمي قدموا عليه عليه الصلاة والسلام في زمان الموادعة التي كانت بينه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وبينهم وقام معهم عبد اللّه بن أبي ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس فقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : ارفض ذكر آلهتنا وقل : إنها تشفع وتنفع وندعك وربك فشق ذلك على النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنين وهموا بقتلهم فنزلت ، وقيل : نزلت في ناس من ثقيف قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يمتعهم باللات والعزى سنة قالوا : لتعلم قريش منزلتنا منك ولا يبعد أن يكون المراد بالنهي الثبات على عدم الإطاعة ، وذكره بعد الأمر بالتقوى المراد منه الثبات عليها على ما قيل من قبيل التخصيص بعد التعميم لاقتضاء المقام الاهتمام به ، وقيل : من قبيل التأكيد ، وقيل : متعلق كل من التقوى والإطاعة مغاير للآخر على ما روى الواحدي ، والثعلبي ، والمعنى اتق اللّه تعالى في نقض العهد ونبذ الموادعة ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة
فيما طلبوا منك من رفض ذكر آلهتهم وقولك : إنها تشفع وتنفع وكأنه إنما قدم الأمر بتقوى اللّه تعالى في نقض العهد لما أن المؤمنين قد هموا بما يقتضيه بخلاف الإطاعة المنهي عنها فإنها مما لم يهم بما يقتضيها أحد أصلا فكان الاهتمام بالأمر أتم من الاهتمام بذلك النهي إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً مبالغا في العلم والحكمة فيعلم الأشياء من المصالح والمفاسد فلا يأمرك إلّا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلّا عما فيه مفسدة ولا يحكم إلّا بما تقتضيه الحكمة البالغة فالجملة تعليل للأمر والنهي مؤكد لوجوب الامتثال بها.
وقيل : المعنى أن اللّه كان عليما بمن يتقي فيجازيه بما يليق به حكيما في هدي من شاء وإضلال من شاء فالجملة تسلية له صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وليس بشيء ، وقوله تعالى : وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ عطف على ما تقدم من قبيل عطف العام على الخاص أي اتبع في كل ما تأتي وتذر من أمور الدين ما يوحى إليك من الآيات التي من جملتها هذه الآية الآمرة بتقوى اللّه تعالى الناهية عن إطاعة الكفرة والمنافقين ، والتعرض لعنوان الربوبية لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً قيل : الخطاب للرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم والجمع للتعظيم ، وقال أبو البقاء : إنما جاء بالجمع لأنه عنى بقوله تعالى : اتَّبِعْ ما يُوحى إلخ اتبع أنت وأصحابك وقيل :
للغائبين من الكفرة المنافقين وبطريق الالتفات ولا يخفى بعده. نعم يجوز أن يكون للكل على ضرب من التغليب ، وأيا ما كان فالجملة تعليل للأمر وتأكيد لموجبه فكأنه قيل على الأول : إن اللّه تعالى يعلم بما تعمل فيرشدك إلى ما فيه
___________
(1) وفي رواية ويزوجه شيبة بنته ا ه منه.
(2) اسمه عمرو بن أبي سفيان ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 143
الصلاح فلا بد من اتباع الوحي والعمل بمقتضاه حتما ، وعلى الثاني أن اللّه تعالى خبير بما يعمل الكفرة والمنافقون من الكيد والمكر فيأمرك سبحانه بما يدفعه فلا بد من اتباع ما يوحيه جلّ وعلا إليك ، وعلى الثالث أن اللّه تعالى خبير بما تعمل ويعمل الكفرة والمنافقون فيرشدك إلى ما فيه صلاح حالك ويطلعك على كيدهم ومكرهم ويأمرك جلّ شأنه بما يدفع ذلك ويرده فلا بد من اتباع وحيه تعالى والعمل بموجبه. وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة على أن الضمير للكفرة والمنافقين.
وجوز كونه عاما فلا تغفل وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض جميع أمورك إليه عزّ وجلّ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظا موكولا إليه كل الأمور ، والإظهار في مقام الإضمار للتعظيم ولتستقل الجملة استقلال المثل.
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : قام النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فنزلت ، وفي رواية عنه رضي اللّه تعالى عنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم صلاة فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فأكثروا فقالوا : إن له قلبين ألم تسمعوا إلى قوله وكلامه في الصلاة إن له قلبا معكم وقلبا مع أصحابه فنزلت ، وقال مقاتل في تفسيره ، وإسماعيل بن أبي زياد الشامي ، وغيرهما : نزلت في أبي معمر الفهري كان أهل مكة يقولون : له قلبان من قوة حفظه وكانت العرب تزعم أن كل لبيب أريب له قلبان حقيقة ، وأبو معمر هذا اشتهر بين أهل مكة بذي القلبين وهو على ما في الإصابة جميل بن أسيد مصغر الأسد ، وقيل : ابن أسد مكبرا وسماه ابن دريد عبد اللّه ابن وهب ، وقيل : إن ذا القلبين هو جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة «1» بن جمح الجمحي وهو المعني بقوله :
وكيف ثوائي البيت وقد تقدم في تفسيره سورة لقمان ، والمعول على ما في الإصابة ، وحكي أنه كان يقول : «2» إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فروي أنه انهزم يوم بدر فمرّ بأبي سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له أبو سفيان : ما فعل الناس؟ فقال : هم ما بين مقتول وهارب فقال له : ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال : ما ظننت إلّا أنهما في رجلي فأكذب اللّه تعالى قوله وقولهم.
وعن الحسن أنه كان جماعة يقول الواحد منهم : نفس تأمرني ونفس تنهاني فنزلت ، والجعل بمعنى الخلق ومن سيف خطيب ، والمراد ما خلق سبحانه لأحد أو لذي قلب من الحيوان مطلقا قلبين فخصوص الرجل ليس بمقصود وتخصيصه بالذكر لكمال لزوم الحياة فيه فإذا لم يكن ذلك له فكيف بغيره من الإناث ، وأما الصبيان فمآلهم إلى الرجولية ، وقوله سبحانه : فِي جَوْفِهِ للتأكيد والتصوير كالقلوب في قوله تعالى : وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج : 46] وذكر في بيان عدم جعله تعالى قلبين في جوف بناء على ما هو الظاهر من أن المراد بالقلب المضغة الصنوبرية أن النفس الناطقة وكذا الحيوانية لا بد له من متعلق ومتعلقها هو الروح وهو جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية لأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة عما وراء موضع الشد مما لا يلي جهة الدماغ والشد لا يمنع إلّا نفوذ الأجسام ، والتجارب الطبية أيضا شاهدة بذلك ، وحيث إن النفس واحدة فلا بد من عضو واحد يكون تعلقها به أولا ثم بسائر الأعضاء بواسطته.
___________
(1) في البحر حارثة بدل حذافة ا ه منه.
(2) وأسلم بعد وعده ابن حجر في الصحابة وكذا جميل الجمحي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 144
وقد ذكر غير واحد أن أول عضو يخلق هو القلب فإنه المجمع للروح فيجب أن يكون التعلق أولا به ثم بواسطته بالدماغ والكبد وبسائر الأعضاء فمنبع القوى بأسرها منه وذلك يمنع التعدد إذ لو تعدد بأن كان هناك قلبان لزم أن يكون كل منهما أصلا للقوى وغير أصل لها أو توارد علتين على معلول واحد ، ولا يخفى على من له قلب أن هذا مع ابتنائه على مقدمات لا تكاد تثبت عند أكثر الإسلاميين من السلف الصالح والخلف المتأخرين ولو بشق الأنفس أمر إقناعي لا برهان قطعي ، على أن للفلسفي أيضا له فيه مقالا ، وقد يفسر القلب بالنفس بناء على أن سبب النزول ما روي عن الحسن إطلاقا للمتعلق على المتعلق وقد بينوا وحدة النفس وأنه لا يجوز أن تتعلق نفسان فأكثر ببدن بما يطول ذكره ، وللبحث فيه مجال فليراجع ، ثم إن هذا التفسير بناء على أن سبب النزول ما ذكر غير متعين بل يجوز تفسير القلب عليه بما هو الظاهر المتبادر أيضا ، وحيث إن القلب متعلق النفس يكون نفي جعل القلبين دالا على نفي جعل النفسين فتدبر.
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ إبطال لما كان في الجاهلية من اجزاء أحكام الأمومة على المظاهر منها ، والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر ويستعمل في معان مختلفة راجعة إليه معنى ولفظا بحسب اختلاف الأغراض فيقال ظاهرته إذا قابلت ظهرك بظهره حقيقة وكذا إذا غايظته باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة ، وظاهرته إذا نصرته باعتبار أنه يقال : قوي ظهره إذا نصره وظاهرت بين ثوبين إذا لبست أحدهما فوق الآخر على اعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب ، ويقال : ظاهر من زوجته إذ قال لها أنت عليّ كظهر أمي نظير لي إذ قال لبيك وأفف إذا قال أف ، وكون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا والمراد منه هنا المعنى الأخير ، وكان ذلك طلاقا منهم.
وإنما عدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التباعد ونحوه مما فيه معنى المجانبة ويتعدى بمن ، والظهر في ذلك مجاز على ما قيل عن البطن لأنه إنما يركب البطن فقوله : كظهر أمي بمعنى كبطنها بعلاقة المجاورة ولأنه عموده ، قال ابن الهمام : لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات ، وقال الأزهري ما معناه : خصوا الظهر لأنه محل الركوب والمرأة تركب إذ غشيت فهو كناية تلويحية انتقل من الظهر إلى المركوب ومنه إلى المغشي ، والمعنى أنت محرمة علي لا تركبين كما لا يركب ظهر الأم وقيل : خص الظهر لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها حراما عندهم فإتيان أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ ، وقيل : كنوا بالظهر عن البطن لأنهم يستقبحون ذكر الفرج وما يقرب منه سيما في الأم وما شابه بها ، وليس بذاك وهو في الشرع تشبيه الزوجة أو جزء منها شائع أو معبر به عن الكل بما لا يحل النظر إليه من المحرمة على التأييد ولو برضاع أو صهرية وزاد في النهاية قيد الاتفاق ليخرج التشبيه بما لا يحل النظر إليه ممن اختلف في تحريمها كالبنت من الزنا ، وتحقيق الحق في ذلك في فتح القدير ، وخص باسم الظهار تغليبا للظهر لأنه كان الأصل في استعمالهم وشرطه في المرأة كونها زوجة وفي الرجل كونه من أهل الكفارة ، وركنه اللفظ المشتمل على ذلك التشبيه ، وحكمه حرمة الوطء ودواعيه إلى وجود الكفارة وتمام الكلام فيه في كتب الفروع ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بعض ذلك في محله.
وقرأ قالون ، وقنبل هنا وفي المجادلة والطلاق «اللاء» بالهمز من غير ياء ، وورش بياء مختلسة الكسرة ، والبزي ، وأبو عمرو «اللاي» ياء ساكنة بدلا من الهمزة وهو بدل مسموع لا مقيس وهي لغة قريش ، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم «تظاهرون» بفتح التاء وتخفيف الظاء وأصله تتظاهرون فحذفت إحدى التاءين.
وقرأ ابن عامر «تظّاهرون» بفتح التاء وتشديد الظاء وأصله كما تقدم إلّا أنه أدغمت التاء الثانية في الظاء ..

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 145
وقرأ الحسن «تظهّرون» بضم التاء وفتح الظاء المخففة وشد الهاء المكسورة مضارع ظهر بتشديد الهاء بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد ، وقرأ ابن وثاب فيما نقل ابن عطية «تظهرون» بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء مضارع أظهر ، وقرأ هارون عن أبي عمرو «تظهرون» بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع ظهر بتخفيف الهاء ، وفي مصحف أبي «تتظهرون» بتاءين ومعنى الكل واحد.
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ إبطال لما كان في الجاهلية أيضا وصدر من الإسلام من أنه إذا تبنى الرجل ولد غيره أجريت أحكام النبوة عليه ، وقد تبنى رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة ، والخطاب عامر بن ربيعة ، وأبو حذيفة مولاه سالما إلى غير ذلك ، وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد أن قوله تعالى : وَما جَعَلَ إلخ ، نزلت في زيد بن حارثة رضي اللّه تعالى عنه.
و«أدعياء» جمع دعي وهو الذي يدعى ابنا فهو فعيل بمعنى مفعول وقياسه أن يجمع على فعلى كجريح وجرحى لا على أفعلاء فإن الجميع عليه قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل كتقي وأتقياء فكأنه شبه به في اللفظ فحمل عليه وجمع جمعه كما قالوا في أسير وقتيل أسراء وقتلاء ، وقل : إن هذا الجمع مقيس في المعتل مطلقا ، وفيه نظر.
ذلِكُمْ قيل : إشارة إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من أنه قد يكون قلبان في جوف والظهار والادعاء ، وقيل : إلى ما يفهم من الأخيرتين ، وقيل : إلى ما يفهم من الأخيرة قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فقط من غير أن يكون له مصداق وحقيقة في الواقع ونفس الأمر فإذن هو بمعزل عن القبول أو استتباع الأحكام كما زعمتم.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ الثابت المحقق في نفس الأمر وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي سبيل الحق فدعوا قولكم وخذوا بقوله عزّ وجلّ.
وقرأ قتادة على ما في البحر «يهدي» بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال ، وفي الكشاف أنه قرأ «وهو الذي يهدي السبيل» ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم وخصوهم بهم ،
أخرج الشيخان ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ما كنا ندعوه إلّا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ إلخ فقال النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : أنت زيد بن حارثة بن شراحيل
، وكان من أمره رضي اللّه تعالى عنه على ما
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيىء فأصيب في نهب من طيىء فقدم به سوق عكاظ وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه فلما قدم وجد زيدا يباع فيها فأعجبه ظرفه فابتاعه فقدم به عليها وقال لها : إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا فإن أعجبك فخذيه وإلّا فدعيه فإنه قد أعجبني فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته فتزوجها رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وهو عندها فأعجب النبي عليه الصلاة والسلام ظرفه فاستوهبه «1» منها فقالت : أهبه لك فإن أردت عتقه فالولاء لي فأبى عليها عليه الصلاة والسلام فأوهبته له إن شاء أعتق وإن شاء أمسك قال : فشب عند النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام فمرّ بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه فقال : من أنت يا غلام؟ قال : غلام من أهل مكة قال : من أنفسهم؟ قال : لا قال : فحر أنت أم مملوك؟ قال : بل مملوك قال : لمن؟ قال : لمحمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب فقال له : أعرابي أنت أم عجمي؟ قال : عربي قال : ممن أصلك؟ قال : من كلب قال : من أي كلب؟ قال : من بني عبد ود قال : ويحك ابن
___________
(1) يروى أنه كان ابن ثمان حين وهب ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 146
أنت؟ قال : ابن حارثة بن شراحيل قال : وأين أصبت؟ قال : في أخوالي قال : ومن أخوالك؟ قال طيىء قال : ما اسم أمك؟
قال : سعدي فالتزمه وقال : ابن حارثة ودعا أباه فقال : يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال : كيف صنع مولاك إليك؟ قال : يؤثرني على أهله وولده فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة فلقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال له حارثة : يا محمد أنتم أهل حرم اللّه تعالى وجيرانه وعند بيته تفكون العاني وتطعمون الأسير ابني عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه فإنك ابن سيد قومه وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أعطيكم خيرا من ذلك قالوا : وما هو؟ قال أخيره فإن اختاركم فخذوه بغير فداء وإن اختارني فكفوا عنه فقال : جزاك اللّه تعالى خيرا فقد أحسنت فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : يا زيد أتعرف هؤلاء؟ قال : نعم هذا أبي وعمي وأخي فقال عليه الصلاة والسلام : فهم من قد عرفتهم فإن اخترتهم فاذهب معهم وإن اخترتني فأنا من تعلم قال له زيد : ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا أنت معي بمكان الوالد والعم قال أبوه وعمه : أيا زيد أتختار العبودية؟ قال : ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم حرصه عليه قال : اشهدوا أنه حر وأنه ابني يرثني وأرثه
فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامته عليه عليه الصلاة والسلام فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعي زيد بن حارثة ، وفي بعض الروايات أن أباه سمع أنه بمكة فأتاه هو وعمه وأخوه فكان ما كان هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل للأمر والضمير لمصدر ادعوا كما في قوله تعالى : اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة : 8] ، وأَقْسَطُ أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل والمراد به البالغ في الصدق فاندفع ما يتوهم من أن المقام يقتضي ذكر الصدق لا العدل أي دعاؤكم إياهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق وزائد فيه في حكم اللّه تعالى وقضائه عزّ وجلّ.
وجوز أن يكون أفعل على ما هو الشائع فيه ، والمعنى أعدل مما قالوه ويكون جعله ذا عدل مع أنه زور لا عدل فيه أصلا على سبيل التهكم فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أي تعرفوا آباءَهُمْ فتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي وأولياؤكم فيه فادعوهم بالأخوة والمولوية بتأويلهما بالأخوة والولاية في الدين ، وبهذا المعنى قيل لسالم بعد نزول الآية مولى حذيفة وكان قد تبناه قبل ، وقيل : مَوالِيكُمْ أي بنو أعمامكم ، وقيل :
معتقوكم ومحرروكم وكأن دعاءهم بذلك لتطييب قلوبهم ولذا لم يؤمر بدعائهم بأسمائهم فقط.
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل النهي وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي ولكن الجناح والإثم فيما تعمدتموه بعد النهي على أن ما في محل الجر عطفا على ما من فِيما أَخْطَأْتُمْ وتعقب بأن المعطوف المجرور لا يفصل بينه وبين ما عطف عليه ، ولذا قال سيبويه في قولهم ما مثل عبد اللّه يقول ذلك ولا أخيه : إنه حذف المضاف من جهة المعطوف وأبقى المضاف إليه على إعرابه والأصل ولا مثل أخيه ليكون العطف على المرفوع. وأجيب بالفرق بين ما هنا والمثال وأن لا فصل فيه لأن المعطوف هو الموصول مع صلته أعني ما تعمدت على مثله أعني ما أخطأتم أو ولكن ما تعمدتم فيه الجناح على أن ما في موضع رفع على الابتداء وخبره جملة مقدرة ، ونسبة التعمد إلى القلوب على حد النسبة في قوله تعالى : فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة : 238] وكون المراد في الأول قبل النهي وفي الثاني بعده أخرجه الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد ، وقيل : كلا الأمرين بعد النهي والخطأ مقابل العمد ، والمعنى لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وعدم التعمد كأن سهوتم أو سبق لسانكم ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين ، وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية : لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 147
وجوز أن يراد بقوله تعالى : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم
لحديث عائشة «1» رضي اللّه تعالى عنها قالت : «قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إني لست أخاف عليكم الخطأ ولكن أخاف عليكم العمد»
وحديث ابن عباس «2» قال : قال عليه الصلاة والسلام وضع عن أمتي الخطأ والنسيان «وما أكرهوا عليه»
ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده ، والجملة على تقديري الخصوص والعموم واردة على سبيل الاعتراض التذييلي تأكيدا لامتثال ما ندبوا إليه مع ادماج حكم مقصود في نفسه ، وجعلها بعضهم عطفا مؤولا بجملة طلبية على معنى ادعوهم لآباؤهم هو أقسط لكم ولا تدعوهم لأنفسكم متعمدين فتأثموا على تقدير الخصوص وجملة مستطردة على تقدير العموم وتعقب بأنه تكلف عنه مندوحة ، وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه ، ولعل ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية ، وأما إذا لم تكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة يا ابني وكثيرا ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة.
وفي حواشي الخفاجي على تفسير البيضاوي النبوة وإن صح فيها التأويل كالإخوة لكن نهي عنها بالتشبيه بالكفرة والنهي للتنزيه انتهى ، ولعله لم يرد بهذا النهي ما تدل عليه الآية المذكورة فإن ما تدل عليه نهي التحريم عن الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية ، والأولى أن يقال في تعليل النهي : سدا لباب التشبيه بالكفرة بالكلية ، وهذا الذي ذكره الخفاجي من كراهة قول الشخص لولد غيره يا ابني حكاه لي من أرتضيه عن فتاوى ابن حجر الكبرى ، وحكم التبني بقوله : هو ابني إن كان عبدا للقائل العتق على كل حال ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب وكان بحيث يولد مثله لمثله ولم يقر قبله بنسب من غيره ، وعند الشافعي لا عبرة بالتبني فلا يفيد العتق ولا ثبوت النسب ، وتحقيق ذلك في موضعه ، ثم الظاهر أنه لا فرق إذا لم يعرف الأب بين أن يقال يا أخي وأن يقال يا مولاي في أن كلا منهما مباح مطلقا حينئذ لكن صرح بعضهم بحرمة أن يقال للفاسق يا مولاي لخبر في ذلك ، وقيل : لما أن فيه تعظيمه وهو حرام ، ومقتضاه أن قول يا أخي إذا كان فيه تعظيم بأن كان من جليل الشأن حرام أيضا ، فلعل الدعاء لغير معروف الأب بما ذكر مخصوص بما إذا لم يكن فاسقا ودليل التخصيص هو دليل حرمة تعظيم الفاسق فتدبر ، وكذا الظاهر أنه لا فرق في أمر الدعوة بين كون المدعو ذكرا وكونه أنثى لكن لم نقف على وقوع التبني للإناث في الجاهلية واللّه تعالى أعلم وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيغفر للعامد إذا تاب رَحِيماً ولذا رفع سبحانه الجناح عن المخطئ ، ويعلم من الآية أنه لا يجوز انتساب الشخص إلى غير أبيه ، وعد ذلك بعضهم من الكبائر لما
أخرج الشيخان ، وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
وأخرج الشيخان أيضا «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة اللّه تعالى والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللّه تعالى منه صرفا ولا عدلا»
وأخرجا أيضا «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلّا كفر».
وأخرج الطبراني في الصغير من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديثه حسن قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كفر من تبرأ من نسب وإن دق أو ادعى نسبا لا يعرف»
إلى غير ذلك من الأخبار ، هذا ومناسبة قوله تعالى : ما جَعَلَ اللَّهُ إلخ لما قبله أنه شروع في ذكر شيء من الوحي الذي أمر صلّى اللّه عليه وسلم في اتباعه كذا قيل ، وقيل : إنه تعالى لما أمر
___________
(1) أخرجه ابن مردويه ا ه منه.
(2) أخرجه ابن ماجة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 148
بالتقوى كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير اللّه تعالى فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما للّه تعالى وبالآخر غيره سبحانه إلّا بصرف القلب عن جهة اللّه تعالى إلى غيره جلّ وعلا ولا يليق ذلك بمن يتقي اللّه تعالى حق تقاته ، وعن أبي مسلم أنه متصل بقوله تعالى : وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب : 48] حيث جيء به للرد عليهم ، والمعنى ليس لأحد قلبان يؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر وإنما هو قلب واحد فإما أن يؤمن وإما أن يكفر ، وقيل :
هو متصل - بلا تطع واتبع - والمعنى أنه لا يمكن الجمع بين اتباعين متضادين اتباع الوحي والقرآن واتباع أهل الكفر الطغيان فكني عن ذلك بذكر القلبين لأن الاتباع يصدر عن الاعتقاد وهو من أفعال القلوب فكما لا يجمع قلبان في جوف واحد لا يجمع اعتقادان متضادان في قلب واحد ، وقيل : هو متصل بقوله تعالى : وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا من حيث إنه مشعر بوحدته عزّ وجلّ فكأنه قيل : وتوكل على اللّه وكفى به تعالى وكيلا فإنه سبحانه وتعالى وحده المدبر لأمور العالم ، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن أمر الرجل الواحد لا ينتظم ومعه قلبان فكيف تنتظم أمور العالم وله إلهان ، وقيل : إن ذاك مسوق للتنفير عن إطاعة الكفرة والمنافقين بحكاية أباطيلهم ، وذكر أن قوله تعالى : ما جَعَلَ إلخ ضرب مثلا للظهار والتبني أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهرة أما والمتنبي ، ابنا ، وجعل المذكورات الثلاث بجملتها مثلا فيما لا حقيقة له وارتضى ذلك غير واحد ، وقال الطيبي : إن هذا أنسب لنظم القرآن لأنه تعالى نسق المنفيات الثلاث عن ترتيب واحد ، وجعل سبحانه قوله جلّ وعلا : ذلِكُمْ فذلكة لها ثم حكم تعالى بأن ذلك قول لا حقيقة له ، وثم ذيل سبحانه وتعالى الكل بقوله تعالى : وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وتعقبه في الكشف بأن سبب النزول وقوله سبحانه بعد التذييل ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الآية شاهد أصدق بأن الأول مضروب للتبني ثم إنهم ما كانوا يجعلون الأزواج أمهات بل كانوا يجعلون اللفظ طلاقا فإدخاله في قرن مسألة التبني استطرادا هو الوجه لا أنه قول لا حقيقة له كالأول.
وانتصر الخفاجي للجماعة فقال : لو كان مثلا للتبني فقط لم يفصل منه ، وكون القلبين لرجل وجعل المتبنى ابنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في نفس الأمر ولا في شرع ظاهر ، وكذا جعل الأزواج كالأمهات في الحرمة المؤبدة مطلقا من مخترعاتهم التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي فلا حقيقة له أيضا فما ادعاه غير وارد عليهم لا سيما مع مخالفته لما روي عنهم انتهى ، ويد اللّه تعالى مع الجماعة ، وبين الطيبي نظم الآيات من مفتتح السورة إلى هاهنا فقال : إن الاستهلال بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ دال على أن الخطاب مشتمل على التنبيه على أمر معتنى بشأنه لائح فيه معنى التهيج والإلهاب ، ومن ثم عطف عليه وَلا تُطِعِ كما يعطف الخاص على العام وأردف النهي بالأمر على نحو قولك لا تطع من يخذلك واتبع ناصرك ، ولا يبعد أن يسمى بالطرد والعكس ، ثم أمر بالتوكل تشجيعا على مخالفة أعداء الدين والالتجاء إلى حريم جلال اللّه تعالى ليكفيه شرورهم ، ثم عقب سبحانه كلا من تلك الأوامر على سبيل التتميم والتذييل بما يطابقه ، وعلل قوله تعالى وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ بقوله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً تتميما للارتداع أي اتق اللّه فيما تأتي وتذر في سرك وعلانيتك لأنه تعالى عليم بالأحوال كلها يجب أن يحذر من سخطه حكيم لا يحب متابعة حبيبه أعداءه ، وعلل قوله تعالى : وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تتميما أيضا أي اتبع الحق ولا تتبع أهواءهم الباطلة وآراءهم الزائغة لأن اللّه تعالى يعلم عملك وعملهم فيكافىء كلا ما يستحقه وذيل سبحانه وتعالى قوله تبارك وتعالى :
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ بقوله تعالى : وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تقريرا وتوكيدا على منوال فلان ينطبق بالحق والحق أبلج يعني من حق من يكون كافيا لكل الأمور أن تفوض الأمور إليه وتوكل عليه ، وفصل قوله تعالى : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 149
مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
على سبيل استئناف تنبيها على بعض من أباطيلهم وتمحلاتهم ، وقوله تعالى : ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ إلخ فذلكة لتلك الأقوال آذنت بأنها جديرة بأن يحكم عليها بالبطلان وحقيق بأن يذم قائلها فضلا عن أن يطاع ، ثم وصل تعالى وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ إلخ على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في وَلا تُطِعِ واتَّبِعْ وفصل قوله تعالى : ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وقوله تعالى : النَّبِيُّ إلخ وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلا لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم انتهى فتأمل ولا تغفل النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ أي أحق وأقرب إليهم مِنْ أَنْفُسِهِمْ أو أشد ولاية ونصرة لهم منها فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فإنها إما امارة بالسوء وحالها ظاهر أو لا فقد تجهل بعض المصالح وتخفى عليها بعض المنافع وأطلقت الأولوية ليفيد الكلام أولويته عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور ويعلم من كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من كل من الناس ، وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا «1» فليأتني فأنا مولاه»
ولا يلزم عليه كون الأنفس هنا مثلها في قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء : 29] لأن إفادة الآية المدعي على الظاهر ظاهرة أيضا ، وإذا كان صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بهذه المثابة في حق المؤمنين يجب عليه أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وحكمه عليه الصلاة والسلام عليهم أنفذ من حكمها وحقه آثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ، وسبب نزول الآية على ما قيل ما
روي من أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال أناس منهم : يستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت
، ووجه دلالتها على السبب أنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى ولا حاجة إلى حمل أنفسهم عليه على خلاف المعنى المتبادر كما أشرنا إليه آنفا وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وارثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات ، وفرع على هذا القسطلاني في المواهب أنه لا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين في الأصح ، والطبرسي وهو شيعي أنه لا يقال لإخوانهن أخوال المؤمنين ، ولا يخفى أنه يسر حسوا بارتغاء ، وفي المواهب أن في جواز النظر إليهن وجهين أشهرهما المنع ، ولكون وجه الشبه مجموع ما ذكر قالت عائشة رضي اللّه عنها لامرأة قالت لها يا أمه : أنا أم رجالكم لا أم نسائكم أخرجه ابن سعد ، وابن المنذر والبيهقي في سننه عنها ، ولا ينافي هذا استحقاق التعظيم منهن أيضا.
وأخرج ابن سعد عن أم سلمة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت أنا أم الرجال منكم والنساء وعليه يكون ما ذكر وجه الشبه بالنسبة إلى الرجال وأما بالنسبة إلى النساء فهو استحقاق التعظيم ، والظاهر أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلّى اللّه تعالى عليه وسلم من طلقها ومن لم يطلقها ، وروى ذلك ابن أبي حاتم عن مقاتل فيثبت الحكم لكلهن وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة ، وقيل : لا يثبت الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا وصحح أمام الحرمين ، والرافعي في الصغير تحريم المدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي اللّه تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف ، وفي رواية أنه رضي اللّه تعالى عنه هم برجمها فقالت له : ولم هذا؟ وما ضرب
___________
(1) أي عيالا ضياعا ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 150
على حجاب ولا سميت للمسلمين أما فكف عنها ، وذكر في المواهب أن في حل من اختارت منهن الدنيا للأزواج منهن الدنيا للأزواج طريقين ، أحدهما طرد الخلاف والثاني القطع بالحل ، واختار هذا الإمام والغزالي ، وحكى القول بأن المطلقة لا يثبت لها هذا الحكم عن الشيعة ، وقد رأيت في بعض كتبهم نفي الأمومة عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالوا : لأن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فوض إلى علي كرم اللّه تعالى وجهه أن يبقي من يشاء من أزواجه ويطلق من يشاء منهن بعد وفاته وكالة عنه عليه الصلاة والسلام وقد طلق رضي اللّه تعالى عنه عائشة يوم الجمل فخرجت عن الأزواج ولم يبق لها حكمهن وبعد أن كتبت هذا اتفق لي أن نظرت في كتاب ألفه سليمان بن عبد اللّه البحراني عليه من اللّه تعالى ما يستحق في مثالب جمع من الصحابة حاشى رضي اللّه تعالى عنهم فرأيت ما نصه :
روى أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن سعد بن عبد اللّه أنه سأل القائم المنتظر وهو طفل في حياة أبيه فقال له يا مولانا وابن مولانا روي لنا أن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين علي كرم اللّه تعالى وجهه حتى أنه بعث في يوم الجمل رسولا إلى عائشة وقال : إنك أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة فإن امتنعت وإلّا طلقتك فأخبرنا يا مولانا عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إلى أمير المؤمنين فقال : إن اللّه تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فخصهن بشرف الأمهات فقال عليه الصلاة والسلام : يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق ما دمنا على طاعة اللّه تعالى فأيتهن عصت اللّه تعالى بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج وأسقطها من شرف أمهات المؤمنين ،
ثم
قال : وروى الطبرسي أيضا في الاحتجاج عن الباقر أنه قال : لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل قال علي كرم اللّه تعالى وجهه : واللّه ما أراني إلّا مطلقها فأنشد اللّه تعالى رجلا سمع رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يقول : يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي لما قام فشهد فقام ثلاثة عشر رجلا
فشهدوا بذلك الحديث ، ورأيت في بعض الأخبار التي لا تحضرني الآن ما هو صريح في وقوع الطلاق ا ه ما قاله البحراني عامله اللّه تعالى بعدله. وهذا لعمري من السفاهة والوقاحة والجسارة على اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بمكان وبطلانه أظهر من أن يخفى وركاكة ألفاظه تنادي على كذبه بأعلى صوت ولا أظنه قولا مرضيا عند من له أدنى عقل منهم فلعن اللّه تعالى من اختلقه وكذا من يعتقده ، وأخرج الفريابي ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يقرأ «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم» وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال : كان في الحرف الأول «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم» وفي مصحف أبي رضي اللّه تعالى عنه كما روى عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وغيرهما «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» وإطلاق الأب عليه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لأنه سبب للحياة الأبدية كما أن الأب سبب للحياة أيضا بل هو عليه الصلاة والسلام أحق بالأبوة منه وعن مجاهد كل نبي أب لأمته ، ومن هنا قيل في قول لوط هؤلاء بناتي أنه أراد المؤمنات ووجهه ما ذكر ، ويلزم من هذه الأبوة على ما قيل أخوة المؤمنين.
ويعلم مما روي عن مجاهد أن الأبوة ليست من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهذا ليس كأمومة أزواجه فإنها على ما في المواهب من الخصوصيات فلا يحرم نكاح أزواج من عداه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام من بعدهم على أحد من أممهم وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات الشاملون للعصبات لا ما يقابلهم بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في النفع بميراث وغيره من النفع المالي أو في التوارث ويؤيده سبب النزول الآتي ذكره فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما كتبه في اللوح أو فيما أنزله وهي آية المواريث أو هذه الآية أو فيما كتبه سبحانه وفرضه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 151
وقضاه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ صلة لأولى فمدخول مِنْ هو المفضل عليه وهي ابتدائية مثلها في قولك :
زيد أفضل من عمرو أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى في كل نفع أو بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة ، وقال الزمخشري : يجوز أن يكون بيانا لأولو الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب ، والأول هو الظاهر ، وكان في المدينة توارث بالهجرة وبالموالاة في الدين ذلك بآية آخر الأنفال أو بهذه الآية ، وقيل : بالإجماع وأرادوا كشفه عن الناسخ وإلّا فهو لا يكون ناسخا كما لا يخفى ، ورفع بَعْضُهُمْ يجوز أن يكون على البدلية وأن يكون على الابتداء وفِي كِتابِ متعلق بأولى ويجوز أن يكون حالا والعامل فيه معنى أَوْلى ولا يجوز على ما قال أبو البقاء أن يكون حالا من أُولُوا للفصل بالخبر ولأنه لا عامل إذا ، وقوله تعالى : إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً إما استثناء متصل من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع كأنه قيل : القريب أولى من الأجنبي من المؤمنين والمهاجرين في كل نفع من ميراث وصدقة وهدية ونحو ذلك إلّا في الوصية فإنها المرادة بالمعروف فالأجنبي أحق بها من القريب الوارث فإنها لا تصح لوارث ، وأما استثناء منقطع بناء على أن المراد بما فيه الأولوية هو التوارث فيكون الاستثناء من خلاف الجنس المدلول عليه بفحوى الكلام كأنه قيل : لا تورثوا غير أولي الأرحام لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب معروفا وهو أن توصوا لمن أحببتم منهم بشيء جائز فيكون ذلك له بالوصية لا بالميراث ، ويجوز أن يكون المعروف عاما لما عدا الميراث ، والمتبادر إلى الذهن انقطاع الاستثناء واقتصر عليه أبو البقاء ، ومكي وكذا الطبرسي وجعل المصدر مبتدأ محذوف الخبر كما أشرنا إليه.
وتفسير الأولياء بمن كان من المؤمنين والمهاجرين هو الذي يقتضيه السياق فهو من وضع الظاهر موضع الضمير بناء على أن مِنْ فيما تقدم للابتداء لا للبيان ، وأخرج ابن جرير ، وغيره عن مجاهد تفسيره بالذين والى بينهم النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، وأخرج ابن المنذر ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم. عن محمد بن الحنفية أنه قال : نزلت هذه الآية في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني ، وأخرجوا عن قتادة أنه قال : الأولياء القرابة من أهل الشرك والمعروف الوصية ، وحكي في البحر عن جماعة منهم الحسن ، وعطاء أن الأولياء يشمل القريب والأجنبي المؤمن والكافر وأن المعروف أعم من الوصية. وقد أجازها للكافر القريب وكذا الأجنبي جماعة من الفقهاء والإمامية يجوزونها لبعض ذوي القرابة الكفار وهم الوالدان والولد لا غير ، والنهي عن اتخاذ الكفار أولياء لا يقتضي النهي عن الإحسان إليهم والبر لهم. وعدّي تَفْعَلُوا بإلى لتضمنه معنى الإيصال والإسداء كأنه قيل : إلّا أن تفعلوا مسدين إلى أوليائكم معروفا كانَ ذلِكَ أي ما ذكر في الآيتين أعني ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ والنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وجوز أن يكون إشارة إلى ما سبق من أول السورة إلى هنا أو إلى ما بعد قوله تعالى : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ أو إلى ما ذكر في الآية الأخيرة وفيه بحث فِي الْكِتابِ أي في اللوح أو القرآن وقيل في التوراة مَسْطُوراً أي مثبتا بالإسطار وعن قتادة أنه قال في بعض القراءات : كان ذلك عند اللّه مكتوبا أن لا يرث المشرك المؤمن فلا تغفل.
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ مقدر بأذكر على أنه مفعول لا ظرف لفساد المعنى ، وهو معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر كخذ هذا ، وجوز أن يكون ذلك عطفا على خبر كان وهو بعيد وإن كان قريبا ، ولما كان ما سبق متضمنا أحكاما شرعها اللّه تعالى وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية وأشياء مما كان في الإسلام أبطلت ونسخت اتبعه سبحانه بما فيه حث على البليغ فقال عزّ وجلّ : وَإِذْ إلخ واذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والشرائع والدعاء إلى الدين الحق وذلك على ما قال الزجاج وغيره وقت استخراج

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 152
البشر من صلب آدم عليه السلام كالذر ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة أنه سبحانه أخذ من النبيين عهودهم بتصديق بعضهم بعضا واتباع بعضهم بعضا ، وفي رواية أخرى عنه أنه أخذ اللّه تعالى ميثاقهم بتصديق بعضهم بعضا والإعلان بأن محمدا رسول اللّه وإعلان رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أن لا نبي بعده وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ تخصيصهم بالذكر مع اندراجهم في النبيين اندراجا بينا للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع.
واشتهر أنهم هم أولو العزم من الرسل صلوات اللّه تعالى وسلامه عليهم أجمعين وأخرج البزار عن أبي هريرة أنهم خيار ولد آدم عليهم الصلاة والسلام ، وتقديم نبيا صلّى اللّه تعالى عليه وسلم مع أنه آخرهم بعثة للإيذان بمزيد خطره الجليل أو لتقدمه في الخلق ،
فقد أخرج ابن أبي عاصم والضياء في المختارة عن أبي بن كعب مرفوعا بدىء بي الخلق وكنت آخرهم في البعث
، وأخرج جماعة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث
، وكذا في الاستنباء
فقد جاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام قال : «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد»
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : قيل يا رسول اللّه متى أخذ ميثاقك؟ قال : وآدم بين الروح والجسد
، ولا يضر فيما ذكر تقديم نوح عليه السلام في آية الشورى أعني قوله تعالى : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى : 13] الآية إذ لكل مقام مقال والمقام هناك وصف دين الإسلام بالأصالة والمناسب فيه تقديم نوح فكأنه قيل : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم وبعث عليه محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء في العهد الحديث وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء والمشاهير ، وقال ابن المنير : السر في تقديمه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أنه هو المخاطب والمنزل عليه هذا المتلو فكان أحق بالتقديم ، وفيه بحث وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهد عهد عظيم الشأن أو وثيقا قويا وهذا هو الميثاق الأول وأخذه هو أخذه ، والعطف مبني على تنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى :
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود : 58] أثر قوله سبحانه : وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [هود :
58] وفي ذلك من تفخيم الشأن ما فيه ولهذا لم يقل عزّ وجلّ : وإذ أخذنا من النبيين ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ميثاقا غليظا مثلا ، وقال سبحانه ما في النظم الكريم ، وقيل : الميثاق الغليظ اليمين باللّه تعالى فيكون بعد ما أخذ اللّه سبحانه من النبيين الميثاق بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الحق أكد باليمين باللّه تعالى على الوفاء بما حملوا فالميثاقان متغايران بالذات ، وقوله عزّ وجلّ : لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ قيل متعلق بمضمر مستأنف مسوق لبيان علة الأخذ المذكور وغايته أي فعل اللّه تعالى ذلك ليسأل إلخ وقيل : متعلق بأخذنا ، وتعقب بأن المقصود تذكير نفس الميثاق ثم بيان علته وغايته بيانا قصديا كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة ، والمراد بالصادقين النبيون الذين أخذ ميثاقهم ووضع موضع ضميرهم للإيذان من أول الأمر بأنهم صادقوا فيما سألوا عنه وإنما السؤال لحكمة تقتضيه أي ليسأل اللّه تعالى يوم القيامة النبيين الذين صدقوا عهودهم عن كلامهم الصادق الذي قالوه لأقوامهم أو عن تصديق أقوامهم إياهم ، وسؤالهم عليهم السلام عن ذلك على الوجهين لتبكيت الكفرة المكذبين كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة : 109] أو المراد بهم المصدقون بالنبيين ، والمعنى ليسأل المصدقين للنبيين عن تصديقهم إياهم فيقال : هل صدقتم؟ وقيل : يقال لهم هل كان تصديقكم لوجه اللّه تعالى؟ وجه إرادة ذلك أن مصدق الصادق صادق وتصديقه صدق ، وقيل : المعنى ليسأل المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 153
وتعقب بأنه يأباه مقام تذكير ميثاق النبيين وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً قيل عطف على فعل مضمر متعلقا فيما قيل : وقيل : على مقدر دلّ عليه لِيَسْئَلَ كأنه قيل فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين إلخ ، وقيل : على أَخَذْنا وهو عطف معنوي كأنه قيل : أكد اللّه تعالى على النبيين الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين إلخ.
وقيل : على (يسئل) بتأويله بالمضارع ولا بد من ملاحظة مناسبة ليحسن العطف وقيل : على مقدر وفي الكلام الاحتباك والتقدير ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد لهم ثوابا عظيما ويسأل الكاذبين عن كذبهم وأعد لهم عذابا أليما فحذف من كل منهما ما ثبت في الآخر ، وقيل : إن الجملة حال من ضمير (يسئل) بتقدير قد أو بدونه ، ولا يخفى أقلها تكلفا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ شروع في ذكر قصة الأحزاب وهي وقعة الخندق ، وكانت على ما قال ابن إسحاق في شوال سنة خمس ، وقال مالك : سنة أربع.
والنعمة إن كانت مصدرا بمعنى الإنعام فالجار متعلق بها وإلّا فهو متعلق بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة عليكم ، وقوله تعالى : إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ظرف لنفس النعمة أو لثبوتها لهم ، وقيل : منصوب بأذكر على أنه بدل اشتمال من نِعْمَةَ والمراد بالجنود الأحزاب ، وهم قريش يقودهم أبو سفيان ، وبنو أسد يقودهم طليحة ، وغطفان يقودهم عيينة ، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي ، وبنو النضير رؤساؤهم حيي ابن أخطب وأبناء أبي الحقيق ، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد ، وكان بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عهد فنبذه بسعي حيي ، وكان مجموعهم عشرة آلاف في قول وخمسة عشر ألفا في آخر ، وقيل : زهاء اثني عشر ألفا فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بإقبالهم حفر خندقا قريبا من المدينة محيطا بها بإشارة سلمان الفارسي أعطى كل أربعين ذراعا لعشرة ، ثم خرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فدفعوا في الآطام ، واشتد الخوف وظن المؤمنون كل ظن وبحم النفاق كما قص اللّه تعالى ، ومضى قريب من شهر على الفريقين لا حرب بينهم سوى الرمي بالنبل والحجارة من وراء الخندق إلّا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وكان يعد بألف فارس ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد اللّه قد ركبوا خيولهم وتيمموا من الخندق مكانا ضيقا فضربوا بخيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع فخرج علي بن أبي طالب كرم اللّه تعالى وجهه في نفر من المسلمين رضي اللّه تعالى عنهم حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها فأقبلت الفرسان معهم وقتل علي كرم اللّه تعالى وجهه عمرا في قصة مشهورة فانهزمت خيله حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو منبه بن عثمان بن عبد الدار.
ونوفل بن عبد العزى ، وقيل : وجد نوفل في جوف الخندق فجعل المسلمون يرمونه بالحجارة فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام.
وذكر ابن إسحاق أن عليا كرم اللّه تعالى وجهه طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق وبعث المشركون إلى رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي عليه الصلاة والسلام : هو لكم لا نأكل ثمن الموتى ، ثم أنزل اللّه تعالى النصر وذلك قوله تعالى : فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
عطف على جاءَتْكُمْ مسوق لبيان النعمة إجمالا وسيأتي أن شاء اللّه تعالى بقيتها في آخر القصة.
وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة عليهم السلام وكانوا على ما قيل ألفا ، روي أن اللّه تعالى بعث عليهم صبا باردة في ليلة باردة فاخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأمر الملائكة عليهم السلام فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 154
في جوانب عسكرهم فقال طليحة بن خويلد الأسدي : أما محمد صلّى اللّه عليه وسلم فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا ، وقال حذيفة رضي اللّه تعالى وقد ذهب ليأتي رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بخبر القوم. خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل الرحيل لا مقام لكم وإذا الرجل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا فو اللّه إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم والربح تضربهم ثم خرجت نحو النبي عليه الصلاة والسلام فلما صرت في نصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا متعممين فقالوا : أخبر صاحبك أن اللّه تعالى كفاه القوم.
وقرأ الحسن «وجنودا» بفتح الجيم ، وقرأ أبو عمرو في رواية ، وأبو بكر في رواية أيضا «لم يروها» بياء الغيبة وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق وترتيب مبادئ الحرب أعلاه لكلمة اللّه تعالى ، وقيل : من التجائكم إليه تعالى ورجائكم من فضله عزّ وجلّ.
وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة أي بما يعمله الكفار من التحرز والمحاربة وإغراء بعضهم بعضا عليها حرصا على إبطال حقكم ، وقيل : من الكفر والمعاصي بَصِيراً ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم ، والجملة اعتراض مقرّر لما قبله إِذْ جاؤُكُمْ بدل من إِذْ جاءَتْكُمْ بدل كل من كل ، وقيل : هو متعلق بتعملون أو ببصيرا مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من جهة المشرق والإضافة إليهم لأدنى ملابسة ، والجائي من ذلك بنو غطفان ، ومن تابعهم من أهل نجد ، وبنو قريظة ، وبنو النضير وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب ، والجائي من ذلك قريش ومن شايعهم من الأحابيش ، وبني كنانة ، وأهل تهامة ، وقيل : الجائي من فوق بنو قريظة ، ومن أسفل قريش ، وأسد ، وغطفان ، وسليم ، وقيل : غير ذلك.
ويحتمل أن يكون من فوق ومن أسفل كناية عن الإحاطة من جميع الجوانب كأنه قيل : إذ جاؤوكم محيطين بكم كقوله تعالى : يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت : 55] وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ عطف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير أي حين مالت الأبصار عن سننها وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة.
وقال الفراء : أي حين مالت عن كل شيء فلم تلتفت إلّا إلى عدوها وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي خافت خوفا شديدا وفزعت فزعا عظيما لأنها تحركت عن موضعها وتوجهت إلى الحناجر لتخرج.
أخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه قال في الآية : إن القلوب لو تحركت وزالت خرجت نفسه ولكن إنما هو الفزع فالكلام على المبالغة ، وقيل : القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مخرج النفس فلا يقدر المرء أن يتنفس ويموت خوفا ، وقيل : إن الرئة تنتفخ من شدة الفزع والغضب والغم الشديد وإذا انتفخت ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثم قيل للجبان : انتفخ سحره ، وإلى حمل الكلام على الحقيقة ذهب قتادة.
أخرج عنه عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم أنه قال في الآية : أي شخصت عن مكانها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت ، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا يا رسول اللّه هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال : نعم اللهم استر عورتنا وآمن روعاتنا قال : فضرب اللّه تعالى وجوه أعدائه بالريح فهزمهم اللّه تعالى بالريح
، والخطاب في قوله تعالى : وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا لمن يظهر الإيمان على الإطلاق ، والظنون جمع الظن وهو مصدر شامل للقليل والكثير ، وإنما جمع للدلالة على تعدد أنواعه ، وقد جاء كذلك في أشعارهم أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 155
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
أي تظنون باللّه تعالى أنواع الظنون المختلفة فيظن المخلصون منكم الثابتون في ساحة الإيمان أن ينجز سبحانه وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، ويعرب عن ذلك ما سيحكى عنهم من قولهم هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الآية ، أو أن يمتحنهم فيخافون أن تزل أقدامهم فلا يتحملون ما نزل بهم ، وهذا لا ينافي الإخلاص والثبات كما لا يخفى ، ويظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما حكي عنهم في قوله تعالى : وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الآية ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية : ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمدا صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه يستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعد واللّه ورسوله حق وأنه سيظهر على الدين كله ، وقد يختار أن الخطاب للمؤمنين ظاهرا وباطنا واختلاف ظنونهم بسبب أنهم يظنون تارة أن اللّه سبحانه سينصرهم على الكفار من غير أن يكون لهم استيلاء عليهم أولا ، وتارة أنه عزّ وجلّ سينصر الكفار عليه فيستولون على المدينة ثم ينصرهم عليهم بعد ، وأخرى أنه سبحانه سينصر الكفار بحيث يستأصلونهم وتعود الجاهلية ، أو بسبب أن بعضهم يظن هذا وبعضهم يظن ذاك وبعضهم يظن ذلك.
ويلتزم أن الظن الذي لا يليق بحال المؤمن كان من خواطر النفس التي أوجبها الخوف الطبيعي ولم يمكن البشر دفعها ومثلها عفو ، أو يقال : ظنونهم المختلفة هي ظن النصر بدون نيل العدو منهم شيئا وظنه بعد النيل وظن الامتحان وعلى هذا لا يحتاج إلى الاعتذار ، وأيا ما كان فالجملة معطوفة على زاغَتِ وصيغة المضارع لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار ، وكتب الظُّنُونَا وكذا أمثاله من المنصوب المعرف بأل كالسبيلا والرسولا في المصحف بألف في آخره ، فحذفها أبو عمرو وقفا ووصلا ، وابن كثير ، والكسائي وحفص يحذفونها وصلا خاصة ويثبتها باقي السبعة في الحالين ، واختار أبو عبيد ، والحذاق أن يوقف على نحو هذه الكلمة بالألف ولا توصل فتحذف أو تثبت لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار ولأن إثباتها في الوصل معدوم في لسان العرب نظمهم ونثرهم لا في اضطرار ولا في غيره ، أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقة لبعض مذاهب العرب لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم ومصاريعها ومن ذلك قوله : أقلّي اللوم عاذل والعتابا «1» والفواصل في الكلام كالمصاريع ، وقال أبو علي : إن رؤوس الآي تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع هُنالِكَ ظرف مكان ويستعمل للزمان وقيل : إنه مجاز وهو أنسب هنا ، وأيا ما كان فهو ظرف لما بعده لا لتظنون كما قيل أي في ذلك الزمان الهائل أو في ذلك المكان المدحض ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبرهم اللّه تعالى ، والكلام من باب التمثيل ، والمراد عاملهم سبحانه وتعالى معاملة المختبر فظهر المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزل ، وابتلاؤهم على ما روي عن الضحاك بالجوع ، وعلى ما روي عن مجاهد بشدة الحصار ، على ما قيل بالصبر على الإيمان.
وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي اضطربوا اضطرابا شديدا من شدة الفزع وكثرة الأعداء ، وعن الضحاك «أنهم زلزلوا عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلّا موضع الخندق» وقيل : أي حركوا إلى الفتنة فعصموا. وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي عن أبي عمرو «زلزلوا» بكسر الزاي قاله ابن خالويه ، وقال الزمخشري : وعن أبي عمرو إشمام زاي زلزلوا وكأنه عنى إشمامها الكسر ووجه الكسر انه اتباع حركة الزاي الأولى لحركة الثانية ولم يعتد بالساكن كما لم يعتد به من قال منتن بكسر الميم اتباعا لحركة التاء وهو اسم فاعل من أنتن. وقرأ الجحدري وعيسى «زلزلا» بفتح الزاي ، ومصدر فعلل
___________
(1) في رواية ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 156
من المضاعف يجوز فيه الفتح والكسر نحو قلقل قلقالا ، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال بمعنى مصلصل ، فإن كان من غير المضاعف فما سمع منه على فعلال مكسور الفاء نحو سرهفه سرهافا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ عطف على إِذْ زاغَتِ وصيغة المضارع لما مر من الدلالة على استمرار القول واستحضار صورته.
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ظاهر العطف أنهم قوم لم يكونوا منافقين فقيل : هم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبهة عليهم ، وقيل : قوم كانوا ضعفاء الاعتقاد لقرب عهدهم بالإسلام ، وجوز أن يكون المراد بهم المنافقون أنفسهم والعطف لتغاير الوصف كقوله : إلى الملك القرم وابن الهمام.
ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الظفر وإعلاء الدين إِلَّا غُرُوراً أي وعد غرور ، وقيل : أي قولا باطلا وفي البحر أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به
روي أن الصحابة بينما يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة بيضاء مدورة شديدة جدا لا تدخل فيها المعاول فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فأخذ المعول من سلمان رضي اللّه تعالى عنه فضربها ضربة دعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم فكبر رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون ثم ضربها الثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها فكبر عليه الصلاة والسلام وكبّر المسلمون ثم ضربها الثالثة فكسرها وبرقت برقة أضاء منها ما بين لابتيها فكبر صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون فسأل عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي الثانية قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهر عليها فأبشروا بالنصر فاستبشر المسلمون وقال رجل من الأنصار يدعى معتب بن قشير وكان منافقا : أيعدنا محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أن يفتح لنا مدائن اليمن وبيض المدائن وقصور الروم وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلّا قتل هذا واللّه الغرور فأنزل اللّه تعالى في هذا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
إلخ.
وفي رواية قال المنافقون حين سمعوا ذلك ألا تعجبون يحدثكم ويعدكم ويمنيكم الباطل أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل اللّه تعالى قوله سبحانه إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ ووجه الجمع على القول بأن القائل واحد أن الباقين راضون بذلك قابلوه منه ، والظاهر أن نسبة الوعد إلى اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة من المنافقين الذين لا يعتقدون اتصافه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بالرسالة ولا أن الوعد وعد اللّه تعالى شأنه كانت من باب المماشاة أو الاستهزاء وإن كانت قد وقعت من غيرهم فهي بالتبعية لهم.
ويجوز أن يكون وقوع ما ذكر في الحكاية لا في كلامهم ويستأنس له بما وقع في بعض الآثار وبعضهم بحث عن إطلاق الرسول عليه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقال أنه في الحكاية لا في كلامهم كما يشهد بذلك ما روي عن معتب أو هو تقية لا استهزاء لأنه لا يصح بالنسبة لغير المنافقين فتأمل ولا تغفل وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ قال السدي :
هم عبد اللّه بن أبي بن سلول وأصحابه ، وقال مقاتل : هم بنو سلمة ، وقال أوس بن رومان هم أوس بن قيظي وأصحابه بنو حارثة وضمير مِنْهُمْ للمنافقين أو للجميع يا أَهْلَ يَثْرِبَ هو اسم المدينة المنورة ، وقال أبو عبيدة اسم بقعة وقعت المدينة في ناحية منها ، وقيل : اسم أرضها وهو عليها ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل أو التأنيث ولا ينبغي تسمية المدينة بذلك
أخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن البراء بن عازب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 157
تعالى عليه وسلم من سمى المدينة يثرب فليستغفر اللّه تعالى هي طابة هي طابة هي طابة
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن رسول اللّه عليه الصلاة والسلام لا تدعونها يثرب فإنها طيبة يعني المدينة ومن قال يثرب فليستغفر اللّه تعالى ثلاث مرات هي طيبة هي طيبة هي طيبة
، وفي الحواشي الخفاجية أن تسميتها به مكروهة كراهة تنزيهية ، وذكر في وجه ذلك أن هذا الاسم يشعر بالتثريب وهو اللوم والتعبير.
وقال الراغب : التثريب التقريع بالذنب والثرب شحمة رقيقة ، ويثرب يصح أن يكون أصله من هذا الباب والياء تكون فيه زائدة انتهى ، وقيل : يثرب اسم رجل من العمالقة وبه سميت المدينة وكان يقال لها أثرب أيضا ، ونقل الطبرسي عن الشريف المرتضى أن للمدينة أسماء منها يثرب وطيبة وطابة والدار والسكينة وجائزة والمحبورة والمحبة والمحبوبة والعذراء والمرحومة والقاصمة ويندّد انتهى ، وكأن القائلين اختاروا يثرب من بين الأسماء مخالفة له صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لما علموا من كراهيته عليه الصلاة والسلام لهذا الاسم من بينها ، ونداؤهم أهل المدينة بعنوان أهليتهم لها ترشيح لما بعد من الأمر بالرجوع إليها لا مُقامَ لَكُمْ أي لا مكان إقامة أو لا إقامة لكم أي لا ينبغي أو لا يمكن لكم الإقامة هاهنا.
وقال أبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والنخعي ، وعبد اللّه بن مسلم ، وطلحة وأكثر السبعة «لا مقام» بفتح الميم وهو يحتمل أيضا المكان أي لا مكان قيام والمصدر أي لا قيام لكم ، والمعنى على نحو ما تقدم فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم بالمدينة ليكون ذلك أسلم لكم من القتل أو ليكون لكم عند هذه الأحزاب يد ، قيل :
ومرادهم أمرهم بالفرار على ما يشعر به ما بعد لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجا لمقالتهم وإيذانا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم ، وقيل : المعنى لا مقام لكم في دين محمد صلّى اللّه عليه وسلم فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك أو فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه إلى أعدائه عليه الصلاة والسلام ، أو لا مقام لكم بعد اليوم في يثرب أو نواحيها لغلبة الأعداء فارجعوا كفارا ليتسنى لكم المقام فيها لارتفاع العداوة حينئذ.
وقيل : يجوز أن يكونوا خافوا من قتل النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إياهم بعد غلبته عليه الصلاة والسلام حيث ظهر أنهم منافقون فقالوا : لا مُقامَ لَكُمْ على معنى لا مقام لكم مع النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لأنه إن غلب قتلكم فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه عليه الصلاة والسلام أو فارجعوا عن الإسلام واتفقوا مع الأحزاب أو ليس لكم محل إقامة في الدنيا أصلا إن بقيتم على ما أنتم عليه فارجعوا عما بايعتموه عليه عليه الصلاة والسلام إلى آخره ، والأول أظهر وأنسب بما بعده ، وبعض هذه الأوجه بعيد جدا كما لا يخفى.
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ عطف على قالَتْ وصيغة المضارع لما مرّ من استحضار الصورة ، والمستأذن على ما روي عن ابن عباس ، وجابر بن عبد اللّه بنو حارثة بن الحارث ، قيل : أرسلوا أوس بن قيظي أحدهم للاستئذان ، وقال السدي : جاء هو ورجل آخر منهم يدعى أبا عرابة بن أوس ، وقيل : المستأذن بنو حارثة ، وبنو سلمة استأذنوه عليه الصلاة والسلام في الرجوع ممتثلين بأمر أولئك القائلين يا أهل يثرب.
وقوله تعالى : يَقُولُونَ بدل من يَسْتَأْذِنُ أو حال من فاعله أو استئناف مبني على السؤال عن كيفية الاستئذان إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي ذليلة الحيطان يخاف عليها السراق كما نقل عن السدي ، وقال الراغب : أي متخرقة ممكنة لمن أرادها ، وقال الكلبي : أي خالية من الرجال ضائعة ، وقال قتادة : قاصية يخشى عليها العدو وأصلها على ما قيل مصدر بمعنى الخلل ووصف بها مبالغة وتكون صفة للمؤنث والمذكر والمفرد وغيره كما هو شأن المصادر ، وجوز أن تكون صفة مشبهة على أنها مخفف عورة بكسر الواو كما قرأ بذلك هنا وفيما بعد ابن عباس ، وأبو

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 158
يعمر ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو طالوت ، وابن مقسم ، وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير من عورت الدار إذا اختلت ، قال ابن جني : صحة الواو على هذا شاذة والقياس قلبها الفا فيقال عارة كما يقال كبش صاف ونعجة صافة ويوم راح ورجل مال والأصل صوف وصوفة وروح ومول ، وتعقب بأن القياس إنما يقتضي القلب إذا وقع القلب في الفعل وعور هنا قد صحت عينه حملا على أعور المشدد ، ورجح كونها مصدرا وصف به للمبالغة بأنه الأنسب بمقام الاعتذار كما يفصح عنه تصدير مقالتهم بحرف التحقيق ، لكن ينبغي أن يقال في قوله تعالى : وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إذا أجرى فيه هذا اللفظ كما أجرى فيما قبله أن المراد المبالغة في النفي على نحو ما قيل «1» قوله تعالى :
وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت : 46] والواو فيه للحال أي يقولون ذلك والحال أنها ليست كذلك إِنْ يُرِيدُونَ أي ما يريدون بالاستئذان إِلَّا فِراراً أي هربا من القتال ونصرة المؤمنين قاله جماعة ، قيل : فرار من الدين وَلَوْ دُخِلَتْ أي البيوت كما هو الظاهر عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء القائلين ، وأسند الدخول إلى بيوتهم وأوقع عليهم لما أن المراد فرض دخولها وهم فيها لا فرض دخولها مطلقا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور ولا فرض الدخول عليهم مطلقا كما هو المفهوم لو أسند الجار والمجرور وفاعل الدخول الداخل من أهل الفساد من كان أي لو دخل كل من أراد الدخول من أهل الدعارة والفساد بيوتهم وهم فيها مِنْ أَقْطارِها جمع قطر بمعنى الناحية والجانب ويقال قتر بالتاء لغة فيه أي من جميع جوانبها وذلك بأن تكون مختلة بالكلية وهذا داخل في المفروض فلا يخالف قوله تعالى وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ثُمَّ سُئِلُوا أي طلب منهم من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة والرجفة الهائلة الْفِتْنَةَ أي القتال كما قال الضحاك لَآتَوْها أي لأعطوها أولئك السائلين كأنه شبه الفتنة والمطلوب اتباعهم فيها بأمر نفيس يطلب منهم بذله ونزل إطاعتهم وابتاعهم بمنزلة بذل ما سألوه وإعطائه ، وقرأ نافع ، وابن كثير «لأتوها» بالقصر أي لفعلوها وَما تَلَبَّثُوا بِها أي بالفتنة ، والباء للتعدية أي ما لبثوها وما أخروها إِلَّا يَسِيراً أي إلا تلبثا يسيرا أو إلّا زمانا يسيرا وهو مقدار ما يأخذون فيه سلاحهم على ما قيل ، وقيل : مقدار ما يجيبون السؤال فيه ، وكلاهما عندي من باب التمثيل ، والمراد أنهم لو سألهم غيرك القتال وهم في أشد حال وأعظم بلبال لأسرعوا جدا فضلا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها كما فعلوا الآن.
والحاصل أن طلبهم الأذن في الرجوع ليس لاختلال بيوتهم بل لنفاقهم وكراهتهم نصرتك ، وقال ابن عطية : المعنى ولو دخلت المدينة من أقطارها واشتد الحرب الحقيقي ثم سألوا الفتنة والحرب لمحمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لطاروا إليها ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلّا يسيرا قيل قدر ما يأخذون سلاحهم انتهى ، فضمير دُخِلَتْ عنده عائد على المدينة وباء بِها للظرفية كما هو ظاهر كلامه ، وجوز أن تكون سببية والمعنى على تقدير مضاف أي ولم يتلبثوا بسبب حفظها ، وقيل : يجوز أن تكون للملابسة أيضا ، والضمير على كل تقدير للبيوت وفيه تفكيك الضمائر.
وعن الحسن ، ومجاهد ، وقتادة الْفِتْنَةَ الشرك ، وفي معناه ما قيل : هي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر ، وجعل بعضهم ضميري دُخِلَتْ بِها للمدينة وزعم أن المعنى ولو دخلت المدينة عليهم من جميع جوانبها ثم سألوا الرجوع إلى إظهار الكفر والشرك لفعلوا وما لبثوا بالمدينة بعد إظهار كفرهم إلّا يسيرا فإن اللّه تعالى يهلكهم أو يخرجهم بالمؤمنين ، وقيل : ضمير دُخِلَتْ للبيوت أو للمدينة وضمير بِها للفتنة بمعنى الشرك والباء للتعدية ، والمعنى ولو دخلت عليهم ثم سئلوا الشرك لأشركوا وما أخروه إلّا يسيرا ، وقريب منه قول قتادة أي لو دخلت عليهم ثم
___________
(1) قوله ما قيل إلخ كذا بخطه ولعل لفظة في ساقطة من قلمه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 159
سألوا الشرك لأعطوه طيبة به أنفسهم وما تحسبوا به إلّا يسيرا ، وجوز أن تكون الباء لغير ذلك ، وقيل : فاعل الدخول أولئك العساكر المتحزبة ، والوجوه المحتملة في الآية كثيرة كما لا يخفى على من له أدنى تأمل. وما ذكرناه أولا هو الأظهر فيما أرى. وقرأ الحسن «سولوا» بواو ساكنة بعد السين المضمومة قالوا : وهي من سال يسال كخاف يخاف لغة في سأل المهموز العين ، وحكى أبو زيد هما يتساولان ، وقال أبو حيان : ويجوز أن يكون أصلها الهمز لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب مبنيا للمفعول ضرب ثم سهل الهمزة بإبدالها واوا على قول من قال في بؤس بوس بابدال الهمزة واوا لضم ما قبلها. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ، والأعمش «سيلوا» بكسر السين من غير همز نحو قيل ، وقرأ مجاهد «سويلوا» واو ساكنة بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلا من الهمزة وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ هؤلاء هم الفريق المستأذنون وهم بنو حارثة عند الأكثرين.
وقيل : هم بنو سلمة كانوا قد جبنوا يوم أحد ثم تابوا وعاهدوا يومئذ قبل يوم الخندق أن لا يفروا ، وعن ابن عباس أنهم قوم عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه صلّى اللّه عليه وسلم مما يمنعون منه أنفسهم ، وقيل : أناس غابوا عن وقعة بدر فحزنوا على ما فاتهم مما أعطى أهل بدر من الكرامة فقالوا : لئن أشهدنا اللّه تعالى قتالا لنقاتلن و(عاهد) أجرى مجرى اليمين لذلك تلقى بقوله تعالى : لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وجاء بصيغة الغيبة على المعنى ولو جاء كما لفظوا به لكان التركيب لا تولي الأدبار وتولية الإدبار كناية عن الفرار والانهزام فإن الفار يولي دبره من فر منه وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به مجازي عليه وذلك يوم القيامة ، والتعبير بالماضي على ما في مجمع البيان لتحقق الوقوع ، وقيل : أي كان عند اللّه تعالى مسؤولا عن الوفاء به أو مسؤولا مقتضى حتى يوفى به.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 16 إلى 30]
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 160
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ أي لن ينفعكم ذلك ويدفع عنكم ما أبرم في الأزل عليكم من موت أحدكم حتف أنفه أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدر كائن لا محالة وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم ما أبرم عليكم فمتعتم لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا.
وهذا من باب فرض المحال ولم يقل : ولو نفعكم إخراجا للكلام مخرج المماشاة أو إذا نفعكم الفرار فمتعتم بالتأخير بأن كان ذلك معلقا عند اللّه تعالى على الفرار مربوطا به لم يكن التمتيع إلّا قليلا فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة ، وعمر تأكله ذرات الدقائق وإن كثر قليل ، وقال بعض الأجلة : المعنى لا ينفعكم نفعا دائما أو تاما في دفع الأمرين المذكورين الموت أو القتل بالكلية إذ لا بد لكل شخص من موت حتف أنفه أو قتل في وقت معين لا لأنه سبق به القضاء لأنه تابع للمقضى فلا يكون باعثا عليه بل لأنه مقتضى ترتب الأسباب والمسببات بحسب جري العادة على مقتضى الحكمة فلا دلالة فيه على أن الفرار لا يغني شيئا حتى يشكل بالنهي عن الإلقاء إلى التهلكة وبالأمر بالفرار عن المضار ، وقوله تعالى : وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا يدل على أن في الفرار نفعا في الجملة إذ المعنى لا تمتعون على تقدير الفرار إلّا متاعا قليلا ، وفيه ما فيه فتأمل.
وذكر الزمخشري أن بعض المروانية مر على حائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب وكأنه مال إلى الوجه الثاني أو إلى ما ذكره البعض في الآية وجواب الشرط لأن محذوف لدلالة ما قبله عليه وإِذاً تقدمها هاهنا حرف عطف فيجوز فيها الإعمال والإهمال لكنه لم يقرأ هنا إلّا بالإهمال. وقرىء بالإعمال في قوله تعالى في سورة [الإسراء : 76] وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ وقرىء «لا يمتعون» بياء الغيبة.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً استفهام في معنى النفي أي لا أحد يمنعكم من اللّه عزّ وجلّ وقدره جلّ جلاله إن خيرا وإن شرا فجعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة مع أنه لا عصمة إلّا من السوء لما في العصمة من معنى المنع ، وجوز أن يكون في الكلام تقدير والأصل قل من ذا الذي يعصمكم من اللّه إن أراد بكم سوءا أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر نظير قوله :
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
فإنه أراد وحاملا أو ومعتقلا رمحا ، ويجري نحو التوجيه السابق في الآية ، وجوز الطيبي أن يكون المعنى من الذي يعصمكم من اللّه أراد بكم سوءا أو من الذي يمنع رحمة اللّه منكم إن أراد بكم رحمة ، وقرينة التقدير ما في

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 161
يَعْصِمُكُمْ من معنى المنع ، واختير الأول لسلامته عن حذف حملة بلا ضرورة.
وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم وَلا نَصِيراً يدفع الضرر عنهم ، والمراد الأولى فيجدوه إلخ فهو كقوله : ولا ترى الضب بها ينجحر ا ه وهو معطوف على ما قبله بحسب المعنى فكأنه قيل : لا عاصم لهم ولا ولي ولا نصير أو الجملة حالية.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المثبطين عن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا أي أقبلوا إلينا أو قربوا أنفسكم إلينا ، قال ابن السائب : الآية في عبد اللّه بن أبي ، ومعتب بن قشير ، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة كانوا إذا جاءهم المنافق قالوا له : ويحك اجلس ولا تخرج ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنّا ننتظركم ، وقال قتادة : هي في المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : ما محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلّا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه فخلوهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : انصرف رجل من عند رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب إلى شقيقه فوجد عنده شواء ونبيذا فقال له : أنت هاهنا ورسول اللّه عليه الصلاة والسلام بين الرماح والسيوف فقال : هلم إلى فقد أحيط بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا فقال : كذبت والذي يحلف به لأخبرنه بأمرك فذهب ليخبره صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فوجد جبريل عليه السلام قد نزل بهذه الآية.
وقيل : هؤلاء اليهود كانوا يقولون لأهل المدينة : تعالوا إلينا وكونوا معنا ، وكأن المراد من أهل المدينة المنافقون منهم المعلوم نفاقهم عند اليهود وقَدْ للتحقيق أو للتقليل وهو باعتبار المتعلق ، ومِنْكُمْ بيان للمعوقين لا صلته كما أشير إليه ، والمراد بالإخوة التشارك في الصفة وهو النفاق على القول الأول ، والكفر بالنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم على القول الأخير ، والصحبة والجوار وسكنى المدينة على القول الثاني وكذا على القول الثالث فإن ذلك يجامع الأخوة في النسب ، وظاهر صيغة الجمع يقتضي أن الآية لم تنزل في ذينك الشقيقين وحدهما فلعلها نزلت فيهما وفي المنافقين القائلين ذلك والأنصار المخلصين المقول لهم ، وجواز كونها نزلت في جماعة من الإخوان في النسب مجرد احتمال وإن كان له مستند سمعي فلتحمل الأخوة عليه على الأخوة في النسب ولا ضير ، والقول بجميع الأقوال الأربعة المذكورة وحمل الأخوة على الأخوة في الدين والأخوة في الصحبة والجوار والأخوة في النسب لا يخفى حاله ، وهَلُمَّ عند أهل الحجاز يسوى فيه بين الواحد والجماعة ، وأما عند تميم فيقال : هلم يا رجل وهلموا يا رجال ، وهو عند بعض الأئمة صوت سمي به الفعل ، واشتهر أنه يكون متعديا كهلم شهداءكم بمعنى أحضروا أو قربوا ولازما كهلم إلينا بناء على تفسيره بأقبلو إلينا وأما على تفسيره بقربوا أنفسكم إلينا فالظاهر أنه متعد حذف مفعوله ، وجوز كونه لازما وهذا تفسير لحاصل المعنى ، وفي البحر أن الذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا وإنما هو مركب اختلف في أصل تركيبه فقيل : مركب من ها التي للتنبيه والمم بمعنى أقصد وأقيل وهو مذهب البصريين ، وقيل : من هل وأم ، والكلام على المختار من ذلك مبسوط في محله.
وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي الحرب والقتال وأصل معناه الشدة إِلَّا قَلِيلًا أي إتيانا أو زمانا قليلا فقد كانوا لا يأتون العسكر إلّا أن لا يجدوا بدا من إتيانه فيأتون ليرى الناس وجوههم فإذا غفلوا عنهم عادوا إلى بيوتهم ، ويجوز أن يكون صفة مفعول مقدر كما كان صفة المصدر أو الزمان أي إلّا بأسا قليلا على أنهم يعتذرون في البأس الكثير ولا يخرجون إلّا في القليل ، وإتيان البأس على هذه الأوجه على

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 162
ظاهره ، ويجوز أن يكون كناية عن القتال ، والمعنى ولا يقاتلون إلّا قتالا قليلا كقوله تعالى ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا وقلته إما لقصر زمانه وإما لقلة غنائه ، وأيا ما كان فالجملة حال من الْقائِلِينَ وقيل : يجوز أيضا أن تكون عطف بيان على قَدْ يَعْلَمُ وهو كما ترى ، وقيل : هي من مقول القول وضمير الجمع لأصحاب النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أي القائلين ذلك والقائلين لا يأتي أصحاب محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم حرب الأحزاب ولا يقامونهم إلّا قليلا ، وهذا القول خلاف المتبادر وكأنه ذهب إليه من قال أن الآية في اليهود.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة على ما روي عن مجاهد وقتادة ، وقيل : بأنفسهم ، وقيل :
بالغنيمة عند القسم ، وقيل : بكل ما فيه منفعة لكم وصوب هذا أبو حيان ، وذهب الزمخشري إلى أن المعنى أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف وذلك لأنهم يخافون على أنفسهم لو غلب النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حيث لم يكن لهم من يمنع الأحزاب عنهم ولا من يحمي حوزتهم سواهم ، وقيل : كانوا يفعلون ذلك رياء ، والأكثرون ذهبوا إلى ما سمعت قبل وعدل إليه مختصرو كشافه أيضا وذلك على ما قيل لأن ما ذهب إليه معنى ما في التفريع بعد فيحتاج إلى جعله تفسيرا ، ورجحه بعض الأجلة على ما ذهب إليه الأكثر فقال : إنما اختاره ليطابق معنى ويقابل قوله وتعالى بعد : أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ولأن الاستعمال يقتضيه فإن الشح على الشيء هو أن يراد بقاؤه كما في الصحاح وأشار إليه بقوله : أضناء بكم ، وما ذكره غيره لا يساعده الاستعمال انتهى.
قال الخفاجي : إن سلم ما ذكر من الاستعمال كان متعينا وإلّا فلكل وجهة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ، وأَشِحَّةً جميع شحيح على غير القياس إذ قياس فعيل الوصف المضعف عينه ولامه أن يجمع على أفعلاء كضنين وأضناء وخليل وأخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضا ، ونصبه عند الزجاج وأبي البقاء على الحال من فاعل يَأْتُونَ على معنى تركوا الإتيان أشحة ، وقال الفراء : على الذم ، وقيل : على الحال من ضمير هَلُمَّ إِلَيْنا أو من ضمير يعوقون مضمرا ، ونقل أولهما عن الطبري وهو كما ترى ، وقيل : من الْمُعَوِّقِينَ أو من القائلين ، وردا بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة ، وتعقب بأن الفاصل من متعلقات الصلة وإنما يظهر الرد على كونه حالا من الْمُعَوِّقِينَ لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته.
وقرأ ابن أبي عبلة «أشحة» بالرفع على إضمار مبتدأ أي هم أشحة فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي أحداقهم أو بأحداقهم على أن الباء للتعدية فيكون المعنى تدير أعينهم أحداقهم ، والجملة في موضع الحال أي دائرة أعينهم من شدة الخوف.
كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ صفة لمصدر يَنْظُرُونَ أو حال من فاعله أو لمصدر تَدُورُ أو حال من أَعْيُنُهُمْ أي ينظرون نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك أو ينظرون كائنين كالذي إلخ أو تدور أعينهم دورانا كائنا كدوران عين الذي إلخ أو تدور أعينهم كائنة كعين الذي إلخ ، وقيل : معنى الآية إذا جاء الخوف من القتال وظهر المسلمون على أعدائهم رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم في رؤيتهم وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم مضرب لأنهم يحضرون على نية شر لا على نية خير ، والقول الأول هو الظاهر فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي آذوكم بالكلام وخاصموكم بألسنة سلطة ذربة قاله الفراء ، وعن قتادة بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون : أعطونا أعطونا فلستم بأحق بها منا ، وقال يزيد بن رومان :
بسطوا ألسنتهم في أذاكم وسبكم وتنقيص ما أنتم عليه من الدين.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 163
وقال بعض الأجلة : أصل السلق بسط العضو ومده للقهر سواء كان يدا أو لسانا فسلق اللسان بإعلان الطعن والذم وفسر السلق هنا بالضرب مجازا كما قيل للذم طعن ، والحامل عليه توصيف الألسنة بحداد ، وجوز أن يشبه اللسان بالسيف ونحوه على طريق الاستعارة المكنية ويثبت له السلق بمعنى الضرب تخييلا ، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه السلق في الآية فقال : الطعن باللسان قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال : نعم أما سمعت قول الأعشى :
فيهم الخصب والسماحة والنجدة فيهم والخاطب المسلاق
وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة قال : معنى سلقوكم خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال : خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغا في خطبته ، واعتبر بعضهم في السلق رفع الصوت وعلى ذلك
جاء قوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «ليس منا من سلق أو حلق»
قال في النهاية أي رفع صوته عند المصيبة ، وقيل : إن تصك المرأة وجهها وتمرشه ، والأول أصح ، وزعم بعضهم ان المعنى في الآية بسطوا ألسنتهم في مخادعتكم بما يرضيكم من القول على جهة المصانعة والمجاملة ، ولا يخفى ما فيه ، وقرأ ابن أبي عبلة «صلقوكم» بالصاد.
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي بخلاء حريصين على مال الغنائم على ما روي عن قتادة ، وقيل : على ما لهم الذي ينفقونه ، وقال الجبائي : أي بخلاء بأن يتكلموا بكلام فيه خير ، وذهب أبو حيان إلى عموم الخير. ونصب أَشِحَّةً على الحال من فاعل سَلَقُوكُمْ أو على الذم ، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة «أشحة» بالرفع لأنه عليه خبر مبتدأ محذوف أي هم أَشِحَّةً والجملة مستأنفة لا حالية كما هو كذلك على الذم ، وغاير بعضهم بين الشح هنا والشح فيما مرّ بأن ما هنا مقيد بالخبر المراد به مال الغنيمة وما مرّ مقيد بمعاونة المؤمنين ونصرتهم أو بالإنفاق في سبيل اللّه تعالى فلا يتكرر هذا مع ما سبق ، والزمخشري لما ذهب إلى ما ذهب هناك ، قال هنا : فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير وهو المال والغنيمة ونسوا تلك الحالة الأولى واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتكم إلخ ، وقد سمعت ما قال بعض الأجلة في ذلك.
ويمكن أن يقال في الفرق بين هذا وما سبق : إن المراد مما سبق ذمهم بالبخل بكل ما فيه منفعة أو بنوع منه على المؤمنين ومن هذا ذمهم بالحرص على المال أو ما فيه منفعة مطلقا من غير نظر إلى كون ذلك على المؤمنين أو غيرهم وهو أبلغ في ذمهم من الأول أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من صفات السوء لَمْ يُؤْمِنُوا بالإخلاص فإنهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا في قلوبهم الكفر فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أظهر بطلانها لأنها باطلة منذ عملت إذ صحتها مشروطة بالإيمان بالإخلاص وهم مبطنون الكفر وفي البحر أي لم يقبلها سبحانه فكانت كالمحبطة وعلى الوجهين المراد بالأعمال العبادات المأمور بها ، وجوز أن يكون المراد بها ما عملوه نفاقا وتصنعا وإن لم يكن عبادة ، والمعنى فأبطل عزّ وجلّ صنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعا لمنفعة دنيوية أصلا.
وحمل بعضهم الأعمال على العبادات والإحباط على ظاهره بناء على ما روي عن ابن زيد عن أبيه قال نزلت الآية في رجل بدري نافق بعد بدر ووقع منه ما وقع فأحبط اللّه تعالى عمله في بدر وغيرها ، وصيغة الجمع تبعد ذلك وكذا قوله تعالى : لَمْ يُؤْمِنُوا فإن هذا كما هو ظاهر هذه الرواية قد آمن قبل ، وأيضا
قوله عليه الصلاة والسلام : «لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
يأبى ذلك فالظاهر واللّه تعالى أعلم أن هذه الرواية غير صحيحة.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 164
وَكانَ ذلِكَ أي الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي هينا لا يبالي به ولا يخاف سبحانه اعتراضا عليه ، وقيل :
أي هينا سهلا عليه عزّ وجلّ ، وتخصيص يسره بالذكر مع أن كل شيء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم بالإحباط المذكور لكمال تعاضد الحكم المقتضية له وعدم مانع عنه بالكلية ، وقيل : ذلك إشارة إلى حالهم من الشح ونحوه ، والمعنى كان ذلك الحال عليه عزّ وجلّ هينا لا يبالي به ولا يجعله سبحانه سببا لخذلان المؤمنين وليس بذاك ، والمقصود مما ذكر التهديد والتخويف يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي هم من الجزع والدهشة لمزيد جبنهم وخوفهم بحيث هزم اللّه الأحزاب فرحلوا وهم يظنون أنهم لم يرحلوا ، وقيل : المراد هؤلاء لجبنهم يحسبون الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق راجعين إلى المدينة لذلك ، وهذا إن صحت فيه رواية فذاك وإلّا فالظاهر أنه مأخوذ من قوله تعالى : وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا لدلالته ظاهرا على أنهم خارجون عن معسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يحثون إخوانهم على اللحاق بهم ، وكون المراد هلموا إلى رأينا أو إلى مكاننا الذي هو في طرف لا يصل إليه السهم خلاف الظاهر ، وكذا من قوله سبحانه وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ على ما هو الظاهر أيضا إذ يبعد حمله على اتحاد المكان ولو في الخندق وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ تمنوا أنهم خارجون إلى البدو وحاصلون مع الأعراب وهم وأهل العمود ، وقرأ عبد اللّه ، وابن عباس ، وابن يعمر ، وطلحة «بدى» جمع باد كغاز وغزى وليس بقياس في معتل اللام وقياسه فعلة كقاض وقضاة وفي رواية أخرى عن ابن عباس «بدوا» فعلا ماضيا ، وفي رواية صاحب الاقليد «بدى» بوزن عدى يَسْئَلُونَ أي كل قادم من جانب المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ عما جرى عليكم من الأحزاب يتعرفون أحوالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة فرقا وجبنا ، واختيار البداوة ليكونوا سالمين من القتال ، والجملة في موضع الحال من فاعل بادون ،
وحكى ابن عطية أن أبا عمرو ، وعاصما ، والأعمش قرؤوا «يسلون» بغير همز نحر قوله تعالى سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة : 211] ولم يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم ، ولعل ذلك في شاذهما ونقلها صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وقتادة والجحدري ، والحسن ، ويعقوب بخلاف عنهما «يسألون» بتشديد السين والمد وأصله يتساءلون فأدغمت التاء في السين أي يسأل بعضهم بعضا أي يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب أي يسألونهم كما تقول : رأيت الهلال وتراءيته وأبصرت زيدا وتباصرته وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي في هذه الكرة المفروضة بقوله تعالى : وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ او لَوْ كانُوا فِيكُمْ في الكرة الأولى السابقة ولم يرجعوا إلى داخل المدينة وكانت محاربة بالسيوف ومبارزة الصفوف ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء وسمعة وخوفا من التعبير قال مقاتل والجياني والبعلبكي : هو قليل من حيث هو رياء ولو كان اللّه تعالى كان كثيرا لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الظاهر أن الخطاب للمؤمنين الخلص المخاطبين من قبل في قوله تعالى : عَنْ أَنْبائِكُمْ وقوله سبحانه : وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ.
والإسوة بكسرة الهمزة كما قرأ الجمهور وبضمها كما قرأ عاصم الخصلة ، وقال الراغب : الحالة التي يكون عليها الإنسان وهي اسم كان ولَكُمْ الخبر وفِي رَسُولِ اللَّهِ متعلق بما تعلق به لَكُمْ أو في موضع من أُسْوَةٌ لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتا لها أو متعلق بكان على مذهب من أجاز فيها ناقصة وفي أخواتها أن تعمل في الظرف ، وجوز أن يكون في رسول اللّه الخبر ولكم تبيين أي أعني لكم أي واللّه لقد كان لكم في رسول اللّه خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد ويجوز أن يراد بالأسوة القدوة بمعنى المقتدى على معنى هو صلّى اللّه تعالى عليه وسلم في نفسه قدوة يحسن التأسي به ، وفي الكلام صنعة التجريد وهو

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 165
أن ينتزع من ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في الاتصاف نحو لقيت منه أسدا وهو كما يكون بمعنى من يكون بمعنى في كقوله :
أراقت بنو مروان ظلما دماءنا وفي اللّه إن لم يعدلوا حكم عدل
وكقوله : في البيضة عشرون منّا حديدا أي هي نفسها هذا القدر من الحديد ، والآية وإن سيقت للاقتداء به عليه الصلاة والسلام في أمر الحرب من الثبات ونحوه فهي عامة في كل أفعاله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته كنكاح ما فوق أربع نسوة ، أخرج ابن ماجة ، وابن أبي حاتم عن حفص بن عاصم قال : قلت لعبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنهما رأيتك في السفر لا تصلي قبل الصلاة ولا بعدها فقال يا ابن أخي صحبت رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم كذا وكذا فلم أره يصلي قبل الصلاة ولا بعدها ويقول اللّه تعالى : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة قال : هم عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أن ينهي عن الحبرة فقال رجل : أليس قد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يلبسها؟ قال عمر : بلى قال الرجل ألم يقل اللّه تعالى : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فترك ذلك عمر رضي اللّه تعالى عنه.
وأخرج الشيخان ، والنسائي ، وابن ماجة ، وغيرهم عن ابن عمر أنه سأل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة فقال قدم رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فطاف بالبيت وصلّى خلف المقام ركعتين وسعى بين الصفا والمروة قرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وأخرج الشيخان ، وغيرهما عن ابن عباس قال : إذ حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها ، وقال : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ إلى غير ذلك من الأخبار ، وتمام الكلام في كتب الأصول.
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يؤمل اللّه تعالى وثوابه كما يرمز إليه أثر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وعليه يكون قد وضع الْيَوْمَ الْآخِرَ بمعنى يوم القيامة موضع الثواب لأن ثوابه تعالى يقع فيه فهو على ما قال الطيبي من إطلاق اسم المحل على الحال ، والكلام نحو قولك : أرجو زيدا وكرمه مما يكون ذكر المعطوف عليه فيه توطئة للمعطوف وهو المقصود وفيه من الحسن والبلاغة ما ليس في قولك : أرجو زيدا كرمه على البدلية :
وقال صاحب الفرائد ، يمكن أن يكون التقدير يرجو رحمة اللّه أو رضا اللّه وثواب اليوم الآخر ففي الكلام مضافان مقدران ، وعن مقاتل أي يخشى اللّه تعالى ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال على أنه وضع اليوم الآخر موضع البعث لأنه يكون فيه ، والرجاء عليه بمعنى الخوف ، ومتعلق الرجاء بأي معنى كان أمر من جنس المعاني لأنه لا يتعلق بالذوات ، وقدر بعضهم المضاف إلى الاسم الجليل لفظ أيام مرادا بها الوقائع فإن اليوم يطلق على ما يقع فيه من الحروب والحوادث واشتهر في هذا حتى صار بمنزلة الحقيقة وجعل قرينة هذا التقدير المعطوف وجعل العطف من عطف الخاص على العام ، والظاهر أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف ، وجوز أن يكون الكلام عليه كقولك : أرجو زيدا وكرمه ، وأن يكون الرجاء فيه بمعنى الأمل إن أريد ما في اليوم من النصر والثواب ، وأن يكون بمعنى الخوف والأمل معا بناء على جواز استعمال اللفظ في معنييه أو في حقيقته ومجازه وإرادة ما يقع فيه من الملائم والمنافر ، وعندي أن تقدير أيام غير متبادر إلى الفهم ، وفسر بعضهم الْيَوْمَ الْآخِرَ بيوم السياق والمتبادر منه يوم القيامة و(من) على ما قيل بدل من ضمير الخطاب في لَكُمْ وأعيد العامل للتأكيد وهو بدل كل من كل والفائدة فيه الحث على التأسي ، وإبدال الاسم الظاهر من ضمير المخاطب هذا الإبدال جائز عند الكوفيين ، والأخفش ، ويدل عليه قوله :
بكم قريش كفينا كل معضلة وأم نهج الهدى من كان ضليلا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 166
ومنع ذلك جمهور البصريين : ومن هنا قال صاحب التقريب ، هو بدل اشتمال أو بدل بعض من كل ، ولا يتسنى إلّا على القول بأن الخطاب عام وهو مخالف للظاهر كما سمعت ، ومع هذا يحتاج إلى تقدير منكم ، وقال أبو البقاء :
يجوز أن يكون لمن متعلقا بحسنة أو بمحذوف وقع صفة لها لأنه وقع بعد نكرة ، وقيل : يجوز أن يكون صفة لأسوة ، وتعقب بأن المصدر الموصوف لا يعمل فيما بعد وصفه ، وكذا تعدد الوصف بدون العطف لا يصح ، وقد صرح بمنع ذلك الإمام الواحدي ، ولا يخفى أن المسألة خلافية فلا تغفل.
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا وقرن سبحانه بالرجاء كثرة الذكر لأن المثابرة على كثرة ذكره عزّ وجلّ تؤدي إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق الائتساء برسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ومما ينبغي أن يعلم أنه قد صرح بعض الأجلة كالنووي أن ذكر اللّه تعالى المعتبر شرعا ما يكون في ضمن جملة مفيدة كسبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلّا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلّا باللّه ونحو ذلك وما لا يكون بمفرد لا يعد شرعا ذكرا نحو اللّه أو قادر أو سميع أو بصير إذ لم يقدر هناك ما يصير به اللفظ كلاما ، والناس عن هذا غافلون ، وأنهم أجمعوا على أن الذكر المتعبد بمعناه لا يثاب صاحبه ما لم يستحضر معناه فالمتلفظ بنحو سبحان اللّه ولا إله إلّا اللّه إذا كان غافلا عن المعنى غير ملاحظ ومستحضرا إياه لا يثاب إجماعا ، والناس أيضا عن هذا غافلون فإنا للّه وإنا إليه راجعون وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ بيان لما صدر عن خلص المؤمنين عند اشتباه الشؤون واختلاط الظنون بعد حكاية ما صدر عن غيرهم أي لما شاهدوهم حسبما وصفوا لهم قالُوا هذا إشارة عند بعض المحققين إلى ما شاهدوه من غير أن يخطر ببالهم لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ نعم يجوز التذكير باعتبار الخبر الذي هو ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فإن ذلك العنوان أول ما يخطر ببالهم عند المشاهدة ، وعند الأكثر إشارة إلى الخطب والبلاء ، وما موصولة عائدها محذوف وهو المفعول الثاني لوعد أي الذي وعدناه اللّه ، وجوز أن تكون مصدرية أي هذا وعد اللّه
تعالى ورسوله إيانا وأرادوا بذلك ما تضمنه قوله تعالى في سورة [البقرة : 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ كما أخرج ذلك ابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وأخرجه جماعة عن قتادة أيضا ونزلت آية البقرة قبل الواقعة بحول على ما أخرجه جويبر عن الضحاك عن الحبر رضي اللّه تعالى عنه.
وفي البحر عن ابن عباس قال : «قال النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا
أي في آخر تسع ليال أو عشر أي من وقت الإخبار أو من غرة الشهر فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك فمرادهم بذلك ما وعد بهذا الخبر. وتعقبه ابن حجر بأنه لم يوجد في كتب الحديث ، وقرىء بإمالة الراء «رأى» نحو الكسرة وفتح الهمزة وعدم إمالتها ، وروى إمالتهما وإمالة الهمزة دون الراء على تفصيل فيه في النشر فليراجع وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الظاهر أنه داخل في حيز القول فجوز أن يكون عطفا على جملة هذا ما وَعَدَنَا إلخ أو على صلة الموصول وهو كما ترى ، وأن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه.
وأيا ما كان فالمراد ظهر صدق خبر اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لأن الصدق محقق قبل ذلك والمترتب على رؤية الأحزاب ظهوره ، وجوز أن يكون المعنى وصدق اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام في النصرة والثواب كما صدق اللّه تعالى ورسوله في البلاء ، والإظهار مع سبق الذكر للتعظيم ولأنه لو أضمر وقيل وصدق جاء الجمع بين اللّه تعالى وغيره في ضمير واحد والأولى تركه أو قيل وصدق وهو ورسوله بقي الإظهار في مقام الإضمار فلا يندفع السؤال كذا قيل ، وحديث الجمع قد مرّ ما فيه وَما زادَهُمْ أي ما رأوا المفهوم من قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 167
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ إلخ ورجوع الضمير إلى المصدر المفهوم من رَأَ يعكر عليه التذكير ، وأرجعه بعضهم إلى الشهود المفهوم من ذلك ، وجوز رجوعه إلى الوعد أو الخطب والبلاء المفهومين من السياق أو الإشارة.
وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع العائد على الأحزاب إِلَّا إِيماناً باللّه تعالى وبمواعيده عزّ وجلّ وَتَسْلِيماً لأوامره جلّ شأنه وأقداره سبحانه ، واستدل بالآية على جواز زيادة الإيمان ونقصه ومن أنكر قال : إن الزيادة فيما يؤمن به لا في نفس الإيمان والبحث في ذلك مشهور وفي كتب الكلام على أبسط وجه مسطور مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي المؤمنين بالإخلاص مطلقا لا الذين حكيت محاسنهم خاصة رِجالٌ أي رجال صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم والمقاتلة للأعداء ، وقيل : من الطاعات مطلقا ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا ، وسبب النزول ظاهر في الأول.
أخرج الإمام أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وجماعة عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم غبت عنه لئن أراني اللّه تعالى مشهدا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيما بعد ليرين اللّه تعالى ما أصنع فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ رضي اللّه تعالى عنه فقال : يا أبا عمرو أين؟ قال : واها لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية ونزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وكانوا يرون أنها نزلت فيه وأصحابه.
وفي الكشاف نذر رجال من الصحابة أنهم إذ لقوا حربا مع رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا أي نذروا الثبات التام والقتال الذي يفضي بحسب العادة إلى نيل الشهادة وهم عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد اللّه ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وحمزة ، ومصعب بن عمير ، وغيرهم ، وعن الكلبي ، ومقاتل أن هؤلاء الرجال هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة ، وقال يزيد بن رومان : هم بنو حارثة والمعول عليه عندي ما قدمته ، ومعنى صَدَقُوا أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق ، ومحل ما عاهَدُوا النصب أما على نزع الخافض وهو في وإيصال الفعل إليه كما في قولهم صدقني سن بكرة على رواية النصب أي في سن بكره والمفعول محذوف والأصل صدقوا اللّه فيما عاهدوه ، وإما على أنه هو المفعول الصريح.
وجعل ما عاهدوا عليه بمنزلة شخص معاهد على طريق الاستعارة المكنية وجعله مصدوقا تخييل وعلى الإسناد المجازي فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ تفصيل لحال الصادقين وتقسيم لهم إلى قسمين ، والنحب على ما قال الراغب النذر المحكوم بوجوبه يقال : قضى فلان نحبه أي وفى بنذره. وقال أبو حيان : النذر بالشيء الذي يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به قال الشاعر :
عشية فر الحارثيون بعد ما قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر
وقال جرير :
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب
أي على أمر عظيم التزم القيام به ، وشاع قضى فلان نحبه بمعنى مات إما على أن النحب مستعار استعارة تصريحية للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل إنسان والقرينة حالية والقضاء ترشيح ، وأما على أن قضاء النحب مستعار له.
وجوز أن يراد بالنحب في الآية النذر وأن يراد الموت ، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون مستعارا لالتزام الموت شهيدا إما بتنزيل التزام أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه ، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه وإيراد الالتزام

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 168
عليه وهو الأنسب بمقام المدح ، وجعله استعارة للموت لأنه كنذر لازم مسخ للاستعارة.
وإذهاب برونقها وإخراج للنظم الكريم عن مقتضى المقام بالكلية انتهى ، وفيه منع ظاهر كما لا يخفى على المنصف.
والذي يقتضيه ظاهر بعض الأخبار أن النحب هنا بمعنى النذر وقضاؤه أداؤه والوفاء به ، فقد أخرج ابن أبي عاصم ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، الطبراني ، وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترؤون على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي ثم إني اطلعت من باب المسجد فقال : أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي : إن قال هذا ممن قضى نحبه ، وأخرج ابن منده ، وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : دخل طلحة بن عبيد اللّه على النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : يا طلحة أنت ممن قضى نحبه ، وأخرج الحاكم عن عائشة نحوه.
وأخرج الترمذي وغيره عن معاوية أنه قال : سمعت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام يقول : طلحة ممن قضى نحبه
،
وكأن عليا كرم اللّه وجهه عنى مدحه بذلك في قوله وقد قيل له حدثنا عن طلحة : ذاك امرؤ نزل فيه آية من كتاب اللّه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وقد أخرج ذلك عنه كرم اللّه تعالى وجهه أبو الشيخ ، وابن عساكر وكان رضي اللّه تعالى عنه قد ثبت يوم أحد حتى أصيبت يده ، وإلى حمل النحب على حقيقته ذهب مجاهد فالمعنى منهم وفى بعهده وأدّى نذره وَمِنْهُمْ أي وبعضهم مَنْ يَنْتَظِرُ يوما فيه جهاد فيقضي نحبه ويؤدي نذره ويفي بعهده ، ومن حمل ما عاهدوا اللّه تعالى على العموم وأبقى النحب على حقيقته قال : المعنى منهم من وفى بعهود الإسلام وما يلزم من الطاعات ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح ، واستشكل إبقاء النحب على حقيقته لأن وفاء النذر عين صدق العهد فيكون مآل المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا اللّه تعالى وصدقوا أي فعلوا ووفوا بما عاهدوا اللّه تعالى عليه فمنهم من فعل ووفى بما عاهد ، وفيه تقسيم الشيء إلى نفسه ، ويشكل على هذا المعنى قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ لأن المنتظر غير واف فكيف يجعل قسما من الذين صدقوا أي وفوا ، وأجيب بأن المراد بالمصدق في الآية مطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجة وهذا الكلام المتضمن لهذه النسبة هو ما اقتضاه عهدهم على الثبات من نحو قولهم : لئن أرانا اللّه مشهدا مع رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لنثبتن ولنقاتلن ، واتصاف الخبر بالصدق ، وكذا المخبر به لا يقتضي أكثر من مطابقة نسبته للواقع في أحد الأزمنة فنجو يقوم زيد صادق وكذا المخبر به وقت الأخبار به وإن كان وقوع القيام بعد ألف سنة مثلا ، وكذا نحو إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود صادق وإن كان التكلم به ليلا فهؤلاء الرجال لما أخبروا عن أنفسهم إنهم أن أراهم اللّه تعالى مشهدا مع رسوله عليه الصلاة والسلام ثبتوا وقاتلوا وعلم سبحانه أن هذا مطابق
للواقع أخبر تعالى عنهم بأنهم صدقوا ثم قسمهم عزّ وجلّ إلى قسمين قسم أدّى ما أخبر عن نفسه أنه يؤديه وقسم ينتظر وقتا يؤديه فيه ، ولا يتصف هذا القسم بالكذب إلّا إذا مات وقد أراه اللّه تعالى ذلك ولم يؤد ، ومن أخبر اللّه تعالى عنهم بالصدق ما ماتوا حتى أدوا فلا إشكال. نعم الإشكال على تقدير أن يراد بالصدق فيما عاهدوا تحقيق العهد فيما أظهروه من أفعالهم كما فسره الراغب ويراد من قضاء النحب وفاء النذر أو العهد كما لا يخفي ، وقيل : المراد بصدقهم المذكور مطابقة ما في ألسنتهم لما في قلوبهم على خلاف المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولا إشكال في التقسيم حينئذ ، وقيل : الصدق بالمعنى المشهور بين الجمهور إلّا أن المراد بصدقوا يصدقون ، وعبر عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع ، وكلا القولين كما ترى ، وعن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى : قَضى نَحْبَهُ فقال : أجله الذي قدر له

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 169
فقال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم أما سمعت قول لبيد :
ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
وأخرج جماعة عنه أنه فسر ذلك بالموت ، وروي نحوه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ، وعليه لا مانع من أن يراد بصدقوا ما عاهدوا اللّه عليه كما ذكر عن الراغب حققوا العهد فيما أظهروه من أفعالهم ، فيكون المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا اللّه تعالى على الثبات والقتال إذ لقوا حربا مع رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وحققوا ذلك وثبتوا فمنهم من مات ومن منهم من ينتظر الموت ، والذي يقتضيه السياق أن المراد قضى نحبه ثابتا بأن يكون قد استشهد كأنس بن النضر ، ومعصب بن عمير ، ويحتمل أن يراد ما أعم من ذلك فيدخل من مات بعد الثبات حتف أنفه قبل نزول الآية إن كان هنالك من هو كذلك ، وعدوا ممن ينتظر عثمان وطلحة وأول ما ورد في طلحة من أنه ممن قضى نحبه بأن المراد أنه في حكم من استشهد ، وأوجبوا ذلك فيما
أخرج سعيد بن منصور ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وأبو نعيم وابن مردويه عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» وأخرج ابن مردويه من حديث جابر بن عبد اللّه مثله.
وفي إرشاد العقل السليم عن عائشة بلفظ «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي في الأرض ، وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة»
وفي مجمع البيان عن أبي إسحاق عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : نزلت فينا رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية وإنا واللّه المنتظر
،
وفي وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرغبة في المنتظر شهادة حقة بكمال اشتياقهم إلى الشهادة ، وقيل : إلى الموت مطلقا حبا للقاء اللّه تعالى ورغبة فيما عنده عزّ وجلّ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا عطف على صَدَقُوا وفاعله فاعله أي وما بدلوا عهدهم وما غيروه تبديلا ما لا أصلا ولا وصفا بل ثبتوا عليه راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون ، أما الذين قضوا فظاهر ، وأما الباقون فيشهد به انتظارهم أصدق شهادة ، وتعميم عدم التبديل للفريق الأول مع ظهور حالهم للإيذان بمساواة الفريق الثاني لهم في الحكم ، وجوز أن يكون ضمير بَدَّلُوا للمنتظرين خاصة بناء على أن المحتاج إلى البيان حالهم ، وفي الكلام تعريض بمن بدل من المنافقين حيث ولوا الأدبار وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار فكأنه قيل : وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون فتأمل جميع ذاك واللّه تعالى يتولى هداك لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ أي الذين صدقوا ما عدوا اللّه تعالى عليه بِصِدْقِهِمْ أي بسبب صدقهم ، وصرح بذلك مع أنه يقتضيه تعليق الحكم بالمشتق اعتناء بأمر الصدق ، ويكتفي بما يقتضيه التعليق في قوله تعالى :
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ لأنه الأصل ولا داعي إلى خلافه ، والمراد ويعذب المنافقين بنفاقهم إِنْ شاءَ أي تعذيبهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي فلا يعذبهم بل يرحمهم سبحانه إن شاء عزّ وجلّ كذا قيل : وظاهره أن كلا من التعذيب والرحمة للمنافقين يوم القيامة ولو ماتوا على النفاق معلق بمشيئته تعالى. واستشكل بأن النفاق أقبح الكفر كما يؤذن به قوله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء : 145] وقد أخبر عزّ وجلّ أنه سبحانه يعذب الكفرة مطلقا حتما لا محالة فكيف هذا التعليق وأجيب بأنه لا إشكال فإن اللّه جلّ جلاله لا يجب عليه شيء والتعليق لذلك فهو جلّ شأنه إن شاء عذب المنافق وإن شاء رحمه لكن المتحقق أنه تبارك وتعالى شاء تعذيبه ولم يشأ رحمته فكأنه قيل : إن شاء يعذب المنافقين في الآخرة لكنه سبحانه شاء تعذيبهم فيها أو يتوب عليهم إن شاء لكنه جلّ وعلا لم يشأ ، ورفع مقدم الشرطية الثانية في مثل هذه القضية ينتج رفع التالي ، وإنما لم تقيد مجازاة الصادقين بالمشيئة كما قيد تعذيب المنافقين والتوبة عليهم بها مع أنه تعالى إن شاء يجزي الصادقين وإن شاء لم يجزهم لمكان نفي وجوب شيء عليه تعالى لمجموع أمرين هما تحقق مشيئة المجازاة وكون الرحمة مقصودة بالذات بخلاف العذاب ، وكأنه سبحانه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 170
لهذا الأخير لم يقل ليثيب أو لينعم وقال سبحانه في المقابل : وَيُعَذِّبَ وقال بعض الأجلة : إن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم ومعنى توبته تعالى على العباد قبول توبتهم فكأنه قيل : أو يقبل توبتهم إن تابوا ، وحذف الشرط لظهور استلزام المذكور له ، ويجوز أن تفسر توبته تعالى عليهم بتوفيقه تعالى إياهم للتوبة إليه سبحانه ، وكلا هذين المعنيين لتوبته تعالى وارد كما في القاموس ، وأيا ما كان فالأمر معلق بالمشيئة ضرورة أنه لا يجب عليه سبحانه قبول التوبة ولا التوفيق لها ، والمراد من تعليق تعذيب المنافقين بالمشيئة أنه تعالى أن شاء عذبهم بإبقائه منافقين وإن شاء سبحانه لم يعذبهم بأن يسلب عنهم وصف النفاق بالتوفيق إلى الإخلاص في الإيمان.
وقال ابن عطية : تعذيب المنافقين ثمرة إقامتهم على النفاق وموتهم عليه والتوبة موازنة لتلك الإقامة وثمرتها تركهم بلا عذاب فهناك أمران إقامة على النفاق ، وتوبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب ورحمة فذكر تعالى على جهة الإيجار واحدة من هاتين وواحدة من هاتين ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدلك على أن معنى قوله تعالى لِيُعَذِّبَ ليديم على النفاق قوله سبحانه : إِنْ شاءَ ومعادلته بالتوبة وحرف أَوْ انتهى ، وأراد بذلك حل الإشكال ، وكأن ما ذكره يؤول إلى أن التقدير ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبب وهو التعذيب وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران وذلك من قبيل الاحتباك ، قال في البحر : وهذا من الإيجاز الحسن ، وقال السدي : المعنى ويعذب المنافقين إن شاء أن يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم بنقلهم من النفاق إلى الإيمان ، وكأنه جعل مفعول المشيئة الإماتة على النفقة دون التعذيب كما هو الظاهر لما سمعت من استشكال تعليق تعذيبهم بالمشيئة مع أنه متحتم ، وقيل لذلك أيضا : إن المراد يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يتوب عليهم فلا يعذبهم فيها ، وحكي هذا عن الجبائي والكلام عليه في غاية الظهور ، وقد يقال : المراد بالمنافقين الجماعة المخصوصون القائلون ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب : 12] على أن ذلك كالاسم لهم فلا يلاحظ فيه مبدأ الاشتقاق ولا يجعل علة للحكم بل العلة له ما يفهم من سياق الكلام فيكون المعلق بالمشيئة تعذيب أناس مخصوصين ويكون المعنى يعذب فلانا وفلانا مثلا إن شاء بأن يميتهم سبحانه مصرين على ما هم عليه مما يقتضي التعذيب أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة فيرحمهم ، ويجوز أن يراد بالصادقين نحو هذا وحينئذ يكون قوله سبحانه :
بِصِدْقِهِمْ تصريحا بما يفهم من السياق ، ويفهم من كلام شيخ الإسلام أن ذكر الصدق وحده من باب الاكتفاء حيث قال في معنى الآية : ليجزي اللّه الصادقين بما صدر عنهم من الأقوال والوفاء قولا وفعلا ويعذب المنافقين بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية ، قيل : ولم يقل في جانب المنافقين بنفاقهم لقوله سبحانه : أَوْ يَتُوبَ إلخ فإنه يستدعي فعلا خاصا بهم فتأمل ، والظاهر أن اللام في لِيَجْزِيَ للتعليل ، والكلام عند كثير تعليل للمنطوق من نفي التبديل عن الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه والمعرض به من إثبات التعريض لمن سواهم من المنافقين فإن الكلام على ما سمعت في قوة وما بدلوا تبديلا كما بدّل المنافقون فقوله : لِيَجْزِيَ ويُعَذِّبَ متعلق بالمنفي والمثبت على اللف والنشر التقديري ، وجعل تبديل المنافقين علة للتعذيب مبني على تشبيه المنافقين بالقاصدين عاقبة السوء على نهج الاستعارة المكنية والقرينة إثبات معنى التعليل ، وقيل : إن اللام للعلة حقيقة بالنظر إلى المنطوق ومجازا بالنظر إلى المعرض به ويكون من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وقد جوزه من جوزه.
وقيل : لا يبعد جعل لِيَجْزِيَ إلخ تعليلا للمنطوق المقيد بالمعرض به فكأنه قيل : ما بدلوا كغيرهم ليجزيهم بصدقهم ويعذب غيرهم إن لم يتب ، وأنه يظهر بحسن صنيعهم قبح غيره ، وبضدها تتبين الأشياء ، وقيل :
تعليل لصدقوا وحكي ذلك عن الزجاج ، وقيل : لما يفهم من قوله تعالى : وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً وقيل : لما

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 171
يستفاد من قوله تعالى : وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ كأنه قيل : ابتلاهم اللّه تعالى برؤية ذلك الخطب ليجزي الآية ، واختاره الطيبي قائلا : إنه طريق أسهل مأخذا وأبعد عن التعسف وأقرب إلى المقصود من جعله تعليلا للمنطوق والمعرض به ، واختار شيخ الإسلام كونه متعلقا بمحذوف والكلام مستأنف مسوق بطريق الفذلكة لبيان ما هو داع إلى وقوع ما حكي من الأقوال والأفعال على التفصيل وغاية كما في قوله تعالى : لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب : 8] كأنه قيل : وقع جميع ما وقع ليجزي اللّه إلخ ، وهو عندي حسن وإن كان فيه حذف فتأمل ذاك واللّه تعالى يتولى هداك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي لمن تاب ، وهذا اعتراض فيه بعث إلى التوبة.
وقوله سبحانه : وَرَدَّ اللَّهُ إلخ رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالا بقوله تعالى : فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب : 9] وهو معطوف على (أرسلنا) وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت به العقول والأفهام وداهية تحاكت فيها الركب وزلت الأقدام ، وتفصيل ما صدر عن فريقي أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لإظهار عظم النعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الَّذِينَ كَفَرُوا والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة ، وجوز شيخ الإسلام ولعل صنيعه يشير إلى أولويته حيث بدأ به كونه معطوفا على فاعلي المقدر قبل : لِيَجْزِيَ اللَّهُ كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد اللّه الذين كفروا وقيل هو معطوف من حيث المعنى على قوله تعالى لِيَجْزِيَ كأنه قيل فكان عاقبة الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه أن جزاهم اللّه تعالى بصدقهم ورد أعدائهم وهذا الرد من جملة جزائهم على صدقهم وهو كما ترى ، والمراد بالذين كفروا الأحزاب على ما روي غير واحد عن مجاهد ، والظاهر أنه عنى المشركين واليهود الذين تحزبوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه فسر ذلك بأبي سفيان ، وأصحابه ، ولعله الأولى ، وعلى القولين المراد رد اللّه الذين كفروا من محل اجتماعهم حول المدينة وتحزبهم إلى مساكنهم بِغَيْظِهِمْ حال من الموصول لا من ضمير كَفَرُوا والباء للملابسة أي ملتبسين بغيظهم وهو أشد الغضب ، وقوله تعالى : لَمْ يَنالُوا خَيْراً حال من ذاك أيضا أو من ضمير بِغَيْظِهِمْ أي غير ظافرين بخير أصلا ، وفسر بعضهم الخير بالظفر بالنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنين ، وإطلاق الخير عليه مبني على زعمهم ، وفسره بعضهم بالمال كما في قوله تعالى : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات : 8] والأولى أن يراد به كل خير عندهم فالنكرة في سياق النفي تعم ، وجوز أن يكون الجملة مستأنفة لبيان سبب غيظهم أو بدلا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي وقاهم سبحانه ذلك ، وكَفَى هذه تتعدى لاثنين ، وقيل : هي بمعنى أغنى وتتعدى إلى مفعول واحد.
والكلام هنا على الحذف والإيصال والأصل وكفى اللّه المؤمنين عن القتال أي أغناهم سبحانه عنه ولا وجه له وهذه الكفاية كانت كما أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة بالريح والملائكة عليه السلام ، وقيل : بقتل علي كرم اللّه تعالى وجهه عمرو بن عبد ود.
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف «وكفى اللّه المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب» وفي مجمع البيان هو المروي عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه
ولا يكاد يصح ذلك ، والظاهر ما روي عن قتادة لمكان قوله تعالى : فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب : 9] وكأن المراد بالقتال الذي كفاهم اللّه تعالى إياه القتال على الوجه المعروف من تعبية الصفوف والرمي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 172
بالسهام والمقارعة بالسيوف أو القتال الذي يقتضيه ذلك التحزب والاجتماع بحكم العادة.
وفي البحر ما هو ظاهر في أن المراد كفى اللّه المؤمنين مداومة القتال وعودته فإن قريشا هزموا بقوة اللّه تعالى وعزته عزّ وجلّ وما غزوا المسلمين بعد ذلك وإلّا فقد وقع قتال في الجملة وقتل من المشركين على ما روي عن ابن إسحاق ثلاثة نفر من بني عبد الدار بن قصي منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة ، ومن بني مخزوم بن يقظة نوفل بن عبد اللّه بن المغيرة اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل ، ومن بني عامر بن لؤي ثم من بني مالك بن حسل عمرو بن عبد ود نازله علي كرم اللّه تعالى وجهه كما علمت فقتله.
وروي عن ابن شهاب أنه رضي اللّه تعالى عنه قتل يؤمئذ ابنه حسل أيضا فيكون من قتل من المشركين أربعة واستشهد من المؤمنين بسبب هذه الغزوة سعد بن معاذ وأنس بن أويس بن عتيك وعبد اللّه بن سهل وهم من بني عبد الأشهل ، والطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن عثمة وهما من بني جشم بن الخزرج من بني سلمة ، وكعب بن زيد وهو من بني النجار ثم من بني دينار أصابه سهم غرب فقتله ، قال ابن إسحاق : ولم يستشهد إلّا هؤلاء الستة رضي اللّه تعالى عنهم وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إحداث كل ما يريد جل شأنه عَزِيزاً غالبا على كل شيء وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا الأحزاب المردودة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنو قريظة عند الجمهور ، وعن الحسن أنهم بنو النضير وعلى الأول المعول مِنْ صَياصِيهِمْ أي من حصونهم جمع صيصية وهي كل ما يمتنع به ويقال لقرن الثوار والظباء ولشوكة الديك التي في رجله كالقرن الصغير ، وتطلق الصياصي على الشوك الذي للنساجين ويتخذ من حديد قاله أبو عبيدة وأنشد لدريد بن الصمة الجشمي :
نظرت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد
وتطلق على الأصول أيضا قال : أبو عبيدة إن العرب تقول جذ اللّه تعالى صئصئه أي أصله.
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد بحيث أسلموا فيهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى : فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلا عن المخالفة والاستعصاء. وفي البحر أن قذف الرعب سبب لإنزالهم ولكن قدم المسبب لما أن السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم ، وقدم مفعول تَقْتُلُونَ لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين وكان الاعتناء بحالهم أهم ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل الاعتناء هناك بالأسر أشد ، ولو قيل : وفريقا تأسرون لربما ظن قبل سماع تأسرون أنه يقال بعد تهزمون : أو نحو ذلك ، وقيل : قدم المفعول في الجملة الأولى لأن مساق الكلام لتفصيله وأخر في الثانية لمراعاة الفواصل ، وقيل التقديم لذلك وأما التأخير فلئلا يفصل بين القتل وأخيه وهو الأسر فاصل ، وقيل : غوير بين الجملتين في النظم لتغاير حال الفريقين في الواقع فقد قدم أحدهما فقتل وأخر الآخر فأسروا وقرأ ابن عامر والكسائي «الرّعب» بضم العين وقرأ أبو حيوة «تأسرون» بضم السين ، وقرأ اليماني «يأسرون» بياء الغيبة وقرأ ابن أنس عن ابن ذكوان بها فيه وفي يقتلون ولا يظهر لي وجه وجيه لتخصيص الاسم بصيغة الغيبة فتأمل ، وتفصيل القصة على سبيل الاختصار إنه لما كانت صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب أو ظهر يوم تلك الليلة على ما
في بعض الروايات وقد رجع رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم والمسلمون إلى داخل المدينة أتى جبريل عليه السلام معتجرا بعمامة إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو عند زينب بنت جحش تغسل رأسه الشريف وقد غسلت شقه فقال : أوقد وضعت السلاح يا رسول اللّه؟ قال : نعم ، فقال : عفا اللّه تعالى عنك ما وضعت الملائكة عليهم السلام السلاح بعد وما رجعت إلّا الآن من طلب القوم وإن اللّه تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وإني عامد إليهم فمزلزل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 173
بهم حصونهم فأمر عليه الصلاة والسلام مؤذنا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلّا ببني قريظة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وقدم علي بن أبي طالب كرم اللّه تعالى وجهه برايته إليهم وابتدرها الناس فسار كرم اللّه تعالى وجهه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فرجع حتى لقيه عليه الصلاة والسلام فقال : يا رسول اللّه لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث قال : لم؟ أظنك سمعت لي منهم أذى قال : نعم يا رسول اللّه قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من حصونهم قال : يا إخوان القردة هل أخزاكم اللّه تعالى وأنزل بكم نقمته؟ قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا وفي رواية فحاشا وكان عليه الصلاة والسلام قد مرّ بنفر من أصحابه بالصورين قبل أن يصل إليهم فقال : هل مرّ بكم أحد قالوا : يا رسول اللّه قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج فقال عليه الصلاة والسلام : ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ولما أتاهم صلّى اللّه عليه وسلم نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم يقال لها بئر أنا وتلاحق الناس فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لا يصلين أحد العصر إلّا ببني قريظة وقد شغلهم ما لم يكن لهم منه بد في حربهم فلما أتوا صلوها بعد العشاء فما عابهم اللّه تعالى بذلك في كتابه ولا عنفهم رسوله عليه الصلاة والسلام.
وحاصرهم صلّى اللّه تعالى عليه وسلم خمسة وعشرين ليلة ، وقيل : إحدى وعشرين ، وقيل : خمس عشرة وجهدهم الحصار وخافوا أشد الخوف وقد كان حي بن أخطب دخل معهم في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب : يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا فخذوا أيها شئتم قالوا : وما هي؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه فو اللّه لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم اللّه تعالى بيننا وبينهم فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وأن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء قالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال : فإن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه قد أمنونا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب منهم غرة قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلّا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال : فما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ثم إنهم بعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله عليه الصلاة والسلام إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرقّ لهم وقالوا له : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قال : نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه
الذبح فعرف أنه قد خان اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وذهب إلى المدينة وربط نفسه بجذع في المسجد حتى نزلت توبته رضي اللّه تعالى عنه ثم إنه عليه الصلاة والسلام استنزلهم فتواثب الأوس فقالوا : يا رسول اللّه إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وقد كانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه فسأله إياهم عبد اللّه بن أبي ابن سلول فوهبهم له فلما كلمته الأوس قال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا : بلى قال : فذاك إلى سعد بن معاذ وكان رسول

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 174
اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قد جعله في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به صنيعة من المسلمين وقد كان رضي اللّه تعالى عنه قد أصيب يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه فدعا اللّه تعالى فقال : اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة ، وروي أن بني قريظة هم اختاروا النزول على حكم سعد ورضي رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك فأتاه قومه وهو في المسجد فحملوه على حمار وقد وطؤوا له بوسادة من آدم وكان رجلا جسيما جميلا ثم أقبلوا معه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في اللّه تعالى لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام والمسلمين قال صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «قوموا إلى سيدكم» فأما المهاجرون من قريش فقالوا : إنما أراد رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم الأنصار وأما الأنصار فيقولون : قد
عم بها عليه الصلاة والسلام المسلمين فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إن رسول اللّه تعالى عليه وسلم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال سعد : عليكم عهد اللّه تعالى وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا : نعم قال : وعلى من هاهنا في الناحية التي فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو معرض برسول اللّه عليه الصلاة والسلام؟ فقال صلّى اللّه تعالى عليه وسلم.
نعم قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء فكبر النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وقال : لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة فحبسهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ثم خرج إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج إليهم بها أرسالا وفيهم عدو اللّه تعالى حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمستكثر لهم يقول : كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب وهم يذهب بهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : أرسالا يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال : أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع ومن ذهب منكم لا يرجع هو واللّه القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وأتي بحيي بن أخطب عدو اللّه تعالى وعليه حلة تفاحية «1» قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قال : أما واللّه ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل اللّه تعالى يخذل ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس إنه لا بأس بأمر اللّه تعالى كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه
فقال فيه جبل بن جدال التغلبي :
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل اللّه يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يبغي العز كل مقلقل
وروي أن ثابت بن قيس بن شماس رضي اللّه تعالى عنه استوهب من رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم الزبير بن باطا القرظي لأنه منّ عليه في الجاهلية يوم بعاث فقال صلّى اللّه تعالى عليه وسلم هو لك فأتاه فقال : إن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك قال : شيخ كبير فما يصنع بالحياة ولا أهل له ولا ولد؟ فأتى ثابت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه امرأته وولده قال : هم لك فأتاه فقال
___________
(1) قال ابن هشام تفاحية ضرب من الوشي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 175
قد وهب لي رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك قال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فقال : ما له قال : هو لك فأتاه فقال : قد أعطاني رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم مالك فهو لك فقال أي ثابت : ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتمرأ فيها عذارى الحي كعب بن أسد؟ قال : قتل قال : فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا غزال بن شموال؟ قال : قتل قال : فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قال : قتلوا قال : فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك ألا ألحقني بالقوم فو اللّه ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر للّه تعالى قتلة ذكر ناصح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه فلما بلغ أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه قوله : ألقى الأحبة قال : يلقاهم واللّه في جهنم خالدين فيها مخلدين ، واستوهبت سلمى بنت أقيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قد صلت معه القبلتين وبايعته مبايعة النساء رفاعة بن شموال القرظي وقالت : بأبي أنت وأمي يا نبي اللّه هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصل ويأكل لحم الجمل فوهبه عليه الصلاة والسلام لها فاستحيته. وقتل منه كل من أنبت من الذكور ، وأما النساء فلم يقتل منهم إلا امرأة يقال لها لبابة زوجة الحكم القرظي وكانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته.
اخرج ابن إسحاق عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : واللّه ان هذه الامرأة لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقتل رجالها بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت : أنا واللّه قلت لها : ويلك ما لك؟ قالت : اقتل قلت : ولم؟ قالت : لحدث أحدثته فانطلق بها فضربت عنقها فكانت عائشة رضي اللّه تعالى عنها تقول : فو اللّه ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل ، ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال ، وأخرج منها الخمس وكان للفرس سهمان وللفارس سهم وللراجل الذي ليس له فرس سهم ، وكانت الخيل في تلك الغزوة ستة وثلاثين فرسا وهو أول فيء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس على ما ذكر ابن إسحاق ، ثم بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا القوم وكانت السبايا كلها على ما قيل سبعمائة وخمسين إلى نجد فابتاع بها لهم خيلا وسلاحا وكان عليه الصلاة والسلام قد اصطفى لنفسه الكريمة من نسائهم ريحانة بنت عمرو وكانت في ملكه صلّى اللّه عليه وسلم حتى توفي ، وقد كان عليه الصلاة والسلام عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت : يا رسول اللّه بل تتركني في ملك فهو أخف علي وعليك فتركها صلّى اللّه عليه وسلم وكانت حين سباها قد أبت إلا اليهودية فعزلها عليه الصلاة والسلام ووجد في نفسه لذلك فبينما هو صلّى اللّه تعالى عليه وسلم مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال : إن هذا لنعلا ابن شعبة جاء يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال : يا رسول اللّه قد أسلمت ريحانة فسره ذلك من أمرها
،
وكان الفتح على ما في البحر في آخر ذي القعدة وهذه الغزوة وغزوة الخندق كانتا في سنة واحدة كما يدل عليه ما ذكرناه أول القصة وهو الصحيح خلافا لمن قال : ان كلا منهما في سنة ، ولما انقضى شأن بني قريظة انفجر لسعد رضي اللّه تعالى عنه جرحه فمات شهيدا ، وقد استبشرت الملائكة عليهم السلام بروحه واهتزّ له العرش ، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار :
وما اهتز عرش اللّه من موت هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
واستشهد يوم بني قريظة على ما
روي عن ابن إسحاق من المسلمين ثم من بني الحارث بن الخزرج خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو وطرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا ، وذكروا ان رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قال : إن له لأجر شهيدين
، ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان أخو بني أسد بن خزيمة ورسول اللّه عليه الصلاة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 176
والسلام محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم التي يدفنون فيها اليوم واليه دفنوا موتاهم في الإسلام ، وتمام الكلام فيما وقع في هذه الغزوة في كتب السير ، وقوله تعالى : وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ عطف على قوله سبحانه وتعالى : أَنْزَلَ إلخ ، والمراد بأرضهم مزارعهم ، وتقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزروع.
وفي قوله عزّ وجلّ : أَوْرَثَكُمْ إشعار بأنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين وأن ملكهم إياه ملك قوي ليس بعقد الفسخ أو الإقالة وَدِيارَهُمْ أي حصونهم وَأَمْوالَهُمْ نقودهم ومواشيهم وأثاثهم التي اشتملت عليها أرضهم وديارهم.
أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة من خبر طويل أن سعدا رضي اللّه تعالى عنه حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم بأن أعقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه : أتؤثر المهاجرين بالأعقار علينا؟ فقال : إنكم ذو أعقار وإن المهاجرين لا أعقار لهم ، وأمضى رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم حكمه.
وفي الكشاف روي أن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : إنكم في منازلكم ، وقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال : لا إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس قال : رضينا بما صنع اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم.
وذكر الجلال السيوطي أن الخبر رواه الواقدي من رواية خارجة بن زيد عن أم العلاء ، قالت : لما غنم رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بني النضير جعل الحديث ، ومن طريق المسور بن رفاعة قال : فقال عمر يا رسول اللّه ألا تخمس ما أصيب من بني النضير الحديث ا ه ، وعليه لا يحسن من الزمخشري ذكره هاهنا مع أن الآيات عنده في شأن بني قريظة ، وسيأتي الكلام فيما وقع لبني النضير في تفسير سورة الحشر إن شاء اللّه تعالى وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قال مقاتل ، ويزيد بن رومان ، وابن زيد : هي خيبر فتحت بعد بني قريظة ، وقال قتادة : كان يتحدث أنها مكة ، وقال الحسن : هي أرض الروم وفارس ، وقيل : اليمن ، وقال عكرمة : هي ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة واختاره في البحر ، وقال عروة : لا أحسبها إلا كل أرض فتحها اللّه تعالى على المسلمين أو هو عزّ وجلّ فاتحها إلى يوم القيامة ، والظاهر أن العطف على أَرْضَهُمْ واستشكل بأن الإرث ماض حقيقة بالنسبة إلى المعطوف عليه ومجازا بالنسبة إلى هذا المعطوف. وأجيب بأنه يراد بأورثكم أورثكم في علمه وتقديره وذلك متحقق فيما وقع من الإرث كأرضهم وديارهم وأموالهم وفيما لم يقع بعد كإرث ما لم يكن مفتوحا وقت نزول الآية. وقدر بعضهم أورثكم في جانب المعطوف مرادا به يورثكم إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع والدليل المذكور ، واستبعد دلالة المذكور عليه لتخالفهما حقيقة ومجازا.
وقيل : الدليل ما بعد من قوله تعالى : وَكانَ اللَّهُ إلخ ، ثم إذا جعلت الأرض شاملة لما فتح على أيدي الحاضرين ولما فتح على أيدي غيرهم ممن جاء بعدهم لا يخص الخطاب الحاضرين كما لا يخفى. ومن بدع التفاسير أنه أريد بهذه الأرض نساؤهم ، وعليه لا يتوهم إشكال في العطف. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «لم تطوها» بحذف الهمزة أبدل همزة تطأ الفا على حد قوله :
إن السباع لتهدى في مرابضها والناس لا يهتدى من شرهم أبدا
فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت كقولك لم تروها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً فهو سبحانه قادر على أن يملككم ما شاء يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي السعة والتنعم فيها وَزِينَتَها أي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 177
زخرفها وهو تخصيص بعد تعميم فَتَعالَيْنَ أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين كما يقال أقبل يخاصمني وذهب يكلمني وقام يهددني ، وأصل تعال أمر بالصعود لمكان عال ثم غلب في الأمر بالمجيء مطلقا والمراد هاهنا ما سمعت ، وقال الراغب : قال بعضهم إن أصله من العلو وهو ارتفاع المنزلة فكأنه دعاء إلى ما فيه رفعة كقولك : افعل كذا غير صاغر تشريفا للمقول له ، وهذا المعنى غير مراد هنا كما لا يخفى أُمَتِّعْكُنَّ أي أعطكن متعة الطلاق ، والمتعة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد واجبة عند الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه وأصحابه ، ولسائر المطلقات مستحبة ، وعن الزهري متعتان أحدهما يقضي بها السلطان ويجبر عليها من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها والثانية حق على المتقين من طلق بعد ما فرض ودخل. وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال : متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره ، وعن سعيد بن جبير المتعة حق مفروض ، وعن الحسن لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة ، والمتعة درع وحمار وملحفة على حسب السعة والاقتار إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فيجب لها الأقل منهما ولا ينقص من خمسة دراهم لأن أقل المهر معشرة دراهم فلا ينقص من نصفها كذا في الكشاف ، وتمام الكلام في الفروع ، والفعل مجزوم على أنه جواب الأمر وكذا قوله تعالى : وَأُسَرِّحْكُنَّ وجوز أن يكون الجزم على أنه جواب الشرط ويكون فَتَعالَيْنَ اعتراضا بين الشرط وجزائه ، والجملة الاعتراضية قد تقترن بالفاء كما في قوله :
واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقرأ حميد الخراز «أمتعكن وأسرحكن» بالرفع على الاستئناف ، وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «أمتعكن» بالتخفيف من أمتع ، والتسريح في الأصل مطلق الإرسال ثم كنى به عن الطلاق أي وأطلقكن سَراحاً أي طلاقا جَمِيلًا أي ذا حسن كثير بأن يكون سنيا لا ضرار فيه كما في الطلاق البدعي المعروف عند الفقهاء. وفي مجمع البيان تفسير السراح الجميل بالطلاق الخالي عن الخصومة والمشاجرة ، وكان الظاهر تأخير التمتيع عن التسريح لما أنه مسبب عنه إلا أنه قدم عليه إيناسا لهن وقطعا لمعاذيرهن من أول الأمر ، وهو نظير قوله تعالى : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة : 43] من وجه ولأنه مناسب لما قبله من الدنيا : وجوز أن يكون في محلة بناء على أن إرادة الدنيا بمنزلة الطلاق والسراح الإخراج من البيوت فكأنه قيل : إن أردتن الدنيا وطلقتن فتعالين أعطكن المتعة وأخرجكن من البيوت إخراجا جميلا بلا مشاجرة ولا إيذاء ، ولا يخفى بعده وسبب نزوله الآية على ما قيل : إن أزواجه عليه الصلاة والسلام سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة.
وأخرج أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال : أقبل أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه والناس ببابه جلوس والنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي اللّه تعالى عنهما فدخلا والنبي صلّى اللّه عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت فقال عمر : لأكلمن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لعله يضحك فقال : يا رسول اللّه لو أردت ابنة زيد يعني امرأته رضي اللّه تعالى عنه سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم حتى بدأ ناجذه وقال : هن حولي سألنني النفقة فقام أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه إلى عائشة ليضربها وقام عمر رضي اللّه تعالى عنه إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ما ليس عنده فنهاهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقلن نساؤه : واللّه لا نسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وأنزل اللّه تعالى الخيار فبدأ بعائشة فقال عليه الصلاة والسلام : إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت : ما هو؟ فتلا عليها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية قالت عائشة : أفيك أستأمر أبوي؟ بل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 178
أختار اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال عليه الصلاة والسلام : إن اللّه تعالى لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا لا تسألني امرأة منهن عما اخبرتني إلا أخبرتها
، وفي خبر رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، والحسن أنه لما نزلت آية التخيير كان تحته عليه الصلاة والسلام تسع نسوة خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أمية وكان تحته صفية بنت حيي الخيبرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق وبدأ بعائشة فلما اختارت اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم والدار الآخرة رئي الفرح في وجه رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فتتابعن كلهن على ذلك فلما خيرهن واخترن اللّه عزّ وجلّ ورسوله عليه الصلاة والسلام والدار الآخرة شكرهن اللّه جلّ شأنه على ذلك إذ قال سبحانه : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب : 52] فقصره اللّه تعالى عليهن وهن التسع اللاتي اخترن اللّه عزّ وجلّ ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم.
وأخرج ابن سعد عن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده أنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم خير نساءه فاخترن جميعا اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام غير العامرية اختارت قومها
فكانت بعد تقول : أنا الشقية وكانت تلقط البعر وتبيعه وتستأذن على أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم فتقول : أنا الشقية.
وأخرج أيضا عن ابن جناح قال : اخترنه جميعا غير العامرية كانت ذاهبة العقل حتى ماتت. وجاء في بعض الروايات عن ابن جبير غير الحميرية وهي العامرية ، وكان هذا التخيير كما روي عن عائشة ، وأبي جعفر بعد أن هجرهن عليه الصلاة والسلام شهرا تسعة وعشرين يوما. وفي البحر أنه لما نصر اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ورد عنه الأحزاب وفتح عليه النضير وقريظة ظن أزواجه عليه الصلاة والسلام أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن : يا رسول اللّه بنات كسرى ، وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق وآلمن قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم فأمره اللّه تعالى بأن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن وما أحسن موقع هذه الآيات على هذا بعد انتهاء قصة الأحزاب وبني قريظة كما لا يخفى ، ويفهم من كلام الإمام أنها متعلقة بأول السورة وذلك أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين : التعظيم لإمر اللّه تعالى والشفقة على خلقه عزّ وجلّ فبدأ سبحانه بإرشاد حبيبه عليه الصلاة والسلام إلى ما يتعلق بجانب التعظيم له تعالى فقال سبحانه : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب : 2] إلخ ثم أرشده سبحانه إلى ما يتعلق بجانب الشفقة ، وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بذلك ، وقدم سبحانه الشرطية المذكورة على قوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلخ لأن سبب النزول ما سمعت.
وقال الإمام : إن التقديم إشارة إلى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم غير ملتفت إلى الدنيا ولذاتها غاية الالتفات ، وذكر أن في وصف السراح بالجميل إشارة إلى ذلك أيضا ، ومعنى إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كنتن تردن رسول اللّه وإنما ذكر اللّه عزّ وجلّ للإيذان بجلالة محله عليه الصلاة والسلام عنده تعالى وَالدَّارَ الْآخِرَةَ أي نعيمها الباقي الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ أي هيأ ويسّر لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ بمقابلة إحسانهن أَجْراً لا تحصى كثرته عَظِيماً لا تستقصى عظمته ، و(من) للتبيين لأن كلهن كن محسنات.
وقيل : ويجوز فيه التبعيض على أن المحسنات المختارات للّه ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم واختيار الجميع لم يعلم وقت النزول ، وهو على ما قال الخفاجي عليه الرحمة بعيد ، وجواب إِنْ في الظاهر ما قرن بالفاء

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 179
إلا أنه قيل الماضي فيه بمعنى المضارع الدال على الاستقبال والتعبير به دونه لتحقق الوقوع ، وقيل : الجواب محذوف نحو تثبن أو تنلن خيرا وما ذكر دليله ، وتجريد الشرطية الأولى عن الوعيد للمبالغة في تحقيق معنى التخيير والاحتراز عن شائبة الإكراه ، قيل : وهو السر في تقديم التمتيع على التسريح ووصف التسريح بالجميل.
هذا واختلف فيما وقع من التخيير هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق بنفس الاختيار او لا فذهب الحسن ، وقتادة وأكثر أهل العلم «1» على ما في إرشاد العقل السليم وهو الظاهر إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما كان تخييرا لهن بين الإرادتين على أنهن إن أردن الدنيا فارقهن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم كما ينبىء عنه قوله تعالى : فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضا للطلاق إليهن حتى لو أنهن اخترن انفسهن كان ذلك طلاقا ، وكذا اختلف في حكم التخيير بأن يقول الرجل لزوجته اختاري فتقول اخترت نفسي أو اختاري نفسك فتقول اخترت فعن زيد بن ثابت أنه يقع الطلاق الثلاث وبه أخذ مالك في المدخول بها وفي غيرها يقبل من الزوج دعوى الواحدة ، وعن عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود أنه يقع واحدة رجعية وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، وبه أخذ الشافعي ، وأحمد.
وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه يقع واحدة بائنة
، وروى ذلك الترمذي عن ابن مسعود ، وأيضا عن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ، وبذلك أخذ أبو حنيفة عليه الرحمة ، فإن اختارت زوجها فعن زيد بن ثابت أنه تقع طلقة واحدة وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه روايتان إحداهما أنه تقع واحدة رجعية والأخرى أنه لا يقع شيء أصلا وعليه فقهاء الأمصار.
وذكر الطبرسي أن المروي عن أئمة أهل البيت رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين اختصاص التخيير بالنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وأما غيره عليه الصلاة والسلام فلا يصح له ذلك. واختلف في مدة ملك الزوجة الاختيار إذا قال لها الزوج ذلك فقيل : تملكه ما دامت في المجلس وروي هذا عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم.
وبه قال جابر بن عبد اللّه ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، ومالك ، وسفيان ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وقيل :
تملكه في المجلس وفي غيره وهو قول الزهري ، وقتادة ، وأبي عبيدة ، وابن نصر وحكاه صاحب المغني عن علي كرم اللّه تعالى وجهه.
وفي بلاغات محمد بن الحسن أنه كرم اللّه تعالى وجهه قائل بالاقتصار على المجلس كقول الجماعة رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين ، وتمام الكلام في هذه المسألة وما لكل من هذه الأقوال وما عليه يطلب من كتب الفروع كشروح الهداية وما يتعلق بها بيد أبي أقول : كون ما في الآية هو المسألة المذكور في الفروع التي وقع الاختلاف فيها مما لا يكاد يتسنى ، وتأويل الخفاجي استدلال من استدل بها في هذا المقام بما لا يخلو عن كلام عند ذوي الأفهام.
هذا وذكر الإمام في الكلام على تفسير هذه الآية عدة مسائل. الأولى أن التخيير منه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قولا كان واجبا عليه عليه الصلاة والسلام بلا شك لأنه إبلاغ الرسالة ، وأما معنى فكذلك على القول بأن الأمر للوجوب.
الثانية أنه لو أردن كلهن أو إحداهن الدنيا فالظاهر نظرا إلى منصب النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أنه يجب عليه التمتيع والتسريح لأن الخلف في الوعد منه عليه الصلاة والسلام غير جائز. الثالثة أن الظاهر أنه لا تحرم المختارة بعد البينونة على غيره عليه الصلاة والسلام وإلا لا يكون التخيير ممكنا من التمتع بزينة الدنيا. الرابعة أن الظاهر أن من
___________
(1) ومنهم ابن الهمام ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 180
اختارت اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يحرم على النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم نظرا إلى منصبه الشريف طلاقها واللّه تعالى أعلم.
يا نِساءَ النَّبِيِّ تلوين للخطاب وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن ونداؤهن هاهنا وفيما بعد بالإضافة اليه عليه الصلاة والسلام لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام ، واعتبار كونهن نساء في الموضعين أبلغ من اعتبار كونهن أزواجا كما لا يخفى على المتأمل مَنْ يَأْتِ بالياء التحتية حملا على لفظ مَنْ ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما ، والجحدري ، وعمرو بن قائد الأسواري ويعقوب بالتاء الفوقية حملا على معناها مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بكبيرة مُبَيِّنَةٍ ظاهرة القبح من بين بمعنى تبين ، وقرأ ابن كثير ، وأبو بكر مبينة بفتح الياء والمراد بها على ما قيل : كل ما يقترف من الكبائر ، وأخرج البيهقي في السنن عن مقاتل بن سليمان أنها العصيان للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وقيل : ذلك وطلبهن ما يشق عليه الصلاة والسلام أو ما يضيق به ذرعه ويغتم صلّى اللّه عليه وسلم لأجله.
ومنع في البحر أن يراد بها الزنا قال : لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم معصوم من ارتكاب نسائه ذلك ولأنه وصفت الفاحشة بالتبين والزنا مما يتستر به ومقتضاه منع إرادة الأعم ثم قال : وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته ، ولا يخلو كلامه عن بحث والإمام فسرها به ، وجعل الشرطية من قبيل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر : 65] من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع جزما فإن الأنبياء صان اللّه تعالى زوجاتهم عن ذلك ، وقد تقدم بعض الكلام في هذه المسألة في سورة النور وسيأتي إن شاء اللّه تعالى طرف مما يتعلق بهما أيضا يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ يوم القيامة على ما روي عن مقاتل أو فيه ، وفي الدنيا على ما روي عن قتادة ضِعْفَيْنِ أي يعذبن ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه فإن مكث غيرهن ممن أتى بفاحشة مبينة في النار يوما مثلا مكثن هن لو أتين بمثل ما أتى يومين. وإن وجب على غيرهن حد لفاحشة وجب عليهن لو أتين بمثلها حدان ، وقال أبو عمرو ، وأبو عبيدة فيما حكى الطبري عنهما الضعفان أن يجعل الواحدة ثلاثة فيكون عليهن ثلاثة حدود أو ثلاثة أمثال عذاب غيرهن ، وليس بذاك ، وسبب تضعيف العذاب أن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تابعة لزيادة فضل المذنب والنعمة عليه وتلك ظاهرة فيهن ولذلك جعل حد الحر ضعف حد الرقيق وعوتب الأنبياء عليهم السلام بما لا يعاتب به الأمم وكذا حال العالم بالنسبة إلى الجاهل فليس من يعلم كمن لا يعلم ، وروي عن زين العابدين رضي اللّه تعالى عنه أنه قال له رجل : إنكم أهل بيت مغفور لكم فغضب وقال : نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى اللّه تعالى في أزواج النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم من أن نكون كما تقول إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي تليها
،
وقرأ الحسن ، وعيسى ، وأبو عمرو «يضعف» بالياء التحتية مبنيا للمفعول بلا ألف والجحدري ، وابن كثير ، وابن عامر «نضعف» بالنون مبنيا للفاعل بلا ألف أيضا وزيد بن علي ، وابن محيصن ، وخارجة عن أبي عمرو «نضاعف» بالنون والألف والبناء للفاعل وفرقة «يضاعف» بالياء والألف والبناء للفاعل ، وقرأ «العذاب» بالرفع من قرأ بالبناء للمفعول وبالنصب من قرأ للفاعل وَكانَ ذلِكَ أي تضعيف العذاب عليهن عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي سهلا لا يمنعه جلّ شأنه عنه كونهن نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم بل هو سبب له.
تم بحمد اللّه الجزء الحادي والعشرون ويليه إن شاء اللّه تعالى الجزء الثاني والعشرون وأوله وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 181
الجزء الثاني العاشر

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 182

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 183
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 إلى 39]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ أي ومن تخشع وتخضع لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ عملا صالِحاً كصلاة وصوم وحج وإيتاء زكاة وهذا العمل غير القنوت للّه تعالى على ما سمعت من تفسيره فلا تكرار ، وفسره بعضهم بالطاعة ودفع التكرار بأن المراد وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لرسول اللّه وَتَعْمَلْ صالِحاً للّه تعالى ، وذكر اللّه إنما هو لتعظيم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم يجعل طاعته غير منفكة عن طاعة اللّه عزّ وجلّ ، وبعضهم بما ذكر أيضا إلا أنه دفع التكرار بأن المراد بالعمل الصالح

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 184
الخدمة الحسنة والقيام بمصالح البيت لا نحو الصلاة والصيام وبالطاعة المفسر بها القنوت امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وفسره بعضهم بدوام الطاعة فقيل في دفع التكرار نحو ما مر ، وقيل : المراد به الدوام على الطاعة السابقة وبالعمل الصالح : العبادات التي يكلفن بها بعد.
وقيل : القنوت السكوت كما قيل ذلك في قوله تعالى : وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة : 238] والمراد به هاهنا السكوت عن طلب ما لم يأذن اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم لهن به من زيادة النفقة وثياب الزينة ، وقيل غير ذلك. نُؤْتِها أَجْرَها الذي تستحقه على ذلك فضلا وكرما مَرَّتَيْنِ فيكون أجرها مضاعفا وهذا في مقابلة يضاعف لها العذاب ضعفين.
أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنه قال في حاصل معنى الآيتين : أنه من عصى منكن فإنه يكون للعذاب عليها الضعف منه على سائر نساء المؤمنين ومن عمل صالحا فإن الأجر لها الضعف على سائر نساء المسلمين ، ويستدعي هذا أنه إذا أثيب نساء المسلمين على الحسنة بعشر أمثالها أثبن هن على الحسنة بعشرين مثلا لها وإن زيد للنساء على العشر شيء زيد لهن ضعفه ، وكأنه واللّه تعالى أعلم إنما قيل نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ دون يضاعف لها الأجر كما قيل في المقابل يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ لأن أصل تضعيف الأجر ليس من خواصهن بل كل من عمل صالحا من النساء والرجال من هذه الأمة يضاعف أجره فأخرج الكلام مغايرا لما تقتضيه المقابلة رمزا إلى أن تضعيف الأجر على طرز مغاير لطرز تضعيف العذاب مع تضمن الكلام المذكور الإشارة إلى مزيد تكريمهن ووفور الاعتناء بهن فإن الإحسان المكرر أحلى ، ومن تأمل في الجملتين ظهر له تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب وكفى بالتصريح بفاعل إيتاء الأجر وجعله ضمير العظمة والتعبير عما يؤتون من النعيم بالأجر مع إضافته إلى ضميرهن مع خلو جملة تضعيف العذاب عن مثل ذلك شهداء على ما ذكر ، ثم إن تضعيف أجرهن لمزيد كرامتهن رضي اللّه تعالى عنهن على اللّه عزّ وجلّ مما منّ به عليهن من النسبة إلى خير البرية عليه من اللّه تعالى أفضل الصلاة وأكمل التحية ، والظاهر أن ذلك ليس بالنسبة إلى أعمالهن الصالحة التي عملنها في حياته صلّى اللّه عليه وسلم فقط بل يضاعف أجرهن عليها وعلى الأعمال الصالحة التي يعملنها بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وقال بعض الأجلة : إن هاتين المرتين إحداهما على الطاعة والأخرى على طلبهن رضاء للنبي صلّى اللّه عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة ، وجعل في البحر وغيره سبب التضعيف هذا الطلب وتلك لطاعة ، ولا يخفى أن ما ذكروه موهم لعدم التضعيف بالنسبة لما فعلوه من العمل الصالح بعد وفاته صلّى اللّه عليه وسلم ، وقال بعض المدققين : أراد من جعل سبب مضاعفة أجورهن ما ذكر التطبيق على لفظ الآية حيث جعل القنوت للّه ولرسوله مع ما تلاه سببا ويدمج فيه أن مضاعفة العذاب إنما نشأت من أن النشوز مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وطلب ما يشق عليه ليس كالنشوز مع سائر الأزواج ولذلك اقتضى مضاعفة العذاب وكذلك طاعته وحسن التخلق معه والمعاشرة على عكس ذلك فهذا يؤكد ما قالوا من أن سبب تضعيف العذاب زيادة قبح الذنب منهن وفيه أن العكس يوجب العكس فتأمل.
وقال بعض المفسرين : العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر فالمرتان إحداهما في الدنيا وثانيتهما في الأخرى ، ولا يخفى ضعفه وقرأ الجحدري والأسواري ويعقوب في رواية وكذا ابن عامر «ومن تقنت» بتاء التأنيث حملا على المعنى وقرأ السلمي وابن وثاب وحمزة والكسائي بياء من تحت في الأفعال الثلاثة على أن في «يؤتها» ضمير اسم اللّه تعالى ، وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ «ومن تقنت» بالتاء من فوق حملا على المعنى «ويعمل» بالياء من تحت حملا على اللفظ فقال بعض النحويين : هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 185
للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن وهو قوله تعالى : خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام :
139] انتهى فتذكر وَأَعْتَدْنا لَها في الجنة زيادة على أجرها المضاعف رِزْقاً كَرِيماً عظيم القدر رفيع الخطر مرضيا لصاحبه ، وقيل الرزق الكريم ما يسلم من كل آفة.
وجوز ابن عطية أن يكون في ذلك وعد دنياوي أي إن رزقها في الدنيا على اللّه تعالى وهو كريم من حيث هو حلال وقصد برضا من اللّه تعالى في نيله ، وهو كما ترى يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ذهب جمع من الرجال إلى أن المعنى ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء أي من نساء عصركن أي إن كل واحدة منكن أفضل من كل واحدة منهن لما امتازت بشرف الزوجية لرسول اللّه وأمومة المؤمنين - فأحد - باق على كونه وصف مذكر إلا أن موصوفه محذوف ولا بدّ من اعتبار الحذف في جانب المشبه كما أشير إليه ، وقال الزمخشري : أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه ، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة ، وقد استعمل بمعنى المتعدد أيضا في قوله تعالى : وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء : 152] لمكان بَيْنَ المقتضية للدخول على متعدد وحمل أحد على الجماعة على ما في الكشف ليطابق المشبه ، والمعنى على تفضيل نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم على نساء غيره لا النظر إلى تفضيل واحدة على واحدة من آحاد النساء فإن ذلك ليس مقصودا من هذا السياق ولا يعطيه ظاهر اللفظ.
وكون ذلك أبلغ لما يلزم عليه تفضيل جماعتهن على كل جماعة ولا يلزم ذلك تفضيل كل واحدة على كل واحدة من آحاد النساء لو سلم لكان إذا ساعده اللفظ والمقام ، واعترضه أيضا بعضهم بأنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم أفضل من فاطمة رضي اللّه تعالى عنها مع أنه ليس كذلك.
وأجيب عن هذا بأنه لا مانع من التزامه إلا أنه يلتزم كون الأفضلية من حيث أمومة المؤمنين والزوجية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا من سائر الحيثيات فلا يضر فيه كون فاطمة رضي اللّه تعالى عنها أفضل من كل واحدة منهن لبعض الحيثيات الأخر بل هي من بعض الحيثيات كحيثية البضعية أفضل من كل من الخلفاء الأربعة رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين ، نعم أورد على ما في الكشاف أن أحد الموضوع في النفي العام همزته أصلية غير منقلبة عن الواحد وقد نص على ذلك أبو علي ، وخالف فيه الرضي فنقل عنه أن همزة أحد في كل مكان بدل من الواو ، والمشهور التفرقة بين الواقع في النفي العام والواقع في الإثبات بأن همزة الأول أصلية وهمزة الثاني منقلبة عن الواو.
وفي العقد المنظوم في ألفاظ العموم للفاضل القرافي قد أشكل هذا على كثير من الفضلاء لأن اللفظين صورتهما واحدة ومعنى الوحدة يتناولهما والواو فيها أصلية فيلزم قطعا انقلاب ألف أحد مطلقا عنها وجعل ألف أحدهما منقلبا دون ألف الآخر تحكم ، وقد أطلعني اللّه تعالى على جوابه وهو أن أحد الذي لا يستعمل إلا في النفي معناه إنسان بإجماع أهل اللغة وأحد الذي يستعمل في الإثبات معناه الفرد من العدد فإذا تغاير مسماهما تغاير اشتقاقهما لأنه لا بدّ فيه من المناسبة بين اللفظ والمعنى ولا يكفي فيه أحدهما ، فإذا كان المقصود به الإنسان فهو الذي لا يستعمل إلا في النفي وهمزته أصلية ، وإن قصد به العدد ونصف الإثنين فهو الصالح للإثبات والنفي وألفه منقلبة عن واو ا ه ، ولا يخفى أنه إذا سلم الفرق المذكور ينبغي أن تكون الهمزة هنا أصلية ، وإلى أن همزة الواقع في النفي أصلية ذهب أبو حيان فقال : إن ما ذكره الزمخشري من قوله : ثم وضع في النفي العام إلخ غير صحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن واحدا ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل وذكر

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 186
النحويون أن مادته همزة وحاء ودال ومادة أحد بمعنى واحد أصله واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولا.
وذكر أن ما في قوله تعالى : لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة : 285] يحتمل أن يكون الذي للنفي العام ويحتمل أن يكون بمعنى واحد ، ويكون قد حذف معطوف أي بين واحد وواحد من رسله كما قال الشاعر :
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل
وقال الراغب : أحد يستعمل على ضربين في النفي لاستغراق جنس الناطقين ، ويتناول القليل والكثير على الاجتماع والانفراد نحو ما في الدار أحد أي لا واحد ولا اثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا متفرقين ، وهذا المعنى لا يمكن في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح ، ولا يصح إثباتهما ، فلو قيل في الدار أحد لكان إثبات أحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومتفرقين وهو بين الإحالة ولتناوله ما فوق الواحد صح نحو فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة : 47] وفي الإثبات على ثلاثة أوجه ، استعماله في الواحد المضموم إلى العشرات كأحد عشر وأحد وعشرين ، واستعماله مضافا أو مضافا إليه بمعنى الأول نحو أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي [يوسف : 41] وقولهم يوم الأحد ، واستعماله وصفا وهذا لا يصح إلا في وصفه تعالى شأنه ، أما أصله - أعني وحد - فقد يستعمل في غيره سبحانه كقول النابغة :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد
انتهى.
وهو محتمل لدعوى انقلاب همزته عن واو مطلقا ولدعوى انقلابها عنها في الاستعمال الأخير.
ولا يخفى على المنصف أن كون المعنى في الآية ما ذكره الزمخشري أظهر ، وتفضيل كل واحدة من نسائه صلّى اللّه عليه وسلم على كل واحدة واحدة من سائر النساء لا يلزم أن يكون لهذه الآية بل هو لدليل آخر إما عقلي أو نص مثل قوله تعالى : وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب : 6] وقيل يجوز أن يكون ذلك لها فإنها تفيد بحسب عرف الاستعمال تفضيل كل منهن على سائر النساء لأن فضل الجماعة على الجماعة يكون غالبا لفضل كل منها.
إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرط لنفي المثلية وفضلهن على النساء وجوابه محذوف دل عليه المذكور والاتقاء بمعناه المعروف في لسان الشرع ، والمفعول محذوف أي إن اتقيتن مخالفة حكم اللّه تعالى ورضا رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك ومثله شائع أو هو على ظاهره والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن بمنزلة الخروج من التقوى أو شرط جوابه قوله تعالى :
فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ والاتقاء بمعناه الشرعي أيضا ، وفي البحر أنه بمعنى الاستقبال أي إن استقبلتن أحدا فلا تخضعن ، وهو بهذا المعنى معروف في اللغة قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
أي استقبلتنا باليد ، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلق فضلهن على التقوى ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات للّه تعالى في أنفسهن ، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى ، وفيه أن اتقى بمعنى استقبل وإن كان صحيحا لغة ، وقد ورد في القرآن كثيرا كقوله تعالى : أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ [الزمر : 24] إلا أنه لا يتأتى هاهنا لأنه لا يستعمل في ذلك المعنى إلا مع المتعلق الذي تحصل به الوقاية ، كقوله سبحانه : بِوَجْهِهِ وقول النابغة باليد وما استدل به أمره سهل ، وظاهر عبارة الكشاف اختيار كون إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرطا جوابه فلا تخضعن ، وفسر إِنِ اتَّقَيْتُنَّ بإن أردتن التقوى وإن كنتن متقيات مشيرا بذلك إلى أنه لا بدّ من

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 187
تجوز في الكلام لأن الواقع أن المخاطبات متقيات فإما أن يكون المقصود الأولى المبالغة في النهي فيفسر بأن أردتن التقوى ، وإما أن يكون المقصود التهييج والإلهاب ، فيفسر بأن كنتن متقيات فليس في ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز كما توهم ، وقد قرر ذلك في الكشف ، ومعنى لا تخضعن بالقول لا تجبن بقولكن خاضعا أي لينا خنثا على سنن كلام المريبات والمومسات ، وحاصله لا تلنّ الكلام ولا ترققنه ، وهذا على ما قيل في غير مخاطبة الزوج ونحوه كخاطبة الأجانب وإن كن محرمات عليهم على التأبيد.
روي عن بعض أمهات المؤمنين أنها كانت تضع يدها على فمها إذا كلمت أجنبيا تغير صوتها بذلك خوفا من أن يسمع رخيما لينا ، وعد إغلاظ القول لغير الزوج من جملة محاسن خصال النساء جاهلية وإسلاما ، كما عد منها بخلهن بالمال وجبنهن ، وما وقع في الشعر من مدح العشيقة برخامة الصوت وحسن الحديث ولين الكلام فمن باب السفه كما لا يخفى. وعن الحسن أن المعنى لا تكلمن بالرفث ، وهو كما ترى فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فجور وزنا ، وبذلك فسره ابن عباس وأنشد قول الأعشى :
حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض
والمراد نية أو شهوة فجور وزنا ، وعن قتادة تفسيره بالنفاق ، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما ، أنه قال : المرض مرضان فمرض زنا ومرض نفاق ، ونصب (يطمع) في جواب النهي وقرأ أبان ابن عثمان وابن هرمز «فيطمع» بالجزم وكسر العين لالتقاء الساكنين وهو عطف على محل فعل النهي على أنه نهي لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول كأنه قيل : فلا تخضعن بالقول فلا يطمع الذي في قلبه مرض ، وقال أبو عمرو الداني : قرأ الأعرج وعيسى «فيطمع» بفتح الياء وكسر الميم ، ونقلها ابن خالويه عن أبي السمال قال : وقد روي ذلك عن ابن محيصن ، وذكر أن الأعرج وهو ابن هرمز قرأ «فيطمع» بضم الياء وفتح العين وكسر الميم أي فيطمع هو أي الخضوع بالقول. والَّذِي مفعول أو الذي فاعل والمفعول محذوف أي فيطمع الذي في قلبه مرض نفسه وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد ، وقال الكلبي : أي صحيحا بلا هجر ولا تمريض ، وقال الضحّاك : عنيفا ، وقيل أي قولا أذن لكم فيه ، وقيل : ذكر اللّه تعالى وما يحتاج إليه من الكلام وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ من قر يقر من باب علم أصله اقررن فحذفت الراء الأولى وألقيت فتحتها على ما قبلها وحذفت الهمزة للإستغناء عنها بتحرك القاف. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان وجها آخر قال : قار يقار إذا اجتمع ومنه القارة لاجتماعها ، ألا ترى إلى قول عضل والديش : اجتمعوا فكونوا قارة فالمعنى واجمعن أنفسكن في البيوت.
وقرأ الأكثر وَقَرْنَ بكسر القاف من وقر يقر وقارا إذا سكن وثبت ، وأصله أو قرن ففعل به ما فعل بعدن من وعد أو من قر يقر المضاعف من باب ضرب وأصله اقررن حذفت الراء الأولى وألقيت كسرتها إلى القاف وحذفت الهمزة للاستغناء عنها. وقال مكي وأبو علي : أبدلت الراء التي هي عين الفعل ياء كراهة التضعيف ثم نقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت لسكونها وسكون الراء بعدها وسقطت الهمزة لتحرك القاف وهذا غاية في التمحل ، وفي البحر ان قررت وقررت بالفتح والكسر كلاهما من القرار في المكان بمعنى الثبوت فيه وقد حكى ذلك أبو عبيدة والزجاج وغيرهما ، وأنكر قوم منهم المازني مجيء قررت في المكان بالكسر أقر بالفتح وإنما جاء قرت عينه تقر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع والمثبت مقدم على النافي.
وقرأ ابن أبي عبلة «واقررن» بألف الوصل وكسر الراء الأولى والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي اللّه تعالى عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء.
أخرج الترمذيو البزار عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 188
المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها»
وأخرج البزار عن أنس قال جئن النساء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقلن : يا رسول اللّه ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل اللّه تعالى فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل اللّه تعالى فقال عليه الصلاة والسلام : «من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل اللّه تعالى»
وقد يحرم عليهن الخروج بل قد يكون كبيرة كخروجهن لزيارة القبور إذا عظمت مفسدته وخروجهن ولو إلى المسجد وقد استعطرن وتزين إذا تحققت الفتنة أما إذا ظنت فهو حرام غير كبيرة ، وما يجوز من الخروج كالخروج للحج وزيارة الوالدين وعيادة المرضى ، وتعزية الأموات من الأقارب ونحو ذلك ، فإنما يجوز بشروط مذكورة في محلها. وظاهر إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات إنها كانت ملكهن وقد صرح بذلك الحافظ غلام محمد الأسلمي نور اللّه تعالى ضريحه في التحفة الاثني عشرية ، وذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام بنى كل حجرة لمن سكن فيها من الأزواج وكانت كل واحدة منهن تتصرف بالحجرة الساكنة هي فيها تصرف المالك في ملكه بحضوره صلّى اللّه عليه وسلم ، وقد ذكر الفقهاء أن من بنى بيتا لزوجته وأقبضه إياها كان كمن وهب زوجته بيتا وسلمه إليها ، فيكون البيت ملكا لها ويشهد لدعوى أن الحجرة التي كانت تسكنها عائشة رضي اللّه تعالى عنها كانت ملكا لها غير الإضافة في بُيُوتِكُنَّ الداخل فيه حجرتها استئذان عمر رضي اللّه تعالى عنه لدفنه فيها منها بمحضر من الصحابة ، وعدم إنكار أحد منهم حتى علي كرّم اللّه تعالى وجهه ، واستئذان الحسن رضي اللّه تعالى عنه منها لذلك أيضا الثابت عند أهل السنّة والشيعة ، كما ذكر في الفصول المهمة في معرفة الأئمة وغيره من كتبهم فإن تلك الحجرة لو كانت لبيت المال
لحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
لاستأذن رضي اللّه تعالى عنه من الوزغ مروان فإنه إذ ذاك كان حاكم المدينة المنوّرة والمتصرف في بيت المال ، ولو كانت للورثة بناء على زعم الشيعة من أنه صلّى اللّه عليه وسلم يورث كغيره لزم الاستئذان من سائر الأزواج أيضا لتعلق حقهن فيها على زعمهم بل يلزم الاستئذان أيضا من عصبته عليه الصلاة والسلام المستحقين لما يبقى بعد النصف والثمن إذا قلنا بتوريثهم فحيث لم يستأذن رضي اللّه تعالى عنه إلا منها علم أنها ملكها وحدها.
والقول بأنه علم رضا الجميع سواها رضي اللّه تعالى عنها فاستأذنها لذلك لا يقوم لهم حجة ، ولهم في هذا الباب أكاذيب لا يعول عليها ولا يلتفت أريب إليها ، منها أن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أذنت للحسن رضي اللّه تعالى عنه حين استأذنها في الدفن في الحجرة المباركة ، ثم ندمت بعد وفاته رضي اللّه تعالى عنه وركبت على بغلة لها وأتت المسجد ومنعت الدفن ورمت السهام على جنازته الشريفة الطاهرة وادعت الميراث.
وأنشأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يقول :
تجملت تبلغت وإن عشت تفيلت لك التسع من الثمن فكيف الكل ملكت
وركاكة هذا الشعر تنادي بكذب نسبته إلى ذلك الحبر رضي اللّه تعالى عنه ، وليت شعري أي حاجة لها إلى الركوب ومسكنها كان تلك الحجرة المباركة فلو كانت بصدد المنع لأغلقت بابها ثم إنها رضي اللّه تعالى عنها كيف يظن بها ولها من العقل الحظ الأوفر بالنسبة إلى سائر أخواتها أمهات المؤمنين تدعي الميراث وهي وأبوها رضي اللّه تعالى عنهما رويا بمحضر الصحابة الذين لا تأخذهم في اللّه تعالى لومة لائم
«نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
هذا ، ويجوز أن تكون إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات باعتبار أنهن ساكنات فيها قائمات بمصالحها قيمات عليها ، واستعمال الخاصة والعامة شائع بإضافة البيوت إلى الأزواج بهذا الاعتبار. والاستئذان يجوز أن يكون لانتقال كل بيت إلى ملك الساكنة فيه بعد وفاته صلّى اللّه عليه وسلم من جهة الخليفة ولي بيت المال لما رأى من المصلحة في تخصيص كل منهن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 189
بمسكنه وتركه لها على نحو الإقطاع من بيت المال ، ومما يستأنس به لكون الإضافة إلى ضميرهن بهذا الاعتبار لا لكون البيوت ملكهن إضافة البيت إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم في غير ما أثر ، بل سيأتي إن شاء اللّه تعالى إضافة البيوت إليه عليه الصلاة والسلام وذلك في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب : 53] الآية وهي أحق بأن تكون للملك فليراجع هذا المطلب وليتأمل وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى التبرج على ما روي عن مجاهد وقتادة وابن أبي نجيح المشي بتبختر وتكسر وتغنج ، وعن مقاتل أن تلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها ، وقال المبرد : أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره ، قال الليث : ويقال تبرجت المرأة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر ، وقال أبو عبيدة : أن تخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة للرجال ، وأصله على ما في البحر من البرج وهو سعة العين وحسنها ، ويقال طعنة برجاء أي واسعة وفي أسنانه برج إذا تفرق ما بينها وقيل : هو البرج بمعنى القصر ، ومعنى تبرجت المرأة ظهرت من برجها أي قصرها ، وجعل الراغب إطلاق البرج على سعة العين وحسنها للتشبيه بالبرج في الأمرين ، ولا يخفى أنه لو فسر التبرج هنا بالظهور من البرج تكون هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها فالأولى أن لا يفسر به ، وتبرج مصدر تشبيهي مثل له صوت صوت حمار أي لا تبرجن مثل تبرج الجاهلية الأولى ، وقيل في الكلام إضمار مضافين أي تبرج نساء أيام الجاهلية ، وإضافة نساء على معنى في والمراد بالجاهلية الأولى على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس الجاهلية ما بين نوح وإدريس عليهما السّلام وكانت ألف سنة ، قال : وإن
بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبال ، وكان رجال الجبال صباحا وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل ورجاله على العكس فاتخذ أهل السهل عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فتبرج النساء للرجال والرجال لهن ، وأن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهن فنزلوا معهن فظهرت الفاحشة فيهن ، وفي رواية أن المرأة إذ ذاك تجتمع بين زوج وعشيق.
وأخرج ابن جرير عن الحكم بن عيينة قال : كان بين آدم ونوح عليهما السّلام ثمانمائة سنة فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان وكانت المرأة تراود الرجل عن نفسه وهي الجاهلية الأولى. وروي مثله عن عكرمة ، وقال الكلبي هي ما بين نوح وإبراهيم عليهما السّلام ، وقال مقاتل : كانت زمن نمروذ وكان فيه بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق ، وروي عنه أيضا أن الجاهلية الأولى زمن إبراهيم عليه السّلام والثانية زمن محمد صلّى اللّه عليه وسلم قبل أن يبعث ، وقال أبو العالية : كانت الأولى زمن داود وسليمان عليهما السلام وكان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين يظهر منه الأعكان والسوأتان.
وقال المبرد : كانت المرأة تجمع بين زوجها وخدنها للزوج نصفها الأسفل وللخدن نصفها الأعلى يتمتع به في التقبيل والترشف ، وقيل : ما بين موسى وعيسى عليهما السّلام ، وقال الشعبي : ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام قال الزجاج : وهو الأشبه لأنهم هم الجاهلية المعروفة كانوا يتخذون البغايا ، وإنما قيل الْأُولى لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى ، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وروي عن ابن عباس ما هو نص في أن الأولى هنا مقابل الأخرى ، وقال الزمخشري : يجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 190
وقال ابن عطية : الذي يظهر عندي أن الجاهلية الأولى إشارة إلى الجاهلية التي تخصهن فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر وقلة الغيرة ونحو ذلك. وفي حديث أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال لأبي ذر وكان قد عير رجلا أمه أعجمية فشكاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية
،
وفسرها ابن الأثير بالحالة التي عليها العرب قبل الإسلام من الجهل باللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك واللّه تعالى أعلم ، وتمسك الرافضة في طعن أم المؤمنين عائشة رضي اللّه تعالى عنها وحاشاها من كل طعن بخروجها من المدينة إلى مكة ومنها إلى البصرة وهناك وقعت وقعة الجمل بهذه الآية قالوا : إن اللّه تعالى أمر نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهي منهن بالسكون في البيوت ونهاهن عن الخروج وهي بذلك قد خالفت أمر اللّه تعالى ونهيه عزّ وجلّ. وأجيب بأن الأمر بالاستقرار في البيوت والنهي عن الخروج ليس مطلقا وإلا لما أخرجهن صلّى اللّه عليه وسلم بعد نزول الآية للحج والعمرة ولما ذهب بهن في الغزوات ولما رخص لهن لزيارة الوالدين وعيادة المرضى وتعزية الأقارب وقد وقع كل ذلك كما تشهد به الأخبار ، وقد صح أنهن كلهن كن يحججن بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلا سودة بنت زمعة ، وفي رواية عن أحمد عن أبي هريرة إلا زينب بنت جحش. وسودة ولم ينكر عليهن أحد من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه وغيره ، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لهن بعد نزول الآية : «أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن»
فعلم أن المراد الأمر بالاستقرار الذي يحصل به وقارهن وامتيازهن على سائر النساء بأن يلازمن البيوت في أغلب أوقاتهن ولا يكن خراجات ولاجات طوافات في الطرق والأسواق وبيوت الناس ، وهذا لا ينافي خروجهن للحج أو لما فيه مصلحة دينية مع التستر وعدم الابتذال ، وعائشة رضي اللّه تعالى عنها ، إنما خرجت من بيتها إلى مكة للحج وخرجت معها لذلك أيضا أم سلمة رضي اللّه تعالى عنها وهي وكذا صفية مقبولة عند الشيعة لكنها لما سمعت بقتل عثمان رضي اللّه تعالى عنه وانحياز قتلته إلى علي كرّم اللّه تعالى وجهه حزنت حزنا شديدا واستشعرت اختلال أمر المسلمين وحصول الفساد والفتنة فيما بينهم ، وبينما هي كذلك جاءها طلحة والزبير ونعمان بن بشير وكعب بن عجرة في آخرين من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم هاربين من المدينة خائفين من قتلة عثمان رضي اللّه تعالى عنهم لما أنهم أظهروا المباهاة بفعلهم القبيح ، وأعلنوا بسب عثمان فضاقت قلوب أولئك الكرام وجعلوا يستقبحون ما وقع ويشنعون على أولئك السفلة ويلومونهم على ذلك الفعل الأشنع فصح عندهم عزمهم على إلحاقهم بعثمان رضي اللّه تعالى عنه وعلموا أن لا قدرة لهم على منعهم إذا هموا بذلك فخرجوا إلى مكة ولاذوا بأم المؤمنين وأخبروها الخبر فقالت لهم : أرى الصلاح أن لا ترجعوا إلى المدينة ما دام أولئك السفلة فيها محيطين بمجلس الأمير علي كرّم اللّه تعالى وجهه غير قادر على القصاص منهم أو طردهم فأقيموا ببلد تأمنون فيه وانتظروا انتظام أمور أمير المؤمنين رضي اللّه تعالى عنه وقوة شوكته واسعوا في تفرقهم عنه وإعانته على الانتقام منهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم فارتضوا ذلك واستحسنوه فاختاروا البصرة لما أنها كانت إذ ذاك مجمعا لجنود المسلمين ورجحوها على غيرها وألحوا على أمهم رضي اللّه تعالى عنها أن تكون معهم إلى أن ترتفع الفتنة ويحصل الأمن وتنتظم أمور الخلافة وأرادوا بذلك زيادة
احترامهم وقوة أمنيتهم لما أنها أم المؤمنين والزوج المحترمة غاية الاحترام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأنها كانت أحب أزواجه إليه وأكثرهن قبولا عنده وبنت خليفته الأول رضي اللّه تعالى عنه فسارت معهم بقصد الإصلاح وانتظام الأمور وحفظ عدة نفوس من كبار الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم وكان معها ابن أختها عبد اللّه بن الزبير وغيره من أبناء أخواتها أم كلثوم زوج طلحة وأسماء زوج الزبير بل كل من معها بمنزلة الأبناء في المحرمية وكانت في هودج من حديد.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 191
فبلغ الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه خبر التوجه إلى البصرة أولئك القتلة السفلة على غير وجهه وحملوه على أن يخرج إليهم ويعاقبهم ، وأشار عليه الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر وعبد اللّه بن عباس رضي اللّه تعالى عنهم بعدم الخروج واللبث إلى أن يتضح الحال فأبى رضي اللّه تعالى عنه ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا فخرج كرّم اللّه تعالى وجهه ومعه أولئك الأشرار أهل الفتنة فلما وصلوا قريبا من البصرة أرسلوا القعقاع إلى أم المؤمنين ، وطلحة والزبير ليتعرف مقاصدهم ويعرضها على الأمير رضي اللّه تعالى عنه وكرّم اللّه وجهه فجاء القعقاع إلى أم المؤمنين فقال : يا أماه ما أشخصك وأقدمك هذه البلدة؟ فقالت : أي بني الإصلاح بين الناس ثم بعثت إلى طلحة والزبير فقال القعقاع : أخبراني بوجه الصلاح قالا : إقامة الحد على قتلة عثمان وتطييب قلوب أوليائه فيكون ذلك سببا لأمننا وعبرة لمن بعدهم فقال القعقاع : هذا لا يكون إلا بعد اتفاق كلمة المسلمين وسكون الفتنة فعليكما بالمسالمة في هذه الساعة فقالا : أصبت وأحسنت فرجع إلى الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه فأخبره بذلك فسر به واستبشر وأشرف القوم على الرجوع ولبثوا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح فلما غشيتهم ليلة اليوم الرابع وقررت الرسل والوسائط في البين أن يظهروا المصالحة صبيحة هذه الليلة ويلاقي الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه طلحة والزبير رضي اللّه تعالى عنهما وأولئك القتلة ليسوا حاضرين معه وتحققوا ذلك ثقل عليهم واضطربوا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فتشاوروا فيما بينهم أن يغيروا على من كان مع عائشة من المسلمين ليظنوا الغدر من الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه فيهجموا على عسكره فيظنوا بهم أنهم هم الذين غدروا فينشب القتال ففعلوا ذلك فهجم من كان مع عائشة على عسكر الأمير وصرخ أولئك
القتلة بالغدر فالتحم القتال وركب الأمير متعجبا فرأى الوطيس قد حمي والرجال قد سبحت بالدماء فلم يسعه رضي للّه تعالى عنه إلا الاشتغال بالحرب والطعن والضرب ، وقد نقل الواقعة كما سمعت الطبري وجماهير ثقاة المؤرخين ورووها كذلك من طرق متعددة عن الحسن وعبد اللّه بن جعفر وعبد اللّه بن عباس ، وما وراء ذلك مما رواه الشيعة عن أسلافهم قتلة عثمان مما لا يلتفت له ، ويدل على تغلب القتلة وقوة شوكتهم ما
في نهج البلاغة المقبول عند الشيعة من أنه قال للأمير كرّم اللّه تعالى وجهه بعض أصحابه : لو عاقبت قوما أجلبوا على عثمان فقال : يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بهم والمجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا.
فحيث كان الخروج أولا للحج ومعها من محارمها من معها ولم يكن الأمر بالاستقرار في البيوت يتضمن النهي عن مثله لم يتوجه الطعن به أصلا ، وكذا المسير إلى البصرة لذلك القصد فإنه ليس أدون من سفر حج النفل وما ترتب عليه لم يكن في حسابها ولم يمر ببالها ترتبه عليه ، ولهذا لما وقع ما وقع وترتب ما ترتب ندمت غاية الندم ، فقد روي أنها كلما كانت تذكر يوم الجمل تبكي حتى يبتل معجرها ، بل أخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن سعد عن مسروق قال : كانت عائشة رضي اللّه تعالى عنها إذا قرأت وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بكت حتى تبل خمارها وما ذاك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين ، وهذا كما أن الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه أحزنه ذلك ،
فقد صح أنه رضي اللّه تعالى عنه لما وقع الانهزام على من مع أم المؤمنين وقتل من قتل من الجمعين طاف في مقتل القتلى فكان يضرب على فخذيه ويقول : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، وليس بكاؤها عند قراءة الآية لعلمها بأنها أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهم ، وقال في ذلك مستهزئا كاظم الأزدي البغدادي من متأخري شعراء الرافضة من قصيدة طويلة كفر بعدة مواضع فيها :
حفظت أربعين ألف حديث ومن الذكر آية تنساها

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 192
نعم قد ينضم لما ذكرناه في سبب البكاء
أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال يوما لأزواجه المطهرات وفيهن عائشة «كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب»
وفي بعض الروايات الغير المعتبرة عند أهل السنّة بزيادة «فإياك أن تكوني يا حميراء»
ولم تكن سألت قبل المسير عن الحوأب هل هو واقع في طريقها أم لا حتى نبحتها في أثناء المسير كلاب عند ماء فقالت لمحمد بن طلحة : ما اسم هذا الماء؟ فقال : يقولون له حوأب فقالت أرجعوني وذكرت الحديث وامتنعت عن المسير وقصدت الرجوع فلم يوافقها أكثر من معها ووقع التشاجر حتى شهد مروان بن الحكم مع نحو من ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية بأن هذا الماء ماء آخر وليس هو حوأبا فمضت لشأنها بسبب ذلك وتعذر الرجوع ووقوع الأمر ، فكأنها رضي اللّه تعالى عنها رأت سكوتها عن السؤال وتحقيق الحال قبل المسير تقصيرا منها وذنبا بالنسبة إلى مقامها فبكت له. ولما تقدم وما زعمته الشيعة من أنها رضي اللّه تعالى عنها كانت هي التي تحرض الناس على قتل عثمان وتقول : اقتلوا نعثلا فقد فجره تشبهه بيهودي يدعى نعثلا حتى إذا قتل وبايع الناس عليا قالت : ما أبالي أن تقع السماء على الأرض قتل واللّه مظلوما وأنا طالبة بدمه فذكرها عبيد بما كانت تقول فقالت : قد واللّه قلت وقال الناس فأنشد :
فمنك البداء ومنك الغير ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لنا إنه قد فجر
كذب لا أصل له وهو من مفتريات ابن قتيبة وابن أعثم الكوفي والسمساطي وكانوا مشهورين بالكذب والافتراء ، ومثل ذلك في الكذب زعمهم أنها رضي اللّه تعالى عنها ما خرجت وسارت إلى البصرة إلا لبغض علي كرّم اللّه تعالى وجهه فإنها لم تزل تروي مناقبه وفضائله ، ومن ذلك ما
رواه الديلمي أنها قالت : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حبّ عليّ عبادة»
وقالت بعد وقوع ما وقع : واللّه لم يكن بيني وبين علي إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها.
وقد أكرمها علي كرّم اللّه تعالى وجهه وأحسن مثواها وبالغ في احترامها وردها إلى المدينة ومعها جماعة من نساء أعيان البصرة عزيزة كريمة ، وهذا مما يرد به على الرافضة الزاعمين كفرها وحاشاها بما فعلت ، وما
روي عن الأحنف بن قيس من أن عليّا كرّم اللّه تعالى وجهه لما ظهر على أهل الجمل أرسل إلى عائشة أن ارجعي إلى المدينة فأبت فأعاد إليها الرسول وأمره أن يقول لها : واللّه لترجعن أو لأبعثن إليك نسوة من بكر بن وائل معهن شفار حداد يأخذنك بها فلما رأت ذلك خرجت لا يعول عليه
وإن قيل : إنه رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف لمخالفته لما رواه الأوثق حتى كاد يبلغ مبلغ التواتر ، هذا ولا يعكر على القول بجواز الخروج للحج ونحوه ما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال : ثبت أنه قيل لسودة رضي اللّه تعالى عنها زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم : ما لك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت : قد حججت واعتمرت وأمرني اللّه تعالى أن أقر في بيتي فو اللّه لا أخرج من بيتي حتى أموت قال : فو اللّه ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها لأن ذلك مبني على اجتهادها كما أن خروج الأخوات مبني على اجتهادهن ، نعم
أخرج أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع : «هذه ثم لزوم الحصر»
قال : فكان كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة وكانتا تقولان : واللّه لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام : هذه إلخ أنكن لا تعدن تخرجن بعد هذه الحجة من بيوتكن وتلزمن الحصر وهو جمع حصير الذي يبسط في البيوت من القصب وتضم الصاد وتسكن تخفيفا وهو في معنى النهي عن الخروج للحج فلا يتم ما ذكر أولا ويشكل خروج سائر الأزواج لذلك. وأجيب بأن الخبر ليس نصا في النهي عن الخروج للحج بعد تلك الحجة وإلا لما خرج له سائر الأزواج الطاهرات من غير نكير

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 193
أحد من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم عليهن بل جاء أن عمر رضي اللّه تعالى عنه أرسلهن للحج في عهده وجعل معهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف وقال لهما : إنكما ولدان باران لهن فليكن أحدكما قدام مراكبهن والآخر خلفها ولم ينكر أحد فكان إجماعا سكوتيا على الجواز فكأن زينب وسودة فهما من الخبر قضيت هذه الحجة أو أبيحت لكن هذه الحجة بخصوصهما ثم الواجب بعدها عليكن لزوم البيوت فلم يحجا بعد لذلك ، وغيرهما فهم منه المناسب لكن أو اللائق بكن هذه الحجة أي جنسها أو هذه الحالة من السفر للحج أو لأمر ديني مهم ثم بعد الفراغ المناسب أو اللائق لزوم البيوت فيكون مفاده إباحة الخروج لذلك ، ومن أنصف لا يكاد يقول بإفادة الخبر الأمر بلزوم البيوت والنهي عن الخروج منها مطلقا بعد تلك الحجة بخصوصها فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم مرض في بيت عائشة رضي اللّه تعالى عنها وبقي مريضا فيه حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولا يكاد يشك أحد في خروج سائرهن لعيادته أو يتصور استقرارهن في بيوتهن غير بالين شوقهن برؤية طلعته الشريفة حتى توفي صلّى اللّه عليه وسلم فإن مثل ذلك لا يفعله أقل النساء حبا لأزواجهن الذين لا قدر لهم فكيف يفعله الأزواج الطاهرات مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو هو وحبهن له حبهن. ثم إن الجواب المذكور إنما يحتاج إليه بعد تسليم صحة الخبر ويحتاج الجزم بصحته إلى تنقير ومراجعة فلينقر وليراجع واللّه تعالى أعلم.
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ أمرن بهما لإنافتهما على غيرهما وكونهما أساس العبادات البدنية والمالية.
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه.
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن ، والرجس في الأصل الشيء القذر وأريد به هنا عند كثير الذنب مجازا ، وقال السدي : الإثم وقال الزجاج :
الفسق وقال ابن زيد : الشيطان ، وقال الحسن : الشرك ، وقيل : الشك ، وقيل : البخل والطمع ، وقيل : الأهواء والبدع ، وقيل : إن الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص ، والمراد به هنا ما يعم كل ذلك ، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف ، وأل فيه للجنس أو للاستغراق ، والمراد بالتطهير قيل التحلية بالتقوى ، والمعنى على ما قيل إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم ويحليكم بالتقوى تحلية بليغة فيما أمركم ، وجوز أن يراد به الصون ، والمعنى إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم الرجس ويصونكم من المعاصي صونا بليغا فيما أمر ونهى جل شأنه. واختلف في لام لِيُذْهِبَ فقيل زائدة وما بعدها في موضع المفعول به ليريد فكأنه قيل : يريد اللّه إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم ، وقيل : للتعليل ثم اختلف هؤلاء فقيل المفعول محذوف أي إنما يريد اللّه أمركم ونهيكم ليذهب أو إنما يريد منكم ما يريد ليذهب أو نحو ذلك ، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما : الفعل في ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء واللام وما بعدها خبر أي إنما إرادة اللّه تعالى للإذهاب على حد ما قيل في - تسمع بالمعيدي خير من أن تراه - فلا مفعول للفعل ، وقال الطبرسي : اللام متعلق بمحذوف تقديره وإرادته ليذهب وهو كما ترى ، وهذا الذي ذكروه جار في قوله تعالى : يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء : 26] أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام : 71] وقول الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل مكان
ونصب أَهْلَ على النداء ، وجوز أن يكون على المدح فيقدر أمدح أو أعني ، وأن يكون على الاختصاص وهو قليل في المخاطب ومنه بك اللّه نرجو الفضل ، وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله : نحن بنات طارق نمشي على النمارق.
وأل في البيت للعهد ، وقيل : عوض عن المضاف إليه أي بيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم والظاهر أن المراد به بيت الطين

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 194
والخشب لا بيت القرابة والنسب وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل ، وحينئذ فالمراد بأهله نساؤه صلّى اللّه عليه وسلم المطهرات للقرائن الدالة على ذلك من الآيات السابقة واللاحقة مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه سوى سكناهن ، وروى ذلك غير واحد ، أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما نزلت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ إلخ في نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم خاصة ، وأخرج ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ خاصة ، وقال عكرمة من شاء بأهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية : ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وروى ابن جرير أيضا أن عكرمة كان ينادي في السوق أن قوله تعالى : إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ نزل في نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وأخرج ابن سعد عن عروة لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال : يعني أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات باعتبار الإضافة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم بيت واحد وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب : 53] دفعا لتوهم إرادة بيت زينب لو أفرد من حيث أن سبب النزول أمر وقع فيه كما ستطلع عليه إن شاء اللّه تعالى ، وأورد ضمير جمع المذكر في عَنْكُمُ ويُطَهِّرَكُمْ رعاية للفظ الأهل والعرب كثيرا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك رعاية للفظ وهذا كقوله تعالى خطابا لسارة : امرأة الخليل عليهما السّلام أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود : 73] ومنه على ما قيل قوله سبحانه : قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً خطابا من موسى عليه السّلام لامرأته ولعل اعتبار التذكير هنا أدخل في التعظيم ، وقيل : المراد هو صلّى اللّه عليه وسلم ونساؤه المطهرات رضي اللّه تعالى عنهن وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة والسلام عليهن. وقيل : المراد بالبيت بيت النسب ولذا أفرد ولم يجمع كما في السابق واللاحق.
فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه تعالى قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله تعالى :
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ [الواقعة : 27]. وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة : 41] فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا فذلك قوله تعالى «1» : وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة : 9 ، 10] فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل إلا ثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله تعالى : وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات : 13] وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على اللّه تعالى ولا فخر ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله تعالى :
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب»
فإن المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النسبي ، واختلف في المراد بأهله فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم جميع بني هاشم ذكورهم وإناثهم ، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم وهذا هو المراد بالآل عند الحنفية ، وقال بعض الشافعية : المراد بهم آله صلّى اللّه عليه وسلم الذين هم مؤمنو بني هاشم والمطلب ، وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة النبي صلّى اللّه عليه وسلم مطلقا وأسرة الرجل على ما في القاموس رهطه أي قومه وقبيلته الأدنون ، وقال في موضع آخر : صار أهل البيت
___________
(1) قوله : وأصحاب المشأمة إلخ كذا بخطه وفيه حذف صدر الآية وهو الثلث الأول ا ه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 195
متعارفا في إله عليه الصلاة والسلام ، وصح عز زيد بن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل له : من أهل بيته نساؤه صلّى اللّه عليه وسلم؟ فقال : لا ايم اللّه إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلّى اللّه عليه وسلم
، وفي آخر أخرجه هو أيضا مبين هؤلاء الذين حرموا الصدقة أنه
قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس
، وقال بعض الشيعة : أهل البيت سواء أريد به البيت المدر والخشب أم بيت القرابة والنسب عام ، أما عمومه على الثاني فظاهر ، وأما على الأول فلأنه يشمل الإماء والخدم فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضا وقد صح ما يدل على أن العموم غير مراد.
أخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة رضي اللّه تعالى عنها قالت في بيتي نزلت إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بكساء كان عليه ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ثلاث مرات.
وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة والسلام ألقى عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال : اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وفي لفظ آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت : فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه صلّى اللّه عليه وسلم من يدي وقال : إنك على خير
، وفي أخرى رواها ابن مردويه عنها أنها قالت ألست من أهل البيت؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم إنك إلى خير إنك من أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم
وفي آخرها
رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه الصلاة والسلام قال : قالت أم سلمة وأنا معهم : يا نبي اللّه قال : أنت على مكانك وإنك على خير
وأخبار إدخاله صلّى اللّه عليه وسلم عليا وفاطمة وابنيهما رضي اللّه تعالى عنهم تحت الكساء ، وقوله عليه الصلاة والسلام اللهم هؤلاء أهل بيتي
ودعائه لهم وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى ، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنى كان البيت فالمراد بهم من شملهم الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقد صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبد اللّه المشهدي وقال المراد من البيت بيت النبوة ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج بل للخدام من الإماء اللائي يسكن في البيت أيضا : وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالاتفاق فالمراد به آل العباء الذين خصصهم حديث السكاء وقال أيضا : إن كون البيوت جمعا في بُيُوتِكُنَّ وإفراد البيت في أَهْلَ الْبَيْتِ يدل على أن بيوتهن غير بيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم ا ه ، وفيه ما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى وقيل المراد بالبيت بيت السكنى وبيت النسب وأهل ذلك أهل كل من البيتين وقد سمعت ما قيل فيه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز.
وقال بعض المحققين : المراد بالبيت بيت السكنى وأهله على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها والأخبار التي لا تحصى كثرة ويشهد له العرف من له مزيد اختصاص به إما بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والاهتمام بأمره وعدم كون الساكن في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج أو بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد أو بقربة من صاحبه تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك أو بعدم المنع من ذلك فالأولاد الذين لا يسكنونه وكأولادهم وإن نزلوا وكالأعمام وأولاد

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 196
الأعمام على هذا يحصل الجمع بين الأخبار وقد سمعت بعضها كحديث الكساء ولا دلالة فيه على الحصر ، وكالحديث الحسن أنه صلّى اللّه عليه وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة ثم قال : يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت آمين ثلاثا
. وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام ضم إلى أهل الكساء علي وفاطمة والحسنين رضي اللّه تعالى عنهم بقية بناته وأقاربه وأزواجه وصح عن أم سلمة في بعض آخر أنها قالت ، فقلت يا رسول اللّه أما أنا من أهل البيت؟
فقال : بلى إن شاء اللّه تعالى
، وفي بعض آخر أيضا أنها قالت له صلّى اللّه عليه وسلم؟ ألست من أهلك قال : بلى وأنه عليه الصلاة والسلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم
،
وقد تكرر كما أشار إليه المحب الطبري منه صلّى اللّه عليه وسلم الجمع وقول هؤلاء أهل بيتي والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة رضي اللّه تعالى عنهما وغيرهما وبه جمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع وما جلل صلّى اللّه عليه وسلم به المجتمعين وما دعا به لهم ، وما أجاب به أم سلمة وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء ليس لأنها ليست من أهل البيت أصلا بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أدخلوا تحته رضي اللّه تعالى عنهم فإنه عليه الصلاة والسلام لو لم يدخلهم ويقل ما قال لتوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء سياقها وسباقها ذلك ، وذكر ابن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة الحمل على أن النزول كان مرتين ، وقد أدخل صلّى اللّه عليه وسلم بعض من لم يكن بينه وبينه قرابة شبيبة ولا نسبية في أهل البيت توسعا وتشبيها كسلمان الفارسي رضي اللّه تعالى عنه حيث
قال عليه الصلاة والسلام «سلمان منا أهل البيت»
وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال : وأنا من أهلك يا رسول اللّه؟ فقال : عليه الصلاة والسلام وأنت من أهلي فكان واثلة يقول : إنها لمن أرجى ما أرجو
، والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النسبي أعني خبر الحكيم الترمذي ومن معه عن ابن عباس يجوز حمل البيت فيه على بيت المدر والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي مثلا كما ينقسم الإنسان إليهما على أن في رواته من وثقه ابن معين وضعفه غيره والجرح مقدم على التعديل وما روي عن زيد بن أرقم رضي اللّه تعالى عنه من نفي كون أزواجه صلّى اللّه عليه وسلم أهل بيته وكون أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام فالمراد بأهل البيت فيه أهل البيت الذين جعلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثاني الثقلين لا أهل البيت بالمعنى الأعم المراد في الآية ، ويشهد لهذا ما
في صحيح مسلم عن يزيد بن حبان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا حدثنا يا زيد بما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : يا ابن أخي واللّه لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا لا تكلفونيه ثم قال : قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : «أما بعد ألا يا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب للّه فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به» فحث على كتاب اللّه ورغب فيه ، ثم قال : «وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي ثلاثا - فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده - قال : ومن هم قال هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس» الحديث
فإن الاستدراك بعد جعله النساء من أهل بيته صلّى اللّه عليه وسلم ظاهر في أن الغرض بيان المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول اللّه عليه الصلاة والسلام وهم فيه ثاني الثقلين فلأهل البيت إطلاقان يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في الآخر وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه رضي اللّه تعالى عنه كون النساء من أهل البيت.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 197
وقال بعضهم : إن ظاهر تعليله نفي كون النساء أهل البيت
بقوله : ايم اللّه إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها
يقتضي أن لا يكن من أهل البيت مطلقا فلعله أراد بقوله في الخبر السابق نساؤه من أهل بيته نساؤه إلخ بهمزة الاستفهام الإنكاري فيكون بمعنى ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير صحيح مسلم ويكون رضي اللّه تعالى عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة والسلام لسن من أهل البيت أصلا ولا يلزمنا أن ندين اللّه تعالى برأيه لا سيما وظاهر الآية معنا وكذا العرف وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى الشامل للأزواج وغيرهن من أصله وعصبته صلّى اللّه عليه وسلم الذين حرموا الصدقة بعده ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى ا ه ، وأنت تعلم أن ظاهر ما
صح من قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «إني تارك فيكم خليفتين - وفي رواية - ثقلين كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض»
يقتضي أن النساء المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين لأن عترة الرجل كما في الصحاح نسله ورهطه الأدنون ، وأهل بيتي في الحديث الظاهر أنه بيان له أو بدل منه بدل كل من كل وعلى التقديرين يكون متحدا معه فحيث لم تدخل النساء في الأول لم تدخل في الثاني. وفي النهاية أن عترة النبي صلّى اللّه عليه وسلم بنو عبد المطلب وقيل أهل بيته الأقربون وهم أولاده وعلي وأولاده رضي اللّه تعالى عنهم ، وقيل :
عترته الأقربون والأبعدون منهم ا ه. والذي رجحه القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة ، وفي كون الأزواج المطهرات كذلك خلاف قال ابن حجر : والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف وإن حكي ابن عبد البرّ الإجماع عليه فتأمل ، ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على المعنى الأعم ما
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نزلت هذه الآية في خمسة في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»
إذ لا دليل فيه على الحصر والعدد لا مفهوم له ، ولعل الاقتصار على من ذكر صلوات اللّه تعالى وسلامه عليهم لأنهم أفضل من دخل في العموم وهذا على تقدير صحة الحديث والذي يغلب على ظني أنه غير صحيح إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلّى اللّه عليه وسلم في شيء من الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول ، وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما ذكره المشهدي من شموله للخدام والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت فإنهم في معرض التبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع وليس لهم قيام بمصالحه واهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك ، ونظمهم في سلك الأزواج ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد مما لا يرتضيه منصف ولا يقول به إلا متعسف.
وقال بعض المتأخرين : إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنّة لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة ولا حجر على رحمة اللّه عزّ وجلّ ولأجل عين ألف عين تكرم ، وأما أمر الجمع والأفراد فقد سمعت ما يتعلق به ، والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في عَنْكُمُ للتغليب ، وذكر أن في عَنْكُمُ عليه تغليبين أحدهما تغليب المذكر على المؤنث ، وثانيهما تغليب المخاطب على الغائب إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم ذكر فيما قبل ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه ، وأمر التعليل عليه ظاهر وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت الأزواج المطهرات فقط.
واعتذر المشهدي عن وقوع جملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ إلخ في البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم فقد قال تعالى شأنه : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ [النور : 54] ثم قال سبحانه بعد تمام الآية :
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [النور : 56] فعطف أقيموا على أطيعوا مع وقوع الفصل الكثير بينهما ، وفيه أنه وقع

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 198
بعد أَقِيمُوا الصَّلاةَ إلخ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف أطيعوا على أطيعوا وهو كما ترى.
سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس في محل النزاع فإنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الإعراب وهو لا ينافي البلاغة وما نحن فيه على ما ذهبوا إليه فصل بأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة والسابقة ، وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى. ومما يضحك منه الصبيان أنه قال بعد : إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية لأن آية التطهير جملة ندائية وخبرية وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية وعطف الإنشائية على الخبرية لا يجوز ، ولعمري أنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام : خسن وخسين دختران مغاوية وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور : 40] ثم إن الشيعة استدلوا بالآية بعد قولهم : بتخصيص أهل البيت فيها بمن سمعت وجعل لِيُذْهِبَ مفعولا به ل يُرِيدُ وتفسير الرجس بالذنوب على العصمة فذهبوا إلى أن عليا وفاطمة والحسنين رضي اللّه تعالى عنهم معصومون من الذنوب عصمته صلّى اللّه عليه وسلم منها ، وتعقبه بعض أجلة المتأخرين بأنه لو فرض تعين كل ما ذهبوا إليه لا تسلم دلالتها على العصمة بل لها دلالة على عدمها إذ لا يقال في حق من هو طاهر : إني أريد أن أطهره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل ، وغاية ما في الباب أن كون أولئك الأشخاص رضي اللّه تعالى عنهم محفوظين من الرجس والذنوب بعد تعلق الإرادة بإذهاب رجسهم يثبت بالآية ولكن هذا أيضا على أصول أهل السنّة لا على أصول الشيعة لأن وقوع مراده تعالى غير لازم عندهم لإرادته عزّ وجلّ مطلقا وبالجملة لو كانت إفادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا إن اللّه أذهب عنكم الرجس أهل البيت وطهركم تطهيرا وأيضا لو كانت مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لقوله تعالى فيهم : وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة : 6] بل لعل هذا أفيد لما فيه من قوله سبحانه : وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فإن وقوع هذا الإتمام لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان ا ه. وقرر الطبرسي وجه الاستدلال بها على العصمة بأن إِنَّما لفظة محققة لما أثبت بعدها نافية لما لم يثبت فإذا قيل : إنما لك عندي درهم أفاد أنه ليس للمخاطب عنده سوى درهم فتفيد الآية تحقق الإرادة ونفي غيرها ، والإرادة لا تخلو من أن تكون هي الإرادة المحضة أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس لا يجوز أن تكون الإرادة المحضة لأنه سبحانه وتعالى قد أراد من كل مكلف ذلك بالإرادة المحضة فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر المكلفين ولأن هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بلا ريب ولا مدح في الإرادة المجردة فتعين إرادة الإرادة بالمعنى الثاني ، وقد علم أن من عدا أهل الكساء غير مراد فتختص العصمة بهم ا ه. وهو كما ترى ، على أنه قد ورد في كتب الشيعة ما يدل على عدم عصمة الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه وهو أفضل من ضمه الكساء بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم
ففي نهج البلاغة أنه كرّم اللّه تعالى وجهه قال لأصحابه : لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطئ ولا آمن من ذلك في فعلي إلا أن يلقي اللّه تعالى في نفسي ما هو أملك به مني.
وفيه أيضا
كان كرّم اللّه تعالى وجهه يقول في دعائه : اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك وخالفه قلبي
، وقصد التعليم كما في بعض الأدعية النبوية بعيد كذا قيل فتدبر ولا تغفل ، وفسر بعض أهل السنّة الإرادة هاهنا بالمحبة قالوا :
لأنه لو أريد بها الإرادة التي يتحقق عندها الفعل لكان كل من أهل البيت إلى يوم القيامة محفوظا من كل ذنب والمشاهد خلافه ، والتخصيص بأهل الكساء وسائر الأئمة الاثني عشر كما ذهب إليه الإمامية المدعون عصمتهم مما لا يقوم عليه دليل عندنا ، والمدح جاء من جهة الاعتناء بشأنهم وإفادتهم محبة اللّه تعالى لهم هذا الأمر الجليل الشأن ومخاطبته سبحانه إياهم بذلك وجعله قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 199
وقد يستدل على كون الإرادة هاهنا بالمعنى المذكور دون المعنى المشهور الذي يتحقق عنده الفعل
بأنه صلّى اللّه عليه وسلم قال حين أدخل عليا وفاطمة والحسنين رضي اللّه تعالى عنهم تحت الكساء «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»
فإنه أي حاجة للدعاء لو كان ذلك مرادا بالإرادة بالمعنى المشهور وهل هو الادعاء بحصول واجب الحصول.
واستدل بهذا بعضهم على عدم نزول الآية في حقهم وإنما أدخلهم صلّى اللّه عليه وسلم في أهل البيت المذكور في الآية بدعائه الشريف عليه الصلاة والسلام ولا يخلو جميع ما ذكر عن بحث ، والذي يظهر لي أن المراد بأهل البيت من لهم مزيد علاقة به صلّى اللّه عليه وسلم ونسبة قوية قريبة إليه عليه الصلاة والسلام بحيث لا يقبح عرفا اجتماعهم وسكناهم معه صلّى اللّه عليه وسلم في بيت واحد ويدخل في ذلك أزواجه والأربعة أهل الكساء وعلي كرّم اللّه تعالى وجهه مع ماله من القرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قد نشأ في بيته وحجره عليه الصلاة والسلام فلم يفارقه وعامله كولده صغيرا أو صاهره وآخاه كبيرا ، والإرادة على معناها الحقيقي المستتبع للفعل ، والآية لا تقوم دليلا على عصمة أهل بيته صلّى اللّه عليه وسلم وعليهم وسلم الموجودين حين نزولها وغيرهم ولا على حفظهم من الذنوب على ما يقوله أهل السنّة لا لاحتمال أن يكون المراد توجيه الأمر والنهي أو نحوه لإذهاب الرجس والتطهير بأن يجعل المفعول به «ليريد» محذوفا ويجعل لِيُذْهِبَ و«يطهر» في موضع المفعول له وإن لم يكن فيه بأس وذهب إليه من ذهب بل لأن المعنى حسبما ينساق إليه الذهن ويقتضيه وقوع الجملة موقع التعليل للنهي والأمر نهاكم اللّه تعالى وأمركم لأنه عزّ وجلّ يريد بنهيكم وأمركم إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وفي ذلك غاية المصلحة لكم ولا يريد بذلك امتحانكم وتكليفكم بلا منفعة تعود إليكم وهو على معنى الشرط أي يريد بنهيكم وأمركم ليذهب عنكم الرجس ويطهركم إن انتهيتم وائتمرتم ضرورة أن أسلوب الآية نحو أسلوب قول القائل لجماعة علم أنهم إذا شربوا الماء أذهب عنهم عطشهم لا محالة يريد اللّه سبحانه بالماء ليذهب عنكم العطش فإنه على معنى يريد سبحانه بالماء إذهاب العطش عنكم إن شربتوه فيكون المراد إذهاب العطش بشرط شرب المخاطبين الماء لا الإذهاب
مطلقا. فمفاد التركيب في المثال تحقق إذهاب العطش بعد الشرب وفيما نحن فيه إذهاب الرجس والتطهير بعد الانتهاء والائتمار لأن المراد الإذهاب المذكور بشرطهما فهو متحقق الوقوع بعد تحقق الشرط وتحققه غير معلوم إذ هو أمر اختياري وليس متعلق الإرادة ، والمراد بالرجس الذنب وبإذهابه إزالة مبادئه بتهذيب النفس وجعل قواها كالقوة الشهوانية والقوة الغضبية بحيث لا ينشأ عنهما ما ينشأ من الذنوب كالزنا وقتل النفس التي حرم اللّه تعالى وغيرهما لا إزالة نفس الذنب بعد تحققه في الخارج وصدوره من الشخص إذ هو غير معقول إلا على معنى محوه من صحائف الأعمال وعدم المؤاخذة عليه وإرادة ذلك كما ترى.
وكأن مآل الإذهاب التخلية ومآل التطهير التحلية بالحاء المهملة ، والآية متضمنة الوعد منه عزّ وجلّ لأهل بيت نبيه صلّى اللّه عليه وسلم بأنهم أن ينتهوا عما ينهي عنه ويأتمروا بما يأمرهم به يذهب عنهم لا محالة مبادئ ما يستهجن ويحليهم أجلّ تحلية بما يستحسن ، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم وترتب الآثار الجميلة عليها قطعا ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم من حيث إن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك.
ولذا نجد عباد أهل البيت أتم حالا من سائر العباد المشاركين لهم في العبادة الظاهرة وأحسن أخلاقا وأزكى نفسا وإليهم تنتهي سلاسل الطرائق التي مبناها كما لا يخفى على سالكيها التخلية والتحلية اللتان هما جناحان للطيران إلى حظائر القدس والوقوف على أوكار الأنس حتى ذهب قوم إلى أن القطب في كل عصر لا يكون إلا منهم خلافا للأستاذ أبي العباس المرسي حيث ذهب كما نقل عنه تلميذه التاج بن عطاء اللّه إلى أنه قد يكون من غيرهم ، ورأيت

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 200
في مكتوبات الإمام الفاروقي الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره ما حاصله أن القطبية لم تكن على سبيل الأصالة إلا الأئمة أهل البيت المشهورين ثم إنها صارت بعدهم لغيرهم على سبيل النيابة عنهم حتى انتهت النوبة إلى السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره النوراني فنال مرتبة القطبية على سبيل الأصالة فلما عرج بروحه القدسية إلى أعلى عليين نال من نال بعده تلك الرتبة على سبيل النيابة عنه فإذا جاء المهدي ينالها أصالة كما نالها غيره من الأئمة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين ا ه ، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته والوقوف على حقيته إلا بالكشف وأنى لي به.
والذي يغلب على ظني أن القطب قد يكون من غيرهم لكن قطب الأقطاب لا يكون إلا منهم لأنهم أزكى الناس أصلا وأوفرهم فضلا وأن من ينال هذه الرتبة منهم لا ينالها إلا على سبيل الأصالة دون النيابة والوكالة وأنا لا أعقل النيابة في ذلك المقام وإن عقلت قلت : كل قطب في كل عصر نائب عن نبينا عليه من اللّه تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام ولا بدع في نيابة الأقطاب بعده عنه صلّى اللّه عليه وسلم كما نابت عنه الأنبياء قبله فهو عليه الصلاة والسلام الكامل المكمل للخليقة والواسطة في الإفاضة عليهم على الحقيقة وكل من تقدمه عصرا من الأنبياء وتأخر عنه من الأقطاب والأولياء نواب عنه ومستمدون منه ، وأقول إن السيد الشيخ عبد القادر قدس سره وغمرنا بره قد نال ما نال من القطبية بواسطة جده عليه الصلاة والسلام على أتم وجه وأكمل حال فقد كان رضي اللّه تعالى عنه من أجلة أهل البيت حسنيا من جهة الأب حسينيا من جهة الأم لم يصبه نقص لو أن وعسى وليت ولا ينكر ذلك إلا زنديق أو رافضي ينكر صحبة الصديق وأرى أن قوله رضي اللّه تعالى عنه :
أفلت شموس الأولين وشمسنا أبدا على فلك العلا لا تغرب
لا يدل على أن من ينال القطبية بعده من أهل البيت الذين عنصرهم وعنصره واحد نائب عنه ليس له فيض إلا منه بل غاية ما يدل عليه ويومىء إليه استمرار ظهور أمره وانتشار صيته وشهرة طريقته وعموم فيضه لمن استفاض على الوجه المعروف عند أهله منه وذلك مما لا يكاد ينكر وأظهر من الشمس والقمر ، هذا ما عندي في الكلام على الآية الكريمة المتضمنة لفضيلة لأهل البيت عظيمة ، ويعلم منه وجه التعبير بيريد على صيغة المضارع ووجه تقديم إذهاب الرجس على التطهير ووجه دعائه صلّى اللّه عليه وسلم لأهل الكساء بإذهاب الرجس من غير حاجة إلى القول بأن ذلك طلب للدوام كما قيل في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ونحوه ولا يورد عليه كثير مما يورد على غيره ومع هذا لمسلك الذهن اتساع ولا حجر على فضل اللّه عزّ وجلّ فلا مانع من أن يوفق أحدا لما هو أحسن من هذا وأجل فتدبر ذاك واللّه سبحانه يتولى هداك.
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ أي اذكرن للناس بطريق العظة والتذكير ، وقيل : أي تذكرن ولا تنسين ما يتلى في بيوتكن مِنْ آياتِ اللَّهِ أي القرآن وَالْحِكْمَةِ هي السنّة على ما أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة وفسرت بنصائحه صلّى اللّه عليه وسلم ، وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان في المصحف بدل الْحِكْمَةِ السنّة حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أوائل تفسيره مفاتيح الأسرار ، وقال جمع : المراد بالآيات والحكمة القرآن وهو أوفق بقوله سبحانه : يُتْلى أي اذكرن ما يتلى من الكتاب الجامع بين كونه آيات اللّه تعالى البينة الدالة على صدق النبوة بأوجه شتى وكونه حكمة منطوية على فنون العلوم والشرائع ، وهذا تذكير بما أنعم عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة وفيه حث على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه ، وقيل : هذا هذا أمر بتكميل الغير بعد الأمر بما فيه كما لهن ويعلم منه وجه توسيط إِنَّما يُرِيدُ إلخ في البين والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع أنها الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات ووقوعها في

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 201
كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول ، وقيل : إن ذلك لرعاية الحكمة بناء على أن المراد بها السنة فإنها لم تنزل نزول القرآن وتعقب بأنها لم تتل أيضا تلاوته ، وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل وتلاوة النبي عليهما الصلاة والسلام وتلاوتهن وتلاوة غيرهن تعليما وتعلما.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «تتلى» بتاء التأنيث إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك فعل ما فعل من الأمر والنهي أو يعلم من يصلح للنبوة ومن يستأهل أن يكون من أهل بيته ، وقيل :
يعمل الحكمة حيث أنزل كتابه جامعا بين الوصفين ، وجوز بعضهم أن يكون اللطيف ناظرا للآيات لدقة إعجازها والخبير للحكمة لمناسبتها للخبرة.
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي الداخلين في السلم المنقادين لحكم اللّه تعالى أو المفوضين أمرهم للّه عزّ وجلّ من الذكور والإناث وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدقين بما يجب أن يصدق به من الفريقين.
وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ المداومين على الطاعات القائمين بها وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في أقوالهم التي يجب الصدق فيها ، وقيل في القول والعمل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال أي في إيمانهم وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على المكاره وعلى العبادات وعن المعاصي وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين للّه تعالى بقلوبهم وجوارحهم.
وقيل : الذين لا يعرفون من عن أيمانهم وشمائلهم إذا كانوا في الصلاة وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ بما يحسن التصدق به من فرض وغيره وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ الصوم المشروع فرضا كان أو نفلا ، وعن عكرمة الاقتصار على صوم رمضان ، وقيل : من تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عما لا يرضى به اللّه تعالى.
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بالألسنة والقلوب ومدار الكثرة العرف عند جمع ، وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لا يكتب الرجل من الذاكرين اللّه كثيرا حتى يذكر اللّه تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا.
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات»
وقيل : المراد بذكر اللّه تعالى ذكر آلائه سبحانه ونعمه وروي ذلك عن عكرمة ومآل هذا إلى الشكر وهو خلاف الظاهر.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب كسبهم ما ذكر من الصفات مَغْفِرَةً لما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات بالأعمال الصالحة كما ورد وَأَجْراً عَظِيماً على ما عملوا من الطاعات ، والآية وعد للأزواج المطهرات وغيرهن ممن اتصفت بهذه الصفات ،
أخرج أحمد والنسائي وغيرهما عن أم سلمة رضي اللّه تعالى عنها قالت : قلت للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ فلم يرعني منه صلّى اللّه عليه وسلم ذات يوم إلا نداءه على المنبر وهو يقول : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلى آخر الآية
، وضمير ما لنا للنساء على العموم ففي رواية أخرى رواها النسائي وجماعة عنها أيضا أنها قالت : قلت للنبي عليه الصلاة والسلام ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون؟
فأنزل اللّه تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية.
وفي بعض الآثار ما يدل على أن القائل غيرها ،
أخرج الترمذي وحسنه والطبراني وعبد بن حميد وآخرون عن أم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 202
عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالت : ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
إلخ.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : دخل نساء على نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقلن : قد ذكركن اللّه تعالى في القرآن وما يذكرنا بشيء أما فينا ما يذكر فأنزل اللّه تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ الآية
، وفي رواية أخرى عنه أنه قال لما ذكر أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال النساء : لو كان فينا خير لذكرنا فأنزل اللّه تعالى الآية.
ولا مانع أن يكون كل ذلك ، وعطف الإناث على الذكور كالمسلمات على المسلمين والمؤمنات على المؤمنين ضروري لأن تغاير الذوات المشتركة في الحكم يستلزم العطف ما لم يقصد السرد على طريق التعديد ، وعطف الزوجين أعني مجموع كل مذكر ومؤنث كعطف مجموع المؤمنين والمؤمنات على مجموع المسلمين والمسلمات غير لازم وإنما ارتكب هاهنا للدلالة على أن مدار إعداد ما أعد لهم جمعهم بين هذه النعوت الجميلة.
وذكر الفروج متعلقا للحفظ لكونها مركب الشهوة الغالبة وذكر الاسم الجليل متعلقا للذكر لأنه الاسم الأعظم المشعر بجميع الصفات الجليلة ، وحذف متعلق كل من الحافظات والذاكرات لدلالة ما تقدم عليه ، وجعل الذكر آخر الصفات لعمومه وشرفه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت : 45] وتذكير الضمير في أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ لتغليب الذكور على الإناث وإلا فالظاهر لهم ولهن ، وللّه تعالى در التنزيل أشار في أول الآية وآخرها إلى أفضلية الذكور على الإناث وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي ما صح وما استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أي قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وذكر اللّه تعالى لتعظيم أمره بالإشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام بمنزلة من اللّه تعالى بحيث تعد أوامره أوامر اللّه عزّ وجلّ أو للإشعار بأن ما يفعله صلّى اللّه عليه وسلم إنما يفعله بأمره لأنه لا ينطق عن الهوى فالنظم إما من قبيل فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال : 41] أو من قبيل وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة : 62] أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي أن يختاروا من أمرهم ما شاؤوا بل يجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه عليه الصلاة والسلام واختيارهم تلوا لاختياره.
والخيرة مصدر من تخير كالطيرة مصدر من تطير ، ولم يجىء على ما قيل مصدر بهذه الزنة غيرهما ، وقيل : هي صفة مشبهة وفسرت بالمتخير ، ومِنْ أَمْرِهِمْ متعلق بها أو بمحذوف وقع حالا منها ، وجمع الضمير في لَهُمْ رعاية للمعنى لوقوع مؤمن ومؤمنة في سياق النفي والنكرة الواقعة في سياقه تعم ، وكان من حقه على ما في الكشاف توحيده كما تقول : ما جاءني من امرأة ولا رجل إلا كان من شأنه كذا : وتعقبه أبو حيان بأن هذا عطف بالواو والتوحيد في العطف بأو نحو من جاءك من شريف أو وضيع أكرمه فلا يجوز إفراد الضمير في ذاك إلا بتأويل الحذف. وجمعه في أَمْرِهِمْ مع أنه للرسول صلّى اللّه عليه وسلم أوله وللّه عزّ وجلّ للتعظيم على ما قيل.
وقال بعض الأجلة : لم يظهر عندي امتناع أن يكون عائدا على ما عاد عليه الأول على أن يكون المعنى ناشئة من أمرهم أي دواعيهم السائقة إلى اختيار خلاف ما أمر اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم أو يكون المعنى الاختيار في شيء من أمرهم أي أمورهم التي يعنونها. ويرجح عوده على ما ذكر بعدم التفكيك ورد بأن ذاك قليل الجدوى ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم أو واقعة في أمورهم وهو بين مستغن عن البيان بخلاف ما إذا كان المعنى بدل أمره الذي قضاه عليه الصلاة والسلام أو متجاوزين عن أمره لتأكيده وتقريره للنفي وهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول ، والحق أنه لا مانع من ذلك على أن يكون المعنى ما كان للمؤمنين أن يكون لهم اختيار في شيء من أمورهم إذا قضى اللّه ورسوله لهم أمرا ، ولا نسلم أن ما عد مانعا مانع فتدبر.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 203
ولعل الفائدة في العدول عن الظاهر في الضمير الأول على ما قال الطيبي الإيذان بأنه كما لا يصح لكل فرد فرد من المؤمنين أن يكون لهم الخيرة كذلك لا يصح أن يجتمعوا ويتفقوا على كلمة واحدة لأن تأثير الجماعة واتفاقهم أقوى من تأثير الواحد ، ويستفاد منه فائدة الجمع في الضمير الثاني على تقدير عوده على ما عاد عليه الأول وكذا وجه إفراد الأمر إذا أمعن النظر وقرأ الحرميان والعربيان وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى تكون بتاء التأنيث والوجه ظاهر ووجه القراءة بالياء وهي قراءة الكوفيين والحسن والأعمش والسلمي أن المرفوع بالفعل مفصول مع كون تأنيثه غير حقيقي ، وقرىء كما ذكر عيسى بن سليمان «الخيرة» بسكون الياء وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر من الأمور ويعمل فيه برأيه فَقَدْ ضَلَّ طريق الحق ضَلالًا مُبِيناً أي بين الانحراف عن سنن الصواب ، والظاهر أن هذا في الأمور المقضية على ما يشعر به السوق ، والآية على ما
روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم نزلت في زينب بنت جحش من عمته صلّى اللّه عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وأخيها عبد اللّه خطبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة وقال : إني أريد أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك فأبت وقالت : يا رسول اللّه لكني لا أرضاه لنفسي وأنا أيم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل.
وفي رواية أنها قالت : أنا خير منه حسبا ووافقها أخوها بعد اللّه على ذلك فلما نزلت الآية رضيا وسلما فأنكحها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم زيدا بعد أن جعلت أمرها بيده وساق إليها عشرة دنانير وستين درهما مهرا وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه وسلم فزوجها زيد بن حارثة فحطت «1» هي وأخوها وقالت إنما أردنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فزوجنا عبده وَإِذْ تَقُولُ خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم أي اذكر وقت قولك لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لحسن تربيته وعتقه ومراعاته وتخصيصه بالتبني ومزيد القرب وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعمل بما وفقك اللّه تعالى له من فنون الإحسان التي من جملتها تحريره وهو زيد بن حارثة رضي اللّه تعالى عنه ، وإيراده بالعنوان المذكور كما قال شيخ الإسلام : لبيان منافاة حاله لما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من إظهار خلاف ما في ضميره الشريف إذ هو إنما يقع عند الاستحياء والاحتشام وكلاهما مما لا يتصور في حق زيد رضي اللّه تعالى عنه ، وجوز أن يكون بيانا لحكمة إخفائه صلّى اللّه عليه وسلم ما أخفاه لأن مثل ذلك مع مثله مما يطعن به الناس كما قيل :
وأظلم خلق اللّه من بات حاسدا لمن كان في نعمائه يتقلب
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أي زينب بنت جحش وذلك
أنها كانت ذا حدة ولا زالت تفخر على زيد بشرفها ويسمع منها ما يكره فجاء رضي اللّه تعالى عنه يوما إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إن زينب قد اشتد علي لسانها وأنا أريد أن أطلقها فقال له عليه الصلاة والسلام : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ
في أمرها ولا تطلقها ضرارا وتعللا بتكبرها واشتداد لسانها عليك. وتعدية أَمْسِكْ بعلى لتضمينه معنى الحبس.
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ عطف على تَقُولُ وجوزت الحالية بتقدير وأنت تخفي أو بدونه كما هو ظاهر كلام الزمخشري في مواضع من كشافه ، والمراد بالموصول على ما
أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن
___________
(1) قوله فحطت هي وأخوها إلخ كذا بخطه ولعلها فخطئت إلخ وحرر ا ه. [.....]

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 204
علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما ما أوحى اللّه تعالى به إليه أن زينب سيطلقها زيد ويتزوجها بعد عليه الصلاة والسلام
وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين كالزهري وبكر بن العلاء والقشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم وَتَخْشَى النَّاسَ تخاف من اعتراضهم وقيل : أي تستحي من قولهم : إن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم تزوج زوجة ابنه ، والمراد بالناس الجنس والمنافقون وهذا عطف على ما تقدم أو حال. وقوله : وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ في موضع الحال لا غير ، والمعنى واللّه تعالى وحده أحق أن تخشاه في كل أمر فتفعل ما أباحه سبحانه لك وأذن لك فيه ، والعتاب عند من سمعت على قوله عليه الصلاة والسلام ذلك مع أَمْسِكْ مع علمه بأنه سيطلقها ويتزوجها هو صلّى اللّه عليه وسلم بعده وهو عتاب على ترك الأولى.
وكان الأولى في مثل ذلك أن يصمت عليه الصلاة والسلام أو يفوض الأمر إلى رأي زيد رضي اللّه تعالى عنه.
وأخرج جماعة عن قتادة أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يخفي إرادة طلاقها ويخشى قالة الناس إن أمره بطلاقها وأنه عليه الصلاة والسلام قال له : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وهو يحب طلاقها ، والعتاب عليه على ظهار ما ينافي الإضمار ، وقد رد ذلك القاضي عياض في الشفاء وقال : لا تسترب في تنزيه النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن هذا الظاهر وأنه يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها كما ذكره جماعة من المفسرين إلى آخر ما قال.
وذكر بعضهم أن إرادته صلّى اللّه عليه وسلم طلاقها وحبه إياه كان مجرد خطوره بباله الشريف بعد العلم بأنه يريد مفارقتها ، وليس هناك حسد منه عليه الصلاة والسلام وحاشاه له عليها فلا محذور ، والأسلم ما ذكرناه عن زين العابدين رضي اللّه تعالى عنه والجمهور ، وحاصل العتاب لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنه ستكون من أزواجك وهو مطابق للتلاوة لأن اللّه تعالى أعلم أنه مبدي ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال سبحانه :
زَوَّجْناكَها فلو كان المضمر محبتها وإرادة طلاقها ونحو ذلك لأظهره جل وعلا ، وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول.
منه ما
أخرجه ابن سعد والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان أنه صلّى اللّه عليه وسلم جاء إلى بيت زيد فلم يجده وعرضت زينب عليه دخول البيت فأبى أن يدخل وانصرف راجعا يتكلم بكلام لم تفهم منه سوى سبحان اللّه العظيم سبحان مصرف القلوب فجاء يد فأخبرته بما كان فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال له : بلغني يا رسول اللّه إنك جئت منزلي فهلا دخلت يا رسول اللّه لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال عليه الصلاة والسلام : أمسك عليك زوجك واتق اللّه فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ففارقها
، وفي تفسير علي بن إبراهيم أنه صلّى اللّه عليه وسلم أتى بيت زيد فرأى زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها فلما نظر إليها قال : سبحان خالق النور تبارك اللّه أحسن الخالقين فرجع فجاء زيد فأخبرته الخبر فقال لها : لعلك وقعت في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فهل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فقالت : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال له : أريد أن أطلق زينب فأجابه بما قص اللّه تعالى
إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع ، وفي شرح المواقف أن هذه القصة مما يجب صيانة النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن مثله فإن صحت فميل القلب غير مقدور مع ما فيه من الابتلاء لهما ، والظاهر أن اللّه تعالى لما أراد نسخ تحريم زوجة المتبنى أوحى إليه عليه الصلاة والسلام أن يتزوج زينب إذا طلقها زيد فلم يبادر له صلّى اللّه عليه وسلم مخافة طعن الأعداء فعوتب عليه ، وهو توجيه وجيه قاله الخفاجي عليه الرحمة ثم قال : إن القصة شبيهة بقصة داود عليه السّلام لا سيما وقد كان النزول عن الزوجة في صدر الهجرة جاريا بينهم من غير حرج فيه انتهى ، وأبعد بعضهم فزعم أن وَتُخْفِي إلخ خطاب كسابقه من اللّه عزّ وجلّ أو من النبي صلّى اللّه عليه وسلم لزيد فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما وقع في قلبه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 205
يود أن تكون من نسائه ، هذا وفي قوله تعالى : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد فهو كقوله : هون عليك ودع عنك نهبا صيح في حجراته ، وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان ولا يجوز أن يكونا حرفين لامتناع فكر فيك وأعين بك بل هذا مما تكون فيه النفس أي فكر في نفسك وأعين بنفسك ، والحق عندي جواز ذلك التركيب مع حرفية علي وعن فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي طلقها كما روي عن قتادة وهو كناية عن ذلك مثل لا حاجة لي فيك ، ومعنى الوطر الحاجة وقيدها الراغب بالمهمة ، وقال أبو عبيدة : هو كالأدب وأنشد للربيع بن ضبع :
ودعنا قبل أن نودعه لما قضى من شبابنا وطرا
ويفسر الأدب بالحاجة الشديدة المقتضية للاحتيال في دفعها ويستعمل تارة في الحاجة المفردة وأخرى في الاحتيال وإن لم تكن حاجة ، وقال المبرد : هو الشهوة والمحبة يقال : ما قضيت من لقائك وطرا أي ما استمتعت منك حتى تنتهي نفسي وأنشد :
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وطرا منها جميل بن معمر
وعن ابن عباس تفسير الوطر هنا بالجماع ، والمراد لم يبق له بها حاجة الجماع وطلقها ، وفي البحر نقلا عن بعضهم أنه رضي اللّه تعالى عنه أنه لم يتمكن من الاستمتاع بها ، وروى أبو عصمة نوح بن أبي مريم بإسناد رفعه إليها أنها قالت ما كنت أمتنع منه غير أن اللّه عزّ وجلّ منعني منه ، وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها فيمتنع.
قيل : ولا يخفى أنه على هذا يحسن جدا جعل قضاء الوطر كناية عن الطلاق فتأمل ، وفي الكلام تقدير أي فلما قضى زيد منها وطرا وانقضت عدتها ، وقيل : إن قضاء الوطر يشعر بانقضاء العدة لأن القضاة الفراغ من الشيء على التمام فكأنه قيل : فلما قضى زيد حاجته من نكاحها فطلقها وانقضت عدتها فلم يكن في قلبه ميل إليها ولا وحشة من فراقها زَوَّجْناكَها أي جعلناها زوجة لك بلا واسطة عقد أصالة أو وكالة ، فقد صح من حديث البخاري والترمذي أنها رضي اللّه تعالى عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم تقول : زوجكن أهاليكن وزوجني اللّه تعالى من فوق سبع سماوات ، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال كانت تقول للنبي عليه الصلاة والسلام : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن إن جدي وجدك واحد وإني أنكحك اللّه إياي من السماء وإن السفير لجبريل عليه السّلام ، ولعلها أرادت سفارته عليه السّلام بين اللّه تعالى وبين رسوله صلّى اللّه عليه وسلم وإلا فالسفير بينه عليه الصلاة والسلام وبينها كان زيدا
أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لزيد : اذهب فاذكرها علي فانطلق قال : فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت : يا زينب أبشري أرسلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يذكرك قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن.
ومن حديث أخرجه الطبراني والبيهقي في سننه وابن عساكر من طريق ابن زيد الأسدي عن مذكور مولى زينب قالت طلقني زيد فبت طلاقي فلما انقضت عدتي لم أشعر إلا والنبي عليه الصلاة والسلام قد دخل عليّ وأنا مكشوفة الشعر فقلت : هذا من السماء دخلت يا رسول اللّه بلا خطبة ولا شهادة فقال : اللّه تعالى المزوج وجبريل الشاهد
، ولا يخفى أن هذا بظاهره يخالف ما تقدم من الحديث والمعول على ذاك ، وقيل : المراد بزوجناكها أمرناك بتزوجها.
وقرأ علي وابناه ريحانتا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الحسن والحسين وابنه محمد بن الحنفية وجعفر الصادق رضي اللّه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 206
تعالى عنهم أجمعين «زوجتكها» بتاء الضمير للمتكلم وحده
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ أي ضيق وقيل إثم ، وفسره بهما بعضهم كالطبرسي بناء على جواز استعمال المشترك في معنييه مطلقا كما ذهب إليه الشافعية أو في النفي كما ذهب إليه العلّامة ابن الهمام من الحنفية فِي أَزْواجِ أي في حق تزوج أزواج أَدْعِيائِهِمْ الذين تبنوهم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أي إذا طلقهن الأدعياء وانقضت عدتهن فإن لهم في رسول اللّه أسوة حسنة ، واستدل بهذا على أن ما ثبت له صلّى اللّه عليه وسلم من الأحكام ثابت لأمته إلا ما علم أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام بدليل ، وتمام الكلام في المسألة مذكور في الأصول ، والمراد بالحكم هاهنا على ما سمعت أولا مطلق تزوج زوجات الأدعياء وهو على ما قيل ظاهر وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ أي ما يريد تكوينه من الأمور أو مأموره الحاصل بكن مَفْعُولًا مكونا لا محالة ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من تزويج زينب رضي اللّه تعالى عنها ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي ما صح وما استقام في الحكمة أن يكون له حرج فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي قسم له صلّى اللّه عليه وسلم وقدر من قولهم : فرض له في الديوان كذا ، ومنه فروض العساكر لما يقطعه السلطان لهم ويرسم به ، وقال قتادة : أي فيما أحل له ، وقال الحسن :
فيما خصه به من صحة النكاح بلا صداق ، وقال الضحّاك : من الزيادة على الأربع سُنَّةَ اللَّهِ أي سن اللّه تعالى ذلك سنّة فهو مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه ، والجملة مؤكدة لما قبلها من نفي الحرج ، وذهب الزمخشري إلى أنه اسم موضوع موضع المصدر كقولهم : تربا وجندلا أي رغما وهوانا وخيبة ، وكأنه لم تثبت عنده مصدريته ، وقيل :
منصوب بتقدير الزم ونحوه.
قال ابن عطية : ويجوز أن يكون نصبا على الإغراء كأنه قيل : فعليه سنّة اللّه. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه ، وأيضا تقدير فعليه سنّة اللّه بضمير الغائب لا يجوز إذ لا يغرى غائب وقولهم عليه رجلا ليسنى مؤول وهو مع ذلك نادر. واعترض بأن قوله : لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه ممنوع ، وهو خلاف ما يفهم من كتب النحو وبأن ما ذكره في أمر إغراء الغائب مسلم لكن يمكن توجيهه هاهنا كما لا يخفى ، ثم قيل : إن ظاهر كلام ابن عطية يشعر بأن النصب بتقدير الزم قسيم للنصب على الإغراء وليس كذلك بل هو قسم منه ا ه فتدبر.
فِي الَّذِينَ خَلَوْا أي مضوا مِنْ قَبْلُ أي من قبلك من الأنبياء عليه الصلاة والسلام حيث لم يحرج جل شأنه عليهم في الإقدام على ما أحل لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره وقد كانت تحتهم المهائر والسراري وكانت لداود عليه السّلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية ولسليمان عليه السّلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي أنه كان له عليه السّلام ألف امرأة ، والظاهر أنه عنى بالمرأة ما يقابل السرية ويحتمل أنه أراد بها الأعم فيوافق ما قبله. يروى أن اليهود قاتلهم اللّه تعالى عابوه وحاشاه من العيب صلّى اللّه عليه وسلم بكثرة النكاح وكثرة الأزواج فرد اللّه تعالى عليهم بقوله سبحانه : سُنَّةَ اللَّهِ الآية.
وقيل : إنه جل وعلا أشار بذلك إلى ما وقع لداود عليه السّلام من تزوجه امرأة أوريا. وأخرج ذلك ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج ، واسم تلك الامرأة عنده اليسية وهذا مما لا يلتفت إليه ، والقصة عند المحققين لا أصل لها وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي عن قدر أو ذا قدر ووصفه بمقدور نحو وصف الظل بالظليل والليل بالأليل في قولهم ظل ظليل وليل أليل في قصد التأكيد ، والمراد بالقدر عند جمع المعنى المشهور للقضاء وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه ، وجوز كونه بالمعنى المشهور له وهو إيجاد الأشياء على قدر مخصوص وكمية معينة من وجوه المصلحة وغيرها ، والمعنى الأول أظهر ، والقضاء والقدر يستعمل كل منهما بمعنى الآخر وفسر الأمر بنحو ما فسر به فيما سبق. وجوز أن يراد به الأمر الذي هو واحد الأوامر من غير تأويل ويراد أن أتباع أمر اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 207
المنزل على أنبيائه عليهم السلام والعمل بموجبه لازم مقضي في نفسه أو هو كالمقضي في لزوم اتباعه ، ولا يخفى تكلفه ، وظاهر كلام الإمام اختيار أن الأمر واحد الأمور وفرق بين القضاء والقدر بما لم نقف عليه لغيره فقال ما حاصله القضاء ما يكون مقصودا له تعالى في الأصل والقدر ما يكون تابعا والخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر كالزنا والقتل ثم بنى على ذلك لطيفة وهو أنه لما قال سبحانه : زَوَّجْناكَها ذيله بأمرا مفعولا لكونه مقصودا أصليا وخيرا مقضيا ولما قال جل شأنه : سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا إشارة إلى قصة داود عليه السّلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال سبحانه : قَدَراً مَقْدُوراً لكون الافتتان شرا غير مقصود أصلي من خلق المكلف ، وفيه ما فيه ، والجملة اعتراض وسط بين الموصولين الجاريين مجرى الواحد للمسارعة إلى تقرير نفي الحرج وتحقيق الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا أو هو في محل رفع أو نصب على إضمارهم أو على المدح.
وقرأ عبد اللّه بلغوا فعلا ماضيا ، وقرأ أبي «رسالة» على التوحيد لجعل الرسالات المتعددة لاتفاقها في الأصول وكونها من اللّه تعالى بمنزلة شيء واحد وإن اختلفت أحكامها وَيَخْشَوْنَهُ أي يخافونه تعالى في كل ما يأتون ويذرون لا سيما في أمر تبليغ الرسالة وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ في وصفهم بقصرهم الخشية على اللّه تعالى تعريض بما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من الاحتراز عن لائمة الناس من حيث إن إخوانه المرسلين لم تكن سيرتهم التي ينبغي الاقتداء بها ذلك ، وهذا كالتأكيد لما تقدم من التصريح في قوله سبحانه : وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وتوهم بعضهم أن منشأ التعريض توصيف الأنبياء بتبليغ الرسالات وحمل الخشية على الخشية في أمر التبليغ لوقوعها في سياقه وفيه ما لا يخفى وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي كافيا للمخاوف أو محاسبا على الكبار والصغائر من أفعال القلب والجوارح فلا ينبغي أن يخشى غيره ، والإظهار في مقام الإضمار لما في هذا الاسم الجليل ما ليس في الضمير ، واستدل بالآية على عدم جواز التقية على الأنبياء عليهم السّلام مطلقا ، وخص ذلك بعض الشيعة في تبليغ الرسالة وجعلوا ما وقع منه صلّى اللّه عليه وسلم في هذه القصة المشار إليه بقوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ بناء على أن الخشية فيه بمعنى الخوف لا على أن المراد الاستحياء من قول الناس تزوج زوجة ابنه كما قاله ابن فورك من التقية الجائزة حيث لم تكن في تبليغ الرسالة ، ولا فرق عندهم بين خوف المقالة القبيحة وإساءة الظن وبين خوف المضار في أن كلا يبيح التقية فيما لا يتعلق بالتبليغ ، ولهم في التقية كلام طويل وهي لأغراضهم ظل ظليل ، والمتتبع لكتب الفرق يعرف أن قد وقع فيها إفراط وتفريط وصواب وتخليط وإن أهل السنّة والجماعة قد سلكوا فيها الطريق الوسط وهو الطريق الأسلم الأمين
سالكه من الخطأ والغلط ، أما الإفراط فللشيعة حيث جوزوا بل أوجبوا على ما حكي عنهم إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع ، وأما التفريط فللخوارج والزيدية حيث لا يجوزون في مقابلة الدين مراعاة العرض وحفظ النفس والمال أصلا ، وللخوارج تشديدات عجيبة في هذا الباب ، وقد سبوا وطعنوا بريدة الأسلمي أحد أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بسبب أنه رضي اللّه تعالى عنه كان يحافظ فرسه في صلاته خوفا من أن يهرب.
ومذهب أهل السنّة أن التقية وهي محافظة النفس أو العرض أو المال من نحو الأعداء بإظهار محظور ديني مشروعة في الجملة.
وقسموا العدو إلى قسمين : الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالمسلم والكافر ويلحق به من كانت عداوته لاختلاف المذهب اختلافا يجر إلى تكفير أصحاب أحد المذهبين أصحاب المذهب الآخر كأهل السنّة والشيعة ، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمرأة وعلى هذا تكون التقية أيضا قسمين : أما الأول فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين حقيقة أو حكما وقد ذكروا في ذلك أن من يدعي الإيمان

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 208
إذا وقع في محل لا يمكن أن يظهر دينه وما هو عليه لتعرض المخالفين وجب عليه أن يهاجر إلى محل يقدر فيه على الإظهار ولا يجوز له أن يسكن هنالك ويكتم دينه بعذر الاستضعاف فأرض اللّه تعالى واسعة ، نعم إن كان له عذر غير ذلك كالعمى والحبس وتخويف المخالف له بقتله أو قتل ولده أو أبيه أو أمه على أي وجه كان القتل تخويفا يظن معه وقوع ما خوف به جاز له السكنى والموافقة بقدر الضرورة ووجب عليه السعي في الحيلة للخروج وإن لم يكن التخويف كذلك كالتخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له الموافقة وإن ترتب على ذلك موته كان شهيدا ، وأما الثاني فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية. وقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم : تجب الهجرة لوجوب حفظ المال والعرض.
وقال جمع : لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود بتركها نقصان في الدين إذ العدو المؤمن كيفما كان لا يتعرض لعدوه الضعيف المؤمن مثله بالسوء من حيث هو مؤمن.
وقال بعض الأجلة على طريق المحاكمة : الحق أن الهجرة هاهنا قد تجب أيضا وذلك إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو الإفراط في هتك حرمته ، وقال : إنها مع وجوبها ليست عبادة إذ التحقيق أنه ليس كل واجب عبادة يثاب عليها فإن الأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض وعن تناول السمومات في حال الصحة وما أشبه ذلك أمور واجبة ولا يثاب فاعلها عليها ا ه ، وفيه بحث ، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من زبر العلماء الأعلام ، ولعل لنا عودة إن شاء اللّه تعالى لذكر شيء من ذلك واللّه تعالى الهادي لسلوك أقوم المسالك. بقي لنا فيما يتعلق بالآية شيء وهو ما قيل : إنه سبحانه وصف المرسلين الخالين عليهم الصلاة والسلام بأنهم لا يخشون أحدا إلا اللّه وقد أخبر عزّ وجلّ عن موسى عليه السّلام بأنه قال : إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا [طه : 45] وهل خوف ذلك إلا خشية غير اللّه تعالى فما وجه الجمع؟ قلت : أجيب بأن الخشية أخص من الخوف.
قال الراغب : الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ، وذكر في ذلك عدة آيات منها هذه الآية ، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام فقد يجتمع مع إثباته ، وهذا أولى مما قيل في الجواب من أن الخشية أخص من الخوف لأنها الخوف الشديد والمنفي في الآية هاهنا هو ذلك لا مطلق الخوف المثبت فيما حكي عن موسى عليه السّلام ، وأجاب آخر بأن المراد بالخشية المنفية الخوف الذي يحدث بعد الفكر والنظر وليس من العوارض الطبيعية البشرية ، والخوف المثبت هو الخوف العارض بحسب البشرية بادىء الرأي وكم قد عرض مثله لموسى عليه السّلام ولغيره من إخوانه وهو مما لا نقص فيه كما لا يخفى على كامل وهو جواب حسن ، وقيل : إن موسى عليه السّلام إنما خاف أن يعجل فرعون عليه بما يحول بينه وبين إتمام الدعوة وإظهار المعجزة فلا يحصل المقصود من البعثة فهو خوف للّه عزّ وجلّ ، والمراد بما نفي عن المرسلين هو الخوف عنه سبحانه بمعنى أن يخاف غيره جل وعلا فيخل بطاعته أو يقدم على معصيته وأين هذا من ذاك فتأمل تولى اللّه تعالى هداك.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 40 إلى 49]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 209
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ رد لمنشأ خشيته صلّى اللّه عليه وسلم الناس المعاتب عليها بقوله تعالى : وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وهو قولهم : إن محمدا عليه الصلاة والسلام تزوج زوجة ابنه زيد بنفي كون زيد ابنه الذي يحرم نكاح زوجته عليه صلّى اللّه عليه وسلم على أبلغ وجه كما ستعرفه قريبا إن شاء اللّه تعالى ، والرجال جمع رجل بضم الجيم كما هو المشهور وسكونه وهو على ما في القاموس الذكر إذا احتلم وشب أو هو رجل ساعة يولد ، وفي بعض ظواهر الآيات والأخبار ما هو مؤيد للثاني نحو قوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء : 7] وقوله سبحانه : وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء : 12] ونحو
قوله عليه الصلاة والسلام : «فلأولى رجل ذكر»
والبحث الذي ذكره بعض أجلة المتأخرين فيما ذكر من الأمثلة لا يدفع كون الظاهر منها ذلك عند المنصف ، وقد يذكر لتأييد الأول قوله تعالى : وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [النساء : 98] فإن الرجال فيه للبالغين ، وفيه بحث ، نعم ظاهر كلام الزمخشري وهو إمام له قدم راسخة في اللغة وغيرها من العلوم العربية يدل على أن الرجل هو الذكر البالغ ، وأيا ما كان فإضافة رجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولاد فإن أريد بالرجال الذكور البالغون فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم أيها الناس الذكور البالغين الذين ولدتموهم ، وإن أريد بهم الذكور مطلقا فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم الذين ولدتموهم مطلقا كبارا كانوا أو صغارا.
والأب حقيقة لغوية في الوالد على ما يفهم من كلام كثير من اللغويين ، والمراد بالأبوة المنفية هنا الأبوة الحقيقة الشرعية التي يترتب عليها أحكام الأبوة الحقيقية اللغوية من الإرث ووجوب النفقة وحرمة المصاهرة سواء كانت بالولادة أو بالرضاع أو بتبني من يولد مثله لمثله وهو مجهول النسب فحيث نفي كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أبا أحد من رجالهم بأي طريق كانت الأبوة ، ومن المعلوم أن زيدا أحد من رجالهم تحقق نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا له مطلقا ، أما كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالولادة فمما لا نزاع فيه ولم يتوهم أحد خلافه ، ومثله كونه عليه الصلاة والسلام ليس أبا له بالرضاع ، وأما كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالتبني مع تحقق تبنيه عليه الصلاة والسلام فلأن الأبوة بالتبني التي نفيت إنما هي الأبوة الحقيقية الشرعية وما كان من التبني لا يستتبعها لتوقفها شرعا على شرائط ، منها كون المتبني مجهول النسب وذلك منتف في زيد فقد كان معروف النسب فيما بينهم ، وقد تقدم لك أنه ابن حارثة ، وتعميم نفي أبوته صلّى اللّه عليه وسلم لأحد من رجالهم بحيث شمل نفي الأبوة بالولادة الأبوة بالرضاع والأبوة بالتبني مع أنه لا كلام في انتفاء الأوليين وإنما الكلام في انتفاء الأخيرة فقط إذ هي التي يزعمها من يقول : تزوج محمد عليه الصلاة والسلام زوجة ابنه للمبالغة في نفي الأبوة بالتبني التي زعموا ترتب أحكام الأبوة الحقيقة عليها بنظم ما خفي في سلك ما لا خفاء فيه أصلا.
ولعل هذا هو السر في قوله سبحانه ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ دون ما كان محمد أبا أحد من الرجال أو ما كان محمد أبا أحد منكم ، ولعله لهذا أيضا صرح بنفي أبوته صلّى اللّه عليه وسلم لأحد من رجالهم ليعلم منه نفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة والسلام ، ولم يعكس الحال بأن يصرح بنفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 210
والسلام ليعلم نفي أبوته صلّى اللّه عليه وسلم لأحد من رجالهم ، ويؤتي بما بعد على وجه ينتظم مع ما قبل وبحمل الأبوة المنفية على الأبوة الحقيقية الشرعية ينحل إشكال في الآية وهو أن سياقها لنفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد ليرد به على من يعترض على النبي صلّى اللّه عليه وسلم بتزوجه مطلقته فإن أريد بالأبوة الأبوة الحقيقية اللغوية وهي ما يكون بالولادة لم تلائم السياق ولم يحصل بها الرد المذكور مع أنه هو المقصود إذ لم يكن أحد يزعم ويتوهم أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان أبا زيد بالولادة ، وأن أريد بها الأبوة المجازية التي تحقق بالتبني ونحوه فنفيها غير صحيح لأنه عليه الصلاة والسلام كان أبا لزيد مجازا لتبنيه إياه ولم يزل زيد يدعى بابن محمد صلّى اللّه عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى : ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب : 5] فدعوه حينئذ بابن حارثة ، ووجه انحلاله بما ذكرنا من أن المراد بالأبوة الأبوة الحقيقية الشرعية أن هذه الأبوة تكون بالولادة وبالرضاع وبالتبني بشرطه وهي بأنواعها غير متحققة في زيد ، أما عدم تحققها بالنوعين الأولين فظاهر ، وأما عدم تحققها بالنوع الأخير فلأن التبني وإن وقع إلا أن شرطه الذي به يستتبع الأبوة الحقيقية الشرعية مفقود كما علمت ، وبجعل إضافة الرجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولادة يندفع استشكال النفي المذكور بأنه عليه الصلاة والسلام قد ولد له عدة ذكور فكيف يصح النفي لأن من ولد له عليه الصلاة والسلام ليس مضافا للمخاطبين باعتبار الولادة بل هو مضاف إليه صلّى اللّه عليه وسلم باعتباره ، ومن خص الرجال بالبالغين قال : لا ينتقض العموم بذلك لأن جميع من ولد له عليه الصلاة والسلام مات صغيرا ولم يبلغ مبلغ الرجال ، وقيل : لا إشكال في ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له ابن يوم نزول الآية لأن السورة مدنية نزلت على ما نقل عن ابن الأثير في تاريخ الكامل السنة
الخامسة من الهجرة من الهجرة وفيها تزوج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بزينب ، ومن ولد له صلّى اللّه عليه وسلم من الذكور ممن عدا إبراهيم فإنما ولد بمكة قبل الهجرة وتوفي فيها ، وإبراهيم وإن ولد بالمدينة لكن ولد السنة الثامنة من الهجرة فلم يكن مولودا يوم النزول بل بعده وهو كما ترى ، وكما استشكل النفي بما ذكر استشكل بالحسن والحسين رضي اللّه تعالى عنهما فقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم أبا لهما حقيقة شرعية ، ولم يرتض بعضهم هنا الجواب بخروجهما بالإضافة لأن لهما نسبة إلى المخاطبين باعتبار الولادة لدخول علي كرّم اللّه تعالى وجهه فيهم وهما ولداه ، وارتضاه آخر بناء على أن الإضافة للاختصاص باعتبار الولادة ولا اختصاص للحسنين بعلي رضي الله تعالى عنهم باعتبارها لما أنهما ولدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أيضا لكن بالواسطة فإن قبل هذا فذاك وإلا فالجواب ، أما ما قيل من أن المراد بالرجال البالغون ولم يكونا رضي اللّه تعالى عنهما يوم النزول كذلك فإن الحسن رضي اللّه تعالى عنه ولد السنة الثالثة من الهجرة والحسين رضي اللّه تعالى عنه ولد السنة الرابعة منها لخمس خلون من شعبان وقد علقت به أمه عقب ولادة أخيه بخمسين ليلة أو أقل وكان النزول بعد ولادتهما على ما سمعت آنفا ، وأما ما قيل من أن المراد بالأب في الآية الأب الصلب ومعلوم أنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يكن أباهما كذلك فتدبر ، وقيل : ليس المراد من الآية سوى نفي أبوته صلّى اللّه عليه وسلم لأحد من الرجال بالتبني لتنتفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد التي يزعمها المعترض كما يدل عليه سوق الآية الكريمة فكأنه قيل : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم كما زعمتم حيث قلتم إنه أبو زيد لتبنيه إياه وهي ساكتة عن نفي أبوته صلّى اللّه عليه وسلم لأحد بالولادة أو بالرضاع وعن إثباتها فلا سؤال بمن ولد
له صلّى اللّه عليه وسلم من الذكور ولا بالحسنين رضي اللّه تعالى عنهم ولا جواب.
وإلى اختيار هذا يميل كلام أبي حيان واللّه تعالى أعلم. واستدل بعض الشافعية بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يقال للنبي عليه الصلاة والسلام أبو المؤمنين حكاه صاحب الروضة ثم قال : ونص الشافعي عليه الرحمة على أنه يجوز أن يقال له صلّى اللّه عليه وسلم أبو المؤمنين أي في الحرمة ونحوها ، وقال الراغب بعد أن قال الأب الوالد ما نصه : ويسمى كل من كان سببا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا ولذلك سمي النبي صلّى اللّه عليه وسلم أبا المؤمنين قال اللّه تعالى :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 211
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب : 6] وفي بعض القراءات «وهو أب لهم» وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي كرّم اللّه تعالى وجهه : «أنا وأنت أبوا هذه الأمة»
وإلى هذا أشار صلّى اللّه عليه وسلم
بقوله : «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي»
ا ه فلا تغفل ، وعلى جواز الإطلاق قالوا : إن قوله تعالى : وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ استدراك من نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا أحد من رجالهم على وجه يقتضي حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات كونه صلّى اللّه عليه وسلم أبا لكل واحد من الأمة فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له صلّى اللّه عليه وسلم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه عليه الصلاة والسلام فإن كل رسول أب لأمته فيما يرجع إلى ذلك ، وحاصله أنه استدراك من نفي الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات الأبوة المجازية اللغوية التي هي من شأن الرسول عليه الصلاة والسلام وتقتضي التوقير من جانبهم والشفقة من جانبه صلّى اللّه عليه وسلم وقيل في توجيه الاستدراك أيضا إنه لما نفيت أبوته صلّى اللّه عليه وسلم لأحد من رجالهم مع اشتهار أن كل رسول أب لأمته ولذا قيل : إن لوطا عليه السّلام عني بقوله : هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود : 78] المؤمنات من أمته يتوهم نفي رسالته صلّى اللّه عليه وسلم بناء على توهم التلازم بين الأبوة والرسالة فاستدرك بإثبات الرسالة تنبيها على أن الأبوة المنفية شيء والمثبتة للرسول شيء آخر ، وأما قوله سبحانه وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ فقد قيل إنه جيء به ليشير إلى كمال نصحه وشفقته صلّى اللّه عليه وسلم فيفيد أن أبوته عليه الصلاة والسلام للأمة المشار إليها بقوله تعالى : وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أبوة كاملة فوق أبوة سائر الرسل عليهم السّلام لأممهم وذلك لأن الرسول الذي يكون بعده رسول ربما لا يبلغ في الشفقة غايتها وفي النصيحة نهايتها اتكالا على من يأتي بعده كالوالد الحقيقي إذا علم أن لولده بعده من يقوم مقامه ، وقيل : إنه جيء به للإشارة إلى امتداد تلك الأبوة المشار إليها بما قبل إلى يوم القيامة فكأنه قيل : ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ بحيث تثبت بينه وبينه
حرمة المصاهرة ولكن كان أبا كل واحد منكم وأبا أبنائكم وأبناء أبنائكم وهكذا إلى يوم القيامة بحيث يجب له عليكم وعلى من تناسل منكم احترامه وتوقيره ويجب عليه لكم ولمن تناسل منكم الشفقة والنصح الكامل ، وقيل : إنه جيء به لدفع ما يتوهم من قوله تعالى : مِنْ رِجالِكُمْ من أنه صلّى اللّه عليه وسلم يكون أبا أحد من رجاله الذين ولدوا منه عليه الصلاة والسلام بأن يولد له ذكر فيعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال وذلك لأن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين يدل على أنه لا يعيش له ولد ذكر حتى يبلغ لأنه لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا فلا يكون هو صلّى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين ويراد بالأب عليه الأب الصلب لئلا يعترض بالحسنين رضي اللّه تعالى عنهما ، ودليل الشرطية ما رواه إبراهيم السدي عن أنس قال : كان إبراهيم - يعني ابن النبي صلّى اللّه عليه وسلم - قد ملأ المهد ولو بقي لكان نبيا لكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء عليهم السّلام ، وجاء نحوه في روايات أخر.
أخرج البخاري من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال : قلت لعبد اللّه بن أبي أوفى رأيت إبراهيم ابن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : مات صغيرا ولو قضى بعد محمد صلّى اللّه عليه وسلم نبي عاش ابنه إبراهيم ولكن لا نبي بعده.
وأخرج أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول : لو كان بعد النبي نبي ما مات ابنه.
وأخرج ابن ماجة وغيره من حديث ابن عباس لما مات إبراهيم ابن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقال : «إن له مرضعا في الجنة ولو عاش لكان صديقا نبيا ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط وما استرق قبطي»
وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي وهو على ما قال القسطلاني ضعيف ، ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة وقال : إنه غريب ، وكأن النووي لم يقف على هذا الخبر المرفوع أو نحوه أو وقف عليه ولم يصح عنده فقال في تهذيب الأسماء واللغات : وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 212
عظيم ، ومثله ابن عبد البرّ فقد قال في التمهيد : لا أدري ما هذا فقد ولد نوح عليه السّلام غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنهم من نوح عليه السّلام ، وأنا أقول : لا يظن بالصحابي الهجوم على الأخبار عن مثل هذا الأمر بالظن ، فالظاهر أنه لم يخبر إلا عن توقيف من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وإذا صح حديث ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما المرفوع ارتفع الخصام ، لكن الظاهر أن هذا الأمر في إبراهيم خاصة بأن يكون قد سبق في علم اللّه تعالى أنه لو عاش لجعله جل وعلا نبيا لا لكونه ابن النبي صلّى اللّه عليه وسلم بل لأمر هو جل شأنه به أعلم واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام : 124] وحينئذ يرد على الشرطية السابقة أعني قوله لأنه : لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا منع ظاهر ، والدليل الذي سيق فيما سبق لا يثبتها لما أن ظاهره الخصوص فيجوز أن يبلغ ولد ذكر له عليه الصلاة والسلام غير إبراهيم ولا يكون نبيا لعدم أهليته للنبوة في علم اللّه تعالى لو عاش.
وقول بعض الأفاضل : ليس مبنى تلك الشرطية على اللزوم العقلي والقياس المنطقي بل على مقتضى الحكمة الإلهية وهي أن اللّه سبحانه أكرم بعض الرسل عليهم السّلام بجعل أولادهم أنبياء كالخليل عليه السّلام ونبينا صلّى اللّه عليه وسلم أكرمهم عليه وأفضلهم عنده فلو عاش أولاده اقتضى تشريف اللّه تعالى له وأفضليته عنده ذلك ليس بشيء لأنا نقول : لا يلزم من إكرام اللّه تعالى بعض رسله عليهم السّلام بنبوة الأولاد وكون نبينا صلّى اللّه عليه وسلم أكرمهم وأفضلهم اقتضاء التشريف والأفضلية نبوة أولاده لو عاشوا وبلغوا ليقال إن حكمة كونه عليه الصلاة والسّلام خاتم النبيين لكونها أجل وأعظم منعت من أن يعيشوا فينبؤوا ، ألا ترى أن اللّه تعالى أكرم بعض الرسل بجعل بعض أقاربهم في حياتهم وبعد مماتهم أنبياء معينين لهم ومؤيدين لشريعتهم غير مخالفين لها في أصل أو فرع كموسى عليه السّلام ونبينا عليه الصلاة والسّلام أكرمهم وأفضلهم ولم يجعل له ذلك.
فإن قيل : إنه عوض صلّى اللّه عليه وسلم عنه بأن جعل جل شأنه له من أقاربه وأهل بيته علماء أجلاء كأنبياء بني إسرائيل كعلي كرّم اللّه تعالى وجهه كما يرشد إليه
قوله صلّى اللّه عليه وسلم له رضي اللّه تعالى عنه «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»
قلنا : فلم لا يجوز أن يبقى سبحانه له عليه الصلاة والسّلام أولادا ذكورا بالغين ويعوضه عن نبوتهم التي منعت عنها حكمة الخاتمية نحو ما عوضه عن نبوة بعض أقاربه التي منعت عنها تلك الحكمة وذلك أقرب لمقتضى التشريف كما لا يخفى ، وقيل : الملازمة مستفادة من الآية لأنه لولاها لم يكن للاستدراك معنى إذ لكن تتوسط بين متقابلين فلا بدّ من منافاة بنوتهم له عليه الصلاة والسّلام لكونه خاتم النبيين وهو إنما يكون باستلزام بنوتهم نبوتهم ، ولا يقدح فيه قوله تعالى : رَسُولَ اللَّهِ كما يتوهم لأنه لو سلم رسالتهم لكانت إما في عصره صلّى اللّه عليه وسلم وهي تنافي رسالته أو بعده وهي تنافي خاتميته ا ه ، وفيه أن الملازمة في قوله : ولولا ذلك لم يكن للاستدراك معنى ممنوعة ، والدليل المذكور لم يثبتها لجواز أن يكون معنى الاستدراك ما ذكرناه أولا ، على أن فيما ذكره بعد ما لا يخفى ، وقيل في توجيه الاستدراك : إنه لما كان عدم النسل من الذكور يفهم منه أنه لا يبقي حكمه صلّى اللّه عليه وسلم ولا يدوم ذكره استدرك بما ذكر وهو كما ترى.
وقال بعض المتأخرين : يجوز أن لا يكون الاستدراك بلكن هنا بمعنى رفع التوهم الناشئ من أول الكلام كما في قولك : ما زيد كريم لكنه شجاع بل بمعنى أن يثبت لما بعدها حكم مخالف لما قبلها نحو ما هذا ساكن لكنه متحرك وما هذا أبيض لكنه أسود وقد جاء كذلك في بعض آي الكتاب الكريم كما في قوله تعالى : يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف : 67] فإن نفي السفاهة لا يوهم انتفاء الرسالة ولا انتفاء ما يلزمها من الهدى والتقوى حتى يجعل استدراكا بالمعنى الأول ا ه فليتأمل.
ومن العجيب أن ابن حجر الهيتمي قال في فتاواه الحديثية : إنه لا بعد في إثبات النبوة لإبراهيم ابن النبي صلّى اللّه عليه وسلم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 213
في صغره وقد ثبت في الصغر لعيسى ويحيى عليهما السّلام ، ثم نقل عن السبكي كلاما في
حديث «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد»
حاصله أن حقيقته عليه الصلاة والسّلام قد تكون من قبل آدم آتاها اللّه تعالى النبوة بأن خلقها مهيأة لها وأفاضها عليها من ذلك الوقت وصار نبيا ثم قال : وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا إبراهيم في حال صغره ا ه وفيه بحث. وخبر أنه عليه الصلاة والسّلام أدخل يده في قبره بعد دفنه وقال : «أما واللّه إنه لنبي ابن نبي»
في سنده من ليس بالقوي فلا يعول عليه ليتكلف لتأويله ، والخاتم اسم آلة لما يختم به كالطابع لما يطبع به فمعنى خاتم النبيين الذي ختم النبيون به ومآله آخر النبيين ، وقال المبرد : «خاتم» فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين فالنبيين منصوب على أنه مفعول به وليس بذاك وقرأ الجمهور «وخاتم» بكسر التاء على أنه اسم فاعل أي الذي ختم النبيين ، والمراد به آخرهم أيضا ، وفي حرف ابن مسعود ولكن نبيا ختم النبيين ، والمراد بالنبي ما هو أعم من الرسول فيلزم من كونه صلّى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين كونه خاتم المرسلين والمراد بكونه عليه الصلاة والسّلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه عليه الصلاة والسّلام بها في هذه النشأة.
ولا يقدح في ذلك ما أجمعت الأمة عليه واشتهرت فيه الأخبار ولعلها بلغت مبلغ التواتر المعنوي ونطق به الكتاب على قول ووجب الإيمان به وأكفر منكره كالفلاسفة من نزول عيسى عليه السّلام آخر الزمان لأنه كان نبيا قبل تحلي نبينا صلّى اللّه عليه وسلم بالنبوة في هذه النشأة ومثل هذا يقال في بقاء الخضر عليه السّلام على القول بنبوته وبقائه ، ثم إنه عليه السّلام حين ينزل باق على نبوته السابق لم يعزل عنها قال لكنه لا يتعبد بها لنسخها في حقه وحق غيره وتكليفه بأحكام هذه الشريعة أصلا وفرعا فلا يكون إليه عليه السّلام وحي ولا نصب أحكام بل يكون خليفة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وحاكما من حكام ملته بين أمته بما علمه في السماء قبل نزوله من شريعته عليه الصلاة والسّلام كما في بعض الآثار أو ينظر في الكتاب والسنّة وهو عليه السّلام لا يقصر عن رتبة الاجتهاد المؤدي إلى استنباط ما يحتاج إليه أيام مكثه في الأرض من الأحكام وكسره الصليب وقتله الخنزير ووضعه الجزية وعدم قبولها مما علم من شريعتنا صوابيته في
قوله صلّى اللّه عليه وسلم «1» : «إن عيسى ينزل حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية»
فنزوله عليه السّلام غاية لا قرار الكفار ببذل الجزية على تلك الأحوال ثم لا يقبل إلا الإسلام لا نسخ لها قاله شيخ الإسلام إبراهيم اللقاني في هداية المريد لجوهرة التوحيد ، وقوله : إنه عليه السّلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنه بحال لكنه لا يتعبد بها إلخ أحسن من قول الخفاجي الظاهر أن المراد من كونه على دين نبينا صلّى اللّه عليه وسلم انسلاخه عن وصف النبوة والرسالة بأن يبلغ ما يبلغه عن الوحي وإنما يحكم بما يتلقى عن نبينا عليه الصلاة والسّلام ولذا لم يتقدم لأمامة الصلاة مع المهدي ولا أظنه عنى بالانسلاخ عن وصف النبوة والرسالة عزله عن ذلك بحيث لا يصح إطلاق الرسول والنبي عليه عليه السّلام فمعاذ اللّه أن يعزل رسول أو نبي عن الرسالة أو النبوة بل أكاد لا أتعقل ذلك ، ولعله أراد أنه لا يبقى له وصف تبليغ الأحكام عن وحي كما كان له قبل الرفع فهو عليه السّلام نبي رسول قبل الرفع وفي السماء وبعد النزول وبعد الموت أيضا ، وبقاء النبوة والرسالة بعد الموت في حقه وحق غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم السّلام حقيقة مما ذهب إليه غير واحد فإن المتصف بهما وكذا بالإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن ، نعم ذهب الأشعري كما قال النسفي إلى أنهما بعد الموت باقيان حكما ، وما أفاده كلام اللقاني من أنه عليه السّلام يحكم بما علم في السماء قبل نزوله من الشريعة قد أفاده السفاريني في البحور الزاخرة وهو الذي أميل له ، وأما أنه يجتهد ناظرا في الكتاب والسنّة فبعيد وإن كان عليه
___________
(1) حديث صحيح وفي الصحيحين ما هو بمعناه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 214
السّلام قد أوتي فوق ما أوتي مجتهدو الأمم مما يتوقف عليه الاجتهاد بكثير إذ قد ذهب معظم أهل العلم إلى أنه حين ينزل يصلي وراء المهدي رضي اللّه تعالى عنه صلاة الفجر وذلك الوقت يضيق عن استنباط ما تضمنته تلك الصلاة من الأقوال والأفعال من الكتاب والسنّة على الوجه المعروف.
نعم لا يبعد أن يكون عليه السّلام قد علم في السماء بعضا ووكل إلى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنّة في بعض آخر ، وقيل : إنه عليه السّلام يأخذ الأحكام من نبينا صلّى اللّه عليه وسلم شفاها بعد نزوله وهو في قبره الشريف عليه الصلاة والسّلام ، وأيد
بحديث أبي يعلى «والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنه».
وجوز أن يكون ذلك بالاجتماع معه عليه الصلاة والسّلام روحانية ولا بدع في ذلك فقد وقعت رؤيته صلّى اللّه عليه وسلم بعد وفاته لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ منه يقظة ، قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في طبقات الأولياء :
قال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره : رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قبل الظهر فقال لي : يا بني لم لا تتكلم؟ قلت : يا أبتاه أنا رجل أعجم كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال : افتح فاك ففتحته فتفل فيه سبعا وقال : تكلم على الناس وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير فأرتج عليّ فرأيت عليا كرّم اللّه تعالى وجهه قائما بإزائي في المجلس فقال لي : يا بني لم لا تتكلم؟ قلت : يا أبتاه قد أرتج علي فقال : افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستا فقلت : لم لا تكملها سبعا قال : أدبا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثم توارى عني فقلت : غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها إلى ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت إذن اللّه أن ترفع ، وقال أيضا في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي : كان كثير الرؤية لرسول اللّه عليه الصلاة والسّلام يقظة ومناما فكان يقال : إن أكثر أفعاله يتلقاه منه صلّى اللّه عليه وسلم يقظة ومناما ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة قال له في إحداهن : يا خليفة لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي ، وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء اللّه في لطائف المنن : قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي يا سيدي صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالا وبلادا فقال : واللّه ما صافحت بكفي هذه إلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : وقال الشيخ لو حجب عني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين ، ومثل هذه النقول كثير من كتب القوم جدا.
وفي تنوير الحلك لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري رؤيته صلّى اللّه عليه وسلم بعد وفاته في اليقظة طرف معتد به من ذلك ، وبدأ في الاستدلال على ذلك بما
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي» وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد اللّه الخثعمي ومن حديث أبي بكرة ، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة.
وللمنكرين اختلاف في تأويله فقيل : المراد فسيراني في القيامة فهناك اليقظة الكاملة كما يشير إليه الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وتعقب بأنه لا فائدة في هذا التخصيص لأن كل أمته يرونه يوم القيامة من رآه منهم في المنام ومن لم يره ، وقيل : المراد الرؤية على وجه خاص من القرب والحظوة منه صلّى اللّه عليه وسلم يوم القيامة أو حصول الشفاعة له أو نحو ذلك ، ولا يرد عليه ما ذكر ، وقيل : المراد بمن من آمن به لي حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبا عنه فيكون الخبر مبشرا له بأنه لا بدّ أن يراه في اليقظة يعني بعيني رأسه ، وقيل : بعين قلبه حكاهما القاضي أبو بكر بن العربي ، وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في تعليقه على الأحاديث التي انتقاها من صحيح البخاري : هذا الحديث يدل على أن من يراه صلّى اللّه عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته عليه الصلاة والسّلام أو هذا كان في حياته وهل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 215
ذلك لكل من رآه مطلقا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنّته عليه الصلاة والسّلام اللفظ يعطي العموم ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلّى اللّه عليه وسلم فمتعسف ، وأطال الكلام في ذلك ثم قال : وقد ذكر عن السلف والخلف وهلم جرا ممن كانوا رأوه صلّى اللّه عليه وسلم في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص انتهى المراد منه ، ثم أن رؤيته صلّى اللّه عليه وسلم يقظة عند القائلين بها أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى بالبصر ، واختلفوا في حقيقة المرئي فقال بعضهم المرئي ذات المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم بجسمه وروحه ، وأكثر أرباب الأحوال على أنه مثاله وبه صرح الغزالي فقال : ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه قال : والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق.
وفصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال : رؤية النبي صلّى اللّه عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال واستحسنه الجلال السيوطي وقال : بعد نقل أحاديث وآثار ما نصه فحصل من مجموع هذا الكلام النقول والأحاديث أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم حي بجسده وروحه وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم فإذا أراد اللّه تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليه الصلاة والسّلام عليها لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال ا ه ، وذهب رحمه اللّه تعالى إلى نحو هذا في سائر الأنبياء عليهم السّلام فقال إنهم أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي ، وهذا الذي ذكره من الخروج من القبور ذكر أخبارا كثيرة تشهد له.
منها ما
أخرجه ابن حبان في تاريخه والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا»
ومنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن أبي المقدام عن سعيد بن المسيب قال : ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوما ، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز شيخ صالح ، ومنها ما
ذكره إمام الحرمين في النهاية ثم الرافعي في الشرح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» زاد إمام الحرمين وروى أكثر من يومين.
والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلّى اللّه عليه وسلم بعد وفاته بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره ، ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة يشتبه الأمر على كثير من الرائين فيظن أنه رآه صلّى اللّه عليه وسلم ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك ، وربما يقال إنها رؤية قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية ، والمرئي إما روحه عليه الصلاة والسّلام التي هي أكمل الأرواح تجردا وتقدسا بأن تكون قد تطورت وظهرت بصورة مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف الحي في القبر السامي المنيف على حد ما قاله بعضهم من أن جبريل عليه السّلام مع ظهوره بين يدي النبي عليه الصلاة والسّلام في صورة دحية الكلبي أو غيره لم يفارق سدرة المنتهى ، وإما جسد مثالي تعلقت به روحه صلّى اللّه عليه وسلم المجردة القدسية ، ولا مانع من أن يتعدد الجسد المثالي إلى ما لا يحصى من الأجساد مع تعلق روحه القدسية عليه من اللّه تعالى ألف ألف صلاة وتحية بكل جسد منها ويكون هذا التعلق من قبيل تعلق الروح الواحدة بأجزاء بدن واحد ولا تحتاج في إدراكاتها وإحساساتها في ذلك التعلق إلى ما تحتاج إليه من الآلات في تعلقها بالبدن في الشاهد ، وعلى ما ذكر يظهر وجه ما نقله الشيخ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 216
صفي الدين بن أبي منصور والشيخ عبد الغفار عن الشيخ أبي العباس الطنجي من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وينحل به السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسّلام في زمان واحد في أقطار متباعدة.
ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد :
كالشمس في كبد السماء وضوءها يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
وهذه الرؤية إنما تقع في الأغلب للكاملين الذين لم يخلوا باتباع الشريعة قدر شعيرة ، ومتى قويت المناسبة بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وبين أحد من الأمة قوي أمر رؤيته إياه عليه الصلاة والسّلام ، وقد تقع لبعض صلحاء الأمة عند الاحتضار لقوة الجمعية حينئذ ، والرؤية التي تكون يقظة لمن رآه صلّى اللّه عليه وسلم في المنام إن كانت في الدنيا فهي على نحو رؤية بعض الكاملين إياه صلّى اللّه عليه وسلم وهي أكمل من الرؤيا وإن كان المرئي فيهما هو رسول اللّه عليه الصلاة والسّلام ، وآخر مظان تحققها وقت الموت.
ولعل الأغلب في حق العامة تحققها فيه ، وإن كانت في الآخرة فالأمر فيها واضح ويرجح عندي كونها في الآخرة على وجه خاص من القرب والحظوة وما شاكل ذلك أن البشارة في الخبر عليه أبلغ ، ثم إن الخبر المذكور فيما مر مذكور
في صحيح مسلم بالسند إلى أبي هريرة أنه قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي»
فلا قطع على هذه الرواية بأنه عليه الصلاة والسّلام قال : فسيراني فإن كان الواقع في نفس الأمر ذلك فالكلام فيه ما سمعت ، وإن كان الواقع لكأنما رآني فهو
كقوله صلّى اللّه عليه وسلم في خبر آخر : «فقد رآني»
وفي آخر أيضا «فقد رأى الحق»
والمعنى أن رؤياه صحيحة ، وما تقدم من أن الأنبياء عليهم السّلام يخرجون من قبورهم أي بأجسامهم وأرواحهم كما هو الظاهر ويتصرفون في الملكوت العلوي والسفلي فمما لا أقول به ، والخبر السابق الذي
أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم عن أنس وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا» قد أخرجوه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن خالد الأزرق عن الحسن بن يحيى الخشني عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن أبي مالك عن أنس رضي اللّه تعالى عنه
وقال فيه ابن حبان : هو باطل والخشني منكر الحديث جدا يروي عن الثقات ما لا أصل له.
وفي الميزان عن الدارقطني الخشني متروك ومن ثم حكم ابن الجوزي بوضع الحديث وهو مع ذلك بعض حديث والحديث بتمامه عند الطبراني «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا حتى ترد إليه روحه ومررت ليلة أسري بي بموسى وهو قائم يصلي في قبره»
وهو على هذا لا يدل على أنه بعد الأربعين لا يقيم في قبره بل يخرج منه وإنما يدل على أنه لا يبقى في القبر ميتا كسائر الأموات أكثر من أربعين صباحا بل ترد إليه روحه ويكون حيا ، وأين هذا من دعوى الخروج من القبر بعد الأربعين ، والحياة في القبر لا تستلزم الخروج وأنا أقول بها في حق الأنبياء عليهم السّلام ، وقد ألف البيهقي جزءا في حياتهم في قبورهم وأورد فيه عدة أخبار.
ولا يضرني بعد ظهور أن الحديث السابق لا يدل على الخروج المنازعة في وصفه وبلوغه بما له من الشواهد درجة الحسن ، والأخبار المذكورة بعد فيما سبق المراد منها كلها إثبات الحياة في القبر بضرب من التأويل ، والمراد بتلك الحياة نوع من الحياة غير معقول لنا وهي فوق حياة الشهداء بكثير ، وحياة نبينا صلّى اللّه عليه وسلم أكمل وأتم من حياة سائرهم عليهم السّلام ، وخبر «ما من مسلم يسلم على إلا رد اللّه تعالى علي روحي حتى أرد عليه السّلام»
محمول على إثبات

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 217
إقبال خاص والتفات روحاني يحصل من الحضرة الشريفة النبوية إلى عالم الدنيا وتنزل إلى عالم البشرية حتى يحصل عند ذلك رد السلام ، وفيه توجيهات أخر مذكورة في محلها ، ثم إن تلك الحياة في القبر وإن كانت يترتب عليها بعض ما يترتب على الحياة في الدنيا المعروفة لنا من الصلاة والأذان والإقامة ورد السلام المسموع ونحو ذلك إلا أنها لا يترتب عليها كل ما يمكن أن يترتب على تلك الحياة المعروفة ولا يحس بها ولا يدركها كل أحد فلو فرض انكشاف قبر نبي من الأنبياء عليهم السّلام لا يرى الناس النبي فيه إلا كما يرون سائر الأموات الذين لم تأكل الأرض أجسادهم ، وربما يكشف اللّه تعالى على بعض عباده فيرى ما لا يرى الناس ، ولولا هذا لأشكل الجمع بين الأخبار الناطقة بحياتهم في قبورهم ، وخبر أبي يعلى وغيره بسند صحيح كما قال الهيثمي مرفوعا إن موسى نقل يوسف من قبره بمصر
،
ثم إني أقول بعد هذا كله إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول ، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم من حين توفي عليه الصلاة والسّلام إلى ما شاء اللّه تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية وفيهم أبو بكر وعلي رضي اللّه تعالى عنهما وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن أحدا منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ ، وكذا لم يبلغنا أنه صلّى اللّه عليه وسلم ظهل لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره ، وقد صح عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور : ليتني كنت سألت رسول اللّه عليه الصلاة والسّلام عنه ، ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلّى اللّه عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال ، وقد وقفت على اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة فهل وقفت على أن أحدا منهم ظهر له الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه ، وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي اللّه تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلّى اللّه عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك فهل بلغك أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر لها كما يظهر للصوفية فبل لوعتها وهون حزنها وبين الحال لها وقد سمعت بذهاب عائشة رضي اللّه تعالى عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت تعرضه صلّى اللّه عليه وسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة ، والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسّلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم هم مع احتياجهم الشديد لذلك وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحت وبالجملة
عدم ظهوره لأولئك الكرام ، وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام ، ولا يحسن معنى أن أقول : كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدعيه ، وكذا لا يحسن مني أن أقول : إنهم إنما رأوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم مناما فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة فقالوا : رأينا يقظة لما فيه من البعد ولعل في كلامهم ما يأباه ، وغاية ما أقول : إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السّلام وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جدا وأنى يرى النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه ، ويمكن أن يقال : إنه لم يقع لحكمة الابتلاء أو لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلّى اللّه عليه وسلم أو ليهرع الناس إلى كتاب اللّه تعالى وسنّته صلّى اللّه عليه وسلم فيما يهمهم فيتسع باب الاجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك.
وربما يدعي أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر ولكن كان متسترا في ظهوره كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول اللّه عليه الصلاة والسّلام ولم ير صورة نفسه فهذا كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرآة ، وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 218
مرآته عليه الصلاة والسّلام وملاحظة أنه كثيرا ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه ابن خلدون.
فإن قبل قولي هذا وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت وإلا فالأمر مشكل فاطلب لك ما يحله واللّه سبحانه الموفق للصواب.
هذا وقيل يجوز أن يكون عيسى عليه السّلام قد تلقى من نبينا عليه الصلاة والسّلام أحكام شريعته المخالفة لما كان عليه وهو من الشريعة حال اجتماعه معه قبل وفاته في الأرض لعلمه أنه سينزل ويحتاج إلى ذلك واجتماعه معه كذلك جاء في الأخبار.
أخرج ابن عدي عن أنس «بينا نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا فقلنا يا رسول اللّه ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال : قد رأيتموه قالوا : نعم قال : ذلك عيسى ابن مريم سلم عليّ»
وفي رواية ابن عساكر عنه «كنت أطوف مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا ولم أره قلنا : يا رسول اللّه صافحت شيئا ولا نراه قال : ذلك أخي عيسى ابن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه»
ومن هنا عد عليه السّلام من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، وقيل :
إنه عليه السّلام بعد نزوله يتلقى أحكام شريعتنا من الملك بأن يعلمه إياها أو يوقفه عليها لا على وجه الإيحاء بها عليه من جهته عزّ وجلّ وبعثته بها ليكون في ذلك رسالة جديدة متضمنة نبوة جديدة ، وقد دل قوله تعالى : وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ على انقطاعها بل على نحو تعليم الشيخ ما علمه من الشريعة تلميذه ، ومجرد الاجتماع بالملك والأخذ عنه وتكليمه لا يستدعي النبوة ، ومن توهم استدعاءه إياها فقد حاد - كما قال اللقاني - عن الصواب فقد كلمت الملائكة عليهم السّلام مريم وأم موسى في قول ورجلا خرج لزيارة أخ له في اللّه تعالى وبلغته أن اللّه عزّ وجلّ يحبه كحبه لأخيه فيه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الذكر عن أنس قال : قال أبي بن كعب لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن اللّه تعالى بمحامد لم يحمده بها أحد فلما صلى وجلس ليحمد اللّه تعالى ويثني عليه إذا هو بصوت عال من خلف يقول : اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره لك الحمد إنك على كل شيء قدير اغفر لي ما مضى من ذنوبي واعصمني فيما بقي من عمري وارزقني أعمالا زاكية ترضى بها عني وتب عليّ فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقص عليه فقال : ذاك جبريل عليه السّلام
، والأخبار طافحة برؤية الصحابة للملك وسماعهم كلامه ، وكفي دليلا لما نحن فيه قوله سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت : 30] الآية فإن فيها نزول الملك على غير الأنبياء في الدنيا وتكليمه إياه ولم يقل أحد من الناس : إن ذلك يستدعي النبوة وكون ذلك لأن النزول والتكليم قبيل الموت غير مفيد كما لا يخفى ، وقد ذهب الصوفية إلى نحو ما ذكرناه ، قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه - المنقذ من الضلال - أثناء الكلام على مدح أولئك السادة : ثم إنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
وقال تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه قانون التأويل : ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للانسان طهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على اللّه تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا كشفت له القلوب ورأى الملائكة وسمع كلامهم واطلع على أرواح الأنبياء والملائكة ، وسماع كلامهم ممكن للمؤمن كرامة وللكافر عقوبة ا ه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 219
ونسب إلى بعض أئمة أهل البيت أنه قال : إن الملائكة لتزاحمنا في بيوتنا بالركب ، والظاهر من كلامهم أن الاجتماع بهم والأخذ عنهم لا يكون إلا للكاملين ذوي النفوس القدسية وأن الإخلال بالسنّة مانع كبير عن ذلك ، ويرشد إليه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن مطرف قال : قال لي عمران بن حصين قد كان ملك يسلم على حتى اكتويت فترك ثم تركت المكي فعاد ، ويعلم مما ذكرنا أن مدعيه إذا كان مخالفا لحكم الكتاب والسنّة كاذب لا ينبغي أن يصغي إليه ودعواه باطلة مردودة عليه فأين الظلمة من النور والنجس من الطهور ، ثم إنه لا طريق إلى معرفة كون المجتمع به ملكا بعد خبر الصادق سوى العلم الضروري الذي يخلقه اللّه تعالى في العبد بذلك ويقطع بعدم كونه ملكا متى خالف ما ألقاه وأتى به الكتاب أو السنّة أو إجماع الأمة ومثله فيما أرى التكلم بما يشبه الهذيان ويضحك منه الصبيان وينبغي لمن وقع له ذلك أن لا يشيعه ويعلن به لما فيه من التعرض للفتنة ، فقد أخرج مسلم عن مطرف أيضا من وجه آخر قال : بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال : إني محدثك فإن عشت فاكتم عني وإن مت فحدث بها إن شئت إنه قد سلم عليّ - وفي رواية الحاكم في المستدرك - اعلم يا مطرف أنه كان يسلم على الملائكة عند رأسي وعند البيت وعند باب الحجرة فلما اكتويت ذهب ذلك قال : فلما برأ كلمه قال : اعلم يا مطرف أنه عاد إلى الذي كنت أكتم عليّ حتى أموت ، وكذا ينبغي أن لا يقول لإلقاء الملك عليه إيحاء لما فيه من الإيهام القبيح وهو إيهام وحي النبوة الذي يكفر مدعيه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بلا خلاف بين المسلمين ، وأطلق بعض الغلاة من الشيعة القول بالإيحاء إلى الأئمة الأطهار وهم رضي اللّه تعالى عنهم بمعزل عن قبول قول أولئك الأشرار.
فقد روي أن سديرا الصير في سأل جعفرا الصادق رضي اللّه تعالى عنه فقال : جعلت فداك إن شيعتكم اختلفت فيكم فأكثرت حتى قال بعضهم : إن الإمام ينكت في أذنه ، وقال آخرون : يوحى إليه ، وقال آخرون : يقذف في قلبه ، وقال آخرون : يرى في منامه ، وقال آخرون : إنما يفتي بكتب آبائه فبأي جوابهم آخذ يجعلني اللّه تعالى فداك؟ قال : لا تأخذ بشيء مما يقولون يا سدير نحن حجج اللّه تعالى وأمناؤه على خلقه حلالنا من كتاب اللّه تعالى وحرامنا منه ، حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول تفسيره مفاتيح الأسرار
وقد ظهر في هذا العصر «1» عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم في سلك ذوي العقول ، وقد كاد يتمكن عرقهم في العراق لولا همة واليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الاتفاق حيث خذلهم نصره اللّه تعالى وشتت شملهم وغضب عليهم رضي اللّه تعالى عنه وأفسد عملهم فجزاه اللّه تعالى عن الإسلام خيرا ودفع عنه في الدارين ضيما وضيرا. وادعى بعضهم الوحي إلى عيسى عليه السّلام بعد نزوله ، وقد سئل عن ذلك ابن حجر الهيثمي فقال نعم يوحي إليه عليه السّلام وحي حقيقي كما
في حديث مسلم وغيره عن النواس بن سمعان ، وفي رواية صحيحة «فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يد لأحد بقتالهم فحول عبادي إلى الطور وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السّلام إذ هو السفير بين اللّه تعالى وأنبيائه»
لا يعرف ذلك لغيره ، وخبر لا وحي بعدي باطل ، وما اشتهر أن جبريل عليه السّلام لا ينزل إلا الأرض بعد موت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فهو لا أصل له ، ويرده خبر الطبراني ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السّلام فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه اللّه تعالى وهو على طهارة ا ه ، ولعل من نفي الوحي عنه عليه السّلام بعد نزوله أراد وحي التشريع وما ذكر وحي لا تشريع فيه فتأمل. وكونه صلّى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب
___________
(1) سنة 1261 ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 220
وصدعت به السنّة وأجمعت عليه الأمة فيكفر مدعي خلافه ويقتل إن أصر.
ومن السنة ما
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا بناه فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وصح عن جابر مرفوعا نحو هذا ،
وكذا عن أبي بن كعب وأبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنهم ، وللشيخ محيي الدين بن عربي قدس سره كلام في حديث اللبنة قد انتقده عليه جماعة من الأجلة فعليك بالتمسك بالكتاب والسنّة واللّه تعالى الحافظ من الوقوع في المحنة ، ونصب رَسُولَ على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه والواو عاطفة للجملة الاستدراكية على ما قبلها ، وكون لكن المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردا ، وجوز أن يكون النصب بالعطف على أَبا أَحَدٍ وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ولكنّ» بالتشديد فنصب «رسول» على أنه اسم لكن والخبر محذوف تقديره ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين هو أي محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وقال الزمخشري : تقديره ولكن رسول اللّه من عرفتموه أي لم يعش له ولد ذكر ، وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه الدليل ، ومما جاء في لكن قول الشاعر :
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجيا عظيم المشافر
أي ولكن زنجيا عظيم المشافر أنت ، وفيه بحث لا يخفى على ذي معرفة ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وابن أبي عبلة بتخفيف «لكن» ورفع «رسول» - و«خاتم» أي ولكن هو رسول اللّه إلخ كما قال الشاعر :
ولست الشاعر السفاف فيهم ولكن مدرة الحرب العوالي
أي ولكن أنا مدرة وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ أعم من أن يكون موجودا أو معدوما عَلِيماً فيعلم سبحانه الأحكام والحكم التي بينت فيما سبق والحكمة في كونه عليه الصلاة والسّلام خاتم النبيين.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ بما هو جل وعلا أهله من التهليل والتحميد والتمجيد والتقديس ذِكْراً كَثِيراً يعم أغلب الأوقات والأحوال كما قال غير واحد ، وعن ابن عباس الذكر الكثير أن لا ينسى جل شأنه ، وروي ذلك عن مجاهد أيضا ، وقيل : إن يذكر سبحانه بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزه عما لا يليق به ، وعن مقاتل هو أن يقال :
سبحان اللّه والحمد اللّه ولا إله إلّا اللّه واللّه أكبر على كل حال ، وعن العترة الطاهرة رضي اللّه تعالى عنهم من قال ذلك ثلاثين مرة فقد ذكر اللّه تعالى ذكرا كثيرا
، وفي مجمع البيان عن الواحدي بسنده إلى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : جاء جبريل عليه السّلام إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال : يا محمد قل سبحان اللّه والحمد اللّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم فإنه من قالها كتب له بها ست خصال كتب من الذاكرين اللّه تعالى كثيرا وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار وكن له غرسا في الجنة وتحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة وينظر اللّه تعالى إليه ومن نظر اللّه تعالى إليه لم يعذبه
كذا رأيته في مدونه فلا تغفل ، وقال بعضهم : مرجع الكثرة العرف.
وَسَبِّحُوهُ ونزهوه سبحانه عما لا يليق به بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي أول النهار وآخره ، وتخصيصهما بالذكر ليس لقصر التسبيح عليهما دون سائر الأوقات بل لأنافه فضلهما على سائر الأوقات لكونهما تحضرهما ملائكة الليل والنهار وتلتقي فيهما كأفراد التسبيح من بين الأذكار مع اندراجه فيها لكونه العمدة بينها ، وقيل : كلا الأمرين متوجه إليهما كقولك : صم وصلّ يوم الجمعة ، وبتفسير الذكر الكثير بما يعم أغلب الأوقات لا تبقى حاجة إلى تعلقهما بالأول

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 221
وعن ابن عباس أن المراد بالتسبيح الصلاة أي بإطلاق الجزء على الكل والتسبيح بكرة صلاة الفجر والتسبيح أصيلا صلاة العشاء ، وعن قتادة نحو ما روي عن ابن عباس إلا أنه قال : أشار بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر وهو أظهر مما روي عن الحبر وتعقب ما روي عنهما بأن فيه تجوزا من غير ضرورة ، وقد يقال : إن التسبيح على حقيقته لكن التسبيح بكرة بالصلاة فيها والتسبيح أصيلا بالصلاة فيه فتأمل وجوز أن يكون المراد بالذكر المأمور به تكثير الطاعات والإقبال عليها فإن كل طاعة من جملة الذكر ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا أي الصلاة في جمع أوقاتها أو صلاة الفجر والعصر أو الفجر والعشاء لفضل الصلاة على غيرها من الطاعات البدنية ، ولا يخفى بعده هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ إلخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين وَمَلائِكَتُهُ عطف على الضمير في يُصَلِّي لمكان الفصل المغني عن التأكيد بالمنفصل لا على هُوَ والصلاة في المشهور - وروي ذلك عن ابن عباس - من اللّه تعالى رحمة ومن الملائكة استغفار ومن مؤمني الإنس والجن دعاء ، ويجوز على رأي من يجوز استعمال اللفظ في معنيين أن يراد بالصلاة هنا المعنيان الأولان فيراد بها أولا الرحمة وثانيا الاستغفار ، ومن لا يجوز كأصحابنا يقول بعموم المجاز بأن يراد بالصلاة معنى مجازي عام يكون كلا المعنيين فردا حقيقيا له وهو إما الاعتناء ربما فيه خير المخاطبين وصلاح أمرهم فإن كلا من الرحمة والاستغفار فرد حقيقي له وهذا المجاز من الصلاة بمعنى الدعاء وهو إما استعارة لأن الاعتناء يشبه الدعاء لمقارنة كل منهما لإرادة الخير والأمر المحبوب أو مجاز مرسل لأن الدعاء مسبب عن الاعتناء وأما الترحم والانعطاف المعنوي المأخوذ من الصلاة المعروفة المشتملة على الانعطاف الصوري الّذي هو الركوع والسجود ، ولا ريب في أن استغفار الملائكة عليهم السّلام ودعاءهم للمؤمنين
ترحم عليهم ، وأما أن ذلك سبب للرحمة لكونهم مجابي الدعوة كما قيل ففيه بحث ، ورجح جعل المعنى العام ما ذكر بأنه أقرب لما بعد فإنه نص عليه فيه بقوله تعالى : وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً فدل على أن المراد بالصلاة الرحمة. واعترض بأن رحم متعد وصلى قاصر فلا يحسن تفسيره به ، وبأنه يستلزم جواز رحم عليه ، وبأنه تعالى غاير بينهما بقوله سبحانه :
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة : 157] للعطف الظاهر في المغايرة ، وأجيب بأنه ليس المراد بتفسير صلى برحم إلا بيان أن المعنى الموضوع له صلى هو الموضوع له رحم مع قطع النظر عن معنى التعدي واللزوم فإن الرديفين قد يختلفان في ذلك وهو غير ضار فزعم أن ذلك لا يحسن وأنه يلزم جواز رحم عليه ليس في محله على أنه يحسن تعدية صلى بعلي دون رحم لما في الأول من ظهور معنى التحنن والتعطف والعطف لأن الصلاة رحمة خاصة ويكفي هذا القدر من المغايرة ، وقيل : إن تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد فكأن الرحمة مرادة من لفظ والاستغفار مراد من آخر فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز وليس هناك استعمال لفظ واحد حقيقة وحكما في معنيين وهو كما ترى ، ومثله كون مَلائِكَتُهُ مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما قبل عليه كأنه قيل هو الّذي يصلي عليكم وملائكته يصلون عليكم فهناك لفظان حقيقة كل منهما بمعنى ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يزيدك علما بأمر الصلاة ، وسبب نزول الآية ما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر قال : لما نزلت : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب : 56] قال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه : ما أنزل اللّه تعالى عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة ، وقال الطبرسي : من الجهل باللّه تعالى إلى معرفته عزّ وجلّ فإن الجهل أشبه شيء بالظلمة والمعرفة أشبه شيء بالنور ، وقال ابن زيد : أي من الضلالة إلى الهدى ، وقال مقاتل : من الكفر إلى الإيمان ، وقيل : من النار إلى الجنة حكاه الماوردي ، وقيل : من القبور إلى البحث حكاه أبو حيان وليس بشيء ، واللام متعلقة بيصلي أي يعتني بكم هو سبحانه وملائكته ليخرجكم أو يترحم هو عزّ وجلّ وملائكته ليخرجكم بذلك من
الظلمات إلى النور وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 222
اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي كان سبحانه بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتهم كامل الرحمة ولذا يفعل بكم ما يفعل بالذات وبالواسطة أو كان بكم رحيما على أن المؤمنين مظهر وضع موضع المضمر مدحا لهم وإشعارا بعلة الرحمة ، وقوله تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ بيان للأحكام الآجلة لرحمته تعالى بهم بعد بيان آثارها العاجلة من الإخراج المذكور ، والتحية أن يقال : حياك اللّه أي جعل لك حياة وذلك إخبار ثم يجعل دعاء ، ويقال حيا فلان فلانا تحية إذا قال له ذلك ، وأصل هذا اللفظ من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب حياة أم لدينا أو لآخرة.
وهو هنا مصدر مضاف إلى المفعول وقع مبتدأ وسَلامٌ مرادا به لفظه خبره ، والمراد ما يحييهم اللّه تعالى به ويقوله لهم يوم يلقونه سبحانه ويدخلون دار كرامته سلام أي هذا اللفظ. روي أن اللّه تعالى يقول : سلام عليكم عبادي أنا عنكم راض فهل أنتم عني راضون فيقولون : بأجمعهم يا ربنا إنا راضون كل الرضا وورد أن اللّه تعالى يقول : السلام عليكم مرحبا بعبادي المؤمنين الذين أرضوني في دار الدنيا باتباع أمري ، وقيل : تحييهم الملائكة عليهم السّلام بذلك إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى : وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.
وقيل : تحييهم عند الخروج من القبور فيسلمون عليهم ويبشرونهم بالجنة ، وقيل عند الموت.
وروي عن ابن مسعود أنه قال : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام
،
قيل : فعلى هذا الهاء في يَلْقَوْنَهُ كناية عن غير مذكور وهو ملك الموت ، ولا ضرورة تدعو لذلك إذ لا مانع من أن يكون الضمير للّه تعالى عليه كما هو كذلك على الأقوال الآخر جميعا. ولقاء اللّه تعالى على ما أشار إليه الإمام عبارة عن الإقبال عليه تعالى بالكلية بحيث لا يعرض للشخص ما يشغله ويلهيه أو يوجب غفلته عنه عزّ وجلّ ويكون ذلك عند دخول الجنة وفيها وعند البعث وعند الموت.
وقال الراغب : ملاقاة اللّه تعالى عبارة عن القيامة وعن المصير إليه عزّ وجلّ ، وقال الطبرسي : هي ملاقاة ثوابه تعالى وهو غير ظاهر على جميع الأقوال السابقة بل ظاهر على بعضها كما لا يخفى ، وعن قتادة في الآية أنهم يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضا بالسلام أي سلمنا وسلمت من كل مخوف ، والتحية عليه على ما قال الخفاجي مصدر مضاف للفاعل. وفي البحر هي عليه مصدر مضاف للمحيي والمحيي لا على جهة العمل لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلا مفعولا ولكنه كقوله تعالى : وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء : 78] أي للحكم الّذي جرى بينهم.
وكذا يقال هنا التحية الجارية بينهم هي سلام ، وقول المحيي في ذلك اليوم سلام إخبار لا دعاء لأنه أبلغ على ما قيل فتدبر ، وأحرى الأقوال بالقبول عندي أن اللّه تعالى يسلم عليهم يوم يلقونه إكراما لهم وتعظيما.
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً أي وهيأ عزّ وجلّ لهم ثوابا حسنا ، والظاهر أن التهيئة واقعة قبل دخول الجنة والتحية ولذا لم تخرج الجملة مخرج ما قبلها بأن يقال وأجرهم أجر كريم أي ولهم أجر كريم ، وقيل : هي بعد الدخول والتحية فالكلام لبيان لآثار رحمته تعالى الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك ، ولعل إيثار الجملة الفعلية على الاسمية المناسبة لما قبلها للمبالغة في الترغيب والتشويق إلى الموعود ببيان أن الأمر الّذي هو المقصد الأقصى من بين سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولا فيما لهم وما عليهم ، وهو

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 223
حال مقدرة وإن اعتبر الإرسال أمرا ممتدا لاعتبار التحمل والأداء في الشهادة ، والإرسال بذلك الاعتبار وإن قارن التحمل إلا أنه غير مقارن للاداء وإن اعتبر الامتداد.
وقيل : بإطلاق الشهادة على التحمل فقط تكون الحال مقارنة والأحوال المذكورة بعد على اعتبار الامتداد مقارنة ، ولك أن لا تعتبره أصلا فتكون الأحوال كلها مقدرة ، ثم أن تحمل الشهادة على من عاصره صلّى اللّه عليه وسلم واطلع على عمله أمر ظاهر ، وأما تحملها على من بعده بأعيانهم فإن كان مرادا أيضا ففيه خفاء لأن ظاهر الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام لا يعرف أعمال من بعده بأعيانهم ،
روى أبو بكر وأنس وحذيفة وسمرة وأبو الدرداء عنه صلّى اللّه عليه وسلم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول : يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
نعم قد يقال : إنه عليه الصلاة والسلام يعلم بطاعات ومعاص تقع بعده من أمته لكن لا يعلم أعيان الطائعين والعاصين ، وبهذا يجمع بين الحديث المذكور وحديث عرض الأعمال عليه صلّى اللّه عليه وسلم كل أسبوع أو أكثر أو أقل ، وقيل : يجمع بابه عليه الصلاة والسلام يعلم الأعيان أيضا إلا أنه نسي فقال : أصيحابي ، ولتعظيم قبح ما أحدثوا قيل له : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، وقيل : يعرض ما عدا الكفر وهون كما ترى ، وأما زعم أن التحمل على من بعده إلى يوم القيامة لما أنه صلّى اللّه عليه وسلم حي بروحه وجسده يسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت فمبني على ما علمت حاله ، ولعل في هذين الخبرين ما يأباه كما لا يخفى على المتدبر ، وأشار بعض السادة الصوفية إلى أن اللّه تعالى قد أطلعه صلّى اللّه عليه وسلم على أعمال العباد فنظر إليها ولذلك أطلق عليه عليه الصلاة والسلام شاهد. قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره العزيز في مثنويه :
در نظر بودش مقامات العباد زان سبب نامش خدا شاهد نهاد
فتأمل ولا تغفل ، وقيل : المراد شاهدا على جميع الأمم يوم القيامة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ودعوهم إلى اللّه تعالى ، وشهادته بذلك لما علمه من كتابه المجيد ، وقيل : المراد شاهدا بأن لا إله إلا اللّه وَمُبَشِّراً تبشر الطائعين بالجنة وَنَذِيراً تنذر الكافرين والعاصين بالنار ، ولعموم الإنذار وخصوص التبشير قيل : مبشرا ونذيرا على صيغة المبالغة دون ومنذرا مع أن ظاهر عطفه على مُبَشِّراً يقتضي ذلك وقدم التبشير لشرف المبشرين ولأنه المقصود الأصلي إذ هو صلّى اللّه عليه وسلم رحمة للعالمين وكأنه لهذا جبر ما فاته من المبالغة بقوله تعالى : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى الإقرار به سبحانه وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من صفاته وأفعاله عزّ وجلّ ، ولعل هذا هو مراد ابن عباس وقتادة من قولهما أي شهادة أن لا إله إلا اللّه بِإِذْنِهِ أي بتسهيله وتيسيره تعالى ، وأطلق الإذن على التسهيل مجازا لما أنه من أسبابه لا سيما الإذن من اللّه عزّ وجلّ ولم يحمل على حقيقته وإن صح هنا أن يأذن اللّه تعالى شأنه له عليه الصلاة والسلام حقيقة في الدعوة لأنه قد فهم من قوله سبحانه : إنا أرسلناك داعيا أنه صلّى اللّه عليه وسلم مأذون له في الدعوة ، ومما ذكر يعلم أن بِإِذْنِهِ من متعلقات داعيا ، وقيدت الدعوة بذلك إيذانا بأنها أمر صعب المنال وخطب في غاية الإعضال لا يتأتى إلا بإمداد من جناب قدسه كيف لا وهو صرف للوجوه عن القبل المعبودة وإدخال للأعناق في قلادة غير معهودة ، وجوز رجوع القيد للجميع والأول أظهر وَسِراجاً مُنِيراً يستضيء به الضالون في ظلمات الجهل والغواية ويقتبس من نوره أنوار المهتدين إلى مناهج الرشد والهداية ، وهو تشبيه إما مركب عقلي أو تمثيل منتزع من عدا أمور أو مفرق ، وبولغ في الوصف بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته.
وقال الزجاج : هو معطوف على شاهدا بتقدير مضاف أي ذا سراج منير ، وقال الفراء : إن شئت كان نصبا على معنى وتاليا سراجا منيرا ، وعليهما السراج المنير القرآن ، وإذا فسر بذلك احتمل على ما قيل أن يعطف على كاف

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 224
أَرْسَلْناكَ على معنى أرسلناك والقرآن إما على سبيل التبعية وإما من باب متقلدا سيفا ورمحا ، وقيل : إنه على تقدير تاليا سراجا يجوز هذا العطف أي إنا أرسلناك وتاليا سراجا كقوله تعالى : يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [البينة : 2] على أنه الجامع بين الأمرين على نحو : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الأنبياء : 48] أي أرسلنا بإرسالك تاليا.
وجوز أن يراد وجعلناك تاليا ، وقيل : يجوز أن يراد بذا سراج القرآن وحينئذ يكون التقدير إنا أرسلناك وأنزلنا عليك ذا سراج. وتعقب بأن جعل القرآن ذا سراج تعسف ، والحق أن كل ما قيل كذلك.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل : فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين. وجوز عطفه على الخبر السابق عطف القصة على القصة ، وقيل : هو معطوف عليه ويجعل في معنى الأمر لأنه في معنى ادعهم شاهدا ومبشرا ونذيرا إلخ وبشر المؤمنين منهم بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي عطاء جزيلا وهو كما روي عن الحسن وقتادة الجنة وما أوتوا فيها ويؤيده قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى : 22] وقيل : المعنى فضلا على سائر الأمم في الرتبة والشرف أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان.
أخرج ابن جرير وابن عكرمة عن الحسن قال لما نزل : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح : 2] قالوا : يا رسول اللّه قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟
فأنزل اللّه تعالى : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نهى عن مداراتهم في أمر الدعوة ولين الجانب في التبليغ والمسامحة في الإنذار كني عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في النهي والتنفير عن المنهي عليه بنظمها في سلكها وتصوير بصورتها ، وحمل غير واحد النهي على التهييج والإلهاب من حيث إنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يطعهم حتى ينهى ، وجعله بعضهم من باب إياك أعني واسمعي يا جارة فلا تغفل.
وَدَعْ أَذاهُمْ أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم واصبر على ما ينالك منهم قاله قتادة فأذاهم مصدر مضاف للفاعل ، وقال أبو حيان : الظاهر أنه مصدر مضاف للمفعول لما نهى صلّى اللّه عليه وسلم عن طاعتهم أمر بترك إيذائهم وعقوبتهم ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف وروي نحوه عن مجاهد والكلبي والأول أولى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كل ما تأتي وتذر من الشؤون التي من جملتها هذا الشأن فإنه عزّ وجلّ يكفيهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا إليه الأمور في كل الأحوال ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحكم وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي ولما وصف صلّى اللّه عليه وسلم بنعوت خمسة قوبل كل واحد منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر ما قابل الشاهد صريحا وهو لأمر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة المبشر عليه وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر آنفا وقابل النذير بالنهي عن مداراة الكافرين والمنافقين والمسامحة في إنذارهم وقوبل الداعي بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث إنه عبارة عن الاستمداد منه تعالى والاستعانة به عزّ وجلّ وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى فإن من أيده اللّه تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة وجعله برهانا نيرا يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد حقيق بأن يكتفي به تعالى عمن سواه ، وجعل الزمخشري مقابل الشاهد وبشر المؤمنين ومقابل الإعراض عن الكافرين والمنافقين المبشر أعني المؤمنين وتكلف في ذلك.
وقال الطيبي طيب اللّه تعالى ثراه : نظير هذه الآية ما
روى البخاري : والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد اللّه بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في التوراة قال : واللّه إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للمؤمنين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه اللّه تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلقا ، وروى الدارمي نحوه عن عبد اللّه بن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 225
سلام
فقوله : حرز للمؤمنين مقابل لقوله تعالى : وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ فإن دعوته صلّى اللّه عليه وسلم إنما حصلت فائدتها فيمن وفقه اللّه تعالى : بتيسيره وتسهيله فلذلك آمنوا من مكاره الدنيا وشدائد الآخرة فكان صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه بهذا الاعتبار حرزا لهم ، وقوله : سميتك المتوكل إلخ مقابل لقوله : وَسِراجاً مُنِيراً فعلم أن قوله تعالى : وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مناسب لقوله تعالى : وَسِراجاً مُنِيراً فإن السراج مضيء في نفسه ومنور لغيره فبكونه متوكلا على اللّه تعالى يكون كاملا في نفسه فهو مناسب لقوله : أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل إلى قوله : يعفو ويصفح وكونه منيرا يفيض اللّه تعالى عليه يكون مكملا لغيره وهو مناسب لقوله : حتى يقيم به الملة العوجاء إلخ ثم قال : ويمكن أن ينزل المراتب على لسان أهل العرفان فقوله تعالى : إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الفتح : 8] هو مقام الشريعة ودعوة الناس إلى الإيمان وترك الكفر ونتيجة الإعراض عما سوى اللّه تعالى والأخذ في السير والسلوك والالتجاء إلى حريم لطفه تعالى والتوكل عليه عزّ وجلّ وقوله ، سبحانه : وَسِراجاً مُنِيراً هو مقام الحقيقة ونتيجته فناء السالك وقيامه بقيوميته تعالى ا ه ، ولا يخفى تكلف ما قرره في الحديث واللّه تعالى أعلم بمزاده.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها عود إلى ذكر النساء ، والنكاح هنا العقد بالاتفاق واختلفوا في مفهومه لغة فقيل هو مشترك بين الوطء والعقد اشتراكا لفظيا ، وقيل : حقيقة في العقد مجاز في الوطء ، وقيل : بقلبه وقيل هو مشترك بينهما اشتراكا معنويا وهو من أفراد المشكك وحقيقته الضم والجمع كما في قوله :
ضممت إلى صدري معطر صدرها كما نكحت أم الغلام صبيها
ونقل المبرد ذلك عن البصريين وغلام ثعلب الشيخ عمر والزاهد عن الكوفيين ، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض يتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه وهذا يقتضي كونه مجازا في العقد ، وإن اعتبر الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول جاز أن يكون النكاح حقيقة في كل من الوطء والعقد وجاز أن يكون مجازا على التفصيل المعروف في استعمال العام في كل فرد من أفراده ، واختار الراغب القول الثاني من الأقوال السابقة وبالغ في عدم قبول الثالث : فقال هو حقيقة في العقد ثم استعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنه.
واختار الزمخشري الثالث فقال : النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق له ونظيره تسمية الخمر إثما لأنها سبب في اقتراف الإثم ، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب اللّه تعالى إلا في معنى العقد لأنه في حق الوطء من باب التصريح به ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسسة والقربان والتغشي والإتيان ، وأراد على ما قيل إنه في العقد حقيقة شرعية منسى فيه المعنى اللغوي ، وبحث في قوله لم يرد لفظ النكاح في كتاب اللّه تعالى إلا في معنى العقد بأنه في قوله تعالى : حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة : 23] بمعنى الوطء وهذا ما عليه الجمهور وخالف في ذلك ابن المسيب ، وتمام الكلام في موضعه ، والمس في الأصل معروف وكني به هنا عن الجماع ، والعدة هي الشيء المعدود وعدة المرأة المراد بها الأيام التي بانقضائها يحل لها التزوج أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن فما لكم عليهن من عدة بأيام يتربصن فيها بأنفسهن تستوفون عددها على أن تعتدون مطاوع عد يقال عد الدراهم فاعتدها أي استوفى عددها نحو قولك كلته فأكتلته ووزنته فاتزنته أو تعدونها على أن افتعل بمعنى فعل ، وإسناد الفعل إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج=

30. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 226
ما أشعر به قوله تعالى : فَما لَكُمْ واعترض بأن المذكور في كتب الفروع كالهداية وغيرها أنها حق الشرع ولذا لا تسقط لو أسقطها الزوج ولا يحل لها الخروج ولو أذن لها وتتداخل العدتان ولا تداخل في حق العبد وحق الولد أيضا ولذا
قال صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يحل لامرىء مؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره»
وفرعوا على ذلك أنهما لا يصدقان في إبطالها باتفاقهما على عدم الوطء.
وأجيب بأنه ليس المراد أنها صرف حقهم بل أن نفعها وفائدتها عائدة عليهم لأنها لصيانة مياههم والأنساب الراجعة إليهم فلا ينافي أن يكون للشرع والولد حق فيها يمنع إسقاطها ولو فرض أنها صرف حقهم يجوز أن يقال : إن عدم سقوطها بإسقاطهم لا ينافي ذلك إلا إذا ثبت أن كل حق للعبد إذا أسقطه العبد سقط وليس كذلك فإن بعض حقوق العبد لا تسقط بإسقاطه كالإرث وحق الرجوع الهبة وخيار الرؤية ، ثم أن في الاستدلال بالحديث على أنها حق الولد تأملا كما لا يخفى ، وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على أن المؤمن شأنه أن يتخير لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة ، وحاصله أنه لبيان الأحرى والأليق بعد ما فصل في البقرة نكاح الكتابيات ، وفائدة المجيء بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخي الطلاق له دخل في إيجاب العدة لاحتمال الملاقاة والجماع سرا كما أن له دخلا في النسب ، ويمكن أن تكون الإشارة إلى التراخي الرتبي فإن الطلاق وإن كان مباحا لا كراهة فيه على ما قيل لقوله تعالى : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة : 236] غير محبوب كالنكاح من حيث إنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة المؤدي لقلة التناسل الّذي به تكثر الأمة ولهذا
ورد كما أخرج أبو داود وابن ماجة والحاكم والطبراني وابن عدي عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما مرفوعا «أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق» ورواه البيهقي مرسلا
بدون ابن عمر بل قال العلامة ابن الهمام : الأصح حظره وكراهته إلا لحاجة لما فيه من كفران نعمة النكاح وللأخبار الدالة على ذلك ، ويحمل لفظ المباح في الخبر المذكور على ما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود ما أحل اللّه شيئا أبغض إليه من الطلاق ، والفعل لا عموم له في الأزمان والحاجة المبيحة الكبر والريبة مثلا ومن المبيح عدم اشتهائها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه على جماعها مع عدم رضاها بإقامتها في عصمته من غير وطء أو قسم.
وأما ما
روي عن الحسن السبط رضي اللّه تعالى عنه وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه فقال : أحب الغناء فقد قال تعالى : وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ
[النساء : 130] فهو رأي منه إن كان على ظاهره ، وكل ما نقل عن طلاق الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم فمحمله وجود الحاجة ، وظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة لأنه سبحانه نفى فيها وجوب العدة إذا طلقت قبل الجماع والخلوة ليست جماعا وهي عندنا إذا كانت صحيحة على الوجه المبين في كتب الفروع كالجماع في وجوب العدة فتجب فيه العدة احتياطا لتوهم الشغل نظرا إلى التمكن الحقيقي بل قالوا هو مثله في جميع أحكامه سوى عشرة نظمها أفضل من عاصرناه من الفقهاء الشيخ محمد الأمين الشامي الشهير بابن عابدين بقوله :
وخلوته كالوطء في غير عشرة مطالبة بالوطء إحصان تحليل
وفيء وارث رجعة فقد عنة وتحريم بنت عقد بكر وتغسيل
وظاهر قولهم بوجوب العدة فيها أنها واجبة قضاء وديانة. وفي الفتح قال العتابي : تكلم مشايخنا في العدة الواجبة بالخلوة الصحيحة أنها واجبة ظاهرا أو حقيقة فقيل : لو تزوجت وهي متيقنة بعدم الدخول حل لها ديانة لا قضاء

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 227
ا ه ، ولم يتعقبه بشيء وذكره سعدي جلبي في حواشي البيضاوي وقال : ينبغي أن يكون التعويل على هذا القول.
وتعقب ذلك الشهاب الخفاجي بأنه وإن نقله فقهاؤنا فقد صرحوا بأنه لا يعول عليه ونحن لم نر هذا التصريح فليتتبع ، ثم لا يخفى أن عدم وجوب العدة في الطلاق بعد الخلوة مما يعد منطوقا صريحا في الآية إذا فسر المس بالجماع وليس من باب المفهوم حتى يقال : إنا لا نقول به كما يتوهم فلا بدّ لإثبات وجوب العدة في ذلك من دليل ، ومن الناس من حمل المس فيها على الخلوة إطلاقا لاسم المسبب على السبب إذا المس مسبب عن الخلوة عادة ، واعترض بأنه لم يشتهر المس بمعنى الخلوة ولا قرينة في الكلام على إرادته منه ، وأيضا يلزم عليه أنه لو طلقها وقد وطئها بحضرة الناس عدم وجوب العدة لأنه قد طلقها قبل الخلوة. وأجيب عن هذا بأن وجوب العدة في ذلك بالإجماع ، وبأن العدة إذا وجبت في الطلاق بمجرد الخلوة كانت واجبة فيه بالجماع من باب أولى وكيف لا تجب به ووجوبها بالخلوة لاحتمال وقوعه فيها لا لذاتها ، وقيل : إن المس لما لم يرد ظاهره وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده في غير خلوة مع أنه لا تلزم في ذلك بلا خلاف علم أنه كنى به عن معنى آخر من لوازم الاتصال فهو الجماع وما في معناه من الخلوة الصحيحة ، وفيه نظر لأن عدم صحة إرادة ظاهره لا يوجب إرادة ما يعم الجماع والخلوة لم لا يجوز إرادة الجماع ويرجحها شهرة الكناية بذلك ونحوه عن الجماع ، وإطلاقه عليه إما من إطلاق اسم السبب على المسبب أو من إطلاق اسم المطلق على أخص بخصوصه وهو الأوجه على ما ذكره العلامة ابن الهمام ، وبالجملة القول بأن ظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة قول متين وحق مبين فتأمل.
وفي البحر لأبي حيان الظاهر أن المطلقة إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها لا تتم عدتها من الطلقة الأولى لأنها مطلقة قبل الدخول بها وبه قال داود وقال عطاء وجماعة : تمضي في عدتها عن طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي ، وقال مالك : لا تبنى على العدة من الطلاق الأول وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني وهو قول جمهور فقهاء الأمصار ، والظاهر أيضا أنها لو كانت بائنا غير مبتوتة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فكالرجعية في قول داود ليس عليها عدة لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة للثاني ولها نصف المهر ، وقال الحسن : وعطاء وعكرمة وابن شهاب ومالك والشافعي وعثمان البتي وزفر : لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى ، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائة ا ه ، وفيه أيضا الظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد فلا يصح طلاق من لم يعقد عليها وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين.
وقالت طائفة كثيرة منهم مالك يصح ذلك وعنى بطلاق من لم يعقد عليها قول الرجل كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو إن تزوجت فلانة فهي طالق.
وقد أخرج جماعة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه سئل عن ذلك فقال : هو ليس بشيء فقيل له : إن ابن مسعود كان يقول إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال : أخطأ في هذا وتلا الآية وفي بعض الروايات أنه قال : رحم اللّه تعالى أبا عبد الرحمن لو كان كما قال لقال اللّه تعالى : «يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن» ولكن إنما قال : إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ.
وفي الدر المنثور عدة أحاديث مرفوعة ناطقة بأن لا طلاق قبل نكاح ، والمذكور في فروعنا أن ذلك من باب التعليق وشرطه الملك أو الإضافة إليه فإذا قال : إن نكحت امرأة فهي طالق أو إن نكحتك فأنت طالق وكل امرأة أنكحها فهي طالق يقع الطلاق إذا نكح لأن ذلك تعليق وفيه إضافة إلى الملك ويكفي معنى الشرط إلا في المعينة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 228
باسم ونسب كما إذا قال : فلانة بنت فلان التي أتزوجها فهي طالق أو بإشارة في الحاضرة كما لو قال : هذه المرأة التي أتزوجها طالق فإنها لا تطلق في الصورتين لتعريفها فلغا الوصف بالتي أتزوجها فصار كأنه قال : فلانة بنت فلان أو هذه المرأة طالق وهي أجنبية ولم توجد الإضافة إلى الملك فلا يقع الطلاق إذا تزوجها فتدبر.
وقرىء «تماسوهن» بضم التاء وألف بعد الميم ، وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة «تعتدونها» بتخفيف الدال ونقلها عن ابن كثير بن خالويه وأبو الفضل الرازي في اللوامح عنه وعن أهل مكة ، وقال ابن عطية : روى ابن أبي بزة عن ابن كثير أنه قرأ بتخفيف الدال من العدوان كأنه قال : فما لكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهن ، والقراءة الأولى أشهر عنه وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزة ا ه ، وليس بوهم إذ قد نقله عنه جماعة غيره ، وخرج ذلك على أن تَعْتَدُّونَها من الاعتداء بمعنى الظلم كما في قوله تعالى : وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة : 31] والمراد تعتدون فيها كقوله :
ويوما شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن الدراك نوافله
أي شهدنا فيه فحذف حرف الجر ووصل الفعل بالضمير ، وقال أبو حيان : إن الاعتداء يتعدى بعلى فالمراد تعتدون عليهن فيها ، ونظيره في حذف على قوله :
تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
فإنه أراد لقضي عليّ ، وجوز أن يكون ذلك على إبدال أحد الدالين بالتاء ، وقيل عليه : إنه تخريج غير صحيح لأن عد يعد من باب نصر كما في كتب اللغة فلا وجه لفتح التاء لو كانت مبدلة من الدال فالظاهر حمله على حذف إحدى الدالين تخفيفا ، وقرأ الحسن بإسكان العين كغيره وتشديد الدال جمعا بين الساكنين فَمَتِّعُوهُنَّ أي فأعطوهن المتعة وهي في المشهور درع أي قميص وخمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وملحفة وهي ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها ولعلها ما يقال له إزار اليوم ، وهذا على ما في البدائع أدنى ما تكسى به المرأة وتتستر عند الخروج.
ويفهم من كلام فخر الإسلام والفاضل البر جندي أنه يعتبر عرف كل بلدة فيماتكسى به المرأة عند الخروج ، والمفتى به الأشبه بالفقه قول الخصاف إنها تعتبر بحالهما فإن كانا غنيين فلها الأعلى من الثياب أو فقيرين فالأدنى أو مختلفين فالوسط ، وتجب لمطلقة قبل الوطء والخلوة عند معتبرها لم يسم لها في النكاح تسمية صحيحة من كل وجه مهر ولا تزيد على نصف مهر المثل ولا تنقص عن خمسة دراهم فإن ساوت النصف فهي الواجبة وأن كان النصف أقل منها فالواجب الأقل إلا أن ينقص عن خمسة دراهم فيكمل لها الخمسة. وفي البدائع لو دفع لها قيمة المتعة أجبرت على القبول ، فمعنى الآية على ما سمعت وكان الأمر للوجوب فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهن في النكاح وروي هذا عن ابن عباس ، وأما المفروض لها فيه إذا طلقت قبل المس فالواجب لها نصف المفروض لا غير.
وأما المتعة فهي على ما في المبسوط والمحيط وغيرهما من المعتبرات مستحبة ، وعلى ما في بعض نسخ القدوري ومشى عليه صاحب الدرر غير مستحبة أيضا والأرجح أنها مستحبة ، وفي قول الشافعي القديم أنها واجبة كما في صورة عدم الفرض ، وجوز أن تبقى الآية على ظاهرها ويكون المراد ذكر حكم المطلقة قبل المس سواء فرض لها في النكاح أم لم يفرض ويراد بالمتعة العطاء مطلقا فيعم نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه ويكون الأمر للوجوب أيضا أو يراد بالمتعة معناها المعروف ويحمل الأمر على ما يشمل الوجوب والندب.
وادعى سعيد بن المسيب كما أخرج عبد بن حميد أن الآية منسوخة بآية : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 229
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ
[البقرة : 237] قال : فصار لها نصف الصداق ولا متاع لها ، وأنكر الحسن وأبو العالية النسخ وقالا لها نصف الصداق ولها المتاع.
وجاء في رواية أخرى أخرجها عبد بن حميد عن الحسن أيضا أن لكل مطلقة متاعا دخل بها أم لم يدخل بها فرض لها أو لم يفرض
،
وظاهره دعوى الوجوب في الكل وهو خلاف ما عندنا ، وقد علمت الحكم في صورتين وهو في الصورتين الباقيتين الاستحباب ، وأما دعوى النسخ فلا يخفى ما فيها ، والظاهر أن الفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها ، وقيل : فصيحة أي إذا كان كما ذكر فمتعوهن وَسَرِّحُوهُنَّ أي أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة وأصل التسريح أن ترعى الإبل السرح وهو شجر له ثمرة ثم جعل لكم إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج سَراحاً جَمِيلًا مشتملا على كلام طيب عاريا عن أذى ومنع واجب ، وقيل : السراح الجميل أن لا يطالبوهن بما آتوهن ، وقال الجبائي : هو الطلاق السني ، وليس بشيء لأن ذاك لعطفه على التمتيع الواقع بعد الفاء مرتب على الطلاق فيلزم ترتب الطلاق السني على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن فلا يمكن أن يكون ذلك طلاقا مرتبا على الطلاق الأول لأن غير المدخول بهن لا يتصور فيها لحوق طلاق بعد طلاق آخر مع أنها إذا طلقت بانت.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 إلى 54]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ
اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن كما قال مجاهد ، وغيره وأطلق الأجر على المهر لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع وتقييد الإحلال له بإعطائها معجله كما يفهم من معنى آتَيْتَ ظاهرا ليس لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له صلّى اللّه عليه وسلم فإن في التعجيل براءة الذمة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 230
وطيب النفس ولذا كان سنّة السلف لا يعرف منهم غيره ، وقال الإمام : من الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولا وذلك لأن المرأة لها الامتناع من تسليم نفسها إلى أن تأخذ المهر والنبي صلّى اللّه عليه وسلم ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئا حرم الامتناع فلو طلب التمكين قبل إيتاء المهر لزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا ا ه وفيه بحث لا يخفى ، وحمل الإيتاء على الإعطاء وما في حكمه كالتسمية في العقد ، وجعل التقييد لإيثار الأفضل أيضا فإن التسمية أولى من تركها وإن جاز العقد بدونها ولزم مهر المثل خلاف الظاهر.
واستدل أبو الحسن الكرخي من أصحابنا بقوله تعالى : إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ على أن النكاح ينعقد بلفظ الإجارة كما ينعقد بلفظ التزويج ويكون لفظ الإجارة مجازا عنه لأن الثابت بكل منهما ملك منفعة فوجد المشترك ورد بأنه لا يلزم من تسمية المهر أجرا صحة النكاح بلفظ الإجارة وما ذكر من التجوز ليس بشيء لأن الإجارة ليست سببا لملك المنفعة حتى يتجوز بها عنه قاله في الهداية ، وقال بعضهم : إن الإجارة لا تنعقد إلا مؤقتة والنكاح يشترط فيه نفيه فيتضادان فلا يستعار أحدهما للآخر. وتعقب بأنه إن كان المتضادان هما العرضين اللذين لا يجتمعان في محل واحد لزمكم مثله في البيع من كونه لا يجامع النكاح مع جواز العقد به عند الأصحاب ، على أن التحقيق أن التوقيت ليس مفهوم لفظ الإجارة ولا جزأ منه بل شرط لاعتباره فيكون خارجا عنه فهو مجرد تمليك المنافع بعوض غير أنه إذا وقع مجردا لا يعتبر شرعا على مثال الصلاة فإنها الأقوال والأفعال المعروفة ولو وجدت من غير طهارة لا تعتبر ، ولا يقال : إن الطهارة جزء مفهوم الصلاة هذا ومثل تقييد إحلال الأزواج بما ذكر على ما قيل تقييد إحلال المملوكة بكونها ممن باشر سباءها وشاهده في قوله تعالى وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها لجواز كون السبي ليس في محله ، ولذا نكح بعض المتورعين الجواري بعقد بعد الشراء مع القول بعدم صحة العقد على الإماء.
واستشكل ذلك بمارية بنت شمعون القبطية رضي اللّه تعالى عنها فإنها لم تكن مسبية بل أهداها له صلّى اللّه عليه وسلم أمير القبط جريج بن مينا صاحب الإسكندرية ومصر وأجيب بأن هذا غير وارد لأن هدايا أهل الحرب للإمام لها حكم الفيء ، وقد يقال : إنه يستشكل بسرية له صلّى اللّه عليه وسلم أخرى وهي جارية وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش رضي اللّه تعالى عنها وكان هجرها عليه الصلاة والسلام في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رضي عنها ودخل عليها فقالت ما أدري ما أجزيك فوهبتها له وقد عدوها من سراريه صلّى اللّه عليه وسلم والجواب المذكور لا يتسنى فيها ، ولعل الجواب عن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام تسراها بيانا للجواز ولا يبعد أنه كان متحققا بدء أمرها وما جرى ليها بحيث كأنه باشر سبيها وشاهده ، ويحتمل أنها كانت مما أفاء اللّه تعالى عليه الصلاة والسلام فملكتها زينب ببعض أسباب الملك ثم وهبتها له صلّى اللّه عليه وسلم.
ومع ذلك قد أطلق عليه الصلاة والسلام حل المملوكة بعد ولم يقيد بحسب الظاهر بكونها مما أفاء اللّه عليه في قوله تعالى : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ.
ثم إن هبة هذه الجارية كانت شهر وفاته صلّى اللّه عليه وسلم والآية نزلت قبل لأنها نزلت أما سنّة الأحزاب وهي السنة الخامسة من الهجرة وإما بعيد الفتح وهو السنة الثامنة منها وعلى هذا يكون ما وقع من أمر مارية متقدما على نزول الآية لأنها أهديت له صلّى اللّه عليه وسلم السنة السابعة من الهجرة فإنه عليه الصلاة والسلام فيها أرسل رسله إلى الملوك ومنهم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي أرسله إلى المقوقس أمير القبط المتقدم ذكره فقدم منه بمارية وبأختها شيرين وبأخ أو بابن عم لها خصي يقال له مابور وببغلة تسمى دلدلا وبحمار يسمى يعفورا أو عفيرا وبألف مثقال ذهبا وبغير ذلك فتدبر ، ومثل ما ذكر على ما قيل تقييد القرائب بكونها مهاجرات معه صلّى اللّه عليه وسلم في قوله سبحانه :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 231
وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فهن أفضل من غيرهن ، والمعية للتشريك في الهجرة لا للمقارنة في الزمان كأسلمت مع سليمان ، قال أبو حيان : يقال دخل فلان معي وخرج معي أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان ، ولو قلت : خرجنا معا اقتضى المعنيين الاشتراك في الفعل والاقتران في الزمان وهو كلام حسن ، وحكى الماوردي قولا بأن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق وهو ضعيف جدا. وقولا آخر بأنها شرط في إحلال قراباته عليه الصلاة والسلام المذكورات واستدل له بما
أخرجه ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانىء فاختة بنت أبي طالب قالت : «خطبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله سبحانه : هاجَرْنَ مَعَكَ قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء»
وأجيب بأن عدم الحل لفقد الهجرة إنما فهم من قول أم هانىء فلعلها إنما قالت ذلك حسب فهمها إياه من الآية وهو لا ينتهض حجة علينا إلا إذا جاءت به رواية عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، لا يقال : إنه
أخرج ابن سعد عن أبي صالح مولى أم هانىء قال : «خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أم هانىء بنت أبي طالب فقالت : يا رسول اللّه إني مؤتمة وبني صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه عليه الصلاة والسلام فقال : أما الآن فلا إن اللّه تعالى أنزل علي يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ - إلى - اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
ولم تكن من المهاجرات وهو يدل على أنه نفسه صلّى اللّه عليه وسلم فهم الحرمة وإلا لتزوجها لأنا نقول بعد تسليم صحة الخبر : لا نسلم أنه صلّى اللّه عليه وسلم فهم الحرمة وعدم التزوج يجوز أن يكون لكونه خلاف الأفضل ، ويدل خبر أم هانىء على أن هذه الآية نزلت بعد الفتح فلا تغفل. وادعى بعضهم أن تحريم نكاح غير المهاجرة عليه صلّى اللّه عليه وسلم كان أولا ثم نسخ ، وعن قتادة أن معنى هاجَرْنَ مَعَكَ أسلمن معك ، قيل : وعلى هذا لا يحرم عليه عليه الصلاة والسلام إلا الكافرات وهو في غاية البعد كما لا يخفى ، والظاهر أن المراد بأزواجك اللاتي آتيت مهورهن نساؤه صلّى اللّه عليه وسلم اللاتي كن في عصمته وقد آتاهن مهورهن كعائشة وحفصة وسودة وبما ملكت يمينك مما أفاء اللّه عليك نحو ريحانة بناء على ما قاله محمد بن إسحاق أنه صلّى اللّه عليه وسلم لما فتح قريظة اصطفاها لنفسه فكانت عنده حتى توفيت عنده وهي في ملكه ووافقه في ذلك غيره
أخرج الواقدي بسنده إلى أيوب بن بشير قال : إنه عليه الصلاة والسلام أرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها فجاءت أم المنذر فأخبرته صلّى اللّه عليه وسلم فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها : إن أحببت أن أعتقتك وأتزوجك فعلت وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطؤك بالملك فعلت فقالت : يا رسول اللّه أحب أن أخف عليك وأن أكون في ملكك فكانت في ملك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يطؤها حتى ماتت.
وذهب بعضهم إلى أنه عليه الصلاة والسلام أعتقها وتزوجها ، وأخرج ذلك الواقدي أيضا عن ابن أبي ذئب عن الزهري ثم قال : وهذا الحديث أثبت عندنا : وروي عنها أنها قالت : لما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي عزلت وكان له صفي كل غنيمة فلما عزلت خار اللّه تعالى لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل الأسرى وفرق السبي فدخل علي صلّى اللّه عليه وسلم فتجنبت منه حياء فدعاني فأجلسني بين يديه فقال : إن اخترت اللّه ورسوله اختارك رسول اللّه لنفسه فقلت : إني اختار اللّه تعالى ورسوله فلما أسلمت أعتقني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ذهبا كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في بيت أم المنذر وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه وضرب علي الحجاب ، ولم يذكر ابن الأثير غير القول بإعتاقها وتزوجها ومنهم من ذهب إلى أنها أسلمت فأعتقها عليه الصلاة والسلام فلحقت بأهلها وكانت تحتجب عندهم وتقول : لا يراني أحد بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وحكي لحوقها بأهلها عن الزهري وادعى بعضهم بقاءها حية بعده عليه الصلاة والسلام وأنها توفيت سنة ست عشرة أيام خلافة عمر رضي اللّه تعالى عنه. وذكر ابن كمال في

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 232
تفسيره لبيان الموصول صفية وجويرية. والمذكور في أكثر المعتبرات في أمرهما أن صفية لما جمع سبي خيبر أخذها دحية وقد قال له صلّى اللّه عليه وسلم : اذهب فخذ جارية ثم أخبر عليه الصلاة والسلام أنها لا تصلح إلا له لكونها بنت سيد قومه فقال لدحية : خذ غيرها
وأخذها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأعتقها وتزوجها وكان صداقها نفسها ، وأن جويرية في غزوة بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فكاتبته على نفسها ثم جاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمري ما لا يخفى عليك ووقعت في سهم ثابت بن قيس وإني كاتبت نفسي فجئت أسألك في كتابتي فقال عليه الصلاة والسلام فهل لك إلى ما هو خير : قالت؟ وما هو يا رسول اللّه؟ قال :
أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت : قد فعلت ، وقال ابن هشام ويقال اشتراها صلّى اللّه عليه وسلم من ثابت وأعتقها وتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم
،
ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد إحلال ما ملكت يمينه صلّى اللّه عليه وسلم حين الملك من حيث إنه ملك له وإن لم يحصل وطء بالفعل يدخل جميع ما ملكه عليه الصلاة والسلام من الجواري حين الملك ولا يضر الإعتاق والتزوج بعد ذلك وحل الوطء بسبب النكاح لا الملك وإن كان المراد إحلال ذلك مع وقوع الوطء بالفعل ووصف الملك قائم لا يصح بيان الموصول إلا بمملوكة وطئها عليه الصلاة والسلام وهي ملكه كريحانة في قول وجارية أصابها في بعض السبي وعدوها من سراريه صلّى اللّه عليه وسلم ولم يذكر المعظم اسمها وعد الجلبي من سراريه عليه الصلاة والسلام جارية سماها زليخة القرظية فلعلها هي التي لم تسم وكمارية القبطية والجارية التي وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب ، وقد سمعت الكلام فيهما آنفا والمراد ببنات عمه وبنات عماته بنات القرشيين وبنات القرشيات فإنه يقال للقرشيين قربوا أو بعدوا أعمامه صلّى اللّه عليه وسلم وللقرشيات قربن أو بعدن عماته عليه الصلاة والسلام ، والمراد ببنات خاله وبنات خالاته بنات بني زهرة ذكورهم وإناثهم وإلى هذا ذهب الطبرسي في مجمع البيان ولم يذكر غيره ، وإطلاق الأعمام والعمات على أقارب الشخص من جهة أبيه ذكورا وإناثا قربوا أو بعدوا والأخوال والخالات على أقاربه من جهة أمه كذلك شائع في العرف كثير في الاستعمال.
واللاتي نكحهن ودخل بهن صلّى اللّه عليه وسلم من القرشيات ست وكان نكاحه بعضهن قبل نزول الآية بيقين ونكاحه بعضهن الآخر محتمل للقبلية والبعدية كما لا يخفى على من راجع كتب السير وسمع ما قيل في وقت نزول الآية ، ولم نقف على أنه عليه الصلاة والسلام نكح أحدا من الزهريات أصلا فالمراد بإحلال نكاح أولئك مجرد جوازه وهو لا يستدعي الوقوع ، وإذا حمل العم على أخي الأب والعمة على أخته والخال على أخي الأم والخالة على أختها اقتضى ظاهر الآية أن يكون له صلّى اللّه عليه وسلم عم وعمة وخال وخالة كذلك وأن يكون لهم بنات وذلك مشهور في شأن العم والعمة وبناتهما فقد ذكر معظم أهل السير عدة أعمام له صلّى اللّه عليه وسلم وعدة بنات لهم كالعباس ومن بناته أم حبيبة تزوجها أسود المخزومي وكان قد خطبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على ما قيل فوجد أباها أخاه من الرضاعة كان قد أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب ، وكأبي طالب ومن بناته أم هانىء وقد سمعت ما قيل في شأنها وجمانة كانت إحدى المبايعات له صلّى اللّه عليه وسلم وكانت تحت أبي سفيان بن الحارث عمها ، وكأبي لهب ومن بناته خالدة تزوجها عثمان بن أبي العاصي الثقفي وولدت له ، ودرة أسلمت وهاجرت وكانت تحت الحارث بن نوفل ثم تحت دحية الكلبي ، وعزة تزوجها أوفى بن أمية ، وكالزبير ومن بناته ضباعة زوجة المقداد بن الأسود وأم الحكم ويقال إنها أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة وكان يزورها بالمدينة وكحمزة ومن بناته أمامة لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من عمرة القضاء أتى بها من مكة وزوجها سلمة بن أم سلمة ومقتضى قول القسطلاني أن حمزة أخوه صلّى اللّه عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما ثويبة بلبن ابنها مسروح أنها لا تحل له عليه الصلاة والسلام بل ذكر هو أيضا أنها عرضت عليه فقال هي ابنة أخي من الرضاعة وكالحارث ومن بناته

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 233
أروى زوجة أبي وداعة وكالمقوم ومن بناته من اسمها أروى أيضا زوجة ابن عمها أبي سفيان بن الحارث وذكروا أيضا له صلّى اللّه عليه وسلم عدة عمات وعدة بنات لهن ، منهن أميمة ومن بناتها زينب أم المؤمنين وهي التي نزل فيها قوله تعالى : فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الأحزاب : 37] وأم حبيبة وكانت زوجة عبد الرحمن بن عوف ، وحمنة وكانت عند مصعب بن عمير ثم عند طلحة أحد العشرة ، ومنهن البيضاء ومن بناتها أروى أم عثمان رضي اللّه تعالى عنه وأم طلحة بنتا كريز بن ربيعة ، ومنهن عاتكة ومن بناتها قريبة بنت زاد الراكب أبي أمية بن المغيرة ، ومنهن صفية ومن بناتها صفية بنت الحارث بن حارثة وأم حبيبة بنت العوام بن خويلد ، وأما الخال والخالة فلم يشتهر ذكرهما ، نعم
ذكر في الإصابة فريعة بنت وهب الزهرية رفعها النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقال : من أراد أن ينظر إلى خالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فلينظر إلى هذه ،
وفيها أيضا فاختة بنت عمرو الزهرية خالة النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
أخرج الطبراني من طريق عبد الرحمن بن عثمان الوقاصي عن ابن المنكدر عن جابر سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : وهبت خالتي فاختة بنت عمرو غلاما وأمرتها أن لا تجعله جازرا ولا صائغا ولا حجاما
، والوقاصي ضعيف.
وقال : في صفية بنت عبد المطلب هي شقيقة حمزة أمهما هالة خالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي هالة بنت وهب كما في المواهب ولم نقف لهذه الخالة على بنت غير صفية عمته عليه الصلاة والسلام ، وكذا لم نقف على بنات لمن ذكرنا قبلها ، ووقفنا على خال واحد له عليه الصلاة والسلام وهو عبد يغوث بن وهب ولم نقفعلى بنت له وإنما وقفنا على ابنين أحدهما الأرقم وله ابن يسمى عبد اللّه وهو صحابي كتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ولصاحبيه وكان على بيت المال في خلافة عمر رضي اللّه تعالى عنه وكان أثيرا عنده حتى أن حفصة روت عنه أنه قال لها : لولا أن ينكر على قومك لاستخلفت عبد اللّه بن الأرقم ، وقيل : هو ابن عبد يغوث والأرقم هو عبد يغوث ، والبخاري على ما قلنا وقد أسلم يوم الفتح ، وقال بعضهم فيه : خال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ومن الناس من ذكر لعبد اللّه هذا أخا سماه عبد الرحمن بن الأرقم وأثبت له الصحبة وفي ذلك مقال ، وثانيهما الأسود وأطلق عليه النبي عليه الصلاة والسلام اسم الخال ،
فقد روي أنه كان أحد المستهزئين به صلّى اللّه عليه وسلم فقصد جبريل عليه السّلام إهلاكه فقال صلّى اللّه عليه وسلم : يا جبريل خالي فقال : دعه عنك
، وله ابن هو عبد الرحمن وبنت هي خالدة وكانت من المهاجرات الصالحات وقد أطلق عليها أيضا اسم الخالة.
أخرج المستغفري من طريق أبي عمير الجرمي عن معمر عن الزهري عن عبيد اللّه مرسلا قال : دخل النبي صلّى اللّه عليه وسلم منزله فرأى عند عائشة امرأة فقال : من هذه يا عائشة قالت : هذه إحدى خالاتك فقال : إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب فقالت : هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال : سبحان الذي يخرج الحي من الميت قرأها مثقلة.
وأخرج موسى بن إبراهيم عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة موصولا نحوه
،
وفي هذا الخبر وما قبله إطلاق الخال والخالة على قرابة الأم وإن لم يكن الخال أخاها والخالة أختها ، وبذلك يتأيد ما ذكرناه سابقا فاحفظ ذاك واللّه تعالى يتولى هداك ، وإياك أن تظن الأمر فرضيا أو أن الخطاب وإن كان خاصا في الظاهر عام في الحقيقة فيكفي وجود بنات خال وبنات خالات لغيره عليه الصلاة والسلام كما يظن ذلك من يشهد العم بجهله ويصدق الخال بقلة عقله ، هذا وقد كثر السؤال عن حكمة أفراد العم والخال وجمع العمة والخالة حتى أن السبكي على ما قيل صنف جزءا فيه سماه الهمة في أفراد العم وجمع العمة.
قال الخفاجي : وقد رأيت لهم فيه كلمات ضعيفة كقول الرازي إن العم والخال على زنة المصدر ولذا لم يجمعا بخلاف العمة والخالة ، وقيل لم يجمعا ليعما إذا أضيفا ، والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة وهي إن لم تمنع العموم حقيقة تأباه ظاهرا ، ولا يأبى ذلك قوله تعالى في سورة : بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ [النور : 61] لأنه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 234
على الأصل ، ثم قال : وأحسن منه ما قيل إن أعمامه صلّى اللّه عليه وسلم العباس وحمزة رضي اللّه تعالى عنهما أخواه من الرضاع لا تحل له بناتهما ، وأبو طالب ابنته أم هانىء لم تكن مهاجرة ا ه ، وما ادعى ضعفه فهو كما قال وما زعم أنه أحسن منه إن كان كما نقلناه بهذا المقدار خاليا عن إسقاط شيء حسبما وجدناه في نسختنا فهو مما لا حسن فيه فضلا عن كونه أحسن ، وإن كان له تتمة فالنظر فيه بعد الاطلاع عليها إليك وأظنه على العلات ليس بشيء.
وقال بعض الأجلة المعاصرين من العلماء المحققين لا زال سعيد زمانه سابقا بالفضل على أقرانه : يحتمل أن يكون إفراد العم لأنه بمنزلة الأب بل قد يطلق عليه الأب ومنه في قول : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام : 74] والأب لا يكون إلا واحدا فكان الافراد أنسب بمن ينزل منزلته ويكون جمع العمة على الأصل وإفراد الخال ليكون على وفق العم وجمع الخالة وإن كانت بمنزلة الأم لتكون على وفق العمات ، ويحتمل أن يكون إفراد المذكر وجمع المؤنث لقلة الذكور وكثرة الإناث ، وقد ورد في الآثار ما يدل على أن النساء أكثر من الرجال.
وقال آخر من أولئك الأجلة لا زالت مدارس العلم تزهو به وتشكر فضله : إن ذلك لما فيه من الحسن اللفظي فإن بين العم والعمات والخال والخالات نوعا من الجناس ولأن أعمامه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما ذكره صاحب ذخائر العقبى اثني عشر عما وعماته كن ستا فلو قيل أعمامك لتوهم أنهم أقل من اثني عشر لأنه جمع قلة وغاية ما يصدق هو عليه تسعة أو عشرة على قول ولو قيل : عمتك لم تتحقق الإشارة إلى قلتهن فلذا أفرد العم وجمعت العمة وقيل : خالك وخالاتك ليوافق ما قبل ، وأنا أقول : الذي يغلب على ظني في ذلك ما حكاه أبو حيان عن القاضي أبي بكر بن العربي من أن ما ذكر عرف لغوي على معنى أنه جرى عرف اللغويين في مثل ذلك على إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ، ونحن قد تتبعنا كثيرا من أشعار العرب فلم نر العم مضافا إليه ابن أو بنت بالإفراد أو الجمع إلا مفردا نحو قوله :
جاء شقيق عارضا رمحه إن بني عمك فيهم رماح
وقوله :
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى بصاحبه يوما دما فهو آكله
وقوله :
قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيرا معدما قالت وإن
وقوله :
يا بنت عما لا تلومي واهجعي فليس يخلو عنك يوما مضجعي
إلى ما لا يحصى كثرة ، وأما اطراد إفراد الخال وجمع العمة والخالة إذا أضيف إليها ما ذكر فلست على ثقة من أمره ، فإذا كان الأمر في المذكورات كالأمر في العم فليس فوق هذا الجواب جواب ، والظن بالقاضي أنه لم يحكم بما حكم إلا عن بينة مع أني لا أطلق القول بعدم قبول حكم القاضي بعلمه ولا أفتي به ، نعم لهذا القاضي حكم مشهور في أمر الحسين رضي اللّه تعالى عنه ولعن من رضي بقتله لا يرتضيه إلا يزيد زاد اللّه عزّ وجلّ عليه عذابه الشديد ، وعلى تقدير كون الأمر في العم ومن معه كما قال يحتمل أن يكون الداعي لإفراد العم والخال الرجوع إلى أصل واحد مع ما بين الذكور من جهة العمومة والخئولة في حق الشخص المدلى بهما من التناصر والتساعد فلذلك ترى الشخص يهرع لدفع بليته إلى ذكور عمومته وخؤولته ، وذلك التعاضد يجعل المتعدد في حكم الواحد ، ويقوي هذا الاعتبار هنالك

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 235
إضافة الفرع كالبنين والبنات إلى ذلك ، ولعل في الإفراد مع جمع المضاف المذكور إشارة إلى أن البنين والبنات وإن كانوا بنين وبنات لمتعددين في نفس الأمر إلا أنهم في حكم البنين والبنات لواحد وأن كل واحد من الأعمام والأخوال لمزيد شفقته على أبناء وبنات كل كأنه أب لأبناء وبنات كل ، وهذا الذي ذكرناه لا يوجد في العمات والخالات. ولا يرد عليه جمع العم والخال في آية النور كما لا يخفى على من له أدنى نور يهتدي به إذا أشكلت الأمور ، ويمكن أن يقال في الحكمة هاهنا خاصة : إنه لما كان المفرد أصلا والمجموع فرعه والمذكر أصلا والمؤنث فرعه أتى بالعم والخال المذكرين مفردين وبالعمة والخالة المؤنثين مجموعين فاجتمع في الأولين أصلان وفي الأخيرين فرعان بحكم شبيه الشيء منجذب إليه وإن الطيور على أشباهها تقع ، وما ألطف هذا الاجتماع في منصة مقام النكاح لما فيه من الإشارة إلى الكفاءة وأن المناسب ضم الجنس إلى جنسه كما يقتضيه بعض الآيات وهو لعمري ألطف من جمع المذكر وإفراد المؤنث ليجتمع في كل أصل وفرع فيوافق ما في النكاح من اجتماع ذكر هو أصل وأنثى هي فرع لخلوه عن الإشارة إلى ذلك الضم المناسب المستحسن عند كل ذي رأي صائب على أن في جمع أصلين في العم موافقة لما في النكاح من جمع الزوجين الذين هما أصلان لما يتولد منهما وإذا اعتبر جمعهما في الخال الذي قرابته من جهة الأم التي لا تعتبر في النسب وافق الجملة ما في النكاح من اجتماع أصل وفرع فلا يفوت ذلك بالكلية على ما في النظم الجليل.
وأيضا في الانتقال من الإفراد إلى الجمع في جانبي العمومة والخئولة إشارة إلى ما في النكاح من انتقال كل من الزوج والزوجة من حال الانفراد إلى حال الاجتماع فلله تعالى در التنزيل ، هذا ما عندي وهو زهرة ربيع لا تحمل الفرك ومع هذا قسه إلى ما سمعت عن ساداتنا المعاصرين واختر لنفسك ما يحلو واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه.
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالنصب عطفا على مفعول أحللنا عند جمع وليس معنى أَحْلَلْنا إنشاء لاحلال الناجز ولا الاخبار عن إحلال ماض بل إعلام بمطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق فلا يعكر على ذلك الشرط وهذا كما تقول أبحت لك أن تكلم فلانا إن سلم عليك ، ولما فيه من البحث قال بعضهم : إنه نصب بفعل يفسره ما قبل أي ويحل لك امرأة أو وأحللنا لك امرأة وهو مستقبل لمكان الشرط. وقرأ أبو حيوة بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي وامرأة مؤمنة أحللناها لك أيضا إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ أي ملكته المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر.
وقرأ أبي والحسن والشعبي وعيسى وسلام «أن وهبت» بفتح الهمزة أي لأن وهبت وقيل : أي وقت أن وهبت أو مدة أن وهبت فتكون أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب على الظرفية ، وأكثر النحاة لا يجيزونه في غير المصدر الصريح كآتيك خفوق النجم وغير ما المصدرية ، وجوز أن يكون المصدر بدلا من امْرَأَةً وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «إذ وهبت» وإذ ظرف لما مضى وقيل : هي مثلها في قوله تعالى : وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف : 39] إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي يتملك المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر وهذا شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فهبتها نفسها منه صلّى اللّه عليه وسلم لا يوجب له حلها إلا بإرادته نكاحها وهذه الإرادة جارية مجرى قبول الهبة ، وقال ابن كمال : الإرادة المذكورة عبارة عن القبول ولا وجه لحملها على الحقيقة لأن قوله تعالى : يَسْتَنْكِحَها يغني عن الإرادة بمعناه الوضعي وهو يشير إلى أن السين للطلب ، وكلام بعض الأجلة على هذا حيث قال : إرادة طلب النكاح كناية عن القبول.
وقيل : استفعل هنا بمعنى فعل فالاستنكاح بمعنى النكاح لئلا يتوهم التكرار وفيه نظر ، واستظهر صاحب هذا القيل حمل الإرادة على الإرادة المتقدمة على الهبة بناء على أن التركيب يقتضي تقدم هذا الشرط فقد قالوا : إذا اجتمع

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 236
شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع وهو بمنزلة الحال ، ومن هنا قال الفقهاء : لو قال : إن ركبت إن أكلت فأنت طالق لا تطلق ما لم يتقدم الآكل على الركوب ليتحقق تقييد الحالية.
واستشكل السمين هذه القاعدة بما هنا بناء على أنهم جعلوا ذلك الشرط بمنزلة القبول لاقتضاء الواقع ذلك ، ثم ذكر أنه عرضه على علماء عصره فلم يجدوا مخلصا منه إلا بأن هذه القاعدة ليست بكلية بل مخصوصة بما لم تقم قرينة على تأخر الثاني كما في نحو إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حرّ فإن الطلاق لا يتقدم التزوج وما نحن فيه من هذا القبيل ثم قال : فمن جعل الشرط الثاني هنا مقدما لم يصب ورأيت في الفن السابع من الأشباه والنظائر النحوية للجلال السيوطي عليه الرحمة كلاما لابن هشام ذكر فيه أن جعل الآية كالمثال ونظمهما في سلك مسألة اعتراض الشرط على الشرط هو ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك وذهب هو إلى أن المثال من مسألة الاعتراض المذكور دون الآية واحتج عليه بما احتج ، ثم ذكر الخلاف في صحة تركيب ما وقع فيه الاعتراض كالمثال وأن الجمهور على جوازه وهو الصحيح وأن المجيزين اختلفوا في تحقيق ما يقع به مضمون الجواب الواقع بعد الشرطين على ثلاثة مذاهب ، أحدهما أنه إنما يقع بمجموع أمرين ، أحدهما حصول كل من الشرطين ، والآخر كون الشرط الثاني واقعا قبل وقوع الأول ففي المثال لا يقع الطلاق إلا بوقوع الركوب والأكل من تقدم وقوع الأكل على الركوب ، وذكر أن هذا مذهب الجمهور. وثانيها أنه يقع بحصول الشرطين مطلقا وذكر أنه حكاه له بعض العلماء عن إمام الحرمين وأنه رآه محكيا عن غيره بعد. وثالثها أنه يقع بوقوع الشرطين على الترتيب فإنما تطلق في المثال إذا ركبت أولا ثم أكلت وأبطل كلا من المذهبين الأخيرين وذكر في توجيه التركيب على المذهب الأول مذهبين.
الأول مذهب الجمهور أن الجواب المذكور للشرط الأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ولإغناء ذلك عنه وقيامه مقامه لزم في وقوع المعلق على ذلك أن يكون الثاني واقعا قبل الأول ضرورة أن الجواب لا بدّ من تأخره عن الشرط فكذا الأمر في القائم مقام الشرط ، والثاني مذهب ابن مالك أن الجواب المذكور للأول والثاني لا جواب له لا مذكور ولا مقدر لأنه مقيد للأول تقييده بحال واقعة موقعه فالمعنى في المثال إن ركبت آكلة فأنت طالق ، وفيه أنه خارج عن القياس وأنه لا يطرد في إن قمت إن قعدت فأنت طالق وأن الشرط بعيد عن مذهب الحال لمكان الاستقبال.
وبالجملة قد أطال الكلام في هذه المسألة وهي مسألة شهيرة ذكرها الأصوليون وغيرهم وفيما ذكرنا فيها اكتفاء بأقل اللازم هاهنا فتأمل.
وأكثر العلماء على وقوع الهبة واختلفوا في تعيين الواهبة فعن ابن عباس وقتادة وعكرمة هي ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وفي المواهب يقال : إن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه وسلم وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت إليها وهي على بعيرها فقالت : البعير وما عليه للّه ولرسوله صلّى اللّه عليه وسلم وكان ذلك سنة سبع بعد غزوة خيبر وبنى عليها عليه الصلاة والسلام بسرف على عشرة أميال من مكة ، وعليه تكون إرادة النكاح سابقة على الهبة فيضعف به قول السمين : وعن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما والضحاك ومقاتل هي أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية ، قال في الصفوة : والأكثرون على أنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه وسلم فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت. وفي الدر المنثور عن منير بن عبد اللّه الدوسي أنه عليه الصلاة والسلام قبلها ، وعن عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة من الأنصار كانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم وكان ذلك في سنة ثلاث ولم تلبث عنده صلّى اللّه عليه وسلم إلا قليلا حتى توفيت رضي اللّه تعالى عنها.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : التي وهبت نفسها

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 237
للنبي صلّى اللّه عليه وسلم خولة بنت حكيم وقد أرجأها عليه الصلاة والسلام فتزوجها عثمان بن مظعون بإذنه صلّى اللّه عليه وسلم وقال بعضهم :
يجوز تعدد الواهبات فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عروة بن الزبير قال : كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قالت عائشة : يا رسول اللّه ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك فقوله : من اللاتي وهبن أنفسهن صريح في تعددهن ، وأنكر بعضهم وقوع الهبة وقيل : إن قوله تعالى : إِنْ وَهَبَتْ يشير إلى عدم وقوعها وأنها أمر مفروض وكذا تنكير امْرَأَةً فالمراد الإعلام بالإحلال في هذه الصورة إن اتفقت وأنكر بعضهم القبول.
أخرج ابن سعد عن ابن أبي عون أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ووهبن نساء أنفسهن فلم نسمع أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قبل منهن أحدا ، وما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال : لم يكن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له يحتمل نفي القبول ويحتمل نفي الهبة ، وإيراده صلّى اللّه عليه وسلم في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه الصلاة والسلام حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ويتضمن ذلك الإشارة إلى أن هبة من تهب لم تكن حرصا على الرجال وقضاء الوطر بل على الفوز بشرف خدمته صلّى اللّه عليه وسلم والنزول في معدن الفضل ، وبذلك يعلم أن قول عائشة : ما في امرأة وهبت نفسها لرجل خير وكذا اعتراضها السابق صادر من شدة غيرتها رضي اللّه تعالى عنها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ولا بدع فالمحب غيور وقد قال بعض المحبين :
أغار إذا آنست في الحي أنة حذارا وخوفا أن تكون لحبه
ونصب خالِصَةً على أنه مصدر مؤكد للجملة قبله ، وفاعله في المصادر على ما قال الزمخشري غير حريز كالعافية والكاذبة ، وادعى أبو حيان عزتها ، والكثير على تعلق ذلك بإحلال الواهبة أي خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصا ، وقال الزجاج : هو حال من امْرَأَةً لتخصصها بالوصف أي أحللناها خالصة لك لا تحل لأحد غيرك في الدنيا والآخرة.
وقال أبو البقاء : هو حال من ضمير وَهَبَتْ أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذاك خلوص لك وخصوص أو هي أي تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا تتجاوز المؤمنين.
واستدل الشافعية رضي اللّه تعالى عنهم به على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ ، وقال بعض أجلة أصحابنا في ذلك : إن المراد بالهبة في الآية تمليك المتعة بلا عوض بأي لفظ كان لا تمليكها بلفظ وهبت نفسي فحيث لم يكن ذلك نصافي التمليك بهذا اللفظ لم يصلح لأن يكون مناطا للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ الهبة إيجابا وسلبا ، ومعنى خلوص الإحلال المذكور له صلّى اللّه عليه وسلم من دون المؤمنين كونه متحققا في حقه غير متحقق في حقهم إذ لا بدّ في الإحلال لهم من مهر المثل.
وظاهر كلام العلامة ابن الهمام اعتبار لفظ الهبة حيث قال في الفتح : قد ورد النكاح بلفظ الهبة وساق الآية ثم قال : والأصل عدم الخصوصية حتى يقوم دليلها ، وقوله تعالى : خالِصَةً لَكَ يرجع إلى عدم المهر بقرينة إعقابه بالتعليل بنفي الحرج فإن الحرج ليس في ترك لفظ إلى غيره خصوصا بالنسبة إلى أفصح العرب بل في لزوم المال ، وبقرينة وقوعه في مقابلة المؤتى أجورهن فصار الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهرا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم إلخ من

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 238
المهر وغيره. وأبدى صدر الشريعة جواز كونه متعلقا بأحللنا قيدا في إحلال أزواجه له صلّى اللّه عليه وسلم لإفادة عدم حلهن لغيره صلّى اللّه عليه وسلم انتهى ، وجوز بعضهم كونه قيدا في إحلال الإماء أيضا لإفادة عدم حل إمائه كأزواجه لأحد بعده عليه الصلاة والسلام ، وبعض آخر كونه قيدا لإحلال جميع ما تقدم على القيود المذكورة أي خلص إحلال ما أحللنا لك من المذكورات على القيود المذكورة خلوصها من دون المؤمنين فإن إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق في حقهم بل المتحقق فيه إحلال بعض المعدود على الوجه المعهود ، واختاره الزمخشري ، وأيا ما كان فقوله تعالى :
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اعتراض بين المتعلق والمتعلق ، والأول على جميع الأوجه قوله سبحانه : لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ والثاني على الوجه الأخير وهو تعلق خالصة بجميع ما سلف من الإحلالات الأربع قوله تعالى خالِصَةً وهو مؤكد معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما اختص به بأن كلا من الاختصاص عن علم وأن هذه الحظوة مما يليق بمنصب الرسالة فحسب فالمعنى أن اللّه تعالى قد علم ما ينبغي من حيث الحكمة فرضه على المؤمنين في حق الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة ينبغي أن يفرض عليهم ففرضه واختصك سبحانه بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل في دنياك حيث أحل جل شأنه لك أجناس المنكوحات وزاد لك الواهبة نفسها من غير عوض لئلا يكون عليك ضيق في دينك ، وهو على الوجه الأول الذي ذكرناه وهو تعلق خالصة بالواهبة خاصة قوله عزّ وجلّ : إِنَّا أَحْلَلْنا وهو الذي استظهره أبو حيان وأمر الاعتراض عليه في حاله ، وبعضهم يجعل المتعلق خالصة على سائر الأوجه والتعلق به باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له صلّى اللّه عليه وسلم لا باعتبار اختصاصه به عليه الصلاة والسلام لأن مدار انتفاء الحرج هو الأول لا الثاني الذي هو عبارة عن عدم ثبوته لغيره صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال ابن عطية : إن لِكَيْلا إلخ متعلق بمحذوف أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لئلا يكون عليك حرج ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك عزّ وجلّ فلا اعتراض على هذا ، ولا يخلو عن اعتراض فتدبر ولا تغفل.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي كثير المغفرة فيغفر ما يشاء مما يعسر التحرز عنه وغيره رَحِيماً أي وافر الرحمة ، ومن رحمته سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخر من تشاء من نسائك وتترك مضاجعتها وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها ، وروي هذا عن قتادة.
وعن ابن عباس والحسن أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء ، وقال بعضهم : الإرجاء والإيواء لإطلاقهما يتناولان ما في التفسيرين وما ذكر فيهما فإنما هو من باب التمثيل ولا يخلو عن حسن ، وفي رواية عن الحسن أن ضمير مِنْهُنَّ لنساء الأمة والمعنى تترك نكاح من تشاء من نساء أمتك فلا تنكح وتنكح منهن من تشاء.
وقال : كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يتركها وعن زيد بن أسلم والطبري أنه للواهبات أنفسهن أي تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء منهن فلا تقبلها ، وعن الشعبي ما يقتضيه ، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي في السنن وغيرهما عنه قال : كن نساء وهبن أنفسهن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن فلم يقربن حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولم ينكحن بعده ، منهن أم شريك فذلك قوله تعالى : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ويشهد لما تقدم من رجوعه إلى النساء ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي رزين قال : هم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت فأنزل اللّه تعالى الآية أرجأ منهن نسوة وكان ممن أرجأ ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي اللّه تعالى عنهن أجمعين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر «ترجى ء» بالهمزة وهو عند الزجاج

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 239
أجود والمعنى واحد وَمَنِ ابْتَغَيْتَ أي طلبت مِمَّنْ عَزَلْتَ أي تجنبت وحمل هذا التجنب على ما كان بطلاق ، ومن شرطية منصوبة بما بعدها ، وقوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْكَ جوابها أي من طلبتها ممن طلقت فليس عليك إثم في طلبها أو موصولة والجملة خبرها أي والتي طلبتها لا جناح عليك في طلبها والمراد نفي أن يكون عليه عليه الصلاة والسلام إثم في إرجاع المطلقة ، وقيل من موصولة معطوفة على مَنْ تَشاءُ الثاني والمراد به غير المطلقة ومعنى فلا جناح عليك فلا إثم عليك في شيء مما ذكر من الأرجاء والإيواء والابتغاء والمراد تفويض ذلك إلى مشيئته صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال بعضهم : المراد به ما كان بترك مضاجعة بدون طلاق ، والمقصود من الآية بيان أن له صلّى اللّه عليه وسلم ترك مضاجعة من شاء من نسائه ومضاجعة من شاء منهن أي ممن لم يكن أرجأها وترك مضاجعتها والرجوع إلى مضاجعة من ترك مضاجعتها واعتزلها فمن عزل هي المرجأة ، وأفاد صاحب الكشاف أن الآية متضمنة قسمة جامعة لما هو الفرض لأنه صلّى اللّه عليه وسلم إما أن يطلق وإما أن يمسك وإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق وعزل فأما أن يخلي المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها وانفهام الطلاق والإمساك بأقسامه بواسطة إطلاق الأرجاء والإيواء في قوله تعالى : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي وانفهام ابتغاء المعزولة من قوله سبحانه وَمَنِ ابْتَغَيْتَ إلخ ومتى فهم أن لا جناح في ابتغاء المعزولة بالطلاق وردها إلى النكاح فهم منه أن رفع النكاح في عدم ردها من طريق الأولى ولقد أجاد فيما أفاد ، وجوز بعضهم أن يكون من مبتدأ وفي الكلام معطوف وخبر محذوفان أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن لم تعزل سواء ، وقوله سبحانه : فَلا جُناحَ عَلَيْكَ تأكيد لذلك ولا يخفى بعده وتعسفه ، وقال الحسن : معنى - ومن ابتغيت - إلخ من مات من نسائك اللواتي عندك أو خليت سبيلها فلا جناح عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك كذا في البحر ، وكأنه جعل من للبدل كالتي في قوله تعالى : أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة : 38] ومن عزلت شاملا لمن ماتت ومن طلقت وكلاهما بعيد ، وثانيهما أبعد من أولهما بكثير ومثله اعتبار ما اعتبره من القيود وبالجملة هو قول تبعد نسبته إلى الحسن ، وأبعد من ذلك نسبته إلى ترجمان القرآن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كما في الدر المنثور.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي تفويض الأمر إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وسرورهن ورضاهن جميعا لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم أن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم اللّه تعالى فتطمئن به نفوسهن ، وروي هذا عن قتادة ، والمراد بما آتيتهن عليه ما صنعت معهن فيتناول ترك المضاجعة والقسم ، وعن ابن عباس ومجاهد أن المعنى أنهن إذا علمن أن لك ردهن إلى فراشك بعد ما اعتزلتهن قرت أعينهن ولم يحزنّ ويرضين بما تفعله من التسوية والتفضيل لأنهن يعلمن أنك لم تطلقهن ، وظاهره جعل المشار إليه العلم بأن له صلّى اللّه عليه وسلم الإيواء ، وأظهر منه في ذلك قول الجبائي ذلك العلم منهن بأنك إذا عزلت واحدة كان لك أن تؤويها بعد ذلك أدنى لسرورهن وقرة أعينهن.
وقال بعض الأجلة : كون الإشارة إلى التفويض أنسب لفظا لأن ذلك للبعيد وكونها إلى الإيواء أنسب معنى لأن قرة عيونهن بالذات إنما هي بالإيواء فلا تغفل ، والأعين جمع قلة وأريد به هاهنا جمع الكثرة وكأن اختياره لأنه أوفق بكمية الأزواج ، وقرأ ابن محيصن «تقر» من أقر وفاعله ضميره صلّى اللّه عليه وسلم «أعينهنّ» بالنصب على المفعولية.
وقرىء «تقرّ» مبنيا للمفعول وأعينهن بالرفع نائب الفاعل وكُلُّهُنَّ بالرفع في جميع ذلك وهو توكيد لنون يَرْضَيْنَ.
وقرأ أبو إياس جوية بن عائذ «كلهن» بالنصب تأكيدا لضميره في «آتيتهن» قال ابن جني : وهذه القراءة راجعة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 240
إلى معنى قراءة العامة «كلّهنّ» بضم اللام وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على انفرادهن واجتماعهن فالمعنيان إذن واحد إلا أن للرفع معنى وذلك أن فيه إصراحا من اللفظ بأن يرضين كلهن ، والإصلاح في القراءة الشاذة إنما هو في إتيانهن وإن كان محصول الحال فيهما واحدا مع التأويل انتهى ، وقال الطيبي في توكيد الفاعل دون المفعول إظهار لكمال الرضا منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملا سويا ، وفي توكيد المفعول إظهار أنهن مع كمال الإيتاء غير كاملات في الرضا والأول أبلغ في المدح لأن فيه معنى التتميم وذلك أن المؤكد يرفع إيهام التجوز عن المؤكد انتهى فتأمل وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خطاب له صلّى اللّه عليه وسلم ولأزواجه المطهرات على سبيل التغليب.
والمراد بما في القلوب عام ويدخل فيه ما يكون في قلوبهن من الرضا بما دبر اللّه تعالى في حقهن من تفويض الأمر إليه صلّى اللّه عليه وسلم ومقابل ذلك وما في قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام من الميل إلى بعضهن دون بعض ، والكلام بعث على الاجتهاد في تحسين ما في القلوب ، ولعل اعتباره صلّى اللّه عليه وسلم في الخطاب لتطييب قلوبهن ، وفي الكشاف أن هذا وعيد لمن لم يرض منهن بما دبر اللّه تعالى من ذلك وفوض سبحانه إلى مشيئة رسوله عليه الصلاة والسلام وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وطيب نفسه الكريمة ، والظاهر أنه غير قائل بدخوله صلّى اللّه عليه وسلم في الخطاب ، وحينئذ فأما أن يقول : إنه عام لهن ولسائر المؤمنين وإما أن يقول بأنه خاص بهن ولعله ظاهر كلامه وعليه لا يظهر وجهه التذكير ، وربما يقال على الأول : إن المقام غير ظاهر في اقتضاء دخول سائر المؤمنين في الخطاب ، وقال ابن عطية : الإشارة بذلك هاهنا إلى ما في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ويدخل في المعنى المؤمنون ، وربما يتخيل أن الخطاب لجميع المكلفين والكلام بعث على تحسين ما في القلوب في شأن ما دبر اللّه تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم في أمر أزواجه ونفي الخواطر الرديئة بأن يظن أن ذاك هو الذي تقتضيه الحكمة وأنه دليل على كمال المحبوبية ، ولا يتوهم خلافه فإن بعض الملحدين طعنوا كالنصارى في كثرة تزوجه عليه الصلاة والسلام وكونه في أمر النساء على حال لم يبح لأمته من حل جمع ما فوق الأربع وعدم التقيد بالقسم لهن مثلا وزعموا أن في ذلك دليلا على غلبة القوة الشهوية فيه عليه الصلاة والسلام وذلك مناف لتقدس النفس الذي هو من شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فجزموا والعياذ باللّه تعالى بنفي نبوته وأن ما فعله صلّى اللّه عليه وسلم لم يكن منه تعالى
بل ليس ذلك إلا منه عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قائلي ذلك على كفرهم جهلة بمراتب الكمال صم عن سماع آثاره عليه الصلاة والسلام ومن سبر الأخبار علم أنه صلّى اللّه عليه وسلم أكمل الأنبياء على الإطلاق لغاية كمال بشريته وملكيته وآثار الكمال الأول تزوج ما فوق الأربع والطواف عليهن كلهن في الليلة الواحدة وآثار الكمال الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما كان يبيت ويصبح لا يأكل ولا يشرب وهو على غاية من القوة وعدم الاكتراث بترك ذلك وليس لأحد من الأنبياء عليهم السّلام اجتماع هذين الكمالين حسب اجتماعهما فيه عليه الصلاة والسلام ولتكثره النساء حكمة دينية جليلة أيضا وهي نشر أحكام شرعية لا تكاد تعلم إلا بواسطتهن مع تشييد أمر نبوته فإن النساء لا يكدن يحفظن سرا وهن أعلم الناس بخفايا أزواجهن فلو وقف نساؤه عليه الصلاة والسلام على أمر خفي منه يخل بمنصب النبوة لأظهرنه ، وكيف يتصور إخفاؤه بينهن مع كثرتهن. وكل سر جاوز الاثنين شاع.
وفي عدم إيجاب القسم عليه عليه الصلاة والسلام تأكيد لذلك كما لا يخفى على المنصف وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم كل ما يبدي ويخفي حَلِيماً مبالغا في الحلم فلا يعجل سبحانه بمقابلة من يفعل خلاف ما يحب حسبما يقتضيه فعله من عتاب أو عقاب أو فيصفح عما يغلب على القلب من الميول ونحوها ، هذا وفي البحر اتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعدل بين أزواجه المطهرات في القسمة حتى مات ولم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 241
يستعمل شيئا مما أبيح له ضبطا لنفسه وأخذا بالأفضل غير ما جرى لسودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال لم يعلم أن رسول اللّه أرجأ منهن شيئا ولا عزله بعد ما خيرن فاخترنه.
وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة أن رسول اللّه عليه الصلاة والسلام كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ فقيل لها : ما كنت تقولين؟ قالت : كنت أقول له إن كان ذاك إلى فإني لا أريد أن أوثر عليك أحدا فتأمله مع حكاية الاتفاق السابق واللّه تعالى الموفق.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وقد وقع بفصل أيضا ، والمراد بالنساء الجنس الشامل للواحدة ولم يؤت بمفرد لأنه لا مفرد له من لفظه والمرأة شاملة للجارية وليست بمرادة ، واختصاص النساء بالحرائر بحكم العرف ، وقرأ البصريان بالتاء الفوقية ، وسهل وأبو حاتم يخير فيهما ، وأيا كان ما كان فالمراد يحرم عليك نكاح النساء مِنْ بَعْدُ قيل أي من بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم ، أخرج ابن سعد عن عكرمة قال : لما خير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أزواجه اخترنه فأنزل اللّه تعالى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك أي لقد حرم عليك تزويج غيرهن ، وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال لما خيرهن فاخترن اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم قصره عليهن فقال سبحانه لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية حبسه اللّه تعالى عليهن كما حبسهن عليه عليه الصلاة والسلام ، وقدر بعضهم المضاف إليه المحذوف اختيارا أي من بعد اختيارهن اللّه تعالى ورسوله.
وقال الإمام : هو أولى وكأن ذلك لكونه أدل على أن التحريم كان كرامة لهن وشكرا على حسن صنيعهن.
وجوز آخر أن يكون التقدير من بعد اليوم وماله تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام.
وحكي في البحر عن ابن عباس وقتادة قال : لما خيرن فاخترن اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم جازاهن أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ونسخ سبحانه بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء ، وحكي أيضا عن مجاهد وابن جبير أن المعنى من بعد إباحة النساء على العموم ، وقيل التقدير من بعد التسع على معنى أن هذا العدد مع قطع النظر عن خصوصية المعدود نصابه صلّى اللّه عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن فالمعنى لا يحل لك الزيادة على التسع وَلا أَنْ تَبَدَّلَ أصله تتبدل فخفف بحذف إحدى التاءين أي ولا يحل لك أن تستبدل بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى ، ففي الآية حكمان حرمة الزيادة وحرمة الاستبدال ، وظاهره أنه يحل له عليه الصلاة والسلام نكاح امرأة أخرى على تقدير أن تموت واحدة من التسع ، وإذا كان المراد من الآية تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام أفادت الآية أنه لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح أخرى ، وكلام ابن عباس السابق ظاهر في ذلك جدا ، وكأن قوله تعالى : وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ عليه لدفع توهم أن المحرم ليس إلا أن يرعهن صلّى اللّه عليه وسلم بواحدة من الضرائر.
وفي رواية أخرى عن عكرمة أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء اللاتي سمي اللّه تعالى لك في قوله سبحانه : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية فلا يحل له صلّى اللّه عليه وسلم ما وراء الأجناس الأربعة كالأعرابيات والغرائب ويحل له منها ما شاء ، وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه وغيرهما عن ابن عباس ما هو ظاهر في ذلك حيث قال في الخبر وقال تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ إلى قوله سبحانه : خالِصَةً لَكَ وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء ، وأخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر والضياء في المختارة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 242
وغيرهم عن زياد قال : قلت لأبي بن كعب رضي اللّه تعالى عنه أرأيت لو أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام متن أما يحل له أن يتزوج قال : وما يمنعه من ذلك قلت : قوله تعالى : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال : إنما أحل له ضربا من النساء ووصف له صفة فقال سبحانه يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله تعالى : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إلخ ثم قال تبارك وتعالى لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة ، وعلى هذا القول قال الطيبي : يكون قوله سبحانه : وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ تأكيدا لما قبله من تحريم غير ما نص عليه من الأجناس الأربعة وكأن ضمير بهن للأجناس المذكورة في قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية والمعنى لا يحل لك أن تترك هذه الأجناس وتعدل عنها إلى أجناس غيرها ، وقال شيخ الإسلام أبو السعود عليه الرحمة بعد ما حكي القول المذكور يأباه قوله تعالى : وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ إلخ فإن معنى إحلال الأجناس المذكورة إحلال نكاحهن فيكون التبدل بهن إحلال نكاح غيرهن بدل إحلال نكاحهن وذلك إنما يتصور بالنسخ الذي هو ليس من الوظائف البشرية انتهى فتأمل ولا تغفل ، وقيل وَلا أَنْ تَبَدَّلَ من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي فينزل كل واحد منهما عن امرأته لآخر ، وروي نحوه عن ابن زيد وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية وقالوا ما فعلت العرب ذاك قط ، وما
روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حين دخل عليه بغير استئذان وعنده عائشة : من هذه الحميراء؟ فقال : عائشة فقال عيينة : يا رسول اللّه إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالا ونسبا
فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة رضي اللّه تعالى عنها لأنها كانت إذ ذاك صبية ، ومن مزيد لتأكيد الاستغراق فيشمل النهي تبدل الكل والبعض : وقوله تعالى : وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ في موضع الحال فاعل تبدل والتقدير مفروضا إعجابك بهن ، وحاصله ولا تبدل بهن من أزواج على كل حال ، وظاهر كلام بعضهم أنه لا يجوز أن يكون حالا من مفعوله أعني أزواجا وعلل ذلك بتوغله في التنكير وتعقب بأنه مخالف لكلام النحاة فإنهم جوزوا الحال من النكرة إذا وقعت منفية لأنها تستغرق حينئذ فيزول إبهامها كما صرح به الرضي.
وقيل إن التنكير مانع من الحالية هاهنا لأن الحال تقاس بالصفة والواو مانعة من الوصفية فتمنع من الحالية ومنع لزوم القياس مع أن الزمخشري وغيره جوزوا دخول الواو على الصفة لتأكيد لصوقها ، وقيل في عدم جواز ذلك إن ذا الحال إذا كان نكرة يجب تقديمها ولم تقدم هاهنا. وتعقب بأن ذلك غير مسلم في الجملة المقرونة بالواو لكونه بصورة العاطف. واستظهر صاحب الكشف الجواز وذكر أن المعنى في الحالين لا يتفاوت كثير تفاوت لأنه إذا تقيد الفعل لزم تقيد متعلقاته وإنما الاختلاف في الأصالة والتبعية ، وضمير حسنهن للأزواج والمراد بهن من يفرضن بدلا من أزواجه اللاتي في عصمته عليه الصلاة والسلام فتسميتهن أزواجا باعتبار ما يعرض مالا وهذا بناء على أن باء البدل في بهن داخلة على المتروك دون المأخوذ فلو اعتبرت داخلة على المأخوذ كان الضمير للنساء لا للأزواج ، وممن أعجبه صلّى اللّه عليه وسلم حسنهن على ما قيل أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب بعد وفاته رضي اللّه تعالى عنه ، وفي قوله سبحانه : وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ على ما نقل عن ابن عطية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها وفي الأخبار أدلة على ذلك وتفصيل الأقوال فيه في كتب الفروع. واختلف في أن الآية الدالة على عدم حل النساء له صلّى اللّه عليه وسلم هل هي محكمة أم لا. فعن أبي بن كعب وجماعة منهم الحسن وابن سيرين واختاره الطبري واستظهره أبو حيان أنها محكمة وعن علي كرّم اللّه تعالى وجهه وابن عباس وأم سلمة رضي اللّه تعالى عنهما والضحاك عليه الرحمة أنها منسوخ وروي ذلك عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها.
أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا وابن المنذر وغيرهم عنها

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 243
قالت : لم يمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حتى أحل اللّه تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم لقوله سبحانه :
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ
وهذا ظاهر في أن الناسخ قوله تعالى : تُرْجِي إلخ وهو مبني على أن المعنى تطلق من تشاء وتمسك من تشاء ، ووجه النسخ به على هذا التفسير أنه يدل بعمومه على أنه أبيح له صلّى اللّه عليه وسلم الطلاق والإمساك لكل من يريد فيدل على أن له تطليق منكوحاته ونكاح من يريد من غيرهن إذ ليس المراد بالإمساك إمساك من سبق نكاحه فقد لعموم من تشاء وقوله سبحانه : تُؤْوِي ليس مقيدا بمنهن كذا قال الخفاجي : وفي القلب منه شيء ولا بدّ على القول بأن النسخ بذلك من القول بتأخر نزوله عن نزول الآية المنسوخة إذ لا يمكن النسخ مع التقدم وهو ظاهر ولا يعكر التقدم في المصحف لأن ترتيبه ليس على حسب النزول وقال بعضهم : إن الناسخ السنة ويغلب على الظن أنها كانت فعله عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن شداد أنه قال : في قوله تعالى :
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل وقد كان ينكح بعد ما نزلت هذه الآية ما شاء ونزلت وتحته تسع نسوة ثم تزوج بعد أم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث رضي اللّه تعالى عنهما ، والظاهر على القول بأن الآية نزلت كرامة للمختارات وتطييبا لخواطرهن وشكرا لحسن صنيعهن عدم النسخ واللّه تعالى أعلم ، وقوله : إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء متصل بناء على أصل اللغة لتناوله عليه الحرائر والإماء ومنقطع بناء على العرف لاختصاصه فيه بالحرائر ولا أن تبدل بهن من أزواج كالصريح فيه.
وقال ابن عطية : إن ما إن كانت موصولة واقعة على الجنس فهو استثناء من الجنس مختار فيه الرفع على البدل من النساء ويجوز النصب على الاستثناء وإن كانت مصدرية فهي في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول انتهى ، وليس بجيد لأنه قال والتقدير إلا ملك اليمين وملك بمعنى مملوك فإذا كان بمعنى مملوك لم يصح الجزم بأنه ليس من الجنس وأيضا لا يتحتم النصب وإن فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة بل أهل الحجاز ينصبون وبنو تميم يبدلون وأيا ما كان فالظاهر حل المملوكة له صلّى اللّه عليه وسلم سواء كانت مما أفاء اللّه تعالى عليه أم لا وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي راقبا أو مراقبا والمراد كان حافظا ومطلعا على كل شيء فاحذروا تجاوز حدوده سبحانه وتخطي حلاله إلى حرامه عزّ وجلّ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ شروع في بيان بعض الحقوق على الناس المتعلقة به صلّى اللّه عليه وسلم وهو عند نسائه ، والحقوق المتعلقة بهن رضي اللّه تعالى عنهن ومناسبة ذلك لما تقدم ظاهرة ، والآية عند الأكثرين نزلت يوم تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش.
أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أنس قال : لما تزوج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلّى اللّه عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت أخبرت النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية
والنهي للتحريم ، وقوله سبحانه : إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ بتقدير باء المصاحبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالإذن.
وجوز أبو حيان كونه بتقدير باء السببية فيكون الاستثناء من أعم الأسباب أي لا تدخلوها بسبب من الأسباب إلا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 244
بسبب الإذن ، وذهب الزمخشري إلى أنه استثناء من أعم الأوقات أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم. وأورد عليه أبو حيان أن الوقوع موقع الظرف مختص بالمصدر الصريح دون المؤول فلا يقال أتيتك أن يصيح الديك وإنما يقال أتيتك صياح الديك ، ولا يخفى أن القول بالاختصاص أحد قولين للنحاة في المسألة نعم إنه الأشهر والزمخشري إمام في العربية لا يعترض عليه بمثل هذه المخالفة.
وزعم بعضهم أن الوقت مقدر في نظم الكلام فيكون محذوفا حذف حرف الجر وأن هذا ليس من باب وقوع المصدر موقع الظرف.
وأجاز بعض الأجلة كون ذلك استثناء من أعم الأحوال بلا تقدير الباء بل باعتبار أن المصدر مؤول باسم المفعول أي لا تدخلوها إلا مأذونا لكم والمصدر المسبوك قد يؤول بمعنى المفعول كما قيل في قوله تعالى : ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس : 37] إن المعنى ما كان هذا القرآن مفتري فمن قال كون المصدر بمعنى المفعول غير معروف في المؤول لم يصب ، وقيل فيما ذكر مخالفة لقول النحاة المصدر المسبوك معرفة دائما كما صرح به في المغني.
وتعقبه الخفاجي بأن الحق أنه سطحي وأنه قد يكون نكرة وذكر قوله تعالى : ما كانَ إلخ ، وقوله سبحانه :
إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن وعدي بإلى مع أنه يتعدى بفي فيقال أذن له في كذا لتضمينه معنى الدعاء للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على طعام بغير دعوة وإن تحقق الإذن الصريح في دخول البيت فإن كل إذن ليس بدعوة ، وقيل يجوز أن يكون قد تنازع فيه الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ وهو مما لا بأس به ، وقوله تعالى :
غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير منتظرين نضجه وبلوغه تقول أنى الطعام يأني أنى كقلى يقلي قلى إذا نضج وبلغ قاله الزجاج ، وقال مكي : إناه ظرف زمان مقلوب آن التي بمعنى الحين فقلبت النون قبل الألف وغيرت الهمزة إلى الكسرة أي غير ناظرين آنه أي حينه والمراد حين إدراكه ونضجه أو حين أكله حال من فاعل تدخلوا وهو حال مفرغ من أعم الأحوال كما سمعت في أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ وإذا جعل ذلك حالا فهي حال مترادفة فكأنه قيل : لا تدخلوا في حال من الأحوال إلا مصحوبين بالإذن غير ناظرين ، والظاهر أنها حال مقدرة ويحتمل أن تكون مقارنة ، والزمخشري بعد أن جعل ما تقدم نصبا على الظرفية جعل هذا حالا أيضا لكنه قال بعد وقع الاستثناء على الوقت والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين.
وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز على مذهب الجمهور من أنه لا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة المستثنى منه ثم قال وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال أجاز ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا فيجوز ما قاله الزمخشري عليه ولا يخفى على المتأمل في كلام الزمخشري أنه بعيد بمراحل عن جعل الآية الكريمة كالمثال المذكور لأنه على التأخير والتقديم وكلامه آب عن اعتبار ذلك في الآية نعم لو اقتصر على جعل غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من ضمير تَدْخُلُوا لأمكن أن يقال : إن مراده لا تدخلوا غير ناظرين إلا أن يؤذن لكم ويكون المعنى أن دخولهم غير ناظرين إناه مشروط بالإذن وأما دخولهم ناظرين فممنوع مطلقا بطريق الأولى ثم قدم المستثنى وأخر الحال. وتعقبه بعضهم بأن فيه استثناء شيئين وهما الظرف والحال بأداة واحدة وقد قال ابن مالك في التسهيل : لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان وظاهره عدم جواز ذلك سواء كان الاستثناء مفرغا أم لا وسواء كان الشيئان مما يعمل فيهما العامل المتقدم أم لا فلا يجوز قام القوم إلا زيدا عمرا ولا ما قام القوم إلا زيدا عمرا أو إلا زيد عمرو ولا ما قام إلا خالد بكر ولا ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ولا ما أعطيت إلا عمرا دانقا ولا ما أخذ أحد شيئا إلا زيد

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 245
درهما ولا ما أخذ أحد إلا زيد درهما ، والكلام في هذه المسألة وما يصح من هذه التراكيب وما لا يصح وإذا صح فعلى أي وجه يصح طويل عريض والذي أميل إليه تقييد إطلاقهم لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان بما إذا كان الشيئان لا يعمل فيهما العامل السابق قبل الاستثناء فلا يجوز ما قام إلا زيد إلا بكر مثلا إذ لا يكون للفعل فاعلان دون عطف ولا ما ضربت إلا زيدا عمرا مثلا إذ لا يكون لضرب مفعولان دون عطف أيضا ، وأرى جواز نحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ونحو ما ضرب إلا زيد عمرا من غير حاجة إلى التزام إبدال اسمين من اسمين نظير قوله :
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
في الأول وإضمار فعل ناصب لعمرو دل عليه المذكور في الثاني ، وما ذكره ابن مالك في الاحتجاج على الشبه بالعطف حيث قال : كما لا يقدر بعد حرف العطف معطوفان كذلك لا يقدر بعد حرف الاستثناء مستثنيان لا يتم علينا فإنا نقول في العطف بالجواز في مثل ما ضرب زيد عمرا وبكر خالدا قطعا فنحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا زيدا دانقا كذلك ، وقوله : إن الاستثناء في حكم جملة مستأنفة لأن معنى جاء القوم إلا زيدا جاء القوم ما منهم زيد وهو على ما قيل يقتضي أن لا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها في مثل ما ذكر لأنها بمثابة ما وليس ذلك من الصور المستثناة ليس بشيء كما لا يخفى ، وما في أمالي الكافية من أنه لا بدّ في المستثنى المفرغ من تقدير عام فلو استعمل بعد إلا شيئان فأما أن لا يقدر عام أصلا وهو يخالف حكم الباب أو يقدر عامان وهو يؤدي إلى أمر خارج عن القياس من غير ثبت ولو جاز في الاثنين جاز فيما فوقهما وهو ظاهر البطلان أو يقدر لأحدهما دون الآخر وهو يؤدي إلى اللبس فيما قصد.
تعقبه الحديثي بأن لقائل أن يختار الثالث ويقول : العام لا يقدر إلا للذي يلي إلا منهما لأنه المستثنى المفرغ ظاهرا فلا يحصل اللبس أصلا ، وأبو حيان قدر في الآية محذوفا وجعل غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من الضمير فيه والتقدير ادخلوا غير ناظرين وهو الذي يقتضيه كلام ابن مالك حيث أوجب في نحو ما ضرب إلا زيد عمرا جعل عمرا مفعولا لمحذوف دل عليه المذكور ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وقعت جوابا لسؤال نشأ من الجملة الأولى كأنه لما قيل ما ضرب إلا زيد سأل سائل من ضرب؟ فقيل : ضرب عمرا ، وذكر العلامة تقي الدين السبكي عليه الرحمة في رسالته المسماة بالحلم والأناة في إعراب غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وفيها يقول الصلاح الصفدي :
يا طالب النحو في زمان أطول ظلا من القناة
وما تحلى منه بعقد عليك بالحلم والأناة
إن الظاهر أن الزمخشري ما قال ذلك إلا تفسير معنى والمستثنى في الحقيقة هو المصدر المتعلق به الظرف والحال فكأنه قيل : لا تدخلوا إلا دخولا مصحوبا بكذا ثم قال : ولست أقول بتقدير مصدر هو عامل فيهما فإن العمل للفعل المفرغ وإنما أردت شرح المعنى ، ومثل هذا الإعراب هو الذي نختاره في قوله تعالى : وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران : 19] أي إلا اختلافا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فمن بعد ما جاءهم وبغيا ليسا مستثنيين بل وقع عليهما المستثنى وهو الاختلاف كما تقول ما قمت إلا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في دارة فكلها يعلم فيها الفعل المفرغ من جهة الصناعة وهي من جهة المعنى كالشيء الواحد لأنها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمنه الفعل المنفي وهذا أحسن من أن يقدر اختلفوا بغيا بينهم لأنه حينئذ لا يفيد الحصر وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده في قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فهو حصر في شيئين لكن بالطريق الذي قلناه لا أنه استثناء شيئين بل استثناء شيء صادق على شيئين ، ويمكن حمل كلام الزمخشري على ذلك فقوله : وقع الاستثناء على الوقت والحال معا صحيح ، إن المستثنى أعم لأن الأعم يقع على الأخص والواقع على

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 246
الواقع واقع فتخلص عما ورد عليه من قول النحاة لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان انتهى فتدبره ، وجوز أن يكون غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من المجرور في لَكُمْ ولم يذكره الزمخشري ، وفي الكشف لو جعل حالا من ذلك لأفاد ما ذكره من حيث إنه نهى عن الدخول في جميع الأوقات إلا وقت وجود الإذن المقيد ، وقال العلامة تقي الدين لم يجعل حالا من ذلك وإن كان جائزا من جهة الصناعة لأنه يصير حالا مقدرة ولأنهم لا يصيرون منهيين عن الانتظار بل يكون ذلك قيدا في الإذن وليس المعنى على ذلك بل على أنهم نهوا أن يدخلوا إلا بإذن ونهوا إذا دخلوا أن يكونوا غير ناظرين إناه فلذلك امتنع من جهة المعنى أن يكون العامل فيه يُؤْذَنَ وأن يكون حالا من مفعوله ا ه.
ولعله أبعد نظرا مما في الكشف ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالكسر على أنه صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له ، ومذهب البصريين في ذلك وجوب إبراز الضمير بأن يقال هنا غير ناظر أنتم أو غير ناظرين أنتم ولا بأس بحذفه عند الكوفيين إذا لم يقع لبس كما هنا والتخريج المذكور عليه ، وقد أمال حمزة والكسائي «إناه» بناء على أنه مصدر أني الطعام إذا أدرك ، وقرأ الأعمش «إناءة» بمدة بعد النون وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا استدراك من النهي عن الدخول بغير إذن فيه دلالة على أن المراد بالإذن إلى الطعام الدعوة إليه فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي فإذا أكلتم الطعام فتفرقوا ولا تلبثوا ، والفاء للتعقيب بلا مهلة للدلالة على أنه ينبغي أن يكون دخولهم بعد الإذن والدعوة على وجه يعقبه الشروع في الأكل بلا فصل ، والآية على ما ذهب إليه الجل من المفسرين خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي صلّى اللّه عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل فالنهي مخصوص بمن دخل بغير دعوة وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهي عن الدخول بأذن لغير طعام ولا عن الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر ، ولو اعتبر الخطاب عاما لكان الدخول واللبث المذكوران منهيا عنهما ولا قائل به ، ويؤيد ما ذكر ما أخرجه عبد بن حميد عن الربيع عن أنس رضي اللّه تعالى عنه قال : كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية وكذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال نزلت في الثقلاء ومن هنا قيل إنها آية الثقلاء ، وتقدم لك القول بجواز كون إِلى طَعامٍ قد تنازع فيه الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ والأمر عليه ظاهر.
وقال العلامة ابن كمال : الظاهر أن الخطاب عام لغير المحارم وخصوص السبب لا يصلح مخصصا على ما تقرر في الأصول ، نعم يكون وجها لتقييد الإذن بقوله تعالى إِلى طَعامٍ فيندفع وهم اعتبار مفهومه انتهى وفيه بحث فتأمل والمشهور في سبب النزول ما ذكرناه أول الكلام في الآية عن الإمام أحمد والشيخين وغيرهم فلا تغفل.
وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي لحديث بعضكم بعضا أو لحديث أهل البيت بالتسمع له فاللام تعليلية أو اللام المقوية ومُسْتَأْنِسِينَ مجرور معطوف على ناظِرِينَ ولا زائدة ، يجوز أن يكون منصوبا معطوفا على غَيْرَ كقوله تعالى : وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة : 7] وجوز أن يكون حالا مقدرة أو مقارنة من فاعل فعل حذف مع فاعله وذلك معطوف على المذكور والتقدير ولا تدخلوها أو لا تمكثوا مستأنسين لحديث إِنَّ ذلِكُمْ أي اللبث الدال عليه الكلام أو الاستئناس أو المذكور من الاستئناس والنظر أو الدخول على غير الوجه المذكور ، والأول أقوى ملاءمة للسياق والسباق كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لأنه يكون مانعا له عليه الصلاة والسلام عن قضاء بعض أوطاره مع ما فيه من تضييق المنزل عليه صلّى اللّه عليه وسلم وعلى أهله فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من إخراجكم بأن يقول لكم اخرجوا أو من منعكم عما يؤذيه على ما قيل فالكلام على تقدير المضاف لقوله تعالى :
وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فإنه يدل على أن المستحيا منه معنى من المعاني لاذواتهم ليتوارد النفي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 247
والإثبات على شيء واحد كما يقتضيه نظام الكلام فلو كان المراد الاستحياء من ذواتهم لقال سبحانه واللّه لا يستحيي منكم فالمراد بالحق إخراجهم أو المنع عن ذلك ، ووضع الحق موضعه لتعظيم جانبه وحاصل الكلام أنه تعالى لم يترك الحق وأمركم بالخروج ، والتعبير بعدم الاستحياء للمشاكلة ، وجوز أن يكون الكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل ، واعتبار تقدير المضاف مما ذهب إليه الزمخشري وكثير وهو الذي ينبغي أن يعول عليه ، وفي الكشف فإن قلت :
الاستحياء من زيد للإخراج مثلا هو الحقيقة والاستحياء من استخراجه توسع بجعل ما نشأ منه الفعل كالصلة وكلتا العبارتين صحيحة يصح إيقاع إحداهما موقع الأخرى ، قلت : أريد أنه لا بدّ من ملاحظة معنى الإخراج فإما أن يقدر الإخراج ويوقع عليه فيكثر الإضمار ولا يطابق اللفظ نفيا وإثباتا ، وإما أن يقدر المضاف فيقل ويطابق ، ومع وجود المرجح وفقد المانع لا وجه للعدول فلا بدّ مما ذكر.
وقال العلامة ابن كمال : إن قوله تعالى : فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ تعليل المحذوف دل عليه السياق أي ولا يخرجكم فيستحيي منكم ولذلك صدر بأداة التعليل ولو كان المعنى يستحيي من إخراجكم لكان حقه أن يصدر بالواو ، وفيه أن الكلام بعد تسليم ما ذكر على تقدير المضاف. وزعم بعضهم أن الأصل فيستحيي منكم من الحق واللّه لا يستحيي منكم من الحق والمراد بالحق إخراجهم على أن ذلك من الاحتباك وكلا حرفي الجر ليس بمعنى واحد بل الأول للابتداء والثاني للتعليل ، وقال : إن الحمل على ذلك هو الأنسب للإعجاز التنزيلي والاختصار القرآني ولا يخفى ما فيه.
وقرأت فرقة كما في البحر «فيستحي» بكسر الحاء مضارع استحى وهي لغة بني تميم والمحذوف إما عين الكلمة فوزنه يستفل أو لامها فوزنه يستفع ، وفي الكشاف قرىء «لا يستحي» بياء واحدة وأظن أن القراءة بياء واحدة في الفعل في الموضعين ، هذا والظاهر حرمة اللبث على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت وليس ما ذكر مختصا بما إذا كان اللبث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، ومن هنا كان الثقيل مذموما عند الناس قبيح الفعل عند الأكياس.
وعن ابن عباس وعائشة رضي اللّه تعالى عنهما حسبك في الثقلاء أن اللّه عزّ وجلّ لم يحتملهم وعندي كالثقيل المذكور من يدعى في وقت معين مع جماعة فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر كثير شرعي بل لمحض أن ينتظر ويظهر بين الحاضرين مزيد جلالته وأن صاحب البيت لا يسعه تقديم الطعام للحاضرين قبل حضوره مخافة منه أو احتراما له أو لنحو ذلك فيتأذى لذلك الحاضرون أو صاحب البيت ، وقد رأينا من هذا الصنف كثيرا نسأل اللّه تعالى العافية إن فضله سبحانه كان كبيرا وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ الضمير لنساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم المدلول عليهن بذكر بيوته عليه الصلاة والسلام أي وإذا طلبتم منهن مَتاعاً أي شيئا يتمتح به من الماعون وغيره فَسْئَلُوهُنَّ فاطلبوا منهن ذلك مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي ستر.
أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضي اللّه تعالى عنه قال : قال عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل اللّه تعالى آية الحجاب وكان رضي اللّه تعالى عنه حريصا على حجابهن وما ذاك إلا حبا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
أخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كن يخرجن بالليل إذ برزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه يقول للنبي صلّى اللّه عليه وسلم : احجب نساءك فلم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة رضي اللّه تعالى عنها ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر رضي اللّه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 248
تعالى عنه بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل اللّه تعالى الحجاب وذلك أحد موافقات عمر رضي اللّه تعالى عنه وهي مشهورة ، وعد الشيعة ما وقع منه رضي اللّه تعالى عنه في خبر ابن جرير من المثالب قالوا : لما فيه من سوء الأدب وتخجيل سودة حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وإيذائها بذلك.
وأجاب أهل السنّة بعد تسليم صحة الخبر أنه رضي اللّه تعالى عنه رأى أن لا بأس بذلك لما غلب على ظنه من ترتب الخير العظيم عليه ، ورسوله اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وإن كان أعلم منه وأغير لم يفعل ذلك انتظارا للوحي وهو اللائق بكمال شأنه مع ربه عزّ وجلّ.
وأخرج البخاري في الأدب والنسائي من حديث عائشة أنها كانت تأكل معه عليه الصلاة والسلام «1» وكان يأكل معهما بعض أصحابه فأصابت يد رجل يدها فكره النبي صلّى اللّه عليه وسلم ذلك فنزلت
، ولا يبعد أن يكون مجموع ما ذكر سببا للنزول ، ونزل الحجاب على ما أخرج ابن سعد عن أنس سنة خمس من الهجرة.
وأخرج عن صالح بن كيسان أن ذلك في ذي القعدة منها ذلِكُمْ الظاهر أنه إشارة إلى السؤال منوراء حجاب ، وقيل : هو إشارة إلى ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع من وراء حجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي أكثر تطهيرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال فإن الرؤية سبب التعلق والفتنة ، وفي بعض الآثار النظر سهم مسموم من سهام إبليس ، وقال الشاعر :
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ساء مهجته لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر
وَما كانَ لَكُمْ أي وما صح وما استقام لكم أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي تفعلوا في حياته فعلا يكرهه ويتأذى به كاللبث والاستئناس بالحديث الذي كنتم تفعلونه وغير ذلك ، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتقبيح ذلك الفعل والإشارة إلى أنه بمراحل عما يقتضيه شأنه صلّى اللّه عليه وسلم إذ في الرسالة من نفعهم المقتضي للمقابلة بالمثل دون الإيذاء ما فيها وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً من بعد وفاته أو فراقه وهو كالتخصيص بعد التعميم فإن نكاح زوجة الرجل بعد فراقه إياها من أعظم الأذى. ومن الناس من تفرط غيرته على زوجته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده وخصوصا العرب فإنهم أشد الناس غيرة.
وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قتل جارية له يحبها مخافة أن تقع في يد غيره بعد موته. وظاهر النهي أن العقد غير صحيح ، وعموم الأزواج ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المدخول بها وغيرها كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا فقال لها عليه الصلاة والسلام قبل الدخول «الحقي بأهلك» وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة. وصحح إمام الحرمين والرافعي في الصغير أن التحريم للمدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس الكندي نكح المستعيذة في زمن عمر رضي اللّه تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبر أنها لم يكن مدخولا بها فكف من غير نكير. وروي أيضا أن قتيلة بنت قيس أخت الأشعث المذكور تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت وكانت قد زوجها أخوها قبل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقبل أن يدخل بها حملها معه إلى حضرموت وتوفي عنها عليه الصلاة
___________
(1) وفي مجمع البيان للطبرسي أن مجاهدا روى عن عائشة أنها كانت تأكل مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حسيا في قعب فمر عمر فدعاه عليه الصلاة والسلام فأكل فأصابت أصبعه أصبع عائشة فقال : لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب
ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 249
والسلام فبلغ ذلك أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه فقال : هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر : ما هي من أمهات المؤمنين ما دخل بها صلّى اللّه عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب.
وقيل : لم يحتج عليه بذلك بل احتج بأنها ارتدت حين ارتد أخوها فلم تكن من أمهات المؤمنين بارتدادها وكذا هو ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المختارة منهن الدنيا كفاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في رواية ابن إسحاق والمختارة اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم كنسائه عليه الصلاة والسلام التسع اللاتي توفي عنهن.
وللعلماء في حل مختارة الدنيا للأزواج طريقان ، أحدهما طرد الخلاف ، والثاني القطع بالحل واختاره الإمام والغزالي عليهما الرحمة ، وكأن من قال بحل غير المدخول بها وبحل المختارة المذكورة حمل الأزواج على من كن في عصمته يوم نزول الآية وعلى من يشبههن ولسن إلا المدخولات بهن اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام ، وإذا حمل ذلك وأريد بقوله تعالى : مِنْ بَعْدِهِ من بعد فراقه يلزم حرمة نكاح من طلقها صلّى اللّه عليه وسلم من تلك الأزواج على المؤمنين وهو كذلك ، ومن هنا اختلف القائلون بانحصار طلاقه صلّى اللّه عليه وسلم بالثلاث فقال بعضهم : تحل له عليه الصلاة والسلام من طلقها ثلاثا من غير محلل ، وقال آخرون ، لا تحل له أبدا ، وظاهر التعبير بالأزواج عدم شمول الحكم لأمة فارقها صلّى اللّه عليه وسلم بعد وطئها.
وفي المسألة أوجه ثالثها أنها تحرم إن فارقها بالموت كمارية رضي اللّه تعالى عنها ولا تحرم إن باعها أو وهبا في الحياة.
وحرمة نكاح أزواجه عليه الصلاة والسلام من بعده من خصوصياته صلّى اللّه عليه وسلم ، وسمعت عن بعض جهلة المتصوفة أنهم يحرمون نكاح زوجة الشيخ من بعده على المريد وهو جهل ما عليه مزيد إِنَّ ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من إيذائه عليه الصلاة والسلام ونكاح أزواجه من بعده ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد كانَ عِنْدَ اللَّهِ في حكمه عزّ وجلّ عَظِيماً أي أمرا عظيما وخطبا هائلا لا يقادر قدره ، وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى اللّه عليه وسلم وإيجاب حرمته حيا وميتا ما لا يخفى.
ولذلك بالغ عزّ وجلّ في الوعيد حيث قال سبحانه : إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً مما لا خير فيه على ألسنتكم كأن تتحدثوا بنكاحهن أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً كامل العلم فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة ، وهذا دليل الجواب والأصل إن تبدوا شيئا أو تخفوه يجازكم به فإن اللّه إلخ.
وقيل هو الجواب على معنى فأخبركم أن اللّه إلخ ، وفي تعميم شَيْءٍ في الموضعين مع البرهان على المقصود من ثبوت علمه تعالى بما يتعلق بزوجاته صلّى اللّه عليه وسلم مزيد تهويل وتشديد ومبالغة الوعيد ، وسبب نزول الآية على ما قيل : إنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد صلّى اللّه عليه وسلم لنتزوجن نساءه ، وفي بعض الروايات تزوجت عائشة أو أم سلمة.
وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي عليه الصلاة والسلام : لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال : يا رسول اللّه إنها ابنة عمي واللّه ما قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : قد عرفت ذلك أنه ليس أحد أغير من اللّه تعالى وأنه ليس أحد أغير مني فمضى ثم قال عنفني من كلام ابنة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 250
عمي لأتزوجنها من بعده فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل اللّه تعالى وحج ماشيا من كلمته.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أن طلحة بن عبيد اللّه قال : لو قبض النبي صلّى اللّه عليه وسلم تزوجت عائشة فنزلت وَما كانَ لَكُمْ الآية.
قال ابن عطية : كون القائل طلحة رضي اللّه تعالى عنه لا يصح وهو الذي يغلب على ظني ولا أكاد أسلم الصحة إلا إذا سلم ما تضمنه خبر ابن عباس مما يدل على الندم العظيم ، وفي بعض الروايات أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة ما بال محمد صلّى اللّه عليه وسلم يتزوج نساءنا واللّه لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت ، ولعمري إن ذلك غير بعيد عن المنافقين وهو أبعد من العيوق عن المؤمنين المخلصين لا سيما من كان من المبشرين رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين ، ورأيت لبعض الأجلة أن طلحة الذي قال ما قال ليس هو طلحة أحد العشرة وإنما هو طلحة آخر لا يبعد منه القول المحكي وهذا من باب اشتباه الاسم فلا إشكال.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 55 إلى 73]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 251
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ استئناف لبيان من لا يجب عليهن الاحتجاب عنه ،
روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب أو نحن يا رسول اللّه نكلمهن أيضا من وراء حجاب فنزلت
،
والظاهر أن المعنى لا إثم عليهن في ترك الحجاب من آبائهن إلخ ، وروي ذلك عن قتادة ، وعن مجاهد أن المراد لا جناح عليهن في وضع الجلباب وإبداء الزينة للمذكورين ، وفي حكمهم كل ذي رحم محرم من نسب أو رضاع على ما روى ابن سعد عن الزهري ، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه عن عكرمة قال : بلغ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن عائشة رضي اللّه تعالى عنها احتجبت من الحسن رضي اللّه تعالى عنه فقال : إن رؤيته لها لحل ، ولم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الأخوة وأبناء الأخوات فإن مناط عدم لزوم الحجاب بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخئولة لما أنهن عمات لأبناء الاخوة وخالات لأبناء الأخوات ، وقال الشعبي لم يذكرا وإن كانا من المحارم لئلا يصفاها لأبنائهما وليسوا من المحارم ، وقد أخرج نحو ذلك ابن جرير وابن المنذر عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه ، وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها مخافة وصفه إياها لابنه ، وهذا القول عندي ضعيف لجريان ذلك في النساء كلهن ممن لم يكن أمهات محارم ، ولا أرى صحة الرواية عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه وَلا نِسائِهِنَّ أي النساء المؤمنات على ما روي عن ابن عباس وابن زيد ومجاهد ، والإضافة إليهن باعتبار أنهن على دينهن فيحتجبن على الكافرات ولو كتابيات ، وفي البحر دخل في نسائهن الأمهات والأخوات وسائر القرابات ومن يتصل بهن من المتصرفات لهن والقائمات بخدمتهن.
وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظاهره من العبيد والإماء ، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وإليه ذهب الإمام الشافعي ، وقال الخفاجي : مذهب أبي حنيفة أنه مخصوص بالإماء وعلى الظاهر استثنى المكاتب قال أبو حيان : إنه صلّى اللّه عليه وسلم أمر بضرب الحجاب دونه وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان وَاتَّقِينَ اللَّهَ في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به وما نهيتن عنه ، وفي البحر في الكلام حذف والتقدير اقتصرن على هذا واتقين اللّه تعالى فيه أن تتعدينه إلى غيره ، وفي نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب فضل تشديد في طلب التقوى منهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لا تخفى عليه خافية ولا تتفاوت في علمه الأحوال فيجازي سبحانه على الأعمال بحسبها ، هذا واختلف في حرمة رؤية أشخاصهن مستترات فقال بعضهم بها ونسب ذلك إلى القاضي عياض ، وعبارته فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز.
ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر رضي اللّه تعالى عنه سترتها النساء عن أن يرى شخصها وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها لتستر شخصها انتهى ، وتعقب ذلك الحافظ ابن حجر فقال : ليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن فقد كن بعد النبي صلّى اللّه عليه وسلم يحججن ويطفن وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص ا ه ، وأنا أرى أفضلية ستر الأشخاص فلا يبعد القول بندبه لهن وطلبه منهن أزيد من غيرهن ، وفي البحر ذهب عمر رضي اللّه تعالى عنه إلى أنه لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليه وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 252
الحبشة فصنعه عمر رضي اللّه تعالى عنه ، وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ كالتعليل لما أفاده الكلام السابق من التشريف العظيم الذي لم يعهد له نظير ، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار ، وذكر أن الجملة تفيد الدوام نظرا إلى صدرها من حيث إنها جملة اسمية وتفيد التجدد نظرا إلى عجزها من حيث إنها جملة فعلية فيكون مفادها استمرار الصلاة وتجددها وقتا فوقتا ، وتأكيدها بأن للاعتناء بشأن الخبر ، وقيل لوقوعها في جواب سؤال مقدر هو ما سبب هذا التشريف العظيم؟ وعبر بالنبي دون اسمه صلّى اللّه عليه وسلم على خلاف الغالب في حكايته تعالى عن أنبيائه عليهم السّلام إشعارا بما اختص به صلّى اللّه عليه وسلم من مزيد الفخامة والكرامة وعلو القدر ، وأكد ذلك الإشعار بأل التي للغلبة إشارة إلى أنه صلّى اللّه عليه وسلم المعروف الحقيق بهذا الوصف ، وقال بعض الأجلة : إن ذاك للإشعار بعلة الحكم ، ولم يعبر بالرسول بدله ليوافق ما قبله من قوله تعالى : وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ لأن الرسالة أفضل من النبوة على الصحيح الذي عليه الجمهور خلافا للعز بن عبد السلام فتعليق الحكم بها لا يفيد قوة استحقاقه عليه الصلاة والسلام للصلاة بخلاف تعليقه بما هو دونها مع وجودها فيه وهو معنى دقيق لا يتسارع إلى الاعتراض عليه ، وإضافة الملائكة للاستغراق.
وقيل : مَلائِكَتَهُ ولم يقل الملائكة إشارة إلى عظيم قدرهم ومزيد شرفهم بإضافتهم إلى اللّه تعالى وذلك مستلزم لتعظيمه صلّى اللّه عليه وسلم بما يصل إليه منهم من حيث إن العظيم لا يصدر منه إلا عظيم ، ثم فيه التنبيه على كثرتهم وأن الصلاة من هذا الجمع الكثير الذي لا يحيط بمنتهاه غير خالقه واصلة إليه صلّى اللّه عليه وسلم على ممر الأيام والدهور مع تجددها كل وقت وحين ، وهذا أبلغ تعظيم وأنهاه وأشمله وأكمله وأزكاه.
واختلفوا في معنى الصلاة من اللّه تعالى وملائكته عليهم السلام على نبيه صلّى اللّه عليه وسلم على أقوال فقيل : هي منه عزّ وجلّ ثناؤه عليه عند ملائكته وتعظيمه ، ورواه البخاري عن أبي العالية وغيره عن الربيع بن أنس وجرى عليه الحليمي في شعب الإيمان ، وتعظيمه تعالى إياه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء العمل بشريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتقديمه على كافة المقربين الشهود ، وتفسيرها بذلك لا ينافي عطف غيره كالآل والأصحاب عليه لأن تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به ، وهي من الملائكة الدعاء له عليه الصلاة والسلام على ما رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية ، وقيل : هي منه تعالى رحمته عزّ وجلّ ، ونقله الترمذي عن الثوري وغير واحد من أهل العلم ونقل عن أبي العالية أيضا ، وعن الضحّاك وجرى عليه المبرد وابن الأعرابي والإمام الماوردي وقال : إن ذلك أظهر الوجوه.
واعترض بما مر عند الكلام في قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب : 43] والجواب هو الجواب ، وبأن الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم سألوا كما سيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى لما نزلت عن كيفية الصلاة فلو لم يكونوا فهموا المغايرة بينها وبين الرحمة ما سألوا عن كيفيتها مع كونهم علموا الدعاء بالرحمة في التشهد.
وأجيب بأنها رحمة خاصة فسألوا عن الكيفية ليحيطوا علما بذلك الخصوص ، وهي من الملائكة كما سمعت أولا ، ويلزم على هذا وذلك استعمال اللفظ في معنيين ولا يجوزه كثير كالحنفية ، والقائلون بأحد القولين الذين لا يجوزون الاستعمال المذكور اختلفوا في التقصي عن ذلك في الآية فقال بعضهم : في الآية حذف والأصل إن اللّه يصلي وملائكته يصلون فيكون قد أدى كل معنى بلفظ ، وقال آخر : تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد ، وقال صدر الشريعة ويجوز أن يكون المعنى واحدا حقيقيا وهو الدعاء والمعنى واللّه تعالى أعلم أنه تعالى يدعو ذاته والملائكة بإيصال الخير وذلك في حقه تعالى بالرحمة وفي حق الملائكة بالاستغفار ، وفيه دغدغة لا تخفى ، وقال جمع من المحققين :
يتقصى عن ذلك بعموم المجاز فيراد معنى مجازي عام يكون كل من المعاني فردا حقيقيا له وهو الاعتناء بما فيه خيره

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 253
صلّى اللّه عليه وسلم وصلاح أمره وإظهار شرفه وتعظيم شأنه أو الترحم والانعطاف المعنوي.
وقال بعض الأجلة : إن معنى الصلاة يختلف باعتبار حال المصلي والمصلّى له والمصلّى عليه ، والأولى أنها موضوعة هنا للقدر المشترك وهو الاعتناء بالمصلّى عليه أو إرادة وصول الخير ، وقال آخر : الصواب أن الصلاة لغة بمعنى واحد وهو العطف ثم هو بالنسبة إليه تعالى الرحمة وإلى الملائكة عليهم السّلام الاستغفار وإلى الآدميين الدعاء.
وتعقب بأن العطف بمعناه الحقيقي مستحيل عليه تعالى فيلزم من اعتباره مسندا إليه تعالى وإلى الملائكة عليهم السّلام ما يلزم. وأجيب بأنا لا نسلم الاستحالة إلا إذا كان العطف في الغائب كالعطف في الشاهد لا يتحقق إلا بقلب ونحوه من صفات الأجسام المستحيلة عليه سبحانه ، ونحن من وراء المنع فكثير مما في الشاهد شيء وهو في اللّه تعالى وراء ذلك ويسند إليه سبحانه على الحقيقة كالسمع والبصر وكذا الإرادة.
وقد ذهب السلف إلى عدم تأويل الرحمة فيه تعالى بأحد التأويلين المشهورين مع أنها في الشاهد لا تتحقق إلا بما يستحيل عليه تعالى ولو أوجب ذلك التأويل لم يبق بأيدينا غير محتاج إليه إلا قليل ، وقد تقدم ما يتعلق بهذا المطلب في غير موضع من هذا الكتاب ، وقد يختار أن الصلاة هنا تعظيم لشأنه صلّى اللّه عليه وسلم يقارنه عطف لائق به تعالى وبملائكته ، وإذا انسحبت عليه عليه الصلاة والسّلام وعلى أحد من المؤمنين تعلقت بكل حسبما يليق به ، وجمع اللّه سبحانه والملائكة في ضمير واحد لا ينافي
قوله عليه الصلاة والسّلام لمن قال : من يطع اللّه ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص اللّه ورسوله»
لأن ذلك منه تعالى محض تشريف للملائكة عليهم السّلام لا يتوهم منه نقص ولذا قيل إذا صدر مثله عن معصوم قيل كما في
قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما»
وقال بعضهم : لا بأس بذلك مطلقا ، وذم الخطيب لأنه وقف على يعصهما وسكت سكتة واستدل بخبر لأبي داود ، وقيل يقبح إذا كان في جملتين كما في كلام الخطيب ولا يقبح إذا كان في واحدة كما في الآية وكلام الحبيب عليه الصلاة والسّلام وفيه بحث. وقرأ ابن عباس وعبد الوارث عن أبي عمرو «وملائكته» بالرفع فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على محل إن واسمها ، والفراء يشترط في العطف على ذلك خفاء إعراب اسم إن كما في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة : 69] وكما في قول الشاعر :
ومن يك أمسى في المدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وهل خفاء الإعراب شامل للاسم المقصور والمضاف للياء أو خاص بالمبني فيه خلاف ، وعند البصريين والفراء هو مبتدأ وجملة يُصَلُّونَ خبره وخبر إن محذوف ثقة بدلالة ما بعد عليه أي إن اللّه يصلي وملائكته يصلون يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أي عظموا شأنه عاطفين عليه فإنكم أولى بذلك. وظاهر سوق الآية أنه لإيجاب اقتدائنا به تعالى فيناسب اتحاد المعنى مع اتحاد اللفظ ، وقراءة ابن مسعود صلوا عليه كما صلّى عليه وكذا قراءة الحسن فصلوا عليه أظهر فيما ذكر فيبعد تفسير صلوا عليه بقولوا : اللهم صلّ على النبي أو نحوه.
ومن فسره بذلك أراد أن المراد بالتعظيم المأمور به ما يكون بهذا اللفظ ونحوه مما يدل على طلب التعظيم لشأنه عليه الصلاة والسّلام من اللّه عزّ وجلّ لقصور وسع المؤمنين عن أداء حقه عليه الصلاة والسّلام.
وما جاء في الأخبار إرشاد إلى كيفية ذلك وصفته لا أنه تفسير للفظ صلوا ، وجاء ذلك على عدة أوجه والجمع ظاهر.
أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 254
وابن ماجه وابن مردويه عن كعب بن عجرة رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رجل : يا رسول اللّه أما السّلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال : «قل اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وأخرج الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول اللّه كيف نصلي عليك؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «قولوا اللهم صلي على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد»
وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قلنا : يا رسول اللّه هذا السّلام عليك قد علمنا فكيف الصلاة عليك؟ قال : «قولوا اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم».
وأخرج النسائي وغيره عن أبي هريرة ، أنهم سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كيف نصلي عليك. قال : «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسّلام كما قد علمتم»
وأخرج الإمام أحمد. وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن بريدة رضي اللّه تعالى عنه قال : قلنا يا رسول اللّه قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال : «قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم إنك حميد مجيد»
إلى غير ذلك مما ملئت منه كتب الحديث إلا أن في بعض الروايات المذكورة فيها مقالا ، والظاهر من السؤال أنه سؤال عن الصفة كما أشرنا إليه قبل وهو الذي رجحه الباجي وغيره وجزم به القرطبي وقيل : إنه سؤال عن معنى الصلاة وبأي لفظ تؤدى والحامل لهم على السؤال على هذا أن السّلام لما ورد في التشهد بلفظ مخصوص فهموا أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص ولم يفروا إلى القياس لتيسر الوقوف على النص سيما والأذكار يراعى فيها اللفظ ما أمكن فوقع الأمر كما فهموه فإنه لم يقل عليه الصلاة والسّلام كالسلام بل علمهم صفة أخرى كذا قيل ويقال على الأول : إنهم لما سمعوا الأمر بالصلاة بعد سماع أن اللّه عزّ وجلّ وملائكته عليهم السّلام يصلون عليه صلّى اللّه عليه وسلم وفهموا أن الصلاة منه عزّ وجلّ ومن ملائكته عليه عليه الصلاة والسّلام نوع من تعظيم لائق بشأن ذلك النبي الكريم عليه من اللّه تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم لم يدروا ما اللائق منهم من كيفيات تعظيم ذلك الجناب وسيد ذوي الألباب صلّى اللّه عليه وسلم صلاة وسلاما يستغرقان الحساب فسألوا عن كيفية ذلك التعظيم فأرشدهم عليه الصلاة والسّلام إلى ما علم أنه أولى أنواعه وهو بهم رؤوف رحيم
فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «قولوا اللهم صلّ محمد»
إلى آخر ما في بعض الروايات الصحيحة ، وفيه إيماء إلى أنكم عاجزون عن التعظيم اللائق بي فاطلبوه من اللّه عزّ وجلّ لي.
ومن هنا يعلم أن الآتي بما أمر به من طلب الصلاة له صلّى اللّه عليه وسلم عزّ وجلّ آت بأعظم أنواع التعظيم لتضمنه الإقرار بالعجز عن التعظيم اللائق ، وقد قيل ونسب إلى الصديق رضي اللّه تعالى عنه العجز عن درك الإدراك إدراك. ويقرب في الجملة مما ذكرنا قول بعض الأجلة ونقله أبو اليمن بن عساكر وحسنه لما أمرنا اللّه تعالى بالصلاة على نبيه صلّى اللّه عليه وسلم لم نبلغ معرفة فضلها ولم ندرك حقيقة مراد اللّه تعالى فيه فأحلنا ذلك إلى اللّه عزّ وجلّ فقلنا اللهم صل أنت على رسولك لأنك أعلم بما يليق به وبما أردته له صلّى اللّه عليه وسلم انتهى ، ولعل ما ذكرناه ألطف منه ، ومقتضى ظاهر إرشاده صلّى اللّه عليه وسلم إياهم إلى طلب الصلاة عليه من اللّه تعالى شأنه أنه لا يحصل امتثال الأمر إلا بما فيه طلب ذلك منه عزّ وجلّ ويكفي اللهم صل على محمد لأنه الذي اتفقت عليه الروايات في بيان الكيفية ، وكأن خصوصية الإنشاء لفظا ومعنى غير لازمة ، ولذا قال بعض من أوجبها في الصلاة وستعلمه إن شاء اللّه تعالى : إنه كما يكفي اللهم صلّ على محمد ، ولا يتعين اللفظ الوارد

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 255
خلافا لبعضهم يكفي صلّى اللّه على محمد على الأصح بخلاف الصلاة على رسول اللّه فإنه لا يجزي اتفاقا لأنه ليس فيه إسناد الصلاة إلى اللّه تعالى فليس في معنى الوارد. وفي تحفة ابن حجر يكفي الصلاة على محمد إن نوى بها الدعاء فيما يظهر ، وقال النيسابوري : لا يكفي صليت على محمد لأن مرتبة العبد تقصر عن ذلك بل يسأل ربه سبحانه أن يصلي عليه عليه الصلاة والسّلام وحينئذ فالمصلي عليه حقيقة هو اللّه تعالى ، وتسمية العبد مصليا عليه مجاز عن سؤاله الصلاة من اللّه تعالى عليه صلّى اللّه عليه وسلم فتأمله.
وذكروا أن الإتيان بصيغة الطلب أفضل من الإتيان بصيغة الخبر. وأجيب عن إطباق المحدثين على الإتيان بها بأنه مما أمرنا به من تحديث الناس بما يعرفون إذ كتب الحديث يجتمع عند قراءتها أكثر العوام فخيف أن يفهموا من صيغة الطلب أن الصلاة عليه صلّى اللّه عليه وسلم لم توجد من اللّه عزّ وجلّ بعد وإلا لما طلبنا حصولها له عليه صلاة اللّه تعالى وسلامه فأتى بصيغة يتبادر إلى أفهامهم منها الحصول وهي مع إبعادها إياهم من هذه الورطة متضمنة للطلب الذي أمرنا به انتهى ، ولا يخفى ضعفه فالأولى أن يقال : إن ذلك لأن تصليتهم في الأغلب في أثناء الكلام الخبري نحو قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم كذا وفعل صلّى اللّه عليه وسلم كذا فأحبوا أن لا يكثر الفصل وأن لا يكون الكلام على أسلوبين لما في ذلك من الخروج عن الجادة المعروفة إذ قلما تجد في الفصيح توسط جملة دعائية إلا وهي خبرية لفظا مع احتمال تشوش ذهن السامع وبطء فهمه وحسن الإفهام مما تحصل مراعاته فتدبر.
والظاهر أنه لا يحصل الامتثال بأللهم عظم محمدا التعظيم اللائق ونحوه مما ليس فيه مشتق من الصلاة كصلّ وصلّى فإنا لم نسمع أحدا عد قائل ذلك مصليا عليه صلّى اللّه عليه وسلم وذلك في غاية الظهور إذا كان قولوا اللهم صل على محمد تفسيرا لقوله تعالى : صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي وقولوا والسّلام عليك أيها النبي ونحوه وهذا ما عليه أكثر العلماء الأجلة ، وفي معنى السّلام عليك ثلاثة أوجه ، أحدها السلامة من النقائص والآفات لك ومعك أي مصاحبة وملازمة فيكون السّلام مصدرا بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة والملام والملامة ولما في السّلام من الثناء عدي بعلى لا لاعتبار معنى القضاء أي قضى اللّه تعالى عليك السّلام كما قيل لأن القضاء كالدعاء لا يتعدى بعلى للنفع ولا لتضمنه معنى الولاية والاستيلاء لبعده في هذا الوجه ، ثانيها السّلام مداوم على حفظك ورعايتك ومتولّ له وكفيل به ويكون السّلام هنا اسم اللّه تعالى ، ومعناه على ما اختاره ابن فورك وغيره من عدة أقوال ذو السلامة من كل آفة ونقيصة ذاتا وصفة وفعلا ، وقيل : إذا أريد بالسلام ما هو من أسمائه تعالى فالمراد لا خلوت من الخير والبركة وسلمت من كل مكروه لأن اسم اللّه تعالى إذا ذكر على شيء أفاده ذلك.
وقيل : الكلام على هذا التقدير على حذف المضاف أي حفظ اللّه تعالى عليك والمراد الدعاء بالحفظ ، وثالثها الانقياد عليك على أن السّلام من المسالمة وعدم المخالفة ، والمراد الدعاء بأن يصير اللّه تعالى العباد منقادين مذعنين له عليه الصلاة والسّلام ولشريعته وتعديته بعلى قيل : لما فيه من الإقبال فإن من انقاد لشخص وأذعن له فقد أقبل عليه ، والأرجح عندي هو الوجه الأول ، وقيل : معنى سَلِّمُوا تَسْلِيماً انقادوا لأوامره صلّى اللّه عليه وسلم انقيادا وهو غير بعيد إلا أن ظواهر الأخبار والآثار تقتضي المعنى السابق وكأنه لذلك ذهب إليه الأكثرون ، والجملة صيغة خبر معناها الدعاء بالسلامة وطلبها منه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم واستشكل ذلك فيما إذا قال اللّه تعالى السّلام عليك أيها النبي أو نحوه بأن الدعاء لا يتصور منه عزّ وجلّ لأنه طلب وهو يتضمن طالبا ومطلوبا ومطلوبا منه وهي أمور متغايرة فإن كان طلبه سبحانه السلامة لنبيه عليه الصلاة والسّلام من غيره تعالى فمحاليته من أجلى البديهيات ، وإن كان من ذاته عزّ وجلّ لزم أن يغاير ذاته والشيء لا يغاير ذاته ضرورة ، وهذا منشأ قول بعضهم : إن في السّلام منه تعالى إشكالا له شأن فينبغي الاعتناء به وعدم إهمال أمره فقل من يدرك سره.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 256
وأجيب بأن الطلب من باب الإرادات والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئا فكذلك يريد من نفسه أن يفعله هو والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها وهي كالجنس له فكما يعقل أن المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب منها إذ لا فرق بين الطلب والإرادة ، والحاصل أن طلب الحق جل وعلا من ذاته أمر معقول يعلمه كل واحد من نفسه بدليل أنه يأمرها وينهاها قال سبحانه : إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف : 53] وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [النازعات : 40] والأمر والنهي قسمان من الطلب وقد تصورا من الإنسان لنفسه بالنص فكذا بقية أقسام الطلب وأنواعه ، وأوضح من هذا أن الطلب منه تعالى بمعنى الإرادة وتعقل إرادة الشخص من ذاته شيئا بناء على التغاير الاعتباري ومثله يكفي في هذا المقام ، ومعنى اللهم سلم على النبي اللهم قل السلام على النبي على ما قيل ، وقيل : معناه اللهم أوجد أو حقق السلامة له ، وقيل : اللهم سلمه من النقائص والآفات.
وقال بعض المعاصرين : إن السلام عليك ونحوه من اللّه عزّ وجلّ لإنشاء السلامة وإيجادها بهذا اللفظ نظير ما قالوه في صيغ العقود واختار أن معنى اللهم سلم على النبي اللهم أوجد السلامة أو حققها له دون قل السلام على النبي تقليلا للمسافة فتدبر ، وقد يكون السلام منه عزّ وجلّ على أنبيائه عليهم السّلام نحو قوله سبحانه : سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات : 79]. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات : 109] سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ [الصافات : 120] تنبيها على أنه جل شأنه جعلهم بحيث يدعى لهم ويثنى عليهم ، ونصب تَسْلِيماً على أنه مصدر مؤكد ، وأكد سبحانه التسليم ولم يؤكد الصلاة قيل لأنها مؤكدة بإعلامه تعالى أنه يصلي عليه وملائكته ولا كذلك التسليم فحسن تأكيده بالمصدر إذ ليس ثم ما يقوم مقامه.
وإلى هذا يؤول قول ابن القيم التأكيد فيهما «1» وإن اختلف جهته فإنه تعالى أخبر في الأول بصلاته وصلاة ملائكته عليه مؤكدا له بأن وبالجمع المفيد للعموم في الملائكة وفي هذا من تعظيمه صلّى اللّه عليه وسلم ما يوجب المبادرة إلى الصلاة عليه من غير توقف على الأمر موافقة للّه تعالى وملائكته في ذلك ، وبهذا استغنى عن تأكيد «يصلي» بمصدر ولما خلا السلام عن هذا المعنى وجاء في حيز الأمر المجرد حسن تأكيده بالمصدر تحقيقا للمعنى وإقامة لتأكيد الفعل مقام تقريره وحينئذ حصل لك التكرير في الصلاة خبرا وطلبا كذلك حصل لك التكرير في السلام فعلا ومصدرا ، وأيضا هي مقدمة عليه لفظا والتقديم يفيد الاهتمام فحسن تأكيد السلام لئلا يتوهم قلة الاهتمام به لتأخره ، وقيل : إن في الكلام الاحتباك والأصل صلوا عليه تصلية وسلموا عليه تسليما فحذف عليه من إحدى الجملتين والمصدر من الأخرى وأضيفت الصلاة إلى اللّه تعالى وملائكته دون السلام وأمر المؤمنون بهما قيل لأن للسلام معنيين التحية والانقياد فأمرنا بهما لصحتهما هنا ، ولم يضف للّه سبحانه والملائكة لئلا يتوهم إنه في اللّه تعالى والملائكة بمعنى الانقياد المستحيل في حقه تعالى وكذا في حق الملائكة ، وقيل الصلاة من اللّه سبحانه والملائكة متضمنة للسلام بمعنى التحية الذي لا يتصور غيره فكان في إضافة الصلاة إليه تعالى وإلى الملائكة استلزام لوجود السلام بهذا المعنى ، وأما الصلاة منا فهي وأن استلزمت التحية أيضا إلا أنا مخاطبون بالانقياد وهي لا تستلزمه فاحتيج إلى التصريح به فينا لأن الصلاة لا تغني عن معنييه المتصورين في حقنا المطلوبين منا ، ثم قيل : وهذا أولى مما قبله لأن ذلك يرد عليه قوله تعالى : سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد : 23 ، 24] ولا يرد هذان على هذا ا ه ، وفيه بحث.
___________
(1) مبتدأ وخبر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 257
وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة : قد لاح لي في ترك تأكيد السلام وتخصيصه بالمؤمنين نكتة سرية وهي أن السلام عليه عليه الصلاة والسلام تسليمه عما يؤذيه فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلّى اللّه عليه وسلم والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم فناسب التخصيص بهم والتأكيد ، وربما يقال على بعد في ذلك : إنه يمكن أن يكون سلام اللّه تعالى وملائكته عليه عليه الصلاة والسلام معلوما للمؤمنين قبل نزول الآية فلم يذكر ويسلمون فيها لذلك وأن كونهم مأمورين بأن يسلموا عليه صلّى اللّه عليه وسلم كان أيضا معلوما لهم ككيفية السلام ويؤذن بهذه المعلومية ما ورد في عدة أخبار أنهم قالوا عند نزول الآية : يا رسول اللّه قد علمنا كيف نسلم عليك وعنوا بذلك على ما قيل ما في التشهد من السلام فلما أخبروا بصلاة اللّه تعالى وملائكته عليه صلّى اللّه عليه وسلم في الآية مجردة عن ذكر السلام وأردف ذلك بالأمر بالصلاة كان مظنة عدم الاعتناء بأمر السلام أو أنه نسخ طلبه منهم فأمروا به مؤكدا دفعا لتوهم ذلك واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحلا ، والأمر في الآية عند الأكثرين للوجوب بل ذكر بعضهم إجماع الأئمة والعلماء عليه ، ودعوى محمد بن جرير الطبري أنه للندب بالإجماع مردودة أو مؤولة بالحمل على ما زاد على مرة واحدة في العمر فقد قال القرطبي المفسر :
لا خلاف في وجوب الصلاة في العمر مرة ، وتفصيل الكلام في أمرها بعد إلغاء القول بندبها أن العلماء اختلفوا فيها فقيل : واجبة مرة في العمر ككلمة التوحيد لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا والماهية تحصل بمرة وعليه جمهور الأمة منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما ، وقيل : واجبة في التشهد مطلقا ، وقيل : واجبة في مطلق الصلاة ، وتفرد بعض الحنابلة بتعين دعاء الافتتاح بها.
وقيل : يجب الإكثار منها من غير تعيين بعدد وحكي ذلك عن القاضي أبي بكر بن بكير ، وقيل : تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره صلّى اللّه عليه وسلم مرارا ، وقيل : تجب في كل دعاء ، وقيل : تجب كلما ذكر عليه الصلاة والسلام وبه قال جمع من الحنفية منهم الطحاوي ، وعبارته تجب كلما سمع ذكره من غيره أو ذكره بنفسه وجمع من الشافعية منهم الإمام الحليمي والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني والشيخ أبو حامد الإسفرايني. وجمع من المالكية منهم الطرطوشي وابن العربي والفاكهاني وبعض الحنابلة قيل وهو مبني على القول الضعيف في الأصول أن الأمر المطلق يفيد التكرار وليس كذلك بل له أدلة أخرى كالأحاديث التي فيها الدعاء بالرغم والأبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء وغير ذلك مما يقتضي الوعيد وهو عند الأكثر من علامات الوجوب. واعترض هذا القول كثيرون بأنه مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله إذ لم يعرف عن صحابي ولا تابعي وبأنه يلزم على عمومه أن لا يتفرغ السامع لعبادة أخرى وأنها تجب على المؤذن وسامعه والقارئ المار بذكره والمتلفظ بكلمتي الشهادة وفيه من الحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه ، وبأن الثناء على اللّه تعالى كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به ، وبأنه لا يحفظ عن صحابي أنه قال : يا رسول اللّه صلى اللّه عليك ، وبأن تلك الأحاديث المحتج بها للوجوب خرجت مخرج المبالغة في تأكد ذلك وطلبه وفي حق من اعتاد ترك الصلاة ديدنا.
ويمكن التقصي عن جميع ذلك ، أما الأول فلأن القائلين بالوجوب من أئمة النقل فكيف يسعهم خرق الإجماع على أنه لا يكفي في الرد عليهم كونه لم يحفظ عن صحابي أو تابعي وإنما يتم الرد إن حفظ إجماع مصرح بعدم الوجوب كذلك وأني به ، وأما الثاني فممنوع بل يمكن التفرغ لعبادات أخر ، وأما الثالث فللقائلين بالوجوب التزامه وليس فيه حرج ، وأما الرابع فلأن جمعا صرحوا بالوجوب في حقه تعالى أيضا ، وأما الخامس فلأنه ورد في عدة طرق عن عدة من الصحابة أنهم لما قالوا : يا رسول اللّه قالوا : صلى اللّه عليك ، وأما السادس فلأن حمل الأحاديث على ما ذكر لا يكفي إلا مع بيان سنده ولم يبينوه ، ثم القائلون بالوجوب كما ذكر أكثرهم على أن ذلك فرض عين على كل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 258
فرد فرد وبعضهم على أنه فرض كفاية ، واختلفوا أيضا هل يتكرر الوجوب بتكرر ذكره صلّى اللّه عليه وسلم في المجلس الواحد ، وفي بعض شروح الهداية يكفي مرة على الصحيح وقال صاحب المجتبى : يتكرر وفي تكرر ذكر اللّه تعالى لا يتكرر ، وفرق هو وغيره بينهما بما فيه نظر ويمكن الفرق بأن حقوق اللّه تعالى مبنية على المسامحة والتوسعة وحقوق العباد مبنية على المشاحة والتضييق ما أمكن. والقول بأنها أيضا حق اللّه تعالى لأمره بها سبحانه ناشئ من عدم فهم المراد بحقه تعالى ، وقيل : إنها تجب في القعود آخر الصلاة بين التشهد وسلام التحلل وهذا هو مذهب الشافعي الذي صح عنه ، ونقل الأسنوي أن له قولا آخر إنها سنة في الصلاة لم يعتبره أجلة أصحابه ووافقه على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم وفقهاء الأمصار ، فمن الصحابة ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال : يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ثم يدعو لنفسه ، وأبو مسعود البدري وابن عمر فقد صح عنهما أنه لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة على النبي صلّى اللّه عليه وسلم فإن نسيت من ذلك شيئا فاسجد سجدتين بعد السلام ، ومن التابعين الشعبي فقد صح عنه كنا نعلم التشهد فإذا قال : وأن محمدا عبده ورسوله يحمد ربه ويثني عليه ثم يصلي على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ثم يسأل حاجته.
وأخرج البيهقي عنه من لم يصل على النبي صلّى اللّه عليه وسلم في التشهد فليعد صلاته أو قال : لا تجزىء صلاته ، والإمام أبو جعفر محمد الباقر فقد روى البيهقي عنه نحو ما ذكر عن الشعبي ، وصوبه الدارقطني ومحمد بن كعب القرظي ومقاتل بل قال الحافظ ابن حجر : لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن إبراهيم النخعي وهذا يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب ، ومن فقهاء الأمصار أحمد فإنه جاء عنه روايتان والظاهر أن رواية الوجوب هي الأخيرة فإنه قال : كنت أتهيب ذلك ثم تبينت فإذا الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه وسلم واجبة وإسحاق بن راهويه فقد قال في آخر الروايتين عنه : إذا تركها عمدا بطلت صلاته أو سهوا رجوت أن تجزئه وهو قول عند المالكية اختاره ابن العربي منهم ولعله لازم للقائلين بوجوبها كلما ذكر صلّى اللّه عليه وسلم لتقدم ذكره في التشهد إلا أن وجوبها بعد التشهد لذلك لا يستلزم كونها شرطا لصحة الصلاة إلا أنه يرد على القائلين بأن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه شذ في قوله بالوجوب ، وأما دليله رضي اللّه تعالى عنه على ذلك فمذكور في الأم. وقد استدل له أصحابه بعدة أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف وألفوا الرسائل في الانتصار له والرد على من شنع عليه كابن جرير وابن المنذر والخطابي والطحاوي وغيرهم ، وأنا أرى التشنيع على مثل هذا الإمام شنيعا والتعصب مع قلة التتبع أمرا فظيعا ، والكلام في السلام كالكلام في الصلاة.
وقد صرح ابن فارس اللغوي بأنهما سيان في الفرضية لأن كلا منهما مأمور به في الآية والأمر للوجوب حقيقة إلا إذا ورد ما يصرفه عنه. وأفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلّى اللّه عليه وسلم ما علمه رسول اللّه عليه الصلاة والسلام لأصحابه بعد سؤالهم إياه لأنه لا يختار صلّى اللّه عليه وسلم لنفسه إلا الأشرف والأفضل ، ومن هنا قال النووي في الروضة : لو حلف ليصلين على النبي صلّى اللّه عليه وسلم أفضل الصلاة لم يبر إلا بتلك الكيفية ، ووجهه السبكي بأن من أتى بها فقد صلى الصلاة المطلوبة بيقين وكان له الخير الوارد في أحاديث الصلاة كذلك ، ونقل الرافعي عن المروزي أنه يبر بأللهم صل على محمد وآل محمد كلما ذكرك الذاكرون وكلما سها عنه الغافلون ، وقال القاضي حسين : طريق البر اللهم صلّ على محمد كما هو أهله ومستحقه ، واختار البارزي أن الأفضل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد أفضل صلواتك وعدد معلوماتك ، وقال الكمال بن الهمام : كلما ذكر من الكيفيات موجود في اللهم صل أبدا أفضل صلواتك على سيدنا عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وسلم عليه تسليما وزده شرفا وتكريما وأنزله المنزل المقرب عندك يوم القيامة ، واختار ابن حجر الهيثمي غير ذلك ، ونقل ابن عرفة عن ابن عبد السلام أنه لا بدّ في السلام عليه صلّى اللّه عليه وسلم أن يزيد تسليما كأن يقول : اللهم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 259
صل على محمد وسلم تسليما أو صلى اللّه تعالى عليه وسلم تسليما ، وكأنه أخذ بظاهر ما في الآية وليس أخذا صحيحا كما يظهر بأدنى تأمل ، ونقل عن جمع من الصحابة ومن بعدهم أن كيفية الصلاة عليه صلّى اللّه عليه وسلم لا يوقف فيها مع المنصوص وأن من رزقه اللّه تعالى بيانا فأبان عن المعاني بالألفاظ الفصيحة المباني الصريحة المعاني مما يعرب عن كمال شرفه صلّى اللّه عليه وسلم وعظيم حرمته فله ذلك ، واحتج له بما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن ماجة وابن مردويه عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال : إذا صليتم على النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قالوا : فعلمنا؟ قال : قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وفي قوله سبحانه :
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً رمز خفي فيما أرى إلى مطلوبية تحسين الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام حيث أتى به كلاما يصلح أن يكون شطرا من البحر الكامل فتدبره فإني أظن أنه نفيس ، واستدل النووي رحمة اللّه تعالى بالآية على كراهة أفراد الصلاة عن السلام وعكسه لورود الأمر بهما معا فيها ووافقه على ذلك بعضهم ، واعترض بأن أحاديث التعليم تؤذن بتقدم تعليم التسليم على تعليم الصلاة فيكون قد أفرد التسليم مرة قبل الصلاة في التشهد. ورد بأن الإفراد في ذلك الزمن لا حجة فيه لأنه لم يقع منه عليه الصلاة والسلام قصدا كيف والآية ناصة عليهما وإنما يحتمل أنه علمهم السلام وظن أنهم يعلمون الصلاة فسكت عن تعليمهم إياها فلما سألوه أجابهم صلّى اللّه عليه وسلم لذلك وهو كما ترى ، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن الحق أن المراد بالكراهة خلاف الأولى إذ لم يوجد مقتضيها من النهي المخصوص.
ونقل الحموي من أصحابنا عن منية المفتي أنه لا يكره عندنا أفراد أحدهما عن الآخر ثم قال نقلا عن العلامة ميرك وهذا الخلاف في حق نبينا صلّى اللّه عليه وسلم وأما غيره من الأنبياء عليهم السّلام فلا خلاف في عدم كراهة الافراد لأحد من العلماء ومن ادعى ذلك فعليه أن يورد نقلا صريحا ولا يجد إليه سبيلا انتهى.
وصرح بعضهم أن الكراهة عند من يقول بها إنما هي في الافراد لفظا وأما الافراد خطا كما وقع في الأم فلا كراهة فيه ، وعندي أن الاستدلال بالآية على كراهة الأفراد حسبما سمعت في غاية الضعف إذ قصارى ما تدل عليه أن كلا من الصلاة والتسليم مأمور به مطلقا ولا تدل على الأمر بالإتيان بهما في زمان واحد كأن يؤتى بهما مجموعين معطوفا أحدهما على الآخر فمن صلى بكرة وسلم عشيا مثلا فقد امتثل الأمر فإنها نظير قوله تعالى : أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ واذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ [الأحزاب : 42] إلى غير ذلك من الأوامر المتعاطفة ، نعم درج أكثر السلف على الجمع بينهما فلا أستحسن العدول عنه ما ما في ذكر السلام بعد الصلاة من السلامة من توهم لا يكاد يعرض إلا للأذهان السقيمة كما لا يخفى ، وفي دخوله صلّى اللّه عليه وسلم في الخطاب بيا أيها الذين آمنوا هنا خلاف فقال بعضهم بالدخول ، وقد صرح بعض أجلة الشافعية بوجوب الصلاة عليه صلّى اللّه عليه وسلم في صلاته وذكر أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يصلي على نفسه خارجها كما هو ظاهر أحاديث كقوله صلّى اللّه عليه وسلم حين ضلت ناقته وتكلم منافق فيها «إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم» وقوله حين عرض على المسلمين رد ما أخذه من أبي العاص زوج ابنته زينب قبل إسلامه «وإن زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سألتني» الحديث فذكر التصلية والتسليم على نفسه بعد ذكره واحتمال أن ذلك في الحديثين من الراوي بعيد جدا ا ه.
وتوقف بعضهم في دخوله من حيث أن قرينة سياق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى هنا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 260
ظاهرة في اختصاص هذا الحكم بالمؤمنين دونه صلّى اللّه عليه وسلم ، ونظر فيه بأن ما قبل هذه الآية صريح في اختصاصه بالمؤمنين وأما هي فلا قرينة فيها على الاختصاص ، وأنت تعلم أن للأصوليين في دخوله صلّى اللّه عليه وسلم في نحو هذه الصيغة أقوالا ، عدمه مطلقا وهو شاذ ، ودخوله مطلقا وهو الأصح على ما قال جمع ، والدخول إلا فيما صدر بأمره بالتبليغ نحو قل يا أيها الذين آمنوا ، وأنا أعول على الدخول إلا إذا أوجدت قرينة على عدم الدخول سواء كانت الأمر بالتبليغ أولا ، وهاهنا السباق والسياق قرينتان على عدم الدخول فيما يظهر ، وعبر بالذين آمنوا دون الناس الشامل للكفار قيل : إشارة إلى أن الصلاة عليه صلّى اللّه عليه وسلم من أجلّ الوسائل وأنفعها والكافر لا وسيلة له فلم يؤت بلفظ يشمله ، ومخاطبة الكفار بالفروع على القول بها بالنسبة لعقابهم عليها في الآخرة فحسب على أن محل تكليفهم بها حيث أجمع عليها ، ومن ثم استثنى من مخاطبتهم بها معاملتهم الفاسدة ونحوها.
ولعل الأولى أن التعبير بذلك لما ذكر مع اقتضاء السياق له ، وفي نداء المؤمنين بهذا الأسلوب من حثهم على امتثال الأمر ما لا يخفى ، والأمر بالصلاة والتسليم من خواص هذه الأمة فلم تؤمر أمة غيرها بالصلاة والتسليم على نبيها.
وكان ذلك على ما نقل عن أبي ذر الهروي في السنة الثانية من الهجرة ، وقيل : كان في ليلة الإسراء ، وأنت تعلم أن الآية مدنية ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنها لما نزلت قال أبو بكر : ما أنزل اللّه عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وحكمة تغاير أسلوبي الآيتين ظاهرة على المتأمل ، والصلاة منا على الأنبياء ما عدا نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام جائزة بلا كراهة ،
فقد جاء بسند صحيح على ما قاله المجد اللغوي «إذا صليتم علي المرسلين فصلوا علي معهم فإني رسول من المرسلين»
وفي لفظ «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين»
وللأول طريق أخرى إسنادها حسن جيد لكنه مرسل.
وأخرج عبد الرزاق والقاضي إسماعيل وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «صلوا على أنبياء اللّه ورسله فإن اللّه تعالى بعثهم كما بعثني»
وهو وإن جاء من طرق ضعيفة يعمل به في مثل هذا المطلب كما لا يخفى. وأما ما حكي عن مالك من أنه لا يصلي على غير نبينا صلّى اللّه عليه وسلم من الأنبياء فأوله أصحابه بأن معناه إنا لم نتعبد بالصلاة عليهم كما تعبدنا بالصلاة عليه صلّى اللّه عليه وسلم ، والصلاة على الملائكة قيل لا يعرف فيها نص وإنما تؤخذ من حديث أبي هريرة المذكور آنفا إذا ثبت أن اللّه تعالى سماهم رسلا. وأما الصلاة على غير الأنبياء والملائكة عليهم السّلام فقد اضطربت فيها أقوال العلماء فقيل تجوز مطلقا قال القاضي عياض وعليه عامة أهل العلم واستدل له بقوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وبما صح من
قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «اللهم صلّ على آل أبي أوفى»
وقوله عليه الصلاة والسلام وقد رفع يديه : «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة»
وصحح ابن حبان خبر «إن امرأة قالت للنبي صلّى اللّه عليه وسلم : صلّ عليّ وعلى زوجي ففعل»
وفي خبر مسلم «أن الملائكة تقول لروح المؤمن :
صلى اللّه عليك وعلى جسدك»
وبه يرد على الخفاجي قوله في شرح الشفاء صلاة الملائكة على الأمة لا تكون إلا بتبعيته صلّى اللّه عليه وسلم. وقيل لا تجوز مطلقا. وقيل لا تجوز استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد فيه النص كالآل أو ألحق به كالأصحاب. واختاره القرطبي وغيره وقيل تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا ونسب إلى أبي حنيفة وجمع. وفي تنوير الأبصار ولا يصلي على غير الأنبياء والملائكة إلا بطريق التبع وهو محتمل لكراهة الصلاة بدون تبع تحريما ولكراهتها تنزيها ولكونها خلاف الأولى لكن ذكر البيري من الحنفية من صلى على غيرهم إثم وكره وهو الصحيح.
وفي رواية عن أحمد كراهة ذلك استقلالا. ومذهب الشافعية أنه خلاف الأولى وقال اللقاني : قال القاضي عياض الذي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 261
ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك وسفيان واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلّى اللّه عليه وسلم وسائر الأنبياء بالصلاة والتسليم كما يختص اللّه سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة : 100] يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ [الحشر : 10] وأيضا فهو أمر لم يكن معروفا في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبه بأهل البدع منهى عنه فتجب مخالفتهم انتهى. ولا يخفى أن كراهة التشبه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم فلا تغفل. وجاء عن عمر بن عبد العزيز بسند حسن أو صحيح أنه كتب لعامله إن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على حلفائهم ومواليهم عدل صلاتهم على النبي صلّى اللّه عليه وسلم فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين خاصة ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك.
وصح عن ابن عباس أنه قال : لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا على النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وفي رواية عنه ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار ، وكلاهما يحتمل الكراهة والحرمة. واستدل المانعون بأن لفظ الصلاة صار شعارا لعظم الأنبياء وتوقيرهم فلا تقال لغيرهم استقلالا وإن صح كما لا يقال محمد عزّ وجلّ وإن كان عليه الصلاة والسلام عزيزا جليلا لأن هذا الثناء صار شعارا للّه تعالى فلا يشارك فيه غيره. وأجابوا عما مر بأنه صدر من اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.
ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لغيرهما إلا بإذنهما ولم يثبت عنهما إذن في ذلك. ومن ثم قال أبو اليمن ابن عساكر له صلّى اللّه عليه وسلم أن يصلي على غيره مطلقا لأنه حقه ومنصبه فله التصرف فيه كيف شاء بخلاف أمته إذ ليس لهم أن يؤثروا غيره بما هو له لكن نازع فيه صاحب المعتمد من الشافعية بأنه لا دليل على الخصوصية. وحمل البيهقي القول بالمنع على ما إذا جعل ذلك تعظيما وتحية وبالجواز عليها إذا كان دعاء وتبركا ، واختار بعض الحنابلة أن الصلاة على الآل مشروعة تبعا وجائزة استقلالا وعلى الملائكة وأهل الطاعة عموما جائزة أيضا وعلى معين شخص أو جماعة مكروهة ولو قيل بتحريمها لم يبعد سيما إذا جعل ذلك شعارا له وحده دون مساويه ومن هو خير منه كما تفعل الرافضة بعلي كرّم اللّه تعالى وجهه ولا بأس بها أحيانا كما صلى عليه الصلاة والسلام على المرأة وزوجها وكما صلى عليه الصلاة والسلام على علي وعمر رضي اللّه تعالى عنهما لما دخل عليه وهو مسجى ثم قال : وبهذا التفصيل تتفق الأدلة ، وأنت تعلم اتفاقها بغير ما ذكر. والسلام عند كثير فيما ذكر وفي شرح الجوهرة للقاني نقلا عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعلم في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء عليهم السّلام فلا يقال علي عليه السّلام بل يقال رضي اللّه تعالى عنه. وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر فيقال السّلام أو سلام عليك أو عليكم وهذا مجمع عليه انتهى. وفي حكاية الإجماع على ذلك نظر.
وفي الدر المنضود السّلام كالصلاة فيما ذكر إلا إذا كان لحاضر أو تحية لحي غائب ، وفرق آخرون بأنه يشرع في حق كل مؤمن بخلاف الصلاة ، وهو فرق بالمدعي فلا يقبل ، ولا شاهد في السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين لأنه وارد في محل مخصوص وليس غيره في معناه على أن ما فيه وقع تبعا لا استقلالا.
وحقق بعضهم فقال ما حاصله مع زيادة عليه السّلام الذي يعم الحي والميت هو الذي يقصد به التحية كالسلام عند تلاق أو زيارة قبر وهو مستدع للرد وجوب كفاية أو عين بنفسه في الحاضر ورسوله أو كتابه في الغائب ، وأما السّلام الذي يقصد به الدعاء منا بالتسليم من اللّه تعالى على المدعو له سواء كان بلفظ غيبة أو حضور فهذا هو الذي اختص به صلّى اللّه عليه وسلم عن الأمة فلا يسلم على غيره منهم إلا تبعا كما أشار إليه التقى السبكي في شفاء الغرام ، وحينئذ فقد

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 262
أشبه قولنا عليه السّلام قولنا عليه الصلاة من حيث أن المراد عليه السّلام من اللّه تعالى ، ففيه إشعار بالتعظيم الذي في الصلاة من حيث الطلب لأن يكون المسلم عليه اللّه تعالى كما في الصلاة وهذا النوع من السّلام هو الذي ادعى الحليمي كون الصلاة بمعناه انتهى.
واختلف في جواز الدعاء له صلّى اللّه عليه وسلم بالرحمة فذهب ابن عبد البرّ إلى منع ذلك ، ورد بوروده في الأحاديث الصحيحة ، منها وهو أصحها حديث التشهد السّلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ، ومنها قول الأعرابي : اللهم ارحمني ومحمدا وتقريره صلّى اللّه عليه وسلم لذلك ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «اللهم إني أسألك رحمة من عندك اللهم أرجو رحمتك يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث»
وفي خطبة رسالة الشافعي ما لفظه صلّى اللّه عليه وسلم ورحم وكرم ، نعم قضية كلامه كحديث التشهد أن محل الجواز إن ضم إليه لفظ الصلاة أو السّلام وإلا لم يجز وقد أخذ به جمع منهم الجلال السيوطي بل نقله القاضي عياض في الإكمال عن الجمهور ، قال القرطبي : وهو الصحيح ، وجزم بعدم جوازه منفردا الغزالي عليه الرحمة فقال : لا يجوز ترحم على النبي ويدل له قوله تعالى : لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور : 63] والصلاة وإن كانت بمعنى الرحمة إلا أن الأنبياء خصوا بها تعظيما لهم وتمييزا لمرتبتهم الرفيعة على غيرهم على أنها في حقهم ليست بمعنى مطلق الرحمة بل المراد بها ما هو أخص من ذلك كما سمعت فيما تقدم.
نعم ظاهر قول الأعرابي السابق وتقريره عليه الصلاة والسّلام له الجواز ولو بدون انضمام صلاة أو سلام.
قال ابن حجر الهيتمي : وهو الذي يتجه وتقريره المذكور خاص فيقدم على العموم الذي اقتضته الآية ثم قال :
وينبغي حمل قول من قال لا يجوز ذلك على أن مرادهم نفي الجواز المستوي الطرفين فيصدق بأن ذلك مكروه أو خلاف الأولى ، وذكر زين الدين في بحره أنهم اتفقوا على أنه لا يقال ابتداء رحمه اللّه تعالى ، وأنا أقول : الذي ينبغي أن لا يقال ذلك ابتداء.
وقال الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار : وينبغي أن لا يجوز غفر اللّه تعالى له أو سامحه لما فيه من إيهام النقص ، وهو الذي أميل إليه وإن كان الدعاء بالمغفرة لا يستلزم وجوب ذنب بل قد يكون بزيادة درجات كما يشير إليه استغفاره عليه الصلاة والسّلام في اليوم والليلة مائة مرة. وكذا الدعاء بها للميت الصغير في صلاة الجنازة ، ومثل ذلك فيما يظهر عفا اللّه تعالى عنه وإن وقع في القرآن فإن اللّه تعالى له أن يخاطب عبده بما شاء ، وأرى حكم الترحم على الملائكة عليهم السّلام كحكم الترحم عليه صلّى اللّه عليه وسلم ، ومن اختلف في نبوته كلقمان يقل فيه رضي اللّه تعالى عنه أو صلّى اللّه تعالى على الأنبياء وعليه وسلم ، هذا وقد بقيت في هذا المقام أبحاث كثيرة يطول الكلام بذكرها جدا فلتطلب من مظانها واللّه تعالى ولي التوفيق وبيده سبحانه أزمة التحقيق.
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أريد بالإيذاء إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه سبب أو لازم له وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة ، وقيل في إيذائه تعالى :
هو قول اليهود والنصارى والمشركين يد اللّه مغلولة والمسيح ابن اللّه والملائكة بنات اللّه والأصنام شركاؤه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، وقيل قول الذين يلحدون في آياته سبحانه ، وقيل تصوير التصاوير وروي عن كعب ما يقتضيه ، وقيل في إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم هو قولهم : شاعر ساحر كاهن مجنون وحاشاه عليه الصلاة والسّلام ، وقيل هو كسر رباعيته وشج وجهه الشريف وكان ذلك في غزوة أحد ، وقيل طعنهم في نكاح صفية بنت حيي ، والحق هو العموم فيهما ، وإما إيذاؤه عليه الصلاة والسّلام خاصة بطريق الحقيقة وذكر اللّه عزّ وجلّ لتعظيمه صلّى اللّه عليه وسلم ببيان قربه وكونه حبيبه المختص به حتى كان ما يؤذيه يؤذيه سبحانه كما أن من يطيعه يطيع اللّه تعالى.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 263
وجوز أن يكون الإيذاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أي يؤذون أولياء اللّه ورسوله وليس بشيء ، وقيل يجوز أن يراد منه المعنى المجازي بالنسبة إليه تعالى والمعنى الحقيقي بالنسبة إلى رسوله عليه الصلاة والسّلام وتعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل فيخف أمر الجمع بين المعنيين حتى ادعى بعضهم أنه ليس من الجمع الممنوع وليس بشيء لَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم وأبعدهم من رحمته فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها ، وذلك في الآخرة ظاهر ، وأما في الدنيا فقيل بمنعهم زيادة الهدى وَأَعَدَّ لَهُمْ مع ذلك عَذاباً مُهِيناً يصيبهم في الآخرة خاصة وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل ، وتقييده بقوله تعالى : بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي بغير جنايه يستحقون بها الأذية شرعا بعد إطلاقه فيما قبله للإيذان بأن أذى اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم لا يكون إلا في غير حق وأما أذى هؤلاء فمنه ومنه.
وروي أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال يوما لأبي : يا أبا المنذر قرأت البارحة آية من كتاب اللّه تعالى فوقعت مني كل موقع وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ واللّه إني لأعاقبهم وأضربهم فقال : إنك لست منهم إنما أنت معلم ومقوم وقوله تعالى : الَّذِينَ مبتدأ وقوله سبحانه فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً أي فعلا شنيعا وقيل ما هو كالبهتان أي الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته في الإثم ، وقيل احتمل بهتانا أي كذبا فظيعا إذا كان الإيذاء بالقول وَإِثْماً مُبِيناً أي ظاهرا بينا خبره ، ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ، والآية قيل نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا كرّم اللّه تعالى وجهه ويسمعونه ما لا خير فيه.
وأخرج ابن جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال : أنزلت في عبد اللّه بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي اللّه تعالى عنها فخطب النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقال : «من يعذرني من رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني فنزلت».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه رضي اللّه تعالى عنها أنها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى اللّه عليه وسلم في أخذ صفية بنت حيي رضي اللّه تعالى عنها ، وعن الضحّاك والسدي والكلبي أنها نزلت في زناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر جهلا أو تجاهلا لاتحاد الكل في الزيّ واللباس ، والظاهر عموم الآية لكل ما ذكر ولكل ما سيأتي من أراجيف المرجفين ، وفيها من الدلالة على حرمة المؤمنين والمؤمنات ما فيها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال : يلقى الجرب على أهل النار فيحكون حتى تبدو العظام فيقولون ربنا بماذا أصابنا هذا فيقال : بأذاكم المسلمين ، وأخرج غير واحد عن قتادة قال :
إياكم وأذى المؤمن فإن اللّه تعالى يحوطه ويغضب له.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأصحابه أي الربا أربى عند اللّه؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم قال : أربى الربا عند اللّه استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ صلّى اللّه عليه وسلم والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا الآية».
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ بعد ما بين سبحانه سوء حال المؤذين زجرا لهم عن الإيذاء أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذين منهم بما يدفع إيذاءهم في الجملة من التستر والتميز عن مواقع الإيذاء فقال عزّ وجلّ :
قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ روي عن غير واحد أنه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر فإذا قيل لهم يقولون حسبناهن إماء فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء بالزيّ والتستر

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 264
ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن ، والجلابيب جمع جلباب وهو على ما روي عن ابن عباس الذي يستر من فوق إلى أسفل ، وقال ابن جبير : المقنعة ، وقيل : الملحفة ، وقيل : كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، وقيل : كل ما تتستر به من كساء أو غيره ، وأنشدوا :
تجلببت من سواد الليل جلبابا وقيل هو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء ، والإدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الإرخاء أو السدل ولذا عدي بعلى على ما يظهر لي ، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل.
ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال : أي يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ثم قال : أراد بالانضمام معنى الإدناء ، وفي الكشاف معنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ يرخين عليهن يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدني ثوبك على وجهك.
وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن ، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى ، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن ، وقيل : على رؤوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه.
واختلف في كيفية هذا التستر فأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فرفع ملحفة كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر ، وقال السدي : تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين ، وقال ابن عباس وقتادة : تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه ، وفي رواية أخرى عن الحبر رواها ابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه تغطي وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة.
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : رحم اللّه تعالى نساء الأنصار لما نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان.
ومن للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين ، أحدهما أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن يلبسنه على البدن كله ، وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزءا منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن ، والنساء مختصات بحكم العرف بالحرائر وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء المؤمنين غير داخلات في حكم الآية.
وعن عمر رضي اللّه تعالى عنه أن غير الحرة لا تتقنع أخرج ابن أبي شيبة عن قلابة قال : كان عمر بن الخطاب لا يدع في خلافته أمة تتقنع ويقول : القناع للحرائر لكيلا يؤذين ، وأخرج هو وعبد بن حميد عن أنس رضي اللّه تعالى عنه قال : رأى عمر رضي اللّه تعالى عنه جارية مقنعة فضربها بدرته وقال : ألقي القناع لا تتشبهي بالحرائر ، وجاء في بعض الروايات أنه رضي اللّه تعالى عنه قال لأمة رأها مقنعة : يا لكعاء أتشبهين بالحرائر؟ وقال أبو حيان : نساء المؤمنين يشمل الحرائر والإماء والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح انتهى ، وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس بعورة فلا يجب ستره ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمن الشهوة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 265
مطلقا وإلا فيحرم ، وقال القهستاني : منع النظر من الشابة في زماننا ولو بلا شهوة وأما حكم أمة الغير ولو مدبرة أو أم ولد فكحكم المحرم فيحل النظر إلى رأسها ووجهها وساقها وصدرها وعضدها إن أمن شهوته وشهوتها. وظاهر الآية لا يساعد على ما ذكر في الحرائر فلعلها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإماء أو العفائف مطلقا عن غيرهن فتأمل ، ويُدْنِينَ يحتمل أن يكون مقول القول وهو خبر بمعنى الأمر وأن يكون جواب الأمر على حد قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم : 31] وفي الآية رد على من زعم من الشيعة أنه عليه الصلاة والسّلام لم يكن له من البنات إلا فاطمة صلّى اللّه تعالى على أبيها وعليها وسلم وأما رقية وأم كلثوم فربيبتاه عليه الصلاة والسّلام ذلِكَ أي ما ذكر من الإدناء والتستر أَدْنى أي أقرب أَنْ يُعْرَفْنَ أي يميزن عن الإماء اللاتي هن مواقع تعرضهم وإيذاءهم. ويجوز إبقاء المعرفة على معناها أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن بناء عن أنهن إماء.
وقال أبو حيان : أي ذلك أولى أن يعرفن لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ولا يلقين بما يكرهن لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها ، وهو تفسير مبني على رأيه في النساء ، وأيا ما كان فقد قال السبكي في طبقاته : إن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا فيعمل بأقوالهم وهو استنباط لطيف وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً كثير المغفرة فيغفر سبحانه ما عسى يصدر من الإخلال بالتستر ، وقيل : يغفر ما سلف منهن من التفريط. وتعقب بأنه إن أريد التفريط في أمر التستر قبل نزول الآية فلا ذنب قبل الورود في الشرع وإن أريد التفريط في غير ذلك ليكون وكان اللّه كثير المغفرة فيغفر ما سلف من ذنوبهن وارتكابهن ما نهى عنه مطلقا فهو غير مناسب للمقام ، وجوز أن يراد التفريط في أمر التستر والأمر به معلوم من آية الحجاب التزاما وهو كما ترى رَحِيماً كثير الرحمة فيثيب من امتثل أمره منهن بما هو سبحانه أهله ، وقيل : رحيما بهن بعد التوبة عن الإخلال بالتستر بعد نزول الآية ، وقيل : رحيما بعباده حيث راعى سبحانه في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات.
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عما هم عليه من النفاق وأحكامه الموجبة للإيذاء وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهم قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه عما هم عليه من التزلزل وما يستتبعه مما لا خير فيه وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ من اليهود المجاورين لها عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين وغير ذلك من الأراجيف الملفقة المستتبعة للأذية ، وأصل الإرجاف التحريك من الرجفة التي هي الزلزلة وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها في نفسها متزلزلة غير ثابتة أو لتزلزل قلوب المؤمنين واضطرابها منها ، والتغاير بينه المتعاطفات على ما ذكرنا بالذات وهو الذي يقتضيه ظاهر العطف.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مالك بن دينار قال : سألت عكرمة عن الذين في قلوبهم مرض فقال : هم أصحاب الفواحش ، وعن عطاء أنه فسرهم بذلك أيضا ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال هم قوم مؤمنون كان في أنفسهم أن يزنوا فالمرض حب الزنا ، وإذا فسر المرجفون على ذلك بما سمعت يكون التغاير بين المتعاطفات بالذات أيضا.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب أن الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون وهو المعروف في وصفهم.
وأخرج هو أيضا عن عبيد بن حنين أن الذين في قلوبهم مرض والمرجفون جميعا هم المنافقون فيكون العطف مع الاتحاد بالذات لتغاير الصفات على حد :
هو الملك القرم وابن الهمام

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 266
فكأنه قيل : لئن لم ينته الجامعون بين هذه الصفات القبيحة عن الاتصاف بها المفضي إلى الإيذاء لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لندعونك إلى قتالهم وإجلائهم أو فعل ما يضطرهم إلى الجلاء ونحرضك على ذلك يقال أغراه بكذا إذا دعاه إلى تناوله بالتحريض عليه ، وقال الراغب : غرى بكذا أي لهج به ولصق ، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به وقد أغريت فلانا بكذا ألهجت به ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أي لنسلطنك عليهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ عطف على جواب القسم وثم للتفاوت الرتبي والدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلّى اللّه عليه وسلم أعظم ما يصيبهم وأشده عندهم فِيها أي في المدينة إِلَّا قَلِيلًا أي زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه أو يتلقطون عيالاتهم وأنفسهم.
وفي الآية عليه كما في الانتصاف إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب الاجتهاد ، ونصب قَلِيلًا على ما أشرنا إليه على الظرفية أو المصدرية ، وجوز أن يكون نصبا على الحال أي إلا قليلين أذلاء ، ولا يخفى حاله على ذي تمييز.
وقوله تعالى : مَلْعُونِينَ نصب على الذم أي أذم ملعونين أو على الحال من فاعل لا يُجاوِرُونَكَ والاستثناء شامل له عند من يرى جواز نحو ذلك ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب : 53] وجعل ابن عطية المعنى على الحالية ينتفون ملعونين ، وجوز أن يكون حالا من ضميرهم في قوله تعالى : أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي حصروا وظفر بهم ، وكأنه على معنى أينما ثقفوا متصفين بما هم عليه أُخِذُوا أي أسروا ومنه الأخيذ للأسير وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي قتلوا أبلغ قتل. وقرىء «قتلوا» بالتخفيف فيكون تَقْتِيلًا مصدرا على غير الصدر. واعترض على الحالية مما ذكر بأن أداة الشرط لا يعمل ما بعدها فيما قبلها مطلقا وهذا أحد مذاهب للنحاة في المسألة ، ثانيها الجواز مطلقا ، وثالثها جواز تقديم معمول الجواب دون معمول الشرط.
وجوز على تقدير كون قَلِيلًا حالا أن يكون مَلْعُونِينَ بدلا منه. وتعقبه أبو حيان بأن البدل بالمشتق قليل ثم قال : والصحيح أن مَلْعُونِينَ صفة لقليل أي إلا قليلين ملعونين ويكون قَلِيلًا مستثنى من الواو في لا يُجاوِرُونَكَ والجملة الشرطية صفة أيضا أي مقهورين مغلوبا عليهم ا ه ، وهو كما ترى.
وقوله تعالى : سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مصدر مؤكد أي سن اللّه تعالى ذلك في الأمم الماضية سنة وهي قتال الذين يسعون بالفساد بين قوم وإجلائهم عن أوطانهم وقهرهم أينما ثقفوا متصفين بذلك.
وَلَنْ تَجِدَ أيها النبي أو يا من يصح منك الوجدان أبدا لِسُنَّةِ اللَّهِ لعادته عزّ وجلّ المستمرة تَبْدِيلًا لابتنائها على أساس الحكمة فلا يبدلها هو جل شأنه وهيهات هيهات أن يقدر غيره سبحانه على تبديلها ، ومن سبر أخبار الماضين وقف على أمر عظيم في سوء معاملتهم المفسدين فيما بينهم ، وكأن الطباع مجبولة على سوء المعاملة معهم وقهرهم ، وفي تفسير الفخر وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ. وللسدي كلام غريب في الآية لا أظن أن أحدا قال به.
أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال فيها : كان النفاق على ثلاثة أوجه : نفاق مثل نفاق عبد اللّه بن سلول ونظائره كانوا وجوها من وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك أنفسهم وهم المنافقون في الآية ، ونفاق الذين في قلوبهم مرض وهم منافقون إن تيسر لهم الزنا عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه ويهتموا بأمره ، ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهم فيفجرون بهن ، وهؤلاء الذين يكابرون النساء لَنُغْرِيَنَّكَ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 267
بِهِمْ
يقول سبحانه لنعلمنك بهم ثم قال تعالى : مَلْعُونِينَ ثم فصلت الآية أَيْنَما ثُقِفُوا يعملون هذا العمل مكابرة النساء أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ثم قال السدي : هذا حكم في القرآن ليس يعمل به لو أن رجلا وما فوقه اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم وهو أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم سنّة اللّه في الذين خلوا من قبل كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا فمن كابر امرأة على نفسها فغلبها فقتل فليس على قاتله دية لأنه يكابر انتهى ، والظاهر أنه قد وقع الانتهاء من المنافقين والذين في قلوبهم مرض عما هو المقصود بالنهي وهو ما يستتبعه حالهم من الإيذاء ولم يقع من المرجفين أعني اليهود فوقع القتال والإجلاء لهم.
وفي البحر الظاهر أن المنافقين يعني جميع من ذكر في الآية انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين وتستر جميعهم وكفوا خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه وهو الإغراء والإجلاء والقتل. وحكي ذلك عن الجبائي ، وعن أبي مسلم لم ينتهوا وحصل الإغراء بقوله تعالى : جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة : 73 ، التحريم : 9] وفيه أن الإجلاء والقتل لم يقعا للمنافقين والجهاد في الآية قولي ، وقيل : إنهم لم يتركوا ما هم عليه ونهوا عنه جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملا ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ونهيه تعالى عن الصلاة عليهم وما نزل في سورة براءة ، وزعم بعضهم أنه لم ينته أحد من المذكورين أصلا ولم ينفذ الوعيد عليهم ففيه دليل على بطلان القول بوجوب نفاذ الوعيد في الآخرة ويكون هذا الوعيد مشروطا بالمشيئة وفيه من البعد ما فيه.
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت قيامها ووقوعها ، كان المشركون يسألونه صلّى اللّه عليه وسلم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء والمنافقون تعنتا واليهود امتحانا لما أنهم يعلمون من التوراة أنها مما أخفاه اللّه تعالى فيسألونه عليه الصلاة والسلام ليمتحنوه هل يوافقها وحيا أو لا قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع سبحانه عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وَما يُدْرِيكَ خطاب مستقل له صلّى اللّه عليه وسلم غير داخل تحت الأمر مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة مرجوة المجيء عن قريب ، وما استفهام في موضع الرفع بالابتداء والجملة بعده خبر أي أي شيء يعلمك بوقت قيامها ، والمعنى على النفي أي لا يعلمنك به شيء أصلا.
لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي لعلها توجد وتتحقق في وقت قريب فقريبا منصوب على الظرفية واستعماله كذلك كثير ، وتَكُونُ تامة ويجوز أن تكون ناقصة وإذا كان قَرِيباً الخبر واعتبر وصفا لا ظرفا فالتذكير لكونه في الأصل صفة لخبر مذكر يخبر به عن المؤنث وليس هو الخبر أي لعل الساعة تكون شيئا قريبا ، وجوز أن يكون ذلك رعاية للمعنى من حيث إن الساعة بمعنى اليوم أو الوقت.
وقال أبو حيان : يجوز أن يكون ذلك لأن التقدير لعل قيام الساعة فلوحظ الساعة في تكون فأنث ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قَرِيباً فذكر ، ولا يخفى بعده ، وقيل إن قريبا لكونه فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف : 56] وقد تقدم ما في ذلك ، وفي الكلام تهديد للمستعجبين المستهزئين وتبكيت للمتعنتين والممتحنين ، والإظهار في موضع الإضمار للتهويل وزيادة التقرير وتأكيد استقلال الجملة كما أشير إليه إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ على الإطلاق أي طردهم وأبعدهم عن رحمته العاجلة والآجلة وَأَعَدَّ هيأ لَهُمْ مع ذلك في الآخرة سَعِيراً نارا شديدة الاتقاد كما يؤذن بذلك صيغة المبالغة خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا متوليا لأمرهم يحفظهم وَلا نَصِيراً ناصرا يخلصهم منها يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ظرف لعدم الوجدان ، وقيل لخالدين ، وقيل لنصير ، وقيل مفعول لا ذكر أي يوم تصرف

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 268
وجوههم فيها من جهة إلى جهة كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة أو يوم تتغير وجوههم من حال إلى حال فتتوارد عليها الهيئات القبيحة من شدة الأهوال أو يوم يلقون في النار مقلوبين منكوسين ، وتخصيص الوجوه بالذكر لما أنها أكرم الأعضاء ففيه مزيد تفظيع للأمر وتهويل للخطب ، ويجوز أن تكون عبارة عن كل الجسد. وقرأ الحسن وعيسى وأبو جعفر الرواسي. «تقلب» بفتح التاء والأصل تتقلب فحذفت إحدى التاءين ، وقرأ ابن أبي عبلة بهما على الأصل ، وحكى ابن خالويه عن أبي حيوة أنه قرأ «تقلب وجوههم» بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ونصب «وجوههم» على المفعولية.
وقرأ عيسى الكوفة «تقلب وجوههم» بإسناد الفعل إلى ضمير السعير اتساعا ونصب الوجوه يَقُولُونَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم الفظيعة كأنه قيل : فماذا يصنعون عند ذلك؟ فقيل : يقولون متحسرين على ما فاتهم يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فلا نبتلي بهذا العذاب أو حال من ضمير وُجُوهُهُمْ أو من نفسها.
وجوز أن يكون هو الناصب ليوم وَقالُوا عطف على يَقُولُونَ والعدول إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين أوردوهم هذا المورد الوخيم وألقوهم في ذلك العذاب الأليم وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم بما هم فيه.
رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا أي ملوكنا وولاتنا الذين يتولون تدبير السواد الأعظم منا وَكُبَراءَنا أي رؤساءنا الذين أخذنا عنهم فنون الشر وكان هذا في مقابلة ما تمنوه من إطاعة اللّه تعالى وإطاعة الرسول فالسادة والكبراء متغايران ، والتعبير عنهما بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة.
وقدموا في ذلك إطاعة السادة لما أنه كان لهم قوة البطش بهم لو لم يطيعوهم فكان ذلك أحق بالتقديم في مقام الاعتذار وطلب التشفي ، وقيل : باتحاد السادة والكبراء والعطف على حد العطف في قوله. وألفي قولها كذبا ومينا.
والمراد بهم العلماء الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم ، وعن قتادة رؤساؤهم في الشر والشرك.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر والعامة في الجامع بالبصرة ساداتنا على جمع الجمع وهو شاذ كبيوتات ، وفيه على ما قيل دلالة على الكثرة ، ثم إن كون سادة جمعا هو المشهور ، وقيل : اسم جمع فإن كان جمعا لسيد فهو شاذ أيضا فقد نصوا على شذوذ فعلة في جميع فعيل وإن كان جمعا لمفرد مقدر وهو سائد كان ككافر وكفرة لكنه شاذ أيضا لأن فاعلا لا يجمع على فعلة إلا في الصحيح فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي جعلونا ضالين عن الطريق الحق بما دعونا إليه وزينوه لنا من الأباطيل ، والألف للإطلاق كما في وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا.
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي عذابين يضاعف كل واحد منهما الآخر عذابا على ضلالهم في أنفسهم وعذابا على إضلالهم لنا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي شديدا عظيما فإن الكبر يستعار للعظمة مثل كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف : 5] ويستفاد التعظيم من التنوين أيضا ، وقرأ الأكثر «كثيرا» بالثاء المثلثة أي كثير العدد ، وتصدير الدعاء بالنداء مكررا للمبالغة في الجؤار واستدعاء الإجابة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قيل نزلت فيما كانت من أمر زينب بنت جحش رضي اللّه تعالى عنها وتزوجه صلّى اللّه عليه وسلم بها وما سمع في ذلك من كلام آذاه عليه الصلاة والسلام فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي من قولهم أو الذي قالوه وأيا ما كان فالقول هنا بمعنى المقول ، والمراد به مدلوله الواقع في الخارج وبتبرئة اللّه تعالى إياه من ذلك إظهار براءته عليه السّلام منه وكذبهم فيما أسندوا إليه لأن المرتب على أذاهم ظهور براءته لا براءته لأنها مقدمة عليه ، واستعمال الفعل مجازا عن إظهاره ، والمقول بمعنى المضمون كثير شائع فالمعنى فأظهر اللّه تعالى براءته من الأمر المعيب الذي نسبوه إليه عليه السّلام.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 269
وقيل : لا حاجة إلى ما ذكر فإنه تعالى لما أظهر براءته عما افتروه عليه انقطعت كلماتهم فيه فبرىء من قولهم على أن (برأه) بمعنى خلصه من قولهم لقطعه عنه ، وتعقب بأنه مع تكلفه لأن قطع قولهم ليس مقصودا بالذات بل المراد انقطاعه لظهور خلافه لا بدّ من ملاحظة ما ذكر ، والمراد بالأمر الذي نسبوه إليه عليه السّلام عيب في بدنه.
أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي وجماعة من طريق أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن موسى عليه السّلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده أما برص وأما أدرة وأما آفة وإن اللّه تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وأن موسى عليه السّلام خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عليه السّلام عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق اللّه تعالى وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فذلك قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا
. وقيل : إن ذلك ما نسبوه إليه عليه السّلام من قتل هارون ،
أخرج ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه قال في الآية : صعد موسى وهارون عليهما السّلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته كان أشد حبا لنا منك وألين فآذوه من ذلك فأمر اللّه تعالى الملائكة عليهم فحملوه فمروا به على مجالس بني إسرائيل وتكلمت الملائكة عليهم السّلام بموته فبرأه اللّه تعالى فانطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا الرخم وإن اللّه تعالى جعله أصم أبكم
، وفي رواية عن ابن عباس وأناس من الصحابة أن اللّه تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فأت جبل كذا فانطلقا نحو الجبل فأذاهم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه فقال يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما ناما أخذ هارون الموت قلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء قلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له وكان هارون أكف عنهم وألين لهم وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال : ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا اللّه تعالى فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه
،
وقيل : ما نسبوه إليه عليه السّلام من الزنا وحاشاه ، روي أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه السّلام بنفسها ودفع إليها مالا عظيما فأقرت بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل به ما فعل كما فصل في سورة القصص ، ويبعد هذا القول تبعيدا ما جمع الموصول ، وقيل : ما نسبوا إليه من السحر والجنون ، وقيل : ما حكي عنهم في القرآن من قولهم : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة : 24] لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة : 61] وقولهم : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة : 55] إلى غيرك ذلك ويمكن حمل ما قالوا على جميع ما ذكر.
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي كان ذا جاه ومنزلة عنده عزّ وجلّ ، وفي معناه قول قطرب : كان رفيع القدر ونحوه قول ابن زيد : كان مقبولا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال وجيها مستجاب الدعوة وزاد بعضهم ما سأل شيئا إلا أعطى إلا الرؤية في الدنيا ، ولا يخفى أن استجابة الدعوة من فروع رفعة القدر ، وقيل : وجاهته عليه السّلام أن اللّه تعالى كلمه ولقب كليم اللّه ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة «عبدا» من العبودة «للّه» بلام الجر فيكون عبدا خبر كان ووجيها صفة له وهي قراءة شاذة ، وفي صحة القراءة بالشواذ كلام.
قال ابن خالويه : صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ وكان «عبدا للّه» على قراءة ابن مسعود

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 270
ولعل ابن شنبوذ ممن يرى صحة القراءة بها مطلقا ، ويحتمل مثل ذلك في ابن خالويه وإلا فقد قال الطيبي قال صاحب الروضة : وتصح بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصان ، وهاهنا بين المعنيين بون كما يشير إليه كلام الزمخشري ونحوه عن ابن جني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون لا سيما في ارتكاب ما يكرهه تعالى فضلا عما يؤذي رسوله وحبيبه صلّى اللّه عليه وسلم وَقُولُوا في كل شأن من الشؤون قَوْلًا سَدِيداً قاصدا ومتوجها إلى هدف الحق من سد يسد بكسر السين سدادا بفتحها يقال سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته ، والمراد على ما قيل نهيهم عن ضد هذا القول وهو القول الذي ليس بسديد ويدخل فيه ما صدر منهم في قصة زينب من القول الجائر عن العدل والقصد وكذا كل قول يؤذيه عليه الصلاة والسّلام ، وعن مقاتل.
وقتادة أن المعنى وقولوا قولا سديدا في شأن الرسول عليه الصلاة والسّلام وزيد وزينب ، وعن ابن عباس وعكرمة تخصيص القول السديد بلا إله إلا اللّه ، وقيل : هو ما يوافق ظاهره باطنه ، وقيل : ما فيه إصلاح ، ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ بالقبول والإثابة عليها على ما روي عن ابن عباس ومقاتل ، وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعلم وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي التي من جملتها ما تضمنته هذه الآيات فَقَدْ فازَ في الدارين فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره ولا تبلغ غايته.
قال في الكشاف وهذه الآية يعني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ إلى آخرها مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهذه على الأمر باتقاء اللّه تعالى في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السّلام لأن وصفه بوجاهته عند اللّه تعالى متضمن أنه تعالى انتقم له ممن آذاه واتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه انتهى فلا تغفل.
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها لما بين جل شأنه عظم شأن طاعة اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والالتزام من غير جبر هناك ولا إبرام ، وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل مصدر كالأمن والأمان تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها اللّه تعالى المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها ، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها من حيث الخصوصيات بالعرض عليهن لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها ، وعن عدم استعدادهن لقبولها ومنافاتها لما هن عليه بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة ، والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وخفن منها لكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق لزيادة تحقيق المعنى المقصود وتوضيحه.
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي هذا الجنس نحو : إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات : 6] وإِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [العلق : 6] وحمله إياها إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها والتزمها

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 271
مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة ، وهو إما عبارة عن قبولها بموجب استعداده الفطري أو عن القبول القولي يوم الميثاق ، وتخصيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضا وكذا الملائكة عليهم السّلام وإن لم يكن في ذلك كلفة عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه ، وقوله تعالى : إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا اعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل ، والتأكيد لمظنة التردد أي إنه كان مفرطا في الظلم مبالغا في الجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة اللّه تعالى تبديلا ، ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلا عن وجوده في غالبها ، وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى :
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي حملها الإنسان ليعذب اللّه تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب اللّه تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية ، وإلى الفريق الثاني أشير وبقوله سبحانه وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب اللّه تعالى على هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة ، والإظهار في موضع الإضمار ثانيا لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لتكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض لأجلة في تفسير الآية. ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد الكريم الذي ينبىء عنه قوله تعالى : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً بجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين.
وتعقب بأن جعل الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل عن التقريب وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيا ، وقد يقال : مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث أمره عزّ وجلّ بها وأن قوله تعالى : إِنَّهُ كانَ إلخ على معنى أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن الأمانة الفرائض وروي نحوه عن سعيد بن جبير وهو غير ما ذكر أولا بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها المعنى المصدري دون اسم المفعول ، وقيل : الصلاة
فقد روي عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت الصلاة اصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال : إنه دخل عليّ وقت أمانة عرضها اللّه تعالى على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري كيف أؤديها
، وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة ، وقيل الصلاة والصيام والغسل من الجنابة
فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «الأمانة ثلاث الصلاة والصيام والغسل من الجنابة» وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة والوفاء بالعهود. وقيل هي أن لا تغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير ، وقيل : هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم للتكليفات الشرعية. وقيل هي الأعضاء والقوى ،
فقد أخرج ابن أبي الدنيا في الورع والحكيم الترمذي عن عبد اللّه بن عمر ورضي اللّه تعالى عنهما قال : «أول ما خلق اللّه تعالى من الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة»
.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 272
ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية بالأعضاء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، والخبر المذكور إن صح لا يدل عليه ، ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول به إلا أطفال المكاتب ، وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول بأنها الفرائض أي من فعل وترك ، وتخصيص شيء منها بالذكر في خبران صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض أفراد العام بالذكر لنكتة ، وقال أبو حيان : الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا ، ويعم هذا المعنى جميع ما تقدم ، وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء اللّه تعالى ، واختلفت كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات إلخ.
وحكي ذلك عن الجبائي وليس بشيء ، وقيل الكلام على ظاهره وكذا العرض والإباء وذلك أنه عزّ وجلّ خلق للسماوات والأرض والجبال فهما وتمييزا فخيرت في الحمل فأبت وروي ذلك عن ابن عباس.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن جريج قال : بلغني أن اللّه تعالى لما خلق السماوات والأرض والجبال قال : إني فارض فريضة وخالق جنة ونارا وثوابا لمن أطاعني وعقابا لمن عصاني فقالت السماوات خلقتني فسخرت في الشمس والقمر والنجوم والسحاب والريح فأنا مسخرة على ما خلقتني لا أتحمل فريضة ولا أبغي ثوابا ولا عقابا ونحو ذلك قالت الأرض والجبال ، ويعلم مما ذكر أن الإباء لم يكن معصية لأنه لم يكن هناك تكليف بل تخيير ، وأما كونها استحقرت أنفسها عن أن تكون محل الأمانة فلا ينفي عنهن العصيان بالإباء لو كان هناك تكليف بالحمل ، وقيل : لا حذف والكلام من باب التمثيل على ما سمعت أولا.
وذهب كثير إلى أن المراد بحملها التزام القيام بها وبالإنسان آدم عليه السّلام ، واختلف في حمله إياها هل كان بعد عرضها عليه أو بدونه فقيل كان بعد العرض.
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم «أن اللّه تعالى عرض الأمانة على السماء الدنيا فأبت ثم التي تليها فأبت حتى فرغ منها ثم الأرضين ثم الجبال ثم عرضها على آدم عليه السّلام فقال نعم بين أذني وعاتقي» الخبر
وقيل : بدونه.
قال ابن الجوزي : لما خلق اللّه عزّ وجلّ آدم عليه السّلام ونفخ فيه الروح مثلت له الأمانة بصخرة ثم قال :
للسماوات احملي هذه فأبت وقالت : إلهي لا طاقة لي بها وقال سبحانه : للأرض احمليها فقالت : لا طاقة بها لي وقال تعالى للجبال : احمليها فقالت : لا طاقة لي بها فأقبل آدم عليه السّلام فحركها بيده وقال لو شئت لحملتها فحملها حتى بلغت حقويه ثم وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها نودي من جانب العز يا آدم مكانك لا تضعها فهذه الأمانة قد بقيت في عنقك وعنق أولادك إلى يوم القيامة ولكم عليها ثواب في حملها وعقاب في تركها
، وهذا ظاهر في أن الحمل على حقيقته وفي أن العرض على السماوات والأرض والجبال كان بمسمع من آدم عليه السّلام وإلى هذا ذهب ابن الأنباري ، وفي بعض الآثار ما يدل على أن العرض عليهن قبل خلقه عليه السّلام.
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما خلق اللّه تعالى السماوات والأرض عرض عليهن الأمانة فلم يقبلنها فلما خلق آدم عليه السّلام عرضها عليه فقال : يا رب وما هي؟ قال سبحانه : هي إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك قال : فقد تحملت يا رب فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج إلا قدر ما بين الظهر والعصر
،
وكأني بك تختار من هذه الأقوال أن العرض على تقدير كونه بعد إعطاء الفهم والتمييز كان بمسمع من آدم عليه السّلام وأنه بعد أن سمع الإباء حملته الغيرة على الحمل ، وربما يفضي بك هذا إلى اختيار القول بأنه حمل الأمانة بدون عرضها عليه كما هو ظاهر الآية وبه يتأكد وصفه بما وصف لكني لا أظنك تقول بصحة حديث تمثل الأمانة بصخرة وإن قلت بصحة تمثل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 273
المعاني بصور الأجسام كما ورد في حديث ذبح الموت وغيره ، وأنا لا أميل إلى القول بأن المراد بالإنسان آدم عليه السّلام وإن كان أول أفراد الجنس ومبدأ سلسلتها لمكان إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فإنه يبعد غاية البعد وصف صفي اللّه عزّ وجلّ بنص إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ [آل عمران : 33] بمزيد الظلم والجهل ، وكون المعنى كان ظلوما جهولا بزعم الملائكة عليهم السّلام قول بارد ، وحمله على معنى كان ظلوما لنفسه حيث حملها على ضعفه ما أبت الأجسام القوية حمله جهولا بقدر ما دخل فيه أو بعاقبة ما تحمل لا يزيل البعد ، ولا استحسن كون المراد كان من شأنه لو خلي ونفسه ذلك كما قيل :
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
إلا على القول بإرادة الجنس ، وإخراج الكلام مخرج الاستخدام على نحو ما قالوا في عندي درهم ونصفه بعيد لفظا ومعنى ، وقيل المراد بالأمانة مطلق الانقياد الشامل للطبيعي والاختياري وبعرضها استدعاؤه الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته وأنشدوا :
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أخرجتك الودائع
فيكون الإباء امتناعا من الخيانة وإتيانا بالمراد ، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما أمرناهن به لقوله تعالى : أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت : 11] وخانها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا ولا يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده ، نعم إن العوام يقولون : إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا حين الوضع مخاطبين الأرض :
هذا أمانة عندك كذا شهرا أو كذا سنة وحثوا التراب عليه وانصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي المدة التي عينوها وجدوه متغيرا ، وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو مما يستبعده العقل ، وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه قال : عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات ، ونقله عنه أبو حيان وذكر البيت المار آنفا لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس نصا في الخيالة ، وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب الأمور ، قيل وعليه ينتظم قوله تعالى : إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مع ما قبله على أنه علته باعتبار حمل العقل عليه بمعنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل : حملناه ذلك لما فيه من القوى المحتاجة لقهره وضبطه ، وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم المقصود منه تعديل تلك القوى وكسر سورتها ، ومن هنا قيل إنه أقرب للتحقيق ، وقيل الأمانة تجلياته عزّ وجلّ بأسمائه الحسنى وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان كالمذكور آنفا.
وقوله تعالى : «إنه كان ظلوما جهولا» تعليل للحمل مشار به إلى قوة استعداده ، وقوله سبحانه : «ليعذب» تعليل للعرض على معنى عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية ، ويشير إلى هذا قول العلامة الطيبي عليه الرحمة : إن اللّه تعالى خلق الخلق ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء والعظمة السماوات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل سائر الصفات لعدم استعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها وأشفقن منها

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 274
وحملها الإنسان لقوة استعداده واقتداره لكونه ظلوما جهولا فاختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلي الرحمة وله النصيب الأوفر منها لقوة استعداده واقتداره ، وهو مشرب صوفي كما لا يخفى وأنا اختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير لهن في حملها لا الإلزام وأنهن خوطبن في ذلك وعقلن الخطاب واللّه عزّ وجلّ قادر على أن يخلق في كل ذرة من ذرات الكائنات الحياة والعلم كما خلقهما سبحانه في ذوي الألباب بل ذهب الفلاسفة إلى القول بثبوت النفوس والحركة الإرادية للأفلاك بل قال بعضهم نحو ذلك في الكواكب وأثبت الحركة الإرادية ونفي القواسر هناك وأن المراد بالإنسان الجنس وأن قوله تعالى : إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا في موضع التعليل للحمل.
ووصف الجنس بصيغتي المبالغة لكثرة الأفراد المتصفة بالظلم والجهل منه وإن لم يكونا فيها على وجه المبالغة بل لا يخلو فرد من الأفراد عن الاتصاف بظلم ما وجهل ما ، ولا يجب في وصف الجنس بصيغة المبالغة تحقق تلك الصفة في الأفراد كلا أو بعضا على وجه المبالغة ، نعم إن تحقق ذلك فهو زيادة خير ، كما فيما نحن فيه فإن أكثر أفراد الإنسان في غاية الظلم ونهاية الجهل ، ولعل المراد بظلوم جهول من شأنه الظلم والجهل وأن قوله تعالى :
لِيُعَذِّبَ إلخ متعلق بعرضنا على أنه تعليل له ، وفي الكلام التفات لا يخفى ، وتقديم التعذيب لأنه أوفق بصفتي الظلم والجهل ، وقيل : لأن الأمانة من حكمها اللازم أن خائنها يضمن وليس من حكمها أن حافظها يؤجر ، ومقابلة التعذيب بالتوبة دون الإثابة أو الرحمة للإشارة إلى أن في المؤمنين والمؤمنات من يصدر منه ما يصح أن يعذب عليه ومع ذلك لا يعذب ، وفيه إشعار بأنه لا يعذب على كل ظلم وجهل وفي هذا من إدخال السرور على المؤمنين والكآبة على أضدادهم ما فيه ، وأيضا أن ذلك أوفق بظاهر قوله تعالى : «إنه كان ظلوما جهولا» وقيل لم يعتبر بالإثابة لأنها علمت من قوله سبحانه : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً فعبر بما ذكر للتنبيه على أن ذلك بمحض الفضل وهو كما ترى ، وقيل إن ذاك لأن التذييل متكفل بإفادة رحمتهم وإثابتهم.
وقرأ الحسن كما ذكر صاحب اللوامح «ويتوب» بالرفع على الاستئناف وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي مبالغا في المغفرة والرحمة حيث تاب على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم فرطاتهم وأثابهم بالفوز العظيم على طاعاتهم نسأل اللّه تعالى أن يتوب علينا ويغفر لنا ويثيبنا بالفوز العظيم إنه جل جلاله وعم نواله غفور رحيم.
ومن باب الإشارة في آيات من هذه السورة الكريمة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ إلخ فيه إشارة إلى عظم شأن التقوى وكذا شأن كل أمر ونهيى يتعلقان به عليه الصلاة والسّلام ، وفيه أيضا إشارة إلى أنه لا ينبغي محبة أعداء اللّه عزّ وجلّ حيث نهى عن طاعتهم وهما كالمتلازمين ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ لأن موقعه في البدن موقع الرئيس في المملكة والحكمة تقتضي وحدة الرئيس ، وفي الخبر إذا بويع خليفتان فاقتلوا أحدهما.
وقيل : إن ذاك لتشعر وحدته في بدن الإنسان الذي هو العالم الأصغر المنطوي فيه العالم الأكبر بوحدة اللّه سبحانه في الوجود ، وينبغي أن يعلم أن للقلب عندهم كما قال الصدر القونوي إطلاقين الأول إطلاقه على اللحم الصنوبري الشكل المعروف عند الخاصة والعامة والثاني إطلاقه على الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعة وهي تنشأ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية وظهور ذلك مما ذكر ظهور السواد بين العفص والزاج والماء وهذا هو القلب الذي أخبر عنه الحق على لسان نبيه صلّى اللّه عليه وسلم بقوله سبحانه : «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وهو

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 275
محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه واللحم الصنوبري أحقر من حيث صورته أن يكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن يسعه سبحانه ويكون مطمح نظره الأعلى ومستواه ، وادعوا أن تسمية ذلك الصنوبري الشكل بالقلب على سبيل المجاز باعتبار تسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول «وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم» فيه أن الحقائق لا تنقلب وأن في القرابة النسبية خواص لا تكون في القرابة السببية فأين الأزواج من الأمهات والأدعياء من الأبناء فالأمهات أصول ولا كذلك الأزواج والأبناء فروع ولا كذلك الأدعياء ، ومن هنا قيل : الولد سر أبيه ، وقد أورده الشمس الفناري في مصباح الأنس حديثا بصيغة الجزم من غير عزو ولا سند ولا يصح ذلك عند المحدثين ، وهو إشارة إلى الأوصاف والأخلاق والكمالات التي يحصلها الولد بالسراية من والده لا بواسطة توجه القلب إلى حضرة الغيب الإلهي وعالم المعاني فإنه باعتبار ذلك قد تحصل للولد أوصاف وأخلاق على خلاف حال والده ، ومنه يظهر سر يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام : 95 ، يونس : 31 ، الروم : 19] فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من الأبوة ولهذا قد يقع به التوارث النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لأنه عليه الصلاة والسّلام يحب لهم فوق ما يحبون لها ويسلك بهم المسلك الذي يوصلهم إلى الحياة الأبدية وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي في الأزل إذ كانوا أعيانا ثابتة أو يوم الميثاق إذ صار لهم نوع تعين لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ سؤال تشريف لا تعنيف ، والصدق على ما قالوا إن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في اعتقادك ريب ، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير
مداخلة إعجاب وسلامة القول من المعاريض والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس وإدامة التبري من الحول والقوة بل الخروج من الوجود المجازي شوقا إلى الوجود الحقيقي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ إلخ طبق بعضهم ما تضمنته الآيات من قصة الأحزاب على ما في الأنفس ولا يخفى حاله ، ومن غريب ما رأيت أن الشيخ محيي الدين قدس اللّه سره قسم الأولياء إلى أقسام وجعل منهم قسما يقال لهم اليثربيون وقال : هم قوم من الأولياء لا مقام لهم كما لسائر الأولياء وجعل قول المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ إشارة إلى ذلك ، وكم قول غريب لهذا الشيخ غفر اللّه تعالى له لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً لأنه عليه الصلاة والسّلام أكمل الخلق على الإطلاق وأحظى الناس بإشراق أنوار أخلاقه عليه الذين يرجون اللّه تعالى واليوم الآخر ويذكرونه عزّ وجلّ كثيرا لصقالة قلوبهم وقوة استعدادها لإشراق الأنوار وظهور الآثار مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ أي رجال كاملون ، وقول بعضهم : أي متصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الأناث كلام بشع تنقبض منه ككثير من كلام المتصوفة قلوب المقتفين للسلف الصالح.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا إلخ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سببا لمفارقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والبعد عن حضرته الشريفة وأن محبته عليه الصلاة والسّلام تكون سببا للأجر العظيم يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ إلخ فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي وحسن الطاعات باعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها باعتبار الأماكن والأزمان وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن اللّه عزّ وجلّ وعن رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يختار لنفسه خلافه لإشعار ذلك باتهام اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسّلام.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 276
ولعل الإشارة في الآيات بعد ظاهرة لمن له أدنى التفات بيد أنهم أطالوا الكلام في الأمانة المذكورة في قوله تعالى : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الآية فلنذكر بعضا من ذلك فنقول : قال الشيخ محيي الدين قدس سره في بلغة الغواص :
إن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها هي السعة لمعرفة اللّه تعالى فلم يوجد في السماوات والأرض قبول لما قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة العالم فهو يرى نفسه في العالم ويرى ربه سبحانه بالعالم الذي هو نفسه من حيث هو كل العالم فلذلك اتسع لما لم يسعه العالم ولذلك خصه سبحانه بالسعة حيث أخبر جل شأنه أنه لم يسعه سماواته ولا أرضه ووسعه قلب المؤمن من نوع الإنسان انتهى.
وكأنه أراد بكونه وسع الحق سبحانه كونه مظهرا جامعا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق جل جلاله ، وهذا قريب مما ذكرناه في التفسير وقلنا إنه مشرب صوفي كما لا يخفي ، وقال آخر : هي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة وحمله خاص بالإنسان لأن نسبته مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن القلب حامل للروح بلا واسطة وتسري منه بواسطة العروق والشرايين ونحوها إلى سائر البدن كذلك الإنسان حامل للفيض الإلهي بلا واسطة ويسري منه إلى ظاهر الكون وباطنه بواسطة ظاهره وباطنه من أعمال البدن والروح فظاهر العالم وباطنه معموران بظاهر الإنسان وباطنه وهذا سر الخلافة ومعنى كونه ظلوما أنه ظالم لنفسه حيث استعد لأن يحمل أمرا عظيما وكونه جهولا أنه جاهل بها حيث لم يعرف حقيقتها ولم يدرك منها سوى الصورة الحيوانية المتصفة بالصفات البهيمية من الأكل والشرب والنكاح وهاتان الصفتان في حق حاملي الأمانة ومؤدي حقها من حيث إنهما صارتا سببا لحمل الأمانة صفتا مدح وفي حق الخائنين صفتا ذم والشيء قد يكون ذما في حق شخص ومدحا في حق آخر ، واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل ومنه الاستمداد في فهم كلامه العزيز الجليل.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 277
سورة سبإ
مكية كما روي عن ابن عباس وقتادة ، وفي التحرير هي مكية بإجماعهم ، وقال ابن عطية : مكية إلا قوله تعالى :
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [سبأ : 6] وروى الترمذي عن فروة بن مسيكة المرادي قال : أتيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقلت يا رسول اللّه ألا أقاتل من أدبر من قومي الحديث ، وفيه وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل : يا رسول اللّه وما سبأ؟ الحديث.
قال ابن الحصار هذا يدل على أن هذه القصة مدنية لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع ، ويحتمل أن يكون قوله وأنزل حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته فلا يأبى كونها مكية ، وآياتها خمس وخمسون في الشامي وأربع وخمسون في الباقين ، وما قيل خمس وأربعون سهو من قلم الناسخ ، ووجه اتصالها بما قبلها أن الصفات التي أجريت على اللّه تعالى في مفتتحها مما يناسب الحكم التي في مختتم ما قبل من قوله تعالى : لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الأحزاب : 73] إلخ.
وأيضا قد أشير فيما تقدم إلى سؤال الكفار عن الساعة على جهة الاستهزاء وهاهنا قد حكي عنهم إنكارها صريحا والطعن بمن يقول بالمعاد على أتم وجه وذكر مما يتعلق بذلك ما لم يذكر هناك ، وفي البحر أن سبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة لما سمعوا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ويتخوفنا بالبعث واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث فقال اللّه تعالى قل يا محمد بلى وربي لتبعثن قاله مقاتل وباقي السورة تهديد لهم وتخويف ، ومن هذا ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها انتهى.
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 إلى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 278
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي له عزّ وجلّ خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة جميع ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فكأنه قيل : له هذا العالم بالأسر ، ووصفه تعالى بذلك على ما قاله أبو السعود لتقرير ما أفاده تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة عند أرباب التحقيق بالاسم الجليل من اختصاص جميع أفراد المخلوقات به عزّ وجلّ ببيان تفرده تعالى واستقلاله بما يوجب ذلك وكون كل ما سواه سبحانه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوته تعالى ليس لها في حد ذاتها استحقاق الوجود فضلا عما عداه من صفاتها بل كل ذلك نعم فائضة عليها من جهته عزّ وجلّ فما هذا شأنه فهو بمعزل من استحقاق الحمد الذي مداره الجميل الصادر عن القادر بالاختيار فظهر اختصاص جميع أفراده به تعالى ، وفي الوصف بما ذكر أيضا إيذان بأنه تعالى المحمود على نعم الدنيا حيث عقب الحمد بما تضمن جميع النعم الدنيوية فيكون الكلام نظير قولك : احمد أخاك الذي حملك وكساك فإنك تريد به أحمده على حملانه وكسوته ، وفي عطف قوله تعالى : وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ على الصلة كما هو الظاهر إيذان بأنه سبحانه المحمود على نعم الآخرة ليتلاءم الكلام ، وفي تقييد الحمد فيه بأن محله الآخرة إيذان بأن محل الحمد الأول الدنيا لذلك أيضا فتفيد الجملتان أنه عزّ وجلّ المحمود على نعم الدنيا فيها وأنه تبارك وتعالى المحمود على نعم الآخرة فيها ، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك وأصله الحمد للّه إلخ في الدنيا وله ما في الآخرة والحمد فيها فأثبت في كل منهما ما حذف من الآخر ، وقال أبو السعود : إن الجملة الثانية لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوي به سبحانه على أن فِي الْآخِرَةِ متعلق بنفس الحمد أو بما تعلق به لَهُ
من الاستقرار ، وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليس للاكتفاء بذكر كونه في الآخرة عن التعيين كما اكتفى فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد فيها أيضا بل ليعم النعم الأخروية كما في قوله تعالى :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر : 74] وقوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر : 35] وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف : 43] أي لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان والعمل الصالح.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 279
وأنت تعلم أن المتبادر إلى الذهن هو ما قرر أولا ، والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ والاغتباط ، وقد ورد في الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ، وقول الزمخشري : إن الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها والثاني ليس بواجب لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها مبني على رأي المعتزلة على أن قوله : لأنه على نعمة واجبة الإيصال ليس على إطلاقه عندهم لأن ما يعطي اللّه تعالى العباد في الآخرة ليس مقصورا على الجزاء عندهم بل بعض ذلك تفضل وبعضه أجر ، وتقديم الخبر في الجملة الثانية لتأكيد الحصر المستفاد من اللام على ما هو الشائع اعتناء بشأن نعم الآخرة ، وقيل : للاختصاص لأن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة ، وكأنه أراد لتأكيد الاختصاص أو بنى الأمر على أن الاختصاص المستفاد من اللام بمعنى الملابسة التامة لا الحصر كما فصله الفاضل اليمني ، وأما أنه أراد لاختصاص الاختصاص فكما ترى ، ويرد على قوله : ولا كذلك نعم الآخرة عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء : 79] فتأمل وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي أحكم أمر الدارين ودبره حسبما تقتضيه الحكمة الْخَبِيرُ العالم ببواطن الأشياء ومكنوناتها ويلزم من ذلك علمه تعالى بغيرها ، وعمم بعضهم من أول الأمر وما ذكر مبني على ما قاله بعض أهل اللغة من أن الخبرة تختص بالبواطن لأنها من خبر الأرض إذا شقها ، وفي هذه الفاصلة إيذان بأنه تعالى كما يستحق الحمد لأنه سبحانه منعم يستحقه لأنه جل شأنه منعوت بالكمال الاختياري وتكميل معنى كونه تعالى منعما أيضا بأنه على وجه الحكمة والصواب وعن علم بموضع الاستحقاق والاستيجاب لا كمن يطلق عليه أنه منعم مجازا ، وقوله تعالى : يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ إلخ استئناف لتفصيل بعض ما يحيط به
علمه تعالى من الأمور التي نيطت بها مصالحهم الدينية والدنيوية ، وجوز أن يكون تفسيرا لخبير ، وأن يكون حالا من ضميره تعالى في لَهُ ما فِي السَّماواتِ فيكون لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ اعتراضا بين الحال وصاحبها أي بعلم سبحانه ما يدخل في الأرض من المطر وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات قاله السدي.
وقال الكلبي : ما يدخل فيها من الأموات وما يخرج منها من جواهر المعادن ، والأولى التعميم في الموصولين فيشملان كل ما يلج في الأرض ولو بالوضع فيها وكل ما يخرج منها حتى الحيوان فإنه كله مخلوق من التراب.
وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها أي من الملائكة قاله السدي والكلبي ، والأولى التعميم فيشمل ما يَنْزِلُ المطر والثلج والبرد والصاعقة والمقادير ونحوها أيضا وَما يَعْرُجُ الأبخرة والأدخنة وأعمال العباد وأدعيتهم ونحوها أيضا ، ويراد بالسماء جهة العلو مطلقا ولعل ترتيب المتعاطفات كما سمعت إفادة للترقي في المدح ، وضمن العروج معنى السير أو الاستقرار على ما قيل فلذا عدي بفي دون إلى ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار التضمين والمراد بما يعرج فيها ما يعرج في ثخن السماء ويعلم من العلم بذلك العلم بما يعرج إليها من باب أولى فتدبر ، وقرأ علي كرّم اللّه تعالى وجهه والسلمي «ينزّل» بضم الياء وفتح النون وشد الزاي أي اللّه كذا في البحر.
وفي الكشاف عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه قرأ «ننزّل» بالتشديد ونون العظمة وَهُوَ مع كثرة نعمته وسبوغ فضله الرَّحِيمُ الْغَفُورُ للمفرطين في أداء مواجب شكرها فهذا التذنيب مع كونه مقررا للخبرة مفصل لما أجمل في قوله سبحانه : لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعرف منه كيف كان كله نعمة وكالتبصر لأنواع النعم الكلية فكل منه ومن التذنيب السابق في موضعه اللاحق فلا تتوهم أن العكس أنسب.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصريهم فقط وبنفي إتيانها نفي وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحقيقها في نفس الأمر ، وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 280
يوعدون بإتيانها ، وقيل : لأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا يكون إلا بالإتيان والحضور ، وقيل : هو استبطاء لإتيانها الموعود بطريق الهزء والسخرية كقولهم : مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ [الملك : 25] والأول أولى ، والجملة قيل : معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة وجعلها حالية غير ظاهر قُلْ بَلى رد لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها ، وقوله تعالى : وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ تأكيد له على أتم الوجوه وأكملها ، وجاء القسم بالرب للإشارة إلى أن إتيانها من شؤون الربوبية ، وأتى به مضافا إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلم ليدل على شدة القسم ، وروى هارون كما قال ابن جني عن طليق قال : سمعت أشياخنا يقرؤون «ليأتينكم» بالياء التحتية وخرجت على أن الفاعل ضمير البعث لأن مقصودهم من نفي إتيان الساعة أنهم لا يبعثون ، وقيل : الفاعل ضمير السَّاعَةُ على تأويلها باليوم أو الوقت. وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ لا يكون مثل هذا إلا في الشعر نحو :
ولا أرض أبقل إبقالها وقوله تعالى : عالِمِ الْغَيْبِ بدل من المقسم به على ما ذهب إليه الحوفي وأبو البقاء ، وجوز أن يكون عطف بيان ، وأجاز أبو البقاء أن يكون صفة له.
وتعقب بأنه صفة مشبهة وهي كما ذكره سيبويه في الكتاب لا تتعرف بالإضافة إلى معرفة والجمهور على أنها تتعرف بها ولذا ذهب جمع من الأجلة إلى أنه صفة ووصف سبحانه بإحاطة العلم إمدادا للتأكيد وتشديدا له إثر تشديد فإن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ ، وخص هذا الوصف بالذكر من بين الأوصاف مع أن كل وصف يقتضي العظمة يتأتي به ذلك لما أن له تعلقا خاصا بالمقسم عليه فإنه أشهر إفراد الغيب في الخفاء ففيه مع رعاية التأكيد حسن الأقسام على منوال وثناياك أنها إغريض كأنه قيل : وربي العالم بوقت قيامها لتأتينكم ، وفيه إدماج أن لا كلام في ثبوتها.
وقال صاحب الفرائد : جيء بالوصف المذكور لأن إنكارهم البعث باعتبار أن الأجزاء المتفرقة المنتشرة يمتنع اجتماعها كما كانت يدل عليه قوله تعالى : قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق : 4] الآية ، فالوصف بهذه الأوصاف رد لزعمهم الاستحالة وهو أن من كان علمه بهذه المثابة كيف يمتنع منه ذلك انتهى ، واستحسنه الطيبي ، وقال في البحر : أتبع القسم بقوله تعالى : عالِمِ الْغَيْبِ وما بعده ليعلم أن إتيانها من الغيب الذي تفرد به عزّ وجلّ ، وما ذكر أولا أبعد مغزى ، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يبقى للمعاندين عذر ما أصلا فإنهم كانوا يعرفون أمانته صلّى اللّه عليه وسلم ونزاهته عن وصمة الكذب فضلا عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه عليه الصلاة والسلام مكابرة ، وغفل صاحب الفرائد عن هذه الفائدة فقال : اقتضى المقام اليمين لأن من أنكر ما قيل له فالذي وجب بعد ذلك إذا أريد إعادة القول له أن يكون مقترنا باليمين وإلا كان خطأ بالنظر إلى علم المعاني وإن كان صحيحا بالنظر إلى العربية والنحو وقد يغفل الأريب.
وقرأ نافع وابن عامر ورويس وسلام والجحدري وقعنب «عالم» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم ، وجوز الحوفي أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عالم الغيب هو ، وجوز هو وأبو البقاء أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره.
وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي «علام» بصيغة المبالغة والخفض ، وقرىء «عالم» بالرفع يكون بلا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 281
مبالغة «الغيوب» بالجمع لا يَعْزُبُ عَنْهُ أي لا يبعد ومنه روض عزيب بعيد من الناس.
وقرأ الكسائي بكسر الزاي مِثْقالُ ذَرَّةٍ مقدار أصغر نملة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي كائنة فيهما وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أي مثقال ذرة وَلا أَكْبَرُ أي منه ، والكلام على حد لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ورفعهما على الابتداء والخبر قوله تعالى : إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو اللوح المحفوظ عند الأكثرين.
والجملة مؤكدة لنفي العزوب ، وقرأ الأعمش وقتادة وأبو عمرو ونافع في رواية عنهما وَلا أَصْغَرُ وَلا أَكْبَرُ بالنصب على أن لا لنفي الجنس عاملة عمل إن وما بعدها اسمها منصوب بها لأنه شبيه بالمضاف ولم ينون للوصف ووزن الفعل فليس ذلك نحو لا مانع لما أعطيت ، والخبر هو الخبر على قراءة الجمهور ، وقال أبو حيان :
لا لنفي الجنس وهي وما بني معها مبتدأ على مذهب سيبويه والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ وما ذكرناه في توجيه القراءتين هو الذي ذهب إليه كثير من الأجلة ، وقيل : إن ذلك معطوف في قراءة الرفع على مِثْقالُ وفي القراءة الأخرى على ذَرَّةٍ والفتحة فيه نيابة عن الكسرة للوصف والوزن وإليه ذهب أبو البقاء واستشكل بأنه يصير المعنى عليه إذا كان الاستثناء متصلا كما هو الأصل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين فإنه يعزب عنه فيه ، وفساده ظاهر ، والتزم السراج البلقيني على تقدير العطف المذكور أن يكون الاستثناء من محذوف والتقدير ولا شيء إلا في كتاب ثم قال : ولا بدع في حذف ما قدر لدلالة الكلام عليه ، ويحصل من مجموع ذلك إثبات العلم للّه تعالى بكل معلوم وأن كل شيء مكتوب في الكتاب ، وقيل العطف على ما ذكر والاستثناء منقطع والمعنى لا يعزب عنه تعالى شيء من ذلك لكن هو في كتاب ، وقيل العطف على ذلك والكلام نهج قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فالمعنى إن كان يعزب عنه شيء فهو الذي في كتاب مبين لكن الذي في الكتاب لا يعزب عنه فلا يعزب عنه شيء ، وفيه من البعد ما فيه ، وقيل : إن المراد بقوله تعالى : لا يَعْزُبُ إلخ أنه تعالى عالم به والمراد بقوله سبحانه :
إِلَّا فِي كِتابٍ نحو ذلك لأن الكتاب هو علم اللّه تعالى ، والمعنى وما يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا يعلمه ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في علمه فيكون نظير قوله : وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ [الأنعام : 59] وفيه أنه أبعد مما قبله ، وقيل : يعزب بمعنى يظهر ويذهب والعطف على ما سمعت ، والمعنى لم يظهر شيء عن اللّه تعالى بعد خلقه له ألا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ ، وتلخيصه كل مخلوق مكتوب ، وفيه أن هذا المعنى ليعزب غير معروف وإنما المعروف ما تقدم ، نعم قال الصغاني في العباب قال : أبو سعيد الضرير يقال ليس لفلان امرأة تعزبه أي تذهب عزبته بالنكاح مثل قولك تمرضه أي تقوم عليه في مرضه ثم قال الصغاني : والتركيب يدل على تباعد وتنح فتفسيره بالظهور بعيد ولئن سلمنا قربه فلأي شيء جمع بين الظهور والذهاب ، وقيل إلا بمعنى الواو وهو مقدر في الكلام والكلام قد تم عند أَكْبَرُ كأنه قيل : لا يعزب عنه ذلك وهو في كتاب ، ومجيء إلا بمعنى الواو ذهب إليه الأخفش من البصريين والفراء من الكوفيين.
وخرج عليه قوم : يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم : 32] وخالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود : 107] وقد حكي هذا القول مكي في نظير الآية ثم قال : وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون إلا بمعنى الواو كأنه لم يقف على قول الأخفش وهو من رؤساء نحاة البصرة أو لم يعتبره فلذا قال جميع البصريين ، وقد كثر الكلام في هذا الوجه وارتضاه السراج البلقيني وأنا لا أراه مرضيا وإن أوقد

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 282
له ألف سراج ، وقيل العطف على ما سمعت وضمير عَنْهُ للغيب فلا إشكال إذ المعنى حينئذ لا يبعد عن غيبه شيء إلا ما كان في اللوح لبروزه من الغيب إلى الشهادة واطلاع الملأ الأعلى عليه. وتعقب بأن المعنى لا يساعده لأن الأمر الغيبي إذا برز إلى الشهادة لم يعزب عنه بل بقي في الغيب على ما كان عليه مع بروزه ، ومعناه أن كونه في اللوح المحفوظ كناية عن كونه من جملة معلوماته تعالى وهي إما مغيبة وإما ظاهرة وكل مغيب سيظهر وإلا كان معدوما لا مغيبا وظهوره وقت ظهوره لا يرفع كونه مغيبا فلا يكون استثناء متصلا ، ألا ترى أنك لو قلت علم الساعة مغيب عن الناس إلا علمهم بها حين تقوم ويشاهدونها لم يكن هذا الاستثناء متصلا كذا قيل فتأمل ولا تغفل.
وأنت تعلم أن هذا الوجه على فرض عدم ورود ما ذكر عليه ضعيف لأن الظاهر الذي يقتضيه قوله تعالى : وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ الآية رجوع الضمير إلى اللّه عزّ وجلّ.
والذي ذهب إليه أبو حيان أن الكتاب ليس هو اللوح وليس الكلام إلا كناية عن ضبط الشيء والتحفظ به وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ بكسر الراءين.
وخرج علي أنه نوى مضاف إليه والتقدير ولا أصغره ولا أكبره ، ومِنْ ذلِكَ ليس متعلقا بأفعل بل هو تبيين لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظا فبين بقوله تعالى من ذلك أي أعني من ذلك ، ولا يخفى أنه توجيه شذوذ.
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ متعلق بقوله سبحانه : لَتَأْتِيَنَّكُمْ على أنه علة له وبيان لمقتضى إتيانها فهو من تتمة المقسم عليه ، فحاصل الكلام أن الحكمة تقتضي إثباتها والعلم البالغ المحيط بالغيب وجميع الجزئيات جليها وخفيها حاصل والقدرة المقتضية لإيجاد العالم وما فيه وجعله نعمة على ما مر فقد تم المقتضى وارتفع المانع فليس في الآية اكتفاء في الرد بمجرد اليمين ، واستظهر في البحر تعلقه بلا يعزب.
وذهب إليه أبو البقاء وتعقب بأن علمه تعالى ليس لأجل الجزاء ، وقيل متعلق بمتعلق فِي كِتابٍ وهو كما ترى.
أُولئِكَ إشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف أي أولئك الموصوفون بالإيمان وعمل الأعمال الصالحات لَهُمْ بسبب ذلك مَغْفِرَةٌ لما فرط منهم من بعض فرطات قلما يخلو عنها البشر وَرِزْقٌ كَرِيمٌ حسن لا تعب فيه ولا من عليه وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالقدح فيها وصيد الناس عن التصديق بها مُعاجِزِينَ أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا قاله قتادة ، وقال عكرمة : مراغمين ، وقال ابن زيد : مجاهدين في إبطالها.
وقرأ جمع «معجزين» مخففا ، وابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال مثقلا ، قال ابن الزبير : أي مثبطين عن الإيمان من أراده مدخلين عليه العجز في نشاطه ، وقيل معجزين قدرة اللّه عزّ وجلّ في زعمهم.
أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر وفيه إشارة إلى بعد منزلتهم في الشر لَهُمْ بسبب ذلك عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أي من سيء العذاب وأشده ، ومن للبيان أَلِيمٌ بالرفع صفة عَذابٌ وقرأ أكثر السبعة بالجر على أنه صفة مؤكدة لرجز بناء على ما سمعت من معناه ، وجعله بعضهم صفة مؤسسة له بناء على أن الرجز كما روي عن قتادة مطلق العذاب وجوز جعله صفة عَذابٌ أيضا والجر للمجاورة ، والظاهر أن الموصول مبتدأ والخبر جملة أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ وجوز أن يكون في محل نصب عطفا على الموصول قبله أي ويجزي الذين سعوا وجملة أُولئِكَ لَهُمْ إلخ التي بعده مستأنفة والتي قبله معترضة. وفي البحر يحتمل على تقدير العطف على الموصول أن تكون الجملتان

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 283
المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب ، ويحتمل أن يكونا مستأنفين والثواب والعقاب غير ما تضمنتا مما هو أعظم كرضا اللّه تعالى عن المؤمن دائما وسخطه على الكافر دائما ، وفيه أنه كيف يتأتى حمل ذلك على رضا اللّه تعالى وضده وقد صرح أولا بالمغفرة والرزق الكريم وفي مقابله بالعذاب الأليم وجعل الأول جزاء.
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي ويعلم أولو العلم من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمته عليه الصلاة والسلام أو من آمن من علماء أهل الكتاب كما روى عن قتادة كعبد اللّه بن سلام وكعب وأضرابهما رضي اللّه تعالى عنهم الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن هُوَ الْحَقَّ بالنصب على أنه مفعول ثان ليرى والمفعول الأول هو الموصول الثاني وهُوَ ضمير الفصل.
وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على جعل الضمير مبتدأ وجعله خبرا والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ، وقوله تعالى : وَيَرَى إلخ ابتداء كلام غير معطوف على ما قبله مسوق للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات. وفي الكشف هو عطف على قوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ على معنى وقال الجهلة : لا ساعة وعلم أولى العلم أنه الحق الذي نطق به المنزل إليك الحق. وتعقب بأنه تكلف بعيد فإن دلالة النظم الكريم على الاهتمام بشأن القرآن لا غير ، وقيل عليه : أنت خبير بأن ما قبله من قوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ وقوله سبحانه : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ إلخ في شأن الساعة ومنكري الحشر فكيف يكون ما ذكر بعيدا بسلامة الأمير فذكر حقية القرآن بطريق الاستطراد والمقصود بالذات حقية ما نطق به من أمر الساعة ، وقال الطبري والثعلبي : إن يَرَى منصوب بفتحة مقدرة عطفا على يجزي أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة معاينة أنه الحق حسبما علموه قبل برهانا ويحتجوا به على المكذبين وعليه فقوله تعالى : وَالَّذِينَ سَعَوْا معطوف على الموصول الأول أو مبتدأ والجملة معترضة فلا يضر الفصل كما توهم ، وجوز أن يراد بأولى العلم من لم يؤمن من الأحبار أي ليعلموا يومئذ أنه هو الحق فيزدادوا حسرة وغما.
وتعقب بأن وصفهم بأولى العلم يأباه لأنه صفة مادحة ولعل المجوز لا يسلم هذا ، نعم كون ذلك بعيدا لا ينكر لا سيما وظاهر المقابلة بقوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يقتضي الحمل على المؤمنين وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الذي يقهر ولا يقهر الْحَمِيدِ المحمود في جميع شؤونه عزّ وجلّ ، والمراد بصراطه تعالى التوحيد والتقوى ، وفاعل يهدي إما ضمير الَّذِي أُنْزِلَ أو ضمير اللّه تعالى ففي الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ التفات ، والجملة على الأول إما مستأنفة أو في موضع الحال من الَّذِي على إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كما في قوله :
نجوت وأرهنهم مالكا أو معطوفة على الْحَقَّ بتقدير وإنه يهدي وجوز أن يكون يهدي معطوفا على الْحَقَّ عطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله كما في قوله تعالى : صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [الملك : 19] أي قابضات وبعكسه قوله :
وألفيته يوما يبير عدوه وبحر عطاء يستحق المعابرا
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هم كفار قريش قالوا مخاطبا بعضهم لبعض على جهة التعجب والاستهزاء هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون به النبي صلّى اللّه عليه وسلم والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بذلك من باب التجاهل كأنهم لم يعرفوا منه صلّى اللّه عليه وسلم إلا أنه رجل وهو عليه الصلاة والسلام عندهم أظهر من الشمس :
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 284
يُنَبِّئُكُمْ يحدثكم بأمر مستغرب عجيب. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «ينبيكم» بإبدال الهمزة ياء محضة وحكي عنه «ينبئكم» بالهمز من أنبأ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إذا شرطية وجوابها محذوف لدلالة ما بعده عليه أي تبعثون أو تحشرون وهو العامل في إذا على قول الجمهور والجملة الشرطية بتمامها معمولة لينبئكم لأنه في معنى يقول لكم إذا مزقتم كل ممزق تبعثون ثم أكد ذلك بقوله تعالى : إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وجوز أن يكون «إنكم لفي خلق جديد» معمولا لينبئكم وهو معلق ولولا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة والجملة سدت مسد المفعولين والشرطية على هذا اعترض ، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم والصحيح جوزه وعليه قوله :
حذار فقد نبئت أنك للذي ستجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى
وجوز أن تكون إذ المحض الظرفية فعاملها الذي دل عليه ما بعد يقدر مقدما أي تبعثون أو تحشرون إذا مزقتم ، ولا يجوز أن يكون العامل نَدُلُّكُمْ أو يُنَبِّئُكُمْ لعدم المقارنة ولا مُزِّقْتُمْ لأن إذا مضافة إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. ولا خلق ولا جديد لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
وقال الزجاج : إذا في موضع النصب بمزقتم وهي بمنزلة من الشرطية يعمل فيها الذي يليها ، وقال السجاوندي :
العامل محذوف وما بعدها إنما يعمل فيها إذا كان مجزوما بها وهو مخصوص بالضرورة نحو. وإذا تصبك خصاصة فتجمل. فلا يخرج عليه القرآن فإذا لم تجزم كانت مضافة إلى ما بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.
وقال أبو حيان : الصحيح أن العامل فيها فعل الشرط كسائر أدوات الشرط ، وتمام الكلام على ذلك في كتب النحو ، وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول كمسرح في قوله :
ألم تعلم مسرّحي القوافي فلا عيّا بهن ولا اجتلابا
وتمزيق الشيء تخريقه وجعله قطعا قطعا ومنه قوله :
إذا كنت مأكولا فكن خير آكل وإلا فأدركني ولما أمزق
والمراد إذا متم وفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث صرتم رفاتا وترابا ، ونصب كُلَّ على المصدرية.
وجوز أن يكون اسم مكان فنصب كل على الظرفية لأن لها حكم ما تضاف إليه أي إذا فرقت أجسادكم في كل مكان من القبور وبطون الطير والسباع وما ذهبت به السيول كل مذهب وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح ، وجَدِيدٍ فعيل بمعنى فاعل عند البصريين من جد الشيء إذا صار جديدا وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه ثم شاع في كل جديد وإن لم يكن مقطوعا كالبناء ، والسبب في الخلاف أنهم رأوا العرب لا يؤنثونه ويقولون ملحفة جديد لا جديدة فذهب الكوفيون إلى أنه بمعنى مفعول والبصريون إلى خلافه وقالوا ترك التأنيث لتأويله بشيء جديد أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول كذا قيل : أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما ينسب إليه من أمر البعث أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه ، واستدل به أبو عمرو الجاحظ على ما ذهب إليه من أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع الاعتقاد وكذبه عدمها معه وغيرهما ليس بصدق ولا كذب ، وذلك أن الكفار وهم عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة حصروا أخبار النبي صلّى اللّه عليه وسلم بالبعث في الافتراء والأخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو بالمعنى الأعم ولا شك أن المراد بالثاني غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم اعتقدوا عدمه ، وأيضا لا دلالة لقولهم : أَمْ بِهِ جِنَّةٌ على معنى أم صدق بوجه من الوجوه فيجب أن يكون بعض الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب ليكون ذلك منه بزعمهم وإن كان صادقا في نفس الأمر ، وتوضيحه أن ظاهر كلامهم هذا يدل على طلب تعيين أحد حالي النبي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 285
صلّى اللّه عليه وسلم المستويين في اعتقاد المتكلم حين الإخبار بالبعث وهو يستلزم تعيين أحد حالي الخبر والاستفهام هاهنا للتقرير فيفيد ثبوت أحد الحالين للخبر ولا شك أن ثبوت أحدهما لا يثبت الواسطة ما لم يعتبر تنافيهما وكذا تنافيهما في الجمع لا يثبتها بل لا بدّ من تنافيهما في الارتفاع يعني أن خبره عليه الصلاة والسلام بالبعث لا يخلو عن أحد الأمرين المتنافيين فيكون المراد بالثاني ما هو مناف وقسيم للأول ومعلوم أنه غير الصدق فليس الصدق عبارة عن مطابقة الواقع فقط والكذب عن عدم المطابقة له كما يقول الجمهور أو عن مطابقة الاعتقاد له وعدم مطابقته له كما يقول النظام فيكونان عبارتين عن مطابقتهما وعدم مطابقتهما وتثبت الواسطة. وأجيب بأن معنى أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أم لم يفتر فعبر عن عدم الافتراء بالجنة لأن المجنون يلزمه أن لا افتراء له كما دل عليه نقل الأئمة واستعمال العرب الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فالثاني ليس قسيما للكذب بل لما هو أخص منه أعني الافتراء فيكون ذلك حصرا للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد ولو سلم أن الافتراء بمعنى الكذب مطلقا فالمعنى أقصد الافتراء أي الكذب أم لم يقصد بل كذب بلا قصد لما به من الجنة.
وقيل : المعنى افترى أم لم يفتر بل به جنون وكلام المجنون ليس بخبر لأنه لا قصد له يعتد به ولا شعور فيكون مرادهم حصره في كونه خبرا كاذبا أو ليس بخبر فلا يثبت خبر لا يكون صادقا ولا كاذبا ، ونوقش فيه كما لا يخفى على من راجع كتب المعاني. بقي هاهنا بحث وهو أن الطيبي أشار إلى أن مبنى الاستدلال كون أَمْ متصلة واعترضه بأن الظاهر كونها منقطعة أما لفظا فلاختلاف مدخول الهمزة وأم وأما معنى فلأن الكفرة المعاندين لما أخرجوا قولهم هل ندلكم على رجل ينبئكم مخرج الظن والسخرية متجاهلين برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وبكلامه من إثبات الحشر والنشر وعقبوه بقولهم أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أضربوا عنه إلى ما هو أبلغ منه ترقيا من الأهون إلى الأغلظ من نسبة الجنون إليه وحاشاه صلّى اللّه عليه وسلم فكأنهم قالوا : دعوا حديث الافتراء فإن هاهنا ما هو أطعم منه لأن العاقل كيف يحدث بإنشاء خلق جديد بعد الرفات والتراب ، ولما كان التعويل على ما بعد الاضراب من إثبات الجنون أوقع الاضراب الثاني في كلامه تعالى ردا لقولهم ونفيا للجنون عنه صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه وإثباتا له فيهم إلى آخر ما قال ، ولم يرتض ذلك صاحب الكشف فقال في كلام الكشاف إشارة إلى أن أم متصلة : وفائدة العدول عن الفعل في جن إيماء إلى أن الثابت هو ذلك الشق كأنه قيل : أعن افتراء هذا الكذب العجاب أم جنون ، والتقابل لأن المجنون لا افتراء له فالاستدلال على الانقطاع بتخالف العديلين ساقط ، وأما الترقي من الاتصال أيضا على ما لوح إليه بوجه الطف ا ه.
وأنت تعلم أن ظاهر الاستدلال يقتضي الاتصال لكن قال الخفاجي : إن كون الاستدلال مبنيا على الاتصال غير مسلم فتأمل ، والظاهر أفترى على اللّه كذبا أم به جنة من قول بعضهم لبعض. وفي البحر يحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال هل ندلكم ردد بين شيئين ولم يجزم بأحدهما لما في كل من الفظاعة.
بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ إبطال من جهته تعالى لما قالوا بقسيميه وإثبات ما هو أشد وأفظع لهم ولذا وضع الذين لا يؤمنون موضع الضمير توبيخا لهم وإيماء إلى سبب الحكم بما بعده كأنه قيل :
ليس الأمر كما زعموا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضلال عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقة وفيما يؤدي إليه ذلك من العذاب حيث أنكروا حكمة اللّه تعالى في خلق العالم وكذبوه عزّ وجلّ في وعده ووعيده وتعرضوا لسخطه سبحانه. وتقديم العذاب على ما يوجبه ويستتبعه للمسارعة إلى بيان ما يسوءهم ويفت في أعضادهم والأشعار بغاية سرعة ترتبه عليه كأنه يسابقه فيسبقه ، ووصف الضلال بالبعيد الذي هو وصف الضال للمبالغة لأن ضلالهم إذا كان بعيدا في نفسه فكيف بهم أنفسهم.
وقوله تعالى : أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 286
قيل : هو استئناف مسوق لتذكيرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته عزّ وجلّ وتنبيههم على ما يحتمل أن يقع من الأمور الهائلة في ذلك إزاحة لاستحالتهم الإحياء حتى قالوا ما قالوا فيمن أخبرهم به وتهديدا على ما اجترءوا عليه ، والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أنهم أشد خلقا أم هي وأنا إن نشأ نخسف بهم الأرض كما خسفناها بقارون أو نسقط عليهم كسفا أي قطعا من السماء كما أسقطنا على أصحاب الأيكة لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات وهو تفسير ملائم للمقام إلا أن ربط قوله تعالى إن نشأ إلخ بما قبله بالطريق الذي ذكره بعيد.
وفي البحر أنه تعالى وقفهم في ذلك على قدرته الباهرة وحذرهم إحاطة السماء والأرض بهم وكأن ثم حالا محذوفة أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهورا تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد إن نشأ نخسف بهم الأرض إلخ أو فلم ينظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم محيطا بهم وهم مقهورون فيما بينه إن نشأ إلخ ولا يخلو عن شيء ، وقال العلامة أبو السعود : إن قوله تعالى : أَفَلَمْ يَرَوْا إلخ استئناف مسوق لتهويل ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات اللّه تعالى واستعظام ما قالوا في حقه عليه الصلاة والسلام وأنه من العظائم الموجبة لنزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريث وتأخير ، وقوله تعالى : إِنْ نَشَأْ إلخ بيان لما ينبىء عنه ذكر إحاطتهما بهم من المحذور المتوقع من جهتهما وفيه تنبيه على أنه لم يبق من أسباب وقوعه إلا تعلق المشيئة به أي فعلوا ما فعلوا من المنكر الهائل المستتبع للعقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا مفر لهم عنه ولا محيص إن نشأ جريا على موجب جناياتهم نخسف إلخ ، ولا يخفى أن فيه بعدا وضعف ربط بالنسبة إلى ما سمعت أولا مع أن ما بعد ليس فيه كثير ملائمة لما قبله عليه ، ويخطر لي أن قوله تعالى : أَفَلَمْ يَرَوْا مسوق لتذكيرهم بأظهر شيء لهم بحيث إنهم يعاينونه أينما التفتوا ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا يدل على كمال قدرته عزّ وجلّ إزاحة لما دعاهم إلى ذلك الاستهزاء والوقيعة بسيد الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام من زعمهم قصور قدرته تعالى عن البعث والإحياء ضرورة أن من قدر على خلق تلك الاجرام العظام لا يعجزه إعادة أجسام هي كلا شيء بالنسبة إلى تلك الإجرام كما قال سبحانه : أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس : 81] وفيه من التنبيه على مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد ما فيه ، وقوله تعالى :
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر مما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض لَآيَةً أي لدلالة واضحة على كمال قدرة اللّه عزّ وجلّ وأنه لا يعجزه البعث بعد الموت وتفرق الأجزاء المحاطة بهما لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي راجع إلى ربه تعالى مطيع له جل شأنه لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات اللّه عزّ وجلّ والتفكر فيها كالتعليل لما يشعر به قوله سبحانه أَفَلَمْ يَرَوْا إلخ من الحث على الاستدلال بذلك على ما يزيح إنكارهم البعث وفيه تعريض بأنهم معرضون عن ربهم سبحانه غير مطيعين له جل وعلا وتخلص إلى ذكر المنيبين إليه تعالى على قول ، وقوله تعالى : إِنْ نَشَأْ كالاعتراض جيء به لتأكيد تقصيرهم والتنبيه على أنهم بلغوا فيه مبلغا يستحقون به في الدنيا فضلا عن الأخرى نزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب وأنه لم يبق من أسباب ذلك إلا تعلق المشيئة به إلا أنها لم تتعلق لحكمة ، وظني أنه حسن وتحتمل الآية غير ذلك واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه ، وقيل : إن ذلك إشارة إلى مصدر يروا وهو الرؤية وذكر لتأويله بالنظر والمراد به الفكر ، وقيل إشارة إلى ما تلي من الوحي الناطق بما ذكر. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وعيسى والأعمش وابن مصرف يشأ ويخسف ويسقط بالياء فيهن وأدغم الكسائي الفاء في الباء في يخسف بهم قال أبو علي : ولا
يجوز ذلك لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كانت الباء تدغم في الفاء نحو اضرب فلانا وهذا كما تدغم الباء في الميم نحو اضرب مالكا ولا تدغم الميم في الباء نحو اضمم بك لأن الباء انحطت عن الميم بفقد العنة التي فيها ، وقال الزمخشري : قرأ الكسائي «يخسف بهم» بالإدغام وليست

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 287
بقوية ، وأنت تعلم أن القراءة سنة متبعة ويوجد فيها الفصيح والأفصح وذلك من تيسير اللّه تعالى القرآن للذكر وما أدغم الكسائي إلا عن سماع فلا التفات إلى قول أبي علي ولا الزمخشري وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي آتيناه لحسن إنابته وصحة توبته فضلا أي نعمة وإحسانا ، وقيل فضلا وزيادة على سائر الأنبياء المتقدمين عليه أو أنبياء بني إسرائيل أو على ما عدا نبينا صلّى اللّه عليه وسلم لأنه ما من فضيلة في أحد من الأنبياء عليهم السّلام إلا وقد أوتي عليه الصلاة والسلام مثلها بالفعل أو تمكن منها فلم يختر إظهارها أو على الأنبياء مطلقا وقد يكون في المفضول ما ليس في غيره ، وقد انفرد عليه السّلام بما ذكر هاهنا ، وقيل : أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن. وتعقب بأنه إن أريد أن كلا منها فضل لا يوجد في سائر الناس فعدم مثل ملكه وصوته محل شبهة وإن أريد المجموع من حيث هو نفيه أنه غير موجود في الأنبياء أيضا فلا وجه لتخصيصه بهذا الوجه. وأنا أرى الفضل لتفسير الفضل بالإحسان وتنكيره للتفخيم ومِنَّا أي بلا واسطة لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما في قوله تعالى : وآتَيْناهُ ...
مِنْ لَدُنَّا عِلْماً «1» وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن في النفس عند وروده فضل تمكن ، وذكر شؤون داود وسليمان عليهما السّلام هنا لمناسبة ذكر المنيب في قوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لآية لكل عبد منيب كما أشرنا إليه ، وقال أبو حيان : مناسبة قصتيهما عليهما السّلام لما قبلها هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته في زعمهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم وأشعارهم ، وقيل : ذكر سبحانه نعمته عليهما احتجاجا على ما منح نبينا صلّى اللّه عليه وسلم كأنه قيل : لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا فلما فرغ التمثيل له عليه الصلاة والسّلام رجع التمثيل لهم بسبا وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أي سبحي معه قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، وأخرجه ابن جرير عن أبي ميسرة إلا أنه قال : معناه ذلك بلغة الحبشة ، والظاهر أنه عربي من التأويب والمراد رجعي معه التسبيح وردديه ، وقال ابن عطية :
إن أصل ماضيه آب وضعف للمبالغة. وتعقبه في البحر بقوله ويظهر أن التضعيف للتعدية لأن آب بمعنى رجع لازم صلته اللام فعدي بالتضعيف إذ شرحوه بقولهم رجعي معه التسبيح.
يروى أنه عليه السّلام كان إذا سبح سبحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها
ولا يعجز اللّه عزّ وجلّ أن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع وقد سبح الحصى في كف نبينا عليه الصلاة والسّلام وسمع تسبيحه وكذا في كف أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه ، ولا يبعد على هذا أن يقال : إنه تعالى خلق فيها الفهم أولا فناداها كما ينادى أولو الفهم وأمرها ، وقال بعضهم : إنه سبحانه نزل الجبال منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته سبحانه ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية حيث نادى الجبال وأمرها ، وقيل : المراد بتأويبها حملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها ، وفيه مع كونه خلاف المأثور أن مَعَهُ يأباه ، وأيضا لا اختصاص له عليه السّلام بتأويب الجبال بهذا المعنى حتى يفضل به أو يكون معجزة له ، وقيل : كان عليه السّلام ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده بأصدائها.
وفيه أن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما قام عليه البرهان ، واللّه تعالى نادى الجبال وأمرها أن تؤوب معه ، وأيضا أي اختصاص له عليه الصلاة والسّلام بذلك ولصوت كل أحد صدى عند الجبال ،
___________
(1) نص الآية 22 من سورة يوسف آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ونص الآية 65 من سورة الكهف آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 288
وعن الحسن أن معنى أَوِّبِي مَعَهُ سيري معه أين سار ، والتأويب سير النهار كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده.
ومن ذلك قول تميم بن مقبل :
لحقنا بحي أوبوا السير بعد ما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقول آخر :
يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب
وأورد عليه أن الجبال أوتاد الأرض ولم ينقل سيرها مع داود عليه السّلام أو غيره ، وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه فكانت إذا سبح سبحت وإذا ناح ناحت وإذا قرأ الزبور قرأت. وتعقب بأنه لم يعرف التأويب بمعنى التصرف في لغة العرب ، وقيل : المعنى ارجعي إلى مراده فيما يريد من حفر واستنباط أعين واستخراج معدن ووضع طريق ، والجملة معمولة لقول مضمر أي قولنا يا جبال على أنه بدل من فَضْلًا بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو قلنا يا جبال على أنه بدل من آتَيْنا وجوز كونه بدلا من فَضْلًا بناء على أنه يجوز إبدال الجملة من المفرد ، وجوز أبو حيان الاستئناف وليس بذاك.
وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق «أوبي» بضم الهمزة وسكون الواو أمر من الأوب وهو الرجوع وفرق بينهما الراغب بأن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره.
والمعنى على هذه القراءة عند الجمهور ارجعي معه في التسبيح وأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك ، ومنه يا خيل اللّه اركبي وكذا مَآرِبُ أُخْرى [طه : 18] وقد جاء ذلك في جمع من يعقل من المؤنث قال الشاعر :
تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي
لكن هذا قليل وَالطَّيْرَ بالنصب وهو عند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل تقديره وسخرنا له الطير وحكى أبو عبيدة عنه أن ذاك بالعطف على فَضْلًا ولا حاجة إلى الإضمار لأن إيتاءها إياه عليه السّلام تسخيرها له ، وذكر الطيبي أن ذلك كقوله :
علفتها تبنا وماء باردا وقال الكسائي : بالعطف أيضا إلا أنه قدر مضافا أي وتسبيح لطير ولا يحتاج إليه ، وقال سيبويه : الطير معطوف على محل جِبالُ نحو قوله :
ألا يا زيد والضحاك سيرا بنصب الضحاك ، ومنعه بعض النحويين للزوم دخول يا على المنادى المعرف بأل.
والمجيز يقول : رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا ، وقال الزجاج : هو منصوب على أنه مفعول معه. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن قبله مَعَهُ ولا يقتضي اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف فكما لا يجوز جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف كذلك هذا ، وقال الخفاجي : لا يأباه مَعَهُ سواء تعلق بأوبي على أنه ظرف لغو أو جعل حالا لأنهما معمولان متغايران إذ الظرف والحال غير المفعول معه وكل منها باب على حده وإنما الموهم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 289
لذلك لفظ المعية فما اعترض به أبو حيان غير متوجه وإن ظن كذلك ، وأقبح من الذنب الاعتذار حيث أجيب بأنه يجوز أن يقال حذفت واو العطف من قوله تعالى : وَالطَّيْرَ استثقالا لاجتماع الواوين أو اعتبر تعلق الثاني بعد تعلق الأول.
وقرأ السلمي وابن هرمز وأبو يحيى وأبو نوفل ويعقوب وابن أبي عبلة وجماعة من أهل المدينة وعاصم في رواية «والطير» بالرفع وخرج على أنه معطوف على جِبالُ باعتبار لفظه وحركته لعروضها تشبه حركة الإعراب ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، وقيل معطوف على الضمير المستتر في أَوِّبِي وسوغ ذلك الفصل بالظرف ، وقيل :
هو بتقدير ولتؤوب الطير نظير ما قيل في قوله تعالى : اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة : 35 ، الأعراف : 19].
وقيل : هو مرفوع بالابتداء والخبر محذوف أي والطير تؤوب وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وجعلناه في يده كالشمع والعجين يصرفه كما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة قاله السدي وغيره ، وقيل : جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينا كالسمع بالنسبة إلى قوى سائر البشر أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أَنِ مصدرية وهي على إسقاط حرف الجر أي ألنا له الحديد لعمل سابغات أو وأمرناه بعمل سابغات ، والأول أولى ، وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة ولما كان شرط المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه وألنّا ليس فيه ذلك قدر بعضهم قبلها فعلا محذوفا فيه معنى القول ليصح كونها مفسرة أي وأمرناه أن أعمل أي أي أعمل ، وأورد عليه أن حذف المفسر لم يعهد ، والسابغات الدروع وأصله صفة من السبوغ وهو التمام والكمال فغلب على الدروع كالأبطح قال الشاعر :
لا سابغات ولا جأواء باسلة تقي المنون لدى استيفاء آجال
ويقال سوابغ أيضا كما في قوله :
عليها أسود ضاريات لبوسهم سوابغ بيض لا تخرقها النبل
فلا حاجة إلى تقدير موصوف أي دروعا سابغات ، ولا يرد هذا نقصا على ما قيل إن الصفة ما لم تكن مختصة بالموصوف كحائض لا يحذف موصوفها. وقرىء «صابغات» بإبدال السين صادا لأجل الغين.
وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ السرد نسج في الأصل كما قال الراغب خرز ما يخشن ويغلظ قال الشماخ :
فظلت سراعا خيلنا في بيوتكم كما تابعت سرد العنان الخوارز
واستعير لنظم الحديد وفي البحر هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه ويقال للدرع مسرودة لأنه توبع فيها الحلق بالحلق قال الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
ولصانعها سراد وزراد بإبدال السين زايا ، وفسره هنا غير واحد بالنسج وقال : المعنى اقتصد في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقها ، وابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق بالحلق أي اجعل حلقها على مقادير متناسبة ، وقال ابن زيد : لا تعملها صغيرة فتضعف فلا يقوى الدرع على الدفاع ولا كبيرة فينال صاحبها من خلالها ، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس تفسيرها بالمسامير وروي ذلك عن قتادة ومجاهد أي قدر مساميرها فلا تعملها دقاقا ولا غلاظا أي اجعلها على مقدار معين دقة وغيرها مناسبة للثقب الذي هيىء لها في الحلقة فإنها إن كانت دقيقة اضطربت فيها فلم تمسك طرفيها وإن كانت غليظة خرقت طرف الحلقة الموضوعة فيه فلا تمسك أيضا ، ويبعد هذا أن إلانة الحديد له عليه السّلام بحيث كان كالشمع والعجين يغني عن التسمير فإنه بعد جمع الحلق وإدخال بعضه في بعض يزال انفصال طرفي كل حلقة يمزج الطرفين كما يمزج طرفا حلقة من شمع أو عجين والاحكام بذلك أتم من الأحكام بالتسمير بل لا يبقى معه حاجة إلى التسمير أصلا فلعله إن صح مبني على أنه عليه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 290
السّلام كان يعمل الحلق من غير مزج لطرفي كل فيسمر للاحكام بعد إدخال بعضه في بعض ، ويظهر ذلك على التفسير الثاني لقوله تعالى : وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ إذ غاية القوة كسر الحديد كما يريد من غير آلة دون وصل بعضه ببعض ، ولا يعارض ذلك ما نقل عن البقاعي أنه قال : أخبرنا بعض من رأى ما نسب إلى داود عليه السّلام من الدروع أنه بغير مسامير فإنه نقل عن مجهول فلا يلتفت لمثله ، وقيل معنى قَدِّرْ فِي السَّرْدِ لا تصرف جميع أوقاتك فيه بل مقدار ما يحصل به القوت وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة قيل وهو الأنسب بالأمر الآتي ، وحكي أنه عليه السّلام أول من صنع الدرع حلقا وكانت قبل صفائح وروي ذلك عن قتادة.
وعن مقاتل أنه عليه السّلام حين ملك على بني إسرائيل يخرج متنكرا فيسأل الناس عن حاله فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله فقال : نعم العبد لولا خلة فيه فقال وما هي؟ قال : يرزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده تمت فضائله فدعا اللّه تعالى أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليل وثمنها ألف درهم.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال : كان داود عليه السّلام يرفع في كل يوم درعا فيبيعها بستة آلاف درهم ألفان له ولأهله وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل الخبز الحواري
، وقيل : كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء ، وفي مجمع البيان عن الصادق رضي اللّه تعالى عنه أنه عمل ثلاثمائة وستين درعا فباعها بثلاثمائة وستين ألف درهم فاستغنى عن بيت المال
وَاعْمَلُوا صالِحاً خطاب لداود وآله عليهم السّلام وهم وإن لم يجر لهم ذكر يفهمون على ما قال الخفاجي التزاما من ذكره ، وجوز أن يكون خطابا له عليه السّلام خاصة على سبيل التعظيم ، وأيا ما كان فالظاهر أنه أمر بالعمل الصالح مطلقا ، وليس هو على الوجه الثاني أمرا بعمل الدروع خالية من عيب.
إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم به وهو تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به على وجه الترغيب والترهيب وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا له الريح ، وقيل لِسُلَيْمانَ عطف على لَهُ في أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ والريح عطف على الْحَدِيدَ وإلانة الريح عبارة عن تسخيرها.
وقرأ أبو بكر «الريح» بالرفع على أنه مبتدأ و«لسليمان» خبره والكلام على تقدير مضاف أي ولسليمان تسخير الريح ، وذهب غير واحد إلى أنه مبتدأ ومتعلق الجار كون خاص هو الخبر وليس هناك مضاف مقدر أي ولسليمان الريح مسخرة ، وعندي أن الجملة على القراءتين معطوفة على قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا إلخ عطف القصة على القصة ، وقال ابن الشيخ : العطف على القراءة الأولى على أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وكلتا الجملتين فعلية وعلى القراءة الثانية العطف على اسمية مقدرة دلت عليها تلك الجملة الفعلية لا عليها للتخالف فكأنه قيل : ما ذكرنا لداود ولسليمان الريح فإنها كانت له كالمملوك المختص بالمالك يأمرها بما يريد ويسير عليها حيثما يشاء ، ثم قال : وإنما لم يقل ومع سليمان الريح لأن حركتها ليست بحركة سليمان بل هي تتحرك بنفسها وتحرك سليمان وجنوده بحركتها وتسير بهم حيث شاء وهذا على خلاف تأويب الجبال فإنه كان تبعا لتأويب داود عليه السّلام فلذا جيء هناك بمعه.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن إلياس «الرياح» بالرفع جمعا غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك ، والجملة أما مستأنفة أو حال من الرِّيحَ ولا بدّ من تقدير مضاف في الخبر لأن الغدو والرواح ليس نفس الشهر وإنما يكونان فيه ، ولا حاجة إلى تقدير في المبتدأ كما فعل مكي حيث قال : أي مسير غدوها مسيرة شهر ومسير رواحها كذلك لما لا يخفى ، وقال ابن الحاجب في أماليه الفائدة في إعادة لفظ الشهر

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 291
الأعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار ألا ترى أنك تقول زنة هذا مثقال وزنة هذا مثقال فلا يحسن الإضمار كما لا يحسن في التمييز ، وأيضا فإنه لو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدم باعتبار خصوصيته فإذا لم يكن له بذلك الاعتبار وجب العدول إلى الظاهر ، ألا ترى أنك إذا أكرمت رجلا وكسوت ذلك الرجل بخصوصه لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوته ولو أكرمت رجلا وكسوت رجلا آخر لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوت رجلا فتبين أنه ليس من وضع الظاهر موضع الضمير كذا في حواشي الطيبي عليه الرحمة ، ولا يخفى أن ما ذكره مبني على ما هو الغالب وإلا فقد قال تعالى : وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر : 11] ولم يقتصر على الإعلام بزمن الغدو ليقاس عليه زمن الرواح لأن الريح كثيرا ما تسكن أو تضعف حركتها بالعشي فدفع بالتنصيص على بيان زمن الرواح توهم اختلاف الزمانين ، قال قتادة كانت الريح تقطع به عليه السّلام في الغدو إلى الزوال مسيرة شهر وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر.
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال في الآية كان سليمان عليه السّلام يغدو من بيت المقدس فيقيل بإصطخر ثم يروح من إصطخر فيقيل بقلعة خراسان.
وقد ذكر حديث هذه الريح في بعض الأشعار القديمة قال وهب : ونقله عنه في البحر وجدت أبياتا منقورة في صخرة بأرض كسكر لبعض أصحاب سليمان عليه السّلام وهي :
ونحن ولا حول سوى حول ربنا نروح من الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا مسيرة شهر والغدو لآخر
أناس شروا للّه طوعا نفوسهم بنصر ابن داود النبي المطهر
لهم في معالي الدين فضل ورفعة وإن نسبوا يوما فمن خير معشر
متى تركب الريح المطيعة أسرعت مبادرة عن شهرها لم تقصر
تظلم طير صفوف عليهم متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
وذكر أيضا رضي اللّه تعالى عنه أنه عليه السّلام كان مستقره تدمر وأن الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر وقال : وفيه يقول النابغة :
ألا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاصددها عن الفند
وجيش الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
انتهى ، وما ذكره في تدمر هو المشهور عند العامة وقد ذكر ذلك الثعالبي في تفسيره مع الأبيات المذكورة لكن في القاموس تدمر كتنصر بنت حسان بن أذينة بها سميت مدينتها وهو ظاهر في المخالفة ، ولعل التعويل على ما فيه إن لم يمكن الجمع واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وقرأ ابن أبي عبلة «غدوتها» «وروحتها» على وزن فعلة وهي المرة الواحدة غدا وراح وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس الذائب من قطر يقطر قطرا وقطرانا بسكون الطاء وفتحها ، وقيل الفلزات النحاس والحديد وغيرهما ، وعلى الأول جمهور اللغويين ، وأريد بعين القطر معدن النحاس ولكنه سبحانه أساله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سمي عين القطر باسم ما آل إليه ، وذكر الجلبي أن نسبة الإسالة إلى العين مجازية كما في جري النهر.
وقال الخفاجي : إن كانت العين هنا بمعنى الماء المعين أي الجاري وإضافتها كما في لجين الماء فلا تجوز في

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 292
النسبة وإنما هو من مجاز الأول على أن العين منبع الماء ولا حاجة إليه ا ه فتأمل.
وقال بعضهم : القطر النحاس وعين بمعنى ذات ومعنى أسلنا أذبنا فالمعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود عليه السّلام فكانت الأعمال تتأتى منه وهو بارد دون نار ولم يلن ولا ذاب لأحد قبله والظاهر المؤيد بالآثار أنه تعالى جعله في معدنه عينا تسيل كعيون الماء.
أخرج ابن المنذر عن عكرمة أنه قال في الآية : أسأل اللّه تعالى له القطر ثلاثة أيام يسيل كما يسيل الماء قيل : إلى أين؟ قال : لا أدري. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : سيلت له عين من نحاس ثلاثة أيام ، وفي البحر عن ابن عباس والسدي ومجاهد قالوا ، أجريت له عليه السّلام ثلاثة أيام بلياليهن وكانت بأرض اليمن ، وفي رواية عن مجاهد أن النحاس سال من صنعاء وقيل : كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام.
وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يحتمل أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف هو خبر مقدم ومِنَ في محل رفع مبتدأ ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا مقدما من مِنَ وهي في محل نصب عطف على الرِّيحَ وجوز أن يكون مِنَ الْجِنِّ عطفا على الريح على أن من للتبعيض ومَنْ يَعْمَلُ بدل منه وهو تكلف ويَعْمَلُ إما منزل منزلة اللازم أو مفعوله مقدر يفسره ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ليكون تفصيلا بعد الإجمال وهو أوقع في النفس بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره عزّ وجلّ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا أي ومن يعدل منهم عما أمرناه به من طاعة سليمان عليه السّلام. وقرىء «يزغ» بضم الياء من أزاغ مبنيا للفاعل ومفعوله محذوف أي من يمل ويصرف نفسه أو غيره ، وقيل مبنيا للمفعول فلا يحتاج إلى تقدير مفعول نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي عذاب النار في الآخرة كما قال أكثر المفسرين وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال بعضهم : المراد تعذيبه في الدنيا.
روي عن السدي أنه عليه السّلام كان معه ملك بيده سوط من نار كل ما استعصى عليه جني ضربه من حيث لا يراه الجني.
وفي بعض الروايات أنه كان يحرق من يخالفه ، واحتراق الجني مع أنه مخلوق من النار غير منكر فإنه عندنا ليس نارا محضة وإنما النار أغلب العناصر فيه.
[سورة سبإ (34) : الآيات 13 إلى 19]
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 293
[سورة سبإ (34) : الآيات 13 إلى 24]
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ جمع محراب وهو كما قال عطية القصر ، وسمي باسم صاحبه لأنه يحارب غيره في حمايته ، فإن المحراب في الأصل من صيغ المبالغة اسم لمن يكثر الحرب وليس منقولا من اسم الآلة وإن جوزه بعضهم ، ولابن حيوس :
جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في محرابه
ويطلق على المكان المعروف الذي يقف بحذائه الإمام ، وهو مما أحدث في المساجد ولم يكن في الصدر الأول كما قال السيوطي وألف في ذلك رسالة ولذا كره الفقهاء الوقوف في داخله.
وقال ابن زيد : المحاريب المساكر ، وقيل ما يصعد إليه بالدرج كالغرف ، وقال مجاهد : هي المساجد سميت باسم بعضها تجوزا على ما قيل ، وهو مبني على أن المحراب اسم لحجرة في المسجد يعبد اللّه تعالى فيها أو لموقف الإمام.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة تفسيرها بالقصور والمساجد معا ، وجملة يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ استئناف لتفصيل ما ذكر من عملهم ، وجوز كونها حالا وهو كما ترى وَتَماثِيلَ قال الضحاك : كانت صور حيوانات ، وقال الزمخشري : صور الملائكة والأنبياء والصلحاء كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وكان اتخاذ الصور في ذلك الشرع جائزا كما قال في الآية اتخذ سليمان عليه السّلام تماثيل من نحاس فقال يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة فينفخ اللّه تعالى فيها الروح فكانت تخدمه وإسفنديار من بقاياهم ، وهذا من العجب العجاب ولا ينبغي اعتقاد صحته وما هو إلا حديث خرافة ، وأما ما روي من أنهم عملوا له عليه السّلام أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما فأمر غير مستبعد فإن ذلك يكون بآلات تتحرك عند الصعود وعند القعود فتحرك الذراعين والأجنحة ، وقد انتهت صنائع البشر إلى مثل ذلك في الغرابة ، وقيل : التماثيل طلسمات فتعمل تمثالا للتمساح أو للذباب أو للبعوض فلا يتجاوزه الممثل به ما دام في ذلك المكان ، وقد اشتهر عمل نحو ذلك عن الفلاسفة وهو مما لا يتم عندهم إلا بواسطة بعض الأوضاع الفلكية ، وعلى الباب الشهيرة بباب الطلسم من أبواب بغداد تمثال حية يزعمون أنه لمنع الحيات عن الإيذاء داخل بغداد ونحن قد شاهدنا مرارا أناسا لسعتهم الحيات فمنهم من لم يتأذ ومنهم من تأذى يسيرا ولم نشاهد موت أحد من ذلك وقلما يسلم من لسعته خارج بغداد لكن لا نعتقد أن لذلك التمثال مدخلا فيما ذكر ونظن أن ذاك لضعف الصنف الموجود في بغداد من الحيات وقلة شره بالطبيعة ، وقيل كانت التماثيل صور شجر أو حيوانات

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 294
محذوفة الرؤوس مما جوز في شرعنا ، ولا يحتاج إلى التزام ذلك إذا صح فيه نقل فإن الحق أن حرمة تصوير الحيوان كاملا لم تكن في ذلك الشرع وإنما هي في شرعنا ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل وأن لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد أو جدار مثلا.
وحكى مكي في الهداية أن قوما أجازوا التصوير وحكاه النحاس أيضا وكذا ابن الفرس واحتجوا بهذه الآية ، وأنت تعلم أنه ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصورين ما ورد فلا يلتفت إلى هذا القول ولا يصح الاحتجاج بالآية ، وكأنه إنما حرمت التماثيل لأنه بمرور الزمان اتخذها الجهلة مما يعبد وظنوا وضعها في المعابد لذلك فشاعت عبادة الأصنام أو سدا لباب التشبه بمتخذي الأصنام بالكلية وَجِفانٍ جمع جفنة وهي ما يوضع فيها الطعام مطلقا كما ذكره غير واحد ، وقال بعض اللغويين : الجفنة أعظم القصاع ويليها القصعة وهي ما تشبع العشرة ويليها الصحفة وهي ما تشبع الخمسة ويليها المئكلة وهي ما تشبع الاثنين والثلاثة ويليها الصحيفة وهي ما تشبع الواحد ، وعليه فالمراد هنا المطلق لظاهر قوله تعالى : كَالْجَوابِ أي كالحياض العظام جمع جابية من الجباية أي الجمع فهي في الأصل مجاز في الطرف أو النسبة لأنها يجبي إليها لا جابية ثم غلبت على الإناء المخصوص غلبة الدابة في ذوات الأربع ، وجاء تشبيه الجفنة بالجابية في كلامهم من ذلك قول الأعشى :
نفي الذم عن آل المحلق جفنة كجابية السيح العراقي تفهق
وقول الأفوه الأودي :
وقدور كالربى راسيه وجفان كالجوابي مترعه
وذكر في سعة جفان سليمان عليه السّلام أنها كان على الواحدة منها ألف رجل. وقرىء «كالجوابي» بياء وهو الأصل وحذفها للاجتزاء بالكسرة وإجراء أل مجرى ما عاقبها وهو التنوين فكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه وَقُدُورٍ جمع قدر وهو ما يطبخ فيه من فخار أو غيره وهو على شكل مخصوص راسِياتٍ ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها قاله قتادة ، وقيل : كانت عظيمة كالجبال وقدمت المحاريب على التماثيل لأن الصور توضع في المحاريب أو تنقش على جدرانها ، وقدمت الجفان على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل لأنه لما ذكرت الأبنية الملكية ناسب أن يشار إلى عظمة السماط الذي يمد فيها فذكرت الجفان أولا لأنها تكون فيها بخلاف القدور فإنها لا تحضر هناك كما ينبىء عنه قوله تعالى : راسِياتٍ على ما سمعت أولا ، وكأنه لما بين حال الجفان اشتاق الذهن إلى حال القدور فذكرت للمناسبة.
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً بتقدير القول على الاستئناف أو الحالية من فاعل (سخرنا) المقدر وآل منادى حذف منه حرف النداء وشُكْراً نصب على أنه مفعول له ، وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف أو على أنه مفعول مطلق لاعملوا لأن الشكر نوع من العمل فهو كقعدت القرفصاء ، وقيل : لتضمين اعْمَلُوا معنى اشكروا ، وقيل : لا شكروا محذوفا أو على أنه حال بتأويل اسم الفاعل أي اعملوا شاكرين لأن الشكر يعم القلب والجوارح أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي اعملوا عملا شكرا أو على أنه مفعول به لا عملوا فالكلام كقولك عملت الطاعة ، وقيل : إن اعملوا أقيم مقام اشكروا مشاكلة لقوله سبحانه يعملون.
وقال ابن الحاجب : إنه جعل مفعولا به تجوزا. وأيا ما كان فقد روى ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : لما قيل لهم اعملوا آل داود شكرا ، لم يأت ساعة على القوم إلا ومنهم قائم يصلي ، وفي رواية

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 295
كان مصلى آل داود لم يخل من قائم يصلي ليلا ونهارا وكانوا يتناوبونه وكان سليمان عليه السّلام يأكل خبز الشعير ويطعم أهله خشادته ، والمساكين الدرمك وهو الدقيق الحواري وما شبع قط ، وقيل : له في ذلك فقال : أخاف إذا شبعت أن أنسى الجياع ، وجوز بعض الأفاضل دخول داود عليه السّلام في الآل هنا لأن آل الرجل قد يعمه.
ويؤيده ما
أخرجه أحمد في الزهد : وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن المغيرة بن عتيبة قال : قال داود عليه السّلام يا رب هل بات أحد من خلقك أطول ذكرا مني فأوحى اللّه تعالى إليه الضفدع وأنزل سبحانه عليه عليه السّلام اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً فقال داود عليه السّلام كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم عليّ ثم ترزقني على النعمة الشكر فالنعمة منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك؟ فقال جل وعلا : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي.
وجاء في رواية ابن أبي حاتم عن الفضيل أنه عليه السّلام قال يا رب : كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قال سبحانه : الآن شكرتني حين علمت النعم مني
، وكذا ما
أخرجه الفريابي : وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قال داود لسليمان عليهما السّلام : قد ذكر اللّه تعالى الشكر فاكفني قيام النار أكفك قيام الليل قال : لا أستطيع قال : فأكفني صلاة النهار فكفاه
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ قال ابن عباس : هو الذي يشكر على أحواله كلها ، وفي الكشاف هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعترافا واعتقادا وكدحا وأكثر أوقاته ، وقال السدي هو من يشكر على الشكر ، وقيل : من يرى عجزه عن الشكر لأن توفيقه للشكر نعمة يستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية ، وقد نظم هذا بعضهم فقال :
إذا كان شكري نعمة اللّه نعمة علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتسع العمر
إذا مس بالنعماء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وقد سمعت آنفا ما روي عن داود عليه السّلام ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون داخلة في خطاب آل داود وهو الظاهر وأن تكون جملة مستقلة جيء بها إخبارا لنبينا صلّى اللّه عليه وسلم وفيها تنبيه وتحريض على الشكر.
وقرأ حمزة «عبادي» بسكون الياء وفتحها الباقون فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ قيل أي أوقعنا على سليمان الموت حاكمين به عليه ، وفي مجمع البيان أي حكمنا عليه بالموت ، وقيل : أوجبناه عليه ، وفي البحر أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت وأخرجناه إلى حيز الوجود ، وفيه تكلف ، وأيا ما كان فليس المراد بالقضاء أخا القدر فتدبر ، ولما شرطية ما بعدها شرطها وجوابها قوله تعالى : ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ واستدل بذلك على حرفيتها وفيه نظر ، وضمير دَلَّهُمْ عائد على الجن الذين كانوا يعملون له عليه السّلام ، وقيل : عائد على آل سليمان ، ويأباه بحسب الظاهر قوله تعالى بعد تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ والمراد بدابة الأرض الأرضة بفتحات وهي دويبة تأكل الخشب ونحوه وتسمى سرفة بضم السين وإسكان الراء المهملة وبالفاء ، وفي حياة الحيوان عن ابن السكيت إنها دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر تتخذ لنفسها بيتا مربعا من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها ثم تدخل فيه وتموت ، وفي المثل أصنع من سرفة وسماها في البحر بسوسة الخشب ، والأرض على ما ذهب إليه أبو حاتم وجماعة مصدر أرضت الدابة الخشب تأرضه إذا أكلته من باب ضرب يضرب فإضافة دَابَّةُ إليه من إضافة الشيء إلى فعله ، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس والعباس بن الفضل الْأَرْضِ بفتح الراء لأنه مصدر أرض من باب علم المطاوع لأرض من باب ضرب يقال أرضت الدابة الخشب بالفتح فأرض بالكسر كما يقال أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا فالأرض بالسكون الأكل والأرض بالفتح التأثر من
ذلك الفعل.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 296
وقد يفسر الأول بالتأثر الذي هو الحاصل بالمصدر لتتوافق القراءتان ، وقيل الأرض بالفتح جمع أرضة وإضافة دَابَّةُ إليه من إضافة العام إلى الخاص ، وقيل : إن الأرض بالسكون بمعناها المعروف وإضافة دَابَّةُ إليها قيل لأن فعلها في الأكثر فيها ، وقيل لأنها تؤثر في الخشب ونحوه كما تؤثر الأرض فيه إذا دفن فيها وقيل غير ذلك والأولى التفسير الأول وإن لم تجىء الأرض في القرآن بذلك المعنى في غير هذا الموضع ، وقوله تعالى : تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ في موضع الحال من دَابَّةُ أي آكلة منسأته والمنسأة العصا من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها أو من نسأته إذا أخرته ومنه النسيء ، ويظهر من هذا أنها العصا الكبيرة التي تكون مع الراعي وأضرابه.
وقرأ نافع وابن عامر وجماعة «منساته» بألف وأصله منسأته فأبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي.
وقال أبو عمرو : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا فإن كانت مما لا تهمز فقد احتطت وإن كانت مما تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ، ولعله بيان لوجه اختيار القراءة بدون همزة وبالهمز جاءت في قول الشاعر :
ضربت بمنسأة وجهه فصار بذاك مهينا ذليلا
وبدونه في قوله :
إذا دببت على المنساة من هرم فقد تباعد منك اللهو والغزل
وقرأ ابن ذكوان وبكار والوليد بن أبي عتبة وابن مسلم وآخرون «منسأته» بهمزة ساكنة وهو من تسكين المتحرك تخفيفا وليس بقياس ، وضعف النحاة هذه القراءة لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل تاء التأنيث ساكنا غير ألف ، وقيل :
قياسها التخفيف بين بين والراوي لم يضبط ، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على السكون في هذه القراءة قول الراجز :
صريع خمر قام من وكأته كقومة الشيخ إلى منسأته
وقرىء بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا و«منساءته» بالمد على وزن مفعالة كما يقال في الميضأة وهي آلة التوضؤ وتطلق على محله أيضا ميضاءة ، وقرىء «منسيته» بإبدال الهمزة ياء. وقرأت فرقة منهم عمرو بن ثابت عن ابن جبير «من» مفصولة حرف جر «ساته» بجر التاء وهي طرف العصا وأصلها ما انعطف من طرفي القوس ويقال فيه سية أيضا استعيرت لما ذكر إما استعارة اصطلاحية لأنها كانت خضراء فاعوجت بالاتكاء عليها على ما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى في القصة أو لغوية باستعمال المقيد في المطلق ، وبما ذكر علم رد ما قاله البطليوسي بعد ما نقل هذه القراءة عن القراء أنه تعجرف لا يجوز أن يستعمل في كتاب اللّه عزّ وجلّ ولم يأت به رواية ولا سماع ومع ذلك هو غير موافق لقصة سليمان عليه السّلام لأنه لم يكن معتمدا على قوس وإنما كان معتمدا على عصا. وقرىء «أكلت منسأته» بصيغة الماضي فالجملة إما حال أيضا بتقدير قد أو بدونه وإما استئناف بياني.
فَلَمَّا خَرَّ أي سقط تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي علمت بعد التباس أمر سليمان من حياته ومماته عليهم أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته زمن وقوعه فلم يلبثوا بعده حولا في الأعمال الشاقة إلى أن خر ، والمراد بالجن الذين علموا ذلك ضعفاء الجن وبالذين نفي عنهم علم الغيب رؤساؤهم وكبارهم على ما روي عن قتادة ، وجوز عليه أن يراد بالأمر الملتبس عليهم أمر علم الغيب أو المراد بالجن الجنس بأن يسند للكل ما للبعض أو المراد كبارهم المدعون علم الغيب أي علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم وأنهم لا يعلمون الغيب ، وهم وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم لكن أريد التهكم بهم كما تقول

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 297
للمبطل إذا دحضت حجته هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينا.
وجوز أن يكون تبين بمعنى بأن وظهر فهو وغير متعد لمفعول كما في الوجه الأول فإن مفعوله فيه أَنْ لَوْ كانُوا إلخ وهو في هذا الوجه بدل من الْجِنُّ بدل اشتمال نحو تبين زيد جهله ، والظهور في الحقيقة مسند إليه أي فلما خر بأن للناس وظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب ، ولا حاجة على ما قرر إلى اعتبار مضاف مقدر هو فاعل تبين في الحقيقة إلا أنه بعد حذفه أقيم المضاف إليه مقامه وأسند إليه الفعل ثم جعل أَنْ لَوْ كانُوا إلخ بدلا منه بدل كل من كل والأصل تبين أمر الجن أن لو كانوا إلخ ، وجعل بعضهم في قوله تعالى أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إلخ قياسا طويت كبراه فكأنه قيل لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين لكنهم لبثوا في العذاب المهين فهم لا يعلمون الغيب ، ومجيء تبين بمعنى بأن وظهر لازما وبمعنى أدرك وعلم متعديا موجود في كلام العرب قال الشاعر :
تبين لي أن القماءة ذلة وأن أعزاء الرجال طيالها
وقال الآخر :
أفاطم إني ميت فتبيني ولا تجزعي كل الأنام تموت
وفي البحر نقلا عن ابن عطية قال : ذهب سيبويه إلى أن أَنْ لا موضع لها من الأعراب وإنما هي منزلة منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم - فما لبثوا - جواب القسم لا جواب لو ا ه فتأمله فإني لا أكاد أتعقله وجها يلتفت إليه.
وفي أمالي العز بن عبد السّلام أن الجن ليس فاعل تَبَيَّنَتِ بل هو مبتدأ وأَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ خبره والجملة مفسرة لضمير الشأن في تَبَيَّنَتِ إذ لولا ذلك لكان معنى الكلام لما مات سليمان وخر ظهر لهم أنهم لا يعلمون الغيب وعلمهم بعدم علمهم الغيب لا يتوقف على هذا بل المعنى تبينت القصة ما هي والقصة قوله تعالى :
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ ا ه ، والعجب من صدور مثله عن مثله ، وما جعله مانعا عن فاعلية الْجِنُّ مدفوع بما سمعت في تفسير الآية كما لا يخفى ، وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه قرىء «تبينت الجن» بالنصب على أن تبينت بمعنى علمت والفاعل ضمير الإنس والجن مفعوله ، وقرأ ابن عباس فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه «تبيّنت» مبنيا للمفعول ، وقرأ أبي «تبينت الإنس» وعن الضحاك «تباينت الإنس» بمعنى تعارقت وتعالمت والضمير في كانُوا للجن المذكور فيما سبق وقرأ ابن مسعود «تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب» وهي قراءات مخالفة لسواد المصحف مخالفة كثيرة وفي القصة روايات
فروي أنه كان من عادة سليمان عليه السّلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها اللّه تعالى فيسألها لأي شيء أنت؟ فتقول : لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخرنوبة فسألها فقالت نبت لخراب هذا المسجد فقال : ما كان اللّه تعالى ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له واتخذ منها عصا وقال : اللهم عم على الجن موتى حتى يعلم أنهم لا يعلمون الغيب كما يموهون وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فاعلمني فقال : أمرت بك وقد بقي من عمرك ساعة فدعا الجن فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكىء عليها وكانت الجن تجتمع حول محرابه أينما صلى فلم يكن جني ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر جني فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يسمع فنظر إذا سليمان قد خر ميتا ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة فأرادوا أن يعرفوا وقت موته

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 298
فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا فتبين أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لما لبثوا في العذاب سنة
، ولا يخفى أن هذا من باب التخمين والاقتصار على الأقل وإلا فيجوز أن تكون الأرضة بدت بالأكل بعد موته بزمان كثير وأنها كانت تأكل أحيانا وتترك أحيانا.
وأما كون بدئها في حياته فبعيد ، وكونه بالوحي إلى نبي في ذلك الزمان كما قيل فواه لأنه لو كان كذلك لم يحتاجوا إلى وضع الأرضة على العصا ليستعلموا المدة ، وروي أن داود عليه السّلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السّلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الجن بإتمامه فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب ، وهذا بظاهره مخالف لما روي أن إبراهيم عليه السّلام هو الذي أسس بيت المقدس بعد الكعبة بأربعين سنة ثم خرب وأعاده داود ومات قبل أن يتمه ، وأيضا إن موسى عليه السّلام لم يدخل بيت المقدس بل مات في التيه ، وجاء في الحديث الصحيح أنه عليه السّلام سأل ربه عند وفاته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر
، وأيضا
قد روي أن سليمان قد فرغ من بناء المسجد وتعبد فيه وتجهز بعده للحج شكرا للّه تعالى على ذلك
. وأجيب عن الأول بأن المراد تجديد التأسيس ، وعن الثاني بأن المراد بفسطاط موسى فسطاطه المتوارث وكانوا يضربونه يتعبدون فيه تبركا لا أنه كان يضرب هنالك في زمنه عليه السّلام ، ويحتاج هذا إلى نقل فإن مثله لا يقال بالرأي فإن كان فأهلا ومرحبا ، وقيل المراد به مجمع العبادة على دين موسى كما وقع في الحديث فسطاط إيمان.
وقال القرطبي في التذكرة : المراد به فرقة منحازة عن غيرها ، مجتمعة تشبيها بالخيمة ، ولا يخفى ما فيهما وإن قيل إنهما أظهر من الأول ، وعن الثالث بأن المراد بالفراغ القرب من الفراغ وما قارب الشيء له حكمه وفيه بعد واختير أن هذا رواية وذاك رواية واللّه تعالى أعلم بالصحيح منهما. وروي أنه عليه السّلام قد أمر ببناء صرح له فبنوه فدخله مختليا ليصفو له يوم في الدهر من الكدر فدخل عليه شاب فقال : له كيف دخلت عليّ بلا إذن؟ فقال : إنما دخلت بإذن فقال : ومن أذن لك؟ قال : رب هذا الصرح فعلم أنه ملك الموت أتى لقبض روحه فقال : سبحان اللّه هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا فقال له : طلبت ما لم يخلق فاستوثق من الاتكاء على عصاه فقبض روحه وخفي على الجن موته حتى سقط
، وروي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه ، ولذا لم تقربه الجن وخفي أمر موته عليهم.
ونظر فيه بأن سليمان كان بعد موسى بمدة مديدة وأفريدون كان قبله لأن منوجهر من أسباط أفريدون وظهر موسى عليه في زمانه ، وعلى جميع الروايات الدالة على موته عليه السّلام خروره لما كسرت العصا لضعفها بأكل الأرضة منها ، ونسبة الدلالة في الآية إليها نسبة إلى السبب البعيد.
ومن الغريب ما نقل عن ابن عباس أنه عليه السّلام مات في متعبده على فراشه ، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة أي عتبة الباب فلما خر أي الباب علم موته فإن فيه جعل ضمير خَرَّ للباب وإليه ذهب بعضهم ، وفيه أنه لم يعهد تسمية العتبة منسأة ، وأيضا كان اللازم عليه خرت بتاء التأنيث ولا يجيء حذفها في مثل ذلك إلا في ضرورة الشعر ، وكون التذكير على معنى العود بعيد فالظاهر عدم صحة الرواية عن الحبر واللّه تعالى أعلم.
وحكى البغوي عنه أن الجن شكروا الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب وهذا شيء لا أقول به ولا أعتقد صحة الرواية أيضا ، وكان عمره عليه السّلام ثلاثا وخمسين سنة وملك بعد أبيه وعمره ثلاثة عشر سنة وابتدأ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 299
في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ثم مضى وانقضى وسبحان من لا ينقضي ملكه ولا يزول سلطانه ، وفي الآية دليل على أن الغيب لا يختص بالأمور المستقبلة بل يشمل الأمور الواقعة التي هي غائبة عن الشخص أيضا لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ لما ذكر عزّ وجلّ حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه تعالى ذكر حال الكافرين بالنعمة المعرضين عنه جل شأنه موعظة لقريش وتحذيرا لمن كفر بالنعم وأعرض عن المنعم ، وسبأ في الأصل اسم رجل وهو سبأ بن يشجب بالشين المعجمة والجيم كينصر بن يعرب بن قحطان ، وفي بعض الأخبار عن فروة بن مسيك قال : أتيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقلت : يا رسول اللّه أخبرني عن سبأ أرجل هو أم امرأة؟ فقال : هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعريون وأنمار ومنهم بجيلة وأما الذين تشاءموا فعاملة وغسان ولخم وجذام
،
وفي شرح قصيدة عبد المجيد بن عبدون لعبد الملك بن عبد اللّه بن بدرون الحضرمي البستي أن سبأ بن يشجب أول ملوك اليمن في قول واسمه عبد شمس وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبى السبي من ولد قحطان وكان ملكه أربعمائة وأربعا وثمانين سنة ثم سمي به الحي ، ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو باعتبار جعله اسما للقبيلة ففيه العلمية والتأنيث ، وقرأ قنبل بإسكان الهمزة على نية الوقف ، وعن ابن كثير قلب همزته ألفا ولعله سكنها أولا بنية الوقف كقنبل ثم قلبها ألفا والهمزة إذا سكنت يطرد قلبها من جنس حركة ما قبلها ، وقيل : لعله أخرجها بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب ، والمراد بسبأ هنا إما الحي أو القبيلة وإما الرجل الذي سمعت وعليه فالكلام على تقدير مضاف أي لقد كان في أولاد سبأ ، وجوز أن يراد به البلد وقد شاع إطلاقه عليه وحينئذ فالضمير في قوله تعالى :
فِي مَسْكَنِهِمْ لأهلها أولها مرادا بها الحي على سبيل الاستخدام والأمر فيه على ما تقدم ظاهر ، والمسكين اسم مكان أي في محل سكناهم وهو كالدار يطلق على المأوى للجميع وإن كان قطرا واسعا كما تسمى الدنيا دارا ، وقال أبو حيان : ينبغي أن يحمل على المصدر أي في سكناهم لأن كل أحد له مسكن وقد أفرد في هذه القراءة وجعل المفرد بمعنى الجمع كما في قوله :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا وقوله :
قد عض أعناقهم جلد الجواميس يختص بالضرورة عند سيبويه انتهى.
وبما ذكرنا لا تبقى حاجة إليه كما لا يخفى ، واسم ذلك المكان مأرب كمنزل وهي من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ، وقرأ الكسائي والأعمش وعلقمة «مسكنهم» بكسر الكاف على خلاف القياس كمسجد ومطلع لأن ما ضمت عين مضارعه أو فتحت قياس المفعل منه زمانا ومكانا ومصدرا الفتح لا غير ، وقال أبو الحسن كسر الكاف لغة فاشية وهي لغة الناس اليوم والفتح لغة الحجاز وهي اليوم قليلة ، وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة.
وقرأ الجمهور «مساكنهم» جمعا أي في مواضع سكناهم آيَةٌ أي علامة دالة بملاحظة أخواتها السابقة واللاحقة على وجود الصانع المختار وأنه سبحانه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء وهي اسم كان وقوله تعالى : جَنَّتانِ بدل منها على ما أشار إليه الفراء وصرح به مكي وغيره ، وقال الزجاج : خبر مبتدأ محذوف أي هي جنتان ولا يشترط في البدل المطابقة إفرادا وغيره وكذا الخبر إذا كان غير مشتق ولم يمنع المعنى من اتحاده مع المبتدأ ، ولعل وجه توحيد الآية هنا مثله في قوله تعالى : وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون : 50] ولا حاجة إلى اعتبار مضاف مفرد محذوف هو البدل أو الخبر في الحقيقة أي قصة جنتين ، وذهب ابن عطية بعد أن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 300
ضعف وجه البدلية ولم يذكر الجهة إلى أن جَنَّتانِ مبتدأ خبره قوله تعالى : عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها إلا أن اعتقد أن ثم صفة محذوفة أي جنتان لهم أو جنتان عظيمتان وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام متلفتا عما قبله. وقرأ ابن أبي عبلة «جنتين» بالنصب على المدح ، وقال أبو حيان : على أن آية اسم كان و«جنتين» الخبر وأيا ما كان فالمراد بالجنتين على ما روي عن قتادة جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله وإطلاق الجنة على كل جماعة لأنها التقارب أفرادها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، وقيل : أريد بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال سبحانه : جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ [الكهف : 32] قيل : ولم تجمع لئلا يلزم أن لكل مسكن رجل جنة واحدة لمقابلة الجمع بالجمع ، ورد بأن قوله تعالى : عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ يدفع ذلك لأنه بالنظر إلى كل مسكن إلا أنها لو جمعت أو هم أن لكل مسكن جنات عن يمين وجنات عن شمال هذا لا محذور فيه إلا أن يدعى أنه مخالف للواقع ثم أنه قيل إن في فيما سبق بمعنى عند فإن المساكن محفوفة بالجنتين لا ظرف لهما ، وقيل : لا حاجة إلى هذا فإن القريب من الشيء قد يجعل فيه مبالغة في شدة القرب ولكل جهة لكن أنت تعلم أنه إذا أريد بالمساكن أو المسكن ما يصلح أن يكون ظرفا لبلدهم المحفوفة بالجنتين أو لمحل كل منهم المحفوفة بهما لم يحتج إلى التأويل أصلا فلا تغفل كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ جملة مستأنفة بتقدير قول أي قال لهم نبيهم كلوا إلخ ، وفي مجمع البيان قيل : إن مساكنهم كانت ثلاثة عشر قرية في كل قرية نبي يدعوهم إلى اللّه عزّ وجلّ يقول كلوا من رزق ربكم إلخ ، وقيل : ليس هناك قول حقيقة وإنما هو قول بلسان الحال بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ أي هذه البلدة التي فيها
رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره ، والجملة استئناف للتصريح بموجب الشكر ، ومعنى طيبة زكية مستلذة.
يروى أنها كانت لطيفة الهواء حسنة التربة لا تحدث فيها عاهة ولا يكون فيها هامة حتى أن الغريب إذا حلها وفي ثيابه قمل أو براغيث ماتت ، وقيل : المراد بطيبها صحة هوائها وعذوبة مائها ووفور نزهتها وأنه ليس فيها حر يؤذي في الصيف ولا برد يؤذي في الشتاء ، وقرأ رويس بنصب «بلدة» وجميع ما بعدها وذلك على المدح والوصفية.
وقال أحمد بن يحيى : بتقدير اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا ربا غفورا ومن الاتفاقات النادرة إن لفظ بلدة طيبة بحساب الجمل واعتبار هاء التأنيث بأربعمائة كما ذهب إليه كثير من الأدباء وقع تاريخا لفتح القسطنطينية وكانت نزهة بلاد الروم فَأَعْرَضُوا أي عن الشكر كما يقتضيه المقام ويدخل فيه الأعراض عن الإيمان لأنه أعظم الكفر والكفران ، وقال أبو حيان : أعرضوا عما جاء به إليهم أنبياؤهم الثلاثة عشر حيث دعوهم إلى اللّه تعالى وذكروهم نعمه سبحانه فكذبوهم وقالوا ما نعرف للّه نعمة فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي الصعب من عرم الرجل مثلث الراء فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب ، وفي معناه ما جاء في رواية عن ابن عباس من تفسيره بالشديد ، وإضافة السيل إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ومن أباها من النحاة قال التقدير سيل الأمر العرم.
وقيل : العرم المطر الشديد والإضافة على ظاهرها ، وقيل : هو اسم للجرذ الذي نقب عليهم سدهم فصار سببا لتسلط السيل عليهم وهو الفار الأعمى الذي يقال له الخلد وإضافة السيل إليه لأدنى ملابسة ، وقال ابن جبير : العرم المسناة بلسان الحبشة ، وقال الأخفش ، هو بهذا المعنى عربي ، وقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي كل ما بني أو سنم ليمسك الماء ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة ، والإضافة كما في سابقه والملابسة في هذا أقوى ، وعن ابن عباس وقتادة والضحاك ومقاتل هو اسم الوادي الذي كان يأتي السيل منه وبني السد فيه ، ووجه إضافة السيل إليه ظاهر ، وقرأ عزرة بن الورد فيما حكى ابن خالويه «العرم» بإسكان الراء تخفيفا كقولهم في

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 301
الكبد الكبد. روي أن بلقيس لما ملكت اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها وسكنت قصرها وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعن أو لنقتلنك فقالت لهم : أنتم لا عقول لكم ولا تطيعوني فقالوا : نطيعك فرجعت إلى واديهم وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام فأمرت فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار وحبست الماء من وراء السد وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة منها اثنا عشر مخرجا على عدة أنهارهم وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليه السّلام ما كان.
وقيل : الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية ، وقيل بناه لقمان الأكبر بن عاد ورصف أحجاره بالرصاص والحديد وكان فرسخا في فرسخ ولم يزالوا في أرغد عيش وأخصب أرض حتى أن المرأة تخرج وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير فيمتلىء المكتل مما يتساقط من أشجار بساتينهم إلى أن أعرضوا عن الشكر وكذبوا الأنبياء عليهم السّلام فسلط اللّه تعالى على سدهم الخلد فوالد فيه فخرقه فأرسل سبحانه سيلا عظيما فحمل السد وذهب بالجنان وكثير من الناس ، وقيل إنه أذهب السد فاختل أمر قسمة الماء ووصوله إلى جنانهم فيبست وهلكت ، وكان ذلك السيل على ما قيل في ملك ذي الأذعار بن حسان في الفترة بين نبينا صلّى اللّه عليه وسلم وعيسى عليه السّلام ، وفيه بحث على تقدير القول بأن الاعراض كان عما جاءهم من أنبيائهم الثلاثة عشر كما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى عن قريب.
وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ أي أذهبنا جنتيهم وأتينا بدلها جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ أي ثمر خَمْطٍ أي حامض أو مر ، وعن ابن عباس الخمط الأراك ويقال لثمره مطلقا أو إذا اسود وبلغ البربر ، وقيل شجر الغضا ولا أعلم هل له ثمر أم لا ، وقال أبو عبيدة : كل شجرة مرة ذات شوك ، وقال ابن الأعرابي : هو ثمر شجرة على صورة الخشخاش لا ينتفع به وتسمى تلك الشجرة على ما قيل بفسوة الضبع وهو على الأول صفة لأكل والأمر في ذلك ظاهر ، وعلى الأخير عطف بيان على مذهب الكوفيين المجوزين له في النكرات ، وقيل بدل وعلى ما بينهما الكلام على حذف مضاف أي أكل أكل خمط وذلك المضاف بدل من أكل أو عطف بيان عليه ولما حذف أقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه كما في البحر ، وقيل هو بتقدير أكل ذي خمط ، وقيل هو بدل من باب يعجبني القمر فلكه وهو كما ترى. ومنع جعله وصفا من غير ضرب من التأويل لأن الثمر لا يوصف بالشجر لا لأن الوصف بالأسماء الجامدة لا يطرد وإن جاء منه شيء نحو مررت بقاع عرفج فتأمل.
وقرأ أبو عمرو «أكل خمط» بالإضافة وهو من باب ثوب خز ، وقرأ ابن كثير «أكل» بسكون الكاف والتنوين وَأَثْلٍ ضرب من الطرفاء على ما قاله أبو حنيفة اللغوي في كتاب النبات له ، وعن ابن عباس تفسيره بالطرفاء ، ونقل الطبرسي قولا أنه السمر وهو عطف على أُكُلٍ ولم يجوز الزمخشري عطفه على خَمْطٍ معللا بأن الأثل لا ثمر له ، والأطباء كداود الأنطاكي وغيره يذكرون له ثمرا كالحمص ينكسر عن حب صغار ملتصق بعضه ببعض ويفسرون الأثل بالعظيم من الطرفاء ويقولون في الطرفاء هو بري لا ثمر له وبستاني له ثمر لكن قال الخفاجي : لا يعتمد على الكتب الطبية في مثل ذلك وفي القلب منه شيء ، ونحن قد حققنا أن للأثل ثمرا. وكذا لصنف من الطرفاء إلا أن ثمرهما لا يؤكل ولعل مراد النافي نفي ثمرة تؤكل ، والأطباء يعدون ما تخرجه الشجر غير الورق ونحوه ثمرة أكلت أم لا ، ومثله في العطف على ذلك في قوله تعالى :
وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ وحكى الفضيل بن إبراهيم أنه قرىء «أثلا وشيئا» بالنصب عطفا على جَنَّتَيْنِ والسدر شجر النبق ، وقال الأزهري : السدر سدران سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عفصة لا تؤكل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 302
وهو الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب انتهى. واختلف في المراد هنا فقيل الثاني ، ووصف بقليل لفظا ومعنى أو معنى فقط وذلك إذا كان نعتا لشيء المبين به لأن ثمره مما يطيب أكله فجعل قليلا فيما بدلوا به لأنه لو كثر كان نعمة لا نقمة ، وإنما أوتوه تذكيرا للنعم الزائلة لتكون حسرة عليهم ، وقيل المراد به الأول حتما لأنه الأنسب بالمقام ، ولم يذكر نكتة الوصف بالقليل عليه. ويمكن أن يقال في الوصف به مطلقا أن السدر له شأن عند العرب ولذا نص اللّه تعالى على وجوده في الجنة والبستاني منه لا يخفى نفعه والبري يستظل به أبناء السبيل ويأنسون به ولهم فيه منافع أخرى ويستأنس لعلو شأنه بما
أخرجه أبو داود في سننه والضياء في المختارة عن عبد اللّه بن حبشي قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من قطع سدرة صوب اللّه رأسه في النار
وبما
أخرجه البيهقي عن أبي جعفر قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لعلي كرّم اللّه تعالى وجهه في مرض موته : اخرج يا علي فقل عن اللّه لا عن رسول اللّه لعن اللّه من يقطع السدر»
وفي معناهما عدة أخبار لها عدة طرق ، والكل فيما أرى محمول على ما إذا كان القطع عبثا ولو كان السدر في ملكه. وقيل في ذلك مخصوص بسدر المدينة ، وإنما نهى عن قطعه ليكون إنسا وظلا لمن يهاجر إليها ، وقيل بسدر الفلاة ليستظل به أبناء السبيل والحيوان ، وقيل بسدر مكة لأنها حرم ، وقيل بما إذا كان في ملك الغير وكان القطع بغير حق ، والكل كما ترى ، وأيا ما كان ففي التنصيص عليه ما يشير إلى أن له شأنا فلما ذكر سبحانه ما آل إليه حال أولئك المعرضين وما بدلوا بجنتيهم أتى جل وعلا بما يتضمن الإيذان بحقارة ما عوضوا به وهو مما له شأن عند العرب أعني السدر وقلته ، والإيذان بالقلة ظاهر وأما الإيذان بالحقارة فمن ذكر شيء والعدول عن أن يقال وسدر قليل مع أنه الأخصر الأوفق بما قبله ففيه إشارة إلى غاية انعكاس الحال حيث أومأ الكلام إلى أنهم لم يؤتوا بعد إذهاب جنتيهم شيئا مما لجنسه شأن عند العرب إلا السدر وما أوتوه من هذا الجنس حقير قليل ، وتسمية البدل جنتين مع أنه ما سمعت للمشاكلة والتهكم ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من التبديل ، وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد رتبته في الفظاعة أو إلى مصدر قوله تعالى :
جَزَيْناهُمْ كما قيل في قوله سبحانه : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : 143] ومحله على الأول النصب على أنه مفعول ثان ، وعلى الثاني النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور ، والتقديم للتعظيم والتهويل وقيل للتخصيص أي ذلك التبديل جزيناهم لا غيره أو ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لا جزاء آخر بِما كَفَرُوا بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها. وقيل بسبب كفرهم بالرسل الثلاثة عشر الذين بعثوا إليهم.
واستشكل هذا مع القول بأن السيل العرم كان زمن الفترة بأن الجمهور قالوا : لا نبي بين نبينا وعيسى عليهما الصلاة والسّلام ، ومن الناس من قال : بينهما صلّى اللّه عليه وسلم أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد العبسي وهو قد بعث لقومه وبنو إسرائيل لم يبعثوا للعرب وأجيب بأن ما كان زمن الفترة هو السيل العرم لا غير والرسل الثلاثة عشر هم جملة من كان في قومهم من سبأ بن يشجب إلى أن أهلكهم اللّه تعالى أجمعين فتأمل ولا تغفل.
وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي ما نجازي مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفران أو الكفر فلا يتوجه على الحصر إشكال أن المؤمن قد يعاقب في العاجل. وفي الكشف لا يراد أن المؤمن أيضا يعاقب فإنه ليس بعقاب على الحقيقة بل تمحيص ولأنه أريد المعاقبة بجميع ما يفعله من السوء ، ولا كذلك للمؤمن ، ولا مانع من أن يكون الجزاء عاما في كل مكافأت وأريد به المعاقبة مطلقا من غير تقييد بما سبق لقرينة جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا لتعيين المعاقبة فيه بل قال الزمخشري : هو الوجه الصحيح وذلك لعدم الإضمار ولأن التذييل هكذا آكد وأسد موقعا ولا يتوجه الإشكال لما في الكشف وقرأ الجمهور «يجازي» بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول «الكفور» بالرفع على النيابة عن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 303
الفاعل. وقرىء «يجازي» بضم الياء وكسر الزاي مبنيا للفاعل وهو ضميره تعالى وحده «الكفور» بالنصب على المفعولية ، وقرأ مسلم بن جندب «يجزى» مبنيا للمفعول «الكفور» بالرفع على النيابة ، والمجازاة على ما سمعت عن الزمخشري المكافآت لكن قال الخفاجي لم ترد في القرآن إلا مع العقاب بخلاف الجزاء فإنه عام وقد يخص بالخير ، وعن أبي إسحاق تقول جزيت الرجل في الخير وجازيته في الشر ، وفي معناه قول مجاهد يقال في العقوبة يجازي وفي المثوبة يجزى.
وقال بعض الأجلة : ينبغي أن يكون أبو إسحاق قد أراد أنك إذا أرسلت الفعلين ولم تعدهما إلى المفعول الثاني كانا كذلك وأما إذا ذكرته فيستعمل كل منهما في الخير والشر ، ويرد على ما ذكر جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وكذا «وهل يجزى» في قراءة مسلم إذ الجزاء في ذلك مستعمل في الشر مع عدم ذكر المفعول الثاني ، وقوله :
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار
وقال الراغب : يقال جزيته وجازيته ولم يجىء في القرآن إلا جزى دون جازى وذلك لأن المجازاة المكافأة وهي مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها ونعمة اللّه عزّ وجلّ تتعالى عن ذلك ولهذا لا يستعمل لفظ المكافأة فيه سبحانه وتعالى ، وفيه غفلة عما هنا إلا أن يقال : أراد أنه لم يجىء في القرآن جازى فيما هو نعمة مسندا إليه تعالى فإنه لم يخطر لي مجيء ذلك فيه واللّه تعالى أعلم ، ويحسن عندي قول أبي حيان : أكثر ما يستعمل الجزاء في الخير والمجازاة في الشر لكن في تقييدهما قد يقع كل منهما موقع الآخر ، وفي قوله سبحانه : جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا دون جازيناهم بما كفروا على الوجه الثاني في اسم الإشارة ما يحكى تمتع القوم بما يسر ووقوعهم بعده فيما يسيء ويضر ، ويمكن أن تكون نكتة التعبير بجزى الأكثر استعمالا في الخير ، ويجوز أن يكون التعبير بذاك أول وبنجازي ثانيا ليكون كل أوفق بعلته وهذا جار على كلا الوجهين في الإشارة فتدبر جدا.
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً إلى آخره عطف بمجموعه على مجموع ما قبله عطف القصة على القصة وهو حكاية لما أوتوا من النعم في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وما حاق بهم بسبب ذلك وما قبل كان حكاية لما أوتوا من النعم في مساكنهم ومحل إقامتهم وما فعلوا بها وما فعل بهم ، والمراد بالقرى التي بورك فيها قرى الشام وذلك بكثرة أشجارها وأثمارها والتوسعة على أهلها وعن ابن عباس هي قرى بيت المقدس وعن مجاهد هي السراوية وعن وهب قرى صنعاء وقال ابن جبير : قرى مأرب والمعول عليه الأول حتى قال ابن عطية إن إجماع المفسرين عليه ، ومعنى ظاهِرَةً على ما روي عن قتادة متواصلة يقرب بعضها من بعض بحيث يظهر لمن في بعضها ما في مقابلته من الأخرى وهذا يقتضي القرب الشديد لكن سيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ما قيل في مقدار ما بين كل قريتين وقال المبرد ظاهرة مرتفعة أي على الآكام والظراب وهي أشرف القرى ، وقيل ظاهرة معروفة يقال هذا أمر ظاهر أي معروف وتعرف القرية لحسنها ورعاية أهلها المارين عليها ، وقيل ظاهرة موضوعة على الطرق ليسهل سير السابلة فيها.
وقال ابن عطية : الذي يظهر لي أن معنى ظاهِرَةً خارجة عن المدن فهي عبارة عن القرى الصغار التي في ظواهر المدن كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن ، وظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي ومنه قولهم نزلنا بظاهر البلد الفلاني أي خارجا عنه ، ومنه قول الشاعر :
فلو شهدتني من قريش عصابة قريش البطاح لا قريش الظواهر

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 304
يعني أن الخارجين من بطحاء مكة ويقال للساكنين خارج البلد أهل الضواحي وأهل البوادي أيضا.
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا نسبة بعضها إلى بعض على مقدار معين من السير قيل من سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ونحوه ، وقيل : كان بين كل قريتين ميل ، وقال الضحاك : مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها وهذا هو إلا وفق بمعنى ظاهِرَةً على ما سمعت عن قتادة وكذا بقوله سبحانه سِيرُوا فِيها فإنه مؤذن بشدة القرب حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى ، والظاهر أن سِيرُوا أمر منه عزّ وجلّ على لسان نبي أو نحوه وهو بتقدير القول أي قلنا لهم سيروا في تلك القرى لَيالِيَ وَأَيَّاماً أي متى شئتم من ليل ونهار آمِنِينَ من كل ما تكرهونه لا يختلف إلا من فيها باختلاف الأوقات ، وقدم الليالي لأنها مظنة الخوف من مغتال وإن قيل الليل أخفى للويل أو لأنها سابقة على الأيام أو قلنا سيروا فيها آمنين وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت ليالي وأياما كثيرة ، قال قتادة : كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ولو وجد الرجل قاتل أبيه لم يهجه أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم أي مدة أعماركم لا تلقون فيها إلا الأمن ، وقدمت الليالي لسبقها.
وأيا ما كان فقد علم فائدة ذكر الليالي والأيام وإن كان السير لا يخلو عنهما ، وجوز أن لا يكون هناك قول حقيقة وإنما نزل تمكينهم من السير المذكور وتسوية مبادئه وأسبابه منزلة القول لهم وأمرهم بذلك والأمر على الوجهين للإباحة.
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا لما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنو إسرائيل وقالوا : لو كانت متاجرنا أبعد كان ما نجلبه منها أشهى وأغلى فطلبوا تبديل اتصال العمران وفصل المفاوز والقفار وفي ضمن ذلك إظهار القادرين منهم على قطعها بركوب الرواحل وتزود الأزواد الفخر والكبر على الفقراء العاجزين عن ذلك فعجل اللّه تعالى لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسطة وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب ، والظاهر أنهم قالوا ذلك بلسان القال ، وجوز الإمام أن يكونوا قالوا : باعِدْ بلسان الحال أي فلما كفروا فقد طلبوا أن يبعد بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعّد» بتشديد العين فعل طلب ، وابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن قائد «ربنا» رفعا «بعّد» بالتشديد فعلا ماضيا ، وابن عباس. وابن الحنفية أيضا وأبو رجاء : والحسن ويعقوب وزيد بن علي وأبو صالح ، وابن أبي ليلى والكلبي ومحمد بن علي وسلام وأبو حيوة «ربّنا» رفعا و«باعد» طلبا من المفاعلة ، وابن الحنفية أيضا وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن وسفيان بن حسين وابن السميقع «ربّنا» بالنصب «بعد» بضم العين فعلا ماضيا «بين» بالنصب إلا سعيدا منهم فإنه يضم النون ويجعل «بين» فاعلا ، ومن نصب فالفاعل عنده ضمير يعود على «السير» ومن نصب «ربنا» جعله منادى فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا وبطرا.
وفاعل بمعنى فعل وإن جاء فعلا ماضيا كان ذلك شكوى من مسافة ما بين قراهم مع قصرها لتجاوزهم في الترفه والتنعم أو شكوى مما حل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها بعد وقوعها أو دعاء بلفظ الخبر ، ومن رفع «ربنا» فلا يكون الفعل عنده إلا ماضيا والجملة خبرية متضمنة للشكوى على ما قيل ، ونصب «بين» بعد كل فعل متعد في إحدى القراءات ماضيا كان أو طلبا عند أبي حيان على أنه مفعول به ، وأيد ذلك بقراءة الرفع أو على الظرفية والفعل منزل منزلة اللازم أو متعد مفعوله محذوف أي السير وهو أسهل من إخراج الظرف الغير المتصرف عن ظرفيته. وقرىء «بوعد» مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر «سفرنا» بالأفراد وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث عرضوها للسخط والعذاب حين بطروا النعمة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 305
وغمطوها فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب لا جمع حديث على خلاف القياس ، وجعلهم نفس الأحاديث إما على المبالغة أو تقدير المضاف أي جعلناهم بحديث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم.
وقيل المراد لم يبق منهم إلا الحديث عنهم ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقناهم كل تفريق على أن الممزق مصدر أو كل مطرح ومكان تفريق على أنه اسم مكان ، وفي التعبير بالتمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرقه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام ما لا يخفى أي مزقناهم تمزيقا لا غاية وراءه بحيث يضرب مثلا في كل فرقة ليس بعدها وصال ، وعن ابن سلام أن المراد جعلناهم ترابا تذروه الرياح وهو أوفق بالتمزيق إلا أن جميع أجلة المفسرين على خلافه وأن المراد بتمزيقهم تفريقهم بالتباعد ، وقد تقدم لك غير بعيد حديث كيفية تفرقهم في جواب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لفروة بن مسيك.
وفي الكشاف لحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان. وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة وأسد بالبحرين وخزاعة بتهامة ، وظاهر الآية أن ذلك كان بعد إرسال السيل العرم. وفي البحر أن في الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل فلما جاء السيل على مأرب تيامن منها ستة قبائل وتشاءمت أربعة ، وزعم بعضهم أن تفرقهم كان قبيل مجيء السيل.
قال عبد الملك في شرح قصيدة ابن عبدون إن أرض سبأ من اليمن كانت العمارة فيها أزيد من مسيرة شهرين للراكب المجد وكان أهلها يقتبسون النار بعضهم من بعض مسيرة أربعة أشهر فمزقوا كل ممزق وكان أول من خرج من اليمن في أول الأمر عمرو بن عامر مزيقيا ، وكان سبب خروجه أنه كانت له زوجة كاهنة يقال لها طريقة الخير وكانت رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه ففزعت طريفة لذلك فزعا شديدا وأتت الملك عمرا وهي تقول ما رأيت كاليوم أزال عني النوم رأيت غيما أرعد وأبرق وزمجر وأصعق فما وقع على شيء إلا أحرق فلما رأى ما داخلها من الفزع سكنها ثم إن عمرا دخل على حديقة له ومعه جاريتان من جواريه فبلغ ذلك طريفة فحرجت إليه وخرج معها وصيف لها اسمه سنان فلما برزت من بيتها عرض لها ثلاث مناجد منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن وهي دواب تشبه اليرابيع فقعدت إلى الأرض واضعة يديها على عينيها وقالت : لوصيفها إذا ذهبت هذه المناجد فأخبرني فلما ذهبت أخبرها فانطلقت مسرعة فلما عارضها الخليج الذي في حديقة عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت على الطريق على ظهرها وجعلت تروم الانقلاب فلا تستطيع وتستعين بذنبها فتحثو التراب على بطنها من جنباته وتقذف بالبول على بطنها قذفا فلما رأتها طريفة جلست إلى الأرض فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت طريفة إلى أن دخلت على عمرو وذلك حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها فإذا الشجر يتكافأ من غير ريح فلما رآها استحى منها وأمر الجاريتين بالانصراف إلى ناحية ثم قال لها يا طريفة فكهنت وقالت : والنور والظلماء والأرض والسماء أن الشجر لهالك وليعودن الماء كما كان في الزمن السالك قال عمرو : من أخبرك بهذا؟ قالت : أخبرتني المناجد بسنين شدائد يقطع فيها الولد الوالد قال : ما تقولين؟
قالت : أقول قول الندمان لهيفا لقد رأيت سلحفا تجرف التراب جرفا وتقذف بالبول قذفا فدخلت الحديقة فإذا الشجر من غير ريح يتكفى قال : ما ترين في ذلك؟ قالت : هي داهية دهياء من أمور جسيمة ومصائب عظيمة قال : وما هو ويلك؟ قالت : أجل وإن فيه الويل ومالك فيه من نيل وإن الويل فيما يجيء به السيل فألقي عمرو عن فراشه وقال : ما هذا يا طريفة؟ قالت : خطب جليل وحزن طويل وخلف قليل قال : وما علامة ما تذكرين؟ قالت : اذهب إلى السد فإذا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 306
رأيت جرذا يكثر بيديه في السد الحفر ويقلب برجليه من أجل الصخر فاعلم أن الغمر عمر وأنه قد وقع الأمر قال : وما الذي تذكرين؟ قالت : وعد من اللّه تعالى نزل وباطل بطل ونكال بنا نكل فبغيرك يا عمرو يكون الثكل فانطلق عمرو فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلها خمسون رجلا فرجع وهو يقول :
أبصرت أمرا عادني منه ألم وهاج لي من هوله برح السقم
من جرذ كفحل خنزير الأجم أو كبش صرم من أفاويق الغنم
يسحب قطرا من جلاميد العرم له مخاليب وأنياب قضم
ما فاته سحلا من الصخر قصم فقالت طريفة : وإن من علامة ذلك الذي ذكرته لك أن تجلس فتأمر بزجاجة فتوضع بين يديك فإن الريح يملؤها من تراب البطحاء من سهل الوادي وحزنه وقد علمت أن الجنان مظللة لا يدخلها شمس ولا ريح فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه ولم تمكث إلا قليلا حتى امتلأت من التراب فأخبرها بذلك ، وقال لها : متى يكون ذلك الخراب الذي يحدث في السد؟ قالت له : فيما بيني وبينك سبع سنين قال : ففي أيها يكون؟ قالت : لا يعلم بذلك إلا اللّه تعالى ولو علمه أحد لعلمته وأنه لا تأتي على ليلة فيما بيني وبين السبع سنين إلا ظننت هلاكه في غدها أو في مسائها ثم رأى عمرو في منامه سيل العرم ، وقيل له : إن آية ذلك أن ترى الحصباء قد ظهرت في سعف النخل فنظر إليها فوجد الحصباء قد ظهرت فيها فعلم أنه واقع وأن بلادهم ستخرب فكتم ذلك وأجمع على بيع كل شيء له بأرض مأرب وأن يخرج منها هو وولده ثم خشي أن تنكر الناس عليه ذلك فأمر أحد أولاده إذا دعاه لما يدعوه إليه أن يتأبى عليه وأن يفعل ذلك به في الملأ من الناس وإذا لطمه يرفع هو يده ويلطمه ثم صنع عمرو طعاما وبعث إلى أهل مأرب أن عمرا قد صنع طعاما يوم مجد وذكر فأحضروا طعامه فلما جلس الناس للطعام جلس عنده ابنه الذي أمره بما قد أمره فجعل يأمره فيتأبى عليه فرفع عمرو يده فلطمه فلطمه ابنه وكان اسمه مالكا فصاح عمرو وا ذلاه يوم فخر عمرو وبهجته صبي يضرب وجهه وحلف ليقتلنه فلم يزالوا يرغبون إليه حتى ترك وقال : واللّه لا أقيم بموضع صنع فيه بي هذا ولأبيعن أموالي حتى لا يرث بعدي منها شيئا فقال الناس بعضهم لبعض : اغتنموا غيظ عمرو واشتروا منه أمواله قبل أن يرضى فابتاع الناس منه كل ماله بأرض مأرب وفشا بعض حديثه فيما بلغه من شأن سيل العرم فقام ناس من الأزد فباعوا أموالهم فلما أكثروا البيع استنكر الناس ذلك فأمسكوا عن الشراء فلما اجتمعت إلى عمرو أمواله أخبر الناس
بشأن السيل وخرج فخرج لخروجه منها بشر كثير فنزلوا أرض عك فحاربتهم عك فارتحلوا عن بلادهم ثم اصطلحوا وبقوا بها حتى مات عمرو وتفرقوا في البلاد فمنهم من سار إلى الشام وهم أولاد جفنة بن عمرو بن عامر ومنهم من سار إلى يثرب وهم أبناء قبيلة الأوس والخزرج وأبوهما حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر وسارت أزد السراة إلى السراة وأزد عمان إلى عمان وسار مالك بن فهم إلى العراق ثم خرجت بعد عمرو بيسير من أرض اليمن طيىء فنزلت أجأ وسلمى ونزلت أبناء ربيعة ابن حارثة بن عامر بن عمرو تهامة وسموا خزاعة لانخزاعهم من إخوانهم ثم أرسل اللّه تعالى على السد السيل فهدمه ، وفي ذلك يقول ميمون بن قيس الأعشى :
وفي ذاك للمؤتسي أسوة ومأرب عفا عليها العرم
رخام بنته لهم حمير إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ن منه على شرب طفل فطم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 307
وذكر الميداني عن الكلبي عن أبي صالح أن طريفة الكاهنة قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه حتى انتهوا إلى مكة فأقاموا بها وبما حولها فأصابتهم الحمى وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم فقالت لهم : أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا قالوا فماذا تأمرين قالت : من كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد فكانت أزد عمان ثم قالت : من كان منكم ذا جلد وقسر وصبر على أزمات الدهر فعليه بالأراك من بطن مر فكانت خزاعة ثم قالت : من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج ثم قالت : من كان منكم يريد الخمر والخمير والملك والتأسير ويلبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها آل جفنة من غسان ثم قالت : من كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق وكنوز الأرزاق والدم المهراق فليلحق بأرض العراق فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة وآل محرق ، والحق أن تمزيقهم وتفريقهم في البلاد كان بعد إرسال السيل ، نعم لا يبعد خروج بعضهم قبيله حين استشعروا وقوعه ، وفي المثل ذهبوا أيدي سبأ ويقال تفرقوا أيدي سبأ ويروى أيادي وهو بمعنى الأولاد لأنهم أعضاد الرجل لتقويه بهم.
وفي المفصل أن الأيدي الأنفس كناية أو مجازا قال في الكشف : وهو حسن ، ونصبه على الحالية بتقدير مثل لاقتضاء المعنى إياه مع عدم تعرفه بالإضافة ، وقيل : إنه بمعنى البلاد أو الطرق من قولهم خذ يد البحر أي طريقه وجانبه أي تفرقوا في طرق شتى ، والظاهر أنه على هذا منصوب على الظرفية بدون تقدير - في - كما أشار إليه الفاضل اليمني ، وربما يظن أن الأيدي أو الأيادي بمعنى النعم وليس كذلك ، ويقال في الشخص إذا كان مشتت الهم موزع الخاطر كان أيادي سبأ ، وعليه قول كثيّر عزة :
أيادي سبأ يا عز ما كنت بعدكم فلم يحل بالعينين بعدك منظر
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصتهم لَآياتٍ عظيمة لِكُلِّ صَبَّارٍ أي شأنه الصبر على الشهوات ودواعي الهوى وعلى مشاق الطاعات ، وقيل : شأنه الصبر على النعم بأن لا يبطر ولا يطغى وليس بذاك شَكُورٍ شأنه الشكر على النعم ، وتخصيص هؤلاء بذلك لأنهم المنتفعون بها وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي حقق عليهم ظنه أو وجد ظنه صادقا ، والظاهر أن ضمير عَلَيْهِمْ عائد على سبأ ، ومنشأ ظنه رؤية انهماكهم في الشهوات ، وقيل : هو لبني آدم ومنشأ ظنه أنه شاهد أباهم آدم عليه السّلام وهو هو قد أصغى إلى وسوسته فقاس الفرع على الأصل والولد على الوالد ، وقيل : إنه أدرك ما ركب فيهم من الشهوة والغضب وهما منشآن للشرور ، وقيل : إن ذاك كان ناشئا من سماع قول الملائكة عليهم السّلام : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة : 30] يوم قال سبحانه لهم : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة : 30] ويمكن أن يكون منشأ ذلك ما هو عليه من السوء كما قيل :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وجوز أن يكون كل ما ذكر منشأ لظنه في سبأ ، والكلام على الوجه الأول في الضمير على ما قال الطيبي تتمة لسابقه إما حلالا أو عطفا ، وعلى الثاني هو كالتذييل تأكيدا له. وقرأ البصريون «صدق» بالتخفيف فنصب «ظنّه» على إسقاط حرف الجر والأصل صدق في ظنه أي وجد ظنه مصيبا في الواقع فصدق حينئذ بمعنى أصاب مجازا.
وقيل هو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدر أي يظن ظنه كفعلته جهدك أي تجهد جهدك ، والجملة في موقع

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 308
الحال وصَدَّقَ مفسر بما مر ، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول به والفعل متعد إليه بنفسه لأن الصدق أصله في الأقوال والقول مما يتعدى إلى المفعول به بنفسه ، والمعنى حقق ظنه كما في الحديث «صدق وعده ونصر عبده» وقوله تعالى : رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب : 23].
وقرأ زيد بن علي وجعفر بن محمد رضي اللّه تعالى عنهم والزهري وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب وبلال بن أبي برزة بنصب «إبليس» ورفع «ظنّه» كذا في البحر والظان ذلك مع قراءة «صدّق» بالتشديد أي وجده ظنه صادقا لكن ذكر ابن جني أن الزهري كان يقرأ ذلك مع تخفيف «صدق» أي قال له الصدق حين خيل له إغواؤهم.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «إبليس ظنّه» برفعهما بجعل الثاني بدل اشتمال ، وأبهم الزمخشري القارئ بذلك فقال قرىء بالتخفيف ورفعهما على معنى صدق عليهم ظن إبليس ولو قرىء بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صَدَّقَ كقوله :
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنوني
وهو ظاهر في أنه لم يقرأ أحد بذلك واللّه تعالى أعلم ، وعلى جميع القراءات عَلَيْهِمْ متعلق بالفعل السابق وليس متعلقا بالظن على شيء منها فَاتَّبَعُوهُ أي سبأ وقيل بنو آدم إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه على أن من بيانية ، وتقليلهم إما لقلتهم في حد ذاتهم أو لقلتهم بالإضافة إلى الكفار ، وهذا متعين على القول برجوع الضمير إلى بني آدم ، وكأني بك تختار كون القلة في حد ذاتهم على القول برجوع الضمير إلى سبأ لعدم شيوع كثرة المؤمنين في حد ذاتهم منهم أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه وهم المخلصون فمن تبعيضية والمراد مطلق الاتباع الذي هو أعم من الكفر.
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء.
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ استثناء مفرغ من أعم العلل ، ومِنْ موصولة وجعلها استفهامية بعيد ، والعلم المستقبل المعلل ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة الذي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب وهو مضمن معنى التميز لمكان من أي ما كان له عليهم تسلط لأمر من الأمور إلا لتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هو منها في شك تعلقا حاليا يترتب عليه الجزاء وإلى هذا يشير كلام كثير من أئمة التفسير ، وقيل : المعنى لنجعل المؤمن متميزا من غيره في الخارج فيتميز عند الناس ، وقيل :
المراد من وقوع العلم في المستقبل وقوع المعلوم لأنه لازمه فكأنه قيل ما كان ذلك لأمر من الأمور إلا ليؤمن من قدر إيمانه ويضل من قدر ضلاله ، وعدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة لما فيه من جعل المعلوم عين العلم ، وقيل المراد بالعلم الجزاء فكأنه قيل على الإيمان وضده ، وقيل : العلم على ظاهره إلا أن المستقبل بمعنى الماضي وعلم اللّه تعالى الأزلي بأهل الشك يستدعي تسلط الشيطان عليهم.
وقيل : المراد لنعامل معاملة من كأنه لا يعلم ذلك وإنما يعمل ليعلم ، وقيل : المراد ليعلم أولياؤنا وحزبنا ذلك ، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال ، وكان الظاهر إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن لا يؤمن بها وعدل عنه إلى ما فيه النظم الجليل لنكتة وهي أنه قوبل الإيمان بالشك ليؤذن بأن أدنى مراتب الكفر مهلكة ، وأورد المضارع في الجملة الأولى إشارة إلى أن المعتبر في الإيمان الخاتمة ولأنه يحصل بنظر تدريجي متجدد ، وأتى بالثانية اسمية إشارة إلى أن المعتبر الدوام والثبات على الشك إلى الموت ، ونون شكا للتقليل ، وأتى بفي إشارة إلى أن قليله كأنه محيط بصاحبه ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 309
وعداه بمن دون في وقدمه لأنه إنما يضر الشك الناشئ منها وأنه يكفي شك ما فيما يتعلق بها.
وقرأ الزهري «ليعلم» بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي وكيل قائم على أحواله وشؤونه ، وهو إما مبالغة في حافظ وإما بمعنى محاظ كجليس ومجالس وخليط ومخالط ورضيع ومراضع إلى غير ذلك.
قُلِ يا محمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم تنبيها على بطلان ما هم عليه وتبكيتا لهم ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي زعمتموهم آلهة كذا قدره الجمهور على أن الضمير مفعول أول وآلهة مفعول ثان وحذف الأول تخفيفا لأن الصلة والموصول بمنزلة اسم واحد فهناك طول يطلب تخفيفه والثاني لأن صفته أعني قوله تعالى : مِنْ دُونِ اللَّهِ سدت مسده فلا يلزم إجحاف بحذفهما معا ، ولا يجوز أن يكون مِنْ دُونِ اللَّهِ هو المفعول الثاني إذ لا يتم به مع الضمير الكلام ولا يلتئم النظام فأي معنى معتبر لهم من دون اللّه على أن في جواز حذف أحد مفعولي هذا الباب اختصارا خلافا ومن أجازه قال هو قليل في كلامهم ، وكذا لا يجوز أن يكون لا يملكونه لأن ما زعموه ليس كونهم غير مالكين بل خلافه ، وليس ذلك أيضا بزعم بالمعنى الشائع لو سلم أنه صدر منهم بل حق ، وقال ابن هشام : الأولى أن يقدر زعمتم أنهم آلهة لأن الغالب على - زعم - أن لا يقع على المفعولين الصريحين بل على ما يسد مسدهما من أن وصلتهما ولم يقع في التنزيل إلا كذلك أي فالأنسب أن يوافق المقدر المصرح به في التنزيل.
ورجح تقدير الجمهور بأنه أبعد عن لزوم الإجحاف والأمر للتوبيخ والتعجيز أي ادعوهم فيما يهمكم من دفع ضر أو جلب نفع لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم. روي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا.
وقوله تعالى : لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ كلام مستأنف في موقع الجواب ولم يمهلهم ليجيبوا إشعارا بتعينه فإنه لا يقبل المكابرة ، وجوز تقدير ثم أجب عنهم قائلا لا يملكون إلخ وهو متضمن بيان حال الآلهة في الواقع وأنهم إذا لم يملكوا مقدار ذرة أي من خير وشر ونفع وضر كيف يكونون آلهة تعبد.
فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي في أمر من الأمور ، وذكر السماوات والأرض للتعميم عرفا فيراد بهما جميع الموجودات ، وهذا كما يقال المهاجرون والأنصار ويراد جميع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم فلا يتوهم أنهم يملكون في غيرهما ، ويجوز أن يقال : إن ذكرهما لأن بعض آلهة المخاطبين سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام فالمراد نفي قدرة السماوي منهم على أمر سماوي والأرضي على أمر أرضي ويعلم نفي قدرته على غيره بالطريق الأولى أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية فالمراد نفي قدرتهم بشيء من الأسباب القريبة فكيف بغيرها وَما لَهُمْ أي لآلهتهم فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي شركة ما لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا وَما لَهُ أي للّه عزّ وجلّ مِنْهُمْ أي من آلهتهم مِنْ ظَهِيرٍ أي معين يعينه سبحانه في تدبير أمرهما وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ أي لا توجد رأسا كما في قوله :
على لاحب لا يهتدى بمناره لقوله تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وإنما علق النفي بنفعها دون وقوعها تصريحا بنفي ما هو غرضهم من وقوعها.
وقوله تعالى : إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ استثناء مفرغ من أعم الأحوال على ما اختاره الزمخشري ، و(من) عبارة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 310
عن الشافع واللام الداخلة عليه للاختصاص مثلها في الكرم لزيد ولام لَهُ صلة أذن ، والمراد نفي شفاعة آلهتهم لهم لكن ذكر ذلك على وجه عام ليكون طريقا برهانيا أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال أو كائنة لمن كانت إلا كائنة لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة ، ومن البين أنهم لا يؤذن لهم في الشفاعة للكفار فقد قال اللّه تعالى : لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ : 38] والشفاعة لهم بمعزل عن الصواب وعدم الإذن للأصنام أبين وأبين فتبين حرمان هؤلاء الكفرة منها بالكلية أو (من) عبارة عن المشفوع له واللام الداخلة عليه للتعليل ولام لَهُ صلة أَذِنَ أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمشفوع أذن له أي لشفيعه على الإضمار لأن المشفوع لم يصدر عنه فعل حتى يؤذن له فيه أن يشفعه ، واختار الزمخشري أن لام لَهُ للتعليل أي إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله ، ووجهه على ما في الكشف حصول الإشارة إلى الشافع والمشفوع لأن المأذون لأجله المشفوع والمأذون الشافع ولأن الغرض بيان محل النفع وهو المشفوع كان التصريح بذكره أهم ، ولا يخفى أن الوجه السابق ظاهر التكلف فيه الإضمار الذي لا يقتضيه المقام ، وحاصل المعنى على هذا لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها إلا كائنة لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة وأما من عداهم من غير المستحقين لها فلا تنفعهم أصلا وإن فرض وقوعها من الشفعاء إذ لم يؤذن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرهم ، ويثبت من هذا حرمان هؤلاء الكفرة من شفاعة الشفعاء المستأهلين للشفاعة بعبارة النص وعن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حين حرموها من جهة القادرين عليها في الجملة فلأن يحرموها من جهة العجزة عنها بالكلية أولى ، وذهب أبو حيان إلى أن الاستثناء من أعم الذوات أي لا تنفع الشفاعة لأحد إلا لمن إلخ ، واستظهر
احتمال أن تكون من عبارة عن المشفوع له واللام نظرا إلى الظاهر متعلقة بالشفاعة ، وجوز أبو البقاء تعلقها بتنفع. وتعقبه بأنه لا يتعدى إلا بنفسه وقال أبو حيان فيه : إن المفعول متأخر فدخول اللام قليل. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أَذِنَ مبنيا للمفعول فله قائم مقام فاعله حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ صيغة التفعيل للسلب كما في قردت البعير إذا أزلت قراده ومنه التمريض فالتفزيع إزالة الفزع ، وهو على ما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف ، وحَتَّى للغاية واختلفوا في المغيا إذ لم يكن قبلها ما يصلح أن يكون مغيا بحسب الظاهر ، واختلفوا لذلك في المراد بالآية اختلافا كثيرا ، فقيل : هو ما يفهم من حديث الشفاعة ويشير إليه ، وذلك أن قوله تعالى : وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يؤذن بشفعاء ومشفوع لهم وأن هناك استئذانا في الشفاعة ضرورة أن وقوع الإذن يستدعي سابقية ذلك وهو مستدع للترقب والانتظار للجواب وحيث أنه كلام صادر عن مقام العظمة والكبرياء كيف وقد تقدمه ما تقدمه يدل على كون الكل في ذلك الموقف خلف سرادق العظمة ملقى عليهم رداء الهيبة ، وما بعد حرف الغاية أيضا شديد الدلالة على ذلك فكأنه قيل : تقف الشفعاء والمشفوع لهم في ذلك الموقف الذي يتشبث فيه المستشفعون بأذيال الرجاء من المستشفع بهم ويقوم فيه المستشفع به على قدم الالتجاء إلى اللّه جل جلاله فيطرق باب الشفاعة بالاستئذان فيها ويبقون جميعا منتظرين وجلين فزعين لا يدرون ما يوقع لهم الملك الأعظم جل وعلا على رقعة سؤالهم وماذا يصح لهم بعد عرض حالهم حتى إذا أزيل الفزع عن قلوب الشفعاء والمشفوع لهم بظهور تباشير حسن التوقيع وسطوع أنوار الإجابة والارتضاء من آفاق رحمة الملك الرفيع قالوا أي قال بعضهم لبعض ، والظاهر أن البعض القائل المشفوع
لهم وإن شئت فأعد الضمير إليهم من أول الأمر إذ هم الأشد احتياجا إلى الأذن والأعظم اهتماما بأمره ماذا قال ربكم في شأن الإذن بالشفاعة قالوا : أي الشفعاء فإنهم المباشرون للاستئذان بالذات المتوسطون لأولئك السائلين بالشفاعة عنده عزّ وجلّ قال ربنا القول الحق أي الواقع بحسب ما تقتضيه الحكمة وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 311
والظاهر
أن قوله تعالى : وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ من تتمة كلام الشفعاء قالوه اعترافا بعظمة جناب العزة جل جلاله وقصور شأن كل من سواه أي هو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه وليس لكل منهم كائنا من كان أن يتكلم إلا من بعد إذنه جل وجلا ، وفيه من تواضعهم بعد ترفيع قدرهم بالإذن لهم بالشفاعة ما فيه ، وفيه أيضا نوع من الحمد كما لا يخفى وهذه الجملة المغياة بما ذكر لا يبعد أن تكون جوابا بالسؤال مقدر كأنه قيل : كيف يكون الإذن في ذلك الموقف للمستأذنين وكيف الحال فيه للشافعين والمستشفعين؟ فقيل : يقفون منتظرين وجلين فزعين حتى إذا إلخ ، والآيات دالة على أن المشفوع لهم هم المؤمنون وأما الكفرة فهم عن موقف الاستشفاع بمعزل وعن التفزيع عن قلوبهم بألف ألف منزل ، وجعل بعضهم على هذا الوجه من كون المغيا ما ذكر ضمير قُلُوبِهِمْ للملائكة وخص الشفعاء بهم وضمير قالُوا الأول لهم أيضا وضمير قالُوا الثاني للملائكة الذين فوقهم وهم الذين يبلغون ذلك إليهم وقال : إن فزعهم إما لما يقرن به الإذن من الأمر الهائل أو لغشية تصيبهم عند سماع كلام اللّه جل شأنه أو من ملاحظة وقوع التقصير في تعيين المشفوع لهم بناء على ورود الإذن بالشفاعة إجمالا وهو كما ترى.
وقال الزجاج : تفسير هذا أن جبريل عليه السّلام لما نزل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم بالوحي ظنت الملائكة عليهم السّلام أنه نزل بشيء من أمر الساعة ففزعت لذلك فلما انكشف عنها الفزع قالوا : ماذا قال : ربكم سألت لأي شيء نزل جبريل عليه السّلام قالوا : الحق ا ه.
روي ذلك عن قتادة ومقاتل وابن السائب بيد أنهم قالوا : إن الملائكة صعقوا لذلك فجعل جبريل عليه السّلام يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي ،
ولم يبين الزجاج وجه اتصال الآية بما قبلها ولا بحث عن الغاية بشيء وقد ذكر نحو ذلك الإمام الرازي ثم قال في ذلك : أن حَتَّى غاية متعلقة بقوله تعالى : قُلِ لأنه تبينه بالوحي فلما قال سبحانه قُلِ فزع من في السماوات وهو لعمري من العجب العجاب.
وقال الفاضل الطيبي بعد نقله ذلك التفسير : وعليه أكثر كلام المفسرين ويعضده ما
روينا عن البخاري والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إذا قضى اللّه تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ، قالوا الذي قال الحق وهو العلي الكبير»
وعن أبي داود عن ابن مسعود قال : «إذا تكلم اللّه تعالى بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا أتاهم جبريل عليه السّلام فرّع عن قلوبهم فيقولون : يا جبريل ماذا قال ربكم؟ فيقول : الحق الحق»
ثم ذكر في أمر الغاية واتصال الآية بما قبلها عل ذلك أنه يستخرج معنى المغيا من المفهوم وذلك إن المشركين لما ادعوا شفاعة الآلهة والملائكة وأجيبوا بقوله تعالى : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه تعالى والتجئوا إليهم فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا تنفع الشفاعة من هؤلاء إلا للملائكة لكن من الإذن والفزع العظيم وهم لا يشفعون إلا للمرضيين فعبر عن الملائكة عليهم السّلام بقوله تعالى : إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ الآية كناية كأنه قيل : لا تنفع الشفاعة إلا لمن هذا شأنه ودأبه وأنه لا يثبت عند صدمة من صدمات هذا الكتاب المبين وعند سماع كلام الحق يعني الذين إذا نزل عليهم الوحي يفزعون ويصعقون حتى إذا أتاهم جبريل عليه السّلام فزع عن قلوبهم فيقولون : ماذا قال ربكم؟ فيقول : الحق انتهى ، ولا يخفى على من له أدنى تمييز حاله وأنه مما لا ينبغي أن يعول عليه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 312
وقول ابن عطية : إن تأويل الآية بالملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل أو الأمر بأمر اللّه تعالى به فتسمع كجر سلسلة الحديد على الحديد فتفزع تعظيما وهيبة ، وقيل خوف قيام الساعة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ناشىء من حرمان عطية سلامة الذوق وتدقيق النظر ، والتفسير الذي ذكرناه أولا بمراحل في الحسن عما ذكر عن أكثر المفسرين ، وما سمعت من الرواية لا ينافيه إذ لا دلالة فيه على أنه عليه الصلاة والسّلام ذكر ذلك في معرض تفسير الآية ولا تنافي بين التفزيعين وكأن الأكثر من المفسرين نظروا إلى ظاهر طباق اللفظ مع الحديث فنزلوا الآية على ذلك فوقعوا فيما وقعوا فيه وإن كثروا وجلوا ، والقائل بما سبق نظر إلى طباق المقام وحقق عدم المنافاة وظهر له حال ما قالوه فعدل عنه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك أنه قال في الآية : زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الرب تبارك وتعالى فانحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب بالذين أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجدا وهذا كلما مروا عليهم فيفعلون من خوف ربهم تبارك وتعالى ، وابن مسعود عندي أجل من أن يحمل الآية على هذا فالظاهر أنه لا يصح عنه.
ومثل هذا ما زعمه بعضهم أن ذاك فزع ملائكة أدنى السماوات عند نزول المدبرات إلى الأرض ، وقيل : إن حَتَّى غاية متعلقة بقوله تعالى زَعَمْتُمْ أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق وإليه يشير ما أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية : حتى إذا فزع الشيطان عن قلوبهم ففارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم به قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ثم قال : وهذا في بني آدم أي كفارهم عند الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار ، والظاهر أن في الكلام عليه التفاتا من الخطاب في زَعَمْتُمْ إلى الغيبة في قُلُوبِهِمْ وأن ضمير قالُوا الأول للملائكة الموكلين بقبض أرواحهم والمراد بالتفزيع عن القلوب كشف الغطاء وموانع إدراك الحق عنها. وما نقل عن الحسن من أنه قال : إنما يقال للمشركين ماذا قال ربك أي على لسان الأنبياء عليهم السّلام فأقروا حين لا ينفع يحتمل أن يكون كالقول المذكور في أن ذلك عند الموت ويحتمل أن يكون قولا بأن ذلك يوم القيامة إلا أن في جعل حتى غاية للزعم عليه غير ظاهر إذ لا يستصحبهم ذلك إلى يوم القيامة حقيقة كما لا يخفى ، وأبعد من هذا القول كون ذلك غاية لقوله تعالى : مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وضمير قلوبهم لمن باعتبار معناه ، والتفزيع كشف الغطاء ومواقع إدراك الحق بل هو مما لا ينبغي حمل كلام اللّه تعالى عليه.
وزعم بعضهم أن المعنى إذا دعاهم إسرافيل عليه السّلام من قبورهم قالوا مجيبين ماذا قال ربكم حكاه في البحر ثم قال : والتفزيع من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ كما قال زهير :
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل
وأنت تعلم أن التفزيع بالمعنى المذكور لا يتعدى بعن وأمر الغاية عليه غير ظاهر ، وبالجملة ذلك الزعم ليس بشيء.
واختار أبو حيان أن المغيا الاتباع في قوله تعالى : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وضمير قلوبهم عائد إلى ما عاد إليه ضمير الرفع في (اتبعوه) أعني الكفار وكذا ضمير قالُوا الثاني وضمير قالُوا الأول للملائكة وكذا ضمير رَبُّكُمْ وجملة قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ إلخ اعتراضية بين الغاية والمغيا والتفزيع حال مفارقة الحياة أو يوم القيامة وبجعل اتباعهم إبليس مستصحبا لهم إلى ذلك اليوم مجازا ، ولا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 313
يخفى بعده ، والوجه عندي ما ذكر أولا ، وما ذا تحتمل أن تكون منصوبة بقال أي أي شيء قال ربكم ، وتحتمل أن تكون في موضع رفع على أن ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة قال صلة الموصول والعائد محذوف أي ما الذي قاله ربكم ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وطلحة وأبو المتوكل الناجي وابن السميفع وابن عامر ويعقوب «فزّع» بالتشديد والبناء للفاعل والفاعل ضمير اللّه تعالى المستتر أي أزال اللّه تعالى الفزع عن قلوبهم.
وقال أبو حيان : هو ضميره تعالى إن كان ضمير قلوبهم للملائكة وإن كان للكفار فهو ضمير مغريهم.
وقرأ الحسن «فزع» بالتخفيف والبناء للمفعول فعن قلوبهم نائب الفاعل كما في قراءة الجمهور ، وقرأ هو وأبو المتوكل أيضا وقتادة ومجاهد «فرغ» بالفاء والراء المهملة والغين المعجمة مشددا مبنيا للفاعل بمعنى أزال ، وقرأ الحسن أيضا كذلك إلا أنه خفف الراء ، وقرأ عبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنهما والحسن أيضا وأيوب السختياني وقتادة أيضا وأبو مجلز «فرغ» كذلك إلا أنهم بنوه للمفعول وقرأ ابن مسعود في رواية وعيسى «افرنقع» قيل بمعنى تفرق.
وقال الزمخشري : بمعنى انكشف ، والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب اقمطر من حروف القمط مع زيادة الراء ، وفيه إيهام أن العين والراء من حروف الزيادة وليس كذلك ، وقرأ ابن أبي عبلة «الحق» بالرفع أي مقوله الحق قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أمر صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول ذلك تبكيتا للمشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وإن الرزاق هو اللّه عزّ وجلّ فإنهم لا ينكرونه وحيث كانوا يتلعثمون أحيانا في الجواب مخافة الإلزام قيل له عليه الصلاة والسّلام قُلِ اللَّهُ إذ لا جواب سواه عندهم أيضا وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي وإن أحد الفريقين منا معشر الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية العابدية وحده عزّ وجلّ ومنكم فرقة المشركين به العاجزين في أنفسهم عن دفع أدنى ضر وجلب أحقر نفع وفيهم النازل إلى أسفل المراتب الإمكانية المتصفون بأحد الأمرين من الاستقرار على الهدى والانغماس في الضلال ، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك ، وفي درجة بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ دلالة ظاهرة على من هو من الفريقين على هدى ومن هو في ضلال ولكن التعريض أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا ، ونحوه قول الرجل لصاحبه قد علم اللّه تعالى الصادق مني ومنك وإن أحدنا لكاذب ، ومنه قول حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب وكان قد هجا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قبل أن يسلم :
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
وقول أبي الأسود :
يقول الأرذلون بنو قشير طوال الدهر لا تنسى عليا
بنو عم النبي وأقربوه أحب الناس كلهم اليا
فإن يك حبهم خيرا أصبه ولست بمخطىء إن كان غيا
وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو كما في قوله :
سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه
والكلام من باب اللف والنشر المرتب بأن يكون على هُدىً راجعا لقوله تعالى : إِنَّا وفِي ضَلالٍ راجعا لقوله سبحانه : إِيَّاكُمْ فإن العقل يحكم بذلك كما في قول امرئ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 314
ولا يخفى بعده ، وأيا ما كان فليس هذا من باب التقية في شيء كما يزعمه بعض الجهلة ، والظاهر أن لَعَلى هُدىً إلخ خبر إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ من غير تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لمتصف بأحد الأمرين كقولك زيد أو عمرو في السوق أو في البيت ، وقيل : هو خبر إِنَّا وخبر إِيَّاكُمْ محذوف تقديره لعلى هدى أو في ضلال مبين وقيل هو خبر إِيَّاكُمْ وخبر إِنَّا محذوف لدلالة ما ذكر عليه ، وإِيَّاكُمْ على تقديران ولكنها لما حذفت انفصل الضمير.
وفي البحر لا حاجة إلى تقدير الحذف في مثل هذا وإنما يحتاج إليه في نحو زيد أو عمرو قائم فتدبر ، والمتبادر أن مُبِينٍ صفة ضَلالٍ ويجوز أن يكون وصفا له ولهدى والوصف وكذا الضمير يلزم إفراده بعد المعطوف بأو ، وأدخل على على الهدى للدلالة على استعلاء صاحبه وتمكنه واطلاعه على ما يريد كالواقف على مكان عال أو الراكب على جواد يركضه حيث شاء ، وفِي على الضلال للدلالة على انغماس صاحبه في ظلام حتى كأنه في مهواة مظلمة لا يدري أين يتوجه ففي الكلام استعارة مكنية أو تبعية. وفي قراءة أبي إنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين.
[سورة سبإ (34) : الآيات 25 إلى 54]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29)
قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34)
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 315
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا أبلغ في الإنصاف حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو عنها مؤمن بما يعبر به عن العظائم وأسند إلى النفس وعن العظائم من الكفر ونحوه بما يعبر به عن الهفوات وأسند للمخطابين وزيادة على ذلك أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقق وعن العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك ، وذكر أن في الآية تعريضا وأنه لا يضر بما ذكر ، وزعم بعضهم أنها من باب المتاركة وأنها منسوخة بآية السيف.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة عند الحشر والحساب ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يقضي سبحانه بيننا ويفصل بعد ظهور حال كل منا ومنكم بالعدل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار وَهُوَ الْفَتَّاحُ القاضي في القضايا المنغلقة فكيف بالواضحة كإبطال الشرك وإحقاق التوحيد أو القاضي في كل قضية خفية كانت أو واضحة ، والمبالغة على الأول في الكيف وعلى الثاني في الكم ، ولعل الوجه الأول أولى ، وفيه إشارة إلى وجه تسمية فصل الخصومات فتحا وأنه في الأصل لتشبيه ما حكم فيه بأمر منغلق كما يشبه بأمر منعقد في قولهم : حلال المشكلات ، وقرأ عيسى «الفاتح» الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يقضي به أو بكل شيء.
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم ، وأرى على ما استظهره أبو حيان بمعنى أعلم فتتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ياء المتكلم والموصول وشُرَكاءَ وعائد الموصول محذوف أي ألحقتموهم ، والمراد أعلموني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة ، وجوز كون رأي بصرية تعدت بالنقل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 316
لاثنين ياء المتكلم والموصول وشُرَكاءَ حال من ضمير الموصول المحذوف أي ألحقتموهم متوهما شركتهم أو مفعول ثان لألحق لتضمينه معنى الجعل أو التسمية ، والمراد أرونيهم لأنظر بأي صفة ألحقتموهم باللّه عزّ وجلّ الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العبادة أو ألحقتموهم به سبحانه جاعليهم أو مسميهم شركاء ، والغرض إظهار خطئهم العظيم.
وقال بعض الأجلة : لم يرد من أَرُونِيَ حقيقته لأنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يراهم ويعلمهم فهو مجاز وتمثيل ، والمعنى ما زعمتموه شريكا إذا برز للعيون وهو خشب وحجر تمت فضيحتكم ، وهذا كما تقول للرجل الخسيس الأصل اذكر لي أباك الذي قايست به فلانا الشريف ولا تريد حقيقة الذكر وإنما تريد تبكيته وأنه إن ذكر أباه افتضح.
كَلَّا ردع لهم عن زعم الشركة بعد ما كسره بالإبطال كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسّلام : أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء : 67] بعد ما حج قومه بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ أي الموصوف بالغلبة القاهرة المستدعية لوجوب الوجود الْحَكِيمُ الموصوف بالحكمة الباهرة المستدعية للعلم المحيط بالأشياء ، وهؤلاء الملحقون عن الاتصاف بذلك في معزل وعن الحوم حول ما يقتضيه بألف ألف منزل ، والضمير أما عائد لما في الذهن وما بعده وهو اللّه الواقع خبرا له يفسره والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للاسم الجليل أو عائد لربنا في قوله سبحانه :
«يفتح بيننا ربنا» على ما قيل أو هو ضمير الشأن واللَّهُ مبتدأ والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خبره والجملة خبر ضمير الشأن لأن خبره لا يكون إلا جملة على الصحيح وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ المتبادر أن كَافَّةً حال من الناس قدم مع إلا عليه للاهتمام كما قال ابن عطية ، وأصله من الكف بمعنى المنع وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج واشتهر في ذلك حتى قطع النظر فيه عن معنى المنع بالكلية فمعنى جاء الناس كافة جاؤوا جميعا ، ويشير إلى هذا الإعراب ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية : أي إلى الناس جميعا ، وما أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال : أي للناس كافة ، وكذا ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية : أرسل اللّه تعالى محمدا صلّى اللّه عليه وسلم إلى العرب والعجم فأكرمهم على اللّه تعالى أطوعهم له ، وما نقل عن ابن عباس أنه قال : أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم ، وهو مبني على جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو الذي ذهب إليه خلافا لكثير من النحاة أبو علي وابن كيسان وابن برهان والرضي وابن مالك حيث قال :
وسبق حال ما بحرف جر قد أبوا ولا أمنعه فقد ورد
وأبو حيان حيث قال بعد أن نقل الجواز عمن عدا الرضى من المذكورين وهو الصحيح : ومن أمثلة أبي علي زيد خير ما يكون خير منك ، وقال الشاعر :
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها كهلا عليه شديد
وقال آخر :
تسليت طرا عنكم بعد بينكم بذكراكم حتى كأنكم عندي
وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به ، ومن ذلك قوله :
مشغوفة بك قد شغفت وإنما حتم الفراق فما إليك سبيل
وقول آخر :
غافلا تعرض المنية للمرء فيدعى ولات حين إباء

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 317
وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل فتقديمها عليه دون العامل أجوز انتهى ، وجعلوا هذا الوجه أحسن الأوجه في الآية وقالوا : إن ما عداه تكلف ، واعترض بأنه يلزم عليه عمل ما قبل إلا وهو - أرسل - فيما بعدها وهو لِلنَّاسِ وليس بمستثنى ولا مستثنى منه ولا تابعا له وقد منعوه ، وأجيب بأن التقدير وما أرسلناك للناس إلا كافة فهو مقدم رتبة ومثله كاف في صحة العمل مع أنهم يتوسعون في الظرف ما لا يتوسعون في غيره.
وقال الخفاجي عليه الرحمة : الأحسن أن يجعل لِلنَّاسِ مستثنى على أن الاستثناء فيه مفرغ وأصله ما أرسلناك لشيء من الأشياء إلا لتبليغ الناس كافة ، وأما تقديره بما أرسلناك للخلق مطلقا إلا للناس كافة على أنه مستثنى فركيك جدا ا ه ، ولا يخفى أن في الآية على ما أستحسنه حذف المضاف والفصل بين أداة الاستثناء والمستثنى وتقديم الحال على صاحبها والكل خلاف الأصل وقلما يجتمع مثل ذلك في الكلام الفصيح. واعترض عليه أيضا بأنه يلزم حينئذ جعل اللام في لِلنَّاسِ بمعنى إلى وليس بشيء لأن أرسل يتعدى باللام وإلى كما ذكره أبو حيان وغيره فلا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى على أنه لو جعلت بمعناها لا يلزم خطأ أصلا لمجيء كل من اللام وإلى بمعنى الآخر ، وكذا لا حاجة إلى جعلها تعليلية إلا على ما استحسنه الخفاجي.
وقال غير واحد : إن كَافَّةً اسم فاعل من كف والتاء فيه للمبالغة كتاء راوية ونحوه وهو حال من مفعول أَرْسَلْناكَ ولِلنَّاسِ متعلق به وإليه ذهب أبو حيان أي ما أرسلناك إلا كافا ومانعا للناس عن الكفر والمعاصي.
وإلى الحالية من الكاف ذهب أبو علي أيضا إلا أنه قال : المعنى إلا جامعا للناس في الإبلاغ. وتعقبه أبو حيان بأن اللغة لا تساعد على ذلك لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع ، وفيه منع ظاهر لأنه يقال : كف القميص إذا جمع حاشيته وكف الجرح إذا ربطه بخرقة تحيط به وقد قال ابن دريد : كل شيء جمعته فقد كففته مع أنه جوز أن يكون مجازا من المنع لأن ما يجمع يمتنع تفرقه وانتشاره ، وقيل : إنه مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية وهو أيضا حال من الكاف إما باق على مصدريته بلا تقدير شيء مبالغة وإما بتأويل اسم الفاعل أو بتقدير مضاف أي إلا إذا كافة أي ذا كف أي منع للناس من الكفر ، وقيل ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك ، وذهب بعضهم إلى أنه مصدر وقع مفعولا له ولم يشترط في نصبه اتحاد الفاعل كما ارتضاه الرضي ، وذهب العلامة الزمخشري إلى أنه اسم فاعل من الكف صفة لمصدر محذوف وتاؤه للتأنيث أي ما أرسلناك إلا إرسالة كافة أي عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم عن أن يخرج منها أحد منهم. واعترض عليه بأن كافة لم ترد عن العرب إلا منصوبة على الحال مختصة بالمتعدد من العقلاء وأن حذف الموصوف ، وإقامة الصفة مقامه إنما يكون لما عهد وصفه بها بحيث لا تصلح لغيره وأجيب بأن كافة هاهنا غير ما التزم فيه الحالية وإن رجعا إلى معنى واحد ، وما قيل من أنه لم تستعمله العرب إلا كذلك ليس بشيء وإقامة الصفة مقام موصوفها منقاس مطرد بدون شرط إذا قامت عليه قرينة ، وذكر الفعل قبله دال على تقدير مصدره كما في قمت طويلا وحسنا أي قياما طويلا وحسنا. وفي الحواشي الخفاجية قد صح أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال في كتابه لآل بني كاكلة : قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهبا إبريزا وقاله علي كرّم اللّه تعالى وجهه حين أمضاه فقد استعمل هذان الإمامان كافة في غير العقلاء وغير منصوب على الحالية.
ولا يخفى أن بعض ما اعترض به على هذا الوجه يعترض به على بعض الأوجه السابقة أيضا ، والجواب هو الجواب.
والذي اختاره في الآية ما هو المتبادر ، ولا بأس بالتقدم والاستعمال وارد عليه ولا قياس يمنعه ، وأمر تخطي العامل إلا إلى ما ليس مستثنى ولا مستثنى منه سهل لحديث التوسع في الظرف ، والآية عليه أظهر في الاستدلال على

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 318
عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم وهي في ذلك كقوله تعالى : قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف : 158] ولو استدل بها القاضي أبو سعيد لبهت اليهودي ، وقد يستدل عليه بما لا يكاد ينكره من فعله صلّى اللّه عليه وسلم مع اليهود في عصره ودعوته عليه الصلاة والسّلام إياهم إلى الإسلام بَشِيراً لمن أسلم بالثواب وَنَذِيراً لمن لم يسلم بالعقاب ، والوصفان حالان من مفعول أَرْسَلْناكَ وقد يجعلان على بعض الأوجه السابقة بدلا من كَافَّةً نحو بدل المفصل من المجمل فتأمل.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم عليه من الغي والضلال وَيَقُولُونَ أي لجهلهم حقيقة أو حكما ولذا لم يعطف بالفاء وقيل يقولون أي من فرط تعنتهم وعدم العطف بالفاء لذلك.
وقيل الحامل فرط الجهل وعدم العطف بالفاء لظهور تفرعه على ما قبله ومثله يوكل إلى ذهن السامع ، وقيل إن ذاك لأن فرط الجهل غير الجهل وهو كما ترى ، وقيل لأن هذا حال بعض وعدم العلم في قوله تعالى : لا يَعْلَمُونَ حال بعض آخر ، والذي يظهر لي أن القائلين بالفعل هم بعض المشركين المعاصرين له صلّى اللّه عليه وسلم لا أكثر الناس مطلقا وأن المراد بصيغة المضارع الاستمرار التجددي ، وقيل عبر بها استحضارا للصورة الماضية لنوع غرابة والأصل وقالوا :
مَتى هذَا الْوَعْدُ بطريق الاستهزاء يعنون المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله تعالى : يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مخاطبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين به.
قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ أو وعد يوم على أن مِيعادُ مصدر ميمي أو اسم أقيم مقام المصدر على ما نقل عن أبي عبيدة وهو بمعنى الموعود ، وقيل : الكلام على تقدير مضاف أي لكم وقوع وعد يوم أو نجز وعد يوم ، وتنوين يوم للتعظيم أي يوم عظيم ، وجوز أن يكون الميعاد اسم زمان وإضافته إلى يَوْمٍ للتبيين أي لبيان زمان الوعد بأنه يوم مخصوص نحو سحق ثوب وبعير سانية ، وأيد الوجه الأول بوقوع الكلام جواب لقولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ والوجه الثاني أنه قرىء «ميعاد يوم» برفعهما وتنوينهما فإن يوم على هذه القراءة بدل وذلك يقتضي أن الميعاد نفس اليوم ، وكونه بدل اشتمال بعيد ، وكذا ما قال أبو حيان من أنه على تقدير محذوف أي قل لكم ميعاد ميعاد يوم فلما حذف المضاف أعرب ما قام مقامه بإعرابه ، وقرأ ابن أبي عبلة «ميعاد» بالرفع والتنوين «يوما» بالنصب والتنوين قال الزمخشري :
وهو على التعظيم بإضمار فعل تقديره لكم ميعاد أعني يوما من صفته كيت وكيت ، ويجوز الرفع على هذا أيضا ، وجوز أن يكون على الظرفية لميعاد على أنه مصدر بمعنى الموعود لا اسم زمان ، وقال في البحر : يجوز أن يكون انتصابه على الظرف والعامل فيه مضاف محذوف أي إنجاز وعد يوما من صفته كيت وكيت. وقرأ عيسى «ميعاد» منونا «يوم» بالنصب من غير تنوين مضافا إلى الجملة ووجه النصب ما مر آنفا.
لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً إذا فاجأكم وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي عنه ساعة ، والهاء على ما قال أبو البقاء يجوز أن تعود على مِيعادُ وإن تعود على يَوْمٍ وعلى أيهما عادت كانت الجملة وصفا له. وفي الإرشاد هي صفة لازمة لميعاد ، وفي الجواب على تقدير تقييد النفي بالمفاجأة من المبالغة في التهديد ما لا يخفى ، ويجوز أن يكون النفي غير مقيد بذلك فيكون وصف الميعاد بما ذكر لتحقيقه وتقديره ، وقد تقدم الكلام في نظير هذه الجملة فتذكر.
ولما كان سؤالهم عن الوقت على سبيل التعنت أجيبوا بالتهديد ، وحاصله أنه لوحظ في الجواب المقصود من سؤالهم لا ما يعطيه ظاهر اللفظ وليس هذا من الأسلوب الحكيم فإن البليغ يلتفت لفت المعنى ، وقال الطيبي : هو منه سألوا عن وقت إرساء الساعة وأجيبوا عن أحوالهم فيها فكأنه قيل : دعوا السؤال عن وقت إرسائها فإن كينونته لا بدّ منه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 319
بل سلوا عن أحوال أنفسكم حيث تكونون مبهوتين متحيرين فيها من هول ما تشاهدون فهذا أليق بحالكم من أن تسألوا عنه وهو كما ترى ، وقيل : إنه متضمن الجواب بأن ذلك اليوم لا يعلمه إلا اللّه عزّ وجلّ لمكان تنكير يَوْمٍ وهو تعسف لا حاجة إليه. واختلف في هذا اليوم فقيل يوم القيامة وعليه كلام الطيبي ، وقيل : يوم مجيء أجلهم وحضور منيتهم ، وقيل : يوم بدر وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو مشركو العرب لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب القديمة كما روي عن قتادة والسدي وابن جريج ، ومرادهم نفي الإيمان بجميع ما يدل على البعث من الكتب السماوية المتضمنة لذلك ، ويروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون صفته عليه الصلاة والسّلام في كتبهم فأغضبهم ذلك فقالوا ما قالوا ، وضعف بأنه ليس في السياق والسباق ما يدل عليه ، وقيل الذي بين يديه القيامة.
وخطأ ابن عطية قائله بأن ما بين اليد في اللغة المتقدم. وتعقب بأنه قد يراد به ما مضى وقد يراد به ما سيأتي.
نعم يضعف ذلك أن ما بين يدي الشيء يكون من جنسه لكن محصل كلامهم على هذا أنهم لم يؤمنوا بالقرآن ولا بما دل عليه ، وأما ادعاء أن الأكثر كونه لما مضى فقد قيل أيضا إنه غير مسلم ، وحكى الطبرسي أن المراد بالذين كفروا اليهود وحينئذ يراد بما بين يديه الإنجيل ، ولا يخفى أن هذا القول مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وليس في السباق والسياق ما يدل عليه وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم أو لكل واقف عليه ، ومفعول تَرى إذا أو محذوف وإِذِ ظرف له أي أي حال الظالمين ولَوْ للتمني مصروفا إلى غيره تعالى لا جواب لها أو هو مقدر أي لرأيت أمرا فظيعا أو نحوه ، والظَّالِمُونَ ظاهر وضع موضع للتسجيل وبيان علة استحقاقهم ، والأصل ولو ترى إذ هم موقوفون عند ربهم أي في موقف المحاسبة يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي يتحاورون ويتراجعون القول ، والجملة في موضع الحال ، وقوله تعالى : يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا استئناف لبيان تلك المجاورة أو بدل من يَرْجِعُ إلخ أي يقول الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في الدنيا واستتبعوهم في الغي والضلال لَوْلا أَنْتُمْ صددتمونا عن الهدى لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلم.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال الذين استكبروا لما اعترض عليهم الأتباع ووبخوهم؟ فقيل قالوا : أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنكروا أن يكونوا هم الذين صدوهم عن الإيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم أي لسنا نحن الذين حلنا بينكم وبين الإيمان بعد إذ صممتم على الدخول فيه بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان.
ووقوع إذ مضافا إليها الظرف شائع في كلامهم كوقوعها مضافة وذلك من باب الاتساع في الظروف لا سيما الزمانية ، وبهذا يجاب عما قيل إن إذ من الظروف اللازمة للظرفية فكيف وقعت هاهنا مجرورة مضافا إليها.
وقال صاحب الفرائد إن إذ هاهنا جردت عن معنى الظرفية وانسلخت عنه رأسا وصيرت اسما صرفا لأن المراد من وقت مجيء الهدى هو الهدى لا الوقت نفسه فلذا أضيف إليها.
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إضرابا عن إضرابهم وإبطالا له بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي بل صدنا مكركم بنا في الليل والنهار فحذف المضاف إليه وأقيم مقامه الظرف اتساعا أو جعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي ، وقيل لا حاجة إلى ذلك فإن الإضافة على معنى في. وتعقب بأنها مع أن المحققين لم يقولوا بها يفوت باعتبارها المبالغة ، ويعلم مما أشرنا إليه أن مَكْرُ فاعل لفعل محذوف ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 320
أو مبتدأ خبره محذوف أي سبب كفرنا مكر الليل والنهار أو مكر الليل والنهار سبب كفرنا. وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالتنوين ونصب الظرفين أي بل صدنا مكركم أو مكر عظيم في الليل والنهار.
وقرأ محمد بن جعفر وسعيد بن جبير وأبو رزين وابن يعمر أيضا «مكرّ الليل والنهار» بفتح الميم والكاف وتشديد الراء والرفع مع الإضافة أي بل صدنا كرور الليل والنهار واختلافهما ، وأرادوا على ما قيل الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع هؤلاء الرؤساء بالكفر باللّه عزّ وجلّ.
وقرأ ابن جبير أيضا وراشد القاري وطلحة كذلك إلا أنهم نصبوا مكرا على الظرف أي بل صددتمونا مكر الليل والنهار أي في مكرهما أي دائما ، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا أي تكرون الإغراء مكرا دائما لا تفترون عنه ، وجوز صاحب اللوامح كونه ظرفا لتأمروننا بعد. وتعقبه أبو حيان بأنه وهم لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها ، وقوله تعالى : إِذْ تَأْمُرُونَنا بدل من الليل والنهار أو تعليل للمكر ، وجعله في الإرشاد ظرفا له أي بل مكركم الدائم وقت أمركم لنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً على أن مكرهم إما نفس أمرهم بما ذكر وأما أمور آخر مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من الترغيب والترهيب وغير ذلك.
وجملة قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا إلخ عطف على جملة يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا إلخ وإن تغايرتا مضيا واستقبالا.
ولما كان هذا القول رجوعا منهم إلى الكلام دون قول المستكبرين أنحن صددناكم فإنه ابتداء كلام وقع جوابا للاعتراض عليهم جيء بالعاطف هاهنا ولم يجىء به هناك على ما اختاره بعضهم ، وقيل : إن النكتة في ذلك أنه لما حكي قول المستضعفين بعد قوله تعالى يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ كان مظنة إن يقال : فماذا قال الذين استكبروا للذين استضعفوا وهل كان بين الفريقين تراجع؟ فقيل : قال الذين استكبروا كذا ، وقال الذين استضعفوا كذا فأخرج مجموع القولين مخرج الجواب وعطف بعض الجواب على بعض فتدبر ، والأنداد جمع ند هو شائع فيمن يدعي أنه شريك مطلقا لكن ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره الجاري فيه على مسلك المفسرين إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن وبخطه الشريف النوراني رأيته أنه مخصوص بمن يدعي الألوهية كفرعون وأضرابه لأنه بذلك ند عن اللّه تعالى وشرد عن رحمته سبحانه وقال الشيخ : لأنه شرد عن العبودية له جل شأنه وَأَسَرُّوا أي أضمر الظالمون من الفريقين المستكبرين والمستضعفين النَّدامَةَ على ما كان منهم في الدنيا من الضلال والإضلال نظرا للمستكبرين ومن الضلال فقط نظرا للمستضعفين ، والقول بحصول ندامتهم على الإضلال أيضا باعتبار قبوله تكلف ، ولم يظهروا ما يدل عليها من المحاورة وغيرها لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق واشتغلوا عن إظهارها بشغل شاغل ، وقيل : أخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير ، وتعقب بأنه كيف يتأتى هذا مع قول المستضعفين لرؤساهم لولا أنتم لكنا مؤمنين وأي ندامة أشد من هذا ، وأيضا مخافة التعيير في ذلك المقام بعيدة ، وقيل :
أسرّوا الندامة بمعنى أظهورها فإن أسر من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات وللسلب فمعنى أسره جعله سرا أو أزال سره ونظيره أشكيت ، وأنشد الزمخشري لنفسه :
شكوت إلى الأيام سوء صنيعها ومن عجب باك فشكا إلى المبكي
فما زادت الأيام إلا شكاية وما زالت الأيام تشكى ولا تشكي
وتعقب ابن عطية هذا القول بأنه لم يثبت قط في لغة إن أسر من الأضداد ، وأنت تعلم أن المثبت مقدم على النافي فلا تغفل وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ أي القيود فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المستكبرون والمستضعفون

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 321
والأصل في أعناقهم إلا أنه أظهر في مقام الإضمار للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب إغلالهم ، واستظهر أبو حيان عموم الموصول فيدخل فيه الفريقان المذكوران وغيرهم لأن من الكفار من لا يكون له اتباع تراجعه القول في الآخرة ولا يكون هو تابعا لرئيس له كالغلام الذي قتله الخضر عليه السّلام هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يجزون إلا مثل الذي كانوا يعملونه من الشر ، وحاصله لا يجزون إلا شرا ، وجزى قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه كما يشير إليه قول الراغب يقال جزيته كذا وبكذا ، وجوز كون ما في محل النصب بنزع الخافض وهو إما الباء أو عن أو على فإنه ورد تعدية جزى بها جميعا ، وقيل : إن هذا التعدي لتضمينه معنى القضاء ومتى صح ما سمعت عن الراغب لم يحتج إلى هذا وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ من القرى مِنْ نَذِيرٍ أي نذيرا من النذر إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي المتوسعون في النعم فيها ، والجملة في موضع الحال إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ بزعمكم من التوحيد وغيره ، والجار الثاني متعلق بما عنده والأول متعلق بقوله تعالى : كافِرُونَ وهو خبر إن ، وظاهر الآية أن مترفي كل قرية قالوا لرسولهم ذلك وعليه فالجمع في أرسلتم للتهكم ، وقيل : لتغليب المخاطب على جنس الرسل أو على اتباعه المؤمنين به ، وقال بعض الأجلة الكلام من باب مقابلة الجمع بالجمع فقيل الجمع الأول الرسل المدلول عليه بقوله تعالى : أُرْسِلْتُمْ والثاني كافِرُونَ فقد كفر كل برسوله وخاطبه بمثله فلا تغليب في الخطاب في أرسلتم ، وقيل : الجمع الأول نَذِيرٍ لأنه يفيد العموم في الحكاية لا المحكي لوقوعه في سياق النفي ، وليس كل قوم منكرا لجميع الرسل فحمل على المقابلة ، والكلام مسوق لتسلية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مما ابتلى به من مخالفة مترفي قومه وعداوتهم له عليه الصلاة والسلام ، وتخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم في الأغلب أول المكذبين للرسل
عليهم السّلام لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على قلوبهم منها فهم منهمكون في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها بخلاف الفقراء فإن قلوبهم لخلوها من ذلك أقبل للخير ولذلك تراهم أكثر اتباع الأنبياء عليهم السّلام كما جاء في حديث هرقل وَقالُوا الضمير للمترفين الذين تقدم ذكرهم ، وقيل : لقريش ، والظاهر المتبادر هو الأول ، والمراد حكاية ما شجعهم على الكفر بما أرسل به المنذرون أي وقال المترفون : نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً أي أموالنا وأولادنا كثيرة جدا فأفعل للزيادة المطلقة ، وجوز بقاؤه على ما هو الأكثر استعمالا والمفضل عليه محذوف أي نحن أكثر منكم أموالا وأولادا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ بشيء من أنواع العذاب الذي يكدر علينا لذة كثرة الأموال والأولاد من خوف الملوك وقهر الأعداء وعدم نفوذ الكلمة والكد في تحصيل المقاصد ونحو ذلك ، وإيلاء الضمير حرف النفي للإشارة إلى أن المخاطبين أو المؤمنين ليسوا كذلك ، وحاصل قولهم نحن في نعمة لا يشوبها نقمة وهو دليل كرامتنا على اللّه عزّ وجلّ ورضاه عنا فلو كان ما نحن عليه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لرضاه لما كنا فيما كنا فيه من النعمة ، ويجوز أن يكونوا قد قاسوا أمور الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمور الدنيا وزعموا أن المنعم عليه في الدنيا منعم عليه في الآخرة ، وإلى هذا الوجه ذهب جمع وقالوا : نفي كونهم معذبين إما بناء على انتفاء العذاب الأخروي رأسا وإما بناء على بناء على اعتقاد أنه تعالى أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة على تقدير وقوعها ، وقال الخفاجي في وجه إيلاء الضمير حرف النفي :
إنه إشارة إلى أن المؤمنين معذبون استهانة بهم لظنهم أن المال والولد يدفع العذاب عنهم كما قاله بعض المشركين ، وأنت تعلم أن الأظهر عليه التفريع ، وذهب أبو حيان إلى أن المراد بالعذاب المنفي أعم من العذاب الأخروي والعذاب الدنيوي الذي قد ينذر به الأنبياء عليهم السّلام ويتوعدون به قومهم إن لم يؤمنوا بهم ، ولعل ما ذكرناه أولا أنسب بالمقام فتأمل جدا قُلْ ردا لما زعموه من أن ذلك دليل الكرامة والرضا إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسط له وَيَقْدِرُ على من يشاء أن يقدره عليه فربما يوسع سبحانه على العاصي ويضيق على المطيع وربما يعكس الأمر وربما يوسع عليهما معا وقد يضيق عليهما معا وقد يوسع على شخص مطيع أو عاص تارة ويضيق عليه أخرى يفعل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 322
كلا من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته عزّ وجلّ المبنية على الحكم البالغة فلو كان البسط دليل الإكرام والرضا لاختص به المطيع وكذا لو كان التضييق دليل الإهانة والسخط لاختص به العاصي وليس فليس ، والحاصل كما قيل منع كون ذلك دليلا على ما زعموا لاستواء المعادي والموالي فيه ، وقال جمع : أريد أنه تعالى يفعل ذلك حسب مشيئته المبنية على الحكم فلا ينقاس عليه أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها ، وقال ناصر الدين : لو كان ذلك لكرامة أو هوان يوجبانه لم يكن بمشيئته تعالى ، وهو مبني على أن الإيجاب ينافي الاختيار والمشيئة وقد قال به الخفاجي أخذا من كلام مولانا جلال الدين ورد به على من رد ، ولا يخفى أن دعوى المترفين الإيجاب على اللّه تعالى فيما هم فيه من بسط الرزق وكذا فيما فيه أعداؤهم من تضييقه غير ظاهرة حتى يرد عليهم بإثبات المشيئة التي لا تجامع الإيجاب ، وقرأ الأعمش «ويقدّر» مشدد هنا وفيما بعد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك فمنهم من يزعم أن مدار البسط الشرف والكرامة ومدار التضييق الهوان والحقارة ، ومنهم من تحير واعترض على اللّه تعالى في البسط على أناس والتضييق على آخرين حتى قال قائلهم :
كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأفهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا
وعنى هذا القائل بالعالم النحرير نفسه ، ولعمرى إنه بوصف الجاهل البليد أحق منه بهذا الوصف فالعالم النحرير من يقول :
ومن الدليل على القضاء وحكمه «1» بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى كلام مستأنف من جهته عزّ وجلّ خوطب به الناس بطريق التلوين والالتفات مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق كذا في إرشاد العقل السليم ، وجوز أن يكون ما تقدم لنفي أن يكون القرب والكرامة مدارا وعلة لكثرة الرزق وهذا النفي أن تكون كثرة الرزق سببا للقرب والكرامة ويكون الخطاب للكفرة ، والتي واقع على الأموال والأولاد ، وحيث إن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث وكان المجموع بمعنى جماعة صح الأفراد والتأنيث أي وما جماعة أموالكم وأولادكم بالجماعة التي تقربكم عندنا قربة ، ولا حاجة إلى تقدير مضاف في النظم الكريم ، وما ذكر تقدير معنى لا إعراب ، وعن الزجاج أن في الكلام حذفا في أوله لدلالة ما في آخره والتقدير وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي إلخ ، وأنت تعلم أنه لا حاجة إليه أيضا ، وجوز أن تكون التي صفة لموصوف مفرد مؤنث تقديره بالتقوى أو بالخصلة التي ، وجوز الزمخشري أن تكون التي كناية عن التقوى لأن المقرب إلى اللّه تعالى ليس إلا تلك أي وما أموالكم ولا أولادكم بتلك الموضوعة للتقريب. وقرأ الحسن «باللاتي» جمعا وهو راجع للأموال والأولاد كالتي على ما سمعت أولا. وقرىء «بالذي» أي بالشيء الذي يقربكم.
وزلفى مصدر كالقربى وانتصابه على المصدرية من المعنى. وقرأ الضحاك «زلفا» بفتح اللام وتنوين الفاء جمع زلفة وهي القربة إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً استثناء من مفعول تُقَرِّبُكُمْ على ما ذهب إليه جمع ، وهو استثناء متصل إذا كان الخطاب عاما للمؤمنين والكفرة ومنقطع إذا كان خاصا بالكفرة فالموصول في محل نصب أو رفع على
___________
(1) نسخة وكونه بدل حكمه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 323
أنه مبتدأ ما بعده خبره أو خبره مقدر أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه.
واستظهر أبو حيان الانقطاع ، وقال في البحر : فإن الزجاج ذهب إلى بدليته من المفعول المذكور وغلطه النحاس بأن ضمير المخاطب لا يجوز الإبدال منه فلا يقال رأيتك زيدا ، ومذاهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضميري المخاطب والمتكلم لكن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا فلو قلت ما زيد بالذي يضرب إلا خالدا لم يصح ا ه.
وذكر بعض الأجلة أن جعله استثناء من المفعول لا يصح على جعل التي كناية عن التقوى لأنه يلزم أن تكون الأموال والأولاد تقوى في حق غير من آمن وعمل صالحا لكنها غير مقربة ، وقيل لا بأس بذلك إذ يصح أن يقال وما أموالكم ولا أولادكم بتقوى إلا المؤمنين ، وحاصله أن المال والولد لا يكونان تقوى ومقربين لأحد إلا للمؤمنين ، وإذا كان الاستثناء منقطعا صح واتضح ذلك ، وجوز أن يكون استثناء من أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ على حذف مضاف أي إلا أموال من آمن وعمل صالحا وأولادهم ، وفي هذا إذا جعل التي كناية عن التقوى مبالغة من حيث إنه جعل مال المؤمن الصالح وولده نفس التقوى. ثم إن تقريب الأموال المؤمن الصالح بإنفاقها فيما يرضي اللّه تعالى وتقريب الأولاد بتعليمهم الخير وتفقيههم في الدين وترشيحهم للصلاح والطاعة.
فَأُولئِكَ إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي فأولئك المنعوتون بالإيمان والعمل الصالح لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أي لهم أن يجازيهم اللّه تعالى الضعف أي الثواب المضاعف فيجازيهم على الحسنة بعشر أمثالهم أو بأكثر إلى سبعمائة فإضافة جزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى مفعوله. وقرأ قتادة «جزاء الضّعف» برفعهما فالضعف بدل ، وجوز الزجاج كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الضعف.
ويعقوب في رواية بنصب «جزاء» ورفع «الضعف» فجزاء تمييز أو حال من فاعل لَهُمْ إن كان الضعف مبتدأ أو منه إن كان فاعلا أو نصب على المصدر لفعله الذي دل عليه لَهُمْ أي يجزون جزاء ، وقرىء «جزاء» بالرفع والتنوين «الضعف» بالنصب على أعمال المصدر بِما عَمِلُوا من الصالحات وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ أي في غرفات الجنة ومنازلها العالية آمِنُونَ من جميع المكاره الدنيوية والأخروية وقرأ الحسن وعاصم بخلاف عنه والأعمش ومحمد بن كعب فِي الْغُرُفاتِ بإسكان الراء ، وقرأ بعض القراء بفتحها ، وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة وخلف «في الغرفة» بالتوحيد وإسكان الراء ، وابن وثاب أيضا بالتوحيد وضم الراء والتوحيد على إرادة الجنس لأن الكل ليسوا في غرفة واحدة والمفرد أخصر مع عدم اللبس فيه وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بالرد والطعن فيها مُعاجِزِينَ أي بحسب زعمهم الباطل اللّه عزّ وجلّ أو الأنبياء عليهم السّلام ، وحاصله زاعمين سبقهم وعدم قدرة اللّه تعالى أو أنبيائه عليهم السّلام ، ومعنى المفاعلة غير مقصود هاهنا أُولئِكَ الذي بعدت منزلتهم في الشر فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ لا يجديهم ما ولوا عليه نفعا ، وفي ذكر العذاب دون موضعه ما لا يخفى من المبالغة قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي يوسعه سبحانه عليه تارة ويضيقه عليه أخرى فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل اللّه تعالى وتقربوا لديه عزّ وجلّ بأموالكم وتعرضوا لنفحاته جل وعلا فمساق الآية للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقرب إليه تعالى بالإنفاق وهذا بخلاف مساق نظيرها المتقدم فإنه للرد على الكفرة كما سمعت ، وأيضا ما سبق عام وما هنا خاص في البسط والتضييق لشخص واحد باعتبار وقتين كما يشعر به قوله تعالى هنا لَهُ وعدم قوله هناك ، والضمير وإن كان في موضع من المبهم إلا أن سبق النظير خاليا
عن ذلك وذكر هذا بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة ما ذكر فلا تغفل.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 324
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ يحتمل أن تكون ما شرطية في موضع نصب بأنفقتم وقوله تعالى : فَهُوَ يُخْلِفُهُ جواب الشرط ، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي في موضع رفع بالابتداء والجملة بعد خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، ومِنْ شَيْءٍ تبيين على الاحتمالين ، ومعنى يُخْلِفُهُ يعطي بدله وما يقوم مقامه عوضا عنه وذلك إما في الدنيا بالمال كما هو الظاهر أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى كما قيل وإما في الآخرة بالثواب الذي كل خلف دونه وخصه بعضهم بالآخرة ، أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : إذا كان لأحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق الموسع عليه ، وأخرج من عدا الفريابي من المذكورين عنه أنه قال في الآية : أي ما كان من خلف فهو منه تعالى وربما أنفق الإنسان ماله كله في الخير ولم يخلف حتى يموت ، ومثلها : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود : 6] يقول ما آتاها من رزق فمنه تعالى وربما لم يرزقها حتى تموت ، والأول أظهر لأن الآية في الحث على الإنفاق وأن البسط والقدر إذا كانا من عنده عزّ وجلّ فلا ينبغي لمن وسع عليه أن يخاف الضيعة بالإنفاق ولا لمن قدر عليه زيادتها ، وقوله تعالى : وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل يؤيد ذلك كأنه قيل : فيرزقه من حيث لا يحتسب. وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا»
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد اللّه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «كل ما أنفق العبد نفقة فعلى اللّه تعالى خلفها ضامنا إلا نفقة في بنيان أو معصية».
وأخرج البخاري وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «قال اللّه عزّ وجلّ أنفق يا ابن آدم أنفق عليك»
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عنه قال : «قال عليه الصلاة والسّلام إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة»
وفي حديث طويل عن الزبير قال اللّه تبارك وتعالى : «أنفق أنفق عليك وأوسع أوسع عليك ولا تضيق أضيق عليك ولا تصر فأصر عليك ولا تخزن فأخزن عليك إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات متواصل إلى العرش لا يغلق ليلا ولا نهارا ينزل اللّه تعالى منه الرزق على كل امرئ بقدر نيته وعطيته وصدقته ونفقته فمن أكثر أكثر له ومن أقل أقل له ومن أمسك أمسك عليه يا زبير فكل وأطعم ولا توكي فيوكى عليك ولا تحصي فيحصى عليك ولا تقتر فيقتر عليك ولا تعسر فيعسر عليك» الحديث
، ومعنى الرازقين الموصلين للرزق والموهبين له فيطلق الرازق حقيقة على اللّه عزّ وجلّ وعلى غيره ويشعر بذلك فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء : 8] نعم لا يقال لغيره سبحانه رازق فلا إشكال في قوله سبحانه : وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ووجه الأخيرية في غاية الظهور ، وقيل إطلاق الرازق على غيره تعالى مجاز باعتبار أنه واسطة في إيصال رزقه تعالى فهو رازق صورة فاستشكل أمر التفضيل بأنه لا بدّ من مشاركة المفضل المفضل عليه في أصل الفعل حقيقة لا صورة.
وأجاب الآمدي بأن المعنى خير من تسمى بهذا الاسم وأطلق عليه حقيقة أو مجازا وهو ضرب من عموم المجاز وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي المستكبرين والمستضعفين أو الفريقين وما كانوا يعبدون من دون اللّه عزّ وجلّ ، ويَوْمَ ظرف لمضمر متقدم أي واذكر يوم أو متأخر أي ويوم نحشرهم جميعا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إلى آخره يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال ، وظاهر العطف بثم يقتضي أن القول للملائكة متراخ عن الحشر وفي الآثار ما شهد له ،
فقد روي أن الخلق بعد أن يحشروا يبقون قياما في الموقف سبع آلاف سنة لا يكلمون حتى يشفع في فصل القضاء نبينا صلّى اللّه عليه وسلم
فلعله عند ذلك يقول سبحانه للملائكة عليهم السّلام أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تقريعا للمشركين وتبكيتا وإقناطا لهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعة الملائكة عليهم السّلام

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 325
لعلمه سبحانه بما تجيب به على نهج قوله تعالى لعيسى عليه السّلام : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [المائدة : 116] وتخصيصهم بالذكر لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم والصالحون عادة للخطاب وعبادتهم مبدأ الشرك بناء على ما نقل ابن الوردي في تاريخه في أن سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أن عمرو ابن لحي مر بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصر بها ونستسقي فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز ورسول للعرب فعبدوه واستمرت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإسلام وحدثت عبادة عيسى عليه السّلام بعد ذلك بزمان كثير فبظهور قصورهم عن رتبة المعبودية وتنزههم عن عبادتهم يظهر حال سائر الشركاء بطريق الأولوية.
وهؤُلاءِ مبتدأ وكانُوا يَعْبُدُونَ خبره وإِيَّاكُمْ مفعول يَعْبُدُونَ قدم للفاصلة مع أنه أهم لأمر التقريع واستدل بتقديمه على جواز تقديم خبر كان إذا كان جملة عليها كما ذهب إليه ابن السراج فإن تقديم المعمول مؤذن بجواز تقديم العامل. وتعقبه أبو حيان بأن هذه القاعدة ليست مطردة ثم قال : والأولى منع ذلك إلا أن يدل على جوازه سماع من العرب ، وقرأ جمهور القراء «نحشرهم» «ثم نقول» بالنون في الفعلين قالُوا استئناف بياني كأنه قيل : فماذا تقول الملائكة حينئذ؟ فقيل تقول منزهين عن ذلك سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على التحقق أي أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم : بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي الشياطين كما روي عن مجاهد حيث كانوا يطيعونهم فيما يسولون لهم من عبادة غير اللّه تعالى ، وقيل صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا : هذه صورة الملائكة فاعبدوها فعبدوها ، وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها ، وقيل أرادوا أنهم عبدوا شيئا تخيلوه صادقا على الجن لا صادقا علينا فهم يعبدون الجن حقيقة دوننا ، وقال ابن عطية : يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ الضمير الثاني للجن والأول للمشركين ، والأكثر على ظاهرة لأن من المشركين من لم يؤمن بهم وعبدهم اتباعا لقومه كأبي طالب أو الأكثر بمعنى الكل ، واختار في البحر الأول لأن كونه بمعنى الكل ليس حقيقة وقال : إنهم لم يدعوا الإحاطة إذ يكون في الكفار من لم يطلع اللّه تعالى الملائكة عليهم السّلام عليهم أو أنهم حكموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من أعمال القلب فلم يذكروا
الاطلاع على عمل جميع قلوبهم لأن ذلك للّه عزّ وجلّ ، وجوز أن يكون الضمير الأول للإنس فالأكثر على ظاهره أي غالبهم مصدقون أنهم آلهة ، وقيل مصدقون أنهم بنات اللّه وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات : 158] وقيل مصدقون أنهم ملائكة.
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا من جملة ما يقال للملائكة عليهم السّلام عند جوابهم بالتبري عما نسب إليهم المشركون يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد إظهارا لعجزهم وقصورهم عن زاعمي عبادتهم وتنصيصا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية ، وقيل للكفار وليس بذاك ، والفاء لترتيب الأخبار بما بعدها على جواب الملائكة عليهم السّلام ، ونسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذي هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه في سلك عدم نفع العبدة لهم كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة والانتفاء كنفع العبدة لهم ، والتعرض لعدم الضر مع أنه لا بحث عنه لتعميم العجز أو لحمل عدم النفع على تقدير العبادة وعدم الضر على تقدير تركها ، وقيل لأن المراد دفع الضر على حذف المضاف وفيه بعد ، والمراد باليوم يوم القيامة وتقييد الحكم به مع ثبوته على الإطلاق لانعقاد رجاء المشركين على تحقق النفع يومئذ.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 326
وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ عطف على يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ وقيل على لا يملك وتعقب بأنه مما يقال يوم القيامة خطابا للملائكة مترتبا على جوابهم المحكي وهذا حكاية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما سيقال للعبدة يومئذ إثر حكاية ما سيقال للملائكة عليهم السّلام. وأجيب بأن ذلك ليس بمانع فتدبر. ووقع الموصول هنا وصفا للمضاف إليه وفي السجدة في قوله تعالى : عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ صفة للمضاف فقال أبو حيان : لأنهم ثمت كانوا ملابسين للعذاب كما ينبىء عنه قوله تعالى : كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة : 20] فوصف لهم ثمت ما لابسوه وهنا لم يكونوا ملابسين له بل ذلك أول ما رأوا النار عقب الحشر فوصف ما عاينوه لهم ، وكون الموصول هنا نعتا للمضاف على أن تأنيثه مكتسب لتتحد الآيتان تكلف سمج. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ بيان لبعض آخر من كفرهم أي إذا تتلى عليهم بلسان الرسول صلّى اللّه عليه وسلم آياتنا الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك قالُوا ما هذا يعنون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم التالي للآيات ، والإشارة للتحقير قاتلهم اللّه تعالى إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ فيجعلكم من أتباعه من غير أن يكون له دين إلهي ، وإضافة الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة في تقريرهم على الشرك وتنفيرهم عن التوحيد وَقالُوا ما هذا يعنون القرآن المتلو والإشارة كالإشارة السباقة إِلَّا إِفْكٌ أي كلام مصروف عن وجهه لا مصداق له في الواقع مُفْتَرىً بإسناده إلى اللّه عزّ وجلّ.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي لأمر النبوة التي معها من خوارق العادة ما معها أو للإسلام المفرق بين المرء وزوجه وولده أو القرآن الذي تتأثر به النفوس على أن العطف لاختلاف العنوان بأن يراد بالأول معناه وبالثاني نظمه المعجز لَمَّا جاءَهُمْ من غير تدبر ولا تأمل فيه إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته.
وفي ذكر قالَ ثانيا والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في لما من المسارعة إلى البت بهذا القول الباطل إنكار عظيم له وتعجب بليغ منه ، وجوز أن تكون كل جملة صدرت من قوم من الكفرة وَما آتَيْناهُمْ أي أهل مكة مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها تقتضي صحة الإشراك ليعذروا فيه فهو كقوله تعالى : أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم : 35] وقوله سبحانه : أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف : 21] وإلى هذا ذهب ابن زيد ، وقال السدي : المعنى ما آتيناهم كتبا يدرسونها فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به ، ويرجع إلى الأول ، والمقصود نفي أن يكون لهم دليل على صحة ما هم عليه من الشرك ، ومن صلة. وجمع الكتب إشارة على ما قيل إلى أنه لشدة بطلانه واستحالة إثباته بدليل سمعي أو عقلي يحتاج إلى تكرر الأدلة وقوتها فكيف يدعى ما توارت الأدلة النيرة على خلافه. وقرأ أبو حيوة «يدرسونها» بفتح الدال وشدها وكسر الراء مضارع أدرس افتعل من الدرس ومعناه يتدارسونها ، وعنه أيضا «يدرسونها» من التدريس وهو تكرير الدرس أو من درس الكتاب مخففا ودرس الكتاب مشددا التضعيف فيه باعتبار الجمع.
وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي وما أرسلنا إليهم قبلك نذيرا يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ ، وفيه من التهكم والتجهيل ما لا يخفى ، ويجوز أن يراد أنهم أميون كانوا في فترة لا عذر لهم في الشرك ولا في عدم الاستجابة لك كأهل الكتاب الذين لهم كتب ودين يأبون تركه ويحتجون على عدم المتابعة بأن نبيهم حذرهم ترك دينه مع أنه بين البطلان لثبوت أمر من قبله باتباعه وتبشير الكتب به ، وذكر ابن عطية أن الأرض لم تخل من داع إلى توحيد اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 327
فالمراد نفي إرسال نذير يختص بهؤلاء ويشافههم ، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل عليه السّلام واللّه تعالى يقول : إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم : 54] ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ا ه ، ثم إنه تعالى هددهم بقوله سبحانه : وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المتقدمة والقرون الخالية بما كذبوا وَما بَلَغُوا أي أهل مكة مِعْشارَ أي عشر ما آتَيْناهُمْ وقال : قوم المعشار عشر العشر ولم يرتضه ابن عطية ، وقال الماوردي : المراد المبالغة في التقليل أي ما بلغوا أقل قليل مما آتينا أولئك المكذبين من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال فَكَذَّبُوا أي أولئك المكذبون رُسُلِي الذين أرسلتهم إليهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك.
والفاء الأولى سببية وكَذَّبَ الأول ننزل منزلة اللازم أي فعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه ، ونظير ذلك أن يقول القائل أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ومن هنا قالوا : إن كذبوا رُسُلِي عطف على كَذَّبَ الَّذِينَ عطف المقيد على المطلق وهو تفسير معنى وَما بَلَغُوا اعتراض والفاء الثانية فصيحة فيكون المعنى فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم ، وجعل التدمير إنكار تنزيلا للفعل منزلة القول كما في قوله. ونشتم بالأفعال لا بالتكلم. أو على نحو. تحية بينهم ضرب وجيع.
وجوز بعضهم أن يكون صيغة التفعيل في كَذَّبَ الَّذِينَ للتكثير وفي (كذبوا) للتعدية والمكذب فيهما واحد أي أنهم أكثروا الكذب وألفوه فصار سجية لهم حتى اجترءوا على تكذيب الرسل ، وعلى الوجهين لا تكرار ، وجوز أن يكون كذبوا رُسُلِي منعطفا على ما بَلَغُوا «1» من تتمة الاعتراض والضمير لأهل مكة يعني هؤلاء لم يبلغوا معشار ما آتينا أولئك المكذبين الأولين وفضلوهم في التكذيب لأن تكذيبهم لخاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام تكذيب لجميع الرسل عليهم السّلام من وجهين وعليه لا يتوهم تكرار كما لا يخفى ، وكون جمل ما بَلَغُوا معترضة هو الظاهر وجعل وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تمهيدا لئلا تكون تلك الجملة كذلك يدفعه فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ لأن معناه للمكذبين الأولين البتة فلا التئام دون القول بكونها معترضة ، إرجاع ضمير بَلَغُوا إلى أهل مكة والضمير المنصوب في آتَيْناهُمْ إلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وبيان الموصول بما سمعت هو المروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد ، وقيل الضمير الأول للذين من قبلهم والضمير الثاني لأهل مكة أي وما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى ، وقيل : الضميران للذين من قبلهم ، أي كذبوا وما بلغوا في شكر النعمة ومقابلة المنّة عشر ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم ، واستظهر ذلك أبو حيان معللا له بتناسق الضمائر حيث جعل ضمير فَكَذَّبُوا للذين من قبلهم فلا تغفل قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي ما أرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة وهي على ما قال قتادة ما دل عليه ما دل عليه بقوله تعالى : أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ على أنه في تأويل مصدر بدل منها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي قيامكم أو مفعول لفعل محذوف أي أعني قيامكم ، وجوز الزمخشري كونه عطف بيان لواحدة.
واعترض بأن أَنْ تَقُومُوا معرفة لتقديره بقيامكم وعطف البيان يشترط فيه عند البصريين أن يكون معرفة من معرفة وهو عند الكوفيين يتبع ما قبله في التعريف والتنكير والتخالف مما لم يذهب إليه ذاهب.
والظاهر أن الزمخشري ذاهب إلى جواز التخالف ، وقد صرح ابن مالك في التسهيل بنسبة ذلك إليه وهو من مجتهدي علماء العربية ، وجوز أن يكون قد عبر بعطف البيان وأراد البدل لتآخيها وهذا إمام الصناعة سيبويه يسمي
___________
(1) والفاء للفذلكة على ما قيل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 328
التوكيد صفة وعطف البيان صفة ، ثم إن كون المصدر المسبوك معرفة أو مؤولا بها دائما غير مسلم ، والقيام مجاز عن الجد والاجتهاد ، وقيل هو على حقيقته والمراد القيام عن مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وليس بذاك ، وقد روي نفي إرادته عن ابن جريج أي إن تجدوا وتجتهدوا في الأمر بإخلاص لوجه اللّه تعالى مَثْنى وَفُرادى أي متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا فإن في الازدحام على الأغلب تهويش الخاطر والمنع من الفكر وتخليط الكلام وقلة الإنصاف كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة فإنه لا يكاد يوقف فيها على تحقيق وفي تقديم مثنى إيذان بأنه أوثق وأقرب إلى الاطمئنان ، وفي البحر قدم لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وشاع الفتح بين الاثنين ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمره صلّى اللّه عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيته ، والوقف عند أبي حاتم هنا ، وقوله تعالى ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ استئناف مسوق من جهته تعالى للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن مثل هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة لا يتصدى لادعائه إلا مجنون لا يبالي بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه أو مؤيد من عند اللّه تعالى مرشح للنبوة واثق بحجته وبرهانه وإذ قد علمتم أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأذكاهم نفسا وأفضلهم علما وأحسنهم عملا وأجمعهم للكمالات البشرية وجب أن تصدقوه في دعواه فكيف وقد انضم إلى ذلك معجزات تخر لها صم الجبال ، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بصاحبكم للإيماء إلى أن حاله صلّى اللّه عليه وسلم مشهور بينهم لأنه نشأ بين أظهرهم معروفا بما ذكرنا ، وجوز أن يكون متعلقا بما قبله والوقف على جِنَّةٍ على أنه مفعول لفعل علم مقدر لدلالة التفكر عليه لكونه طريق العلم أي ثم
تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة أو معمول لتتفكروا على أن التفكر مجاز عن العلم أو معمول له بدون ارتكاب تجوز بناء على ما ذهب إليه ابن مالك في التسهيل من أن تفكر يعلق حملا على أفعال القلوب ، وجوز أن يكون هناك تضمين أي ثم تتفكروا عالمين ما بصاحبكم من جنة ، وقال ابن عطية : هو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات اللّه تعالى والإيمان به ا ه وهو كما ترى ، وما مطلقا نافية والباء بمعنى في ومن صلة ، وقيل : ما للاستفهام إلا نكاري ومن بيانية ، وجوز أن تكون صلة أيضا وفيه تطويل المسافة وطيها أولى إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ هو عذاب الآخرة فإنه صلّى اللّه عليه وسلم مبعوث في نسم الساعة وجاء «بعثت أنا والساعة كهاتين»
وضم عليه الصلاة والسلام الوسطى والسبابة على المشهور.
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي مهما سألتكم من نفع على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ والمراد نفي السؤال رأسا كقولك لصاحبك إن أعطيتني شيئا فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا ، فما شرطية مفعول سَأَلْتُكُمْ وهو المروي عن قتادة ، وقيل هي موصولة والعائد محذوف ومن للبيان ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط أي الذي سألتكموه من الأجر فهو لكم وثمرته تعود إليكم ، وهو على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إشارة إلى المودة في القربى في قوله تعالى : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى : 23] وكون ذلك لهم على القول بأن المراد بالقربى قرباهم ظاهر ، وأما على القول بأن المراد بها قرباه عليه الصلاة والسلام فلأن قرباه صلّى اللّه عليه وسلم قرباهم أيضا أو هو إشارة إلى ذلك وإلى ما تضمنه قوله تعالى : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان : 57] وظاهر أن اتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى ، وجوز كون ما نافية ومن صلة وقوله سبحانه : فَهُوَ لَكُمْ جواب شرط مقدر أي فإذا لم أسألكم فهو لكم ، وهو خلاف الظاهر.
وقوله تعالى : إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ يؤيد إرادة نفي السؤال رأسا. وقرىء «إن أجري» بسكون الياء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي مطلع فيعلم سبحانه صدقي وخلوص نيتي قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ قال السدي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 329
وقتادة بالوحي ، وفي رواية أخرى عن قتادة بالقرآن والمآل واحد ، وأصل القذف الرمي بدفع شديد وهو هنا مجاز عن الإلقاء ، والباء زائدة أي إن ربي يلقي الوحي وينزله على قلب من يجتبيه من عباده سبحانه ، وقيل القذف مضمن معنى الرمي فالباء ليست زائدة ، وجوز أن يراد بالحق مقابل الباطل والباء للملابسة والمقذوف محذوف ، والمعنى إن ربي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه عليهم السّلام من الوحي بالحق لا بالباطل.
وعن ابن عباس أن المعنى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله عزّ وجلّ ويزيله ، والحق مقابل الباطل والباء مثلها في قولك قتلته بالضرب ، وفي الكلام استعارة مصرحة تبعية والمستعار منه حسي والمستعار له عقلي ، وجوز أن تكون الاستعارة مكنية ، وقيل : المعنى يرمي بالحق إلى أقطار الآفاق على أن ذلك مجاز عن إشاعته فيكون الكلام وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه ، وفيه من الاستعارة ما فيه عَلَّامُ الْغُيُوبِ خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه علام الغيوب أو صفة محمولة على محل إن مع اسمها كما جوزه الكثير من النحاة وإن منعه سيبويه أو بدل من ضمير يَقْذِفُ ولا يلزم خلو جملة الخبر من العائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح من كل الوجوه ، وقال الكسائي : هو نعت لذلك الضمير ومذهبه جواز نعت المضمر الغائب.
وقرأ عيسى وزيد بن علي وابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة وأبو حيوة وحرب عن طلحة عَلَّامُ بالنصب فقال الزمخشري : صفة لربي ، وقال أبو الفضل الرازي وابن عطية : بدل ، وقال الحوفي : بدل أو صفة ، وقيل نصب على المدح. وقرأ ابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي «الغيوب» بالكسر كالبيوت ، والباقون بالضم كالشعور وهو فيهما جمع ، وقرىء بالفتح كصبور على أنه مفرد للمبالغة قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام والتوحيد أو القرآن ، وقيل السيف لأن ظهور الحق به وهو كما ترى وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ أي الكفر والشرك وَما يُعِيدُ أي ذهب واضمحل بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر ابتداء ولا إعادة أي فعله ثانيا كما يقال لا يأكل ولا يشرب أي ميت فالكلام كناية عما ذكر أو مجاز متفرع على الكناية ، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص :
أقفر من أهله عبيد فاليوم لا يبدي ولا يعيد
وقال جماعة : الباطل إبليس وإطلاقه عليه لأنه مبدؤه ومنشؤه ، ولا كناية في الكلام عليه ، والمعنى لا ينشىء خلقا ولا يعيد أو لا يبدىء خيرا لأهله ولا يعيد أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة ، وقيل هو الصنم والمعنى ما سمعت ، وعن أبي سليمان أن المعنى إن الصنم لا يبتدىء من عنده كلاما فيجاب ولا يرد ما جاء من الحق بحجة.
وما على جميع ذلك نافية ، وقيل : هي على ما عدا القول الأول للاستفهام الإنكاري منتصبة بما بعدها أي أي شيء يبدي الباطل وأي شيء يعيد وماله النفي ، والكلام جوز أن يكون تكميلا لما تقدم وأن يكون من باب العكس والطرد وأن يكون تذييلا مقررا لذلك فتأمل قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي عائدا ضرر ذلك ووباله عليها فإنها الكاسبة للشرور والأمارة بالسوء وَإِنِ اهْتَدَيْتُ إلى الحق فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن الاهتداء بهدايته تعالى وتوفيقه عزّ وجلّ ، وما موصولة أو مصدرية ، وكان الظاهر وإن اهتديت فلها كقوله تعالى : مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت : 46] أو إن ضللت فإنما أضل بنفسي ليظهر التقابل لكنه عدل عن ذلك اكتفاء بالتقابل بحسب المعنى لأن الكلام عليه أجمع فإن كل ضرر فهو من النفس وبسببها وعليها وباله ، وقد دل لفظ على في القرينة الأولى على معنى اللام في الثانية والباء في الثانية على معنى السببية في الأولى فكأنه قيل : قل إن ضللت فإنما أضل بسبب نفسي على نفسي وإن اهتديت فإنما اهتدى لنفسي بهداية اللّه تعالى وتوفيقه سبحانه ، وعبر عن هذا بما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي لأنه لازمه ، وجعل علي للتعليل وإن ظهر عليه التقابل ارتكاب لخلاف الظاهر من غير نكتة.
وجوز أن يكون معنى القرينة الأولى قل إن ضللت فإنما أضل عليّ لا على غيري ، ولا يظهر عليه أمر التقابل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 330
مطلقا ، والحكم على ما قال الزمخشري عام وإنما أمر صلّى اللّه عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به ، وقال الإمام : أي إن ضلال نفسي كضلالكم لأنه صادر من نفسي ووباله عليها وأما اهتدائي فليس كاهتدائكم بالنظر والاستدلال وإنما هو بالوحي المنير فيكون مجموع الحكمين عنده مختصا به عليه الصلاة والسلام ، وفيما ذكره دلالة على ما قاله الطيبي على أن دليل النقل أعلى وأفخم من دليل العقل وفيه بحث. وقرأ الحسن وابن وثاب وعبد الرحمن المقرئ «ضللت» بكسر اللام و«أضل» بفتح الضاد وهي لغة تميم ، وكسر عبد الرحمن همزة «أضل» وقرىء «ربي» بفتح الياء إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ فلا يخفى عليه سبحانه قول كل من المهتدي والضال وفعله وإن بالغ في إخفائهما فيجازي كلا بما يليق.
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا أي اعتراهم انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف ، والخطاب في ترى للنبي صلّى اللّه عليه وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية ، ومفعول تَرى محذوف أي الكفار أو فزعهم أو هو إِذْ على التجوز إذ المراد برؤية الزمان رؤية ما فيه أو هو متروك لتنزيل الفعل منزلة اللازم أي لو تقع منك رؤية وجواب لَوْ محذوف أي لرأيت أمرا هائلا ، وهذا الفزع على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد يوم القيامة ، والظاهر عليه أنه فزع البعث وهو مروي عن الحسن وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه في الدنيا عند الموت حين عاينوا الملائكة عليهم السّلام.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه يوم بدر فقيل هو فزع الحرب ، وعن السدي وابن زيد فزع ضرب أعناقهم ومعاينة العذاب ، وقيل في آخر الزمان حين يظهر المهدي ويبعث إلى السفياني جندا فيهزمهم ثم يسير السفياني إليه حتى إذا كان ببيداء من الأرض خسف به وبمن معه فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم فالفزع فزع ما يصيبهم يومئذ فَلا فَوْتَ فلا يفوتون اللّه عزّ وجلّ بهرب أو نحوه عما يريد سبحانه بهم وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من الموقف إلى النار أو من ظهر الأرض إلى بطنها أو من صحراء بدر إلى القليب أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم ، والمراد بذكر قرب المكان سرعة نزول العذاب بهم والاستهانة بهم وبهلاكهم وإلا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى اللّه عزّ وجلّ ، والجملة عطف على فَزِعُوا على ما ذهب إليه جماعة قال في الكشف : وكأن فائدة التأخير أن يقدر فلا فوت ثانيا إما تأكيدا وإما أن أحدهما غير الآخر تنبيها على أن عدم الفوت سبب للأخذ وأن الأخذ سبب لتحققه وجودا ، وفيه مبالغة حسنة ، وقيل على لا فَوْتَ على معنى فلم يفوتوا وأخذوا ، واختاره ابن جني معترضا على ما تقدم بأنه لا يراد ولو ترى وقت فزعهم وأخذهم وإنما المراد ولو ترى إذ فزعوا ولم يفوتوا وأخذوا ، وبما نقل عن الكشف يتحصل الجواب عنه.
وجوز كونها حالا من فاعل فَزِعُوا أو من خبر لا المقدر وهو لهم بتقدير قد أو بدونه ، والفاء في فَلا فَوْتَ قيل إن كانت سببية فهي داخلة على المسبب لأن عدم فوتهم من فزعهم وتحيرهم وإن كانت تعليلية فهي تدخل على السبب لترتب ذكره على ذكر المسبب ، وإذا عطف أُخِذُوا عليه أو جعل حالا من الخبر يكون هو المقصود بالتفريع. وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه وطلحة «فلا فوت وأخذ» مصدرين منونين.
وقرأ أبي «فلا فوت» مبنيا «وأخذ» مصدرا منونا ، وإذا رفع أخذ كان خبر مبتدأ محذوف أي وحالهم أخذ أو مبتدأ خبره محذوف أي وهناك أخذ وإلى ذلك ذهب أبو حيان ، وقال الزمخشري : قرىء وأخذ بالرفع على أنه معطوف على محل لا فَوْتَ ومعناه فلا فوت هناك وهناك أخذ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أي باللّه عزّ وجلّ على ما أخرجه جمع عن مجاهد ، وقالت فرقة : أي بمحمد للّه وقد مر ذكره في قوله سبحانه : ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ وقيل الضمير للعذاب ، وقيل للبعث ، ورجح رجوعه إلى محمد عليه الصلاة والسلام لأن الإيمان به صلّى اللّه عليه وسلم شامل للإيمان باللّه عزّ وجلّ وبما ذكر من العذاب والبعث وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ التناوش التناول كما قال الراغب وروي عن مجاهد.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 331
وقال الزمخشري : هو تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم وتناوشوا في الحرب ناش بعضهم بعضا بالسلاح ، وقال الراجز :
فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
وإبقاؤه على عمومه أولى أي من أين لهم أن يتناولوا الإيمان مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فإنه في حيز التكليف وهم منه بمعزل بعيد ، ونقل في البحر عن ابن عباس تفسير التَّناوُشُ بالرجوع أي من أين لهم الرجوع إلى الدنيا ، وأنشد ابن الأنباري :
تمنى أن تؤوب إلى مي وليس إلى تناوشها سبيل
ولا يخفى أنه ليس بنص في ذلك ، والمراد تمثيل حالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشيء بعد أن بعد عنه وفات في الاستحالة. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وأبو بكر «التناؤش» بالهمز وخرج على قلب الواو همزة ، قال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت بالخيار فيها إن شئت أبقيتها وإن شئت قلبتها همزة فتقول ثلاث أدور بلا همز وثلاث أدؤر بالهمز. وتعقب ذلك أبو حيان فقال : إنه ليس على إطلاقه بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كانت مدغما فيها نحو تعود وتعوذ مصدرين وقد صرح بذلك في التسهيل ولا إذا صحت في الفعل نحو ترهوك ترهوكا وتعاون تعاونا ، وعلى هذا لا يصح التخريج المذكور لأن التناوش كالتعاون في أن واوه قد صحت في الفعل إذ تقول تناوش فلا يهمز. وقال الفراء : هو من نأشت أي تأخرت وأنشد قول نهشل :
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور
أي تمنى أخيرا ، والضمير للمولى في قوله :
ومولى عصاني واستبد برأيه كما لم يطع فيما أشاء قصير
فالهمزة فيه أصلية واللفظ ورد من مادتين ، وقال بعضهم : هو من نأشت الشيء إذا طلبته ، قال رؤبة :
أقحمني جار أبي الخابوش إليك نأش القدر النؤوش
فالهمزة أصلية أيضا ، قيل والتناؤش على هذين القولين بمعنى التناول من بعد لأن الأخير يقتضي ذلك والطلب لا يكون للشيء القريب منك الحاضر عندك فيكون من مَكانٍ بَعِيدٍ تأكيدا أو يجرد التناوش لمطلق التناول ، وحمل البعد في قيده على البعد الزماني بحث فيه الشهاب بأنه غير صحيح لأن المستعار منه هو في المكان وما ذكر من أحوال المستعار له وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ حال أو معطوف أو مستأنف والأول أقرب ، والضمير المجرور ولما عاد عليه الضمير السابق في آمَنَّا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي من قبل ذلك في أوان التكليف.
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أي كانوا يرجمون بالمظنون ويتكلمون بما لم يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق في شأن اللّه عزّ وجلّ فينسبون إليه سبحانه الشريك ويقولون الملائكة بنات اللّه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا أو في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام فيقولون فيه وحاشاه : شاعر وساحر وكاهن أو في شأن العذاب أو البعث فيبتون القول بنفيه مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جهة بعيدة من أمر من تكلموا في شأنه ، والجملة عطف على وَقَدْ كَفَرُوا وكان الظاهر وقذفوا إلا أنه عدل إلى صيغة المضارع حكاية للحال الماضية ، والكلام قيل لعله تمثيل لحالهم من التكلم بما يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه ، وجوز الزمخشري كونه عطفا على قالُوا آمَنَّا بِهِ على أنهم مثلوا في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 332
الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه شاحطا. وقرأ مجاهد وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو «يقذفون» مبنيا للمفعول ، قال مجاهد : أي ويرجمهم الوحي بما يكرهون مما غاب عنهم من السماء ، وكأن الجملة في موضع الحال من ضمير كفروا كأنه قيل : وقد كفروا به من قبل وهم يقذفون بالحق الذي غاب عنهم وخفي عليهم ، والمراد تعظيم أمر كفرهم ، وجوز أن يراد بالغيب ما خفي من معايبهم أي وقد كفروا وهم يقذفهم الوحي من السماء ويرميهم بما خفي من معايبهم.
وقال أبو الفضل الرازي : أي ويرمون بالغيب من حيث لا يعلمون ، ومعناه يجازون بسوء أعمالهم ولا علم لهم بمأتاه إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت وإما في الآخرة انتهى ، وفي حالية الجملة عليه نوع خفاء.
وقال الزمخشري : أي وتقذفهم الشياطين بالغيب ويلقنونهم إياه وكان الجملة عطف على قَدْ كَفَرُوا وقيل أي يلقون في النار وهو كما ترى وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ قال ابن عباس : هو الرجوع إلى الدنيا ، وقال الحسن : هو الإيمان المقبول ، وقال قتادة : طاعة اللّه تعالى ، وقال السدي : التوبة ، وقال مجاهد : الأهل والمال والولد.
وقيل أي حيل بين الجيش والمؤمنين بالخسف بالجيش أو بينهم وبين تخريب الكعبة أو بينهم وبين النجاة من العذاب أو بينهم وبين نعيم الدنيا ولذتها وروي ذلك عن مجاهد أيضا و«حيل» مبني للمجهول وتائب الفاعل كما قال أبو حيان ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحول ، وحاصله وقعت الحيلولة ولإضماره لم يكن مصدرا مؤكدا فناب مناب الفاعل ، وعلى ذلك يخرج قوله :
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب
أي يعتلل هو أي الاعتلال ، وقال الحوفي : قام الظرف مقام الفاعل ، وتعقبه في البحر بأنه لو كان كذلك لكان مرفوعا والإضافة إلى الضمير لا تسوغ البناء وإلا لساغ جاء غلامك بالفتح ولا يقوله أحد ، نعم للبناء للإضافة إلى المبني مواضع أحكمت في النحو ، وماذا يقول الحوفي في قوله. وقد حيل بين العير والنزوان. فإنه نصب بين مع إضافتها إلى معرب وقرأ ابن عامر والكسائي بإشمام الضم للحاء.
كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة ، ومِنْ قَبْلُ متعلق بأشياعهم على أن المراد من اتصف بصفتهم من قبل أي في الزمان الأول ، ويرجحه أن ما يفعل بجميعهم في الآخرة إنما هو في وقت واحد أو متعلق بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا ، وعن الضحّاك أن المراد بأشياعهم أصحاب الفيل ، الظاهر أنه جعل الآية في السفياني ومن معه.
إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ أي موقع في ريبة على أنه من أرابه أوقعه في ريبة وتهمة أو ذي ريبة من أراب الرجل صار ذا ريبة فإما أن يكون قد شبه الشك بإنسان يصح أن يكون مريبا على وجه الاستعارة المكنية التخييلية أو يكون الإسناد مجازيا أسند فيه ما لصاحب الشك للشك مبالغة كما يقال شعر شاعر ، وكأنه من هنا قال ابن عطية :
الشك المريب أقوى ما يكون من الشك ، وضمير الجمع للإشباع وقيل لأولئك المحدث عنهم واللّه تعالى أعلم ومن باب الإشارة في بعض آيات السورة ما قيل وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ أشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت ، وقد ذكروا أنه إذا تمكن الذكر سرى في جميع أجزاء البدن فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكرا فإذا ترقى حاله يسمع كل ما في عالم الملك كذلك فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك وإن من شيء إلا يسبح بحمده وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ القلب أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وهي الحكم البالغة التي تظهر من القلب

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 333
على اللسان وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي في سرد الحديث بأن تتكلم بالحكمة على قدر ما يتحمله عقل مخاطبك ، وقد ورد كلموا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم.
ومن هنا يصعب الجواب عمن تكلم من المتصوفة بما ينكره أكثر من يسمعه من العلماء وبه ضل كثير من الناس وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ ريح العناية غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ فكان يتصرف بالهمة وقذف الأنوار في قلوب متبعيه من مسافة شهر وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ إشارة إلى قوة باطنه حيث انقاد له من جبل على المخالفة وفعل الشرور وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وهو من شكره بالأحوال أعني التخلق بأخلاق اللّه تعالى :
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علما وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي مقامات أهل الباطن من العارفين قُرىً ظاهِرَةً وهي مقامات أهل الظاهر من الناسكين سِيرُوا فِيها لَيالِيَ في ليالي البشرية وَأَيَّاماً في أيام الروحانية آمِنِينَ في خفارة الشريعة.
وقال بعض الفرقة الجديدة الكشفية : القرى المبارك فيها الأئمة رضي اللّه تعالى عنهم والقرى الظاهرة الدعاة إليهم والسفراء بينهم وبين شيعتهم وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بميلهم إلى الدنيا وترك السير لسوء استعدادهم حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ فيه إشارة إلى أن الهيبة تمنع الفهم وَما أَرْسَلْناكَ أي ما أخرجناك من العدم إلى الوجود إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ الأولين والآخرين بَشِيراً وَنَذِيراً وهذا حاله عليه الصلاة والسلام في عالم الأرواح وفي عالم الأجساد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ إذ لا نور لهم يهتدون به وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ هؤلاء قطاع الطريق على عباد اللّه تعالى ومثلهم المنكرون على أولياء اللّه تعالى الذين ينفرون الناس عن الاعتقاد بهم واتباعهم قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي إن النفس لأمارة بالسوء وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من القرآن وفيه إشارة إلى أنه نور لا يبقى معه ديجور أو مراتب الاهتداء به متفاوتة حسب تفاوت الفهم الناشئ من تفاوت صفاء الباطن وطهارته ، وقد ورد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ولا يكاد يصل الشخص إلى باطنه إلا بتطهير باطنه كما يرمز إليه قوله تعالى : لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة : 79] نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لفهم ظاهره وباطنه إلى ما شاء من البطون فإنه جل وعلا القادر الذي يقول للشيء كن فيكون.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 334
سورة فاطر
وتسمى سورة الملائكة ، وهي مكية كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وفي مجمع البيان قال الحسن :
مكية إلا آيتين : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر : 29] الآية : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ [فاطر : 32] الآية ، وآيها ست وأربعون في المدني الأخير والشامي وخمس وأربعون في الباقين ، والمناسبة على ما في البحر أنه عزّ وجلّ لما ذكر في آخر السورة المتقدمة هلاك المشركين أعداء المؤمنين وإنزالهم منازل العذاب تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره كما في قوله تعالى : فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام : 45] وينضم إلى ذلك تواخي السورتين في الافتتاح بالحمد وتقاربهما في المقدار وغير ذلك.
[سورة فاطر (35) : الآيات 1 إلى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 335
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي موجدهما من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه ، فالفطر الإبداع ، وقال الراغب : هو إيجاده تعالى الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال.
وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهما عن ابن عباس قال : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يعني ابتدأتها ، وأصل الفطر الشق ، وقال الراغب : الشق طولا ثم تجوز فيه عما تقدم وشاع فيه حتى صار حقيقة أيضا ، ووجه المناسبة أن السماوات والأرض والمراد بهما العالم بأسره لكونهما ممكنين والأصل في الممكن العدم كما يشير إليه قوله تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص : 88] وقوله عليه الصلاة والسلام : «ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن»
وصرح بذلك فلاسفة الإسلام قال رئيسهم : الممكن في نفسه ليس وهو عن علته آيس كان العدم كامن فيهما وبإيجادهما يشقان ويخرج العدم منهما.
وقيل في ذلك : كأنه تعالى شق العدم بإخراجهما منه ، وقيل : لا مانع من حمله على أصله هنا ويكون إشارة إلى الأمطار والنبات فكأنه قيل : الحمد للّه فاطر السماوات بالأمطار وفاطر الأرض بالنبات وفيه نظر ستأتي الإشارة إليه قريبا ، وقوله تعالى : جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا على القولين يحتمل أن يكون معناه جاعل الملائكة عليهم السلام وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالته سبحانه بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه عزّ وجلّ يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه كالأمطار والرياح وغيرهما وهم الملائكة الموكلون بأمور العالم ، وهذا أنسب بالقول الثاني لكن يرد عليه أنه لا معنى لكون الأمطار شاقة للسماوات ، وقال الإمام : إن الحمد يكون على النعم ونعمه تعالى عاجلة وآجلة ، وهو في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ودليله : يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها [سبأ : 2 ، الحديد : 4] وقوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ : 3] والحمد في هذه السورة إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ودليله جاعل الملائكة رسلا أي يجعلهم سبحانه رسلا يتلقون عباد اللّه تعالى كما قال سبحانه تتلقاهم الملائكة فيجوز أن يكون المعنى الحمد للّه شاق السماوات والأرض يوم القيامة لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض وجاعل الملائكة رسلا في ذلك اليوم يتلقون عباده ، وعليه فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى لأن قوله تعالى : كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ [سبأ : 54] بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب ، ولما ذكر سبحانه حالهم ذكر حال المؤمنين

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 336
وبشرهم بإرسال الملائكة إليهم وأنه تعالى يفتح أبواب الرحمة لهم انتهى ، وفيه من البعد ما فيه ، وفاطِرِ صفة للّه وإضافته محضة قال أبو البقاء : لأنه للماضي لا غير ، وقال غيره : هو معروف بالإضافة إذ لم يجر على الفعل بل أريد به الاستمرار والثبات كما يقال زيد مالك العبيد جاء أي زيد الذي من شأنه أن يملك العبيد جاء ، ومن جعل الإضافة غير محضة جعله بدلا وهو قليل في المشتقات ، وكذا الكلام في جاعِلِ ورُسُلًا على القول بأن إضافته غير محضة منصوب به بالاتفاق ، وأما على القول الآخر فكذلك عند الكسائي ، وذهب أبو علي إلى أنه منصوب بمضمر يدل هو عليه لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عنده كسائر البصريين إلا معرفا باللام ، وقال أبو سعيد السيرافي : اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يعمل بالثاني لأنه بإضافته إلى الأول تعذرت إضافته إلى الثاني فتعين نصبه له.
وعلل بعضهم ذلك بأنه بالإضافة أشبه المعرف باللام فعمل عمله هذا على تقدير كون الجعل تصييريا أما على تقدير كونه إبداعيا فرسلا حال مقدرة ، وقرأ الضحاك والزهري فطر جعل فعلا ماضيا ونصب ما بعده قال أبو الفضل الرازي : يحتمل أن يكون ذلك على إضمار الذي نعتا للّه تعالى أو على تقدير قد فتكون الجملة حالا.
وأنت تعلم أن حذف الموصول الاسمي لا يجوز عند جمهور البصريين ، وذهب الكوفيون والأخفش إلى إجازته وتبعهم ابن مالك وشرط في بعض كتبه كونه معطوفا على موصول آخر ومن حجتهم «آمنوا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم» «1» وقول حسان :
أمن يهجو رسول اللّه منكم وينصره ويمدحه سواء
وقول آخر :
ما الذي دأبه احتياط وحزم وهواه أطاع يستويان
واختار أبو حيان كون الجملة خبر مبتدأ محذوف أي هو فطر. وقرأ الحسن «جاعل» بالرفع على المدح وجر الْمَلائِكَةِ وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «جاعل» بالرفع بلا تنوين ونصب «الملائكة» وخرج حذف التنوين على أنه لالتقاء الساكنين ونصب الملائكة إذا كان جاعل للمضي على مذهب الكسائي وهشام في جواز أعمال الوصف الماضي النصب. وقرأ ابن يعمر وخليد «جعل» فعلا ماضيا «الملائكة» بالنصب وذلك بعد قراءته فاطِرِ كالجمهور كقراءة من قرأ : فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الأنعام : 96] وفي الكشاف قرىء «فطر» و«جعل» كلاهما بلفظ الفعل الماضي.
وقرأ الحسن وحميد بن قيس «رسلا» بسكون السين وهي لغة تميم ، وقوله تعالى : أُولِي أَجْنِحَةٍ صفة لرسلا وأولو اسم جمع لذو كما إن أولاه اسم جمع لذا ، ونظير ذلك من الأسماء المتمكنة المخاض ، قال الجوهري : هي الحوامل من النوق واحدتها خلفة. وأَجْنِحَةٍ جمع جناح صيغة جمع القلة ومقتضى المقام أن المراد به الكثرة.
وفي البحر قياس جمع الكثرة فيه جنح فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملا في القليل والكثير ، والظاهر أن الجناح بالمعنى المعروف عند العرب بيد أنا لا نعرف حقيقته وكيفيته ولا نقول إنه من ريش كريش الطائر.
نعم أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن أجنحة الملائكة عليهم السّلام زغبة ، ورأيت في بعض كتب الإمامية أن الملائكة تزدحم في مجالس الأئمة فيقع من ريشها ما يقع وأنهم يلتقطونه ويجعلون منه ثيابا لأولادهم.
___________
(1) لا يوجد آية بهذا النصّ.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 337
وهذا عندي حديث خرافة ، والكشفية منهم يؤولونه بما لا يخرجه عن ذلك ، وقوله تعالى : مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ الظاهر أنه صفة لأجنحة ، والمنع من الصرف على المشهور للصفة والعدل عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.
وقال الزمخشري : إنما لم تنصرف هذه الألفاظ لتكرار العدل فيها وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر وحزام عن حازمة وعن تكرير إلى غير تكرير ففيها عدلان وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها ألا ترك تقول مررت بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها. وتعقبه أبو حيان بأنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أربع وثلاثة وليس بصحيح لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة بل اشترطوا أن تكون الوصفية غير عارضة كما في أربع وأن لا يقبل تاء التأنيث أو تكون فيه كثلاث وثلاثة ، وقال صاحب الكشف فيه : إن العدول عن التكرر لا يعتبر فيه للصيغة واعتبر في تحقق العدل ذلك ثم العدول عن الصيغة الأصلية لإفادة التكرر فلا عدولين بوجه ، وبعد تسليم أن المعتبر في الوصف مقارنته لوضع المعدول فلا يضر عروضه في المعدول عنه لا اتجاه للمنع ولا معول على السند وهو قول سيبويه على ما نقله الجوهري وهو المنصور على ما نبهت إليه انتهى وتعقبه أيضا صاحب الفرائد وصاحب التقريب بعروض الوصفية في المعدول عنه وعدمه في المعدول ، لكن قال الطيبي :
وجدت لبعض المغاربة كلاما يصلح أن يكون جوابا عنه وهو أن ثلاث مثلا لا يخلو من أن يكون موضوعا للصفة من غير اعتبار العدد أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن فيه العدد والمقدر خلافه ، وإن كان الثاني كان الوصف عارضا لثلاث كما كان عارضا لثلاثة فيمكن أن يقال إن هذه الأعداد غير منصرفة للعدل المكرر كالجمع وألفي التأنيث انتهى ، وفيه ما لا يخفى.
وقال ابن عطية : إن هذه الألفاظ عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل فهي لا تنصرف للعدل والتعريف وهذا قول غريب ذكر في البحر لبعض الكوفيين وفي الكشاف هي نكرات يعرفن بلام التعريف تقول فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ، وقيل مَثْنى إلخ حال من محذوف والعامل فيه محذوف يدل عليه رُسُلًا أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع ، والمعول عليه ما تقدم ، والمراد ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها حين يؤمرون ، ويجوز أن تكون كلا أو بعضا لأمور أخر كالزينة فيما بينهم وكالإرخاء على الوجه حياء من اللّه تعالى إلى غير ذلك ، والمعنى أن من الملائكة خلقا لكل واحد منهم جناحان وخلقا لكل منهم ثلاثة أجنحة وخلقا لكل منهم أربعة أجنحة ، ولا دلالة في الآية على نفي الزائد بل قال بعض المحققين : إن ما ذكر من العدد للدلالة على التكثير والتفاوت لا للتعيين ولا لنفي النقصان عن اثنين.
وقد أخرج الشيخان والترمذي عن ابن مسعود في قوله تعالى : لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم : 18] رأى جبريل له ستمائة جناح ، والترمذي عن مسروق عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سد الأفق ، وقال الزمخشري : مر بي في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة عليهم السلام لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم وجناحان يطيرون بهما في أمر من أمور اللّه تعالى وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من اللّه عزّ وجلّ.
والبحث عن كيفية وضع الأجنحة شفعا كانت أو وترا فيما أرى مما لا طائل تحته ولم يصح عندي في ذلك شيء ولقياس الغائب على الشاهد ، قال بعضهم : إن المعنى إن في كل جانب لبعض الملائكة عليهم السّلام جناحين ولبعضهم ثلاثة ولبعضهم أربعة وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد لما اعتدلت ، وهو كما ترى.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 338
وقال قوم : إن الجناح إشارة إلى الجهة ، وبيانه أن اللّه تعالى ليس فوقه شيء وكل شيء سواه فهو تحت قدرته سبحانه والملائكة عليهم السّلام لهم وجه إلى اللّه تعالى يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذنه سبحانه كما قال تعالى : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء : 193 ، 194] وقال تعالى : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم : 5] وقال تعالى : فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات : 5] وهما جناحان وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة وفيهم من يفعله لا بواسطة فالفاعل بواسطة منهم من له ثلاث جهات ومنهم من له أربع جهات وأكثر ، وهذا خلاف الظاهر جدا ولا يحتاج إليه السني القائل بأن الملائكة عليهم السّلام أجسام لطيفة نورية يقدرون على التشكل بالصور المختلفة وعلى الأفعال الشاقة وإنما يحتاج إليه أو إلى نحوه الفلاسفة وأتباعهم فإن الملائكة عندهم هي العقول المجردة ويسميها أهل الإشراق بالأنوار الظاهرة وبعض المتصوفة بالسرادقات النورية ، وقد ذكر بعض متأخريهم أن لها ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى ما دونها إضافة النفس إلى البدن فأما ذواتها الحقيقة فإنما هي أمرية قضائية قولية وأما ذواتها الإضافية فإنما هي خلقية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية وأعظمهم إسرافيل عليه السّلام ، وتطلق الملائكة عندهم على غير العقول كالمدبرات العلوية والسفلية من النفوس والطبائع ، وأطالوا الكلام في ذلك وظواهر الآيات والأخبار تكذبهم واللّه تعالى الموفق للصواب.
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ استئناف مقرر لما قبله من تفاوت الملائكة عليهم السّلام في عدد الأجنحة ومؤذن بأن ذلك من أحكام مشيئته تعالى لا لأمر راجع إلى ذواتهم ببيان حكم كلي ناطق بأنه عزّ وجلّ يزيد في أي خلق كان كل ما يشاء أن يزيده بموجب مشيئته سبحانه ومقتضى حكمته من الأمور التي لا يحيط بها الوصف ، وقال الفراء والزجاج : هذا في الأجنحة التي للملائكة أي يزيد في خلق الأجنحة للملائكة ما يشاء فيجعل لكل ستة أجنحة أو أكثر وروي ذلك عن الحسن ، وكأن الجملة لدفع توهم عدم الزيادة على الأربعة.
وعن ابن عباس يزيد في خلق الملائكة والأجنحة ما يشاء ، وقيل الْخَلْقِ خلق الإنسان وما يَشاءُ الخلق الحسن أو الصوت الحسن أو الحظ الحسن أو الملاحة في العينين أو في الأنف أو في الوجه أو خفة الروح أو جعودة الشعر وحسنه أو العقل أو العلم أو الصنعة أو العفة في الفقر أو حلاوة النطق ، وذكروا في بعض ذلك أخبارا مرفوعة والحق أن ذلك من باب التمثيل لا الحصر ، والآية شاملة لجميع ذلك بل شاملة لما يستحسن ظاهرا ولما لا يستحسن وكل شيء من اللّه عزّ وجلّ حسن.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور فإن شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء مما يوجب قدرته سبحانه على أن يزيد في كل خلق كل ما يشاؤوه تعالى إيجابا بينا ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي ما يطلقها ويرسلها فالفتح مجاز عن الإرسال بعلاقة السببية فإن فتح المغلق سبب لإطلاق ما فيه وإرساله ولذا قوبل بالإمساك والإطلاق كناية عن الإعطاء كما قيل أطلق السلطان للجند أرزاقهم فهو كناية متفرعة على المجاز.
وفي اختيار لفظ الفتح رمز إلى أن الرحمة من أنفس الخزائن وأعزها منالا ، وتنكيرها للإشاعة والإبهام أي أي شيء يفتح اللّه تعالى من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة وأمن وعلم وحكمة إلى غير ذلك مما لا يحاط به حتى أن عروة كان يقول كما أخرج ابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير عنه في ركوب المحمل هي واللّه رحمة فتحت للناس ثم يقول ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي الرحمة المطر ، وعن ابن عباس التوبة والمراد التمثيل ، والجار والمجرور في موضع الحال لا في موضع الصفة لأن اسم الشرط لا يوصف فَلا مُمْسِكَ لَها أي فلا أحد يقدر على إمساكها

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 339
وَما يُمْسِكْ أي أي شيء يمسك فَلا مُرْسِلَ لَهُ أي فلا أحد يقدر على إرساله ، واختلاف الضميرين لما أن مرجع الأول مبين بالرحمة ومرجع الثاني مطلق يتناولها وغيرها ، وفي ذلك مع تقديم أمر فتح الرحمة إشعار بأن رحمته تعالى سبقت غضبه عزّ وجلّ كما ورد في الحديث الصحيح ، وقيل المراد وما يمسك من رحمة إلا أنه حذف المبين لدلالة ما قبل عليه ، والتذكير باعتبار اللفظ وعدم ما يقوي اعتبار المعنى في التلفظ.
وأيد بأنه قرىء «فلا مرسل لها» بتأنيث الضمير مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي من جملتها الفتح والإمساك الْحَكِيمُ الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، والجملة تذييل مقرر لما قبلها ومعرب عن كون كل من الفتح والإمساك بموجب الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين ، وما ادعى هذه الآية إلى الانقطاع إلى اللّه تعالى والإعراض عما سواه عزّ وجلّ وإراحة البال عن التخيلات الموجبة للتهويش وسهر الليال.
وقد أخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس : قال أربع آيات من كتاب اللّه تعالى إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس : 107] وسَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق :
7] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود : 6] وبعد ما بين سبحانه أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس قاطبة أو أهل مكة كما روي عنه ابن عباس واختاره الطيبي بشكر نعمه عزّ وجلّ فقال تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي إنعامه تبارك وتعالى عليكم إن جعلت النعمة مصدرا أو كائنة عليكم أن جعلت اسما أي راعوها واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها وتخصيص العبادة والطاعة بموليها فليس المراد مجرد الذكر باللسان بل هو كناية عما ذكر ، وعن ابن عباس وقد جعل الخطاب لمن سمعت اذكروا نعمة اللّه عليكم حيث أسكنكم حرمه ومنعكم من جميع العالم والناس يتخطفون من حولكم ، وعنه أيضا نعمة اللّه تعالى العافية ، والأولى عدم التخصيص ، ولما كانت نعم اللّه تعالى مع تشعب فنونها منحصرة في نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء نفي سبحانه أن يكون في الوجود شيء غيره سبحانه يصدر عنه إحدى النعمتين بطريق الاستفهام الذي هو لإنكار التصديق وتكذيب الحكم فقال عزّ وجلّ : هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وهل تأتي لذلك كما في المطول وحواشيه ، وقول الرضى : إن هل لا تستعمل للإنكار أراد به الإنكار على مدعي الوقوع كما في قوله تعالى : أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الإسراء : 40] ويلزمه النفي والإنكار على من أوقع الشيء كما في قولك أتضرب زيدا وهو أخوك أي هل خالق مغاير له تعالى موجود لكم أو للعالم على أن خالِقٍ مبتدأ محذوف الخبر زيدت عليه مِنْ لتأكيد العموم وغَيْرُ اللَّهِ صفة له باعتبار محله ، وصحت الوصفية به مع إضافته إلى أعرف المعارف لتوغله في التنكير فلا يكتسب تعريفا في مثل هذا التركيب ، وجوز أن يكون بدلا من خالِقٍ بذلك الاعتبار ويعتبر الإنكار في حكم النفي ليكون غير اللّه هو الخالق المنفي ولأن المعنى على الاستثناء أي لا خالق
إلا اللّه تعالى والبدلية في الاستثناء بغير إنما تكون في الكلام المنفي وبهذا الاعتبار زيدت مِنْ عند الجمهور وصح الابتداء بالنكرة ، وكذا جوز أن يكون فاعلا بخالق لاعتماده على أداة الاستفهام نحو أقائم زيد في أحد وجهيه وهو حينئذ ساد مسد الخبر. وتعقبه أبو حيان بقوله فيه نظر وهو أن اسم الفاعل أو ما يجري مجراه إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل فرفع ما بعده هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فيقال هل من قائم الزيدون كما تقول هل قائم الزيدون ، والظاهر أنه لا يجوز ألا ترى أنه إذا أجرى مجرى الفعل لا يكون فيه عموم بخلافه إذا دخلت عليه من ولا أحفظ مثله في لسان العرب ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 340
وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلامهم ، وفيه أن شرط الزيادة والأعمال موجود ولم يبد مانعا يعول عليه فالتوقف تعنت من غير توقف. وفي الكشف لا مانع من أن يكون غَيْرُ خبرا. ومنعه الشهاب بأن المعنى ليس عليه ، وقرأ ابن وثاب وشقيق وأبو جعفر وزيد بن علي وحمزة والكسائي غير بالخفض صفة لخالق على اللفظ ، وهذا متعين في هذه القراءة ولأن توافق القراءتين أولى من تخالفهما كان الأظهر في القراءة الأولى كونه وصفا لخالق أيضا ، وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي «غير» بالنصب على الاستثناء ، وقوله تعالى : يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بالمطر والنبات كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب لا صفة خالِقٍ باعتبار لفظه أو محله ، قال في الكشف : لأن المعنى على التقريع والتذكير بما هم معترفون به فكأنه قيل : هل من خالق لتلك النعم التي أمرتم بذكرها أو مطلقا وهو أولى وتدخل دخولا أوليا غَيْرُ اللَّهِ ثم تمم ذلك بأنه يرزقكم من السماء والأرض وذلك أيضا يقتضي اختصاصه تعالى بالعبادة كما أن الخالقية تقتضي ذلك ، وفيه أن الخالق لا يكون إلا رازقا ولو قيل هل من خالق رازق من السماء والأرض غير اللّه يخرج الكلام عن سننه المقصود.
وجوز أن يكون خالِقٍ فاعلا لفعل مضمر يفسره المذكور والأصل هل يرزقكم خالق ومِنْ زائدة في الفاعل ، وتعقب بأن ما في النظم الجليل إن كان من باب هل رجل عرف فقد صرح السكاكي بقبح هذا التركيب لأن هل إنما تدخل على الجملة الخبرية فلا بدّ من صحتها قبل دخول هل ورجل عرف لا يصح بدون اعتبار التقديم والتأخير لعدم مصحح الابتدائية سواه وإذا اعتبر التقديم والتأخير كان الكلام مفيدا لحصول التصديق بنفس الفعل فلا يصح دخول هل عليه لأنها لطلب التصديق وما حصل لا يطلب لئلا يلزم تحصيل الحاصل ولاحتمال أن يكون رجل فاعل فعل محذوف قال بالقبح دون الامتناع وإن كان من باب هل زيد عرف فقد صرح العلامة الثاني السعد التفتازاني بأنه قبيح باتفاق النحاة وأن ما ذكره صاحب المفصل من أن نحو هل زيد خرج على تقدير الفعل تصحيح للوجه القبيح البعيد لا أنه شائع حسن غاية ما في الباب أن سبب قبحه ليس ما ذكر في قبح هل زيد عرف عند السكاكي لعدم تأتيه فيه بل السبب أن هل بمعنى قد في الأصل وأصله أهل كقوله :
أهل عرفت الدار بالغرتين وترك الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام فأقيمت هي مقام الهمزة وتطفلت عليها في الاستفهام ، وقد من لوازم الأفعال فكذا ما هي بمعناها ، ولم يقبح دخولها على الجملة الاسمية التي طرفاها اسمان لأنها إذا لم تر الفعل في حيزها تتسلى عنه ذاهلة وهذا بخلاف ما إذا رأته فإنها حينئذ تتذكر عهودا بالحمى وتحن إلى الألف المألوف وتطلب معانقته ولم ترض بافتراق الاسم بينهما ، ويعلم من هذا أنه لا فرق عند النحاة بين هل رجل عرف وهل زيد تعرف في القبح لذلك. وأجاب بعضهم بأن مجوز هذا الوجه الزمخشري ومتابعوه وهو لا يسلم ما ذكر لأن حرف الشرط كان مثلا ألزم للفعل من هل لأنه لا يجوز دخوله على الجملة الاسمية التي طرفاها اسمان كما دخلت عليها هل وقد جاز بلا قبح عمل الفعل بعده على شريطة التفسير كقوله تعالى : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فيجوز في هل بالطريق الأولى ، وقيل : يجوز أن يكون يَرْزُقُكُمْ إلخ مستأنفا في جواب سؤال مقدر تقديره أي خالق يسأل عنه ، وأن يكون هو الخبر لخالق ، ولا يخفى على متأمل أن ما نقل عن الكشف قاض بمرجوحية هذه الأوجه جميعها فتأمل.
وفي الآية على ما هو الأولى في تفسيرها وإعرابها رد على المعتزلة في قولهم : العبد خالق لأفعاله ونصرة لأهل السنة في قولهم لا خالق إلا اللّه تعالى : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ استئناف مقرر للنفي المفهوم مما تقدم قصدا ، ولم يجوز جار اللّه أن يجعل صفة لخالق كما جعل يَرْزُقُكُمْ صفة له حيث قال : ولو وصلت جملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كما وصلت

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 341
يَرْزُقُكُمْ لم يساعد عليه المعنى لأن قولك هل من خالق آخر سوى اللّه لا إله إلا ذلك الخالق غير مستقيم لأن قولك هل من خالق سوى اللّه إثبات للّه تعالى فلو ذهبت تقول ذلك كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات ا ه ، وبين صاحب الكشف وجه المناقضة على تقدير أن يكون غير اللّه صفة بأن الكلام مسوق لنفي المشاركة في الصفة المحققة أعني الخلق فقولك هل من خالق آخر سوى اللّه إثبات للّه تعالى ونفي المشارك له فيها ثم وصف الآخر بانحصار الإلهية فيه يكون لنفي خالقيته دون تفرد بالإلهية والتفرد بالإلهية مع مغايرته للّه تعالى متناقضان لأن الأول ينفيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا والثاني يثبته مع الغير جل عن كل شريك ونقص ، ثم قال : والتحقيق في هذا أن هل لإنكار ما يليها وما تلاه إن كان من تتمته ينسحب عليه حكم الإنكار بالبقية وإلا كان مبقى على حاله نفيا وإثباتا ، ولما كان الكلام في الخالقية على ما مر لم يكن الوصفان أعني تفرد الآخر بالإلهية ومغايرته للقيوم الحق مصبا له وهما متناقضان في أنفسهما على ما بين فيلزم ما ذكره جار اللّه لزوما بينا ا ه ، وقد دفع بتقريره ذلك كثيرا من القال والقيل بيد أنه لا يخلو عن بحث ، ويمكن تقرير المناقضة على تقدير الوصفية بوجه أظهر لعله لا يخفى على المتأمل ، ويجوز أن يكون المانع من الوصفية النظم المعجز وحاكمه الذوق السليم والكلام في ذلك طويل فتأمل ، والفاء في قوله تعالى : فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ لترتيب إنكار عدولهم عن التوحيد إلى الإشراك على ما قبلها كأنه قيل : وإذا تبين تفرده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك ، وقوله تعالى : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ إلخ تسلية له عليه الصلاة والسّلام بعموم البلية والوعد له صلّى اللّه عليه وسلم والوعيد لأعدائه ، والمعنى وإن استمروا على أن يكذبوك فيما بلغت إليهم من الحق
المبين بعد ما أقمت عليهم الحجة وألقمتهم الحجر فتأس بأولئك الرسل في الصبر فقد كذبهم قومهم وصبروا فجملة قد كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ قائمة مقام جواب الشرط والجواب في الحقيقة تأس ، وأقيمت تلك الجملة مقامه اكتفاء بذكر السبب عن ذكر المسبب ، وجوز أن تجعل هي الجواب من غير تقدير ويكون المترتب على الشرط الإعلام والإخبار كما في قوله تعالى : وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل : 53] وتنكير رسل للتعظيم والتكثير الموجبين لمزيد التسلية والحث على التأسي والصبر على ما أصابه عليه الصلاة والسّلام من قومه أي رسل أولو شأن خطير وعدد كثير وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لا إلى غيره عزّ وجلّ فيجازي سبحانه كلا منك ومنهم بما يليق به ، وفي الاقتصار على ذكر اختصاص المرجع به تعالى مع إبهام الجزاء ثوابا وعقابا من المبالغة في الوعد والوعيد ما لا يخفى. وقرئ «ترجع» بفتح التاء من الرجوع والأول أدخل في التهويل.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ المشار إليه بقوله سبحانه : وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ من البعث والجزاء حَقٌّ ثابت لا محالة من غير خلف فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن يذهلكم التمتع بمتاعها ويلهيكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد ، والمراد نهيهم عن الاغترار بها وإن توجه النهي صورة إليها نظير قوله تعالى : لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي [هود : 89] وقولك لا أرينك هنا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ حيث إنه جل شأنه عفو كريم رؤوف رحيم الْغَرُورُ أي المبالغ في الغرور ، وهو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد الشيطان فالتعريف للعهد ، ويجوز التعميم أي لا يغرنكم كل من شأنه المبالغة في الغرور بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية قائلا إن اللّه يغفر الذنوب جميعا فإن ذلك وإن أمكن لكن تعاطي الذنوب بهذا التوقع من قبيل تناول السم تعويلا على دفع الطبيعة ، وتكرير فعل النهي للمبالغة فيه ولاختلاف الغرورين في الكيفية.
وقرأ أبو حيوة وأبو السمال «الغرور» بالضم على أنه مصدر غره يغره وإن قل في المتعدي أو جمع غار كقعود وسجود مصدرين وجمعين ، وعلى المصدرية الإسناد مجازي إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة لا تكاد

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 342
تزول ، ويشعر بذلك الجملة الاسمية و«لكم» وتقديمه للاهتمام فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بمخالفتكم إياه في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ تقرير لعداوته وتحذير من طاعته بالتنبيه على أن غرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا ليس إلا توريطهم وإلقاءهم في العذاب المخلد من حيث لا يشعرون فاللام ليست للعاقبة. وزعم ابن عطية أنها لها.
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان واتباعهم لخطواته ، ولعل تنكير «عذاب» لتعظيمه بحسب المدة فكأنه قيل : لهم عذاب دائم شديد وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لا غاية لهما بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح ، والَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ خبره لَهُمْ عَذابٌ وكذا الَّذِينَ آمَنُوا ولَهُمْ مَغْفِرَةٌ إلخ ، وجوز بعضهم كون الَّذِينَ كَفَرُوا في موضع خفض بدلا من أَصْحابِ السَّعِيرِ أو صفة له أو في موضع نصب بدلا من حِزْبَهُ أو صفة له أو في موضع رفع بدلا من ضمير لِيَكُونُوا والكل مفوت لجزالة التركيب كما لا يخفى على الأريب أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ أي حسن له عمله السيّء فَرَآهُ فاعتقده بسبب التزيين حَسَناً فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ومَنْ موصولة في موضع رفع على الابتداء والجملة بعدها صلتها والخبر محذوف والفاء للتفريع والهمزة للإنكار فإن كانت مقدمة من تأخير كما هو رأي سيبويه والجمهور في نظير ذلك فالمراد تفريع إنكار ما بعدها على ما قبلها من الحكمين السابقين أي إذا كانت عاقبة كل من الفريقين ما ذكر فليس الذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنا وانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح وإن كانت في محلها الأصلي وكان العطف على مقدر تكون هي داخلة إليه كما ذهب إليه جمع فالمراد ما في حيزها ويكون التقدير أهما أي الذين كفروا والذين آمنوا وعملوا الصالحات متساويان فالذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنا وانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح أي ما هما متساويان ليكون الذي زين له الكفر كمن استقبحه ، وحذف هذا الخبر لدلالة الكلام عليه واقتضاء النظم الجليل إياه ، وقد صرح بالجزءين في نظير الآية الكريمة من قوله
تعالى : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [محمد : 14] وقوله سبحانه : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الرعد : 19] وقوله عزّ وجلّ : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام : 122] وفي التعبير عن الكافر بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا إشارة إلى غاية ضلاله حتى كأنه غلب على عقله وسلب تمييزه فشأن المغلوب على عقله ذلك كما يشير إليه قول أبي نوّاس :
اسقني حتى تراني حسنا عندي القبيح
وظاهر كلام الزجاج أن من شرطية حيث قال : الجواب على ضربين ، أحدهما ما يدل عليه قوله تعالى : فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ إلخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله اللّه ذهبت نفسك عليهم حسرة ، وثانيهما ما يدل عليه قوله تعالى : فَإِنَّ اللَّهَ إلخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هداه اللّه تعالى ، وإلى ذلك ذهب ابن مالك أيضا ، واعترض ابن هشام على التقدير الثاني بأن الظرف لا يكون جوابا وإن قلنا إنه جملة ، ووجهه أن الرضي صرح بأنه لا يكون مستقرا في غير الخبر والصفة والصلة والحال ولم يذكر الجواب لا أن ذلك لعدم الفاء ، وتقديرها داخلة على مبتدأ يكون الظرف خبره والجملة بتمامها جزاء غير جائز لما فيه من التكلف كما قيل.
وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون الزجاج قد ذهب إلى أن من موصولة وأطلق على خبرها الجواب لشبهه به في المعنى ألا تراهم يدخلون الفاء في خبر الموصول الذي صلته جملة فعلية كما يدخلونها في جواب الشرط فيقولون

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 343
الذي يأتيني فله درهم ، وفيه أنه خلاف الظاهر ولا قرينة على إرادته سوى عدم صحة الجزائية ، وضعف التقدير الأول بالفصل بين ما فيه الحذف ودليل المحذوف مع خفاء ربط الجملة بما قبلها عليه ، ولا ينبغي أن تكون من شرطية جوابها فرآه لما في ذلك من الركاكة الصناعية فإن الماضي في الجواب لا يقترن بالفاء بدون قد مع خفاء أمر إنكار رؤية سوء العمل حسنا بعد التزيين وتفريعه على ما قبله من الحكمين ، وكون الإنكار لما أن المزين هو الشيطان العدو والتفريع على قوله تعالى : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ لا يخفى حاله فالوجه المعول عليه ما تقدم جعل عليه ، وقوله تعالى :
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ تعليلا لسببية التزيين لرؤية القبيح حسنا ، وفيه دفع استبعاد أن يرى الشخص القبيح حسنا بتزيين العدو إياه ببيان أن ذلك بمشيئة اللّه عزّ وجلّ التابعة للعلم المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وإيذان بأن أولئك الكفرة الذين زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ممن شاء اللّه تعالى ضلالهم ، وقوله تعالى : فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ تفريع عليه أي إذا كان الأمر كذلك فلا تذهب نفسك إلخ ، وذكر المولى سعدي جلبي أن الهمزة في أَفَمَنْ على التقدير الأول من التقديرين اللذين نقلا عن الزجاج لإنكار ذهاب نفسه صلّى اللّه عليه وسلم عليه عليهم حسرة والفاء في قوله سبحانه فَإِنَّ اللَّهَ إلخ تعليل لما يفهمه النظم الجليل من أنه لا جدوى للتحسر ، وفي الكشف أنه تعالى لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا قال سبحانه لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً يعني أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فكأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا فقال تعالى فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ويفهم من كلام الطيبي أن فاء فَلا تَذْهَبْ جزائية وفاء فَإِنَّ اللَّهَ للتعليل وأن الجملة مقدمة من تأخير فقد قال : إنه صلّى اللّه عليه وسلم كان حريصا على إيمان القوم وأن يسلك الضالين في زمرة المهتدي فقيل له عليه الصلاة والسّلام على سبيل الإنكار لذلك : أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فلا بدّ أن يقر صلّى اللّه عليه وسلم بالنفي ويقول لا فحينئذ يقال له فإذا كان كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن اللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء فقدم وأخر انتهى وفيه نظر ، وفي الآيات على ما يقتضيه ظاهر كلام
الزمخشري لف ونشر وبذلك صرح الطيبي ثم قال : الأحسن أن تجعل الآيات من الجمع والتقسيم والتفريق فقوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ جمع الفريقين معا في حكم نداء الناس وجمع ما لهما من الثواب والعقاب في حكم الوعد وحذرهما معا عن الغرور بالدنيا والشيطان ، وأما التقسيم فهو قوله تعالى : الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وأما التفريق فقوله تعالى : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ لأنه فرق فيه وبين التفاوت بين الفريقين كما قال الزمخشري أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له ، وفرع على ذلك ظهور أن الفاء في أَفَمَنْ للتعقيب والهمزة الداخلة بين المعطوف والمعطوف عليه لإنكار المساواة وتقرير البون العظيم بين الفريقين وأن المختار من أوجه ذكرها السكاكي في المفتاح تقدير كمن هداه اللّه تعالى فحذف لدلالة فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ولهم في نظم الآيات الكريمة كلام طويل غير ما ذكرناه من أراده فليتبع كتب التفاسير والعربية ، ولعل فيما ذكرناه مقنعا لمن أوتي ذهنا سليما وفهما مستقيما.
والحسرات جمع حسرة وهي الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه ما حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه ، وانتصبت على أنها مفعول من أجله أي فلا تهلك نفسك للحسرات ، والجمع مع أن الحسرة في الأصل مصدر صادق على القليل والكثير للدلالة على تضاعف اغتمامه عليه الصلاة والسّلام على أحوالهم أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر ، وعَلَيْهِمْ صلة تَذْهَبْ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 344
كما يقال هلك عليه حبا ومات عليه حزنا أو هو بيان للمتحسر عليه فيكون ظرفا مستقرا ومتعلقه مقدر كأنه قيل : على من تذهب؟ فقيل : عليهم ، وجوز أن يتعلق بحسرات بناء على أنه يغتفر تقديم معمول المصدر عليه إذا كان ظرفا وهو الذي أختاره والزمخشري لا يجوز ذلك ، وجوز أن يكون حسرات حالا من نَفْسُكَ كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير :
مشق الهواجر لحمهن مع السرى حتى ذهبن كلا كلا وصدورا
يريد رجعن كلا كلا وصدورا أي لم يبق إلا كلا كلها وصدورها ، وهو الذي ذهب إليه سيبويه في البيت ، وقال المبرد : كلا كلا وصدورا تمييز محول عن الفاعل أي حتى ذهب كلا كلها وصدورها ، ومن هذا قوله :
فعلى أثرهم تساقط نفسي حسرات وذكرهم لي سقام
وفيه مبالغات ثلاث ، وقرأ عبيد بن عمير «زيّن» مبنيا للفاعل ، ونصب «سوأ» وعنه أيضا «أسوأ» على وزن أفعل وأريد بأسوأ عمله الشرك ، وقرأ طلحة «أمن» بغير فاء قال صاحب اللوامح : فالهمزة للاستخبار والتقرير ويجوز أن تكون للنداء وحذف ما نودي لأجله أي تفكر وارجع إلى اللّه فإن اللّه إلخ ، والظاهر أنها للإنكار كما في قراءة الجمهور ، وقرأ أبو جعفر ، وقتادة وعيسى والأشهب وشيبة وأبو حيوة وحميد والأعمش وابن محيصن «تذهب» من أذهب مسندا إلى ضمير المخاطب «نفسك» بالنصب على المفعولية ورويت عن نافع.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ في موضع التعليل لما قبله وفيه وعيد للكفرة أي إنه تعالى عليم بما يصنعونه من القبائح فيجازيهم عليه ، والآيات من قوله تعالى : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ إلى هنا نزلت على ما روي عن ابن عباس في أبي جهل ومشركي مكة ، وأخرج جويبر عن الضحاك أنها نزلت في عمر رضي اللّه تعالى عنه. وأبي جهل حيث هدى اللّه تعالى عمر وأضل أبا جهل وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ مبتدأ وخبر ، وقرأ حمزة ، والكسائي وابن كثير «الريح» وصيغة المضارع في قوله تعالى : فَتُثِيرُ سَحاباً لحكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة وكثيرا ما يفعلون ذلك بفعل فيه نوع تميز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك ، ومنه قول تأبط شرا :
ألا من مبلغ فتيان فهم بما لاقيت عند رحى بطان
بأني قد رأيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها كلانا نضو أرض أخو سفر فخلي لي مكاني
فشدت شدة نحوي فأهوت لها كفي بمصقول يماني
فأضربها بلا دهش فخرت صريعا لليدين وللجران
ولأن الإثارة خاصية للرياح وأثر لا ينفك في الغالب عنها فلا يوجد إلا بعد إيجادها فيكون مستقبلا بالنسبة إلى الإرسال ، وعلى هذا يكون استعمال المضارع على ظاهره وحقيقته من غير تأويل لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم ، والفاء دالة على عدم تراخي ذلك وهو شيء آخر وجوز أن يكون الإتيان بما يدل على الماضي ثم بما يدل على المستقبل إشارة إلى استمرار الأمر وأنه لا يختص بزمان دون زمان إذ لا يصح المضي والاستقبال في شيء واحد إلا إذا قصد ذلك ، وقال الإمام : اختلاف الفعلين لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى اللّه تعالى وما يفعل سبحانه يكون بقوله عزّ وجلّ : كُنْ [البقرة : 117 وغيرها] فلا يبقى في العدم زمانا ولا جزء زمان جيء بلفظ الماضي دون المستقبل

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 345
لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ولأنه تعالى فرغ من كل شيء فهو سبحانه قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال ولما أسند فعل الإثارة إلى الرياح وهي تؤلف في زمان قال سبحانه : (تثير) بلفظ المستقبل ا ه.
وأورد عليه قوله تعالى : في سورة الروم اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً وفي سورة الأعراف : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف : 57] حيث جيء في الإرسال فيها بالمضارع فتأمل.
فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ قطعة من الأرض لا نبات فيها. وقرىء «ميت» بالتخفيف وهما بمعنى واحد في المشهور وفي كليات أبي البقاء الكفوي الميت بالتخفيف هو الذي مات والميت بالتشديد والمائت هو الذي لم يمت بعد ، وأنشد :
ومن يك ذا روح فذلك ميت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
والمعول عليه هو المشهور فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ أي بالمطر النزل منه المدلول عليه بالسحاب فإن بينهما تلازما في الذهن كما في الخارج أو بالسحاب فإنه سبب السبب وإحياء الأرض إنبات الشجر والكلأ فيها بَعْدَ مَوْتِها يبسها وخلوها عن ذلك ، وإيراد الفعلين بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق ، وإسنادهما إلى نون العظمة المنبئ عن الاختصاص به تعالى لما فيهما من مزيد الصنع ولتكميل المماثلة بين إحياء الأرض وبين البعث الذي شبه به بقوله تعالى : كَذلِكَ النُّشُورُ في كمال الاختصاص بالقدرة الربانية ، وقال الإمام عليه الرحمة : أسند أَرْسَلَ إلى الغائب وساق «وأحيي» إلى المتكلم لأنه في الأول عرف سبحانه نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال تعالى : أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض ففي الأول كان تعريفا بالفعل العجيب وفي الثاني كان تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمتي الرياح والسحب بالسوق والإحياء ، وهو كما ترى.
وقال سبحانه : فأحيينا به الأرض دون فأحييناه أي البلد الميت به تعليقا للإحياء بالجنس المعلوم عند كل أحد وهو الأرض ولأن ذلك أوفق بأمر البعث ، وقال تعالى : بَعْدَ مَوْتِها مع أن الإحياء مؤذن بذلك لما فيه من الإشارة إلى أن الموت للأرض الذي تعلق بها الإحياء معلوم لهم وبذلك يقوي أمر التشبيه فليتأمل.
والنشور على ما في البحر مصدر نشر الميت إذا حيى قال الأعشى :
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر
وفي نهاية ابن الأثير يقال نشر لميت ينشر نشورا إذا عاش بعد الموت وانشره اللّه تعالى أحياه ، وقال الراغب : قيل نشر اللّه تعالى الميت وأنشره بمعنى والحقيقة أن نشر اللّه تعالى الميت مستعار من نشر الثوب أي بسطه كما قال الشاعر :
طوتك خطوب دهرك بعد نشر كذاك خطوبه طيا ونشرا
والمراد بالنشور هنا إحياء الأموات في يوم الحساب وهو مبتدأ والجار والمجرور قبله في موضع الخبر وقيل الكاف في حيز الرفع على الخبرية أي مثل ذلك الأحياء الذي تشاهدونه إحياء الأموات يوم القيامة في صحة المقدورية وسهولة التأتي من غير تفاوت بينهما أصلا سوى الألف في الأول دون الثاني ، وقال أبو حيان : وقع التشبيه بجهات لما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة أو كما أن الريح تجمع قطع السحاب كذلك يجمع اللّه تعالى أجزاء الأعضاء وأبعاض الموتى أو كما يسوق سبحانه الحساب إلى البلد الميت يسوق عزّ وجلّ الروح والحياة إلى البدن ، وقال بعضهم : التشبيه باعتبار الكيفية.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 346
فقد أخرج ابن جرير وغيره عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال : يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فلا يبقى خلق للّه في السماوات والأرض إلا من شاء اللّه تعالى إلا مات ثم يرسل اللّه تعالى من تحت العرش ماء كمني الرجال فتنبت أجسامهم من ذلك الماء وقرأ الآية ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها
، وفي حديث مسلم مرفوعا ينزل اللّه تعالى مطرا كأنه الطل فينبت أجساد الناس.
ونبات الأجساد من عجب الذنب على ما ورد في الآثار وقد جاء أنه لا يبلى وهو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز ، وقال أبو زيد الوقواقي : هو جوهر فرد يبقى من هذه النشأة لا يتغير ، ولا حاجة إلى التزام أنه جوهر فرد ، ووراء ذلك أقوال عجيبة في هذا العجب فقيل هو العقل الهيولاني ، وقيل بل الهيولى ، وعن الغزالي إنما هو النفس وعليها تنشأ النشأة الآخرة ، وعن الشيخ الأكبر أنه العين الثابت من الإنسان ، وعن بعض المتكلمين أنه الأجزاء الأصلية ، وقال الملا صدرا الشيرازي في أسفاره : هو عندنا القوة الخيالية لأنها آخر الأكوان الحاصلة في الإنسان من القوى الطبيعية والحيوانية والنباتية المتعاقبة في الحدوث للمادة الإنسانية في هذا العالم وهي أول الأكوان الحاصلة في النشأة الآخرة ثم بين ذلك بما بين وإنه لأضعف من بيت العنكبوت وأوهن. والمعول عليه ما يوافق فهم أهل اللسان ، وأي حاجة إلى التأويل بعد التصديق بقدرة الملك الديان جل شأنه وعظم سلطانه.
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز أي صلبة وتعريفها للجنس ، والآية في الكافرين كانوا يتعززون بالأصنام كما قال تعالى : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم : 81] والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال سبحانه : الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء : 139] ومن اسم شرط وما بعده فعل الشرط ، والجمع بين كان ويريد للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها ، وقوله تعالى : فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً دليل الجواب ولا يصح جعله جوابا من حيث الصناعة لخلوه عن ضمير يعود على من ، وقد قالوا : لا بدّ أن يكون في جملة الجواب ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفا ، والتقدير من كان يريد العزة فليطلبها من اللّه تعالى فلله وحده لا لغيره العزة فهو سبحانه يتصرف فيها كما يريد فوضع السبب موضع المسبب لأن الطلب ممن هي له وفي ملكه جميعها مسبب عنه ، وتعريف العزة للإستغراق بقرينة جَمِيعاً وانتصابه على الحال ، والمراد عزة الدنيا والآخرة ، وتقديم الخبر على المبتدأ للاختصاص كما أشرنا إليه.
ولا ينافي ذلك قوله تعالى : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون : 8] لأن ما للّه تعالى وحده العزة بالذات وللرسول صلّى اللّه عليه وسلم العزة بواسطة قربه من اللّه تعالى وما للمؤمنين العزة بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكأنه للإشارة إلى ذلك أعيد الجار ، وقدر بعضهم الجواب فليطع اللّه تعالى ، وأيد بما
رواه أنس كما في مجمع البيان عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز»
ومن قدر فليطلبها من اللّه تعالى قال : إن الطلب منه تعالى إنما يكون بالطاعة والانقياد ، وعن الفراء المعنى من كان يريد علم العزة أي القدرة على القهر لمن هي فلينسبها إلى اللّه تعالى فهي له تعالى وحده ، وقيل : المعنى من كان يريد العزة أي الغلبة فهو مغلوب لأن الغلبة للّه تعالى وحده ولا تتم إلا به عزّ وجلّ ونسب هذا إلى مجاهد ، وقيل : تعريف العزة الأولى للاستغراق أيضا أو للعهد والمراد الفرد الكامل ، والمعنى من كان يريد العزة جميعها أو الفرد الكامل منها وهي العزة التي لا يشوبها ذلة من وجه فهو لا ينالها فإنها للّه تعالى وحده ، وهذا القول أحسن من القولين قبله ، وأظهر الأقوال عندي الأول وهو منسوب إلى قتادة ، وقوله تعالى : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ إلى آخره كالبيان لطريق تحصيل العزة وسلوك السبيل إلى نيلها

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 347
وهو الطاعة القولية والفعلية ، وقيل : بيان لكون العزة كلها للّه تعالى وبيده سبحانه لأنها بالطاعة وهي لا يعتد بها ما لم تقبل ، وقيل : استئناف كلام ، وعلى الأول المعول. والْكَلِمُ اسم جنس جمعي عند جمع واحده كلمة ، والمراد بالكلم الطيب على ما في الكشاف والبحر عن ابن عباس لا إله إلا اللّه ، ومعنى كونه طيبا على ما قيل إن العقل السليم يستطيبه ويستلذه لما فيه من الدلالة على التوحيد الذي هو مدار النجاة والوسيلة إلى النعيم المقيم أو يستلذه الشرع أو الملائكة عليهم السّلام ، وقيل : إنه حسن يقبله العقل ولا يرده ، وإطلاق الكلم على ذلك إن كان واحده الكلمة بالمعنى الحقيقي ظاهر لتضمنه عدة كلمات لكن في وصفه بالطيب بالنظر إلى غير الاسم الجليل خفاء ، ولعل ذلك باعتبار خصوصية التركيب ، وإن كان واحده هنا الكلمة بالمعنى المجازي كما في قوله تعالى : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام : 115 ، الأعراف : 137] وكَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون : 100] وقوله عليه الصلاة والسلام : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد»
وقولهم لا إله إلا اللّه كلمة التوحيد إلى ما لا يحصى كثرة فإطلاق الكلم على ذلك لتعدده بتعدد القائل : وكأن القرينة على إرادة المعنى المجازي للكلمة الصادق على الكلام الوصف بالطيب بناء على أن ما يستطيب ويستلذ هو الكلام دون الكلمة العرية عن إفادة حكم تنبسط منه النفس أو تنقبض أو يقال : إن كثرة إطلاق الكلمة على الكلام وشيوعه فيما بينهم حتى قال بعضهم كم نقل الحمصي في حواشي التصريح عن بعض شراح الأجرومية أنه حقيقة لغوية تغني عن القرينة ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن الحبر أنه فسر الكلم الطيب بذكر اللّه تعالى ، وقيل : هو سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ، وهو ظاهر أثر أخرجه ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة.
وقيل : هو سبحان اللّه وبحمده والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر وتبارك اللّه ، وهو ظاهر أثر أخرجه جماعة عن ابن مسعود ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب أنه القرآن ، وقيل : هو الثناء بالخير على صالحي المؤمنين ، وقيل : هو الدعاء الذي لا ظلم فيه ، وقال الإمام وبه أقتدي : المختار أنه كل كلام هو ذكر اللّه تعالى أو هو للّه سبحانه كالنصيحة والعلم ، وأما ما أفاده كلام الملا صدرا في أسفاره من أنه النفوس الطاهرة الزكية فإنه تطلق الكلمة على النفس إذا كانت كذلك كما قال تعالى في عيسى عليه السّلام : وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء : 171] فلا ينبغي أن يعد في عداد أقوال المفسرين كما لا يخفى ، وصعود الكلم إليه تعالى مجاز مرسل عن قبوله بعلاقة اللزوم واستعارة بتشبيه القبول بالصعود ، وجوز أن يجعل الكلم مجازا عما كتب فيه بعلاقة الحلول أو يقدر مضاف أي إليه يصعد صحيفة الكلم الطيب أو يشبه وجوده الخارجي هنا ثم الكتابي في السماء بالصعود ثم يطلق المشبه به على المشبه ويشتق منه الفعل على ما هو المعروف في الاستعارة التبعية ، وقيل : لا مانع من اعتبار حقيقة الصعود للكلم فلله تعالى تجسيد المعاني ، وكون الصعود إليه عزّ وجلّ من المتشابه والكلام فيه شهير ، والكلام بعد ذلك كناية عن قبوله والاعتناء بشأن صاحبه ، وتقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر ، وقرأ علي كرّم اللّه تعالى وجهه وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه والسلمي وإبراهيم «يصعد»
من أصعد للكلام الطيب بالنصب ، وقال ابن عطية : وقرأ الضحاك «يصعد» بضم الياء ولم يذكر مبنيا للفاعل ولا مبنيا للمفعول ولا إعراب ما بعده ، وفي الكشاف وقرىء إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ على البناء للمفعول وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ من أصعد والمصعد هو الرجل أي يصعد إلى اللّه عزّ وجلّ الكلم الطيب ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما إِلَيْهِ يَصْعَدُ من صعد الكلام بالرفع.
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ مبتدأ وخبر على المشهور ، واختلف في فاعل (يرفع) فقيل ضمير يعود على العمل الصالح وضمير النصب يعود على الْكَلِمُ أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب وروي ذلك عن ابن عباس

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 348
والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك وشهر بن حوشب على ما أخرجه عنه سعيد بن منصور وغيره.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه فسر العمل الصالح بأداء الفرائض ثم قال : فمن ذكر اللّه تعالى وأدى فرائضه حمل عمله ذكر اللّه تعالى فصعد به إلى اللّه تعالى ومن ذكر اللّه تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وكان عمله أولى به ، وتعقب ذلك ابن عطية فقال : هذا قول يرد معتقد أهل السنّة ولا يصح عن ابن عباس ، والحق أن العاصي بترك فرائضه إذا ذكر اللّه تعالى وقال كلاما طيبا كتب له ذلك وتقبل منه وعليه وزر ترك الفرائض ، واللّه تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك انتهى.
ولعل المراد برفع العمل الصالح الكلم الطيب رفع قدره وجعله بحيث يترتب عليه من الثواب ما لم يترتب عليه إذا كان بلا عمل ، وحديث لا يقبل اللّه قولا إلا بعمل ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة المذكور في الكشاف لا أظن صحته ، وقيل : إنه لو سلم صحته فالمراد نفي القبول التام ، ويجوز أن يكون المراد برفعه إياه تحقيقه وتقويته وذلك باعتبار أن الكلام الطيب هو الإيمان فإنه لا شك أن العمل الصالح يثبت الإيمان ويحققه بإظهار آثاره إذ به يعلم التصديق القلبي ، وقيل : الفاعل ضمير يعود على الكلم الطيب وضمير النصب يعود على العمل الصالح أي يرفع الكلم الطيب العمل الصالح.
ونسب أبو حيان هذا القول إلى أبي صالح وشهر بن حوشب ، وأيد بقراءة عيسى وابن أبي عبلة «والعمل الصالح» بالنصب على الاشتغال ، وفيه بحث لعدم تعين ضمير الْكَلِمُ للفاعلية عليها ، ومعنى رفع الكلم الطيب العمل الصالح قيل إن يزيده بهجة وحسنا. ومن فسر الكلم الطيب بالتوحيد قال : معنى ذلك جعله مقبولا فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ، وقيل : الفاعل ضميره تعالى وضمير النصب يعود على العمل ، وأخرج ذلك ابن المبارك عن قتادة أي والعمل الصالح يرفعه اللّه تعالى ويقبله. قال ابن عطية : هذا أرجح الأقوال عندي ، وقيل : ضمير الفاعل يعود على العمل وكذا الضمير المنصوب والكلام على حذف مضاف أي والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه ، ونسب ذلك أبو حيان إلى ابن عباس ثم قال : ويجوز عندي أن يكون الْعَمَلُ معطوفا على الْكَلِمُ ويَرْفَعُهُ استئناف أخبار أي يرفعهما اللّه تعالى ، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة فيكون لفظه مفردا والمراد به التثنية فكأنه قيل : ليس صعودهما من ذاتهما بل ذلك برفع اللّه تعالى إياهما ا ه ، وهو خلاف الظاهر جدا ، ومثله ما نسبه ابن عباس وأنا لا أظن صحة نسبته إليه ، وعلى التسليم يحتمل أنه رضي اللّه تعالى عنه أراد بقوله العمل الصالح يرفع عامله ويشرفه بيان ما تشير إليه الآية في الجملة. والذي يتبادر إلى ذهني من الآية ما روي عن قتادة واختاره ابن عطية ، وتخصيص العمل الصالح برفع اللّه تعالى إياه على ذلك قيل لما فيه من الكلفة والمشقة إذ هو الجهاد الأكبر ، وظاهر هذا أن العمل أشرف من الكلام ولا كلام في ذلك إذا أريد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي كالتصديق ، ولعل الكلام عليه نظير قوله تعالى : وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف : 143] وقوله سبحانه :
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء : 1] وكلام الإمام صريح في أن الكلم الطيب المفسر بالذكر أشرف من العمل حيث جعل صعود الكلم بنفسه دليل ترجيحه على العمل الذي يرفعه غيره ، وقال في وجه ذلك : الكلام شريف فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب ، ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة أمن من عذاب الدارين إن كان ذلك عن صدق وأمن في نفسه ودمه وحرمه في الدنيا إن كان ظاهرا ولا كذلك العمل بالجوارح ، وأيضا أن القلب هو الأصل وما فيه لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يبين صدقه إلا بالفعل فالقول أقرب إلى القلب من الفعل فيكون أشرف منه ، ا ه وفي القلب منه شيء فتدبر.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 349
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي المكرات السيئات أو أصناف المكرات السيئات على أن السَّيِّئاتِ صفة لمحذوف وليس مفعولا به ليمكرون لأن مكر لازم ، وجوز أن يكون مفعولا على تضمين يقصدون أو يكسبون وعلى الأول فيه مبالغة للوعيد الشديد على قصد المكر أو هو إشارة إلى عدم تأثير مكرهم ، والموصول مبتدأ وجملة قوله تعالى لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ خبره أي لهم بسبب مكرهم عذاب شديد لا يقادر قدره ولا يعبأ بالنسبة إليه بما يمكرون.
والآية على ما روي عن أبي العالية في الذين مكروا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في دار الندوة كما قال تعالى : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال : 30] والمضارع لحكاية الحال الماضية ، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم في قوله سبحانه وَمَكْرُ أُولئِكَ للإيذان بكمال تميزهم بما هم عليه من الشر والفساد عن سائر المفسدين واشتهارهم بذلك ، وما فيه من معنى البعد للتنبيه على ترامي أمرهم في الطغيان وبعد منزلتهم في العدوان أي ومكر أولئك المفسدين المشهورين هُوَ يَبُورُ أي يفسد ، وأصل البوار فرط الكساد أو الهلاك فاستعير هنا للفساد عدم التأثير لأن فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد أو لأن الكاسد يكسد في الغالب لفساده ولأن الهالك فاسد لا أثر له. ومَكْرُ مبتدأ خبره جملة هُوَ يَبُورُ وتقديم الضمير للتقوى أو الاختصاص أي مكرهم هو يفسد خاصة لأمكرنا بهم ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء كون الخبر جملة يَبُورُ وهُوَ ضمير فصل. وتعقبه في البحر بأن ضمير الفصل لا يكون ما بعده فعلا ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمنا إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلا. ورد ذلك عليه.
وجوز أبو البقاء أيضا كون هُوَ تأكيدا للمبتدأ ، والظاهر ما قدمناه ، وقد أبار اللّه تعالى أولئك الماكرين بعد إبارة مكرهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه عليه الصلاة والسلام بواحدة منهن وحقق عزّ وجلّ فيهم قوله سبحانه : وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران : 54] وقوله تعالى : وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر : 43] ووجه ارتباط الآية بما قبلها على ما ذكره شيخ الإسلام أنها بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيّء وأهلهما بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح.
وقال في الكشف : كأنه لما حصر سبحانه العزة وخصها به تعالى يعطيها من يشاء وأرشد إلى نيل ما به ينال ذلك المطلوب ذكر على سبيل الاستطراد حال من أراد العزة من عند غيره عزّ وجلّ وأخذ في إهانة من أعزه اللّه تعالى فوق السماكين قدرا وما رجع إليهم من وبال ذلك كالاستشهاد لتلك الدعوى وهو خلاصة ما ذكره الطيبي في وجه الانتظام ، وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب أن الآية في أصحاب الرياء وهي متصلة بما عندها على ما روي عن شهر حيث قال : وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يراؤون وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ هم أصحاب الرياء عملهم لا يصعد ، وقال الطيبي : إن الجملة على هذه الرواية عطف على جملة الشرط والجزاء أعني قوله تعالى : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ إلخ فيجب حينئذ مراعاة التطابق بين القرينتين والتقابل بين الفقرتين بحسب الإمكان بأن يقدر في كل منهما ما يحصل به التقابل بدلالة المذكور في الأولى على المتروك في الأخرى وبالعكس ا ه ولا يخفى بعده ، وأيا ما كان فالمضارع للاستمرار التجددي وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ دليل آخر على صحة البعث والنشور أي خلقكم ابتداء منه في ضمن خلق آدم عليه السّلام خلقا إجماليا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي ثم خلقكم منها خلقا تفصيليا ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ذكرانا وإناثا كما قال سبحانه : أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الشورى : 50] وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي ، وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم بعضا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ حال من الفاعل ومن زائدة أي إلا ملتبسة بعلمه تعالى ومعلومية الفاعل راجعة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 350
إلى معلومية أحواله مفصلة ومنها حال ما حملته الأنثى ووضعته فجعله من ذلك أبلغ معنى وأحسن لفظا من جعله من المفعول أعني المحمول والموضوع لأن المفعول محذوف متروك كما صرح به الزمخشري في حم السجدة ، وجعله حالا من الحمل والوضع أنفسهما خلاف الظاهر وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي من أحد أي وما يمد في عمر أحد وسمي معمرا باعتبار الأول نحو إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف : 36] ومن قتل قتيلا على ما ذكر غير واحد وهذا لئلا يلزم تحصيل الحاصل ، وجوز أن يقال لأن يُعَمَّرُ مضارع فيقتضي أن لا يكون معمرا بعد ولا ضرورة للحمل على الماضي وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ الضمير عائد على معمر آخر نظير ما قال ابن مالك في عندي درهم ونصفه أي نصف درهم اخر ، ولا يضر في ذلك احتمال أن يكون المراد مثل نصفه لأنه مثال وهو استخدام أو شبيه به وإلى ذلك ذهب الفراء وبعض النحويين ولعله الأظهر ، وفسروا المعمر بالمزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله تعالى : وَلا يُنْقَصُ إلخ وهو الذي دعاهم إلى إرجاع الضمير إلى نظير المذكور دون عينه ضرورة أنه لا يكون المزيد في عمره منقوصا من عمره ، وقيل عليه : هب أن مرجع الضمير معمر آخر أليس قد نسب النقص في العمر إلى معمر وقد قلتم إنه المزاد عمره. أجيب بأن الأصل وما يعمر من أحد فسمي معمرا باعتبار ما يؤول إليه وعاد الضمير باعتبار الأصل المحول عنه فمال ذلك ولا ينقص من عمر أحد أي ولا يجعل من ابتداء الأمر ناقصا فهو نظير قولهم ضيق فم الركية ، وقال آخرون :
الضمير عائد على المعمر الأول بعينه والمعمر هو الذي جعل اللّه تعالى له عمرا طال أو قصر ، ولا مانع أن يكون المعمر ومن ينقص من عمره شخصا واحدا والمراد بنقص عمره ما يمر منه وينقضي مثلا يكتب عمره مائة سنة ثم يكتب تحته مضى يوم مضى يومان وهكذا حتى يأتي إلخ وروي هذا عن ابن عباس وابن جبير وأبي مالك وحسان بن عطية والسدي ، وقيل بمعناه :
حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منها انتقصت به جزءا
وقيل الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح كما ورد في الخبر الصدقة تزيد في العمر فيجوز أن يكون أحد معمرا أي مزادا في عمره إذا عمل عملا وينقص من عمره إذا لم يعمله ، وهذا لا يلزم منه تغيير التقدير لأنه في تقديره تعالى معلق أيضا وإن كان ما في علمه تعالى الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو على ما عرف عن السلف ولذا جاز الدعاء بطول العمر.
وقال كعب : لو أن عمر رضي اللّه تعالى عنه دعا اللّه تعالى أخر أجله ، ويعلم من هذا أن قول ابن عطية : هذا قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين كما ذهبت إليه المعتزلة ليس بشيء ، ومن العجيب قول ابن كمال : النظر الدقيق يحكم بصحة أن المعمر أي الذي قدر له عمر طويل يجوز أن يبلغ ذلك العمر وأن لا يبلغ فيزيد عمره على الأول وينقص على الثاني ومع ذلك لا يلزم التغيير في التقدير لأن المقدر في كل شخص هو الأنفاس المعدودة لا الأيام المحدودة والأعوام الممدودة ثم قال : فإنهم هذا السر العجيب وكتب في الهامش حتى ينكشف لك سر اختيار حبس النفس ويتضح وجه صحة
قوله عليه الصلاة والسلام : «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار»
ا ه.
وتعقبه الشهاب الخفاجي بأنه مما لا يعول عليه عاقل ولم يقل به أحد غير بعض جهلة الهنود مع أنه مخالف لما
ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم والنسائي وابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عبد اللّه بن مسعود من قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم لأم حبيبة وقد قالت : اللهم امتعني بزوجي النبي صلّى اللّه عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية ، سألت اللّه تعالى لآجال مضروبة وأيام معدودة الحديث
وأطال الجلبي في رده وهو غني عنه ا ه.
وقال بعضهم : يجوز أن لا يبلغ من قدر له عمر طويل ما قدر له بأن يغير ما قدر أولا بتقدير آخر ولا حجر على

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 351 اللّه تعالى ، ويشير إلى ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث التراويح «خشيت أن تفرض عليكم»
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم في دعاء القنوت «وقنى شر ما قضيت»
وخوفه عليه من اللّه تعالى آلاف آلاف صلاة وسلام من قيام الساعة إذا اشتدت الريح مع إخباره بأن بين يديها خروج المهدي والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما لم يحدث بعد ، وغاية ما يلزم من ذلك تغير المعلوم ولا يلزم منه تغير العلم على ما بين في موضعه وعلى هذا لا إشكال
في خبر «الصدقة تزيد في العمر»
ويتضح أمر فائدة الدعاء ، وما يحكى عن بعضهم من نفي القضاء المبرم يرجع إليه ، وقد رأيت كراسة لبعض الأفاضل أطال الكلام فيها لتشييد هذا القول وتثبيت أركانه ، والحق عندي أن ما في العلم الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر لا يتغير ويجب أن يقع كما علم وإلا يلزم الانقلاب ، وما يتبادر منه خلاف ذلك إذا صح مؤول ، وخبر «الصدقة تزيد في العمر»
قيل إنه خبر آحاد فلا يعارض القطعيات ، وقيل المراد أن الصدقة وكذا غيرها من الطاعات تزيد فيما هو المقصود الأهم من العمر وهو اكتساب الخير والكمال والبركة التي بها تستكمل النفوس الإنسانية فتفوز بالسعادة الأبدية ، والدعاء حكمه حكم سائر الأسباب من الأكل والشرب والتحفظ من شدة الحر والبرد مثلا ففائدته كفائدتها ، وقيل هو لمجرد إظهار الاحتياج والعبودية فليتدبر.
وقيل الضمير المعمر والنقص لغيره أي ولا ينقص من عمر المعمر لغيره بأن يعطي له عمر ناقص من عمره ، وقيل الضمير للمنقوص من عمره وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور كما قيل. وبضدها تتبين الأشياء. فيكون عائدا على ما علم من السياق أي ولا ينقص من عمر المنقوص من عمره بجعله ناقصا.
وقرأ الحسن وابن سيرين وعيسى «ولا ينقص» بالبناء للفاعل وفاعله ضمير المعمر أو عُمُرِهِ ومِنْ زائدة في الفاعل وإن كان متعديا جاز كونه ضمير اللّه تعالى. وقرأ الأعرج مِنْ عُمُرِهِ بسكون الميم إِلَّا فِي كِتابٍ عن ابن عباس هو اللوح المحفوظ ، وجوز أن يراد به صحيفة الإنسان
فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال قال : رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد أذكر أم أنثى فيقول اللّه تعالى ويكتب ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها»
وجوز أيضا أن يراد به علم اللّه عزّ وجلّ ، وذكر في ربط الآيات أن قوله تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ إلخ مساق للدلالة على القدرة الكاملة وقوله سبحانه : وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى [فصلت : 47] إلخ للعلم الشامل وقوله عزّ وجلّ : وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ إلخ لإثبات القضاء والقدر ، والمعنى وما يعمر منكم خطابا لأفراد النوع الإنساني وأيد بذلك الوجه الأول من أوجه وَما يُعَمَّرُ إلخ إِنَّ ذلِكَ أي ما ذكر من الخلق وما بعده مع كونه محارا للعقول والأفهام عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لاستغنائه تعالى عن الأسباب فكذلك البعث والنشور وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ طيب فُراتٌ كاسر العطش ومزيله.
وقال الراغب : الفرات الماء العذب يقال للواحد ، والجمع ، ولعل الصوف على هذا على طرز أسود حالك وأصفر فاقع سائِغٌ شَرابُهُ سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس. وقرأ عيسى «سيغ» كميت بالتشديد ، وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم ، وقرأ عيسى أيضا «سيغ» كميت بالتخفيف وَهذا مِلْحٌ متغير طعمه التغير المعروف ، وقرأ أبو نهيك وطلحة «ملح» بفتح الميم وكسر اللام ، وقال أبو الفتح الرازي : وهي لغة شاذة ، وجوز أن يكون مقصورا من مالح للتخفيف ، وهو مبني على ورود مالح والحق وروده بقلة وليس بلغة رديئة كما قيل.
وفرق الإمام بين الملح والمالح بأن الملح الماء الذي فيه الطعم المعروف من أصل الخلقة كماء البحر والمالح الماء الذي وضع فيه ملح فتغير طعمه ولا يقال فيه إلا مالح ولم أره لغيره ، وقال بعضهم : لم يرد مالح أصلا وهو قول

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 352
ليس بالمليح أُجاجٌ شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار وأجتها ، ومن هنا قيل هو الذي يحرق بملوحته ، وهذا مثل ضرب للمؤمن والكافر ، وقوله تعالى : وَمِنْ كُلٍّ أي من كل واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا أي غضا جديدا وهو السمك على ما روي عن السدي ، وقيل الطير والسمك واختار كثير الأول ، والتعبير عن السمك باللحم مع كونه حيوانا قيل للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل ، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على المسارعة إلى أكله لئلا يتسارع إليه الفساد كما ينبىء عنه جعل كل من البحرين مبدأ أكله.
واستدل مالك والثوري بالآية حيث سمي فيها السمك لحما على حنث من حلف لا يأكل لحما وأكل سمكا ، وقال غيرهما : لا يحنث لأن مبنى الايمان على العرف وهو فيه لا يسمى لحما ولذلك لا يحنث من حلف لا يركب دابة فركب كافرا مع أن اللّه تعالى سماه دابة في قوله سبحانه : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال : 55] ولا يبعد عندي أن يراد بلحما لحم السمك ودعوى التلويح بانحصار الانتفاع بالسمك في الأكل لا أظنها تامة وَتَسْتَخْرِجُونَ ظاهره ومن كل تستخرجون حِلْيَةً تَلْبَسُونَها والحلية التي تستخرج من البحر الملح اللؤلؤ والمرجان ويلبس ذلك الرجال والنساء وإن اختلفت كيفية اللبس ، أو يقال عبر عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم ، ولا نعلم حلية تستخرج من البحر العذب ، ولا يظهر هنا اعتبار إسناد ما للبعض إلى الكل كما اعتبر ذلك في قوله تعالى : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن : 22] وكون بعض الصخور التي في مجاري السيول قد تكسر فيوجد فيها ماس وهو حلية تلبس إن صح لا ينفع اعتباره هنا إذ ليس فيه استخراج الحلية من البحر العذب ظاهرا ، وقيل : لا يبعد أن تكون الحلية المستخرجة من ذلك عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف والخناجر مثلا فتحمل ويتحلى بها ، وفيه ما فيه لا سيما إذا كانت الحلية كالحلي ما يتزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة ، وقال الخفاجي : لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره ، ولا يخفى ما فيه من البعد.
وذهب بعض الأجلة للخلاص من القيل والقال أن المراد وتستخرجون من البحر الملح خاصة حلية تلبسونها ويشعر به كلام السدي يحتمل ثلاثة أوجه ، الأول أنه استطراد في صفة لبحرين وما فيهما من النعم والمنافع.
والثاني أنه تتميم وتكميل للتمثيل لتفضيل المشبه به على المشبه وليس من ترشيح الاستعارة كما زعم الطيبي في شيء بل إنما هو استدراك لدعوى الاشتراك بين المشبه والمشبه به يلزم منه أن يكون المشبه أقوى وهذا الاستدراك مخصوص بالملح ، وإيضاحه أنه شبه المؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل الأجاج على الكافر بأنه قد شارك الفرات في منافع والكافر خلو من النفع فهو على طريقة قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة : 74] ثم قال سبحانه : وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة : 74] والثالث أنه من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض الفوائد تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما لم يبقه على صفاء فطرته كذلك المؤمن والكافر وإن اتفق اتفاقهما في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر فجملة وَمِنْ كُلٍّ إلخ حالية ، وعندي خير الأوجه الثلاثة أوسطها ، وعلى كل يحصل الجواب عما قيل كيف يناسب ذكر منافع البحر الملح وقد شبه به الكافر؟ وقل أبو حيان : إن قوله تعالى : وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إلخ لبيان ما يستدل به كل عاقل على أنه مما لا مدخل لصنم فيه.
وقال الإمام : الأظهر أنه دليل لكمال قدرة اللّه عزّ وجلّ ، وما ذكرنا أولا من أنه تمثيل للمؤمن والكافر هو المشهور رواية ودراية وفيه من محاسن البلاغة ما فيه وَتَرَى الْفُلْكَ السفن فِيهِ أي في كل منهما وانظر هل يحسن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 353
رجوع الضمير للبحر الملح لانسياق الذهن إليه من قوله سبحانه : وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها بناء على أن المعروف استخراجها منه خاصة وأمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب ولذا اقتصر على رؤية الفلك فيه على الحال التي ذكر اللّه تعالى ، وأفرد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لأن الخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط مَواخِرَ شواق للماء يجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة فالمخر الشق.
قال الراغب : يقال مخرت السفينة مخرا ومخورا إذا شقت الماء بجؤجئها ، وفي الكشاف يقال : مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب بتات مخر لأنها تمخر الهواء ، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره ، وقيل المخر صوت جرى الفلك وجاء في سورة : وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ [النحل : 14] بتقديم مَواخِرَ وتأخير فِيهِ وعكس هاهنا فقيل في وجهه لأنه علق فِيهِ هنا بتري وثمت بمواخر ، ولا يحسم مادة السؤال.
والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم : 34 ، النحل : 18] فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه فِيهِ إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك ، وكأن الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية وَلِتَبْتَغُوا بالواو ، ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله سبحانه : لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي من فضل اللّه تعالى بالنقلة فيها وهو سبحانه وإن لم يجر له ذكر في الآية فقد جرى له تعالى ذكر فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه عز شأنه.
واللام متعلقة بمواخر ، وجوز تعلقها بمحذوف دل عليه الأفعال المذكورة كسخر البحرين وهيأهما أو فعل ذلك لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعرفون حقوقه تعالى فتقومون بطاعته عزّ وجلّ وتوحيده سبحانه.
ولعل للتعليل على ما عليه جمع من الأجلة وقد قدمنا ذلك ، وقال كثير : هي للترجي ولما كان محالا عليه تعالى كان المراد اقتضاء ما ذكر من النعم للشكر حتى كأن كل أحد يترجاه من المنعم عليه بها فهو تمثيل يؤول إلى أمره تعالى بالشكر للمخاطبين يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بزيادة أحدهما ونقص الآخر بإضافة بعض أجزاء كل منهما إلى الآخر وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عطف على يُولِجُ واختلافهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حينا فحينا وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه وإنما المتعدد والمتجدد آثاره ، وقد أشير إليه بقوله تعالى : كُلٌّ من الشمس والقمر يَجْرِي أي بحسب حركته على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة أو بحسب حركتيه الخاصة وهي من المغرب إلى المشرق والقسرية التي هي من المشرق إلى المغرب جريانا مستمرا لِأَجَلٍ مُسَمًّى قدره اللّه تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما روي عن الحسن.
وقيل جريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما والأجل المسمى عبارة عن مجموع مدة دورتيهما أو منتهاها وهي للشمس سنة وللقمر شهر وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا ذلِكُمُ إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمة وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذه الصنائع البديعة اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وفيه من الدلالة على أن إبداعه تعالى لتلك البدائع مما يوجب ثبوت تلك الأخبار له تعالى ، وفي الكشاف ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم اللّه تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان ورَبُّكُمْ خبرا لولا أن المعنى يأباه ا ه.
قال في الكشف : فيه نظر لأن الاسم الجليل جار مجرى العلم فلا يجوز أن يقع وصفا لاسم الإشارة البتة لا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 354
لفظا ولا معنى ، وكأنه فرض على تقدير عدم الغلبة ، وأما إباء المعنى على تقدير تجويز الوصف فقد قيل : إن المقصود أنه تعالى المنفرد بالإلهية لا أن المنفرد بالإلهية هو ربكم لأن المشركين ما كانوا معترفين بالمنفرد على الإطلاق ، وأما عطف البيان فقيل لأنه يوهم تخييل الشركة ألا ترى أنك إذا قلت ذلك الرجل سيدك عندي ففيه نوع شركة لأن ذا اسم مبهم ، وكأنه أراد أن البيان حيث يذهب الوهم إلى غيره ويحتمل الشركة مناسب لا في مثل هذا المقام ، وأفاد الطيبي أن ذلك يشار به إلى ما سبق للدلالة على جدارة ما بعده بسبب الأوصاف السابقة ولو كان وصفا أو بيانا لكان المشار إليه ما بعده ، وهذا في الأول حسن دون الثاني اللهم إلا أن يكون قوله : أو عطف بيان إشارة إلى المذهب الذي يجعل الجنس الجاري على المبهم غير وصف فيكون حكمه حكم الوصف إذ ذاك ، وبعد أن تبين أن المقام للإشارة إلى السابق فاسم الإشارة قد يجاء به لأغراض آخر ا ه.
وأبو حيان : منع صحة الوصفية للعلمية ثم قال لا يظهر إباء المعنى ذلك ، ويجوز أن يكون قوله تعالى : لَهُ الْمُلْكُ جملة مبتدأة واقعة في مقابلة قوله تعالى : وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ويكون ذلك مقررا لما قبله من التفرد بالإلهية والربوبية واستدلالا عليه إذ حاصله جميع الملك والتصرف في المبدأ والمنتهى له تعالى وليس لغيره سبحانه منه شيء ، ولذا قيل إن فيه قياسا منطقيا مطويا. وجوز أن يكون مقررا لقوله تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ إلخ وقوله تعالى : يُولِجُ إلخ فجملة الَّذِينَ تَدْعُونَ إلخ عليه إما استئنافية أيضا وهي معطوفة على جملة لَهُ الْمُلْكُ وإما حال من الضمير المستقر في الظرف أعني له ، وعلى الوجه الأول هي معطوفة على جملة ذلِكُمُ اللَّهُ إلخ أو حال أيضا ، والقطمير على ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد لفافة النواة وهي القشر الأبيض الرقيق الذي يكون بين التمر والنواة وهو المعنى المشهور.
أخرج ابن جرير وابن المنذر أنه القمع الذي هو على رأس التمرة ، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القشرة على رأس النواة وهو ما بين القمع والنواة ، وقال الراغب : إنه الأثر على ظهر النواة ، وقيل هو قشر الثوم ، وأيا ما كان فهو مثل للشيء الدنيء الطفيف ، قال الشاعر :
وأبوك يخصف نعله متوركا ما يملك المسكين من قطمير
وقرأ عيسى وسلام ويعقوب يدعون بالياء التحتانية إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ استئناف مقرر لما قبله كاشف عن جلية حال ما يدعونه بأنه جماد ليس من شأنه السماع ، هذا إذا كان الكلام مع عبدة الأصنام ويحتمل أن يكون مع عبدتها وعبدة الملائكة وعيسى وغيرهم من المقربين ، وعدم السماع حينئذ إما لأن المعبود ليس من شأنه ذلك كالأصنام وإما لأنه في شغل شاغل وبعد بعيد عن عابده كعيسى عليه السّلام ، وروي هذا عن البلخي أو لأن اللّه عزّ وجلّ حفظ سمعه من أن يصل إليه مثل هذا الدعاء لغاية قبحه وثقله على سمع من هو في غاية العبودية للّه سبحانه ، فلا يرد أن الملائكة عليهم السّلام يسمعون وهم في السماء كما ورد في بعض الآثار دعاء المؤمنين ربهم سبحانه ، وفي نظم ذي النفوس القدسية في سلك الملائكة عليهم السّلام من حيثية السماع وهم في مقار نعيمهم توقف عندي بل في سماع كل من الملائكة عليهم السّلام وهم في السماء وذوي النفوس القدسية وهم في مقار نعيمهم نداء من ناداهم غير معتقد فيهم الالهية توقف عندي أيضا إذ لم أظفر بدليل سمعي على ذلك والعقل يجوزه لكن لا يكتفي بمجرد تجويزه في القول به.
وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض والتقدير مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لأنهم لم يرزقوا قوة التكلم والسماع لا يستلزم ذلك فالمراد بالاستجابة الاستجابة بالقول ، ويجوز أن يراد بها الاستجابة بالفعل أي ولو سمعوا ما نفعوكم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 355
لعجزهم عن الأفعال بالمرة ، هذا إذا كان المدعون الأصنام وأما إذا كانوا الملائكة عليهم السّلام أو نحوهم من المقربين فعدم الاستجابة القولية لأن دعاءهم من حيث زعم أنهم آلهة وهم بمعزل عن الإلهية فكيف يجيبون زاعم ذلك فيهم وفيه من التهمة ما فيه ، وعدم الاستجابة الفعلية يحتمل أن يكون لهذا أيضا ويحتمل أن يكون لأن نفع من دعاهم ليس من وظائفهم ، وقيل لأنهم يرون ذلك نقصا في العبودية والخضوع للّه عزّ وجلّ.
ويجوز أن يكون هذا تعليلا للأول أيضا فتأمل وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ فضلا عن أن يستجيبوا لكم إذا دعوتموهم ، وشرك مصدر مضاف إلى الفاعل أي ويوم القيامة يجحدون إشراككم إياهم وعبادتكم إياهم وذلك بأن يقدر اللّه تعالى الأصنام على الكلام فيقولون لهم ما كنتم إيانا تعبدون أو يظهر من حالها ظهور نار القرى ليلا على علم ما يدل على ذلك ولسان الحال أفصح من لسان المقال ، ومن هذا القبيل قول ذي الرمة :
وقفت على ربع لمية ناطق يخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
وإن كان المدعوون الملائكة ونحوهم فأمر التكلم ظاهر ، وقد حكى اللّه تعالى قول الملائكة للمشركين في السورة السابقة بقوله سبحانه : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ : 40 ، 41] وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر خبيرا أخبرك به يعني به تعالى نفسه كما روي عن قتادة وغيره فإنه سبحانه الخبير بكنه الأمور ، وهو خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ويجوز أن يكون غير مختص أي لا يخبرك أيها السامع كائنا من كنت مخبر هو مثل الخبير العالم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، والمراد تحقيق ما أخبر سبحانه به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم من الإلهية.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون ذلك من تمام ذكر الأصنام كأنه قيل : ولا يخبرك مخبر مثل من يخبرك عن نفسه وهي قد أخبرت عن أنفسها بأنها ليست بآلهة ، وفيه من البعد ما فيه.
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 إلى 28]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 356
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في أنفسكم وفيما يعن لكم من أمر مهم أو خطب ملم ، وتعريف الْفُقَراءُ للجنس أو للاستغراق إذ لا عهد ، وعرف كذلك للمبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى : وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء : 28] ولا يرد الجن إذ هم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الإنسان وضعفهم ليس كضعفه فلا حاجة إلى إدخالهم في الناس تغليبا على أنه قيل لا يضر ذلك إذ الكلام مع من يظهر القوة والعناد من الناس ، والقول أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا يخفى ما فيه ، وقال صاحب الفرائد : الوجه أن يقال واللّه تعالى أعلم المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائبو أولي العلم على غيرهم ، وهو بعيد جدا.
وقال العلامة الطيبي : الذي يقتضيه النظم الجليل أن يحمل التعريف في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لأن المخاطبين هم الذي خوطبوا في قوله تعالى : ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه عزّ وجلّ ولا يخلو عن حسن وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء لا غيره الْحَمِيدُ المنعم على جميع الموجودات المستحق بإنعامه سبحانه للحمد ، وأصله المحمود وأريد به ذلك على طريق الكناية ليناسب ذكره بعد فقرهم إذ الغني لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما ومثله مستحق للحمد ، وهذا كالتكميل لما قبله كما في قول كعب الغنوي :
حليم إذا ما الحلم زين أهله مع الحلم في عين العدو مهيب
ويدخل في عموم المستغني عنه المخاطبون وعبادتهم ، وفي كلام الطيبي رائحة التخصيص حيث قال ما سمعت نقله وهو سبحانه غني عنكم وعن عبادتكم لأنه تعالى حميد له عباد يحمدونه وإن لم تحمدوه أنتم والأولى التعميم.
وما روي في سبب النزول من أنه لما كثر من النبي صلّى اللّه عليه وسلم الدعاء وكثر الإصرار من الكفار قالوا لعل اللّه تعالى محتاج لعبادتنا فنزلت لا يقتضي شيئا من التخصيص في الآية كما لا يخفى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي إن يشأ سبحانه إذهابكم أيها الناس والإتيان بخلق جديد يذهبكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بعالم غير الناس لا تعرفونه هذا إذا كان الخطاب عاما أو إن يشأ يذهبكم أيها المشركون أو العرب ويأت بخلق جديد ليسوا على صفتكم بل مستمرون على طاعته وتوحيده. وهذا إذا كان الخطاب خاصا ، وتفسير الجديد بما سمعت مروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وأيا ما كان فالجملة تقرير لاستغنائه عزّ وجلّ وَما ذلِكَ أي ما ذكر من إذهابهم والإتيان بخلق جديد عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بصعب فإن أمره تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
وإن كان في الناس تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم وكان الخطاب هنا على ذلك الطرز وقلنا إن الآية تشعر بأن ما يأتي به سبحانه من العالم أبدع أشكل بحسب الظاهر قول حجة الإسلام ليس في الإمكان أبدع مما كان. وأجيب بأن ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية المشعور بها بمعنى والأبدعية في كلام حجة الإسلام بمعنى آخر فتدبر.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي لا تحمل نفس آثمة وِزْرَ أُخْرى أي إثم نفس أخرى بل تحمل كل نفس وزرها.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 357
ولا منافاة بين هذا وقوله تعالى في سورة العنكبوت وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت : 13] فإنه في الضالين المضلين وهم يحملون إثم إضلالهم مع إثم ضلالهم وكل ذلك آثامهم ليس فيها شيء من آثام غيرهم ، ولا ينافيه قوله سبحانه : مَعَ أَثْقالِهِمْ لأن المراد بأثقالهم ما كان بمباشرتهم وبما معها ما كان بسوقهم وتسببهم فهو للمضلين من وجه وللآخرين من آخر وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي نفس أثقلتها الأوزار إِلى حِمْلِها الذي أثقلها ووزرها الذي بهظها ليحمل شيء منه ويخفف عنها ، وقيل : أي إلى حمل حملها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ لم تجب بحمل شيء منه ، والظاهر أن وَلا تَزِرُ إلخ نفي للحمل الاختياري تكرما من نفس الحامل ردا لقول المضلين وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ويؤيده سبب النزول فقد روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وعلي وزركم فنزلت.
وهذا نفي للحمل بعد الطلب من الوازرة أعم من أن يكون اختيارا أو جبرا وإذا لم يجبر أحد على الحمل بعد الطلب والاستعانة علم عدم الجبر بدونه بالطريق الأولى فيعم النفي أقسام الحمل كلها ، وكذا الحامل أعم من أن يكون وازرا أم لا ، وجاء العموم من عدم ذكر المدعو ظاهرا ، وقد يقال مع ذلك : إن في الأولى نفي حمل جميع الوزر بحيث يتعرى منه المحمول عنه ، وفي الثاني نفي التخفيف فلا اتخاذ بين مضموني الجملتين كما لا يخفى ، وقيل في الفرق بينهما : إن الأول نفي الحمل إجبارا والثاني نفي له اختيارا ، وتعقب بأن المناسب على هذا ولا يوزر على وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها أحدا لا يحمل منه شيئا ، وأيضا حق نفي الإجبار أن يتعرض له بعد نفي الاختيار ، وقيل : إن الجملة الأولى كما دلت على أن المثقل بالذنوب لا يحمل أحد من ذنوبه شيئا دلت على عدله تعالى الكامل ، والجملة الثانية دلت على أنه لا مستغاث من هول ذلك اليوم أيضا وهما المقصودان من الآيتين فالفرق باعتبار ذلك ، ولعل ما ذكرناه أولا أولى ، وذكر بعض الأفاضل في الجملة الأولى ثلاثة أسئلة قال في الأخيرين منها : لم أر من تفطن لهما وقد أجاب عن كل ، الأول أن عدم حمل الغير على الغير عام في النفس الآثمة وغير الآثمة فلم خص بالآثمة مع أن التصريح بالعموم أم في العدل وأبلغ في البشارة وأخصر في اللفظ وذلك بأن يقال : ولا تحمل نفس حمل أخرى ، وجوابه أن الكلام في أرباب الأوزار المعذبين لبيان أن عذابهم إنما هو بما اقترفوه من الأوزار لا بما اقترفه غيرهم ، الثاني أن معنى وزر حمل الوزر لا مطلق الحمل على ما في النهاية الأثيرية حيث قال : يقال وزر يزر فهو وازر إذا حمل ما يثقل ظهره من الأشياء المثقلة ومن الذنوب فكيف صح ذكر وزر مع يزر وجوابه أنه من باب التجريد ، الثالث أن وازِرَةٌ يفهم من تزر كما يفهم ضارب من يضرب مثلا فأي فائدة في ذكره؟ وجوابه أنه إذا قيل ضرب ضارب زيدا
فالذي يستفاد من ضرب إنما هو ذات قام بها ضرب حدث من تعلق هذا الفعل بتلك الذات ولما عبر عن شيء بما فيه معنى الوصفية وعلق به معنى مصدري في صيغة فعل أو غيرها فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشيء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه كما حققه بعض أجلة شراح الكشاف فيجب أن يكون معنى ضارب في المثال متصفا بضرب سابق على تعلق ضرب به وكذا يقال في وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وهذه فائدة جليلة ويزيدها جلالة استفادة العموم إذا أورد اسم الفاعل نكرة في حيز نفي ، وبذلك يسقط قول العلامة التفتازاني إن ذكر فاعل الفعل بلفظ اسم فاعله نكرة قليل الجدوى جدا انتهى.
وأنت تعلم أنه من مجموع الجملتين يستفاد ما ذكره في السؤال الأول من العموم ، وفي خصوص هاتين الجملتين وذكرهما معا ما لا يخفى من الفائدة ، وفي القاموس وزره كوعده وزرا بالكسر حمله ، وفي الكشاف وزر الشيء إذا حمله ، ونحوه في البحر ، وعلى ذلك لا حاجة إلى التجريد فلا تغفل ، وأصل الحمل ما كان على الظهر من

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 358
ثقيل فاستعير للمعاني من الذنوب والآثام ، وقرأ أبو السمال عن طلحة وإبراهيم عن الكسائي «لا تحمل» بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الميم وتقتضي هذه القراءة نصب شيء على أنه مفعول به لتحمل وفاعله ضمير عائد على مفعول تدعو المحذوف أي وإن تدع مثقلة نفسا إلى حملها لم تحمل منه شيئا وَلَوْ كانَ أي المدعو المفهوم من الدعوة ذا قُرْبى ذا قرابة من الداعي ، وقال ابن عطية : اسم كان ضمير الداعي أي ولو كان الداعي ذا قرابة من المدعو ، والأول أحسن لأن الداعي هو المثقلة بعينه فيكون الظاهر عود الضمير عليه وتأنيثه.
وقول أبي حيان ذكر الضمير حملا على المعنى لأن قوله تعالى : مُثْقَلَةٌ لا يراد بها مؤنث المعنى فقط بل كل شخص فكأنه قيل وإن يدع شخص مثقل لا يخفي ما فيه. وقرىء ولو كان «ذو قربى» بالرفع ، وخرج على أن كانَ ناقصة أيضا و«ذو قربى» اسمها والخبر محذوف أي ولو كان ذو قربى مدعوا ، وجوز أن تكون تامة. وتعقب بأنه لا يلتئم معها النظم الجليل لأن الجملة الشرطية كالتتميم والمبالغة في أن لا غياث أصلا فيقتضي أن يكون المعنى أن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يجيبها إلى ما دعته إليه ولو كان ذو القربى مدعوا ، ولو قلنا إن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يحمل مدعوها شيئا ولو حضر ذو قربى لم يحسن ذلك الحسن ، وملاحظة كون ذي القربى مدعوا بقرينة السياق أو تقدير فدعته كما فعل أبو حيان خلاف الظاهر فيخفى عليه أمر الانتظام إِنَّما تُنْذِرُ إلخ استئناف مسوق لبيان من يتعظ بما ذكر أي إنما تنذر بهذه الإنذارات ونحوها الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخشونه تعالى غائبين عن عذابه سبحانه أو عن الناس في خلواتهم أو يخشون عذاب ربهم غائبا عنهم فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي راعوها كما ينبغي وجعلوها منارا منصوبا وعلما مرفوعا أي إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والعناد ، ونكتة اختلاف الفعلين تعلم مما مر في قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فتذكر ما في العهد من قدم.
وَمَنْ تَزَكَّى تطهر من أدناس الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذا الإنذارات فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ لاقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها ، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة فهذا تقرير وحث عليهما.
وقرأ العباس عن أبي عمرو «ومن يزكي فإنما يزكي» بالياء من تحت وشد الزاي فيهما وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى فإنما يتزكى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في يذكرون ، وقرأ ابن مسعود وطلحة «ومن أزكى» بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء ، وطلحة أيضا «فإنما تزكى» بإدغام التاء في الزاي وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لا إلى أحد غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ عطف على قوله تعالى : وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ والأعمى والبصير مثلان للكافر والمؤمن كما قال قتادة والسدي وغيرهما.
وقيل : هما مثلان للصنم وللّه عزّ وجلّ فهو من تتمة قوله تعالى : ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ والمعنى لا يستوي اللّه تعالى مع ما عبدتم وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ أي ولا الباطل ولا الحق وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ولا الثواب ولا العقاب ، وقيل : ولا الجنة ولا النار ، والحرور فعول من الحر وأطلق كما حكي عن الفراء على شدة الحر ليلا أو نهارا ، وقال أبو البقاء : هو شدة حر الشمس ، وفي الكشاف الحرور السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار ، وقيل : بالليل وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ تمثيل آخر للمؤمنين الذين دخلوا في الدين بعد البعثة والكافرين الذين أصروا واستكبروا فالتعريف كما قال الطيبي للعهد ، وقيل : للعلماء والجهلاء.
والثعالبي جعل الأعمى والبصير مثلين لهما وليس بذاك إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي يسمعه ويجعله مدركا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 359
للأصوات ، وقال الخفاجي وغيره : ولعل في الآية ما يقتضي أن المراد يسمع من يشاء سماع تدبر وقبول لآياته عزّ وجلّ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام من إيمانهم ، والباء مزيدة للتأكيد أي وما أنت مسمع ، والمراد بالسماع هنا ما أريد به في سابقه ، ولا يأبى إرادة السماع المعروف ما ورد في حديث القليب لأن المراد نفي الأسماع بطريق العادة وما في الحديث من باب وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال : 17] وإلى هذا ذهب البعض ، وقد مر الكلام في ذلك فلا تغفل.
وما ألطف نظم هذه التمثيلات فقد شبه المؤمن والكافر أولا بالبحرين وفضل البحر الأجاج على الكافر لخلوه من النفع ثم بالأعمى والبصير مستتبعا بالظلمات والنور والظل والحرور فلم يكتف بفقدان نور البصر حتى ضم إليه فقدان ما يمده من النور الخارجي وقرن إليه نتيجة ذلك العمى والفقدان فكان فيه ترق من التشبيه الأول إليه ثم بالأحياء والأموات ترقيا ثانيا وأردف قوله سبحانه : وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
وذكر الطيبي أن إخلاء الثاني من لا المؤكدة لأنه كالتمهيد لقوله تعالى : وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ولهذا كرر وَما يَسْتَوِي وأما ذكرها في التمثيلين بعده فلأنهما مقصودان في أنفسهما إذ ما فيهما مثلان للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب دون المؤمن والكافر كما في غيرهما ، وإنما حملت على أنها زائدة للتأكيد إذ ليس المراد أن الظلمات في نفسها لا تستوي بل تتفاوت فمن ظلمة هي أشد من أخرى مثلا وكذا يقال فيما بعد بل المراد أن الظلمات لا تساوي النور والظل لا يساوي الحرور والأحياء لا تساوي الأموات.
وزعم ابن عطية أن دخول لا على نية التكرار كأنه قيل : ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات وهكذا فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الكلام على متروكه ، والقول بأنها مزيدة لتأكيد النفي يغني عن اعتبار هذا الحذف الذي لا فائدة فيه.
وقال الإمام : كررت لا فيما كررت لتأكيد المنافاة فالظلمات تنافي النور وتضاده والظل والحرور كذلك لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد بخلاف الأعمى والبصير فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا. ثم يعرض له العمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف ، وأما الأحياء والأموات فيهما وإن كانا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد قد يكون حيا ثم يعرض له الموت لكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير فإنهما قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت كيف والميت مخالف الحي في الحقيقة على ما تبين في الحكمة الإلهية ، وقيل لم تكرر قيل وكررت بعد لأن المخاطب في أول الكلام لا يقصر في فهم المراد ، وقيل كررت فيما عدا الأخير لأنه لو قيل وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور مثلا لتوهم نفي الاستواء بين مجموع الأعمى والبصير ومجموع الظلمات والنور ، وفي الأخير للإعتناء وإدخال (لا) على المتقابلين لتذكير نفي الاستواء ، وقدم الأعمى على البصير مع أن البصير أشرف لأنه إشارة إلى الكافر وهو موجود قبل البعثة والدعوة إلى الإيمان ، ولنحو هذا قدم الظلمات على النور فإن الباطل كان موجودا فدمغه الحق ببعثته عليه الصلاة والسلام ، ولم يقدم الحرور على الظل ليكون على طرز ما سبق من تقديم غير الأشرف بل قدم الظل رعاية لمناسبته للعمى والظلمة من وجه أو لسبق الرحمة مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.
وقدم الأحياء على الأموات ولم يعكس الأمر ليوافق الأولين في تقديم غير الأشرف لأن الأحياء إشارة إلى المؤمنين بعد الدعوة والأموات إشارة إلى المصرين على الكفر بعدها ولذا قيل بعد إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ إلخ ووجود المصرين بوصف الإصرار بعد وجود المؤمنين ، وقيل قدم ما قدم فيما عدا الأخير لأنه عدم وله مرتبة السبق وفي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 360
الأخير لأن المراد بالأموات. فاقدو الحياة بعد الاتصاف بها كما يشعر به أرداف ذلك بقوله تعالى : وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ فيكون للحياة مع أنها وجودية رتبة السبق أيضا ، وقيل إن تقديم غير الأشرف مع انفهام أنه غير أشرف على الأشرف للإشارة إلى أن التقديم صورة لا يخل بشرف الأشرف :
فالنار يعلوها الدخان وربما يعلو الغبار عمائم الفرسان
وجمع الظلمات مع إفراد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق ، وقيل لأن الظلمة قد تتعدد فتكون في محال قد تخلل بينهما نور والنور في هذا العالم وإن تعدد إلا أنه يتحد وراء محل تعدده ، وجمع الأحياء والأموات على بابه لتعدد المشبه بهما ولم يجمع الأعمى والبصير لذلك لأن القصد إلى الجنس والمفرد أظهر فيه مع أن في البصراء ترك رعاية الفاصلة وهو على الذوق السليم دون البصير ، فتدبر جميع ذلك واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه وهو العليم الخبير.
وقرأ الأشهب والحسن «بمسمع من» بالإضافة إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر فإن كان المنذر ممن أراد اللّه تعالى هدايته سمع واهتدى وإن كان ممن أراد سبحانه ضلاله وطبع على قلبه فما عليك منه تبعة إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي محقين على أنه حال من الفاعل أو محقا على أنه حال من المفعول أو إرسالا مصحوبا بالحق على أنه صفة لمصدر محذوف ، وجوز الزمخشري تعلقه بقوله سبحانه : بَشِيراً ومتعلق قوله تعالى :
وَنَذِيراً محذوف لدلالة المقابل على مقابله أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق.
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي ما من جماعة كثيرة أهل عصر وأمة من الأمم الدارجة في الأزمنة الماضية إِلَّا خَلا مضى فِيها نَذِيرٌ من نبي أو عالم ينذرها ، والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قريبة البشارة لا سيما وقد اقترنا آنفا مع أن الإنذار أنسب بالمقام ، وقيل خص النذير بالذكر لأن البشارة لا تكون إلا بالسمع فهو من خصائص الأنبياء عليهم السّلام فالبشير نبي أو ناقل عنه بخلاف النذارة فإنه تكون سمعا وعقلا فلذا وجه النذير في كل أمة ، وفيه بحث.
واستدل بعض الناس بهذه الآية مع قوله تعالى : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام : 38] على في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرون ، والاستدلال بذلك باطل لا يكاد نفي بطلانه على أحد حتى على البهائم ، ولم نسمع القول بنبوة فرد من البهائم ونحوها إلا عن الشيخ محيي الدين ومن تابعه قدس اللّه سره ، ورأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر والعياذ باللّه تعالى.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم العاتية فلا تحزن من تكذيب هؤلاء إياك.
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ في موضع الحال على ما قال أبو البقاء إما بدون تقدير قد أو بتقديرها أي كذب الذين من قبلهم وقد جاءتهم رسلهم بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الظاهرة الدالة على صدقهم فيما يدعون وَبِالزُّبُرِ كصحف إبراهيم عليه السّلام وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل يعني أن بعضهم جاء بهذا وبعضهم جاء بهذا لا على إرادة الجمع وأن كل رسول جاء بجميع ما ذكر حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب وعدد الرسل أكثر بكثير من عدد الكتب كما هو معروف ، ومال هذا إلى منع الخلو ، ويجوز أن يراد بالزبر والكتاب واحد والعطف لتغاير العنوانين لكن فيه بعد ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا وضع الظاهر موضع ضميرهم لذمهم بما حيز الصلة والأشعار بعلة الأخذ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بالعقوبة ، وفيه مزيد تشديد وتهويل وقد تقدم الكلام في نظير هذا في سبأ فتذكر.
وفي الآية من تسليته صلّى اللّه عليه وسلم ما فيها أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً إلخ استئناف مسوق على ما يخطر

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 361
بالبال لتقرير ما أشعر به قوله تعالى : ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ من عظيم قدرته عزّ وجلّ ، وقال الشيخ الإسلام : هو لتقرير ما قبله من اختلاف الناس ببيان أن الاختلاف والتفاوت أمر مطرد في جميع المخلوقات من النبات والجماد والحيوان.
وقال أبو حيان : تقرير لوحدانيته تعالى بأدلة سماوية وأرضية أثر تقريرها بأمثال ضربها جل شأنه ، وهذا كما ترى ، والاستفهام للتقرير ، والرؤية قلبية لأن إنزال المطر وإن كان مدركا بالبصر لكن إنزال اللّه تعالى إياه ليس كذلك ، والخطاب عام أي ألم تعلم أن اللّه تعالى أنزل من جهة العلو ماء فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء على أنه سبب عادي للإخراج ، وقيل أي أخرجنا عنده ، والالتفات لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي أنواعها من التفاح والرمان والعنب والتين وغيرها مما لا يحصر ، وهذا كما يقال فلان أتى بألوان من الأحاديث وقدم كذا لونا من الطعام ، واختلاف كل نوع بتعدد أصنافه كما في التفاح فإن له أصنافا متغايرة لذة وهيئة وكذا في سائر الثمرات ولا يكاد يوجد نوع منها إلا وهو ذو أصناف متغايرة ، ويجوز أن يراد اختلاف كل نوع باختلاف أفراده.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه حمل الألوان على معناها المعروف واختلافها بالصفرة والحمرة والخضرة وغيرها ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وهو الأوفق لما في قوله تعالى.
وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
وهو إما عطف على ما قبله بحسب المعنى أو حال وكونه استئنافا مع ارتباطه بما قبله غير ظاهر ، وجُدَدٌ جمع جدة بالضم وهي الطريقة من جده إذا قطعه.
وقال أبو الفضل : هي من الطرائق ما يخالف لونه لون ما يليه ومنه جدة الحمار للخط الذي في وسط ظهره يخالف لونه ، وسأل ابن الأزرق ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما عن الجدد فقال طرائق طريقة بيضاء وطريقة خضراء ، وأنشد قول الشاعر :
قد غادر السبع في صفحاتها جددا كأنها طرق لاحت على أكم
والكلام على تقدير مضاف إن لم تقصد المبالغة لأن الجبال ليست نفس الطرائق أي ذو جدد. وقرأ الزهري «جدد» بضمتين جمع جديدة كسفينة وسفن وهي بمعنى جدة. وقال صاحب اللوامح هو جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان. وقال أبو عبيدة : لا مدخل لمعنى الجديدة في هذه الآية. ولعل من يقول بتجدد حدوث الجبال وتكونها من مياه تنبع من الأرض وتتحجر أولا فأولا ثم تنبع من موضع قريب مما تحجر فتتحجر أيضا وهكذا حتى يحصل جبل لا يأبى حمل الآية على هذه القراءة على ما ذكر ، والظاهر من الآيات والأخبار أن الجبال أحدثها اللّه تعالى بعيد خلق الأرض لئلا تميد بسكانها ، والفلاسفة يزعمون أنها كانت طينا في بحار انحسرت ثم تحجرت ، وقد أطال الإمام الكلام على ذلك في كتابه المباحث المشرقية واستدل على ذلك ، بوجود أشياء بحرية كالصدف بين أجزائها ، وهذا عند تدقيق النظر هباء وأكثر الأدلة مثلة ، ومن أراد الاطلاع على ما قالوا فليرجع إلى كتبهم. وروي عنه أيضا أنه قرأ «جدد» بفتحتين ولم يجز ذلك أبو حاتم وقال : إن هذه القراءة لا تصح من حيث المعنى وصححها غيره وقال : الجدد الطريق الواضح المبين إلا أنه وضع المفرد موضع الجمع ولذا وصف بالجمع ، وقيل هو من باب نطفة أمشاج وثوب أخلاق لاشتمال الطريق على قطع.
وتعقب بأنه غير ظاهر ولا مناسب لجمع الجبال مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها أي أصنافها بالشدة والضعف لأنها مقولة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 362
بالتشكيك فمختلف صفة بيض وحمر ، وأَلْوانُها فاعل له وليس بمبتدأ ، ومُخْتَلِفٌ خبره لوجوب مختلفة حينئذ ، وجوز أن يكون صفة جُدَدٌ وَغَرابِيبُ عطف على بِيضٌ فهو من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بها أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر ، وغرابيب والغربيب هو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب ، وكثر في كلامهم اتباعه للأسود على أنه صفة له أو تأكيد لفظي فقالوا أسود غربيب كما قالوا أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قاني.
وظاهر كلام الزمخشري أن غَرابِيبُ هنا تأكيد لمحذوف والأصل وسود غرابيب أي شديدة السواد.
وتعقب بأنه لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ومن النحاة من منع ذلك وهو اختيار ابن مالك لأن التأكيد يقتضي الاعتناء والتقوية وقصد التطويل والحذف يقتضي خلافه. ورده الصفار كما في شرح التسهيل لأن المحذوف لدليل كالمذكور فلا ينافي تأكيده ، وفي بعض شروح المفصل أنه صفة لذلك المحذوف أقيم مقامه بعد حذفه ، وقوله تعالى : سُودٌ بدل منه أو عطف بيان له وهو مفسر للمحذوف ، ونظير ذلك قول النابغة :
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند
وفيه التفسير بعد الإبهام ومزيد الاعتناء بوصف السواد حيث دل عليه من طريق الإضمار والإظهار.
ويجوز أن يكون العطف على جُدَدٌ على معنى ومن الجبال ذو جدد مختلف اللون ومنها غرابيب متحدة اللون كما يؤذن به المقابلة وإخراج التركيب على الأسلوب الذي سمعته ، وكأنه لما اعتنى بأمر السواد بإفادة أنه في غاية الشدة لم يذكر بعده الاختلاف بالشدة والضعف.
وقال الفراء : الكلام على التقديم والتأخير أي سود غرابيب ، وقيل ليس هناك مؤكد ولا موصوف محذوف وإنما غَرابِيبُ معطوف على جُدَدٌ أو على بيض من أول الأمر وسُودٌ بدل منه ، قال في البحر : وهذا حسن ويحسنه كون غربيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيدا ، ومنه ما
جاء في الحديث إن اللّه تعالى يبغض الشيخ الغربيب وهو الذي يخضب بالسواد
، وفسره ابن الأثير بالذي لا يشيب أي لسفاهته أو لعدم اهتمامه بأمر آخرته ، وحكي ما في البحر بصيغة قيل ، وقول الشاعر :
العين طامحة واليد شامخة والرجل لائحة والوجه غربيب
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أي ومنهم بعض مختلف ألوانه أو بعضهم مختلف ألوانه على ما ذكروا في قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة : 8] والجملة عطف على الجملة التي قبلها وحكمها حكمها.
وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الجملتين اسميتين مع مشاركتهما لما قبلهما من الجملة الفعلية في الاستشهاد بمضمونها على تباين الناس في الأحوال الباطنة لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار وأما إخراج الثمرات المختلفة فحيث كان أمرا حادثا عبر عنه بما يدل على الحدوث ثم لما كان فيه نوع خفاء علق به الرؤية بطريق الاستفهام التقريري المنبئ عن الحمل عليها والترغيب فيها بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما فإنها مشاهدة غنية عن التأمل فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية فتدبر ا ه ، وما ذكره من أمر تعليق الرؤية مخالف لما في البحر حيث قال : وهذا استفهام تقرير ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدا فتأمل.
وقرأ الزهري «والدواب» بتخفيف الباء مبالغة في الهرب من التقاء الساكنين كما همز بعضهم وَلَا الضَّالِّينَ لذلك.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 363
وقرأ ابن السميفع «ألوانها» وقوله تعالى : كَذلِكَ في محل نصب صفة لمصدر مختلف المؤكد والتقدير مختلف اختلافا كائنا كذلك أي كاختلاف الثمرات والجبال فهو من تمام الكلام قبله والوقف عليه حسن بإجماع أهل الأداء وقوله سبحانه : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ تكملة لقوله تعالى : إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر : 18] بتعيين من يخشاه عزّ وجلّ من الناس بعد الإيماء إلى بيان شرف الخشية ورداءة ضدها وتوعد المتصفين به وتقرير قدرته عزّ وجلّ المستدعي للخشية على ما نقول أو بعد بيان اختلاف طبقات الناس وتباين مراتبهم أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان ، وقيل كَذلِكَ في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أي كما بين ولخص ثم قيل : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ إلخ وسلك به مسلك الكناية من باب العرب لا تخفر الذمم دلالة على أن العلم يقتضي لخشية ويناسبها وهو تخلص إلى ذكر أوليائه تعالى مع إفادة أنهم الذين نفع فيهم الإنذار وأن لك بهم غنية عن هؤلاء المصرين ، قال صاحب الكشف : والرفع أظهر ليكون من فصل الخطاب.
وقال ابن عطية يحتمل أن يكون كَذلِكَ متعلقا بما بعده خارجا مخرج السبب أي كذلك الاعتبار والنظر في مخلوقات اللّه تعالى واختلاف ألوانها يخشى اللّه العلماء ، ورده السمين بأن إنما لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وبأن الوقف على كذلك عند أهل الأداء جميعا ، وارتضاه الخفاجي وقال : وبه ظهر ضعف ما قيل : إن المعنى الأمر كذلك أي كما بين ولخص على أنه تخلص لذكر أولياء اللّه تعالى ، وفيه أنه ليس في هذا المعنى عمل ما بعد إنما فيما قبلها وإجماع أهل الأداء على الوقف على كَذلِكَ إن سلم لا يظهر به ضعف ذلك ، وفي بعض التفاسير المأثورة عن السلف ما يشعر بتعلق كَذلِكَ بما بعده.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية كما اختلفت هذه الأنعام تختلف الناس في خشية اللّه تعالى كذلك وهذا عندي ضعيف والأظهر ما عليه الجمهور وما قيل أدق وألطف ، والمراد بالعلماء العالمون باللّه عزّ وجلّ وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الحميدة وسائر شؤونه الجميلة لا العارفون بالنحو والصرف مثلا فمدار الخشية ذلك العلم لا هذه المعرفة فكل من كان أعلم به تعالى كان أخشى.
روى الدارمي عن عطاء قال : قال موسى عليه السّلام يا رب أي عبادك أحكم؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال : يا رب أي عبادك أغنى؟ قال : أرضاهم بما قسمت له قال : يا رب أي عبادك أخشى؟ قال : أعلمهم بي وصح عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «أنا أخشاكم للّه وأتقاكم له»
ولكونه المدار ذكرت الخشية بعد ما يدل على كمال القدرة ، ولهذه المناسبة فسر ابن عباس كما أخرج عنه ابن المنذر وابن جرير الْعُلَماءُ في الآية بالذين يعلمون أن اللّه تعالى على كل شيء قدير ، وتقديم المفعول لأن المقصود بيان الخاشين والإخبار بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم ولو أخر لكان المقصود بيان المخشي والإخبار بأنه اللّه تعالى دون غيره كما في قوله تعالى : وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب : 39] والمقام لا يقتضيه بل يقتضي الأول ليكون تعريضا بالمنذرين المصرين على الكفر والعناد وأنهم جهلاء باللّه تعالى وبصفاته ولذلك لا يخشون اللّه تعالى ولا يخافون عقابه.
وأنكر بعضهم إفادة إِنَّما هنا للحصر وليس بشيء ، وروي عن عمر بن عبد العزيز. وأبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنهما أنهما قرءا «إنما يخشى اللّه» بالرفع «العلماء» بالنصب وطعن صاحب النشر في هذه القراءة ، وقال أبو حيان :
لعلها لا تصح عنهما ، وقد رأينا كتبا في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة وإنما ذكرها الزمخشري وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة في كتابه الكامل وخرجت على أن الخشية مجاز عن التعظيم بعلاقة اللزوم فإن المعظم يكون مهيبا ، وقيل الخشية ترد بمعنى الاختيار كقوله :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 364
خشيت بني عمي فلم أر مثلهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية لأن العزة دالة على كمال القدرة على الانتقام ولا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة ، وقيل ذكر غَفُورٌ من باب التكميل نظير ما في بيت الغنوي المذكور آنفا.
والآية على ما في بعض الآثار نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه.
[سورة فاطر (35) : الآيات 29 إلى 45]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33)
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 365
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على قراءته حتى صارت سمة لهم وعنوانا كما يشعر به صيغة المضارع ووقوعه صلة واختلاف الفعلين والمراد بكتاب اللّه القرآن فقد قال مطرف بن عبد اللّه بن الشخير : هذه آية القراء.
وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أنها نزلت في حصين بن الحارث بن عبد المطلب القرشي ، ثم إن العبرة بعموم اللفظ فلذا قال السدي في التالين : هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقال عطاء : هم المؤمنون أي عامة وهو الأرجح ويدخل الأصحاب دخولا أوليا ، وقيل معنى يتلون كتاب اللّه يتبعونه فيعملون بما فيه ، وكأنه جعل يتلو من تلاه إذا تبعه أو حمل التلاوة المعروفة على العمل لأنها ليس فيها كثير نفع دونه ، وقد ورد : «رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه»
ويشعر كلام بعضهم باختيار المعنى المتبادر حيث قال : إنه تعالى لما ذكر الخشية وهي عمل القلب ذكر بعدها علم اللسان والجوارح والعبادة المالية ، وجوز أن يراد بكتاب اللّه تعالى جنس كتبه عزّ وجلّ الصادق على التوراة والإنجيل وغيرهما فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين بقوله تعالى : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ إلخ والمضارع لحكاية الحال الماضية ، والمقصود من الثناء عليهم وبيان ما لهم حث هذه الأمة على اتباعهم وأن يفعلوا نحو ما فعلوا ، والوجه الأول أوجه كما لا يخفى وعليه الجمهور.
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً أي مسرين ومعلنين أو في سر وعلانية ، والمراد ينفقون كيفما اتفق من غير قصد إليهما ، وقيل السر في الإنفاق المسنون والعلانية في الإنفاق المفروض ، وفي كون الإنفاق مما رزقوا إشارة إلى أنهم لم يسرفوا ولم يبسطوا أيديهم كل البسط ، ومقام التمدح مشعر بأنهم تحروا الحلال الطيب ، وقيل جيء بمن لذلك ، والمعتزلة يخصون الرزق بالحلال وهو أنسب بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ، ومن لا يخصه بالحلال يقول هو التعظيم والحث على الإنفاق يَرْجُونَ بما آتوا من الطاعات تِجارَةً أي معاملة مع اللّه تعالى لنيل ربح الثواب على أن التجارة مجاز عما ذكر والقرينة حالية كما قال بعض الأجلة ، وقوله تعالى : لَنْ تَبُورَ أي لن تكسد ، وقيل لن تهلك بالخسران صفة تجارة وترشيح للمجاز ، وجملة يَرْجُونَ إلخ على ما قال الفراء وأبو البقاء خبر إن ، وفي إخباره تعالى عنهم بذلك إشارة إلى أنهم لا يقطعون بنفاق تجارتهم بل يأتون ما آتوا من الطاعات وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم ، وجعل بعضهم التجارة مجازا عن تحصيل الثواب بالطاعة وأمر الترشيح على حاله وإليه ذهب أبو السعود ثم قال : والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول مرجوهم.
وظاهر ما روي عن قتادة من تفسيره التجارة بالجنة أنها مجاز عن الربح وفسر لَنْ تَبُورَ بلن تبيد وهو كما ترى ، وقوله تعالى : لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ متعلق عند بعض بما دل عليه لن تعلق بِنِعْمَةِ رَبِّكَ في قوله تعالى : ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم : 2] بما دل عليه - ما - لا بالحرف إذ لا يتعلق الجار به على المشهور أي ينتفي الكساد عنها وتنفق عند اللّه تعالى ليوفيهم أجور أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ذلك من خزائن رحمته ما يشاء وعن أبي وائل زيادته تعالى إياهم بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم.
وقال الضحاك : بتفسيح القلوب ، وفي الحديث بتضعيف حسناتهم ، وقيل بالنظر إلى وجهه تعالى الكريم.
والظاهر أن مِنْ فَضْلِهِ راجع لما عنده ففيه إشارة إلى أن توفية أجورهم كالواجب لكونه جزاء لهم بوعده

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 366
سبحانه ويجوز أن يكون راجعا إليهما أو متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وهو ما عد من أفعالهم المرضية أي فعلوا ذلك ليوفيهم أجورهم إلخ ، وجوز تعلقه بما قبله على التنازع وصنيع أبي البقاء يشعر باختيار تعلقه بيرجون وجعل اللام عليه لام الصيرورة. ويعقب بأنه لا مانع من جعلها لام العلة كما هو الشائع الكثير ولا يظهر للعدول عنه وجه.
ووجه ذلك الطيبي بأن غرضهم فيما فعلوا لم يكن سوى تجارة غير كاسدة لأن صلة الموصول هنا علة وإيذان بتحقق الخبر ولما أدى ذلك إلى أن وفاهم اللّه تعالى أجورهم أتى باللام ، وإنما لم يذهب إليه بعض الأجلة كالزمخشري لأن هذه اللام لا توجد إلا فيما يترتب الثاني الذي هو مدخولها على الأول ولا يكون مطلوبا نحو تعالى : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص : 8] وقوله تعالى : إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ تعليل لما قبله من التوفية والزيادة عند الكثير أي غفور لفرطات المطيعين شكور لطاعاتهم أي مجازيهم عليها أكمل الجزاء فيوفي هؤلاء أجورهم ويزيدهم من فضله ، وجوز أن يكون خبرا بعد خبر والعائد محذوف أي لهم ، وجوز أن يكون هو الخبر بتقدير العائد وجملة يَرْجُونَ حال من ضمير أَنْفَقُوا بناء على أن القيد المتعقب لأمور متعددة يختص بالأخير كما هو مذهب أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أو على أن رجاء التجارة النافقة أوفق بالإنفاق أو من مقدر أي فعلوا جميع ذلك راجين.
واستظهره الطيبي ، والجملة عليه معترضة فلا يرد أن فيه الفصل بين المبتدأ وخبره بأجنبي ، وجوز أن يكون حالا من ضمير الَّذِينَ على سبيل التنازع ، ولم يشتهر التنازع في الحال وأنا لا أرى فيه بأسا ، واستظهر بعض المعاصرين جعل الجملة المذكورة حالا من ضمير أَنْفَقُوا لقربه وشدة الملاءمة بين الإنفاق ورجاء تجارة لها نفاق ولا يبعد أن يكون قد حذف فيما تقدم نظيرها لدلالتها عليه وجعل لِيُوَفِّيَهُمْ متنازعا فيه للأفعال الثلاثة المتعاطفة أو جعل الجملة حالا من مقدر كما سمعت آنفا ولِيُوَفِّيَهُمْ متعلقا بيرجون وجملة إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ خير المبتدأ والربط محذوف وفي جملة يَرْجُونَ إلخ احتمال الاستعارة التمثيلية ولو على بعد ولم أر من أشار إليه فتدبر.
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وهو القرآن ، ومِنَ للتبيين إذ القرآن أخص من الذي أوحينا مفهوما وإن اتحدا ذاتا أو جنس الكتاب ومن للتبعيض إذ المراد من الَّذِي أَوْحَيْنا هو القرآن وهو بعض جنس الكتاب ، وقيل هو اللوح ومن للابتداء هُوَ الْحَقُّ إذا كان المراد الحصر فهو من قصر المسند إليه على المسند لا العكس لعدم استقامة المعنى إلا أن يقصد المبالغة قاله الخفاجي والمتبادر الشائع في أمثاله قصر المسند على المسند إليه وهو هاهنا إن لم تقصد المبالغة قصر إضافي بالنسبة إلى ما يفتريه أهل الكتاب وينسبونه إلى اللّه تعالى.
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما تقدمه من الكتب السماوية ونصب مُصَدِّقاً على الحالية والعامل فيه مقدر يفهم من مضمون الجملة قبله أي أحققه مصدقا وهو حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته الكتب الإلهية المتقدمة عليه بالزمان في العقائد وأصول الأحكام ، واللام للتقوية إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ محيط ببواطن أمورهم وظواهرها فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب ، وتقديم «الخبير» للتنبيه على أن العمدة هي الأمور الروحانية ، وإلى ذلك أشار صلّى اللّه عليه وسلم
بقوله : «إن اللّه لا ينظر إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم»
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي القرآن كما عليه الجمهور ، والعطف قيل على الَّذِي أَوْحَيْنا وقيل على أَوْحَيْنا بإقامة الظاهر مقام الضمير العائد على الموصول ، واستظهر ذلك بالقرب وتوافق الجملتين أي ثم أعطيناه من غير كد وتعب في طلبه الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وهم كما قال ابن عباس وغيره أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم فإن اللّه تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس وخصهم بالانتماء

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 367
إلى أكرم رسله وأفضلهم عليهم الصلاة والسلام ، وثُمَّ للتراخي الرتبي فإن إيحاء الكتاب إليه صلّى اللّه عليه وسلم أشرف من الإيراث المذكور كأنه كالعلة له وبه تحققت نبوته عليه الصلاة والسلام التي هي منبع كل خير وليست للتراخي الزماني إذ زمان إيحائه إليه عليه الصلاة والسلام هو زمان إيراثه ، وإعطائه أمته بمعنى تخصيصه بهم وجعله كتابهم الذي إليه يرجعون وبالعمل بما فيه ينتفعون ، وإذا أريد بإيراثه إياهم إيراثه منه صلّى اللّه عليه وسلم وجعلهم منتفعين به فاهمين ما فيه بالذات كالعلماء أو بالواسطة كغيرهم بعده عليه الصلاة والسلام فهي للتراخي الزماني ، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه ، وجوز أن يكون معنى أَوْرَثْنَا الْكِتابَ حكمنا بإيراثه وقدرناه على أنه مجاز من إطلاق السبب على المسبب فتكون ثم للتراخي الرتبي وإلا فزمان الحكم سابق على زمان الإيحاء.
ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر. وفي شرح الرضي أن ثم قد تجيء في عطف الجمل خاصة لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له كما في قوله تعالى : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود :
3 ، 90] فإن بين توبة العباد وهي انقطاع العبد إليه تعالى بالكلية وبين طلب لمغفرة بونا بعيدا وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه ا ه.
وابن الشيخ جعل ما هنا كما في هذه الآية ، وجوز أن يكون ثُمَّ أَوْرَثْنَا إلخ متصلا بما سبق من قوله تعالى :
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة : 119] وإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر : 24] والمراد ثم أورثنا الكتاب من الأمم السالفة وأعطيناه بعدهم الذين اصطفيناهم من الأمة المحمدية ، والكتاب القرآن كما قيل :
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء : 196] وقيل لا يحتاج إلى اعتبار ذلك ويجعل المعنى ثم أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة ، ووجه النظم أنه تعالى قدم إرساله في كل أمة رسولا وعقبه بما ينبىء أن تلك الأمم تفرقت حزبين حزب كذبوا الرسل وما أنزل معهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فاطر : 25] وحزب صدقوهم وتلوا كتاب اللّه تعالى وعملوا بمقتضاه وهم المشار إليهم بقوله سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إلخ وبعد أن أثنى سبحانه على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم جاء بما يختص برسوله صلّى اللّه عليه وسلم من قوله سبحانه : وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ إلخ استطرادا معترضا ثم أخبر سبحانه بإيراثه هذا الكتاب الكريم هذه الأمة بعد إعطاء تلك الأمم الزبر والكتاب المنير ، وعلى هذا يكون المعنى في أَوْرَثْنَا على ظاهره ، وثم للتراخي في الأخبار أو للتراخي في الرتبة إيذانا بفضل هذا الكتاب على سائر الكتب وفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وفي هذا الوجه حمل الكتاب في قوله سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ على الجنس وجعل الآية ثناء على الأمم المصدقين بعد اقتصاص حال المكذبين منهم ، فإن دفع ما فيه فهو من الحسن بمكان.
وجوز أن يكون عطفا على إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وإذا كان إيراث الكتاب سابقا على تلاوته فالمعنى على ظاهره وثم للتفاوت الرتبي أو للتراخي في الأخبار وَالَّذِي أَوْحَيْنا إلخ اعتراض لبيان كيفية الإيراث لأنه إذا صدقها بمطابقته لها في العقائد والأصول كان كأنه هي وكأنه انتقل إليهم ممن سلف ، وهو كما ترى ، وجوز على هذا وما قبله أن يراد بالكتاب الجنس ، ولا يخفى أن إرادة القرآن هو الظاهر ، وقيل المراد بالمصطفين علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ممن يسير بسيرتهم وإيراثهم القرآن جعلهم فاهمين معناه واقفين على حقائقه ودقائقه أمناء على أسراره.
وروى الإمامية عن الصادق والباقر رضي اللّه تعالى عنهما أنهما قالا : هي لنا خاصة وإيانا عنى أرادا أن أهل البيت أو الأئمة منهم هم المصطفون الذين أورثوا الكتاب
، واختار هذا الطبرسي الإمامي قال في تفسيره مجمع البيان : وهذا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 368
أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء وإيراث علم الأنبياء عليهم السّلام.
وربما يستأنس له
بقوله عليه الصلاة والسلام : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه تعالى وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض»
وحملهم على علماء الأمة أولى من هذا التخصيص ويدخل فيهم علماء أهل البيت دخولا أوليا ففي بيتهم نزل الكتاب ولن يفترقا حتى يردا الحوض يوم الحساب ، وإذا كانت الإضافة في عِبادِنا للتشريف واختص العباد بمؤمني هذه الأمة وكانت من للتبعيض كأن حمل المصطفين على العلماء كالمتعين ، وعن الجبائي أنهم الأنبياء عليهم السّلام اختارهم اللّه تعالى وحباهم رسالته وكتبه ، وعليه يكون تعريف الكتاب للجنس والعطف على قوله تعالى : وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ وثم للتراخي في الأخبار ، أخبر سبحانه أولا عما أوتيه نبينا صلّى اللّه عليه وسلم وهو متضمن للأخبار بإيتائه عليه الصلاة والسّلام الكتاب على أكمل وجه ثم أخبر سبحانه بتوريث إخوانه الأنبياء عليهم السّلام وإيتائهم الكتب ، ومما يرد عليه أن إيتاء الأنبياء عليهم السّلام الكتب قد علم قبل من قوله تعالى : فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فاطر : 25].
وعن أبي مسلم أنهم المصطفون المذكورون في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آل عمران : 33] وهو دون ما قبله ، وأيا ما كان فالموصول مفعول أول لأورثنا ، والْكِتابَ مفعول ثان له قدم لشرفه والاعتناء به وعدم اللبس ، ومن للبيان أو للتبعيض فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الفاء للتفصيل لا للتعليل كما قيل ، وضمير الجمع على ما سمعت أولا في تفسير الموصول للموصول ، والظالم لنفسه من قصر في العمل بالكتاب وأسرف على نفسه وهو صادق على من ظلم غيره لأنه بذلك ظالم لنفسه والمشهور مقابلته بالظالم لغيره ، واللام للتقوية.
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يتردد بين العمل به ومخالفته فيعمل تارة ويخالف أخرى ، وأصل معنى الاقتصاد التوسط في الأمر وَمِنْهُمْ سابِقٌ متقدم إلى ثواب اللّه تعالى وجنته بِالْخَيْراتِ أي بسبب الخيرات أي الأعمال الصالحة ، وقيل : سابق على الظالم لنفسه والمقتصد في الدرجات بسبب الخيرات ، وقيل : أي محرز الفضل بسببها بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتيسيره تعالى وتوفيقه عزّ وجلّ ، وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها ، وفسر بمن غلبت طاعته معاصيه وكثر عمله بكتاب اللّه تعالى ، وما ذكر في تفسير الثلاثة مما يشير إليه كلام الحسن فقد روي عنه أنه قال :
الظالم من خفت حسناته والمقتصد من استوت والسابق من رجحت ، ووراء ذلك أقوال كثيرة فقال معاذ : الظالم لنفسه الذي مات على كبيرة لم يتب منها والمقتصد من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها والسابق من مات تائبا من كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك ، وقيل الظالم لنفسه العاصي المسرف والمقتصد متقي الكبائر والسابق المتقي على الإطلاق ، وقيل الأول المقصر في العمل والثاني العامل بالكتاب في أغلب الأوقات ولم يخل عن تخليط والثالث السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
وقيل الأولان كما ذكر والثالث المداوم على إقامة مواجب الكتاب علما وعملا وتعليما ، وقيل : الأول من أسلم بعد الفتح والثاني من أسلم قبله والثالث من أسلم قبل الهجرة ، وقيل : هم من لا يبالي من أين ينال ومن قوته من الحلال ومن يكتفي من الدنيا بالبلاغ ، وقيل : من همه الدنيا ومن همه العقبى ومن همه المولى ، وقيل : طالب النجاة وطالب الدرجات وطالب المناجاة ، وقيل : تارك الزلة وتارك الغفلة وتارك العلاقة ، وقيل : من شغله معاشه عن معاده ومن شغله بهما ومن شغله معاده عن معاشه وقيل : من يأتي بالفرائض خوفا من البار ومن يأتي بها خوفا منها ورضا واحتسابا ومن يأتي بها رضا واحتسابا فقط ، وقيل : الغافل عن الوقت والجماعة والمحافظ على الوقت دون الجماعة والمحافظ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 369
عليهما ، وقيل : من غلبت شهوته عقله ومن تساويا ومن غلب عقله شهوته ، وقيل : من لا ينهى عن المنكر ويأتيه ومن ينهى عن المنكر ويأتيه ومن يأمر بالمعروف ويأتيه ، وقيل : ذو الجور وذو العدل وذو الفضل ، وقيل : ساكن البادية والحاضرة والمجاهد ، وقيل : من كان ظاهره خيرا من باطنه ومن استوى باطنه وظاهره ومن باطنه خير من ظاهره.
وقيل : التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه والتالي العالم غير العامل والتالي العالم العامل ، وقيل :
الجاهل والمتعلم والعالم ، وقيل : من خالف الأوامر وارتكب المناهي ومن اجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك ومن لم يخالف تكاليف اللّه تعالى.
وروى بعض الإمامية عن ميسر بن عبد العزيز عن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام والمقتصد العارف بحق الإمام والسابق هو الإمام
، وعن زياد بن المنذر عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه الظالم لنفسه منا من علم صالحا وآخر سيئا والمقتصد المتعبد المجتهد والسابق بالخيرات علي والحسن والحسين رضي اللّه تعالى عنهم ومن قتل من آل محمد شهيدا
، وقيل : هم الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه والموحد الذي يمنع جوارحه بالتكليف والموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد ، وقيل : من يدخل الجنة بالشفاعة ومن يدخلها بفضل اللّه تعالى ومن يدخلها بغير حساب ، وقيل : من أوتي كتابه من وراء ظهره ومن أوتي كتابه بشماله ومن أوتي كتابه بيمينه ، وقيل : الكافر مطلقا والفاسق والمؤمن التقي ، وفي معناه ما جاء في رواية عن ابن عباس وقتادة وعكرمة الظالم لنفسه أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق بالخيرات السابقون المقربون ، والظاهر أن هؤلاء ومن قال نحو قولهم يجعلون ضمير مِنْهُمْ للعباد لا للموصول ولا شك أن منهم الكافر وغيره وكون العباد المضاف إلى اللّه تعالى مخصوصا بالمؤمنين ليس بمطرد وإنما يكون كذلك إذا قصد بالإضافة التشريف ، والقول برجوع الضمير للموصول والتزام كون الاصطفاء بحسب الفطرة تعسف كما لا يخفى ، وقيل : في تفسير الثلاثة غير ما ذكر ، وذكر في التحرير ثلاثة وأربعين قولا في ذلك ، ومن تتبع التفاسير وجدها أكثر من ذلك لكن لا يجد في أكثرها كثير تفاوت ، والذي يعضده معظم الروايات والآثار أن الأصناف الثلاثة من أهل الجنة فلا ينبغي أن يلتفت إلى تفسير الظالم بالكافر إلا بتأويل كافر النعمة وإرادة العاصي منه.
أخرج الإمام أحمد والطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ - إلى - بِالْخَيْراتِ هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة
،
وقوله عليه الصلاة والسّلام وكلهم إلخ عطف تفسيري.
وأخرج الطبراني وابن مردويه في البعث عن أسامة بن زيد أنه قال في الآية : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة»
وأخرج ابن النجار عن أنس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» وأخرج العقيلي وابن مردويه والبيهقي عن عمر بن الخطاب مرفوعا نحوه.
وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي الدرداء قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول قال اللّه تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم اللّه تعالى برحمته فهم الذين يقولون الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور»
الآية قال البيهقي : إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلا ، والأخبار في هذا الباب كثيرة وفيما

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 370
ذكر كفاية ، وقدم الظالم لنفسه لكثرة الظالمين لأنفسهم وعقب بالمقتصد لقلة المقتصدين بالنسبة إليهم وأخر السابق لأن السابقين أقل من القليل قاله الزمخشري ، وحكى الطبرسي أن هذا الترتيب على مقامات الناس فإن أحوال العباد ثلاث معصية ثم توبة ثم قربة فإذا عصى العبد فهو ظالم فإذا تاب فهو مقتصد فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته فهو سابق ، وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة اللّه تعالى وأخر السابق لئلا يعجب بعمله فتعين توسيط المقتصد ، وقال قطب الدين : النكتة في تقديم الظالم أنه أقرب الثلاثة إلى بداية حال العبد قبل اصطفائه بإيراث الكتاب فإذا باشره الاصطفاء فمن العباد من يتأثر قليلا وهو الظالم لنفسه ومنهم من يتأثر تأثرا وسطا وهو المقتصد ومنهم من يتأثر تأثرا تاما وهو السابق ، وقريب منه ما قيل : إن الاصطفاء مشكك تتفاوت مراتبه وأولها ما يكون للمؤمن الظالم لنفسه وفوقه ما يكون للمقتصد وفوق الفوق ما يكون للسابق بالخيرات فجاء الترتيب كالترقي في المراتب ، وقيل : أخر السابق لتعدد ما يتعلق به فلو قدم أو وسط لبعد في الجملة ما بين الأقسام المتعاطفة ولما كان الاقتصاد كالنسبة بين الظلم والسبق اقتضى ذلك تقديم الظالم وتأخير المقتصد ليكون المقتصد بين الظالم والسابق لفظا كما هو بينهما معنى ، وقد يقال :
رتب هذه الثلاثة هذا الترتيب ليوافق حالهم في الذكر بالنسبة إلى ما وعدوا به من الجنات في قوله سبحانه جَنَّاتُ عَدْنٍ الآية حالهم في الحشر عند تحقق الوعد فأخر السابق الداخل في الجنان أولا ليتصل ذكره بذكر الجنات الموعود بها وذكر قبله المقتصد وجعل السابق فاصلا بينه وبين الجنات لأنه إنما يدخلها بعده فيكون فاصلا بينه وبينها في الدخول وذكر قبلهما الظالم لنفسه لأنه إنما يدخلها ويتصل بها بعد دخولهما فتأخير السابق في المعنى تقديم وتقديم الظالم في المعنى تأخير ، ويحتمل ذلك أوجها أخرى تظهر بالتأمل فتأمل ، وقرأ أبو عمران الجوني وعمر بن أبي شجاع ويعقوب في رواية والقزاز عن أبي عمرو «سباق» بصيغة المبالغة ذلِكَ أي ما تقدم من الإيراث والاصطفاء هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ من اللّه عزّ وجلّ لا دخل للكسب فيه جَنَّاتُ عَدْنٍ مبتدأ خبره قوله تعالى : يَدْخُلُونَها ويؤيده قراءة الجحدري وهارون عن عاصم «جنات» بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها واحتمال جره بدلا من الخيرات بعيد وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه بأجنبي فلا يلتفت إليه.
وضمير الجمع للذين اصطفينا أو للثلاثة. وقال الزمخشري : ذلك إشارة إلى السبق بالخيرات وجَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من الفضل الذي هو السبق ولما كان السبق بالخيرات سببا لنيل الثواب جعل نفس الثواب إقامة للسبب مقام المسبب ثم أبدل منه وضمير الجمع للسابق لأن القصد إلى الجنس ، فخص الوعد بالقسم الأخير مراعاة لمذهب الاعتزال وهو على ما سمعت للأقسام الثلاثة وذلك هو الأظهر في النظم الجليل ليطابقه قوله تعالى بعد وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ وليناسب حديث التعظيم والاختصاص المدمج في قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ وإلا فأي تعظيم في ذلك الذكر بعد أن لز أكثر المصطفين في قرن الكافرين وليناسب ذكر الغفور بعد حال الظالم والمقتصد والشكور حال السابق ولتعسف ما ذكره من الاعراب وبعده عن الذوق وكيف لا يكون الأظهر وقد فسره كذلك أفضل الرسل ومن أنزل عليه هذا الكتاب المبين على ما مر آنفا وإليه ذهب الكثير من أصحابه الفخام ونجوم الهداية بين الأنام رضي اللّه تعالى عنهم وعد منهم في البحر عمر وعثمان وابن مسعود وأبا الدرداء وأبا سعيد وعائشة رضي اللّه تعالى عنهم ، وقد أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب أنه قال بعد أن قرأ الآية :
أشهد على اللّه تعالى أنه يدخلهم الجنة جميعا ، وأخرج غير واحد عن كعب أنه قرأ الآية إلى لُغُوبٌ فقال دخلوها ورب الكعبة ، وفي لفظ كلهم في الجنة ألا ترى على أثره وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ نعم إن أريد بالظالم لنفسه الكافر يتعذر رجوع الضمير إلى ما ذكر ويتعين رجوعه إلى السابق وإليه وإلى المقتصد لأن المراد بهما الجنس لكن لا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 371
ينبغي أن يراد بعد هاتيك الأخبار ، وقرأ زر بن حبيش والزهري «جنة عدن» بالأفراد والرفع وقرأ أبو عمرو «يدخلونها» بالبناء للمفعول ورويت عن ابن كثير ، وقوله تعالى : يُحَلَّوْنَ فِيها خبر ثان لجنات أو حال مقدرة ، وقيل : إنها لقرب الوقوع بعد الدخول تعد مقارنة وقرى «يحلون» بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام من حليت المرأة فهي حالية إذا لبست الحلي ويقال جيد حال إذا كان عليه الحلي مِنْ أَساوِرَ جمع سوار على ما في الإرشاد ، وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار بالضم جمعه أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور ا ه ، وإطلاق الجمع على جمع الجمع كثير فلا مخالفة ، وسوار المرأة معرب كما قال الراغب وأصله دستواره ، ومن للتبعيض أي يحلون بعض أساور كأنه بعض له امتياز وتفوق على سائر الأبعاض ، وجوز أن تكون للبيان لما أن ذكر التحلية مما ينبىء عن الحلي المبهم ، وقيل : زائدة بناء على ما يرى الأخفش من جواز زيادتها في الإثبات ، وقيل : نعت لمفعول محذوف ليحلون وأنه بمعنى يلبسون ومِنْ في قوله تعالى : مِنْ ذَهَبٍ بيانية وَلُؤْلُؤاً عطف على محل مِنْ أَساوِرَ أي ويحلون فيها لؤلؤا. أخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم تلا الآية فقال : إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب
، وقيل : عطف على المفعول المحذوف أو منصوب بفعل مضمر يدل عليه يُحَلَّوْنَ أي ويؤتون لؤلؤا. وقرأ جمع من السبعة «لؤلؤ» بالجر عطفا على ذَهَبٍ أي يحلون فيها بعض أساور من مجموع ذهب ولؤلؤ بأن تنظم حبات ذهب مع حبات لؤلؤ ويتخذ من ذلك سوار كما هو معهود اليوم في بلادنا أو بأن يرصع الذهب باللؤلؤ كما يرصع ببعض الأحجار ، وقيل : أي من ذهب في صفاء اللؤلؤ ، وفيه ما فيه من الكدر.
ولعل من يقول بأنه لا اشتراك بين ذهب الدنيا ولؤلؤها وذهب الآخرة ولؤلؤها إلا بالاسم لا يلتزم النظم ولا الترصيع كما لا يخفى ، وقرىء «لؤلؤا» بتخفيف الهمزة الأولى وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي إبريسم محض كما في مجمع البيان ، وقال الراغب : مارق من الثياب. وتغيير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا قيل للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان إن لباسهم ماذا بخلاف الأساور واللؤلؤ فإنها ليست من اللوازم الضرورية ولذا لا يلزم العدل بين الزوجات فيها فجعل بيان تحليتهم مقصورا بالذات ، ولعل هذا هو الباعث على تقديم التحلية على بيان حال اللباس ، وقيل : إن ذلك للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة مع المحافظة على هيئة الفواصل وليس بذاك وَقالُوا أي ويقولون.
وصيغة الماضي للدلالة على التحقق الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ حزن تقلب القلب وخوف العاقبة على ما روي عن القاسم بن محمد ، وقال أبو الدرداء : حزن أهوال القيامة وما يصيب من ظلم نفسه هنالك.
وأخرج الحاكم وصححه : وابن أبي حاتم وغيرهما عن ابن عباس حزن النار. وقال الضحاك حزن الموت يقولون ذلك إذا ذبح الموت ، وقال مقاتل : حزن الانتقال يقولون ذلك إذا استقروا فيها ، وقال قتادة : حزن أن لا تنقبل أعمالهم ، وقال الكلبي : خوف الشيطان ، وقال سمرة بن جندب : حزن معيشة الدنيا الخبز ونحوه ، وعن ابن عباس حزن الآفات والأعراض وقيل : حزن كراء الدار والأولى أن يراد جنس الحزن المنتظم لجميع أحزان الدين والدنيا والآخرة ، وكل ما سمعت من باب التمثيل وقد تقدم
في الحديث «إن الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يقولون»
أي بعد أن يتلقاهم اللّه تعالى برحمته الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إلخ فلا تغفل وقرىء الحزن بضم الحاء وسكون الزاي ذكره جناح بن حبيش إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين شَكُورٌ للمطيعين.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أنه قال في ذلك غفر لنا العظيم من ذنوبنا وشكر لنا القليل من أعمالنا ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 372
وفي الكشاف ذكر الشكور دليل على أن القوم كثير والحسنات ، وكان عليه أن يقول : وذكر الغفور دليل على أنهم كثير والفرطات فينطبق على الفرق ولا ينفك النظم ولكن منعه المذهب الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا وهي الجنة مِنْ فَضْلِهِ من إنعامه سبحانه وتفضله وكرمه فإن العمل وإن كان سببا لدخول الجنة في الجملة لكن سببيته بفضل اللّه عزّ وجلّ أيضا إذ ليس هناك استحقاق ذاتي ، ومن علم أن العمل متناه زائل وثواب الجنة دائم لا يزول لم يشك في أن اللّه تعالى ما أحل من أحل دار الإقامة إلا من محض فضله سبحانه وقال الزمخشري : أي من إعطائه تعالى وإفضاله من قولهم لفلان فضول على قومه وفواضل وليس من الفضل الذي هو التفضل لأن الثواب بمنزلة الأجر المستحق والتفضل كالتبرع وفيه من الاعتزال ما فيه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي تعب وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ كلال وفتور وهو نتيجة النصب ، وضمه إليه وتكرير الفعل المنفي للمبالغة في بيان انتفاء كل منهما كذا قال جمع من الأجلة ، وقال بعضهم : النصب التعب الجسماني واللغوب التعب النفساني.
وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه فسر النصب بالوجع والكلام من باب :
لا ترى الضب بها ينجحر والجملة حال من أحد مفعولي أحل. وقرأ علي كرّم اللّه تعالى وجهه والسلمي «لغوب» بفتح اللام
، قال الفراء :
هو ما يغب به كالفطور والسحور ، وجاز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لا يمسنا فيها لغوب لغوب نحو شعر شاعر كأنه وصف اللغوب بأنه قد لغب أي أعيى وتعب.
وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون مصدرا كالقبول وإن شئت جعلته صفة لمضمر أي أمر لغوب.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ أي لا يحكم عليهم بموت ثان فَيَمُوتُوا ليستريحوا بذلك من عذابها بالكلية وإنما فسر لا يقضي بما ذكر دون لا يموتون لئلا يلغوا فيموتوا ويحتاج إلى تأويله بيستريحوا.
ونصب يموتوا في جواب النفي بإضمار أن والمراد انتفاء المسبب لانتفاء السبب أي ما يكون حكم بالموت فكيف يكون الموت. وقرأ عيسى والحسن «فيموتون» بالنون عطفا كما قال أبو عثمان المازني على يُقْضى كقوله تعالى : لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ أي لا يقضى عليهم ولا يموتون وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها المعهود لهم بل كلما خبت زيد إسعارها ، والمراد دوام العذاب فلا ينافي تعذيبهم بالزمهرير ونحوه ، ونائب فاعل يخفف عَنْهُمْ ومن عذابها في موضع نصب ويجوز العكس ، وجوز أن تكون من زائدة فيتعين رفع مجرورها على أنه النائب عن الفاعل على ما قال أبو البقاء وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ولا يخفف» بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل كقوله :
فاليوم أشرب غير مستحقب كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ في الكفر أو الكفران لا جزاء أخف وأدنى منه.
وقرأ أبو عمرو وأبو حاتم عن نافع «يجزى» بالياء مبنيا للمفعول و«كلّ» بالرفع على النيابة عن الفاعل وقرىء «نجازي» بنون مضمومة وألف بعد الجيم وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها افتعال من الصراخ وهو شدة الصياح والأصل يصترخون فأبدلت التاء طاء ويستعمل كثيرا في الاستغاثة لأن المستغيث يصيح غالبا ، وبه فسره هنا قتادة فقال :
يستغيثون فيها ، واستغاثتهم باللّه عزّ وجلّ بدليل ما بعده وقيل ببعضهم لحيرتهم وليس بذاك.
رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ بإضمار القول أي ويقولون بالعطف أو يقولون بدونه على أنه تفسير لما قبله أو قائلين على أنه حال من ضميرهم ، وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 373
من غير الصالح مع الاعتراف به والأشعار بأن استخراجهم لتلافيه فهو وصف مؤكد ولأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا فكأنهم قالوا : نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله فالوصف مقيد.
وذكر أبو البقاء أن صالِحاً وغَيْرَ الَّذِي يجوز أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أو لمفعول محذوف وأن يكون صالِحاً نعتا لمصدر وغَيْرَ الَّذِي مفعول نَعْمَلْ وأيا ما كان فالمراد أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا نعمل صالحا وكأنهم أرادوا بالعمل الصالح التوحيد وامتثال أمر الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد له ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : نَعْمَلْ صالِحاً نقل لا إله إلا اللّه أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ جواب من جهته تعالى وتوبيخ لهم في الآخرة حين يقولون رَبَّنا إلخ فهو بتقدير فنقول لهم أو فيقال لهم «أو لم نعمركم» إلخ ، وفي بعض الآثار أنهم يجابون بذلك بعد مقدار الدنيا ، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام وما موصولة أو موصوفة أي ألم نمهلكم ونعمركم الذي أي العمر الذي أو عمرا يتذكر فيه من تذكر أي يتمكن فيه من أراد التذكر وتحققت منه تلك الإرادة من التذكر والتفكر.
وقال أبو حيان : ما مصدرية ظرفية أي ألم نعمركم في مدة تذكر ، وتعقب بأن ضمير فِيهِ يأباه لأنها لا يعود عليها ضمير إلا على نظر الأخفش فإنه يرى اسميتها وهو ضعيف ، ولعله يجعل الضمير للعمر المفهوم من (نعمر) وفيه بعد.
وجعل ما نافية لا يصح كما قال ابن الحاجب لفظا ومعنى ، وهذا العمر على ما
روي عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه وأخرجه جماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس ستون سنة
، وقد أخرج الإمام أحمد البخاري والنسائي وغيرهم عن سهل بن سعد قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم اعذر اللّه تعالى إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة»
، - وقيل : - هو خمسون سنة» وفي رواية عن ابن عباس أنه ست وأربعون سنة ، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن أنه أربعون سنة ، وفي رواية أخرى عنه أنه سن البلوغ
، وقيل : سبع عشرة سنة ، وعن قتادة ثمان عشرة سنة ، وعن عرم بن عبد العزيز عشرون سنة ، وعن مجاهد ما بين العشرين إلى الستين ، وقرأ الأعمش «ما يذكر فيه من اذكر» بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظا بها في الدرج وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ عطف على معنى الجملة الاستفهامية فكأنه قيل : عمرناكم وجاءكم النذير فليس من عطف الخبر على الإنشاء كما في قوله تعالى : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح : 1 ، 2] وجوز أن يكون عطفا على نُعَمِّرْكُمْ ودخول الهمزة عليهما فلا تغفل. والمراد بالنذير على ما روي عن السدي وابن زيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقيل : ما معه من القرآن ، وقال أبو حيان : المراد جنس النذير وهم الأنبياء عليهم السّلام فكل نبي نذير أمته ، ويؤيده أنه قرىء «النذر» جمعا ، وعن ابن عباس وعكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل والفراء والطبري هو الشيب وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت ، ومن هنا قيل :
رأيت الشيب من نذر المنايا لصاحبه وحسبك من نذير
وقائلة تخضب يا حبيبي وسود شعر شيبك بالعبير
فقلت لها المشيب نذير عمري ولست مسودا وجه النذير
وقيل : الحمى ، وقيل : موت الأهل والأقارب ، وقيل : كمال العقل ، والاقتصار على النذير لأنه الذي يقتضيه المقام ، والفاء في قوله تعالى : فَذُوقُوا لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير ، وفي قوله سبحانه : فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ للتعليل ، والمراد بالظلم هنا الكفر ، قيل كان الظاهر فما لكم لكن عدل إلى

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 374
المظهر لتقريعهم ، والمراد استمرار نفي أن يكون لهم نصير يدفع عنهم العذاب إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أي كل غيب فيهما أي لا يخفى عليه سبحانه خافية فيهما فلا تخفى عليه جل شأنه أحوالهم التي اقتضت الحكمة أن يعاملوا بها هذه المعاملة ولا يخرجوا من النار ، وقرأ جناح بن حبيش «عالم» بالتنوين «غيب» بالنصب على المفعولية لعالم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
قيل إنه تعليل لما قبله لأنه تعالى إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان عزّ وجلّ أعلم بغيرها ، وفيه نوع خفاء ، وقال الإمام : إن قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ
إلخ تقرير لدوامهم في العذاب مع أنهم ما كفروا إلا أياما معدودة فكأن سائلا يسأل عن وجه ذلك فقيل : إن اللّه تعالى لا يخفى عليه غيب السماوات والأرض فلا يخفى عليه ما في الصدور فكان يعلم سبحانه من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع اللّه تعالى ولا عبده انتهى ، وظاهره أن الجملة الأولى تعليل للثانية على عكس ما قيل ، ويمكن أن يقال : إن قوله تعالى : فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ متضمن نفي أن يكون لهم نصير على سبيل الاستمرار ومستدع خلودهم في العذاب فكان مظنة أن يقال : كيف ينفي ذلك على سبيل الاستمرار والعادة في الشاهد قاضية بوجود نصير لمن تطول أيام عذابه فأجيب بأن اللّه عالم غيب السماوات والأرض على معنى أنه تعالى محيط بالأشياء علما فلو كان لهم نصير في وقت من الأوقات لعلمه ولما نفي ذلك على سبيل الاستمرار ، وكذا مظنة أن يقال : كيف يخلدون في العذاب وهم قد ظلموا في أيام معدودة؟ فأجيب بأنه عليم بذات الصدور على معنى أنه تعالى يعلم ما انطوت عليه ضمائرهم فيعلم أنهم صمموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد فكل من الجملتين مستأنف استئنافا بيانيا فتأمل هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ملقى إليكم مقاليد التصرف والانتفاع بما فيها أو جعلكم خلفاء ممن قبلكم من الأمم وأورثكم ما بأيديكم من متاع الدنيا لتشكروه بالتوحيد والطاعة أو جعلكم بدل من كان قبلكم من الأمم الذين كذبوا الرسل فهلكوا فلم تتعظوا بحالهم وما حل بهم من الهلاك ، والخطاب قيل عام ، واستظهره في البحر ، وقيل : لأهل مكة ، والخلائف جمع خليفة وقد اطرد جمع فعيلة على فعائل وأما الخلفاء فجمع خليف ككريم وكرماء ، وجوز الواحدي كونه جمع خليفة أيضا وهو خلاف المشهور فَمَنْ كَفَرَ منكم مثل هذه النعمة السنية وغمطها أو فمن استمر على الكفر وترك الإيمان بعد أن لطف به وجعل له ما ينبهه على ما يترتب
على ذلك فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره وجزاؤه لا على غيره.
وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً أشد الاحتقار والبغض والغضب.
وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً في الآخرة وجملة وَلا يَزِيدُ إلخ بيان وتفسير لقوله سبحانه فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولزيادة تفصيله نزل منزلة المغاير له ولولا ذلك لفصل عنه ، والتكرير لزيادة التقرير والتنبيه على أن اقتضاء الكفر لكل واحد واحد من الأمرين الأمرين المقت والخسارة مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه بمعنى أنه لو لم يكن الكفر مستوجبا لشيء سوى مقت اللّه تعالى لكفى ذلك في قبحه وكذا لو لم يستوجب شيئا سوى الخسار لكفى قُلْ تبكيتا لهم أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي آلهتكم ، والإضافة إليهم لأدنى ملابسة حيث إنهم هم الذين جعلوهم شركاء اللّه تعالى واعتقدوهم كذلك من غير أن يكون له أصل ما أصلا. وقيل :
الإضافة حقيقية من حيث إنهم جعلوهم شركاء لأنفسهم فيما يملكونه أو جعلهم اللّه تعالى شركاء لهم في النار كما قال سبحانه : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ والصفة عليهما مقيدة لا مؤكدة ، وسياق النظم الكريم وسباقه ظاهر أن فيما تقدم أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ بدل اشتمال من أَرَأَيْتُمْ لأنه بمعنى أخبروني كأنه قيل :
أخبروني عن شركائكم أروني أي جزء خلقوا من الأرض حتى يستحقوا الإلهية والشركة. وجوز أن يكون بدل كل ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 375
وقال أبو حيان : لا تجوز البدلية لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بدّ من دخول الأداة على البدل ، وأيضا إبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ثم البدل على نية تكرار العامل ولا يتأتى ذلك هاهنا لأنه لا عامل لأرأيتم ثم قال : والذي أذهب إليه أن أَرَأَيْتُمْ بمعنى أخبروني وهي تطلب مفعولين أحدهما منصوب والآخر مشتمل على الاستفهام كقول العرب أرأيت زيدا ما صنع فالأول هنا شُرَكاءَكُمُ والثاني ماذا خَلَقُوا وأَرُونِي جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد ، ويحتمل أن يكون ذلك أيضا من باب الأعمال لأنه توارد على ماذا خَلَقُوا أرأيتم. وأروني لأن أروني قد تعلق عن مفعولها الثاني كما علقت رأى التي لم تدخل عليها همزة النقل عن مفعولها في قولهم : أما ترى أي برق هاهنا ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين فانتهى ، وما ذكره احتمال في الآية الكريمة كما أن ما ذكر أولا احتمال وما قاله في رده ليس بشيء ، أما الأول فلأن لزوم دخول الأداة على البدل فيما إذا كان الاستفهام باق على معناه أما إذا نسخ عنه كما هنا فليس ذلك بلازم ، وأما الثاني فلأن أهل العربية والمعاني نصوا على خلافه وقد ورد في كلام العرب كقوله :
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا وإلا فكن في السر والجهر مسلما
وأما الثالث فلأن كون البدل على نية تكرار العامل إنما هو كما نقل الخفاجي عنهم في بدل المفردات.
وليس لك أن تقول العامل هنا موجود وهو قُلْ لأن العبرة بالمقول ولا عامل فيه إذ يقال وهو ظاهر ، وجوز أن لا يكون أَرَأَيْتُمْ بمعنى أخبروني بل المراد حقيقة الاستفهام عن الرؤية وأروني أمر تعجيز للتبيين أي أعلمتم هذه التي تدعونها ما هي وعلى ما هي عليه من العجز أو تتوهمون فيها قدرة فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها أو كنتم توهمتم فيها قدرة فأروني أثرها ، وما تقدم أظهر أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي بل ألهم شركة مع اللّه عزّ وجلّ في خلق السماوات حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم ، وقال بعضهم : الأولى أن لا يقدر مضاف على أن المعنى أم لهم شركة معه سبحانه في السماوات خلقا وإبقاء وتصرفا لأن المقصود نفي آيات الإلهية عن الشركاء وليست محصورة في الخلق والتقدير أوفق بما قبله ، والكلام قيل من باب التدرج من الاستقلال إلى الشركة ثم منها إلى حجة وبينة مكتوبة بالشركة كأنه قيل : أخبروني عن الذين تدعون من دون اللّه هل استبدوا بخلق شيء من الأرض حتى يكونوا معبودين مثل اللّه تعالى بل ألهم شركة معه سبحانه في خلق السماوات أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً أي بل آتيناهم كتابا ينطق بأنا اتخذناهم شركاء فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة معنا.
وقال في الكشف : الظاهر أن الكلام مبني على الترقي في إثبات الشركة لأن الاستبداد بخلق جزء من الأرض شركة ما معه عزّ وجلّ والاشتراك معه سبحانه في خلق السماوات أدل على إثباتها ثم إيتاء كتاب منه تعالى على أنهم شركاؤه أدل وأدل ، وقيل : هم في آتَيْناهُمْ للمشركين وكذا في - فهم - كما في قوله تعالى : أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً [الروم : 35] إلخ ففي الكلام التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضا عن المشركين وتنزيلا لهم منزلة الغيب.
والمعنى أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ولا عقل يحكم بصحة عبادة من لا يخلق جزءا ما من الأرض دلالة شرك في السماء وإما بالنقل ولم نؤت المشركين كتابا فيه الأمر بعبادة هؤلاء ، وفيه تفكيك للضمائر ، وقال بعضهم : ضمير آتَيْناهُمْ للشركاء كالضمائر السابقة وضمير فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ للمشركين وأَمْ منقطعة للإضراب عن الكلام السابق وزعم أن لا التفات حينئذ ولا تفكيك فتأمل.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 376
وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر «على بينات» بالجمع فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بدّ فيه من تعاضد الدلائل وهو ضرب من التهكم بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً لما نفي سبحانه ما نفي من الحجج في ذلك أضرب عزّ وجلّ عنه بذكر ما حملهم على الشرك وهو تقرير الأسلاف للأخلاف وإضلال الرؤساء للأتباع بأنهم شفعاء عند اللّه تعالى يشفعون لهم بالتقرب إليهم ، والآية عند الكثير في عبدة الأصنام وحكمها عام ، وقيل : في عبدة غير اللّه عزّ وجلّ صنما كان أو ملكا أو غيرهما.
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا استئناف مقرر لغاية قبح الشرك وهو لهأي إن اللّه تعالى يحفظ السماوات والأرض كراهة زوالهما أو لئلا تزولا وتضمحلا فإن الممكن كما يحتاج إلى الواجب سبحانه حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه ، وقال الزجاج : يُمْسِكُ بمعنى يمنع وأَنْ تَزُولا مفعوله على الحذف والإيصال لأنه يتعدى بمن أي يمنعهما من أن تزولا ، وفي البحر يجوز أن يكون أن تزولا بدل اشتمال من السماوات والأرض أي يمنع سبحانه زوال السماوات والأرض ، وفسر بعضهم الزوال بالانتقال عن المكان أي إن اللّه تعالى يمنع السماوات من أن تنتقل عن مكانها فترتفع أو تنخفض ويمنع الأرض أيضا من أن تنتقل كذلك ، وفي أثر أخرجه عبد بن حميد وجماعة عن ابن عباس ما يقتضيه ، وقيل : زوالهما دورانهما فهما ساكنتان والدائرة بالنجوم أفلاكها وهي غير السماوات ، فقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد عن شقيق قال : قيل لابن مسعود إن كعبا يقول : إن السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحى في عمود على منكب ملك فقال : كذب كعب إن اللّه تعالى يقول : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وكفى بها زوالا أن تدور ، والمنصور عند السلف أن السماوات لا تدور وأنها غير الأفلاك ، وكثير من الإسلاميين ذهبوا إلى أنها تدور وأنها ليست غير الأفلاك ، وأما الأرض فلا خلاف بين المسلمين في سكونها والفلاسفة مختلفون والمعظم على السكون ، ومنهم من ذهب إلى أنها متحركة وأن الطلوع والغروب بحركتها ورد ذلك في موضعه ، والأولى في تفسير الآية ما سمعت أولا وكذا كونها مسوقة لما ذكرنا ، وقيل إنه تعالى لما بين فساد أمر الشركاء ووقف على الحجة في بطلانها عقب بذلك عظمته عزّ وجلّ وقدرته سبحانه ليتبين الشيء بضده وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة اللّه عزّ وجلّ وَلَئِنْ زالَتا أي إن أشرفتا على الزوال
على سبيل الفرض والتقدير ، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة «ولو زالتا» وقيل إن ذلك إشارة إلى ما يقع يوم القيامة من طي السماوات ونسف الجبال.
إِنْ أَمْسَكَهُما أي ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إمساكه تعالى أو من بعد الزوال ، والجملة جواب القسم المقدر قبل لام التوطئة في «لئن» وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، وأمسك بمعنى يمسك كما في قوله تعالى : وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة : 145] ومن الأول مزيدة لتأكيد العموم والثانية للإبتداء إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فلذا حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم مع عظم جرمهم المقتضي لتعجيل العقوبة وعدم إمساك السماوات والأرض وتخريب العالم الذي هم فيه فلا يتوهم أن إلمام يقتضي ذكر القدرة لا الحلم والمغفرة وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الضمائر لقريش ، وذلك أنهم بلغهم قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن طائفة من أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن اللّه تعالى اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فو اللّه لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم فكان منهم بعد ما كان فأنزل اللّه تعالى هذه الآية لَئِنْ جاءَهُمْ جاء على المعنى وإلا فهم قالوا : «جاءنا» وكذا «ليكونن» وإحدى بمعنى واحدة ، والظاهر أنها عامة وإن كانت نكرة في الإثبات لاقتضاء المقام العموم ، وتعريف الْأُمَمِ للعهد والمراد الأمم الذين كذبوا رسلهم أي لئن جاءنا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 377
نذير لنكونن أهدى من كل واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم فتؤمن جميعا ولا يكذب أحد منا أو المعنى لنكونن أهدى من أمة يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها من الأمم كما يقال هو واحد القوم وواحد عصره وكما قالوا هو أحد الأحدين وهي إحدى الأحد يريدون التفضيل في الدعاء والعقل ، قال الشاعر :
حتى استشاروا بي إحدى الأحد ليثا هزبرا ذا سلاح معتمد
وقد نص ابن مالك في التسهيل على أنه قد يقال لما يستعظم مما لا نظير له هو إحدى الأحد لكن قال الدماميني في شرحه : إنما ثبت استعماله في إحدى ونحوه المضاف إلى جمع مأخوذ من لفظه كإحدى الأحد وأحد الأحدين أو المضاف إلى وصف كأحد العلماء وإحدى الكبر أما في المضاف إلى أسماء الأجناس كالأمم فيحتاج إلى نقل ، وبحث فيه بأنه قد ثبت استعمال إحدى في الاستعظام من دون إضافة أصلا فإنهم يقولون للداهية العظيمة هي إحدى من سبع أي إحدى الليالي عاد في الشدة وشاع واحد قومه وأوحدهم وأوحد أمه ولم يظهر فارق بين المضاف إلى الجمع المأخوذ من اللفظ والمضاف إلى الوصف وبين المضاف إلى أسماء الأجناس ولا أظن أن مثل ذلك يحتاج إلى نقل فليتدبر.
وقال صاحب الكشف : إن دلالة إِحْدَى الْأُمَمِ على التفضيل ليست بواضحة بخلاف واحد القوم ونحوه ثم وجهها أنه على أسلوب. أو يرتبط بعض النفوس حمامها. يعني أن البعض المبهم قد يقصد به التعظيم كالتنكير فإحدى مثله ، وفيه أنه متى ثبت استعماله للإستعظام كانت دلالته على التفضيل في غاية الوضوح.
فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وأي نذير وهو أشرف الرسل محمد صلّى اللّه عليه وسلم كما روي عن ابن عباس وقتادة وهو الظاهر ، وعن مقاتل هو انشقاق القمر وهو أخفى من السها والمقام عنه يأبى ما زادَهُمْ أي النذير أو مجيئه إِلَّا نُفُوراً تباعدا عن الحق وهربا منه ، وإسناد الزيادة إلى ذلك مجاز لأنه هو السبب لها. والجملة جواب لها.
واستدل بالآية على حرفيتها المكان النفي المانع عن عمل ما بعده فيها ، وفيه بحث ، وقوله تعالى : اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ بدل من نُفُوراً وقال أبو حيان : الظاهر أنه مفعول من أجله ، ونقل الأول عن الأخفش ، وقيل : هو حال أي مستكبرين وَمَكْرَ السَّيِّئِ هو الخداع الذي يرومونه برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والكيد له ، وقال قتادة هو الشرك وروى ذلك عن ابن جريج ، وهو عطف على اسْتِكْباراً وأصل التركيب وأن مكروا السيّء على أن السَّيِّئِ صفة لموصوف مقدر أي المكر المسيء ثم أقيم المصدر مقام أن والفعل وأضيف إلى ما كان صفة ، وجوز أن يكون عطفا على نُفُوراً وقرأ الأعمش وحمزة «السيّ ء» بإسكان الهمزة في الوصل إجراء له مجرى الوقف أو لتوالي الحركات وإجراء المنفصل مجرى المتصل ، وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن لما فيها من حذف الإعراب كما قال أبو جعفر.
وزعم محمد بن يزيد أن الحذف لا يجوز في نثر ولا شعر لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني ، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش قرأ بها ، وقال : إنما كان يقف على هذه الكلمة فغلط من أدى عنه ، والدليل على هذا أنها تمام الكلام ولذا لم يقرأ في نظيرها كذلك مع أن الحركة فيه أثقل لأنها ضمة بين كسرتين ، والحق أنها ليست بلحن ، وقد أكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والوصل بنية الوقف ، وقال ابن القشيري : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرىء به فلا بدّ من جوازه ولا يجوز أن يقال لحن ، ولعمري أن الإسكان هاهنا أحسن من الإسكان في بارِئِكُمْ [البقرة : 54] كما في قراءة أبي عمرو ، وروي عن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 378
ابن كثير «ومكر السأي» بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة وهو مقلوب السيّء المخفف من السيّء كما قال الشاعر :
ولا يجزون من حسن بسيىء ولا يجزون من غلظ بلين
وقرأ ابن مسعود «مكرا سيئا» عطف نكرة على نكرة وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ أي لا يحيط إِلَّا بِأَهْلِهِ.
وقال الراغب : أي لا يصيب ولا ينزل ، وأيا ما كان فهو إنما ورد فيما يكره ، وزعم بعضهم أن أصل حاق حق فجيء بدل أحد المثلين بالألف نحو ذم وذام وزل وزال ، وهذا من إرسال المثل ومن أمثال العرب : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا ، وعن كعب أنه قال لابن عباس : قرأت في التوراة من حفر مغواة وقع فيها قال : أنا وجدت ذلك في كتاب اللّه تعالى فقرأ الآية ، وفي الخبر «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإن اللّه تعالى يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا فإن اللّه سبحانه يقول إنما بغيكم على أنفسكم»
وقد حاق مكر هؤلاء بهم يوم بدر.
والآية عامة على الصحيح والأمور بعواقبها واللّه تعالى يمهل ولا يهمل ووراء الدنيا الآخرة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، وبالجملة من مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك ، أسأل اللّه تعالى بحرمة حبيبه الأعظم صلّى اللّه عليه وسلم أن يدفع ويرفع عنا مكر الماكرين وأن يعاملهم في الدارين بعدله إنه سبحانه القوي المتين. وقرىء «ولا يحيق» بضم الياء «المكر السي ء» بالنصب على أنه يحيق من أحاق المتعدي وفاعله ضمير راجع إليه تعالى والْمَكْرُ مفعوله فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظرون ، وهو مجاز بجعل ما يستقبل بمنزلة ما ينتظر ويتوقع إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي إلا سنة اللّه تعالى فيهم بتعذيب مكذبيهم.
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا بأن يضع سبحانه موضع العذاب وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم ، والفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من مجيئه ، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني ، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما ، والخطاب عام أو خاص به عليه الصلاة والسلام.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ استشهاد على ما قبله من جريان سنة اللّه تعالى على تعذيب المكذبين بما يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحلتهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الأمم الماضية وعلامات هلاكهم ، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يليق بالمقام على رأي أي أقعدوا ولم يسيروا ، وقوله تعالى وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ أي ليس من شأنه عز شأنه أن يسبقه ويفوته مِنْ شَيْءٍ أي شيء ومن لاستغراق الأشياء فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ هو نظير.
لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف : 49] والواو حالية أو عاطفة.
وفي الإرشاد الجملة اعتراض مقرر لما يفهم مما قبله من استئصال الأمم السالفة ، وظاهره أن الواو اعتراضية.
إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً مبالغا في العلم والقدرة ، والجملة تعليل لنفي الإعجاز وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ جميعا بِما كَسَبُوا فعلوا من السيئات كما وأخذ أولئك ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي ظهر الأرض وقد سبق ذكرها في قوله تعالى : فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فليس من الإضمار قبل الذكر كما زعمه الرضي ، وظهر الأرض مجاز عن ظاهرها كما قال الراغب. وغيره ، وقيل : في الكلام استعارة مكنية تخييلية والمراد ما ترك عليها مِنْ دَابَّةٍ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 379
أي من حيوان يدب على الأرض لشؤم المعاصي ، وقد قال سبحانه : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال : 25] وهو المروي عن ابن مسعود ، وقيل : المراد بالدابة الإنس وحدهم وأيد بقوله تعالى : وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو يوم القيامة فإن الضمير للناس لأنه ضمير العقلاء ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء نوعهم ، وقيل : هو لجميع من ذكر تغليبا ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء جنس المخلوقات فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً فيجازي المكلفين منهم عند ذلك بأعمالهم إن شرا فشر وإن خيرا فخير ، وجملة فَإِنَّ اللَّهَ إلخ موضوعة موضع الجزاء والجزاء في الحقيقة يجازي كما أشرنا إليه ، هذا واللّه تعالى هو الموفق للخير ولا اعتماد إلا عليه.
ومن باب الإشارة الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إشارة إلى إيجاد عالمي اللطافة والكثافة وإلى أن إيجاد عالم اللطافة مقدم على إيجاد عالم الكثافة ، ويشير إلى ذلك ما شاع خلق اللّه تعالى الأرواح قبل الأبدان بأربعة آلاف سنة جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا في إيصال أوامره إلى من يشاء من عباده أو وسائط تجري إرادته سبحانه في مخلوقاته على أيديهم أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ إشارة إلى اختلافهم في الاستعداد يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ عام في الملك وغيره ، وفسرت الزيادة بهبة استعداد رؤيته عزّ وجلّ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ الزيادة المشار إليها وغيرها فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فيه إشارة إلى أن رحمته سبحانه سبقت غضبه عزّ وجلّ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لحبيبه صلّى اللّه عليه وسلم وإرشاد لورثته إلى الصبر على إيذاء أعدائهم لهم وتكذيبهم إياهم وإنكارهم عليهم وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جرت سنته تعالى في إحياء الأرض بهذه الكيفية كذلك إذا أراد سبحانه إحياء أرض القلب فيرسل أولا رياح الإرادة فتسير سحاب المحبة ثم يأتي مطر الجود والعناية فينبت في القلب رياحين الروح وأزهار البسط ونوار الأنوار ويطيب العيش.
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إشارة إلى أن العزة الحقيقية لا تحصل بدون الفناء ، ولا تغفل عن
حديث : «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل»
إلخ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وهو أبعد المخلوقات من الحضرة وأسفلها وأكثفها ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وفيها نوع ما من اللطافة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً إشارة إلى ما حصل لهم من ازدواج الروح اللطيف العلوي والقالب الكثيف السفلي وهو مبدأ استعداد لوقوف على عوالم الغيب والشهادة وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ قيل أي بحر العلم الوهبي وبحر العلم الكسبي هذا أي بحر العلم الوهبي عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ لخلوه عن عوارض الشكوك والأوهام وَهذا أي بحر العلم الكسبي مِلْحٌ أُجاجٌ لما فيه من مشقة الفكر ومرارة الكسب وعروض الشكوك والتردد والاضطراب وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا إشارات لطيفة تتغذون بها وتتقوون على الأعمال وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وهي الأخلاق الفاضلة والآداب الجميلة والأحوال المستحسنة التي تكسب صاحبها زينة وَتَرَى الْفُلْكَ سفن الشريعة والطريقة فِيهِ مَواخِرَ جارية لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالوصول إلى حضرته عزّ وجلّ فعل ذلك يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في سائر شؤونكم ، ومراتب الفقر متفاوتة وكلما ازداد الإنسان قربا منه عزّ وجلّ ازداد فقره إليه لازدياد المحبة حينئذ وكلما زاد العشق زاد فقر العاشق إلى المعشوق حتى يفنى وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فيه من البشارة ما فيه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أي العلماء به تعالى وبشؤونه فهم كلما ازدادوا علما ازدادوا خشية لما يظهر لهم من عظمته عزّ وجلّ وأنهم بالنسبة إليه تعالى شأنه لا شيء ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 380
وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ
قيل : الظالم لنفسه السالك والمقتصد السالك المجذوب والسابق المجذوب السالك ، والسالك هو المتقرب والمجذوب هو المقرب والمجذوب السالك هو المستهلك في كمالات القرب الفاني عن نفسه الباقي بربه عزّ وجلّ : وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ حزن تخيل الهجر فلا حزن للعاشق أعظم من حزن تخيل هجر معشوقه له وجفوته إياه إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ فلا بدع إذا أذهب عنا ذلك وآمننا من القطيعة والهجران الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ هو نصب الأبدان وتعبها من أعمال الطاعة للتقرب إليه سبحانه وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ هو لغوب القلوب واضطرابها من تخيل القطيعة والرد وهجر الحبيب ، وقيل : لا يمسنا فيها نصب السعي في تحصيل أي أمر أردناه ولا يمسنا فيها لغوب تخيل ذهاب أي مطلوب حصلناه ، وقد أشاروا إلى أن كل ذلك من فضل اللّه تعالى واللّه عزّ وجلّ ذو الفضل العظيم ، هذا ونسأل اللّه تعالى من فضله الحلو ما تنشق منه مرارة الحسود وينفطر به قلب كل عدو وينتعش فؤاد كل محب ودود

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 381
صح من حديث الإمام أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة والطبراني وغيرهم عن معقل بن يسار أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : يس قلب القرآن وعد ذلك أحد أسمائها
،
وبين حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة وجه إطلاق ذلك عليها بأن المدار على الإيمان وصحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر فيها على أبلغ وجه وأحسنه ولذا شبهت بالقلب الذي به صحة البدن وقوامه واستحسنه الإمام الرازي ، وأورد على ظاهره أن كل ما يجب الإيمان به لا يصح الإيمان بدونه فلا وجه لاختصاص الحشر والنشر بذلك. وأجيب بأن المراد بالصحة في كلام الحجة ما يقابل السقم والمرض ولا شك أن من صح إيمانه بالحشر يخاف من النار ويغرب في الجنة دار الأبرار فيرتدع عن المعاصي التي هي كأسقام الإيمان إذ بها يختل ويضعف ويشتغل بالطاعات التي هي كحفظ الصحة ومن لم يقو إيمانه به كان حاله على العكس فشابه الاعتراف به بالقلب الذي بصلاحه يصلح البدن وبفساده يفسد ، وجوز أن يقال وجه الشبه بالقلب أن به صلاح البدن وفساده وهو غير مشاهد في الحس وهو محل لانكشاف الحقائق والأمور الخفية وكذا الحشر من المغيبات وفيه يكون انكشاف الأمور والوقوف على حقائق المقدور وبملاحظته وإصلاح أسبابه تكون السعادة الأبدية وبالإعراض عنه وإفساد أسبابه يبتلي بالشقاوة السرمدية. وفي الكشف لعل الإشارة النبوة في تسمية هذه السورة قلبا وقلب كل شيء لبه وأصله الذي ما سواه إما من مقدماته وإما من متمماته إلى ما أسفلناه في تسمية الفاتحة بأم القرآن من أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب إرشاد العباد إلى غايتهم الكمالية في المعاد وذلك بالتحقق والتخلق المذكورين هنالك وهو المعبر عنه بسلوك الصراط المستقيم ومدار هذه السورة الكريمة على بيان ذلك أتم بيان ا ه.
ويعلم منه وجه اختصاص الحشر بما ذكر في كلام الحجة فلا وجه لقول البعض في الاعتراض عليه فلا وجه إلخ ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى آخر الكلام في تفسير السورة الإشارة إلى ما اشتملت عليه من أمهات علم الأصول والمسائل المعتبرة بين الفحول وتقريرها إياها بأبلغ وجه وأتمه ، ولعل هذا هو السر في الأمر الوارد في صحيح الأخبار بقراءتها على الموتى أي المحتضرين ، وتسمى أيضا العظيمة عند اللّه تعالى.
أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند اللّه تعالى ويدعى صاحبها الشريف عند اللّه تعالى يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضرو هي سورة يس وذكر أنها تسمى أيضا المعمة والمدافعة القاضية».
أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «سورة يس تدعى في التوراة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 382
المعمة تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة وتكابد عنه بلوى الدنيا والآخرة وتدفع عنه أهاويل الدنيا والآخرة ، وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة» الخبر «1»
وتعقبه البيهقي فقال : تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن دفاع وهو منكر ، وهي على ما أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس مكية ، واستثنى منها بعضهم قوله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى الآية مدعيا أنها نزلت بالمدينة لما أراد بنو سلمة النقلة إلى قرب مسجد النبي صلّى اللّه عليه وسلم وكانوا في ناحية المدينة
فقال عليه الصلاة والسلام : «إن آثاركم تكتب»
فلم ينتقلوا ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما قيل في ذلك وقوله سبحانه : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الآية لأنها نزلت في المنافقين فتكون مدنية.
وتعقب بأنه لا صحة له ، وآيها ثلاث وثمانون آية في الكوفي واثنتان وثمانون في غيره ، وجاء مما يشهد بفضلها وعلو شأنها عدة أخبار وآثار وقد مر آنفا بعض ذلك ، وصح من حديث معقل بن يسار لا يقرؤوها عبد يريد اللّه تعالى والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه.
وأخرج الترمذي والدارمي من حديث أنس «من قرأ يس كتب اللّه تعالى له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات»
ولا يلزم من هذا تفضيل الشيء على نفسه إذ المراد بقراءة القرآن قراءته دون يس ، وقال الخفاجي : لا يلزم ذلك إذ يكفي في صحة التفضيل المذكور التغاير الاعتباري فإن يس من حيث تلاوتها فردة غير كونها مقروءة في جملته كما إذا قلت : الحسناء في الحلة الحمراء أحسن منها في البيضاء وقد يكون للشيء مفردا ما ليس له مجموعا مع غيره كما يشاهد في بعض الأدوية ورجا أن يكون أقرب مما قدمنا وأنا لا أرجو ذلك ، والظاهر أنه يكتب له الثواب المذكور مضاعفا أي كل حرف بعشرة حسنات ولا بدع في تفضيل العمل القليل على الكثير فلله تعالى أن يمن بما شاء على من شاء ، ألا ترى ما صح أن هذه الأمة أقصر الأمم أعمارا وأكثرها ثوابا وأنكر الخصوصيات مكابرة ، وللّه تعالى در من قال :
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
وذكر بعضهم أن من قرأها أعطي من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي قلابة - وهو من كبار التابعين - أن من قرأها فكأنما قرأ القرآن إحدى عشرة مرة.
وعن أبي سعيد أنه قال من قرأ يس مرة فكأنما قرأ القرآن مرتين.
وحديث العشر مرفوع عن ابن عباس ومعقل بن يسار وعقبة بن عامر وأبي هريرة وأنس رضي اللّه تعالى عنهم فعليه المعول ، ووجهه اتصالها بما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي أنه لما ذكر في سورة [فاطر : 37 ، 42] قوله سبحانه : وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ وقوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إلى قوله سبحانه : فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وأريد به محمد صلّى اللّه عليه وسلم وقد أعرضوا عنه وكذبوه افتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته عليه الصلاة والسلام وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم وقال سبحانه في [فاطر : 13] وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ وفي هذه السورة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ... وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس : 38] إلى غير ذلك ولا يخفى أن أمر المناسبة يتم على تفسير النذير بغيره صلّى اللّه عليه وسلم أيضا فتأمل.
___________
(1) وأخرج الخطيب عن أنس مثله ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 383
سورة يس
[سورة يس (36) : الآيات 1 إلى 27]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس الكلام فيه كالكلام في الم ونحوه من الحروف المقطعة في أوائل السور إعرابا ومعنى عند كثير. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنه قال : يس يا إنسان. وفي رواية أخرى عنه زيادة بالحبشية وفي أخرى عنه أيضا في لغة طيّ.
قال الزمخشري : إن صح هذا فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره كما في القسم م اللّه في أيمن اللّه. وتعقبه أبو حيان بأن المنقول عن العرب في تصغير إنسان أنيسيان بياء قبل الألف وهو دليل على أن الإنسان من النسيان وأصله أنسيان فلما صغر رده التصغير إلى أصله ولا نعلمهم قالوا في تصغيره أنيسين ، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين فلا يجوز ذلك إلا أن يبنى على الضم ولا يبقى موقوفا لأنه منادى مقبل عليه ومع ذلك لا يجوز التصغير في أسماء الأنبياء عليهم السّلام كما لا يجوز في أسماء اللّه عزّ وجلّ ، وما ذكره في - م - من أنه شطر أيمن قول ، ومن النحويين من يقول - م - حرف قسم وليس شطر أيمن انتهى.
قال الخفاجي : لزوم البناء على الضم مما لا كلام فيه فلعل من فسره بذلك يقرؤه بالضم على الأوجه فيه ، وأما

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 384
الاعتراضان الآخران فلا ورود لهما أصلا ، فأما الأول فلأن من يقول أنيسيان على خلاف القياس وهو الأصح لا يلزمه فيما غير منه أن يقدره كذلك وهو لم يلفظ به حتى يقال له : إنك نطقت بما لم تنطق به العرب بل هو أمر تقديري ، فإذا قال : المقدر مفروض عندي على القياس هل يتوجه عليه السؤال ، وأما الأخير فلأن التصغير في نحو ذلك إنما يمتنع منا وأما من اللّه تعالى فله سبحانه أن يطلق على نفسه عزّ وجلّ وعظماء خلقه ما أراد ويحمل حينئذ على ما يليق كالتعظيم والتحبيب ونحوه من معاني التصغير كما قال ابن الفارض :
ما قلت حبيبي من التحقير بل يعذب اسم الشيء بالتصغير
والذي قاله أبو حيان في توجيه ذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ويجمعون على أياسين فهذا منه ولا يخفى أنه يحتاج إلى إثبات وبعده لا يخفى ما في التخريج عليه ، وقالت فرقة : يا حرف نداء والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه ، ونظيره ما
جاء في الحديث «كفى بالسيف شا»
أي شاهدا ، وأيد بما ذهب إليه ابن عباس في حم عسق ونحوه من أنها حروف من جملة أسماء له تعالى وهي رحيم وعليم وسميع وقدير ونحو ذلك. وظاهر كلام بعضهم كابن جبير أن يس بمجموعه اسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام وهو ظاهر قول السيد الحميري :
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة على المودة إلا آل ياسينا
ولتسميته صلّى اللّه عليه وسلم بهذين الحرفين الجليلين سر جليل عند الواقفين على أسرار الحروف ، وقد تكلمت وللّه تعالى الحمد فيما تعلق بهذه الكلمة الشريفة ثلاثة أيام أشرع كل يوم منها بعد العصر وأختم قبيل المغرب وذلك في مجلس وعظي في المسجد الجامع الداودي واليوم لا أستطيع أن أذكر من ذاك بنت شفة بل لا أتذكر منه إلا رسما هب عليه عاصف الزمان الغشوم فنسفه فحسبي اللّه عمن سواه فلا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.
وقرىء بفتح الياء وإمالتها محضا وبين بين.
وقرأ جمع بسكون النون مدغمة في الواو ، وآخرون بسكونها مظهرة والقراءتان سبعيتان ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بفتح النون ، قال أبو حاتم قياس قول قتادة إنه قسم أن يكون على حد - اللّه لأفعان - بالنصب. ويجوز أن يكون مجرورا بإضمار باء القسم وهو ممنوع من الصرف. وقال الزجاج : النصب على تقدير أتل يس وهذا على قول سيبويه أنه اسم للسورة ، وقيل هو مبني والتحريك للجد في الهرب من التقاء الساكنين والفتح للخفة كما في أين ، وسبب البناء غير خفي عليك إذا أحطت خبرا بما قرروا في «الم» أول سورة البقرة. ولا تغفل عما قالوا في النصب بإضمار فعل القسم من أنه لا يسوغ لما فيه من جمع قسمين على مقسم عليه واحد وهو مستكره ، ولا سبيل إلى جعل الواو بعد للعطف لا للقسم لمكان الاختلاف إعرابا.
وقرأ الكلبي بضم النون وخرج على أنه منادى مقصود بناء على أنه بمعنى إنسان أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ، ويقدر هذه إذا كان اسما للسورة وهذا إن كان اسما للقرآن وهو يطلق على البعض كما يطلق على الكل ، وجعله مبتدأ محذوف الخبر وهو قسم أي يس قسمي نحو أمانة اللّه لأفعلن بالرفع لا يخفى حاله ، وقيل الضمة فيه ضمة بناء كما في حيث.
وقرأ أبو السمال وابن أبي إسحاق أيضا بكسرها ، وخرج على أنه للجد في الهرب عن الساكنين بما هو الأصلي فتأمل وتذكر وَالْقُرْآنِ ابتداء قسم ، وجوز أن يكون عطفا على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم لا أنه قسم بعد قسم لما سمعت من كلامهم الْحَكِيمِ أي ذي حكمة على أنه صيغة نسبة كلابن وتامر أي متضمن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 385
إياها أو لناطق بالحكمة كالحي على أن يكون من الاستعارة المكنية أو المتصف بالحكمة على أن الإسناد مجازي وحقيقته الإسناد إلى اللّه تعالى المتكلم به. وفي البحر هو إما فعيل بمعنى مفعل كأعقدت العسل فهو عقيد أي معقد وإما للمبالغة من حاكم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ جواب للقسم ، والجملة لرد إنكار الكفرة رسالته عليه الصلاة والسلام فقد قالوا : لَسْتَ مُرْسَلًا [الرعد : 43] وتقدم ما يشعر بأنهم على جانب عظيم من الإنكار أعني قوله تعالى : فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر : 42] استكبارا في الأرض ومكر السيّء ، وهذه الآية من جملة ما أشير إليه بقوله تعالى في جوابهم عن إنكارهم قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرعد : 43] وتخصيص القرآن بالإقسام به أولا وبوصفه بالحكيم ثانيا تنويه بشأنه على أكمل وجه.
وقوله تعالى : عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر ثان لأن ، واختاره الزجاج قائلا : إنه الأحسن في العربية أو حل من ضميره عليه الصلاة والسلام المستكن في الجار والمجرور أو الواقع اسم إن بناء على رأي من يجوز الحال من المبتدأ ، وجوز أن يكون متعلقا بالمرسلين وليس المراد به الحال أو الاستقبال أي لمن الذين أرسلوا على صراط مستقيم ، وأن يكون حالا من عائد الموصول المستتر في اسم الفاعل ، أو حالا من نفس الْمُرْسَلِينَ.
والزمخشري لم يذكر من هذه الأوجه سوى كونه خبرا وكونه صلة للمرسلين ، وأيا ما كان فالمراد بالصراط المستقيم ما يعم العقائد والشرائع الحقة وليس الغرض من الإخبار الإعلام بتمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته ليقال إن ذلك حاصل قبله لما أن كل أحد يعلم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم بل الغرض الأعلام بأنه موصوف بكذا وأن ما جاء به الموصوف بكذا تفخيما لشأنهما فسلكا في مسلك سلوكا لطريق الاختصار ، وأيضا التنكير في صِراطٍ للتفخيم فهو دال على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة على صراط لا يكتنه وصفه وهذا شيء لم يعلم قبل ، ولا يرد أن الطريق المستقيم واحد ليس إلا ألا ترى إلى قوله تعالى : فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ لأن لكل نبي شارع منهاجا هو مستقيم وباعتبار الرجوع إلى المرسل تعالى شأنه الكل متحد وباعتبار الاختصاص بالمرسل والشرائع مختلف فصح أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة إلخ. وأيضا هو فرض والفرض تعظيم هذا الصراط بأنه لا صراط أقوم منه واقعا أو مفروضا ولا نظر إلى أن هنالك آخر أولا ، وهذا قريب من أسلوب مثلك لا يفعل كذا فافهم ولا تغفل.
وقوله تعالى : تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ نصب على المدح أو على المصدرية لفعل محذوف أي نزل تنزيل.
وقرأ جمع من السبعة وأبو بكر وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والمصدر بمعنى المفعول أي هو تنزيل أي منزل العزيز الرحيم ، والضمير للقرآن ويجوز إبقاؤه على أصله يجعله عين التنزيل ، وجوز أن يكون خبر يس إن كان المراد بها السورة والجملة القسمية معترضة ، والقسم لتأكيد المقسم عليه والمقسم به اهتماما فلا يقال : إن الكفار ينكرون القرآن فكيف يقسم به لإلزامهم.
وقرأ أبو حيوة واليزيدي والقورصي عن أبي جعفر وشيبة بالخفض على البدلية من الْقُرْآنِ أو الصوفية له.
وأيا ما كان ففيه إظهار لفخامة القرآن الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بوصفه بالحكمة ، وفي تخصيص الاسمين الكريمين المعربين عن الغلبة الكاملة والرحمة الفاضلة حث على الإيمان به ترهيبا وترغيبا وإشعارا بأن تنزيله ناشىء عن غاية الرحمة حسبما أشار إليه قوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء : 107] لِتُنْذِرَ متعلق بتنزيل أو بفعله المضمر على الوجه الثاني في إعرابه أي نزل تنزيل العزيز الرحيم لتنذر به أو بما يدل عليه لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي أرسلت أو إنك مرسل لتنذر قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي لم تنذر آباؤهم على ما روي عن قتادة فما

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 386
نافية والجملة صفة قَوْماً مبينة لغاية احتياجهم إلى الإنذار ، والمراد بالإنذار الأعلام أو التخويف ومفعوله الثاني محذوف أي عذابا لقوله تعالى : نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النبأ : 40] والمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون وإلا فالأبعدون قد أنذرهم إسماعيل عليه السّلام وبلغهم شريعة إبراهيم عليه السّلام.
وقد كان منهم من تمسك بشرعه على أتم وجه ثم تراخى الأمر وتطاول المدد ، فلم يبق من شريعته عليه السّلام إلا الاسم. وفي البحر الدعاء إلى اللّه تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة نبينا صلّى اللّه عليه وسلم والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم ولا آباءهم القريبين. وأما أن النذارة انقطعت فلا ، ولما شرعت آثارها ندرس بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلم وما ذكره المتكلمون من حال أهل الفترات فهو على حسب الفرض ا ه.
وعليه فالمعنى ما أنذر آباءهم رسول أي لم يباشرهم بالإنذار لا أنه لم ينذرهم منذر أصلا فيجوز أن يكون قد أنذرهم من ليس بنبي كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى : وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر : 24] وليس في ذلك إنكار الفترة المذكورة في قوله تعالى : عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة :
19] لأنها فترة إرسال وانقطاعها زمانا لا فترة إنذار مطلقا ، وعن عكرمة ما بمعنى الذي ، وجوز أن تكون موصوفة وهي على الوجهين مفعول ثان لتنذر أي لتنذر قوما الذي أنذره أو شيئا أنذره الرسل آباءهم الأبعدين ، وقال ابن عطية :
يحتمل أن تكون ما مصدرية فتكون نعتا لمصدر مؤكد أي لتنذر قوما إنذارا مثل إنذار الرسل آباءهم الأبعدين ، وقيل هي زائدة وليس بشيء فَهُمْ غافِلُونَ هو على الوجه الأول متفرع على نفي الإنذار ومتسبب عنه والضمير للفريقين أي لم ينذر آباؤهم فهم جميعا لأجل ذلك غافلون ، وعلى الأوجه الباقية متعلق بقوله تعالى : لِتُنْذِرَ أو بما يفيده إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وارد لتعليل إنذاره عليه الصلاة والسلام أو إرساله بغفلتهم المحوجة إليه نحو اسقه فإنه عطشان على أن الضمير للقوم خاصة فالمعنى فهم غافلون عنه أي عما أنذر آباؤهم.
وقال الخفاجي : يجوز تعلقه بهذا على الأول أيضا وتعلقه بقوله تعالى : لِتُنْذِرَ على الوجوه وجعل الفاء تعليلية والضمير لهم أو لآبائهم ا ه ، ولا يخفى عليك أن المنساق إلى الذهن ما قرر أولا لَقَدْ حَقَّ جواب لقسم محذوف أي واللّه لقد ثبت ووجب الْقَوْلُ الذي قلته لإبليس يوم قال : لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : 39 ، ص :
82] وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود : 119 ، السجدة : 13] عَلى أَكْثَرِهِمْ متعلق بحق.
والمراد سبق في علمي دخول أكثرهم فيمن أملأ منهم جهنم وهم تبعة إبليس كما يشير إليه تقديم الجنة على الناس وصرح به قوله تعالى : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص : 85].
ولا مانع من أن يراد بالقول لكن المشهور ما تقدم ، وظاهر كلام الراغب أن المراد بالقول علم اللّه تعالى بهم ولا حاجة إلى التزام ذلك ، وقيل : الجار متعلق بالقول ويقال قال عليه إذا تكلم فيه بالشر ، والمراد لقد ثبت في الأزل عذابي لهم ، وفيه ما فيه ، ويؤيد تعلقه بحق قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس : 96] ، ونقل أبو حيان أن المعنى حق القول الذي قاله اللّه تعالى على لسان الرسل عليهم السّلام من التوحيد وغيره وبأن برهانه وهو كما ترى.
فَهُمْ أي الأكثر لا يُؤْمِنُونَ بإنذارك إياهم ، والفاء تفريعية داخلة على الحكم المسبب عما قبله فيفيد أن ثبوت القول عليهم علة لتكذيبهم وكفرهم وهو علة له باعتبار سبق العلم بسوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر فإن علمه تعالى لا يتعلق بالأشياء إلا على ما هي عليه في أنفسها ومآله إلى أن سوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر علة لتكذيبهم وعدم إيمانهم بعد الإنذار فليس هناك جبر محض ولا أن المعلوم تابع للعلم.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 387
وقال بعضهم : الفاء إما تفريعية وكون ثبوت القول علة لعدم إيمانهم مبني على أن المعلوم تابع للعلم وإما تعليلية مفيدة أن عدم الإيمان علة لثبوت القول بناء على أن العلم تابع للمعلوم ولا يلزم الجبر على الوجهين ، أما على الثاني فظاهر ، وأما على الأول فلأن العلم ليس علة مستقلة عند القائل بذلك بل لاختيارهم وكسبهم مدخل فيه فتأمل.
والتفريع هو الذي أميل إليه إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ جمع عنق بالضم وبضمتين وهو الجيد ويقال عنيق كأمير وعنق كصرد أَغْلالًا جمع غل بالضم وهو على ما قيل ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد ، وفي البحر الغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة.
وذكر الراغب أنه ما يقيد به فتجعل الأعضاء وسطه ، وأصله من الغلل تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر وقد يقال له الغيل ، وكأن في الكلام عليه قلبا أي جعلنا أعناقهم في إغلال كما تقول جعلت الخاتم في إصبعي أي جعلت إصبعي في الخاتم ، وجوز أن يكون على حد لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه : 71] والتنوين للتعظيم والتهويل أي أغلالا عظيمة هائلة ، وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة مما يؤيد ذلك فَهِيَ أي الأغلال كما هو الظاهر إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن بالتحريك مجتمع اللحيين من أسفلهما ، وأل للعهد أو عوض عن المضاف إليه والظرف متعلق بكون خاص خبر هي أي فهي واصلة أو منتهية إلى أذقانهم ، والفاء للتفريع ، وقيل : لمجرد التعقيب بناء على عدم حمل التنوين على التعظيم والتهويل ، وقوله تعالى : فَهُمْ مُقْمَحُونَ نتيجة فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فالفاء تفريعية أيضا ، والمقمح على ما في النهاية الذي يرفع رأسه ويغض بصره وكأنه أراد المجهول بحيث يرفع إلخ.
وقال أبو عبيدة : يقال قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب والجمع قماح ، ومنه قول بشر يصف سفينة أخذهم الميد فيها :
ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح
وقال الليث : هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود ، ومنه قيل للكانونين شهرا قماح بضم القاف وكسرها لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده ، وقال الراغب القمح رفع الرأس لسف الشيء المتخذ من القمح أي البر إذا جرى في السنبل من لدن الإنضاج إلى حين الاكتناز ثم يقال لرفع الرأس كيفما كان قمح ، وقمح البعير رفع رأسه وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف ، وقيل : المقمح الذي يجذب ذقنه حتى يصير في صدره ثم يرفع ، وقال مجاهد : القامح الرافع الرأس الواضع يده على فيه ، وقال الحسن : هو الطامح ببصره إلى موضع قدمه ، وظاهره يقتضي أن يكون هناك نكس للرأس والمعروف في القمح الرفع ، ووجه التفريع أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يطأطىء ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحا لا سيما إذا كان الغل عظيما ، وقال ابن عطية : إن الإغلال عريضة تبلغ بحروفها الأذقان أي فيحصل القمح ، وكلام ابن الأثير يشعر أن القمح لضيق الغل ، وإن أريد جعلنا في كل من أعناقهم أغلالا كان أمر القمح أظهر وأظهر ، وقال البغوي والطبري والزجاج والطبرسي : ضمير هي للأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى لأن الغل يتضمن العنق واليد ولذلك سمي جامعة وما يكون في العنق وحده أو في اليد وحدها لا يسمى غلا فمتى ذكر مع العنق فاليد مرادة أيضا ومتى ذكر مع اليد كما في قراءة ابن عباس «في أيديهم أغلالا» وفي قراءة ابن مسعود «في أيمانهم أغلالا» فالعنق مرادا أيضا ، وهذا ضرب من الإيجاز والاختصار ونظير ذلك قول الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 388
أالخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي لا يأتليني
حيث ذكر الخير وحده وقال أيهما أي الخير والشر ، وقد علم أن الخير والشر يعرضان للإنسان ، واختار الزمخشري ما تقدم ثم قال : والدليل عليه قوله تعالى : فَهُمْ مُقْمَحُونَ ألا ترى كيف جعل الأقماح نتيجة فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف ، وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج ا ه ، وصاحب الانتصاف أراد الانتصار للجماعة فقال : يحتمل أن يكون الفاء في فَهُمْ مُقْمَحُونَ للتعقيب كسابقه أو للتسبب فإن ضغط اليد مع العنق يوجب الإقماح لأن اليد تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن رافعة لها ولأن اليد إذا كانت مطلقة كانت راحة للمغلول فربما يتحيل بها على فكاك الغل فيكون منبها على انسداد باب الحيلة ا ه.
قال صاحب الكشف : والجواب أنه لا فخامة للتعقيب المجرد ، ثم إن ما ذكره الزمخشري وقد أشرنا إليه نحن فيما سبق مستقل في حصول الأقماح فأين التعقيب ، وبه خرج الجواب عن التسبب ، وقوله ولأن اليد إلخ لا يستقل جوابا دون الأولين ا ه ، وعلى العلات رجوع الضمير إلى الأغلال هو الحري بالاعتبار وبلاغة الكتاب الكريم تقتضيه ولا تكاد تلتفت إلى غيره وَجَعَلْنا عطف على جَعَلْنا السابق مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قدامهم سَدًّا عظيما وقيل نوعا من السد وَمِنْ خَلْفِهِمْ من ورائهم سَدًّا كذلك والقدام والوراء كناية عن جميع الجهات فَأَغْشَيْناهُمْ فغطينا بما جعلناه من السد أبصارهم ، وعن مجاهد فَأَغْشَيْناهُمْ فألبسنا أبصارهم غشاوة فَهُمْ بسبب ذلك لا يُبْصِرُونَ لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلا.
وقرأ جمع من السبعة وغيرهم «سدا» بضم السين وهي لغة فيه ، وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق اللّه تعالى فهو بالضم ، وقيل بالعكس. وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وأبو حنيفة ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وابن مقسم «فأغشيناهم» بالعين من العشا وهو ضعف البصر ، ومجموع المتعاطفين من قوله تعالى : إِنَّا جَعَلْنا إلخ تأكيد وتقرير لما دل عليه قوله سبحانه : لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ إلخ من سوء اختيارهم وقبح حالهم فإن جعل اللّه تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن اتباع الرسل عليهم السّلام شامخين برؤوسهم غير خاضعين لما جاؤوا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الاختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقا ذاتيا وطلبته طلبا استعداديا فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه ، وإذا قايست بين ذواتهم ، وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلا لم تكد تجد فرقا ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[النحل : 33] ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه ، وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية ، وفي الانتصاف إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال وكان استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه مشبها بالأقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه ، وقوله تعالى : فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ تتمة للزوم الإقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبها بسد من خلفهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم وفي التيسير جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى استكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى : فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء : 4] ولم يذكر المراد بجعل السد ، وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 389
النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكلية ، واختار بعضهم كون إِنَّا جَعَلْنا إلخ تمثيلا مسوقا لتقرير تصميمهم على الكفر وعدم ارعوائهم عنه فيكون قد مثل حالهم في ذلك بحال الذين غلت أعناقهم ، وجوز في قوله تعالى : وَجَعَلْنا إلخ أن يكون تتمة لذلك وتكميلا له وأن يكون تمثيلا مستقلا فإن جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئا قطعا كاف في الكشف عن كمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات.
وقال أبو حيان الظاهر أن قوله تعالى : إِنَّا جَعَلْنا الآية على حقيقتها لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر سبحانه عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، ولا يضعف هذا كما زعم ابن عطية قوله تعالى : فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ لأن بصر الكافر يومئذ حديد يرى قبح حاله ، ألا ترى إلى قوله سبحانه : وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً [الإسراء : 97] وقوله سبحانه : قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى [طه : 125] فإما أن يكون ذلك حالين وإما أن يكون قوله تعالى : فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق : 22] كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره ، واعترض بعضهم عليه بأنه يلزم أن يكون الكلام أجنبيا في البين وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله تعالى : لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ قد دغدغ فيه ، والإنصاف أنه خلاف الظاهر ، وقال الضحاك : والفراء في قوله تعالى : إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل اللّه تعالى كما قال سبحانه : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء : 29] ولعله جعل الجملة الثانية استعارة لمنعهم عن رؤية الخير والسعي فيه ، ولا يخفى أن كون الكلام على هذا أجنبيا في البين في غاية الظهور ، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة فتأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤوا إلى لنبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا : ننشدك اللّه تعالى والرحم يا محمد قال ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلّى اللّه عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله سبحانه أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلم يؤمن من ذلك النفر أحد
، وروي أن الآيتين نزلتا في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حمل حجرا لينال بها ما يريد برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو يصلي فأثبتت يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر قد لزق بيده فما فكوه إلا بجهد فأخذه مخزومي آخر فلما دنا من الرسول صلّى اللّه عليه وسلم طمس اللّه تعالى بصره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه فقام ثالث فقال : لأشدخن أنا رأسه ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه فقيل له : ما شأنك؟
قال : عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا فحل ما رأيت فحلا أعظم منه حال بيني وبينه فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني
فجعل الغل يكون استعارة عن منع من أراد أذاه عليه الصلاة والسلام وجعل السد استعارة عن سلب قوة الأبصار كما قيل ، وقال السدي : السد ظلمة حالت فمنعت الرؤية ، وجاء في الآثار غير ذلك مما يقرب منه والربط عليها غير ظاهر ، ولعله باعتبار إشارة الآيتين إلى ما هو عليه من التصميم على الكفر وشدة العناد ، ومع هذا الأرجح في نظر البليغ حمل الكلام على غير ما تقتضيه ظواهر الآثار مما سمعت وليس فيها ما ينافيه عند التحقيق فتأمل وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أي مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه حسبما مر تحقيقه في أوائل سورة البقرة ، والظاهر أن العطف على إِنَّا جَعَلْنا وكأنه جيء به للتصريح بما هم عليه في أنفسهم بعد الإشارة إليه فيما تقدم بناء على أنه مما يستتبع الجعل المذكور.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 390
وقريب منه القول بأن ما تقدم لبيان حالهم المجعول وهذا لبيان حالهم من غير ملاحظة جعل وفيه تمهيد لقوله تعالى : إِنَّما تُنْذِرُ إلخ. وفي إرشاد العقل السليم هو بيان لشأنهم بطريق التصريح أثر بيانه بطريق التمثيل ، وفي الحواشي الخفاجية لم يورد بالفاء مع ترتبه على ما قبله إما تفويضا لذهن السامع أو لأنه غير مقصود هنا انتهى.
وانظر هل تجد مانعا من العطف على لا يُبْصِرُونَ ليكون خبرا لهم أيضا داخلا في حيز الفاء والتفريع على ما تقدم كأنه قيل : فهم سواء عليهم إلخ ، واختلاف الجملتين بالاسمية والفعلية لا أراك تعده مانعا ، وقوله تعالى : لا يُؤْمِنُونَ استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء أو حال مؤكدة له أو بدل منه.
ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقب ببيان من يتأثر منه فقال سبحانه إِنَّما تُنْذِرُ أي إنذارا مستتبعا للأثر مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن ما روي عن قتادة بالتأمل فيه والعمل به ، وقيل : الوعظ ، واتبع بمعنى يتبع ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو المعنى إنما ينفع إنذارك المؤمنين الذين اتبعوا ، ويكون المراد بمن اتبع المؤمنين وبالإنذار الإنذار عما يفرط منهم بعد الاتباع فلا يلزم تحصيل الحاصل ، وقيل : المراد من اتبع في علم اللّه تعالى وهم الأقلون الذين لم يحق القول عليهم وَخَشِيَ الرَّحْمنَ أي عقابه ولم يغتر برحمته عزّ وجلّ فإنه سبحانه مع عظم رحمته أليم العذاب كما نطق به قوله تعالى : نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر : 49] وأن عذابي هو العذاب الأليم.
ومما قرر يعلم سر ذكر الرحمن مع الخشية دون القهار ونحوه بِالْغَيْبِ حال من المضاف المقدر في نظم الكلام كما أشرنا إليه أي خشي عقاب الرحمن حال كون العقاب ملتبسا بالغيب أي غائبا عنه ، وحاصله خشي العقاب قبل حلوله ومعاينة أهواله. ويجوز أن يكون حالا من فاعل خَشِيَ أي خشي عقاب الرحمن غائبا عن العقاب غير مشاهد له أو خشي غائبا عن أعين الناس غير مظهر الخشية لهم لأنها علانية قلما تسلم عن الرياء ، وبعضهم فسر الغيب بالقلب وجعل الجار متعلقا بخشي أي خشي في قلبه ولم يكن مظهرا للخشية وليس بخاش ، قيل : ويجوز جعله حالا من الرَّحْمنَ ولا يخفى حاله ، والكلام في خشي على طرز الكلام في اتَّبَعَ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ عظيمة لما سلف ، وقيل : لما يفرط منه وَأَجْرٍ كَرِيمٍ حسن لا يقادر قدره لما أسلف ، والفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية. وفي البحر لما أجدت فيه النذارة فبشره إلخ فلا تغفل ، وعن قتادة تفسير الأجر الكريم بالجنة والمراد نعيمها الشامل لما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وأجل جميع ذلك رؤية اللّه عزّ وجلّ.
وقوله سبحانه : إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى إلخ تذييل عام للفريقين المصممين على الكفر والمشفعين بالإنذار ترهيبا وترغيبا ووعيدا ووعدا ، وتكرير الضمير لإفادة الحصر أو للتقوية ، وما ألطف هذا الضمير الذي عكسه كطرده هاهنا ، وضمير العظمة للإشارة إلى جلالة الفعل ، والتأكيد للاعتناء بأمر الخبر أو لرد الإنكار فإن الكفرة كانوا يقولون : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون : 37] أي إنا نحن نحيي الأموات جميعا ببعثهم يوم القيامة وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ما أسلفوه من الأعمال الصالحة والطالحة وَآثارَهُمْ التي أبقوها بعدهم من الحسنات كعلم علموه أو كتاب ألفوه أو حبيس وقفوه أو بناء في سبيل اللّه تعالى بنوه وغير ذلك من وجوه البر ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان وترتيب مبادئ الشر والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشرور التي أحدثوها وسنوها بعدهم للمفسدين.
أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد اللّه البجلي قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سن سنّة حسنة فله أجرها وأجر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...