الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج3.وج4.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة ) المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

3. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 323
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ظرف ل قالُوا والجملة عطف على قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ولا غرض يتعلق بالقائل ، فلذا بني الفعل لما لم يسم فاعله ، والظاهر أنه من جانب المؤمنين.
آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الجمهور على أنه القرآن ، وقيل : سائر ما أنزل من الكتب الإلهية إجراء لما على العموم «ومع هذا» جلّ الغرض الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم منه إشعارا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما في حيز الصلة وموافقته له في المضمون ، وتنبيها على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيمانا بما أنزل اللّه قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها ، وحذف الفاعل للعلم به إذ من المعلوم أنه لا ينزل الكتب إلا هو سبحانه ، ولجريان ذكره في الخطاب ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل - وهو الظاهر - وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيا وحسدا على نزوله على من ليس منهم - وإما أنفسهم - ومعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما في المنزل من الأحكام ، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن - ودسائس اليهود مشهورة - أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ عطف على قالوا : والتعبير بالمضارع لحكاية الحال استغرابا للكفر بالشيء بعد العلم بحقيته أو للتنبيه على أن كفرهم مستمر إلى زمن الإخبار ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 324
وقيل : استئناف - وعليه ابن الأنباري - ويجوز أن يكون حالا إما على مذهب من يجوز وقوع المضارع المثبت حالا مع الواو ، وإما على تقدير مبتدأ أي وهم يكفرون ، والتقييد بالحال حينئذ لإفادة بيان شناعة حالهم بأنهم متناقضون في إيمانهم لأن كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان به - وهذا أدخل في رد مقالتهم - ولهذا اختار هذا الوجه بعض الوجوه - ووراء - في الأصل مصدر لاشتقاق المواراة والتواري منه ، والمزيد فرع المجرد إلا أنه لم يستعمل فعله المجرد أصلا ثم جعل ظرف مكان ويضاف إلى الفاعل فيراد به المفعول وإلى المفعول فيراد به الفاعل أعني الساتر ، ولصدقه على الضدين - الخلف ، والأمام - عد من الأضداد وليس موضوعا لهما ، وفي الموازنة للأموي تصريح بأنه ليس منها وإنما هو من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء - خلفا كان أو قداما - إذا لم تره فأما إذا رأيته فلا يكون وراءك. والمراد هنا بما بعده قاله قتادة - أو بما سواه - وبه فسر وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء : 24] وأريد به القرآن كما عليه الجمهور. وقال الواحدي هو والإنجيل ، واحتمال أن يراد بما وراءه باطن معاني ما أنزل عليهم التي هي وراء ألفاظها ، وفيه إشعار بأن إيمانهم بظاهر اللفظ ليس بشيء إلا أن يراد بذلك الباطن القرآن ولا يخفى بعده.
وَهُوَ الْحَقُّ الضمير عائد لما وراءه حال منه ، وقيل : من فاعل يكفرون والجملة الحالية المقترنة بالواو لا يلزم أن يعود منها ضمير إلى ذي الحال - كجاء زيد والشمس طالعة - وعلى فرض اللزوم ينزل وجود الضمير فيما هو من تتمتها منزلة وجوده فيها ، والمعنى وهم مقارنون لحقيته أي عالمون بها وهو أبلغ في الذم من كفرهم بما هو حق في نفسه ، والأول أولى لظهوره ولا تفوت تلك الأبلغية عليه أيضا إذ تعريف الحق للإشارة إلى أن المحكوم عليه مسلم الاتصاف به معروفة من قبيل - والدك العبد - فيفيد أن كفرهم به كان لمجرد العناد ، وقيل : التعريف لزيادة التوبيخ والتجهيل بمعنى أنه خاصة الحق الذي يقارن تصديق كتابهم ولولا الحال أعني مُصَدِّقاً لم يستقم الحصر لأنه في مقابلة كتابهم وهو حق أيضا ، وفيه أنه لا يستقيم ولو لوحظ الحال بناء على تخصيص ذي الضمير بالقرآن لأن الإنجيل حق مصدق للتوراة أيضا ، نعم لو أريد بالحق الثابت المقابل للمنسوخ لاستقام الحصر مطلقا إلا أنه بعيد مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ حال مؤكدة لأن كتب اللّه تعالى يصدق بعضها بعضا ، فالتصديق لازم لا ينتقل ، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه ، ولهذا تضمنت رد قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها ، واحتمال أن يراد مما معهم التوراة والإنجيل كما في البحر لأنهما أنزلا على بني إسرائيل وكلاهما غير مخالف للقرآن مخالف لما يقتضيه الذوق سباقا وسياقا.
قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ؟ أمر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول ذلك تبكيتا لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوّغه ، ويحتمل أن يكون أمرا لمن يريد جدالهم كائنا من كان والفاء جواب شرط مقدر أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «فلم» إلخ ، و«ما» استفهامية حذفت ألفها لأجل - لام - الجر ويقف البزي في مثل ذلك بالهاء وغيره بغيرها ، وإيراد صيغة المضارع مع الظرف الدال على المضي للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية ، وقيل : لحكاية تلك الحال ، والمراد بالقتل معناه الحقيقي وإسناده إلى الأخلاف المعاصرين له صلى اللّه تعالى عليه وسلم مع أن صدوره من الأسلاف مجاز للملابسة بين الفاعل الحقيقي وما أسند إليه ، وهذا كما يقال لأهل قبيلة - أنتم قتلتم زيدا - إذا كان القاتل آباءهم ، وقيل : القتل مجاز عن الرضا أو العزم عليه ، ولا يخفى أن الاعتراض على الوجه الأول أقوى تبكيتا منه على الآخرين فتدبر ، وفي إضافة أَنْبِياءَ إلى الاسم الكريم تشريف عظيم وإيذان بأنه كان ينبغي لمن جاء من عند اللّه تعالى أن يعظم وينصر لا أن يقتل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهويل أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فلم تقتلونهم وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 325
حذف ثقة بما أثبت في الأخرى على طريق الاحتباك ، وقيل : إن المذكور قبل جواب لهذا الشرط بناء على جواز تقديمه وهو رأي الكوفيين وأبى زيد ، واختاره في البحر ، وقال الزجاج : إِنْ هنا نافية ولا يخفى بعده.
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ داخل تحت الأمر فهو من تمام التبكيت والتوبيخ وكذا ما يأتي بعد لا تكرير لما قص من قبل ، والمراد بِالْبَيِّناتِ الدلائل الدالة على صدقه عليه السلام في دعوته والمعجزات المؤيدة لنبوته كالعصا ، واليد ، وانفلاق البحر مثلا ، وقيل : الأظهر أن يراد بها الدلائل الدالة على الوحدانية فإنه أدخل في التقريع بما بعد ، وعندي الحمل على العموم بحيث يشمل ذلك أيضا أولى وأظهر ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي الذي صنعه لكم السامري من حليكم إلها مِنْ بَعْدِهِ أي بعد مجيء موسى عليه السلام بها ومن عد التوراة وانفجار الماء منها لم يرد الجميع بل الجنس لأن ذلك كان بعد قصة العجل وكلمة ثُمَّ على هذا للاستبعاد لئلا يلغو القيد. وقد يقال :
الضمير لمتقدم معنى وهو الذهاب إلى الطور فكلمة ثُمَّ على حقيقتها ، وعد ما ذكرنا من البينات حينئذ ظاهر ، ويشير هذا العطف على «1» أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات وذلك أعظم ذنبا وأكثر شناعة لحالهم ، والتزم بعضهم - رجوع الضمير إلى البينات بحذف المضاف أي من بعد تدبر الآيات ليظهر ذلك ، وعود الضمير إلى العجل ، والمراد بعد وجوده أي عبدتم الحادث الذي حدث بمحضركم ليكون فيه التوبيخ العظيم - لا يخفى ما فيه من البعد العظيم المستغنى عنه بما أشرنا إليه وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ أي واضعون الشيء في غير محله اللائق به أو مخلون بآيات اللّه تعالى ، والجملة حال مؤكدة للتوبيخ والتهديد وهي جارية مجرى القرينة على إرادة العبادة من الاتخاذ ، وفيها تعريض بأنهم صرفوا العبادة عن موضعها الأصلي إلى غير موضعها وإيهام المبالغة من حيث إن إطلاق الظلم يشعر بأن عبادة العجل كل الظلم وأن من ارتكبها لم يترك شيئا من الظلم واختار بعضهم كونها اعتراضا لتأكيد الجملة بتمامها دون تعرض لبيان الهيئة الذي تقتضيه الحالية أي وأنتم قوم عادتكم الظلم واستمر منكم ، ومنه عبادة العجل ، والذي دعاه إلى ذلك زعم أنه يلزم على الحالية أن يكون تكرارا محضا فإن عبادة العجل لا تكون إلا ظلما بخلافه على هذا فإنه يكون بيانا لرذيلة لهم تقتضي ذلك ، وفيه غفلة عما ذكرنا ، وإذا حمل الاتخاذ على الحقيقة نحو - اتخذت خاتما - تكون الحالية أولى بلا شبهة لأن الاتخاذ لا يتعين كونه ظلما إلا إذا قيد بعبادته كما لا يخفى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي قلنا لهم خذوا ما أمرتكم به في التوراة بجد وعدم فتور وَاسْمَعُوا - أي سماع تقبل وطاعة إذ لا فائدة في الأمر بالمطلق بعد الأمر بالأخذ بقوة بخلافه على تقدير التقييد فإنه يؤكده ويقرره لاقتضائه كمال إبائهم عن قبول ما آتاهم إياه ولذا رفع
الجبل عليهم وكثيرا ما يراد من السماع القبول ومن ذلك سمع اللّه لمن حمده وقوله :
دعوت اللّه حتى خفت أن لا يكون اللّه «يسمع» ما أقول
قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي سمعنا قولك خُذُوا وَاسْمَعُوا وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة ، وليس هذا جوابا ل اسْمَعُوا باعتبار تضمنه أمرين لأنه يبقى خذوا بلا جواب ، وذهب الجم إلى ذلك وأوردوا هنا سؤالا وجوابا ، حاصل الأول أن السماع في الأمر إن كان على ظاهره فقولهم سمعنا طاعة وعصينا مناقض وإن كان القبول فإن كان في الجواب كذلك كذب وتناقض وإلا لم يكن له تعلق بالسؤال ، وزبدة الجواب أن السماع هناك مقيد والأمر مشتمل على أمرين سماع قوله وقبوله بالعمل فقالوا نمتثل أحدهما دون الآخر ، ومرجعه إلى القول
___________
(1) كذا في الأصل ولعلها إلى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 326
بالموجب ، ونظيره يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة : 61] وقيل : المعنى قالوا بلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا ، أو سمعنا أحكاما قبل وعصينا فنخاف أن نعصي بعد سماع قولك هذا ، وقيل : سَمِعْنا جواب اسْمَعُوا وَعَصَيْنا جواب خُذُوا وقال أبو منصور : إن قولهم عصينا ليس على أثر قولهم سَمِعْنا بل بعد زمان كما في قوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فلا حاجة إلى الدفع بما ذكر ، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى جميع ذلك بعد ما سمعت كما لا يخفى.
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ عطف على قالُوا أو مستأنف أو حال بتقدير قد أو بدونه. والعامل قالُوا و- الإشراب - مخالطة المائع الجامد ، وتوسع فيه حتى صار في اللونين ، ومنه بياض مشرب بحمرة ، والكلام على حذف مضاف أي حب العجل ، وجوز أن يكون العجل مجازا عن صورته فلا يحتاج إلى الحذف ، وذكر - القلوب - لبيان مكان الإشراب ، وذكر المحل المتعين يفيد مبالغة في الإثبات والمعنى داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما داخل الصبغ الثوب وأنشدوا :
إذا ما القلب «أشرب» حب شيء فلا تأمل له عنه انصرافا
وقيل : - أشربوا - من أشربت البعير إذا شددت في عنقه حبلا كأن العجل شد في قلوبهم لشغفهم به وقيل : من الشراب ومن عادتهم أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض استعاروا له اسم الشراب إذ هو أبلغ منساغ في البدن ، ولذا قال الأطباء : الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن ، وقال الشاعر :
تغلغل حيث لم يبلغ «شراب» ولا حزن ولم يبلغ سرور
وقيل : من الشرب حقيقة ، وذلك أن السدي نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم اشربوا فشربوا جميعهم فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه ، ولا يخفى أن قوله تعالى : فِي قُلُوبِهِمُ يبعد هذا القول جدا على أن ما قص اللّه تعالى لنا في كتابه عما فعل موسى عليه السلام بالعجل يبعد ظاهر هذه الرواية أيضا ، وبناء - أشربوا - للمفعول يدل على أن ذلك فعل بهم ولا فاعل سواه تعالى. وقالت المعتزلة : هو على حد قول القائل - أنسيت كذا - ولم يرد أن غيره فعل ذلك به وإنما المراد نسيت وأن الفاعل من زين ذلك عندهم ودعاهم إليه كالسامري بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم لأنهم كانوا مجسمة يجوزون أن يكون جسم من الأجسام إلها أو حلولية يجوزون حلوله فيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم ، وثعبان العصا كان لا يبقى زمانا ممتدا ولا يبعد من أولئك أن يعتقدوا عجلا صنعوه على هيئة البهائم إلها وإن شاهدوا ما شاهدوا من موسى عليه السلام لما ترى من عبدة الأصنام الذين كان أكثرهم أعقل من كثير من بني إسرائيل ، وقيل :
الباء بمعنى مع أي مصحوبا بكفرهم فيكون ذلك كفرا على كفر.
قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أي بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون ، وإسناد الأمر إلى الإيمان وإضافته إلى ضميرهم للتهكم كما في قوله تعالى : أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود : 87] والمخصوص بالذم محذوف - أي قتل الأنبياء - وكذا وكذا ، وجوّز أن يكون المخصوص مخصوصا بقولهم : عصينا أمرك ، وأراه على القرب بعيدا.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال لها ، وجواب الشرط ما فهم من قوله تعالى : فَلِمَ تَقْتُلُونَ إلى آخر الآيات المذكورة في رد دعواهم الإيمان ، أو الجملة الانشائية السابقة - إما بتأويل أو بلا تأويل - وتقرير ذلك إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ما رخص لكم إيمانكم بالقبائح التي فعلكم ، بل منع عنها فتناقضتم في دعواكم له فتكون باطلا ، أو إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بها ف بِئْسَما أمركم به إِيمانُكُمْ بها أو فقد أمركم إيمانكم بالباطل ، لكن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 327
الإيمان بها لا يأمر به فإذن لستم بمؤمنين ، والملازمة بين الشرط والجزاء «على الأول» بالنظر إلى نفس الأمر ، وإبطال الدعوى بلزوم التناقض «وعلى الثاني» تكون الملازمة بالنظر إلى حالهم من تعاطي القبائح مع ادعائهم الإيمان ، والمؤمن من شأنه أن لا يتعاطى إلا ما يرخصه إيمانه ، وإبطال التالي بالنظر إلى نفس الأمر - واستظهر بعضهم في هذا - ونظائره كون الجزاء معرفة السابق أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تعرفون أنه بئس المأمور به ، وقيل : إِنْ نافية ، وقيل : للتشكيك - وإليه يشير كلام الكشاف - وفيه أن المقصد إبطال دعوتهم بإبراز إيمانهم القطعي العدم منزلة ما لا قطع بعدمه للتبكيت والإلزام - لا للتشكيك - على أنه لم يعهد استعمال إِنْ لتشكيك السامع - كما نص عليه بعض المحققين - وقرأ الحسن ومسلم بن جندب - بهو إيمانكم - بضم الهاء ووصلها بواو قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ رد لدعوى أخرى لهم بعد رد دعوى - الإيمان بما أنزل عليهم - ولاختلاف الغرض لم يعطف أحدهما على الآخر مع ظهور المناسبة المصححة للذكر ، والآية نزلت - فيما حكاه ابن الجوزي - عند ما قالت اليهود : إن اللّه تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع : سبب نزولها قولهم : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ [البقرة : 111] إلخ ونَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ [المائدة : 18] إلخ ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ [البقرة : 80 ، آل عمران : 24] إلخ ، وروي مثله عن قتادة. والضمير في قُلْ إما للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو لمن يبغي إقامة الحجة عليهم ، والمراد من الدَّارُ الْآخِرَةُ الجنة - وهو الشائع - واستحسن في البحر تقدير مضاف أي نعيم الدَّارُ الْآخِرَةُ.
عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه ، وقيل : المراد - بالعندية - المكانة والمرتبة والشرف ، وحملها - على عندية المكان - كما قيل به - احتمالا - بعيد خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ أي مخصوصة بكم كما تزعمون - والخالص - الذي لا يشوبه شيء ، أو ما زال عنه شوبه ، ونصب خالِصَةً على الحال من الدَّارُ الذي هو اسم كان ولَكُمُ خبرها قدم للاهتمام - أو لإفادة الحصر - وما بعده للتأكيد ، هذا إن جوّز مجيء الحال من اسم كان وهو الأصح ، ومن لم يجوّز بناء على أنه ليس بفاعل جعلها حالا من الضمير المستكن في الخبر ، وقيل : خالِصَةً هو الخبر ولَكُمُ ظرف لغو لكان أو ل خالِصَةً ولا يخفى بعده - فإنه تقييد للحكم قبل مجيئه - ولا وجه لتقديم متعلق الخبر على الاسم مع لزوم توسط الظرف بين الاسم والخبر ، وأبعد المهدوي ، وابن عطية أيضا فجعلا خالِصَةً حالا وعِنْدَ اللَّهِ هو الخبر ، مع أن الكلام لا يستقل به وحده. ودُونِ هنا للاختصاص وقطع الشركة ، يقال : هذا لي دونك ، وأنت تريد لا حق لك فيه معي ولا نصيب ، وهو متعلق ب خالِصَةً والمراد ب النَّاسِ الجنس وهو الظاهر ، وقيل : المراد بهم النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمسلمون ، وقيل : النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وحده - قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - قالوا : ويطلق النَّاسِ ويراد به الرجل الواحد ، ولعله لا يكون إلا مجازا بتنزيل الواحد منزلة الجماعة فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الجنة خالِصَةً لكم ، فإن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار ، وأحب أن يخلص من المقام في دار الأكدار ، كما
روي عن عليّ كرم اللّه تعالى وجهه أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة ، فقال له الحسن : ما هذا بزي المحاربين ، فقال : يا بني - لا يبالي أبوك سقط على الموت ، أم سقط عليه الموت -
وكان عبد اللّه بن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم :
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
وقال عمار بصفين : غدا نلقى الأحبة ، محمدا وصحبه. وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال : حبيب جاء على فاقة. وعنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال : «يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل»
ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الاشتياق إلى دار النعيم ولقاء الكريم غير منهي عنه ، إنما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 328
المنهي عنه تمنيه لأجل ضر أصابه - فإنه آثر الجزع وعدم الرضا بالقضاء - وفي الخبر «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، وإن كان ولا بد فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي»
والمراد - بالتمني - قول الشخص : ليت كذا ، وليت من أعمال القلب أو الاشتهاء بالقلب ومحبة الحصول مع القول ، فمعنى الآية سلوا الموت باللسان - قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أو اشتهوه بقلوبكم وسلوه بألسنتكم - قاله قوم - وعلى التقديرين - الأمر بالتمني حقيقة ، واحتمال أن يكون المراد - تعرضوا للموت ولا تحترزوا عنه كالمتمني فحاربوا من يخالفكم ولا تكونوا من أهل الجزية والصغار ، أو كونوا على وجه يكون المتمنون للموت المشتهون للجنة عليه من العمل الصالح - مما لا تساعده الآثار ،
فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما موقوفا «لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه»
وأخرج البيهقي عنه مرفوعا «لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه»
والبخاري مرفوعا عنه أيضا «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا»
وقرأ ابن أبي إسحاق فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ - بكسر الواو - وحكى الحسن بن إبراهيم عن أبي عمرو - فتحها - وروي عنه أيضا اختلاس ضمتها وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً الظاهر أنه جملة مستأنفة معترضة غير داخلة تحت الأمر سيقت من جهته تعالى لبيان ما يكون منهم من الإحجام الدال على كذبهم في دعواهم ، والمراد لن يتمنوه ما عاشوا ، وهذا خاص بالمعاصرين له صلى اللّه تعالى عليه وسلم على ما روي عن نافع رضي اللّه تعالى عنه قال : خاصمنا يهودي وقال : إن في كتابكم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إلخ ، فأنا أتمنى الموت ، فما لي لا أموت ، فسمع ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما فغضب ، فدخل بيته وسل سيفه وخرج ، فلما رآه اليهودي فرّ منه ، وقال ابن عمر : أما واللّه لو أدركته لضربت عنقه ، توهم هذا الكلب اللعين الجاهل أن هذا لكل يهودي أو لليهود في كل وقت لا إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندون ويجحدون نبوة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعد أن عرفوا ، وكانت المحاجة معهم باللسان دون السيف.
ويؤيد هذا ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفا «لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات» وهذه الجملة إخبار بالغيب ومعجزة له صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وفيها دليل على اعترافهم بنبوّته صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأنهم لو لم يتيقنوا ذلك ما امتنعوا من التمني ، وقيل : لا دليل ، بل الامتناع كان بصرف الصرفة كما قيل في عدم معارضة القرآن ، والقول بأنه كيف يكون ذلك معجزة مع أنه لا يمكن أن يعلم أنه لم يتمن أحد ، والتمني أمر قلبي لا يطلع عليه ، مجاب عنه بأنا لا نسلم أن المراد بالتمني هنا الأمر القلبي ، بل هو أن يقول : ليت كذا ونحوه كما مر آنفا ، ولو سلم أنه أمر قلبي فهذا مذكور على طريق المحاجة وإظهار المعجزة فلا يدفع إلا بالإظهار والتلفظ كما إذا قال رجل لامرأته : أنت طالق إن شئت أو أحببت ، فإنه يعلق بالإخبار لا بالإضمار ، فحيث ثبت عدم تلفظهم بالإخبار ، وبأنه لو وقع لنقل واشتهر لتوفر الدواعي إلى نقله لأنه أمر عظيم يدور عليه أمر عظيم يدور عليه أمر النبوّة ، فإنه بتقدير عدمه يظهر صدقه ، وبتقدير حصوله يبطل القول بنبوته ثبت كونه معجزة أيده بها ربه ، ومن حمل التمني على المجاز لا يرد عنده هذا السؤال ، ولا يحتاج إلى هذا الجواب ، وقد علمت ما فيه.
وذهب جمهور المفسرين إلى عموم حكم الآية لجميع اليهود في جميع الأعصار ، ولست ممن يقول بذلك وإن ارتضاه الجم الغفير ، وقالوا : إنه المشهور الموافق لظاهر النظم الكريم ، اللهم إلا أن يكون ذلك بالنسبة إلى جميع اليهود المعتقدين نبوّته صلى اللّه تعالى عليه وسلم الجاحدين لها في جميع الأعصار - لا بالنسبة إلى اليهود مطلقا في جميعها - ومع هذا لي فيه نظر بعد بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار كالكفر بمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والقرآن ، وقتل الأنبياء ، و«ما» موصولة ، والعائد محذوف أو مصدرية ولا حذف ، واليد كناية عن نفس الشخص ، ويكنى بها عن القدرة أيضا لما أنها من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه ، ومدار أكثر منافعه ، ولا يجعل الإسناد مجازيا واليد على حقيقتها فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم كتحريف التوراة ليشمل ما قدموا بسائر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 329
الأعضاء ، وهو أبلغ في الذم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تذييل للتهديد والتنبيه على أنهم ظالمون في ادعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم ، والمراد - بالعلم - إما ظاهر معناه ، أو أنه كني به عن المجازاة - وأل - إما للعهد وإيثار الإظهار على الإضمار للذم ، وإما للجنس فيدخل المعهودون فيه على طرز ما تقدم.
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ الخطاب للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، و- تجد - من وجد بعقله بمعنى علم المتعدية إلى مفعولين ، والضمير مفعول أول ، وأَحْرَصَ مفعول ثان ، واحتمال أنها من وجد بمعنى لقي وأصاب فتتعدى إلى واحد ، وأَحْرَصَ حال لا يتأتى على مذهب من يقول إن إضافة أفعل محضة كما سيأتي ، والضمير عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت ، وقيل : على جميعهم ، وقيل : على علماء بني إسرائيل و- أل - في الناس للجنس ، وهو الظاهر ، وقيل : للعهد ، والمراد جماعة عرفوا بغلبة الحرص عليهم ، وتنكير حَياةٍ لأنه أريد بها فرد نوعي ، وهي الحياة المتطاولة ، فالتنوين للتعظيم ، ويجوز أن يكون للتحقير ، فإن الحياة الحقيقية هي الأخروية وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت : 64] ويجوز أن يكون التنكير للإبهام ، بل قيل : إنه الأوجه أي على حياة مبهمة غير معلومة المقدار ، ومنه يعلم حرصهم على الحياة المتطاولة من باب الأولى وجوز أبو حيان أن يكون الكلام على حذف مضاف أو صفة أي طول حياة أو حياة طويلة ، وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى ذلك ، والجملة إما حال من فاعل «قل» - وعليه الزجاج - وإما معترضة لتأكيد عدم تمنيهم الموت ، وقرأ أبيّ - على الحياة - بالألف واللام وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا هم المجوس ووصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة وكانت تحيتهم إذا عطس العاطس عش ألف سنة ، وقيل : مشركو العرب الذين عبدوا الأصنام وهذا من الحمل على المعنى كأنه قال : أحرص من الناس ومن الذين إلخ.
بناء على ما ذهب إليه ابن السراج ، وعبد القاهر والجزولي وأبو علي من أن إضافة أفعل المضاف إذا أريد الزيادة على ما أضيف إليه لفظية لأن المعنى على إثبات مِنَ الابتدائية ، والجار والمجرور في محل نصب مفعولة ، وسيبويه يجعلها معنوية بتقدير اللام ، والمرد بالناس على هذا التقدير ما عدا اليهود لما تقرر أن المجرور - بمن - مفضول عليه بجميع أجزائه أو الأعم ولا يلزم تفضيل الشيء على نفسه لأن أفعل ذو جهتين ثبوت أصل المعنى والزيادة فكونه من جملتهم بالجهة الأولى دون الثانية وجي ء - بمن - في الثانية لأن من شرط أفعل المراد به الزيادة على المضافة إليه أن يضاف إلى ما هو بعضه لأنه موضوع لأن يكون جزءا من جملة معينة بعده مجتمعة منه ومن أمثاله ، ولا شك أن اليهود غير داخلين في الذين أشركوا فإن الشائع في القرآن ذكرهما متقابلين ، ويجوز أن يكون ذلك من باب الحذف أي - وأحرص من الذين - وهو قول مقاتل ووجه الآية على مذهب سيبويه ، وعلى التقديرين ذكر - المشركين - تخصيص بعد التعميم على الوجه الظاهر في - اللام - لإفادة المبالغة في حرصهم والزيادة في توبيخهم وتقريعهم حيث كانوا مع كونهم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا ، أحرص ممن لا يرجو ذلك ، ولا يؤمن ببعث ، ولا يعرف إلا الحياة العاجلة ، وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العذاب ، ومن توقع شرا كان أنفر الناس عنه ، وأحرصهم على أسباب التباعد منه.
ومن الناس من جوز كون مِنَ الَّذِينَ صفة لمحذوف معطوف على الضمير المنصوب في لَتَجِدَنَّهُمْ والكلام على التقديم والتأخير ، أي لَتَجِدَنَّهُمْ وطائفة من - الذين أشركوا أحرص الناس - ولا أظن يقدم على مثل ذلك في كتاب اللّه تعالى من له أدنى ذوق ، لأنه - وإن كان معنى صحيحا في نفسه - إلا أن التركيب ينبو عنه ، والفصاحة تأباه ، ولا ضرورة تدعو إليه لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة ، نعم يحتمل أن يكون هناك محذوف - هو مبتدأ - والمذكور صفته ، أو المذكور خبر مبتدأ محذوف صفته.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 330
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ وحذف موصوف الجملة فيما إذا كان بعضا من سابقه المجرور ب مِنَ أو - في - جائز في السعة ، وفي غيره مختص بالضرورة نحو أنا ابن نجلا وطلاع الثنايا. وحينئذ يراد ب الَّذِينَ أَشْرَكُوا اليهود لأنهم قالوا : عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة : 30] ووضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالشرك ، وجوّز بعضهم أن يراد بذلك الجنس ، ويراد بمن يَوَدُّ أَحَدُهُمْ اليهود ، والمراد كل واحد منهم - وهو بعيد - وجملة يَوَدُّ إلخ ، على الوجهين الأولين مستأنفة ، كأنه قيل : ما شدة حرصهم ، وقيل : حال من الَّذِينَ أو من ضمير أَشْرَكُوا أو من الضمير المنصوب في لَتَجِدَنَّهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ جواب لَوْ محذوف - أي لسر بذلك - وكذا مفعول
يَوَدُّ أي طول الحياة ، وحذف لدلالة لَوْ يُعَمَّرُ عليه كما حذف الجواب لدلالة يَوَدُّ عليه ، وهذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان ، وذهب بعض الكوفيين - في مثل ذلك - إلى أن لَوْ مصدرية بمعنى - أن - فلا يكون لها جواب ، وينسبك منها مصدر هو مفعول يَوَدُّ كأنه قال : «يود أحدهم» تعمير ألف سنة ، وقيل : لَوْ بمعنى ليت ولا يحتاج إلى جواب والجملة محكية ب يَوَدُّ في موضع المفعول ، وهو - وإن لم يكن قولا ولا في معناه - لكنه فعل قلبي يصدر عنه الأقوال فعومل معاملتها ، وكان أصله - لو أعمر - إلا أنه أورد بلفظ الغيبة لأجل مناسبة يَوَدُّ فإنه غائب ، كما يقال : حلف ليفعلن - مقام لأفعلن - وهذا بخلاف ما لو أتى بصريح القول ، فإنه لا يجوز قال : ليفعلن ، وإذا قلنا : إن لَوْ التي للتمني مصدرية لا يحتاج إلى اعتبار الحكاية ، وابن مالك رضي اللّه تعالى عنه موضوعا له - كليت - ونحو لو تأتيني فتحدثني - بالنصب - أصله وددت لو تأتيني إلخ ، فحذف فعل التمني لدلالة لَوْ عليه ، وقيل : هي لَوْ الشرطية أشربت معنى التمني ، ومعنى أَلْفَ سَنَةٍ الكثرة ليشمل من يَوَدُّ أن لا يموت أبدا ، ويحتمل أن يراد أَلْفَ سَنَةٍ حقيقة - والألف - العدد المعلوم من الألفة ، إذ هو مؤلف من أنواع الأعداد بناء على متعارف الناس ، وإن كان الصحيح أن العدد مركب من الوحدات التي تحته - لا الإعداد - وأصل سَنَةٍ سنوة ، لقولهم : سنوات ، وقيل : سنهة - كجبهة - لقولهم : سانهته ، وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون ، وسمع أيضا في الجمع سنهات وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ما حجازية أو تميمية ، وهو ضمير عائد إلى أَحَدُهُمْ اسمها - أو مبتدأ - وبِمُزَحْزِحِهِ خبرها أو خبره - والباء - زائدة ، وأَنْ يُعَمَّرَ فاعل «مزحزحه» والمعنى - ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره - وفيه إشارة إلى ثبوت من - يزحزحه التعمير - وهو مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الكهف : 88 ، سبأ : 37] ولا يجوز عند المحققين أن يكون الضمير المرفوع للشأن لأن مفسره جملة ، ولا تدخل - الباء - في خبر ما وليس إلا إذا كان مفردا عند غير الفراء ، وأجاز ذلك أبو علي ، وهو ميل منه إلى مذهب الكوفيين من أن مفسر ضمير الشأن يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادا معنويا نحو ما هو بقائم زيد نعم جوّزوا أن يكون لما دل عليه يُعَمَّرُ وأَنْ يُعَمَّرَ بدل منه ، أي ما تعميره بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ اعترض بأن فيه ضعفا للفصل بين البدل والمبدل منه ، وللإبدال من غير حاجة إليه ، وأجاب بعض المحققين أنه لما كان لفظ - التعمير - غير مذكور ، بل ضميره حسن الإبدال ولو كان التعمير مذكورا بلفظه لكان الثاني تأكيدا - لا بدلا - ولكونه في الحقيقة تكريرا يفيد فائدته من تقرير المحكوم عليه اعتناء بشأن الحكم بناء على شدة حرصه على التعمير - ووداده إياه - جاز الفصل بينه وبين المبدل منه بالخبر ، كما في التأكيد في قوله تعالى : وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [هود : 19 ، يوسف : 37 ، فصلت : 7] وقيل : هو ضمير مبهم يفسره البدل فهو راجع إليه لا إلى شيء متقدم مفهوم من الفعل ، والتفسير بعد الإبهام ليكون أوقع في نفس السامع ، ويستقر في ذهنه كونه محكوما عليه بذلك الحكم والفصل بالظرف بينه وبين مفسره جائز - كما يفهمه كلام الرضيّ في بحث أفعال المدح والذم - واحتمال أن يكون هُوَ ضمير فصل قدم مع الخبر بعيد - والزحزحة - التبعيد ، وهو مضاعف من زح يزح زحا ، ككبكب من كب - وفيه مبالغة - لكنها متوجهة إلى النفي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 331
على حد ما قيل : وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت : 46] فيؤول - إلى أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير - التعمير ، وصح ذلك مع أن التعمير يفيد رفع العذاب مدة البقاء ، لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل ، لكنهم لاقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث الشدة فلم يؤثر في إزالته أدنى تأثير بل زاد فيه حيث استوجبوا بمقابلة أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة : 80] عذاب الأبد وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي عالم بخفيات أعمالهم - فهو مجازيهم لا محالة - وحمل - البصر - على - العلم - هنا وإن كان بمعنى الرؤية صفة للّه تعالى أيضا لأن بعض الأعمال لا يصح أن يرى - على ما ذهب إليه بعض المحققين - وفي هذه الجملة من التهديد والوعيد ما هو ظاهر ، و«ما» إما موصولة أو مصدرية ، وأتى بصيغة المضارع لتواخي الفواصل ، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب «تعلمون» - بالتاء - على
سبيل الالتفات قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
أخرج ابن أبي شيبة في مسنده ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الشعبي ، أنه دخل عمر رضي اللّه تعالى عنه مدراس اليهود يوما فسألهم عن جبريل ، فقالوا : ذاك عدونا ، يطلع محمدا على أسرارنا ، وأنه صاحب كل خسف وعذاب ، وميكائيل صاحب الخصب والسلام. فقال : ما منزلتهما من اللّه تعالى؟ قالوا :
جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره - وبينهما عداوة - فقال : لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين ، ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن كان عدوا لأحدهما فهو عدو للّه. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لقد وافقك ربك يا عمر» قال عمر : لقد رأيتني بعد ذلك أصلب من الحجر ،
وقيل : نزلت في عبد اللّه بن صوريا - كان يهوديا من أحبار فدك - سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عمن ينزل عليه فقال : «جبريل» فقال : ذاك عدونا عادانا مرارا ، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر ، فبعثنا من يقتله فرآه ببابل ، فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه ، وإلا فبم تقتلونه؟ وصدقه الرجل المبعوث ورجع إلينا ، وكبر بختنصر وقوي وغزانا ، وخرّب بيت المقدس ، روى ذلك بعض الحفاظ ، وقال العراقي : لم أقف له على سند ، فلعل الأول أقوى منه - وإن أوهم صنيع بعضهم العكس - ولِجِبْرِيلَ علم ملك كان ينزل على رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالقرآن ، وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت اللّه وجعله مركبا تركيب مزج من مضاف ومضاف إليه ، فمنعه من الصرف للعلمية ، والتركيب ليس بشيء لأن ما يركب هذا التركيب يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف. فكونه لم يسمع فيه الإضافة أو البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج ، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة ، أفصحها وأشهرها لِجِبْرِيلَ كقنديل ، وهي قراءة أبي عمرو. ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم. وهي لغة الحجاز ، قال ورقة بن نوفل :
«وجبريل» يأتيه وميكال معهما من اللّه وحي يشرح الصدر منزل
الثانية كذلك إلا أنها - بفتح الجيم - وهي قراءة ابن كثير والحسن وابن محيصن. قال الفراء : لا أحبها لأنه ليس في الكلام فعليل - وليس بشي ء - لأن الأعجمي إذا عربوه قد يلحقونه بأوزانهم - كلجام - وقد لا يلحقونه كإبريسم - وجبريل من هذا القبيل ، مع أنه سمع - سموأل - لطائر ، الثالث «جبرئيل» كسلسبيل ، وبها قرأ حمزة والكسائي وحماد عن أبي بكر عن عاصم ، وهي لغة قيس وتميم وكثير من أهل نجد ، وحكاها الفراء واختارها الزجاج ، وقال : هي أجود اللغات ، وقال حسان :
شهدنا فما يلقى لنا من كتيبة مدى الدهر إلا «جبرئيل» أمامها
«الرابعة» كذلك إلا أنها بدون - ياء بعد الهمزة - وهي رواية يحيى بن آدم ، عن أبي بكر ، عن عاصم ، وتروى عن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 332
يحيى بن يعمر «الخامسة» كذلك إلا أن - اللام مشددة - وهي قراءة أبان عن عاصم ، ويحيى بن يعمر أيضا «السادسة» «جبرائل» - بألف وهمزة بعدها مكسورة بدون ياء - وبها قرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وعكرمة «السابعة» مثلها مع زيادة - ياء بعد الهمزة - «الثامنة» «جبراييل» بياءين بعد الألف ، وبها قرأ الأعمش وابن يعمر ، ورواها الكسائي عن عاصم «التاسعة» «جبرال» «العاشرة» «جبريل» - بالياء والقصر - وهي قراءة طلحة بن مصرف «الحادية عشرة» «جبرين» - بفتح الجيم والنون - «الثانية عشرة» كذلك إلا أنها - بكسر الجيم - وهي لغة أسد «الثالثة عشرة» «جبراين» قال أبو جعفر النحاس : جمع لِجِبْرِيلَ جمع تكسير على - جبارين - على اللغة العالية ، واشتهر أن معناه عبد اللّه ، على أن - جبر - هو اللّه تعالى - وإيل - هو العبد ، قيل : عكسه ، ورده بعضهم بأن المعهود في الكلام العجمي تقديم المضاف إليه على المضاف ، وفيه تأمل.
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ جواب الشرط إما نيابة أو حقيقة والمعنى من عاداه منهم فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي لأنه نزل كتابا مصدقا للكتب المتقدمة ، أو فالسبب في عداوته أنه نزل عليك ، وليس المبتدأ على هذا الأخير محذوفا ، و- أنه - نزله - خبره حتى يرد أن الموضع للمفتوحة بل أن - الفاء - داخلة على السبب ، ووقع جزاء باعتبار الإعلام والاخبار بسببيته لما قبله فيؤول المعنى إلى من عاداه فأعلمكم بأن سبب عداوته كذا فهو كقولك : إن عاداك فلان فقد آذيته أي فأخبرك بأن سبب عداوتك أنك آذيته ، وقيل : الجزاء محذوف بحيث لا يكون المذكور نائبا وعنه يقدر مؤخرا عنه ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة والمعنى من عاداه - لأنه نزله على قلبك - فليمت غيظا ، أو فهو عدوّ لي وأنا عدوه والقرينة على حذف الثاني الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم ، واحتمال أن يكون مَنْ كانَ عَدُوًّا إلخ استفهاما للاستبعاد ، أو التهديد ويكون فإنه تعليل العداوة وتقييدا لها أو تعليل الأمر بالقول مما لا ينبغي أن يرتكب في القرآن العظيم ، والضمير الأول البارز لجبريل ، والثاني للقرآن كما يشير إليه الأحوال لأنها كلها من صفات القرآن ظاهرا ، وقيل : الأول للّه تعالى والثاني لجبريل أي - فإن اللّه نزل جبريل بالقرآن على قلبك - وفي كل من الوجهين إضمار يعود على ما يدل عليه السياق ، وفي ذلك من فخامة الشأن ما لا يخفى ، ولم يقل سبحانه عليك كما في قوله تعالى : ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه : 2] بل قال :
عَلى قَلْبِكَ لأنه القابل الأول للوحي إن أريد به الروح ، ومحل الفهم والحفظ إن أريد به العضو بناء على نفي الحواس الباطنة ، وقيل : كني بالقلب عن الجملة الإنسانية كما يكنى ببعض الشيء عن كله ، وقيل : معنى نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ جعل قَلْبِكَ متصفا بأخلاق القرآن ومتأدبا بآدابه كما
في حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها «كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه»
وكان الظاهر أن يقول على قلبي لأن القائل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لكنه حكى ما قال اللّه تعالى له وجعل القائل كأنه اللّه تعالى لأنه سفير محض بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة أو باختياره ، أو بتيسيره وتسهيله ، وأصل معنى - الاذن - في الشيء الاعلام بإجازته والرخصة فيه فالمعاني المذكورة كلها مجازية ، والعلاقة ظاهرة ، والمنتخب - كما في المنتخب - المعنى الأول والمعتزلة - لما لم يقولوا بالكلام النفسي وإسناد الاذن إليه تعالى باعتبار الكلام اللفظي يحتاج إلى تكلف - اقتصر الزمخشري على الوجه الأخير ، والقول : إن الاذن بمعنى الأمر إن أريد بالتنزيل معناه الظاهر ، وبمعنى التيسير إن أريد به التحفيظ والتفهيم مما لا وجه له.
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإلهية التي معظمها التوراة وانتصاب مُصَدِّقاً على الحال من الضمير المنصوب في نَزَّلَهُ إن كان عائدا للقرآن وإن كان لجبريل فيحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون حالا من المحذوف

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 333
لفهم المعنى كما أشرنا إليه ، والثاني أن يكون حالا من جبريل ، والهاء إما للقرآن أو لجبريل فإنه مصدق أيضا لما بين يديه من الرسل والكتب وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ معطوفان على مُصَدِّقاً فهما حالان مثله ، والتأويل غير خفي ، وخص المؤمنين - بالذكر لأنه على غيرهم عمى ، وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه ، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة ، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند اللّه تعالى ، قيل : وتعلقت الباطنية بهذه الآية وقالوا : إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، ورد عليهم بأنه معجزة ظاهرة وباطنة وإن اللّه تعالى سماه قرآنا وكتابا وعربيا ، وإن جبريل نزل به والملهم لا يحتاج إليه.
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ - العدو - للشخص ضد الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع ، وقد يؤنث ويثنى ويجمع ، وهو الذي يريد إنزال المضار به ، وهذا المعنى لا يصح إلا فينا دونه تعالى فعداوة اللّه هنا مجاز إما عن مخالفته تعالى وعدم القيام بطاعته لما أن ذلك لازم للعداوة ، وإما عن عداوة أوليائه ، وأما عداوتهم لجبريل والرسل عليهم السلام فصحيحة لأن الإضرار جار عليهم غاية ما في الباب أن عداوتهم لا تؤثر لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم ، وصدر الكلام على الاحتمال الأخير بذكره لتفخيم شأن أولئك الأولياء حيث جعل عداوتهم عداوته تعالى ، وأفرد الملكان بالذكر تشريفا لهما وتفضيلا كأنهما من جنس آخر تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله :
فإن تفق الأنام وأنت منهم فان «المسك» بعض دم الغزال
وقيل : لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما ، وقيل : للتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من اللّه تعالى ، وإن من عادى أحدهم فكأنما عادى الجميع لأن الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد وإن اختلف بحسب التوهم والاعتقاد ، ولهذا أحب اليهود ميكائيل وأبغضوا جبريل ، واستدل بعضهم بتقديم جبريل على ميكائيل على أنه أفضل منه وهو المشهور ، واستدلوا عليه أيضا بأنه ينزل بالوحي والعلم وهو مادة الأرواح ، وميكائيل بالخصب والأمطار وهي مادة الأبدان ، وغذاء الأرواح أفضل من غذاء الأشباح ، واعترض بأن التقديم في الذكر لا يدل على التفضيل إذ يحتمل أن يكون ذلك للترقي أو لنكتة أخرى كما قدمت الملائكة على الرسل وليسوا أفضل منهم عندنا ، وكذا نزوله بالوحي ليس قطعيا بالأفضلية إذ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل فلا بد في التفضيل من نص جلي واضح ، وأنا أقول بالأفضلية وليس عندي أقوى دليلا من مزيد صحبته لحبيب الحق بالاتفاق وسيد الخلق على الإطلاق صلّى اللّه عليه وسلّم وكثرة نصرته وحبه له ولأمته ، ولا أرى شيئا يقابل ذلك وقد أثنى اللّه تعالى عليه عليه السلام بما لم يثن به على ميكائيل بل ولا على إسرافيل وعزرائيل وسائر الملائكة أجمعين ، وأخرج الطبراني - لكن بسند ضعيف - عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ألا أخبركم بأفضل الملائكة؟
جبرائيل»
وأخرج أبو الشيخ عن موسى بن عائشة قال : «بلغني أن جبريل إمام أهل السماء»
ومن شرطية والجواب ، قيل :
محذوف وتقديره فهو كافر مجزي بأشد العذاب ، وقيل : فإن اللّه إلخ على نمط ما علمت ، وأتى باسم اللّه ظاهرا ولم يقل فانه عدو دفعا لانفهام غير المقصود أو التعظيم والتفخيم ، والعرب إذا فخمت شيئا كررته بالاسم الذي تقدم له ، ومنه لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ [الحج : 60]. وقوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء وأل في الكافرين للعهد وإيثار الاسمية للدلالة على التحقيق والثبات ، ووضع المظهر موضع المضمر للايذان بأن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 334
عداوة المذكورين كفر وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الاخبار به وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور ، وقيل : يحتمل أنه تعالى عدل عن الضمير لعلمه أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة اللّه تعالى للمآل - وهو احتمال أبعد من العيوق - ويحتمل أن تكون - أل للجنس كما تقدم ، ومن الناس من روى أن عمر رضي اللّه تعالى عنه نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله ذاك عدونا يعني جبريل فنزلت على لسان عمر وهو خبر ضعيف كما نص عليه ابن عطية ، والكلام في منع صرف ميكائيل كالكلام في جبريل ، واشتهر أن معناه عبيد اللّه وقيل : عبد اللّه وفيه لغات ، الأولى «ميكال» كمفعال ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة الحجاز ، الثانية كذلك إلا أن بعد الألف همزة ، وقرأ بها نافع. وابن شنبوذ لقنبل ، الثالثة كذلك إلا أنه بياء بعد الهمزة ، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر. وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي ، الرابعة «ميكئيل» كميكفيل ، وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة كذلك إلا أنه لا ياء بعد الهمزة وقرىء بها ، السادسة «ميكاييل» بياءين بعد الألف أولهما مكسورة ، وبها قرأ الأعمش.
ولساداتنا الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم في هذين الملكين - بل وفي أخويهما إسرافيل وعزرائيل عليهما السلام أيضا - كلام مبسوط ، والمشهور أن جبرائيل هو العقل الفعال ، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق الخلائق ، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات ، وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها بعضها بالوسائط التي هي أعوانه وبعضها بنفسه واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ نزلت بسبب ابن صوريا كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما حين قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آيات فنتبعك ، وجعلت عطفا على قوله تعالى : قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا إلخ عطف القصة على القصة وَما يَكْفُرُ عطف على جواب القسم فإنه كما يصدر باللام يصدر بحرف النفي ، و«الآيات» القرآن والمعجزات والاخبار عما خفي وأخفي في الكتب السابقة أو الشرائع والفرائض ، أو مجموع ما تقدم كله والظاهر الإطلاق ، والْفاسِقُونَ المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود فإن من ليس على تلك الصفات من الكفرة لا يجترىء على الكفر بمثل هاتيك البينات ، قال الحسن إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره فإذا قيل : هو فاسق في الشرب فمعناه هو أكثر ارتكابا له وإذا قيل : هو فاسق في الزنا يكون معناه هو أشد ارتكابا له ، وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، واللام إما للعهد لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود ، وإما للجنس وهم داخلون كما مر غير مرة أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نزلت في مالك بن الصيف قال : واللّه ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولا ميثاق ، وقيل : في اليهود عاهدوا إن خرج لنؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب فلما بعث كفروا به ، وقال عطاء : في اليهود عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير ، والهمزة للإنكار بمعنى ما كان ينبغي ، وفيه إعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها حتى صار سجية لهم وعادة ، وفي ذلك تسلية له صلّى اللّه عليه وسلّم وإشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكترث بأمرهم وأن لا يصعب عليه مخالفتهم ، والواو للعطف على محذوف أي كفروا بالآيات وكلما عاهدوا ، وهو من عطف الفعلية على الفعلية لأن كُلَّما ظرف نَبَذَهُ والقرينة على ذلك المحذوف قوله تعالى : وَما يَكْفُرُ بِها إلخ ، وبعضهم يقدر المعطوف مأخوذا من الكلام السابق ويقول بتوسط الهمزة بين المعطوف والمعطوف عليه لغرض يتعلق بالمعطوف خاصة ، والتقدير عنده نقضوا هذا العهد وذلك العهد

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 335
أَوَكُلَّما عاهَدُوا وفيه مع ارتكاب ما لا ضرورة تدعو إليه أن الجمل المذكورة بقربه ليس فيها ذكر نقض العهد ، وقال الأخفش : هي زائدة ، والكسائي هي - أو - الساكنة حركت واوها بالفتح وهي بمعنى بل ولا يخفى ضعف القولين ، نعم قرأ ابن السماك العدوي وغيره أَوَبالإسكان وحينئذ لا بأس بأن يقال : إنها إضرابية بناء على رأي الكوفيين وأنشدوا :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها «أو» أنت في العين أملح
والعطف - على هذا - على صلة الموصول الذي هو - اللام - في الْفاسِقُونَ ميلا إلى جانب المعنى وإن كان فيه مسخ - اللام - الموصولة ، كأنه قيل : إلا الذين فسقوا بل كُلَّما عاهَدُوا والقرينة على ذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ إلخ ، وفيه ترق إلى الأغلظ فالأغلظ ، ولك أن لا تميل مع المعنى بل تعطف على الصلة - وأل - تدخل على الفعل بالتبعية في السعة كثيرا كقوله تعالى : إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا [الحديد : 18] لاغتفارهم في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل. ومن الناس من جوّز هذا العطف باحتماليه على القراءة الأولى أيضا - ولم يحتج إلى ذلك المحذوف - وقرأ الحسن وأبو رجاء «عوهدوا» وانتصاب عَهْداً على أنه مصدر على غير الصدر أي - معاهدة - ويؤيده أنه قرىء «عهدوا» أو على أنه مفعول به بتضمين عاهَدُوا معنى أعطوا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي نقضه وترك العمل به ، وأصل - النبذ - طرح ما لا يعتد به - كالنعل البالية - لكنه غلب فيما من شأنه أن ينسى لعدم الاعتداد به ، ونسبة - النبذ - إلى - العهد - مجاز - والنبذ - حقيقة إنما هو في المتجسدات نحو فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [القصص : 40 ، الذاريات : 40] - والفريق - اسم جنس لا واحد له يقع على القليل والكثير ، وإنما قال : فَرِيقٌ لأن منهم من لم ينبذه.
وقرأ عبد اللّه «نقضه» قال في البحر : وهي قراءة تخالف سواد المصحف - فالأولى حملها على التفسير - وليس بالقوى إذ لا يظهر للتفسير دون ذكر المفسر خلال القراءة وجه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يحتمل أن يراد - بالأكثر النباذون - وأن يراد من عداهم «فعلى الأول» يكون ذلك ردا لما يتوهم أن - الفريق - هم الأقلون بناء على أن المتبادر منه القليل «وعلى الثاني» رد لما يتوهم أن من لم ينبذ جهارا يؤمنون به سرا ، والعطف على التقديرين من عطف الجمل ، ويحتمل أن يكون من عطف المفردات بأن يكون أكثرهم معطوفا على فَرِيقٌ وجملة لا يُؤْمِنُونَ حال من أَكْثَرُهُمْ والعامل فيها نَبَذَهُ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ ظرف ل «نبذ» والجملة عطف على سابقتها داخلة تحت الإنكار ، والضمير لبني إسرائيل لا لعلمائهم فقط ، والرسول محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والتكثير للتفخيم ، وقيل : عيسى عليه السلام ، وجعله مصدرا بمعنى الرسالة كما في قوله :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلى ولا أرسلتهم برسول
خلاف الظاهر مِنْ عِنْدِ اللَّهِ متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدر الرسول على قدر المرسل مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي من التوراة من حيث إنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها ، أو أخبر بأنها كلام اللّه تعالى المنزل على نبيه موسى عليه السلام ، أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين ، وأخبار الأمم والمواعظ والحكم ، أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها ، وحمل بعضهم «ما» على العموم لتشمل جميع الكتب الإلهية التي نزلت قبل ، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي التوراة وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام - كما توهمه بعضهم من اللحاق - لأن - النبذ - عند مجيء النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا يتصور منهم ، وإفراد هذا - النبذ - بالذكر مع اندراجه في قوله تعالى : أَوَكُلَّما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 336
عاهَدُوا
إلخ ، لأنه معظم جناياتهم ، ولأنه تمهيد لما يأتي بعد. والمراد - بالإيتاء - إما إيتاء علمها فالموصول عبارة عن علمائهم ، وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل ، ولم يقل : فريق منهم إيذانا بكمال التنافي بين ما ثبت لهم في حيز الصلة وبين ما صدر عنهم من النبذ كِتابَ اللَّهِ مفعول نَبَذَ والمراد به التوراة لما روي عن السدي أنه قال :
لما جاءهم محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن ، فهذا قوله تعالى : وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ إلخ ، ويؤيده أن النبذ يقتضي سابقة الأخذ في الجملة - وهو متحقق بالنسبة إليها - وأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول ، وأن مذمتهم في أنهم نبذوا الكتاب الذي أوتوه واعترفوا بحقيته أشد فإنه يفيد أنه كان مجرد مكابرة وعناد ، ومعنى نبذهم لها اطراح أحكامها ، أو ما فيها من صفة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : القرآن ، وأيده أبو حيان بأن الكلام مع الرسول فيصير المعنى أنه يصدق ما بأيديهم من التوراة ، وهم بالعكس يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولا يؤمنون به بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول ، وقيل : الإنجيل - وليس بشي ء - وأضاف الكتاب إلى الاسم الكريم تعظيما له وتهويلا لما اجترءوا عليه من الكفر به.
وَراءَ ظُهُورِهِمْ جمع - ظهر - وهو معروف ، ويجمع أيضا على - ظهران - وقد شبه تركهم كتاب اللّه تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر ، والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة ، ثم استعمل هاهنا ما كان مستعملا هناك - وهو النبذ وراء الظهر - والعرب كثيرا ما تستعمل ذلك في هذا المعنى ، ومنه قوله :
تميم بن مر لا تكونن حاجتي بظهر - ولا يعيى عليك جوابها
ويقولون أيضا : جعل هذا الأمر دبر أذنه ويريدون ما تقدم كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ جملة حالية ، أي نبذوه مشبهين بمن لا يعلم أنه كتاب اللّه تعالى أو لا يعلمه أصلا أو لا يعلمونه على وجه الإتقان ، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وهذا على تقدير أن يراد الأحبار ، وفيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون وفي الوجهين الأولين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة ، ومن فسر كتاب اللّه تعالى بالقرآن جعل متعلق العلم أنه كتاب اللّه أي كأنهم لا يعلمون أن القرآن كتاب اللّه تعالى مع ثبوت ذلك عندهم وتحققه لديهم ، وفيه إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغيا وحسدا ، وجعل المتعلق - أنه نبي صادق - بعيد ، وقد دل الآيتان قوله تعالى : أَوَكُلَّما عاهَدُوا إلخ ، وقوله تعالى : وَلَمَّا جاءَهُمْ إلخ بناء على احتمال أن يكون الأكثر غير النابذين ، على أن جلّ اليهود أربع فرق ، ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب ، وهم الأقلون المشار إليهم ب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدي الحدود ، وهم المعنيون بقوله تعالى : نَبَذَ فَرِيقٌ منهم وفرقة لم يجاهروا ، ولكن نبذوا لجهلهم - وهم الأكثرون - وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها سرا ، وهم المتجاهلون وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عطف على «نبذ» والضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب - على ما تقدم عن السدي ، وقيل : عطف على مجموع ما قبله عطف القصة على - القصة ، والضمير للذين تقدموا من اليهود ، أو الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام ، أو الذين كانوا في زمن نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، أو ما يتناول الكل لأن ذاك غير ظاهر إذ يقتضي الدخول في حيز ل ما واتباعهم هذا ليس مترتبا على مجيء الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وفيه أن ما علمت من قول السدي يفتح باب الظهور ،
اللهم إلا أن يكون المبني غيره ، وقيل : عطف على اشربوا وهو في غاية البعد ، بل لا يقدم عليه من جرع جرعة من الإنصاف ، والمراد - بالاتباع - التوغل والإقبال على الشيء بالكلية ، وقيل : الاقتداء ، وما موصولة وتَتْلُوا صلتها ، ومعناه تتبع أو تقرأ - وهو حكاية حال ماضية ، والأصل -

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 337
تلت - وقول الكوفيين إن المعنى ما كانت تَتْلُوا محمول على ذلك - لا أن كان هناك مقدرة - والمتبادر من الشياطين مردة الجن وهو قول الأكثرين ، وقيل : المراد بهم شياطين الإنس ، وهو قول المتكلمين من المعتزلة وقرأ الحسن والضحاك - الشياطون - على حد ما رواه الأصمعي عن العرب - بستان فلان حوله بساتون - وهو من الشذوذ بمكان حتى قيل : إنه لحن عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ متعلق ب تَتْلُوا وفي الكلام مضاف محذوف أي عهد ملكه وزمانه ، أو الملك مجاز عن العهد ، وعلى التقديرين عَلى بمعنى - في - كما أن - في - بمعنى على في قوله تعالى :
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه : 71] وقد صرح في التسهيل بمجيئها للظرفية ومثل له بهذه الآية لأن الملك وكذا العهد لا يصلح كونه مقروءا عليه ، ومن الأصحاب من أنكر مجي ء - على - بمعنى - في - وجعل هذا من تضمين تتلو معنى تتقول ، أو الملك عبارة عن الكرسي لأنه كان من آلات ملكه ، فالكلام على حد قرأت على المنبر ، والمراد بما يتلونه السحر ،
فقد أخرج سفيان بن عيينة وابن جرير والحاكم ، وصححه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ، فإذا سمع أحدهم بكلمة كذب عليها ألف كذبة ، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين فأطلع اللّه تعالى على ذلك سليمان بن داود فأخذها وقذفها تحت الكرسي فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا نعم فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختها الأمم فأنزل اللّه تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر»
وقيل : روي أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه اللّه تعالى بها تحت سرير ملكه خوفا على أنه إذا هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أو هموهم أنها من علم سليمان ،
ولا يخفى ضعف هذه الرواية ، وسليمان - كما في البحر - اسم أعجمي ، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة ، ونظيره من الأعجمية في أن آخره ألف ونون - هامان ، وماهان. وشامان - وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان لأن زيادتهما موقوفة على الاشتقاق والتصريف ، وهما لا يدخلان الأسماء الأعجمية وكثير من الناس اليوم على خلافه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ اعتراض لتبرئة سليمان عليه السلام عما نسبوه إليه ، فقد أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال : قال اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحرا يركب الريح ، وعبر سبحانه عن السحر بالكفر بطريق الكناية رعاية لمناسبة لكِنَّ الاستدراكية في قوله تعالى :
وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فإن كَفَرُوا معها مستعمل في معناه الحقيقي وجملة يعلمون حال من الضمير ، وقيل : من الشياطين ، ورد بأن لكن لا تعمل في الحال ، وأجيب بأن فيها رائحة الفعل وقيل بدل من كفروا ، وقيل استئناف والضمير - للشياطين - أو - للذين اتبعوا - والسِّحْرَ في الأصل مصدر سحر يسحر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدق ويخفى وهو من المصادر الشاذة ، ويستعمل بما لطف وخفي سببه ، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق - وليس به - إذ يجري فيه التعلم ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بارتكاب القبائح ، قولا كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدح الشيطان وتسخيره ، وعملا كعبادة الكواكب ، والتزام الجناية وسائر الفسوق ، واعتقادا كاستحسان ما يوجب التقرب إليه ومحبته إياه وذلك لا يستتب إلا بمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط التضام والتعاون فكما أن الملائكة لا تعاون إلا أخيار الناس المشبهين بهم في المواظبة على العبادة والتقرب إلى اللّه تعالى بالقول والفعل كذلك الشياطين لا تعاون إلا الأشرار المشبهين بهم في الخباثة والنجاسة قولا وفعلا واعتقادا ، وبهذا يتميز الساحر عن النبي والولي ، فلا يرد ما قال المعتزلة : من أنه لو أمكن للإنسان من جهة الشيطان ظهور الخوارق والإخبار عن المغيبات لاشتبه طريق النبوة بطريق السحر ، وأما ما يتعجب منه - كما يفعله

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 338
أصحاب الحيل بمعونة الآلات المركبة على النسبة الهندسية تارة ، وعلى صيرورة الخلاء ملاء أخرى ، وبمعونة الأدوية كالنارنجيات أو يريه صاحب خفة اليد - فتسميته سحرا على التجوز وهو مذموم أيضا عند البعض ، وصرح النووي في الروضة بحرمته ، وفسره الجمهور بأنه خارق للعادة يظهر من نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة والجمهور على أن له حقيقة وأنه قد يبلغ الساحر إلى حيث يطير في الهواء ويمشي على الماء ويقتل النفس ويقلب الإنسان حمارا ، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو اللّه تعالى ولم تجر سنته بتمكين الساحر من فلق البحر وإحياء الموتى وإنطاق العجماء ، وغير ذلك من آيات الرسل عليهم السلام ، والمعتزلة ، وأبو جعفر الأستراباذي من أصحابنا على أنه لا حقيقة له ، وإنما هو تخييل ، وأكفر المعتزلة من قال ببلوغ الساحر إلى حيث ما ذكرنا زعما منهم أن بذلك انسداد طريق النبوة وليس كما زعموا على ما لا يخفى ، ومن المحققين من فرق بين السحر والمعجزة باقتران المعجزة بالتحدي بخلافه فإنه لا يمكن ظهوره على يد مدعي نبوة كاذبا كما جرت به عادة اللّه تعالى المستمرة صونا لهذا المنصب الجليل عن أن يتسور حماه الكذابون وقد شاع أن العمل به كفر حتى قال العلامة التفتازاني : لا يروى خلاف في ذلك ، وعده نوعا من الكبائر مغاير الإشراك لا ينافي ذلك لأن الكفر أعم والإشراك نوع منه ، وفيه بحث : أما أولا فلأن الشيخ أبا منصور ذهب إلى أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا ، ولعل ما ذهب إليه العلامة مبني على التفسير أولا فإنه عليه مما لا يمترى في كفر فاعله ، وأما ثانيا فلأن المراد من الإشراك فيما عدا الكبائر مطلق الكفر وإلا تخرج أنواع الكفر منها ، ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث وما ليس بكفر ، وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطع الطريق ويستوي فيه
الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب ، ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة موسى قبلت توبتهم كذا في المدارك ، ولعله إلى الأصول أقرب ، والمشهور عن أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر ولا يقبل قوله أترك السحر وأتوب عنه فإن أقرّ بأني كنت أسحر مدة وقد تركت منذ زمان قبل منه ولم يقتل ، واحتج بما روي أن جارية لحفصة أم المؤمنين رضي اللّه تعالى عنها سحرتها فأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها ، وإنكار عثمان رضي اللّه تعالى عنه إنما كان لقتلها بغير إذنه. وبما روي عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلوا ثلاث سواحر ، والشافعية نظروا في هذا الاحتجاج واعترضوا على القول بالقتل مطلقا بأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم
يقتل اليهودي الذي سحره ، فالمؤمن مثله
لقوله عليه السلام : «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»
وتحقيقه في الفروع ، واختلف في تعليمه وتعلمه فقيل : كفر لهذه الآية إذ فيها ترتيب الحكم على الوصف المناسب وهو مشعر بالعلية ، وأجيب بأنا لا نسلم أن فيها ذلك لأن المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون السحر ، وقيل :
إنهما حرامان - وبه قطع الجمهور - وقيل : مكروهان - وإليه ذهب البعض - وقيل : مباحان ، والتعليم المساق للذم هنا محمول على التعليم للإغواء والإضلال ، وإليه مال الإمام الرازي قائلا : اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر :
9] ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به ، فيفتي به في وجوب القصاص انتهى. والحق عندي الحرمة تبعا للجمهور إلا لداع شرعي ، وفيما قاله رحمه اللّه تعالى نظر «أما أولا» فلأنا لا ندعي أنه قبيح لذاته ، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه ، فتحريمه من باب سد الذرائع - وكم من أمر حرم لذلك - وفي الحديث «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 339
«وأما ثانيا» فلأن توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوع ، ألا ترى أن أكثر العلماء أو كلهم - إلا النادر - عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر - وكفى فارقا بينهما ما تقدم ، ولو كان تعلمه واجبا لذلك لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول مع أنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك ، أفتراهم أخلوا بهذا الواجب وأتى به هذا القائل ، أو أنه أخل به كما أخلوا «وأما ثالثا» فلأن ما نقل عن بعضهم غير صحيح ، لأن إفتاء المفتي بوجوب القود أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه - على ما ذكره العلامة ابن حجر - إن شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالبا قتل الساحر. وإلا فلا - هذا وقد أطلق بعض العلماء السِّحْرَ على المشي بين الناس بالنميمة لأن فيها قلب الصديق عدوا والعدو صديقا ، كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذاب لما فيه من الاستمالة ، ويسمى سحرا حلالا ، ومنه
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إن من البيان لسحرا»
والقول بأنه مخرج مخرج الذم للفصاحة والبلاغة بعيد - وإن ذهب إليه عامر الشعبي راوي الحديث - وظاهر قوله تعالى : يُعَلِّمُونَ إلخ أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم ، وقيل : يدلونهم على تلك الكتب ، فأطلق على تلك الدلالة تعليما إطلاقا للسبب على المسبب ، وقيل :
المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق تضر وتنفع ، وأن سليمان عليه السلام إنما تم له ما تم بذلك - والإطلاق عليه هو الإطلاق - وقيل : يُعَلِّمُونَ بمعنى يُعَلِّمُونَ من الإعلام وهو الإخبار ، أي يخبرونهم بما أو بمن يتعلمون به أو منه السِّحْرَ وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو «لكنّ» بالتشديد. وابن عامر وحمزة والكسائي - بالتخفيف وارتفاع ما بعدها بالابتداء والخبر - وهل يجوز إعمالها إذا خففت؟ فيه خلاف ، والجمع على المنع - وهو الصحيح - وعن يونس والأخفش الجواز ، والصحيح أنها بسيطة «ومنهم» من زعم أنها مركبة من «لا» النافية - وكاف الخطاب - «وأن» المؤكدة المحذوفة الهمزة للاستثقال ، وهو إلى الفساد أقرب وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ المراد الجنس ، وهو عطف على السِّحْرَ وهما واحد إلا أنه نزل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات كما في قوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام
البيت ، وفائدة العطف التنصيص بأنهم - يعلمون - ما هو جامع بين كونه سحرا وبين كونه منزلا عَلَى الْمَلَكَيْنِ للابتلاء ، فيفيد ذمهم بارتكابهم النهي بوجهين ، وقد يراد بالموصول المعهود - وهو نوع آخر أقوى - فيكون من عطف الخاص على العام إشارة إلى كماله ، وقال مجاهد : هو دون السِّحْرَ وهو - ما يفرّق به بين المرء وزوجه - لا غير والمشهور الأول ، وجوز العطف على ما تَتْلُوا فكأنه قيل : اتبعوا السحر المدوّن في الكتب وغيره ، وهذان الملكان أنزلا لتعليم السِّحْرَ ابتلاء من اللّه تعالى للناس ، فمن تعلم وعمل به كفر ، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان ، وللّه تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن قوم طالوت بالنهر ، وتمييزا بينه وبين المعجزة حيث إنه كثر في ذلك الزمان ، وأظهر السحرة أمورا غريبة وقع الشك بها في النبوة ، فبعث اللّه تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر حتى يزيلا الشبه ويميطا الأذى عن الطريق ، قيل : كان ذلك في زمن إدريس عليه السلام ، وأما ما
روي أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر اللّه تعالى به ، وقالوا له تعالى : لو كنا مكانهم ما عصيناك ، فقال : اختاروا ملكين منكم ، فاختاروهما ، فهبطا إلى الأرض ومثلا بشرين ، وألقى اللّه تعالى عليهما الشبق ، وحكما بين الناس ، فافتتنا بامرأة يقال لها زهرة ، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنما ، أو يشربا خمرا ، أو يقتلا نفسا ففعلا ، ثم تعلمت منهما ما صعدت به إلى السماء ، فصعدت ومسخت هذا - النجم - وأرادا العروج فلم يمكنهما فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة - فاختارا عذاب الدنيا - فهما الآن يعذبان فيها ،
إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفا وعشرين ، فقد أنكره جماعة منهم القاضي عياض ، وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شي ء - لا سقيم ولا صحيح - عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم - وليس هو شيئا يؤخذ بالقياس - وذكر في البحر أن جميع ذلك لا يصح منه شيء ، ولم يصح أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يلعن الزهرة ، ولا ابن عمر رضي اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 340
عنهما خلافا لمن رواه ، وقال الإمام الرازي بعد أن ذكر الرواية في ذلك : إن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة ، ونص الشهاب العراقي ، على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر باللّه تعالى العظيم ، فإن الملائكة معصومون لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم : 6] لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء : 19 ، 20] والزهرة كانت يوم خلق اللّه تعالى السماوات والأرض ، والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول. واعترض الإمام السيوطي على من أنكر القصة بأن الإمام أحمد. وابن حبان. والبيهقي ، وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على عليّ. وابن عباس. وابن عمر.
وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرجيها ، وذهب بعض المحققين أن ما روي مروي حكاية لما قاله اليهود - وهو باطل في نفسه - وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية ، ولا يردّ ما قاله الإمام السيوطي عليه ، إنما يردّ على المنكرين بالكلية ، ولعل ذلك من باب الرموز والإشارات فيراد من الملكين العقل النظري والعقل العملي اللذان هما من عالم القدس ، ومن المرأة المسماة بالزهرة - النفس الناطقة - ومن تعرضهما لها تعليمهما لها ما يسعدها ، ومن حملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما ، ومن صعودها إلى السماء بما تعلمت منهما عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصاحها لنصحهما ، ومن بقائهما معذبين بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد وحرمانهما عن العروج إلى سماء الحضرة ، لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها ، ومن الأكابر من قال في حل هذا الرمز : إن الروح والعقل اللذين هما من عالم المجردات قد نزلا من سماء التجرد إلى أرض التعلق ، فعشقا البدن الذي هو كالزهرة في غاية الحسن والجمال لتوقف كمالهما عليه ، فاكتسبا بتوسطه المعاصي والشرك وتحصيل اللذات الحسية الدنية ، ثم صعد إلى السماء بأن وصل بحسن تدبيرهما إلى الكمال اللائق به ، ثم مسخ بأن انقطع التعلق وتفرقت العناصر ، وهما بقيا معذبين بعذاب الحرمان عن الاتصال بعالم القدس متألمين بالآلام الروحانية منكوسي الحال حيث غلب التعلق على التجرد وانعكس القرب بالبعد ، وقيل : المقصود من ذلك الإشارة إلى أن من كان ملكا إن اتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة ، ومن كان امرأة ذات شهوة إذا كسرت شهوتها ، وغلبت عليها صعدت إلى درج الملك واتصلت إلى سماء المنازل والمراتب ، وكتب بعضهم لحله.
مل وأيم اللّه نفسي نفسي وطال في مكث حياتي حبسي
أصبح في مضاجعي وأمسي أمسي كيومي وكيومي أمسي
يا حبذا يوم نزولي رمسي مبدأ سعدي وانتهاء نحسي
وكل جنس لا حق بالجنس من جوهر يرقى بدار الأنس
وعرض يبقى بدار الحس هذا ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططا وقال غلطا ، وفتح بابا من السحر يضحك الموتى ، ويبكي الأحياء ، وينكس راية الإسلام ، ويرفع رؤوس الكفرة الطغام كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين ، وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود والضحاك - «الملكين» - بكسر اللام ، حمل بعضهم قراءة الفتح على ذلك فقال هما رجلان إلا أنهما سميا ملكين باعتبار صلاحهما ، ويؤيده ما قيل : إنهما داود وسليمان ، ويرده قول الحسن إنهما علجان كانا ببابل العراق ، وبعضهم يقول : إنهما من الملائكة ظهرا في صورة الملوك - وفيه حمل الكسر على الفتح على عكس ما تقدم و- الإنزال - إما على ظاهره أو بمعنى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 341
القذف في قلوبهما «ببابل» الباء بمعنى في وهي متعلقة - بأنزل - أو بمحذوف وقع حالا من الْمَلَكَيْنِ أو من الضمير في أُنْزِلَ وهي كما قال ابن عباس. وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهما : بلد في سواد الكوفة ، وقيل :
بابل العراق ، وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين ، وقيل : جبل دماوند ، وقيل : بلد بالمغرب - والمشهور اليوم الثاني - وعند البعض هو الأول ، قيل وسميت بابل لتبلبل الألسنة فيها عند سقوط صرح نمرود ، وأخرج الدينوري في المجالسة وابن عساكر من طريق نعيم ابن سالم - وهو متهم - عن أنس بن مالك قال : لما حشر اللّه تعالى الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية فجمعتهم إلى بابل فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له إذ نادى مناد من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له : يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو فكان أول من تكلم بالعربية فلم يزل المنادي ينادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن فسميت بابل وكان اللسان يومئذ بابليا ، وعندي في القولين تردد يلف عدم قبول ، والذي أميل إليه أن بابل اسم أعجمي كما نص عليه أبو حيان لا عربي كما يشير إليه كلام الأخفش ، وأنه في الأصل اسم للنهر الكبير في بعض اللغات الأعجمية القديمة وقد أطلق على تلك الأرض لقرب الفرات منها ، ولعل ذلك من قبيل تسمية بغداد دار السلام بناء على أن السلام اسم لدجلة ، وقد رأيت لذلك تفصيلا لا أدريه اليوم في أي كتاب.
وأظنه قريبا مما ذكرته فليحفظ ، ومنع بعضهم الصلاة بأرض بابل احتجاجا بما
أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أن حبيبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة ،
وقال الخطابي : في إسناد هذا الحديث مقال ، ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة بها ، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه عن أن يتخذها وطنا ومقاما فإذا أقام بها كانت صلاته فيها وهذا من باب التعليق في علم البيان ، أو لعل النهي له خاصة ألا ترى قال : نهاني ، ومثله
حديث آخر نهاني أقرأ ساجدا أو راكعا ولا أقول نهاكم ،
وكان ذلك إنذارا منه بما لقي من المحنة في تلك الناحية هارُوتَ وَمارُوتَ عطف بيان - للملكين - وهما اسمان أعجميان لهما منعا من الصرف للعلمية والعجمة وقيل : عربيان من الهرت والمرت بمعنى الكسر وكان اسمهما قبل عزا وعزايا فلما قارفا الذنب سميا بذلك ، ويشكل عليه منعهما من الصرف ، وليس إلا العلمية ، وتكلف له بعضهم بأنه يحتمل أن يقال : إنهما معدولان من الهارت والمارت ، وانحصار العدل في الأوزان المحفوظة غير مسلم ، وهو كما ترى ، وقرأ الحسن والزهري برفعهما على أن التقدير هما هاروت وماروت ، ومما يقضي منه العجب ما قاله الإمام القرطبي : إن هاروت وماروت بدل من الشياطين على قراءة التشديد ، وما في وَما أُنْزِلَ نافية ، والمراد من الملكين جبرائيل وميكائيل لأن اليهود زعموا أن اللّه تعالى أنزلهما بالسحر ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ هارُوتَ وَمارُوتَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ وعليه فالبدل إما بدل بعض من كل ، ونص عليهما بالذكر لتمردهما ، ولكونهما رأسا في التعليم ، أو بدل كل من كل إما بناء على أن الجمع يطلق على الاثنين أو على أنهما عبارتان عن قبيلتين من الشياطين لم يكن غيرهما بهذه الصفة ، وأعجب من قوله هذا قوله : وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها ، ولا تلتفت إلى ما سواه ، ولا يخفى لدى كل منصف أنه لا ينبغي لمؤمن حمل كلام اللّه تعالى - وهو في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة - على ما هو أدنى من ذلك وما هو إلا مسخ لكتاب اللّه تعالى عز شأنه وإهباط له عن شأوه ومفاسد قلة البضاعة لا تحصى ، وقيل إنهما بدل من الناس أي يُعَلِّمُونَ النَّاسَ خصوصا هارُوتَ وَمارُوتَ والنفي هو النفي.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 342
وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ أي ما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له : إنما نحن ابتلاء من اللّه عز وجل فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى ثبت على الإيمان فَلا تَكْفُرْ باعتقاده وجواز العمل به ، وقيل : فلا تتعلم معتقدا أنه حق حتى تكفر ، وهو مبني - على رأي الاعتزال - من أن السحر تمويه وتخييل ومن اعتقد حقيته يكفر ، ومِنْ مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق ، وإفراد - الفتنة - مع تعدد المخبر عنه لكونها مصدرا ، والحمل مواطأة للمبالغة ، والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه ، وحَتَّى للغاية ، وقيل بمعنى إلا ، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير يُعَلِّمُونَ والظاهر أن القول مرة واحدة والقول : بأنه ثلاث أو سبع أو تسع لا ثبت له ، واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما فقال مجاهد : إنهما لا يصل إليهما أحد من الناس وإنما يختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافة واحدة فيتعلمان منهما ، وقيل وهو الظاهر : إنهما كان يباشران التعليم بأنفسهما في وقت من الأوقات ، والأقرب أنهما ليسا إذ ذاك على الصورة الملكية ، وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت : قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعد موته تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به قالت : كان لي زوج غاب عني فدخلت على عجوز فشكوت إليها فقالت : إن فعلت ما آمرك أجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر ، فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي به ، إلى أن قالت : فذهبت فبلت فيه ، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب إلى السماء وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما وذكرت لهما ، فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي فلن تريدي شيئا إلا كان - الخبر بطوله - فهو ونظائره - مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب - مما لا يعول عليه ذوو الألباب ، والإقدام على تكذيب مثل هذه الامرأة الدوجندية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي
لم يصح فيها شيء عن رسول رب البرية صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام ، واستدل بالآية من جوّز تعلم السحر ، ووجهه أن فيها دلالة على وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم ، والتعلم مطاوع له ، بل هما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار كالايجاب والوجوب ، ولا يخفى أنه لا دليل فيها على الجواز مطلقا لأن ذلك التعليم كان للابتلاء والتمييز كما قدمنا ، وقد ذكر القائلون بالتحريم : أن تعلم السحر إذا فرض فشوّه في صقع ، وأريد تبيين فساده لهم ليرجعوا إلى الحق غير حرام كما لا يحرم تعلم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبه - وإن كان أغلب أحواله التحريم - وهذا لا ينافي إطلاق القول به ، ومن قال : إن هاروت وماروت من الشياطين قال : إن معنى الآية ما يعلمان السحر أحدا حتى ينصحاه ويقولا : إنا مفتونان باعتقاد جوازه والعمل به فلا تكن مثلنا في ذلك فتكفر ، وحينئذ لا استدلال أصلا ، وما ذكرنا أن القول على سبيل النصح في هذا الوجه هو الظاهر ، وحكى المهدوي أنه على سبيل الاستهزاء لا النصيحة وهو الأنسب بحال الشياطين ، وقرأ طلحة بن مصرف - يعلمان - بالتخفيف من الإعلام وعليها حمل بعضهم قراءة التشديد ، وقرأ أبيّ بإظهار الفاعل فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما عطف على الجملة المنفية لأنها في قوة المثبتة كأنه قال : يعلمانهم بعد ذلك القول فيتعلمون ، وليس عطفا على المنفي بدون هذا الاعتبار كما توهمه أبو علي من كلام الزجاج ، وعطفه بعضهم على يُعَلِّمانِ محذوفا ، وبعضهم على يَأْتُونَ كذلك ، والضمير المرفوع لما دل عليه أَحَدٍ وهو الناس أو - لأحد - حملا له على المعنى كما في قوله تعالى فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة : 47] وحكى المهدوي جواز العطف على يُعَلِّمُونَ النَّاسَ فمرجع

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 343
الضمير حينئذ ظاهر ، وقيل : في الكلام مبتدأ محذوف أي فهم يتعلمون فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من عطف الاسمية على الفعلية - ونسب ذلك إلى سيبويه - وليس بالجيد ، وضمير مِنْهُما عائد على الملكين ، ومن النَّاسَ من جعله عائدا إلى السحر والكفر أو الفتنة والسحر ، وعطف يَتَعَلَّمُونَ على يُعَلِّمُونَ وحمل ما يعلمان على النفي ، وحَتَّى يَقُولا على التأكيد له أي لا يعلمان السحر لأحد بل ينهيانه حَتَّى يَقُولا إلخ فهو كقولك :
ما أمرته بكذا حتى قلت له إن فعلت نالك كذا وكذا ، وجعل - ما أنزل - أيضا نفيا معطوفا على - ما كفر - وهو كما ترى ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أي الذي أو شيئا يفرقون به وهو السحر المزيل بطريق السببية الألفة والمحبة بين الزوجين الموقع للبغضاء والشحناء الموجبتين للتفريق بينهما وقيل : المراد ما يفرق لكونه كفرا لأنه إذا تعلم كفر فبانت زوجته أو إذا تعلم عمل فتراه الناس فيعتقدون أنه حق فيكفرون فتبين أزواجهم ، و- المرء - الرجل ، والأفصح فتح الميم مطلقا ، وحكي الضم مطلقا ، وحكي الإتباع لحركة الاعراب ، ومؤنثه المرأة ، وقد جاء جمعه بالواو والنون فقالوا : المرءون ، والزوج امرأة الرجل ، وقيل : المراد به هنا القريب والأخ الملائم ، ومنه مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج : 5 ، ق : 7] واحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات : 22] وقرأ الحسن والزهري وقتادة «المر» بغير همز مخففا ، وابن أبي إسحاق - «المرء» - بضم الميم مع الهمز ، والأشهب بالكسر والهمز ، ورويت عن الحسن ، وقرأ الزهري أيضا - «المر» - بالفتح وإسقاط الهمزة وتشديد الراء وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ الضمير للسحرة الذين عاد إليهم ضمير فَيَتَعَلَّمُونَ وقيل : لليهود الذين عاد إليهم ضمير وَاتَّبَعُوا وقيل - للشياطين - وضمير به عائد لما ، ومِنْ زائدة لاستغراق النفي كأنه قيل : وما يضرون به أحدا ، وقرأ الأعمش - بضاري - محذوف النون ، وخرج على أنها حذفت تخفيفا وإن كان اسم الفاعل ليس صلة - لأل - فقد نص ابن مالك على عدم الاشتراط لقوله :
ولسنا إذا تأتون سلمى بمدعي لكم غير أنا إن نسالم نسالم
وقولهم : قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا ، وقيل : إنها حذفت للإضافة إلى محذوف مقدر لفظا على حد قوله : يا تيم تيم عدي في أحد الوجوه ، وقيل : للاضافة إلى أَحَدٍ على جعل الجار جزءا منه والفصل بالظرف مسموع كما في قوله :
هما أخوا في الحرب من لا أخا له وإن خاف يوما كبوة فدعاهما
واختار ذلك الزمخشري ، وفيه أن جعل الجار جزء من المجرور ليس بشيء لأنه مؤثر فيه ، وجزء الشيء لا يؤثر فيه ، وأيضا الفصل بين المتضايفين بالظرف وإن سمع من ضرائر الشعر كما صرح به أبو حيان ولظن تعين هذا مخرجا قال ابن جني : إن هذه القراءة أبعد الشواذ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ استثناء مفرغ من الأحوال والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير - ضارين - أو من مفعوله المعتمد على النفي أو الضمير المجرور في بِهِ أو المصدر المفهوم من الوصف ، والمراد من الإذن هنا التخلية بين المسحور وضرر السحر - قاله الحسن - وفيه دليل على أن فيه ضررا مودعا إذا شاء اللّه تعالى حال بينه وبينه ، وإذا شاء خلاه وما أودعه فيه ، وهذا مذهب السلف في سائر الأسباب والمسببات ، وقيل : الإذن بمعنى الأمر ويتجوز به عن التكوين بعلاقة ترتب الوجود على كل منهما في الجملة ، والقرينة عدم كون القبائح مأمورا بها ففيه نفي كون الأسباب مؤثرة بنفسها بل بجعله إياها أسبابا إما عادية أو حقيقية ، وقيل : إنه هنا بمعنى العلم ، وليس فيه إشارة إلى نفي التأثير بالذات كالوجهين الأولين.
وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ لأنهم يقصدون به العمل قصدا جازما وقصد المعصية كذلك معصية أو لأن العلم يدعو إلى العمل ويجر إليه لا سيما عمل الشر الذي هو هوى النفس ، فصيغة المضارع للحال على الأول وللاستقبال

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 344
على الثاني وَلا يَنْفَعُهُمْ عطف على ما قبله للإيذان بأنه شر بحت وضرر محض لا كبعض المضار المشوبة بنفع وضرر لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار بأكاذيب السحرة ولا إماطة الأذى عن الطريق حتى يكون فيه نفع في الجملة ، وفي الإتيان ب لا إشارة إلى أنه غير نافع في الدارين لأنه لا تعلق به بانتظام المعاش ولا المعاد وفي الحكم بأنه ضار غير نافع تحذير بليغ - لمن ألقى السمع وهو شهيد - عن تعاطيه وتحريض على التحرز عنه ، وجوز بعضهم أن يكون لا يَنْفَعُهُمْ على إضمار هو فيكون في موضع رفع وتكون الواو للحال ولا يخفى ضعفه وَلَقَدْ عَلِمُوا متعلق بقوله تعالى : وَلَمَّا جاءَهُمْ إلخ ، وقصة السحر مستطردة في البين فالضمير لأولئك اليهود ، وقيل : الضمير لليهود الذين كانوا على عهد سليمان عليه السلام ، وقيل : للملكين لأنهما كانا يقولان فَلا تَكْفُرْ وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك لَمَنِ اشْتَراهُ أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب اللّه ، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ ، وعلى المضارع ودخولها على الماضي مع قد كثير وبدونه ممتنع ، وعلى خبر المبتدأ إذا تقدم عليه ، وعلى معمول الخبر إذا وقع موقع المبتدأ والكوفيون يجعلونها في الجميع جواب القسم المقدر وليس في الوجود عندهم لام ابتداء كما يشير إليه كلام الرضيّ ، وقد علقت هنا - علم - عن العمل سواء كانت متعدية لمفعول أو مفعولين - فمن - موصولة مبتدأ واشْتَراهُ صلتها وقوله تعالى : ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ جملة ابتدائية خبرها ، و- من - مزيدة في المبتدأ ، وفِي الْآخِرَةِ متعلق بما تعلق به الخبر أو حال من الضمير فيه أو من مرجعه ، و- الخلاق - النصيب - قاله مجاهد - أو القوام - قاله ابن عباس - رضي اللّه تعالى عنهما ، أو القدر - قاله قتادة - ومنه قوله :
فما لك بيت لدى الشامخات وما لك في غالب من «خلاق»
قال الزجاج : وأكثر ما يستعمل في الخير ، ويكون للشر على قلة ، وذهب أبو البقاء تبعا للفراء إلى أن اللام موطئة للقسم ، ومِنْ شرطية مبتدأ واشْتَراهُ خبرها وما لَهُ إلخ جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف دل هو عليه لأنه إذا اجتمع قسم وشرط يجاب سابقهما غالبا ، وفيه ما فيه لأنه نقل عن الزجاج ردّ من قال بشرطية مِنْ هنا بأنه ليس موضع شرط ، ووجهه أبو حيان بأن الفعل ماض لفظا ومعنى لأن الاشتراء قد وقع فجعله شرطا لا يصح لأن فعل الشرط إذا كان ماضيا لفظا فلا بد أن يكون مستقبلا معنى ، وقد ذكر الرضيّ في - لزيد قائم - أن الأولى كون اللام فيه لام الابتداء مفيدة للتأكيد ولا يقدر القسم كما فعله الكوفية لأن الأصل عدم التقدير ، والتأكيد المطلوب من القسم حاصل من اللام ، والقول بأن اللام تأكيد للأولى أو زائدة مما لا يكاد يصح ، أما الأول فلأن بناء الكلمة إذا كان على حرف واحد لا يكرر وحده بل مع عماده إلا في ضرورة الشعر على ما ارتضاه الرضيّ ، وأما الثاني فلأن المعهود زيادة اللام الجارة وهي مكسورة في الاسم الظاهر.
وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ اللام فيه لام ابتداء أيضا ، والمشهور أنها جواب القسم ، والجملة معطوفة على القسمية الأولى ، وما نكرة مميزة للضمير المبهم في - بئس - والمخصوص بالذم محذوف ، و«شروا» يحتمل المعنيين والظاهر هو الظاهر - أي واللّه لبئس شيئا شروا به حظوظ أنفسهم - أي باعوها أو شروها في زعمهم ذلك الشراء ، وفي البحر بئسما باعوا أنفسهم السحر أو الكفر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي مذمومية الشراء المذكور لامتنعوا عنه ، ولا تنافي بين إثبات العلم لهم أولا ونفيه عنهم ثانيا إما لأن المثبت لهم هو العقل الغريزي والمنفي عنهم هو الكسب الذي هو من جملة التكليف ، أو لأن الأول هو العلم بالجملة والثاني هو العلم بالتفصيل ، فقد يعلم الإنسان مثلا قبح الشيء ثم لا يعلم أن فعله قبيح فكأنهم علموا أن شراء النفس بالسحر مذموم لكن لم يتفكروا في أن ما يفعلونه هو من جملة ذلك القبيح أو لأنهم علموا العقاب ولم يعلموا حقيقته وشدته ، وإما لأن الكلام مخرج على تنزيل العالم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 345
بالشيء منزلة الجاهل ووجود الشيء منزلة عدمه لعدم ثمرته حيث إنهم لم يعملوا بعلمهم ، أو على تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بناء على أن قوله تعالى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ معناه لو كان لهم علم بذلك الشراء لامتنعوا منه أي ليس لهم علم فلا يمتنعون ، وهذا هو الخبر الملقى إليهم ، واعتراض العلامة بأن هذا الخبر لو فرض كونه ملقى إليهم فلا معنى لكونهم عالمين بمضمونه كيف وقد تحقق في وَلَقَدْ عَلِمُوا نقيضه وهو أن لهم علما به وبعد اللتيا والتي لا معنى لتنزيلهم منزلة الجاهل بأن ليس لهم علم بأن من اشتراه - ما له في الآخرة من خلاق - بل إن كان فلا بد أن ينزلوا منزلة الجاهل بأن لهم علما بذلك يجاب عنه : أما أولا فبأن الخطاب صريحا للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم وتعريضا لهم ولذا أكد ، وأما ثانيا فبأن المستفاد من وَلَقَدْ عَلِمُوا ثبوت العلم لهم حقيقة والمستفاد من الخبر الملقى لهم نفي العلم عنهم تنزيلا ولا منافاة بينهما ، وأما ثالثا فبأن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان عالما بأنه بمنزلة الجاهل في عدم ترتب ثمرة علمه ، ومقتضى هذا العلم أن يمتنع عن ذلك العمل ففيما نحن فيه كانوا عالمين فيه بأن ليس لهم علم وأنهم بمنزلة الجاهل في ذلك الشراء ، ومقتضى هذا العلم أن يمتنعوا عنه وإذا لم يمتنعوا كانوا بمنزلة الجاهل في عدم جريهم على مقتضى هذا العلم فألقى الخبر إليهم بأن ليس لهم علم مع علمهم به كذا قيل ، ولا يخفى ما فيه من شدة التكلف ، وأجاب بعضهم عما يتراءى من التنافي بأن مفعول يُعَلِّمُونَ ما دل عليه ل لَبِئْسَ ما شَرَوْا إلخ أعني مذمومية الشراء ، ومفعول عَلِمُوا أنه لا نصيب لهم في الآخرة ، والعلم بأنه لا نصيب لهم في الآخرة لا ينافي نفي العلم بمذمومية الشراء بأن يعتقدوا إباحته - فلا حاجة حينئذ إلى جميع ما سبق - وفيه أن العلم بكون الشراء المذكور موجبا للحرمان في الآخرة بدون العلم
بكونه مذموما غاية المذمومية - مما لا يكاد يعقل عند أرباب العقول - والقول بأن مفعول عَلِمُوا محذوف ، أي لقد علموا أنه يضرهم ولا ينفعهم ، ولَمَنِ اشْتَراهُ مرتبط بأول القصة ، وضمير لَبِئْسَ ما شَرَوْا لَمَنِ اشْتَراهُ ركيك جدا ، وبئسما يشتري ، ودفع التنافي بأنه أثبت «أولا» العلم بسوء ما شروه بالكتاب بحسب الآخرة ، ثم ذم بالسوء مطلقا في الدين والدنيا ، لأن «بئس» للذم العام ، فالمنفي - العلم بالسوء المطلق - يعني لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ضرره في الدين والدنيا لامتنعوا ، إنما غرهم توهم النفع العاجل ، أو بأن المثبت أولا العلم بأن «ما شروه» ما لهم في الآخرة نصيب منه ، لا أنهم شَرَوْا أنفسهم به وأخرجوها من أيديهم بالكلية ، بل كانوا يظنون أن آباءهم الأنبياء يشفعونهم في الآخرة والعلم المنفي هو هذا العلم لا يخفى ما فيه «أما أولا» فلأن عموم الذم في «بئس» وإن قيل به لكنه بالنسبة إلى إفراد الفاعل في نفسها من دون تعرض للأزمنة والأمكنة - والتزام ذلك لا يخلو عن كدر - «وأما ثانيا» فلأن تخصيص النصيب - بمنه - مع كونه نكرة مقرونة ب مِنْ في سياق النفي المساق للتهويل مما لا يدعو إليه إلا ضيق العطن ، والجواب - بإرجاع ضمير عَلِمُوا لِلنَّاسِ أو الشَّياطِينُ واشْتَرَوْا لليهود - ارتكاب للتفكيك من غير ضرورة تدعو إليه ، ولا قرينة واضحة تدل عليه ، وبعد كل
حساب - الأولى عندي في الجواب - كون الكلام مخرجا على التنزيل ، ولا ريب في كثرة وجود ذلك في الكتاب الجليل ، والأجوبة التي ذكرت من قبل - مع جريان الكلام فيها على مقتضى الظاهر - لا تخلو في الباطن عن شيء فتدبر.
[سورة البقرة (2) : الآيات 103 إلى 123]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122)
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 346

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 347
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا أي بالرسول ، أو بما أنزل إليه من الآيات ، أو بالتوراة وَاتَّقَوْا أي المعاصي التي حكيت عنهم لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب لَوْ الشرطية ، وأصله - لأثيبوا مثوبة من عند اللّه خيرا مما شروا به أنفسهم - فحذف الفعل ، وغير السبك إلى ما ترى ليتوسل بذلك مع معونة المقام إلى الإشارة إلى ثبات المثوبة ، وثبات نسبة الخيرية إليها مع الجزم بخيريتها لأن الجملة إذا أفادت ثبات المثوبة كان الحكم بمنزلة التعليق بالمشتق ، كأنه قيل :
لَمَثُوبَةٌ دائمة خَيْرٌ لدوامها وثباتها ، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه ، ولم يقل : لمثوبة اللّه ، مع أنه أخصر ليشعر التنكير بالتقليل ، فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب اللّه تعالى في الآخرة الدائمة خير من ثواب كثير في الدنيا الفانية ، فكيف وثواب اللّه تعالى كثير دائم ، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى ، وببيان الأصل انحل إشكالان «لفظي» وهو أن جواب «لو» إنما يكون فعلية ماضوية «ومعنوي» وهو أن خيرية - المثوبة :
ثابتة لا تعلق لها بإيمانهم وعدمه ، ولهذين الإشكالين قال الأخفش واختاره جمع : لسلامته من وقوع الجملة الابتدائية في الظاهر جوابا ل لَوْ ولم يعهد ذلك في لسان العرب - كما في البحر - أن - اللام - جواب قسم محذوف والتقدير - ولو أنهم آمنوا واتقوا لكان خيرا لهم ولمثوبة عند اللّه خير - وبعضهم التزم التمني - ولكن من جهة العباد لا من جهته تعالى - خلافا لمن اعتزل دفعا لهما إذ لا جواب لها حينئذ ، ويكون الكلام مستأنفا ، كأنه لما تمنى لهم ذلك قيل : ما هذا التحسر والتمني؟ فأجيب بأن هؤلاء المبتذلين حرموا ما شيء قليل منه خير من الدنيا وما فيها ، وفي ذلك تحريض وحث على الإيمان ، وذهب أبو حيان إلى أن خَيْرٌ هنا للتفضيل لا للأفضلية على حد :
فخير كما لشركما فداء
والمثوبة مفعلة - بضم العين - من الثواب ، فنقلت - الضمة - إلى ما قبلها ، فهو مصدر ميمي ، وقيل : مفعولة وأصلها «مثووبة» فنقلت - ضمة الواو - إلى ما قبلها ، وحذفت لالتقاء الساكنين ، فهي من المصادر التي جاءت على مفعولة كمصدوقة - كما نقله الواحدي - ويقال : «مثوبة» - بسكون الثاء وفتح الواو - وكان من حقها أن تعلّ ، فيقال :
«مثابة» - كمقامة - إلا أنهم صححوها كما صححوا في الأعلام مكوزة وبها قرأ قتادة وأبو السماك والمراد بها الجزاء والأجر ، وسمي بذلك لأن المحسن يثوب إليه ، والقول بأن المراد بها الرجعة إليه تعالى بعيد لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ المفعول محذوف بقرينة السابق ، أي إن ثواب اللّه تعالى خَيْرٌ وكلمة لَوْ إما للشرط ، والجزاء محذوف أي آمَنُوا وإما للتمني ولا حذف ، ونفي العلم على التقديرين بنفي ثمرته الذي هو العمل ، أو لترك التدبر ، هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» وَاتَّبَعُوا أي اليهود وهي القوى الروحانية ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ وهم من الانس المتمردون الأشرار ، ومن الجن الأوهام والتخيلات المحجوبة عن نور الروح المتمردة عن طاعة القلب العاصية لأمر العقل والشرع ، والنفوس الأرضية المظلمة القوية على عهد مُلْكِ سُلَيْمانَ الروح الذي هو خليفة اللّه تعالى في أرضه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ بملاحظة السوي واتباع الهوى ، وإسناد التأثير إلى الأغيار وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا وستروا مؤثرية اللّه تعالى وظهوره الذي محا ظلمة العدم.
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ والشبه الصادة عن السير والسلوك إلى ملك الملوك وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وهما العقل النظري والعقل العملي النازلان من سماء القدس إلى أرض الطبيعة المنكوسان في بئرها لتوجههما إليها باستجذاب النفس إياهما بِبابِلَ الصدر المعذبان بضيق المكان بين أبخرة حب الجاه ، ومواد الغضب وأدخنة نيران الشهوات المبتليان بأنواع المتخيلات ، والموهومات الباطلة من الحيل والشعوذة والطلسمات والنيرنجات وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا له إِنَّما نَحْنُ امتحان وابتلاء من اللّه تعالى فَلا تَكْفُرْ وذلك لقوة النورية وبقية الملكوتية فيهما ، فإن العقل دائما ينبه صاحبه - إذا صحا عن سكرته وهب من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 348
نومته - عن الكفر والاحتجاب فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ القلب والنفس ، أو بين الروح والنفس بتكدير القلب وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ بزيادة الاحتجاب وغلبة هوى النفس وَلا يَنْفَعُهُمْ كسائر العلوم في رفع الحجاب وتخلية النفس وتزكيتها وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في مقام الفناء والرجوع إلى الحق سبحانه من نصيب لإقباله على العالم السفلي وبعده عن العالم العلوي بتكدر جوهر قلبه ، وانهماكه برؤية الأغيار وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا برؤية الأفعال من اللّه تعالى واتقوا الشرك بإثبات ما سواه لأثيبوا بمثوبة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تعالى دائمة ، ولرجعوا إليه ، وذلك خَيْرٌ لهم لَوْ كانُوا من ذوي العلم والعرفان والبصيرة والإيقان.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا الرعي حفظ الغير لمصلحته سواء كان الغير عاقلا أو لا ، وسبب نزول الآية - كما أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه - أن اليهود كانوا يقولون ذلك سرا لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو سب قبيح بلسانهم ، فلما سمعوا أصحابه عليه الصلاة والسلام يقولون : أعلنوا بها ، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، وروي أن سعد بن عبادة رضي اللّه تعالى عنه سمعها منهم ، فقال : يا أعداء اللّه عليكم لعنة اللّه ، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأضربن عنقه ، قالوا : أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية ونهي المؤمنون سدا للباب ، وقطعا للألسنة وإبعادا عن المشابهة. وأخرج عبيد وابن جرير والنحاس عن عطاء قال : كانت راعِنا لغة الأنصار في الجاهلية فنهاهم اللّه تعالى عنها في الإسلام ، ولعل المراد أنهم يكثرونها في كلامهم واستعملها اليهود سبا فنهوا عنها.
وأما دعوى أنها لغة مختصة بهم فغير ظاهر لأنها محفوظة في لغة جميع العرب منذ كانوا ، وقيل : ومعنى هذه الكلمة عند اليهود لعنهم اللّه تعالى اسمع - لا سمعت - وقيل : أرادوا نسبته صلى اللّه تعالى عليه وسلم وحاشاه إلى الرعن ، فجعلوه مشتقا من الرعونة وهي الجهل والحمق ، وكانوا إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا : راعنا ، أي يا أحمق - فالألف حينئذ لمد الصوت - وحرف النداء محذوف - وقد ذكر الفراء أن أصل يا زيد يا زيدا - بالألف - ليكون المنادى بين صوتين ، ثم اكتفي بيا ونوي الألف ، ويحتمل أنهم أرادوا به المصدر ، أي - رعنت رعونة - أو أرادوا صرت راعنا وإسقاط - التنوين - على اعتبار الوقف ، وقد قرأ الحسن وابن أبي ليلى ، وأبو حيوة وابن محيصن - بالتنوين - وجعله الكثير صفة لمصدر محذوف ، أي قولا : راعِنا وصيغة فاعل حينئذ للنسبة - كلابن وتامر - ووصف القول به للمبالغة كما يقال :
كلمة حمقاء ، وقرأ عبد اللّه وأبيّ «راعونا» على إسناد الفعل لضمير الجمع للتوقير - كما أثبته الفارسي - وذكر أن في مصحف عبد اللّه «ارعونا» وذهب بعض العلماء أن سبب النهي أن لفظ المفاعلة يقتضي الاشتراك في الغالب - فيكون المعنى عليه - ليقع منك رعي لنا ، ومنا رعي لك ، وهو مخل بتعظيمه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ولا يخفى بعده عن سبب النزول بمراحل وَقُولُوا انْظُرْنا أي انتظرنا وتأن علينا ، أو انظر إلينا ، ليكون ذلك أقوى في الإفهام والتعريف ، وكان الأصل أن يتعدى الفعل بإلى ، لكنه توسع فيه فتعدى بنفسه على حد قوله :
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ن كما ينظر «الأراك .. الظباء»
وقيل : هو من نظر البصيرة ، والمراد به التفكر والتدبر فيما يصلح حال المنظور في أمره والمعنى تفكر في أمرنا وخير الأمور عندي أوسطها إلا أنه ينبغي أن يقيد نظر العين بالمقترن بتدبير الحال لتقوم هذه الكلمة مقام الأولى خالية من التدليس ، وبدأ بالنهي لأنه من باب التروك فهو أسهل ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس قبل بالنهي ، وقرأ أبيّ والأعمش - أنظرنا - بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار ومعناه أمهلنا حتى نتلقى عنك ونحفظ ما نسمعه منك ، وهذه القراءة تشهد للمعنى الأول على قراءة الجمهور إلا أنها على شذوذها لا تأبى ما اخترناه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 349
وَاسْمَعُوا أي ما أمرتكم به ونهيتكم عنه بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتكم عنه ولا تتركوا ما أمرتكم به أو هو أمر بحسن الاستماع بأن يكون بإحضار القلب وتفريغه عن الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة ففيه تنبيه على التقصير في السماع حتى ارتكبوا ما تسبب للمحذور ، والمراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضا لليهود حيث قالوا : سَمِعْنا وَعَصَيْنا [البقرة : 93] وإذا كان المراد سماع هذا الأمر والنهي يكون تأكيدا لما تقدم.
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ اللام للعهد فالمراد بالكافرين اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم المعلوم مما سبق بقرينة السياق ووضع المظهر موضع المضمر إيذانا بأن التهاون برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كفر يوجب أليم العذاب ، وفيه من تأكيد النهي ما فيه ، وجعلها للجنس - فيدخل اليهود كما اختاره أبو حيان - ليس بظاهر على ما قيل : لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلا.
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ الودّ محبة الشيء وتمني كونه ، ويذكر ويراد كل واحد منهما قصدا والآخر تبعا ، والفارق كون مفعوله جملة إذا استعمل في التمني ومفردا إذا استعمل في المحبة فتقول على الأول : وددت لو تفعل كذا ، وعلى الثاني وددت الرجل ، ونفيه كناية عن الكراهة وأتى ب ما للإشارة إلى أن أولئك متلبسون بها ومِنْ للتبيين ، وقيل : للتبعيض وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق إلا أن كفرهم يمنعهم وإن الكفر شر كله لأنه الذي يورث الحسد ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه كما أن الإيمان خير كله لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى اللّه تعالى ، ولَا صلة لتأكيد النفي وزيدت له هنا دون قوله : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة : 1] لما أن مبنى النفي الحسد ، واليهود بهذا الداء أشهر لا سيما وقد تقدم ما يفيد ابتلاءهم به فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها ولم يكن ذلك في لَمْ يَكُنِ وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه فأكذبهم اللّه تعالى بذلك ، وقيل : نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير وفصلت عما قبل ، وإن اشتركا في بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنين لاختلاف الغرضين فإن الأول لتأديب المؤمنين وهذا لتكذيب أولئك الكافرين ، ولأجل هذا الاختلاف فصل السابق عن سابقه ، ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها ، والقول : بأن ذلك من حيث إن القول المنهي عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحي المعبر عنه بالخير فيها فكأنه أشير إلى أن سبب
تحريفهم له - إلى ما حكي عنهم لوقوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير - مساق على سبيل الترجي وأظنه إلى التمني أقرب ، وقرىء «ولا المشركون» بالرفع عطفا على الذين كفروا أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ في موضع النصب على أنه مفعول يَوَدُّ وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد ، وذكر التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل الخيرات على التعاقب وتجددها لا سيما إذا أريد مِنْ خَيْرٍ في قوله تعالى : مِنْ خَيْرٍ الوحي وهو قائم مقام الفاعل ، ومِنْ صلة وزيادة خير ، والنفي الأول منسحب عليها. ولذا ساغت زيادتها عند الجمهور ولا حاجة إلى ما قيل : إن التقدير يود أن لا ينزل خير ، وذهب قوم إلى أنها للتبعيض وعليه يكون عليكم قائما ذلك المقام ، والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة أو ما اختص به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المزايا أو عام في أنواع الخير كلها لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على المؤمنين عداوة وحسدا وخوفا من فوات الدراسة وزوال الرياسة ، وأظهر الأقوال كما في البحر الأخير ولا يأباه ما سيأتي لما سيأتي.
مِنْ رَبِّكُمْ في موضع الصفة للخير ، ومِنْ ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية التنزيل والإضافة إلى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 350
ضمير المخاطبين لتشريفهم وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له ، والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها اعتناء به وتعظيما لشأنه ومعنى اختصاص ذلك على القول الأول ظاهر ولذا اختاره من اختاره ، وعلى الأخير انفراد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه وعدم شركة أولئك الكارهين فيه وعروّهم عن ترتب آثاره ، وقيل : المراد من الآية دفع الاعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لا يعترض عليه إذا عم ، وفي إقامة لفظ - اللّه - مقام ضمير ربكم تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية ، والباء داخلة على المقصور أي يؤتي رحمته ، ومِنْ مفعول ، وقيل : الفعل لازم ، ومِنْ فاعل وعلى التقديرين العائد محذوف وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تذييل لما سبق وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا ، ويود عدم إصابة خير له ، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل : وإذا جعل الفضل عاما وقيل : بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيها على أحد الأقوال. كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن ، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته ، وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم.
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نزلت لما قال المشركون ، أو اليهود : ألا ترون إلى محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ، ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة والسلام يقوله من تلقاء نفسه ، وهو كلام يناقض بعضه بعضا - والنسخ - في اللغة إزالة الصورة - أو ما في حكمها - عن الشيء ، وإثبات مثل ذلك في غيره سواء كان في الإعراض أو في الأعيان - ومن استعماله في المجموع التناسخ - وقد استعمل لكل واحد منهما مجازا - وهو أولى من الاشتراك - ولذا رغب فيه الراغب ، فمن الأول نسخت الريح الأثر أي أزالته ، ومن الثاني نسخت الكتاب إذا أثبت ما فيه في موضع آخر ، ونسخ الآية - على ما ارتضاه بعض الأصوليين - بيان انتهاء التعبد بقراءتها كآية «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم» أو الحكم المستفاد منها كآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة : 240] أو بهما جميعا كآية «عشر رضعات معلومات يحرمن» وفيه رفع التأبيد المستفاد من إطلاقها ، ولذا عرفه بعضهم برفع الحكم الشرعي ، فهو بيان بالنسبة إلى الشارع ، ورفع بالنسبة إلينا ، وخرج بقيد التعبد الغاية ، فإنها بيان لانتهاء مدة نفس الحكم - لا للتعبد به - واختص التعريف بالأحكام إذ لا تعبد في الأخبار أنفسها ، وإنساؤها إذهابها عن القلوب بأن لا تبقى في الحفظ - وقد وقع هذا - فإن بعض الصحابة أراد قراءة بعض ما حفظه فلم يجده في صدره ،
فسأل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : «نسخ البارحة من الصدور»
وروى مسلم عن أبي موسى : إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة ، فأنسيتها غير أني حفظت منها
«لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب»
وكنا نقرأ بسورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها ، غير أني حفظت منها «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة» وهل يكون ذلك لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما كان لغيره أو لا؟ فيه خلاف ، والذاهبون إلى الأول استدلوا بقوله تعالى : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى : 6] وهو مذهب الحسن ، واستدل الذاهبون إلى الثاني بقوله تعالى : وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء : 86] فإنه يدل على أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إليه صلى اللّه تعالى عليه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 351
وسلم - وهذا قول الزجاج - وليس بالقوي لجواز حمل الذي على ما لا يجوز عليه ذلك من أنواع الوحي ، وقال أبو علي : المراد لم نذهب بالجميع ، وعلى التقديرين لا ينافي الاستثناء ، وسبحان من لا ينسى ، وفسر بعضهم - النسخ - بإزالة الحكم سواء ثبت اللفظ أو لا - والإنساء - بإزالة اللفظ ثبت حكمه أو لا ، وفسر بعض آخر «الأول» بالإذهاب إلى بدل للحكم السابق «والثاني» بالإذهاب لا إلى بدل ، وأورد على كلا الوجهين أن تخصيص - النسخ - بهذا المعنى مخالف للغة والاصطلاح ، وأن - الإنساء حقيقة في الإذهاب عن القلوب ، والحمل على المجاز - بدون تعذر الحقيقة - تعسف ، ولعل ما يتمسك به لصحة هذين التفسيرين من الرواية عن بعض الأكابر لم يثبت ، وما شرطية جازمة ل نَنْسَخْ منتصبة به على المفعولية ، ولا تنافي بين كونها عاملة ومعمولة لاختلاف الجهة ، فبتضمنها الشرط عاملة ، وبكونها اسما معمولة - ويقدر لنفسها جازم - وإلا لزم توارد العاملين على معمول واحد ، وتدل على جواز وقوع ما بعدها ، إذ الأصل فيها أن تدخل على الأمور المحتملة ، واتفقت أهل الشرائع على جواز النسخ ووقوعه وخالفت اليهود غير العيسوية في جوازه وقالوا : يمتنع عقلا ، وأبو مسلم الأصفهاني في وقوعه فقال : إنه وإن جاز عقلا لكنه لم يقع - وتحقيق ذلك في الأصول ، ومِنْ آيَةٍ في موضع النصب على التمييز والمميز ما أي أي شيء نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ واحتمال زيادة مِنْ وجعل آيَةٍ حالا - ليس بشي ء - كاحتمال كون ما مصدرية شرطية وآيَةٍ مفعولا به أي أي نسخ «ننسخ آية» بل هذا الاحتمال أدهى وأمر - كما لا يخفى - والضمير المنصوب عائد إلى آيَةٍ على حد : عندي درهم ونصفه ، لأن المنسوخ غير المنسي ، وتخصيص - الآية - بالذكر باعتبار الغالب ، وإلا فالحكم غير مختص بها ، بل جار فيما دونها أيضا على ما قيل.
وقرأ طائفة وابن عامر من السبعة «ننسخ» من باب الإفعال - والهمزة - كما قال أبو علي : للوجدان على صفة نحو أحمدته - أي وجدته محمودا - فالمعنى ما نجده منسوخا وليس نجده كذلك إلا بأن ننسخه ، فتتفق القراءتان في المعنى - وإن اختلفا في اللفظ - وجوّز ابن عطية كون - الهمزة - للتعدية ، فالفعل حينئذ متعد إلى مفعولين ، والتقدير ما ننسخك مِنْ آيَةٍ أي ما نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخها اللّه تعالى أباح لنبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم تركها بذلك النسخ فسمى تلك الإباحة إنساخا ، وجعل بعضهم - الإنساخ - عبارة عن الأمر بالنسخ والمأمور هو النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، أو جبرائيل عليه السلام ، واحتمال أن يكون من نسخ الكتاب ، أي ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، والضميران الآتيان بعد عائدان على ما عاد إليه ضمير نُنْسِها ناشىء عن الذهول عن قاعدة أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وقرأ عمر وابن عباس والنخعي وأبو عمرو وابن كثير وكثير «ننسأها» - بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة - وطائفة كذلك إلا أنه - بالألف من غير همز - ولم يحذفها للجازم لأن أصلها - الهمزة - من - نسأ - بمعنى أخر ، والمعنى في المشهور نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها أو نبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها ، وهو معنى نُنْسِها فتتحد القراءتان ، وقيل : ولعله ألطف : إن المعنى نؤخر إنزالها ، وهو في شأن الناسخة حيث أخر ذلك مدة بقاء المنسوخة فالمأتية حينئذ عبارة عن المنسوخة كما أنه حين النسخ عبارة عن الناسخة فمعنى الآية عليه أن رفع المنسوخة بإنزال الناسخة وتأخير الناسخة بإنزال المنسوخة كل منهما يتضمن المصلحة في وقته ، وقرأ الضحاك وأبو الرجاء «ننسها» على صيغة المعلوم للمتكلم مع الغير من التنسية ، والمفعو
:
أنسانيه اللّه تعالى ونسانيه تنسية بمعنى أي ننس أحدا إياها ، وقرأ الحسن وابن يعمر - «تنسها» - بفتح التاء من النسيان «ونسيت» إلى سعد بن أبي وقاص ، وفرقة كذلك إلا أنهم همزوا ، وأبو حيوة كذلك إلا أنه ضم التاء على أنه من الإنساء ، وقرأ معبد مثله ، ولم يهمز ، وقرأ أبيّ - «ننسك» - بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز وبكاف الخطاب. وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة - «ننسكها» - بإظهار المفعولين ، وقرأ الأعمش - «ما ننسك من آية أو

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 352
ننسخها نجىء بمثلها» - ومناسبة الآية لما قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ حيث أقر الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم مدة على قول راعِنا وإقراره صلى اللّه تعالى عليه وسلم على الشيء منزل منزلة الأمر به والاذن فيه ، ثم إنهم نهوا عن ذلك فكان مظنة لما يحاكى ما حكى في سبب النزول ، أو لأنه تعالى لما ذكر أنه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ كاد ترفع الطغام رؤوسها وتقول : إن من الفضل عدم النسخ لأن النفوس إذا داومت على شيء سهل عليها فأتى سبحانه بما ينكس رؤوسهم ويكسر ناموسهم ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم وجوده العميم ، أو لأنه تعالى لما أشار إلى حقية الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا عقبه بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاعنين فيه فليتدبر.
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أي بشيء هو خير للعباد منها أَوْ مِثْلِها حكما كان ذلك أو عدمه وحيا متلوا أو غيره ، والخيرية أعم من أن تكون في النفع فقط أو في الثواب فقط أو في كليهما ، والمثلية خاصة بالثواب على ما أشار إليه بعض المحققين ، وفصله بأن الناسخ إذا كان ناسخا للحكم سواء كان ناسخا للتلاوة أو لا لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة خلا عنها الحكم السابق لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح ، وتبدلها منوط بتبدلها بحسب الأوقات فيكون الناسخ خيرا منه في النفع سواء كان خيرا منه في الثواب أو مثلا له أو لا ثواب فيه أصلا كما إذا كان الناسخ مشتملا على الإباحة أو عدم الحكم وإذا كان ناسخا للتلاوة فقط لا يتصور الخيرية في النفع لعدم تبدل الحكم السابق والمصلحة فهو إما خير منه في الثواب أو مثل له ، وكذا الحال في الإنساء فإن المنسي إذا كان مشتملا على حكم يكون المأتي به خيرا في النفع سواء كان النفع لخلوه عن الحكم مطلقا أو لخلوه عن ذلك الحكم واشتماله على حكم يتضمن مصلحة خلا عنها الحكم المنسي مع جواز خيريته في الثواب ومماثلته أيام خلوه عنه ، وإذا لم يكن مشتملا على حكم فالمأتيّ به بعده إما خير في الثواب أو مثل له ، والحاصل أن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير تبدل الحكم تتبدل المصلحة فيكون خيرا منه ، وعلى تقدير عدم تبدله المصلحة الأولى باقية على حالها انتهى ، ثم لا يخفى أن ما تقدم من التعميم مبني على جواز النسخ بلا بدل وجواز نسخ الكتاب بالسنة - وهو المذهب المنصور - ومن الناس من منع ذلك ومنع النسخ ببدل أثقل أيضا ، واحتج بظاهر الآية ، أما على الأول فلأنه لا يتصور كون المأتيّ به خيرا أو مثلا إلا في بدل ، وأما على الثاني فلأن الناسخ هو المأتيّ به بدلا وهو خير أو مثل ، ويكون الآتي به هو اللّه تعالى ، والسنة ليست خيرا ولا مثل القرآن ولا مما أتى به سبحانه وتعالى ، وأما على
الثالث فلأن الأثقل ليس بخير من الأخف ولا مثلا له ، ورد ذلك - أما الأول ، والثالث - فلأنا لا نسلم أن كون المأتيّ به خيرا أو مثلا لا يتصور إلا في بدل وأن الأثقل لا يكون خيرا من الأخف إذ الأحكام إنما شرعت والآيات إنما نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا منه تعالى ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كالدواء الذي تعالج به الأدواء فإن النافع في عصر قد يضر في غيره والمزيل علة شخص قد يزيل علة سواه فإذن قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح في انتظام المعاش وأنظم في إصلاح المعاد واللّه تعالى لطيف حكيم ، ولا يرد أن المتبادر من نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها بآية خير منها وأن عدم الحكم ليس بمأتيّ به لما أن الخلاف في جواز النسخ بلا بدل ليس في إتيان اللفظ بدل الآية الأولى بل في الحكم كما لا يخفى على من راجع الأصول - وأما الثاني - فلأنا لا نسلم حصر الناسخ بما ذكر إذ يجوز أن يعرف النسخ بغير المأتيّ به فإن مضمون الآية ليس إلا أن نسخ الآية يستلزم الإتيان بما هو خير منها أو مثل لها ، ولا يلزم منه أن يكون ذلك هو الناسخ فيجوز أن يكون أمرا مغايرا يحصل بعد حصول النسخ وإذا جاز ذلك فيجوز أن يكون الناسخ سنة والمأتيّ به الذي هو خير أو مثل آية أخرى ، وأيضا السنة مما أتى به اللّه سبحانه لقوله تعالى : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم : 3 ، 4] وليس المراد بالخيرية والمماثلة في اللفظ حتى لا تكون

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 353
السنة كذلك بل في النفع والثواب فيجوز أن يكون ما اشتملت عليه السنة خيرا في ذلك ، واحتجت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن فإن التغير المستفاد من النسخ ، والتفاوت المستفاد من الخيرية في وقت دون آخر من روادف الحدث وتوابعه فلا يتحقق بدونه ، وأجيب بأن التغير والتفاوت من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسي القديم وهي الأفعال في الأمر والنهي والنسب الخبرية في الخبر وذلك يستدعيهما في تعلقاته دون ذاته ، وأجاب الإمام الرازي بأن الموصوف بهما الكلام اللفظي ، والقديم عندنا الكلام النفسي ، واعترض بأنه مخالف لما اتفقت عليه آراء الأشاعرة من أن الحكم قديم والنسخ لا يجري إلا في
الأحكام ، وقرأ أبو عمرو - نات - بقلب الهمزة ألفا.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الاستفهام قيل : للتقرير ، وقيل : للإنكار ، والخطاب للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وأريد بطريق الكناية هو وأمته المسلمون وإنما أفرده لأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أعلمهم ، ومبدأ علمهم ، ولإفادة المبالغة مع الاختصار ، وقيل : لكل واقف عليه على حد «بشر المشائين» وقيل لمنكري النسخ ، والمراد الاستشهاد بعلم المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما هو خير أو مماثل لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته عز وجل على جميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا ، والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة ، ولأنه الاسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، وكذا الحال في قوله عز شأنه : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قد علمت أيها المخاطب أن اللّه تعالى له السلطان القاهر ، والاستيلاء الباهر ، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي - إيجادا وإعداما ، وأمرا ونهيا - حسبما تقتضيه مشيئته ، لا معارض لأمره ، ولا معقب لحكمه ، فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شيء من الأشياء؟ فيكون الكلام على هذا كالدليل لما قبله في إفادة البيان ، فيكون منزلا منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح ، فلذا ترك العطف وجوّز أن يكون تكريرا للأول وإعادة للاستشهاد على ما ذكر ، وإنما لم تعطف أَنَّ مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعارا باستقلال العلم بكل منهما وكفاية في الوقوف على ما هو المقصود ، وخص السَّماواتِ وَالْأَرْضِ - بالملك - لأنهما من أعظم المخلوقات الظاهرة ، ولأن كل مخلوق لا يخلو عن أن يكون في إحدى هاتين الجهتين فكان في الاستيلاء عليهما إشارة إلى الاستيلاء على ما
اشتملا عليه ، وبدأ سبحانه بالتقرير على وصف القدرة لأنه منشئا لوصف الاستيلاء والسلطان ، ولم يقل جل شأنه : إن اللّه ملك إلخ قصدا إلى تقوي الحكم بتكرير الإسناد وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ عطف على الجملة الواقعة خبرا ل أَنَّ داخل معها حيث دخلت ، وفيه إشارة إلى تناول الخطاب فيما قبل للأمة أيضا ، ومِنْ الثانية صلة فلا تتعلق بشيء ، و«من» الأولى لابتداء الغاية وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من مدخول مِنْ الثانية - وهو في الأصل صفة له - فلما قدم انتصب على الحالية «وفي البحر» انها متعلقة بما تعلق به لَكُمْ وهو في موضع الخبر ويجوز في ما أن تكون تميمية وأن تكون حجازية على رأي من يجيز تقدم خبرها إذا كان ظرفا أو مجرورا - والولي - المالك ، و- النصير - المعين ، والفرق بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصرة أو قد يقدر ولا يفعل ، والمعين قد يكون مالكا وقد لا يكون - بل يكون أجنبيا - والمراد من الآية الاستشهاد على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله ، فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصوله البتة ، وإنما الذي يستدعيه كونه تعالى مع ذلك وليا نصيرا لهم ، فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره لا ولي ولا نصير له سواه يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض أمره إليه تعالى ، ولا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره أصلا.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 354
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ جوّز في أَمْ هذه أن تكون متصلة ، وأن تكون منقطعة ، فإن قدر «تعلمون» قبل تُرِيدُونَ بناء على دلالة السياق وهو أَلَمْ تَعْلَمْ والسياق هو الاقتراح فإنه لا يكون إلا عند التعنت - والعلم - بخلافه كانت متصلة ، كأنه قيل : أي الأمرين من عدم العلم بما تقدم ، أو العلم مع الاقتراح واقع ، والاستفهام حينئذ للإنكار بمعنى لا ينبغي أن يكون شيء منهما ، وإن لم يقدر كانت منقطعة للاضراب عن عدم علمهم بالسابق إلى الاستفهام عن اقتراحهم كاقتراح اليهود إنكارا عليهم بأنه لا ينبغي أن يقع أيضا ، وقطع بعضهم بالقطع بناء على دخول الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم في الخطاب أو لا ، وعدم دخوله فيه هنا لأنه مقترح عليه لا مقترح - وذلك مخل بالاتصال - وأجيب بأنه غير مخل به لحصوله بالنسبة إلى المقصد ، وإرادة الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم في الأول
كانت لمجرد التصوير والانتقال لما قدمنا أنهم بطريق الكناية ، والمراد - على التقديرين - توصيته المسلمين بالثقة برسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وترك الاقتراح بعد رد طعن المشركين أو اليهود في - النسخ - فكأنه قيل : لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان ، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها - فضلا عن السؤال - يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك ، ولم يقل سبحانه : كما سأل أمة موسى عليه السلام أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره - ولا يقتضي سابقية وقوع الاقتراح منهم - ولا يتوقف مضمون الآية عليه إذ التوصية لا تقتضي سابقية الوقوع ، كيف وهو كفر - كما يدل عليه ما بعد - ولا يكاد يقع من المؤمن ، ومما ذكرنا يظهر وجه ذكر هذه الآية بعد قوله تعالى : ما نَنْسَخْ فإن المقصد من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها ، وأما بيانه بأنه لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ فلذا أردفت آية النسخ بذلك فأراه إلى التمني أقرب ، وقد ذكر بعض المفسرين أنهم اقترحوا على الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ، فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «سبحان اللّه! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم. فلا أدري أتعبدون العجل أم لا؟»
وهو مع الحاجة إليه يستدعي أن المخاطب في الآيات هم المؤمنون ، والسباق والسياق والتذييل تشهد له ، وعليه يترجح الاتصال - لما نقل عن الرضيّ - أن الفعليتين إذا اشتركتا في الفاعل نحو أقمت أم قعدت؟ - فأم - متصلة ، وزعم قوم أن المخاطب بها اليهود ، وأن الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزل عليهم كتاب من السماء جملة - كما نزلت التوراة على موسى عليه السلام - وخاطبهم بذلك بعد رد طعنهم تهديدا لهم ، وحينئذ يكون المضارع الآتي بمعنى الماضي ، إلا أنه عبر به عنه إحضارا للصورة الشنيعة ، واختار هذا الإمام الرازي وقال : إنه الأصح ، لأن هذه سورة من أول قوله تعالى : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة : 40] حكاية عن اليهود ومحاجة معهم ، ولأنه جرى ذكرهم وما جرى ذكر غيرهم ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون متبدلا به الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ ولا يخفى ما فيه ، وكأنه رحمه اللّه تعالى نسي قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وقيل : إن المخاطب أهل مكة ، وهو قول ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقد روي عنه أن الآية نزلت في عبد اللّه بن أمية ورهط من قريش قالوا : يا محمد ، اجعل لنا الصفا ذهبا ووسع لنا أرض مكة ، وفجر لنا الأنهار خلالها تفجيرا ونؤمن لك ، وحكي في سبب النزول غير ذلك ، ولا مانع - كما في البحر - من جعل الكل أسبابا ، وعلى الخلاف في المخاطبين يجيء الكلام في رَسُولَكُمْ فإن كانوا المؤمنين فالإضافة على ما في نفس الأمر وما أقروا به من رسالته صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وإن كانوا غيرهم فهي على ما في نفس الأمر دون الإقرار ، وما مصدرية ، والمشهور أن المجرور نعت لمصدر محذوف -

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 355
أي سؤالا كما - ورأى سيبويه أنه في موضع نصب على الحال ، والتقدير عنده أن تسألوه أي السؤال كَما وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة في موضع المفعول به ل تَسْئَلُوا أي كالأشياء التي سئلها مُوسى عليه السلام قَبْلُ وهو الأنسب لأن الإنكار عليهم إنما هو لفساد المقترحات ، وكونها في العاقبة وبالا عليهم - وفيه نظر - لأن المشبه أَنْ تَسْئَلُوا وهو مصدر ، فالظاهر أن المشبه به كذلك ، وقبح السؤال إنما هو لقبح المسئول عنه ، بل قد يكون السؤال نفسه قبيحا في بعض الحالات مع أن المصدرية لا تحتاج إلى تقدير رابط - فهو أولى - ومِنْ قَبْلُ متعلق ب سُئِلَ وجيء به للتأكيد. وقرأ الحسن. وأبو السمال «سيل» - بسين مكسورة وياء - وأبو جعفر والزهري - بإشمام السين الضم وياء - وبعضهم بتسهيل - الهمزة - بين بين - وضم السين.
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله : أَمْ تُرِيدُونَ إلخ معطوفة عليه ، فهي تذييل له باعتبار أن المقترحين الشاكين من جملة - الضالين الطريق المستقيم المتبدلين - وسَواءَ بمعنى وسط أو مستوي ، والإضافة من باب إضافة الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصاف كأنه نفس - السواء - على منهاج حصول الصورة في الصورة الحاصلة - والفاء - رابطة وما بعدها لا يصح أن يكون جزاء الشرط لأن ضلال الطريق المستقيم متقدم على - الاستبدال - والارتداد لا يترتب عليه ، ولأن الجزاء إذا كان ماضيا مع قد كان باقيا على مضيه لأن قد للتحقيق ، وما تأكد ورسخ لا ينقلب ، ولا يترتب الماضي على المستقبل ، ولأن كون الشرط مضارعا والجزاء ماضيا صورة ضعيف لم يأت في الكتاب العزيز - على ما صرح به الرضيّ وغيره - فلا بد من التقدير بأن يقال : وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فالسبب فيه أنه تركه ، ويؤول المعنى إلى أن ضلال الطريق المستقيم - وهو الكفر الصريح في الآيات - سبب للتبديل والارتداد ، وفسر بعضهم - التبدل - المذكور بترك الثقة بالآيات باعتبار كونه لازما له فيكون كناية عنه ، وحاصل الآية حينئذ ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خير محض ، وحق بحت واقترح غيرها فقد عدل وجار من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى ، وتاه في تيه الهوى ، وتردى في مهاوي الردى ، واختار ما في النظم الكريم إيذانا من أول الأمر على أبلغ وجه بأن ذلك كفر وارتداد ، ولعل ما أشرنا إليه أولى كما لا يخفى على المتدبر ، وقرىء وَمَنْ يُبَدِّلْ من - أبدل - وإدغام - الدال في الضاد - والإظهار قراءتان مشهورتان.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم طائفة من أحبار اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد : ألم تروا إلى ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق لما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم ، رواه الواحدي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه. وروي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا ذلك لحذيفة رضي اللّه تعالى عنه من حديث طويل ، وذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث لَوْ يَرُدُّونَكُمْ حكاية لودادتهم ، وقد تقدم الكلام على لَوْ هذه فأغنى عن الإعادة مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً أي مرتدين ، وهو حال من ضمير المخاطبين يفيد مقارنة الكفر بالرد فيؤذن بأن الكفر يحصل بمجرد الارتداد مع قطع النظر إلى ما يرد إليه ، ولذا لم يقل - لو يردونكم - إلى الكفر ، وجوز أن يكون حالا من فاعل وَدَّ واختار بعضهم أنه مفعول ثان - ليردونكم - على تضمين الرد معنى التصيير إذ منهم من لم يكفر حتى يرد إليه فيحتاج إلى التغليب كما في لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف : 88 ، ابراهيم : 13] على أن في ذلك يكون الكفر المفروض بطريق القسر وهو أدخل في الشناعة ، وفي قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ مع أن الظاهر - عن - لأن الرد يستعمل بها تنصيص بحصول الإيمان لهم ، وقيل : أورد متوسطا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 356
لإظهار كمال فظاعة ما أرادوه وغاية بعده عن الوقوع إما لزيادة قبحه الصاد للعاقل عن مباشرته ، وإما لممانعة الإيمان له كأنه قيل : من بعد إيمانكم الراسخ ، وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى حَسَداً علة - لودّ - لا - ليردونكم - لأنهم يودون ارتدادهم مطلقا لا ارتدادهم المعلل بالحسد ، وجوزوا أن يكون مصدرا منصوبا على الحال أي حاسدين ولم يجمع لأنه مصدر ، وفيه ضعف لأن جعل المصدر حالا - كما قال أبو حيان - لا ينقاس.
وقيل : يجوز أن يكون منصوبا على المصدر والعامل فيه محذوف يدل عليه المعنى أي حسدوكم حسدا وهو كما ترى مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ متعلق بمحذوف وقع صفة إما للحسد أي حسدا كائنا من أصل نفوسهم فكأنه ذاتي لها ، وفيه إشارة إلى أنه بلغ مبلغا متناهيا ، وهذا يؤكد أمر التنوين إذا جعل للتكثير أو التعظيم ، وإما للوداد المفهوم من وَدَّ أي ودادا كائنا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وتشهيهم لا من قبل التدبر والميل إلى الحق ، وجعله ظرفا لغوا معمولا - لود - أو حَسَداً كما نقل عن مكي يبعده أنهما لا يستعملان بكلمة مِنْ كما قاله ابن الشجري مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بالنعوت المذكورة في التوراة والمعجزات وهذا كالدليل على تخصيص الكثير بالأحبار لأن التبين بذلك إنما كان لهم لا للجهال ، ولعل من قال : إن الودادة من عوامهم أيضا لئلا يبطل دينهم الذي ورثوه وتبطل رياسة أحبارهم الذين اعتقدوهم واتخذوهم رؤساء ، فالمراد من الكثير جميعهم من كفارهم ومنافقيهم ويكون ذكره لإخراج من آمن منهم سرا وعلانية يدعي أن التبين حصل للجميع أيضا إلا أن أسبابه مختلفة متفاوتة وهذا هو الذي يغلب على الظن فإن من شاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد منه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق إلا أن الحظوظ النفسانية والشهوات الدنية والتسويلات الشيطانية حجبت من حجبت عن الإيمان وقيدت من قيدت في قيد الخذلان فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا العفو ترك عقوبة المذنب ، والصفح ترك التثريب والتأنيث وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح ، ولعله مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا أو من تصفحت الورقة إذا تجاوزت عما فيها. وآثر العفو على الصبر على اذاهم إيذانا بتمكين المؤمنين ترهيبا للكافرين.
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هو واحد الأوامر والمراد به الأمر بالقتال بقوله سبحانه قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة : 29] أو الأمر بقتل قريظة وإجلاء بني النضير ، وقيل : واحد الأمور ، والمراد به القيامة. أو المجازاة يومها أو قوة الرسالة وكثرة الأمة ، ومن الناس من فسر الصفح بالإعراض عنهم وترك مخالطتهم وجعل غاية العفو إتيان آية القتال وغاية الإعراض إتيان اللّه تعالى أمره ، وفسره بإسلام من أسلم منهم - كما قاله الكلبي - وليس بشيء لأنه يستلزم أن يحمل الأمر على واحد الأوامر وواحد الأمور ، وهو عند المحققين واقع بين الحقيقة والمجاز ، وعن قتادة والسدي وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهم إن الآية منسوخة بآية السيف واستشكل ذلك بأن النسخ لكونه بيانا لمدة الانتهاء بالنسبة إلى الشارع ودفعا للتأييد الظاهري من الإطلاق بالنسبة إلينا يقتضي أن يكون الحكم المنسوخ خاليا عن التوقيت والتأبيد فإنه لو كان مؤقتا كان الناسخ بيانا له بالنسبة إلينا أيضا ولو كان مؤبدا كان بدءا لا بيانا بالنسبة إلى الشارع ، والأمر هاهنا مؤقت بالغاية وكونها غير معلومة يقتضي أن تكون آية القتال بيانا لإجماله وبذلك تبين ضعف ما أجاب به الإمام الرازي وتبعه فيه كثيرون من أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج الوارد من أن يكون ناسخا ويحل محل فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إلى أن أنسخه لكم فليس هذا مثل قوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة : 187] وأما تأييد الطيبي له بحكم التوراة والإنجيل لأنه ذكر فيهما انتهاء مدة الحكم بهما بإرسال النبي الأمي بنحو قوله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف : 157]
وكان ظهوره صلى اللّه تعالى عليه وسلم نسخا فيرد عليه ما في التلويح من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 357
أن الواقع فيهما البشارة بشرع النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وإيجاب الرجوع إليه ، وذلك لا يقتضي توقيت الأحكام لاحتمال أن يكون الرجوع إليه باعتبار كونه مفسرا أو مقررا أومبدلا للبعض دون البعض فمن أين يلزم التوقيت بل هي مطلقة يفهم منها التأبيد فتبديلها يكون نسخا وأجيب عن الاستشكال بأنه لا يبعد أن يقال : إن القائلين بالنسخ أرادوا به البيان مجازا أو يقال : لعلهم فسروا الغاية بإماتتهم أو بقيام الساعة ، والتأبيد إنما ينافي إطلاق الحكم إذا كان غاية للوجوب ، وأما إذا كان غاية للواجب فلا ، ويجري فيه النسخ عند الجمهور قاله مولانا الساليكوتي : إلا أن الظاهر لا يساعده فتدبر.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما فهم من سابقه ، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ووعد للمؤمنين بالنصرة والتمكين ، ويحتمل على بعد أن يكون ذكرا لموجب قبول أمره بالعفو والصفح وتهديدا لمن يخالف أمره وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ عطف على فاعفوا كأنه سبحانه أمرهم بالمخالقة «1» والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية لأنها تدفع عنهم ما يكرهون. وقول الطبري : إنهم أمروا هنا بالصلاة والزكاة ليحبط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود راعِنا منحط عن درجة الاعتبار.
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي أي خير كان ، وفي ذلك توكيد للأمر بالعفو والصفح ، والصلاة والزكاة ، وترغيب إليه ، واللام نفعية ، وتخصيص الخير بالصلاة ، والصدقة خلاف الظاهر ، وقرىء تقدموا من قدم من السفر ، وأقدمه غيره جعله قادما ، وهي قريب من الأولى لا من الاقدام ضد الاحجام.
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي تجدوا ثوابه لديه سبحانه فالكلام على حذف مضاف ، وقيل : الظاهر أن المراد تجدوه في علم اللّه تعالى ، واللّه تعالى عالم به إلا أنه بالغ في كمال علمه فجعل ثبوته في علمه بمنزلة ثبوت نفسه عنده وقد أكد تلك المبالغة بقوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ حيث جعل جميع ما يعملون مبصرا له تعالى فعبر عن علمه تعالى بالبصر مع أن قليلا مما يعملون من المبصرات ، وكأنه لهذا فسر الزمخشري البصير بالعالم ، وأما قول العلامة إنه إشارة إلى نفي الصفات ، وأنه ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى إلا تعلق ذاته بالمعلومات ففيه أن التفسير لا يفيد إلا أن المراد من البصير هاهنا العالم ولا دلالة على كونه نفس الذات أو زائدا عليه ولا على أن ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى سوى التعلق المذكور ، وقرئ - «يعلمون» - بالياء والضمير حينئذ كناية عن كثير ، أو عن أهل الكتاب فيكون تذييلا لقوله تعالى فَاعْفُوا إلخ مؤكدا لمضمون الغاية ، والمناسب أن يكون وعيدا لأولئك ليكون تسلية ، وتوطينا للمؤمنين بالعفو والصفح ، وإزالة لاستبطاء إتيان الأمر ، وجوز أن يكون كناية عن المؤمنين المخاطبين بالخطابات المتقدمة ، والكلام وعيد للمؤمنين ، ويستفاد من الالتفات الواقع من صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة ، وهو النكتة الخاصة بهذا الالتفات ولا يخفى أنه كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى عطف على وَدَّ وما بينهما أعني فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إما اعتراض بالفاء أو عطف على وَدَّ أيضا ، وعطف الإنشاء على الاخبار فيما لا محل له من الإعراب بما سوى الواو جائز ، والضمير - لأهل الكتاب - لا - لكثير منهم - كما يتبادر من العطف ، والمراد بهم اليهود والنصارى جميعا ، وكأن أصل الكلام - قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل
الجنة إلا من كان نصارى - فلف بين هذين المقولين ، وجعلا مقولا واحدا اختصارا وثقة بفهم السامع أن ليس المقصد أن كل واحد من الفريقين يقول هذا القول المردد ، وللعلم
___________
(1) المخالقة بالخاء المعجمة والقاف مفاعلة من الخلق الحسن.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 358
بتضليل كل واحد منهما صاحبه بل المقصد تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم فكلمة أَوْ كما في مغني اللبيب للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غبار - وهود - جمع هائد كعوذ «1» جمع عائذ ، وقيل : مصدر يستوي فيه الواحد وغيره ، وقيل : إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف ، وعلى القول بالجمعية يكون اسم كانَ مفردا عائدا علي مَنْ باعتبار لفظها ، وجمع الخبر باعتبار معناها ، وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه ، ومنه قوله : وأيقظ من كان منكم نياما وقرأ أبيّ - يهوديا ، أو نصرانيا - فحمل الخبر والاسم معا على اللفظ.
تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى - كالأضحوكة والأعجوبة - والجملة معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم ، وتِلْكَ إشارة إلى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلخ وجمع الخبر مع أن ما أشير إليه أمنية واحدة ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم وتكررها فيها ، وقيل : إشعارا بأنها بلغت كل مبلغ لأن الجمع يفيد زيادة الآحاد فيستعمل لمطلق الزيادة وهذا من بديع المجاز ونفائس البيان وقيل : لا حاجة إلى هذا كله بل الجمع لأن تِلْكَ محتوية على أمان - أن لا يدخل الجنة إلا اليهود ، وأن لا يدخل الجنة إلا النصارى - وحرمان المسلمين منها ، وأيضا فقائله متعدد وهو باعتبار كل قائل أمنية وباعتبار الجميع أمان كثيرة ، ومن الناس من جعلها إشارة إلى أن - لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأن يردوهم كفارا ، وأن لا يدخل الجنة غيرهم - وعليه يكون أمانيهم تغليبا لأن الأولين من قبيل المتمنيات حقيقة والثالث دعوى باطلة ، وجوز أيضا أن تكون إشارة إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم فإن جعل الأماني بمعنى الأكاذيب ، فإطلاق الأمنية على دعواهم على سبيل الحقيقة ، وإن جعل بمعنى المتمنيات فعلى الاستعارة تشبيها بالمتمنى في الاستحالة ، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد لا سيما أولهما لأن كل جملة ذكر فيها - ودّهم - لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد جدا أن يشار إليها.
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي على ما ادعيتموه من اختصاصكم بدخول الجنة فهو متصل معنى بقوله تعالى : قالُوا لَنْ يَدْخُلَ إلخ على أنه جواب له لا غير ، وهاتُوا بمعنى أحضروا والهاء أصلية لا بدل من همزة - آتوا - ولا للتنبيه وهي فعل أمر خلافا لمن زعم أنها اسم فعل أو صوت بمنزلة - ها - وفي مجيء الماضي والمضارع والمصدر من هذه المادة خلاف وأثبت أبو حيان - هاتى يهاتي مهاتاة - والبرهان الدليل على صحة الدعوى ، قيل : هو مأخوذ من البرة وهو القطع فتكون النون زائدة ، وقيل : من البرهنة وهو البيان فتكون النون أصلية لفقدان فعلن ووجود فعلل ويبنى على هذا الاشتقاق الخلاف في - برهان - إذا سمي به هل ينصرف أو لا؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ومتعلق الصدق دعواهم السابقة لا - الإيمان - ولا - الأماني - كما قيل ، وأفهم التعليق أنه لا بد من البرهان للصادق ليثبت دعواه ، وعلل بأن كل قول لا دليل عليه غير ثابت عند الخصم فلا يعتد به ، ولذا قيل : من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه ، وليس في الآية دليل على منع التقليد فإن دليل المقلد دليله كما لا يخفى ، وتفسير الصدق هنا بالصلاح مما لا يدعو إليه سوى فساد الذهن بَلى رد لقولهم الذي زعموه وإثبات لما تضمنه من نفي دخول غيرهم الجنة. والقول بأنه رد لما أشار إليه قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ من نفي أن يكون لهم برهان مما لا وجه له ولا برهان عليه مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي انقاد لما قضى اللّه تعالى وقدر ، أو أخلص له نفسه أو قصده فلم يشرك به تعالى غيره ، أو لم يقصد سواه فالوجه إما مستعار للذات وتخصيصه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء ومعدن
___________
(1) قوله : عوذ هي حديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 359
الحواس. وإما مجاز عن القصد لأن القاصد للشيء مواجه له وَهُوَ مُحْسِنٌ حال من ضمير أَسْلَمَ أي والحال انه محسن في جميع أعماله ، وإذا أريد بما تقدم الشرك يؤول المعنى إلى «آمن وعمل الصالحات» وقد فسر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الإحسان
بقوله : «أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
فَلَهُ أَجْرُهُ أي الذي وعد له على ذلك لا الذي يستوجبه كما قاله الزمخشري رعاية لمذهب الاعتزال ، والتعبير عما وعد بالأجر إيذانا بقوة ارتباطه بالعمل عِنْدَ رَبِّهِ حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار ، والعندية للتشريف ، والمراد عدم الضياع والنقصان ، وأتى - بالرب - مضافا إلى ضمير مَنْ أَسْلَمَ إظهارا لمزيد اللطف به وتقريرا لمضمون الجملة ، والجملة جواب مَنْ إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط ، وعلى التقديرين يكون الرد بَلى وحده وما بعده كلام مستأنف كأنه قيل إذا بطل ما زعموه فما الحق في ذلك ، وجوز أن تكون مَنْ موصولة فاعل ليدخلها محذوفا ، وبَلى مع ما بعدها رد لقولهم ، ويكون فَلَهُ أَجْرُهُ معطوفا على ذلك المحذوف عطف الاسمية على الفعلية لأن المراد بالأولى التجدد ، وبالثانية الثبوت ، وقد نص السكاكي بأن الجملتين إذا اختلفتا تجددا وثبوتا يراعى جانب المعنى فيتعاطفان وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تقدم مثله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ ، ويجوز في مثل هذا العكس إلا أن الأفصح أن يبدأ بالحمل على اللفظ ثم بالحمل على المعنى لتقدم اللفظ عليه في الإفهام.
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ المراد يهود المدينة ووفد نصارى نجران تماروا عند رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وتسابوا وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوة عيسى عليه السلام وأنكر النصارى التوراة ونبوة موسى عليه السلام. فأل في الموضعين للعهد. وقيل : المراد عامة اليهود وعامة النصارى وهو من الإخبار عن الأمم السالفة ، وفيه تقريع لمن بحضرته صلى اللّه تعالى عليه وسلم وتسلية له عليه الصلاة والسلام إذ كذبوا بالرسل والكتب قبله فأل في الموضعين للجنس ، والأول هو المروي في أسباب النزول ، وعليه يحتمل أن يكون القائل كل واحد من آحاد الطائفتين وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون المراد بذلك رجلين رجل من اليهود يقال له نافع بن حرملة ورجل من نصارى نجران ونسبة ذلك للجميع حيث وقع من بعضهم وهي طريقة معروفة عند العرب في نظمها ونثرها. وهذا بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم ، وعَلى شَيْءٍ خبر ليس ، وهو عند بعض من باب حذف الصفة أي شيء يعتد به في الدين لأنه من المعلوم أن كلّا منهما على شيء ، والأولى عدم اعتبار الحذف ، وفي ذلك مبالغة عظيمة لأن الشي ء - كما يشير إليه كلام سيبويه - ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فإذا نفي مطلقا كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد بما هم عليه وصار كقولهم - أقل من لا شي ء - وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ حال من الفريقين بجعلهما فاعل فعل واحد لئلا يلزم إعمال عاملين في معمول واحد أي قالوا ذلك وهم عالمون بما في كتبهم الناطقة بخلاف ما يقولون ، وفي ذلك توبيخ لهم وإرشاد للمؤمنين إلى أن من كان عالما بالقرآن لا ينبغي أن يقول خلاف ما تضمنه ، والمراد من الْكِتابَ الجنس فيصدق على التوراة والإنجيل ، وقيل : المراد به التوراة لأن النصارى تمتثلها أيضا.
كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهم مشركو العرب في قول الجمهور ، وقيل : مشركو قريش ، وقيل : هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى ، وأما القول بأنهم اليهود وأعيد قولهم مثل قول النصارى ونفي عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فالظاهر أنه قول الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ والكاف من كَذلِكَ في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب قالَ مقدم عليه أي قولا مثل قول اليهود والنصارى قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ويكون مِثْلَ قَوْلِهِمْ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 360
على هذا منصوبا ب يَعْلَمُونَ والقول بمعنى الاعتقاد ، أو يقال على أنه مفعول به أو بدل من محل الكاف ، وقيل :
كَذلِكَ مفعول به ومِثْلَ مفعول مطلق ، والمقصود تشبيه المقول بالمقول في المؤدي والمحصول ، وتشبيه القول بالقول في الصدور عن مجرد التشهي والهوى والعصبية ، وجوزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي قاله ، ومِثْلَ صفة مصدر محذوف ، أو مفعول يَعْلَمُونَ ولا يجوز أن يكون مفعول قالَ لأنه قد استوفى مفعوله ، واعترض هذا بأن حذف العائد - على المبتدأ الذي لو قدر خلو الفعل عن الضمير لنصبه - مما خصه الكثير بالضرورة ومثلوا له بقوله :
وخالد يحمد ساداتنا بالحق «لا تحمد» بالباطل
وقيل : عليه وعلى ما قبله أن استعمال الكاف اسما وإن جوزه الأخفش إلا أن جماعة خصوه بضرورة الشعر مع أنه قد يؤول ما ورد منه فيه على أنه لا يخفى ما في توجيه التشبيهين دفعا لتوهم اللغوية من التكلف والخروج عن الظاهر ، ولعل الأولى أن يجعل مِثْلَ قَوْلِهِمْ إعادة لقوله تعالى : كَذلِكَ للتأكيد والتقرير كما في قوله تعالى :
جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ [يوسف : 75] وبه قال بعض المحققين ، وقد يقال : إن كذلك ليست للتشبيه هنا بل لإفادة أن هذا الأمر عظيم مقرر ، وقد نقل الوزير عاصم بن أيوب في شرح قول زهير :
«كذلك» خيمهم ولكل قوم إذا مستهم الضراء خيم
عن الإمام الجرجاني ان كَذلِكَ تأتي للتثبيت إما لخبر مقدم وإما لخبر متأخر وهي نقيض كلا لأن كلا تنفي ، وكذلك تثبت ومثله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الحجر : 12] وفي شرح المفتاح الشريفي انه ليس المقصود من التشبيهات هي المعاني الوضعية فقط إذ تشبيهات البلغاء قلما تخلو من مجازات وكنايات فنقول : إنا رأيناهم يستعملون كذا وكذا للاستمرار تارة نحو عدل زيد في قضية فلان كذا وهكذا أي عدل مستمر ، وقال الحماسي :
«هكذا» يذهب الزمان ويفنى ال علم فيه ويدرس الأثر
نص عليه التبريزي في شرح الحماسة وله شواهد كثيرة ، وقال في شرح قول أبي تمام :
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر إنه للتهويل والتعظيم وهو في صدر القصيدة لم يسبق ما يشبه به ، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء اللّه تعالى ، وإنما جعل قول أولئك مشبها به لأنه أقبح إذ الباطل من العالم أقبح منه من الجاهل ، وبعضهم يجعل التشبيه على حد إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة : 275] وفيه من المبالغة والتوبيخ على التشبه بالجهال ما لا يخفى وإنما وبخوا ، وقد صدقوا إذ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء لأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما قصد كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه على أنه لا يصح الحكم بأن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء يعتد به لأن المتبادر منه أن لا يكون كذلك في حد ذاته وما لا ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل فيكون شيئا معتدا به في حد ذاته وإن يكن شيئا بالنسبة إليهم لأنه لا انتفاع بما لم ينسخ مع الكفر بالناسخ.
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي بين اليهود والنصارى لا بين الطوائف الثلاثة لأن مساق النظم لبيان حال تينك الطائفتين والتعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم والحكم الفصل والقضاء وهو يستدعي جارين فيقال : حكم القاضي في هذه الحادثة بكذا ، وقد حذف هنا أحدهما اختصارا وتفخيما لشأنه أي بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العذاب ، والمتبادر من الحكم بين فريقين أن يحكم لأحدهما بحق دون الآخر فكأن استعماله بما ذكر مجاز ، وقال الحسن : المراد بالحكم بين هذين الفريقين تكذيبهم وإدخالهم النار وفي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 361
ذلك تشريك في حكم واحد وهو بعيد عن حقيقة الحكم ، ويَوْمَ متعلق ب يَحْكُمُ وكذا ما بعده ولا ضير لاختلاف المعنى ، وفيه متعلق ب يَخْتَلِفُونَ لا ب كانُوا وقدم عليه للمحافظة على رؤوس الآي.
«ومن باب الإشارة في الآيات» ما ننسخ من آية أي ما نزيل من صفاتك شيئا عن ديوان قلبك أو نخفيه بإشراق أنوارنا عليه إلا ونرغم فيه من صفاتنا التي لا تظن قابليتك لما يشاركها في الاسم والتي تظن وجود ما لا يشاركها فيك أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل العوالم على اختلافها ظاهر شؤون ذاته ومظهر أسمائه وصفاته فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رسول العقل من اللذات الدنية والشهوات الدنيوية كَما سُئِلَ مُوسى القلب مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الظلمة بالنور فقد ضل الطريق المستقيم وقالت اليهود لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات وجنة القلب إلا من كان نصرانيا ، ولهذا قال عيسى عليه السلام : لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ أي غاية مطالبهم التي وقفوا على حدها واحتجبوا بها عما فوقها قُلْ هاتُوا دليلكم الدال على نفي دخول غيركم إِنْ كُنْتُمْ صادقين في دعواكم بل الدليل دل على نقيض مدعاكم فإن مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ وخلص ذاته من جميع لوازمها وعوارضها للّه تعالى بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي وهو مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء مشاهد ربه في أعماله راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة للوجود الحقاني فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ما ذكرتم من الجنة وأصفى لاختصاصه بمقام العندية التي حجبتم عنها ولهم زيادة على ذلك هي عدم خوفهم من احتجاب الذات وعدم حزنهم على ما فاتهم من جنة الأفعال والصفات التي حجبتم بالوقوف عندها وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ
لاحتجابهم بالباطن عن الظاهر وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ لاحتجابهم عن الباطن بالظاهر وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب ورؤية حقية كل مذهب في مرتبته كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ المراتب مِثْلَ قَوْلِهِمْ فخطأ كل فرقة منهم الفرقة الأخرى ولم يميزوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ولم يعرفوا وجه الحق في كل مرتبة من مراتب الوجود فاللّه تعالى الجامع لجميع الصفات على اختلاف مراتبها وتفاوت درجاتها يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بالحق في اختلافاتهم يوم قيام القيامة الكبرى وظهور الوحدة الذاتية وتجلي الرب بصور المعتقدات حتى ينكرونه فلا يسجد له إلا من لم يقيده سبحانه حتى بقيد الإطلاق وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ نزلت في طيطوس بن إسيانوس الرومي وأصحابه وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير وبقي خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه ، وروى عطاء عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت في مشركي العرب منعوا المسلمين من ذكر اللّه تعالى في المسجد الحرام ، وعلى الأول تكون الآية معطوفة على قوله تعالى : وَقالَتِ النَّصارى عطف قصة على قصة تقريرا لقبائحهم ، وعلى الثاني تكون اعتراضا بأكثر من جملة بين المعطوف أعني قالوا اتخذوا المعطوف عليه أعني قالت اليهود لبيان حال المشركين الذين جرى ذكرهم بيانا لكمال شناعة أهل الكتاب فإن المشركين الذين يضاهونهم إذا كانوا أظلم الكفرة ، وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد وخصوص السبب لا يمنعه ، و«أظلم» أفعل تفضيل خبر عن - من - ولا يراد بالاستفهام حقيقته وإنما هو بمعنى النفي فيؤول إلى الخبر أي لا أحد أظلم من ذلك واستشكل بأن هذا التركيب قد تقرر في
القرآن وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 362
[الكهف : 57] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الإنعام : 21 ، 93 ، 144 ، الأعراف : 37 ، يونس : 17] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ [الإنعام : 157 ، الزمر : 32] إلى غير ذلك فإذا كان المعنى على هذا لزم التناقض وأجيب بالتخصيص إما بما يفهم من نفس الصلات أو بالنسبة إلى من جاء بعد من ذلك النوع ويؤول معناه إلى السبق في المانعية أو الافترائية مثلا ، واعترض بأن ذلك بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى ، فالأولى أن يجاب بأن ذلك لا يدل على نفي التسوية في الأظلمية وقصارى ما يفهم
من الآيات أظلمية أولئك المذكورين فيها ممن عداهم كما أنك إذا قلت لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد لا يدل على أكثر من نفي أن يكون أحد أفقه منهم وأما أنه يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر فلا ، ولا يرد أن من منع مساجد اللّه مثلا ولم يفتر على اللّه كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأن هذه الآيات إنما هي في الكفار وهم متساوون فيها إذ الكفر شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به وإنما تمكن بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة قاله أبو حيان ، ولا يخفى ما فيه. وقد قال غير واحد إن قولك : من أظلم ممن فعل كذا إنكار لأن يكون أحد أظلم منه أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها إلا أن العرف الفاشي والاستعمال المطرد يشهد له فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل فلعل الأولى الرجوع إلى أحد الجوابين مع ملاحظة الحيثية وإن جعلت ذلك الكلام مخرجا مخرج المبالغة في التهديد والزجر مع قطع النظر عن نفي المساواة أو الزيادة في نفس الأمر كما قيل به محكما العرف أيضا زال الاشكال وارتفع القيل والقال فتدبر أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مفعول ثان لمنع أو مفعول من أجله بمعنى منعها كراهية أَنْ يُذْكَرَ أو بدل اشتمال من مساجد والمفعول الثاني إذن مقدر أي عمارتها أو العبادة فيها أو نحوه أو الناس مساجد اللّه تعالى أو لا تقدير والفعل متعد لواحد وكني بذكر اسم اللّه تعالى عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى اللّه تعالى بالأفعال القلبية والقالبية المأذون بفعلها فيها.
وَسَعى فِي خَرابِها أي هدمها وتعطيلها ، وقال الواحدي : إنه عطف تفسير لأن عمارتها بالعبادة فيها أُولئِكَ الظالمون المانعون الساعون في خرابها.
ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ - اللام - في لَهُمْ إما للاختصاص - على وجه اللياقة - كما في الجل للفرس ، والمراد من - الخوف - الخوف من اللّه تعالى ، وإما للاستحقاق كما في - الجنة للمؤمن - والمراد من - الخوف - الخوف من المؤمنين ، وإما لمجرد الارتباط بالحصول ، أي ما كانَ لَهُمْ في علم اللّه تعالى وقضائه أَنْ يَدْخُلُوها فيما سيجيء إِلَّا خائِفِينَ والجملة «على الأول» مستأنفة جواب لسؤال نشأ من قوله تعالى : وَسَعى فِي خَرابِها كأنه قيل : فما اللائق بهم؟ والمراد من - الظلم - حينئذ وضع الشيء في غير موضعه.
«وعلى الثاني» جواب سؤال ناشىء من قوله سبحانه : مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ كأنه قيل : فما كان حقهم؟
والمراد من - الظلم - التصرف في حق الغير «وعلى الثالث» اعتراض بين كلامين متصلين معنى ، وفيه وعد المؤمنين بالنصرة وتخليص - المساجد - عن الكفار - وللاهتمام بذلك وسطه - وقد أنجز اللّه تعالى وعده والحمد للّه فقد روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة ، وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا انتهك ضربا ، وأبلغ إليه في العقوبة ولا نقض باستيلاء الأقرع ، وبقاء بيت المقدس في أيدي النصارى أكثر من مائة سنة إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين لأن الإنجاز يستدعي تحقيقه في وقت ما ، ولا دلالة فيه على التكرار ، وقيل : النفي بمعنى النهي - ومعناه على طريق الكناية - النهي عن التخلية والتمكين من دخولهم المساجد ، وذلك يستلزم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 363
- أن لا يدخلوها إلا خائفين - من المؤمنين ، فذكر اللازم وأريد الملزوم ، ولا يخفى أن النهي عن التخلية والتمكين المذكور في وقت قوة الكفار ومنعهم المساجد لا فائدة فيه سوى الاشعار بوعد المؤمنين بالنصرة والاستخلاص منهم ، فالحمل عليه من أول الأمر أولى ، واختلف الأئمة في دخول الكفار المسجد ، فجوّزه الإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه مطلقا للآية - فإنها تفيد دخولهم بخشية وخشوع - ولأن وفد ثقيف قدموا عليه عليه الصلاة والسلام فأنزلهم المسجد ، ولقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل الكعبة فهو آمن»
والنهي محمول على التنزيه أو الدخول للحرم بقصد الحج ، ومنعه مالك رضي اللّه تعالى عنه مطلقا لقوله تعالى : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة : 28] والمساجد يجب تطهيرها عن النجاسات ، ولذا يمنع الجنب عن الدخول - وجوّزه لحاجة - وفرق الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه بين المسجد الحرام وغيره وقال : الحديث منسوخ بالآية ، وقرأ عبد اللّه «إلا خيفا» وهو مثل لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي عظيم بقتل أبطالهم وأقيالهم ، وكسر أصنامهم ، وتسفيه أحلامهم ، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ، ومسقط رؤوسهم ، أو بضرب الجزية على أهل الذمة منهم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب النار لما أن سببه أيضا ، وهو ما حكي من ظلمهم - كذلك في العظم - وتقديم الظرف في الموضعين للتشويق لما يذكر بعده.
«ومن باب الإشارة في الآية» ومن أبخس حظا وأنقص حقا «ممن منع» مواضع السجود للّه تعالى وهي القلوب التي يعرف فيها فيسجد له بالفناء الذاتي أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الخاص الذي هو الاسم الأعظم ، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب - وهو التجلي بالذات مع جميع الصفات - أو اسمه المخصوص بكل واحد منها ، أي الكمال اللائق باستعداده المقتضي له وَسَعى فِي خَرابِها بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى ، ومنع أهلها بتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس ، ودواعي الشيطان والوهم أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها ويصلوا إليها إِلَّا خائِفِينَ منكسرين لظهور تجلي الحق فيها لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وافتضاح وذلة بظهور بطلان ما هم عليه وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو احتجابهم عن الحق سبحانه وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي الناحيتان المعلومتان المجاورتان لنقطة تطلع منها الشمس وتغرب ، وكنى بمالكيتهما عن مالكية كل الأرض ، وقال بعضهم : إذا كانت الأرض كروية يكون كل مشرق بالنسبة مغربا بالنسبة - والأرض كلها كذلك - فلا حاجة إلى التزام الكناية ، وفيه بعد فَأَيْنَما تُوَلُّوا أي ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة ، وقرأ الحسن تُوَلُّوا على الغيبة فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها ، فإذا مكان - التولية - لا يختص بمسجد دون مسجد ولا مكان دون آخر فَأَيْنَما ظرف لازم الظرفية متضمن لمعنى الشرط وليس مفعولا ل تُوَلُّوا - والتولية - بمعنى الصرف منزل منزلة اللازم ، وثم اسم إشارة للمكان البعيد خاصة - مبني على الفتح - ولا يتصرف فيه يغير - من - وقد وهم من أعربه مفعولا به في قوله تعالى : وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً [الإنسان : 20] وهو خبر مقدم ، وما بعده مبتدأ مؤخر ، والجملة جواب الشرط - والوجه - الجهة - كالوزن والزنة - واختصاص الإضافة باعتبار كونها مأمورا
بها ، وفيها رضاه سبحانه ، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل ومجاهد وقتادة ، وقيل : الوجه بمعنى الذات مثله في قوله تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص : 88] إلا أنه جعل هنا كناية عن عمله واطلاعه مما يفعل هناك ، وقال أبو منصور : بمعنى الجاه ، ويؤول إلى الجلال والعظمة ، والجملة - على هذا - اعتراض لتسلية قلوب المؤمنين بحل الذكر والصلاة في جميع الأرض - لا في المساجد خاصة - وفي الحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
ولعل غيره عليه الصلاة والسلام لم تبح له الصلاة في غير البيع والكنائس ، وصلاة عيسى عليه السلام - في أسفاره - في غيرها كانت عن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 364
ضرورة - فلا حاجة إلى القول باختصاص المجموع - وجوّز أن تكون «أينما» مفعول تُوَلُّوا بمعنى الجهة ، فقد شاع في الاستعمال «أينما» توجهوا ، بمعنى أي جهة توجهوا - بناء على ما روي عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما - أن الآية نزلت في صلاة المسافر «1» والتطوع على الراحلة ، وعلى ما روي عن جابر أنها نزلت في قوم عميت عليهم - القبلة - في غزوة كانت فيها معهم ، فصلوا إلى الجنوب والشمال ، فلما أصبحوا تبين خطؤهم ، ويحتمل - على هاتين الروايتين - أن تكون «أينما» كما في الوجه الأول أيضا ، ويكون المعنى في أي مكان فعلتم أي - تولية - لأن حذف المفعول به يفيد العموم ، واقتصر عليه بعضهم مدعيا أن ما تقدم لم يقل به أحد من أهل العربية ، ومن الناس من قال : الآية توطئة لنسخ القبلة ، وتنزيه للمعبود أن يكون في حين وجهة ، وإلا لكانت أحق بالاستقبال ، وهي محمولة على العموم غير مختصة بحال السفر أو حال التحري ، والمراد ب «أينما» أي جهة ، وبالوجه الذات. ووجه الارتباط حينئذ أنه لما جرى ذكر - المساجد - سابقا أورد بعدها تقريبا حكم - القبلة - على سبيل الاعتراض ، وادعى بعضهم أن هذا أصح الأقوال ، وفيه تأمل إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ أي محيط بالأشياء ملكا أو رحمة ، فلهذا - وسع - عليكم - القبلة - ولم يضيق عليكم عَلِيمٌ بمصالح العباد وأعمالهم في الأماكن ، والجملة على الأول تذييل لمجموع وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ إلخ وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه فَأَيْنَما تُوَلُّوا إلخ ، ومن الغريب جعل ذلك تهديدا .. لمن منع مساجد اللّه - وجعل الخطاب المتقدم لهم أيضا ، فيؤول المعنى إلى أنه لا مهرب من اللّه تعالى لمن طغى ، ولا مفر لمن بغى ، لأن فلك سلطانه حدد الجهات ، وسلطان علمه أحاط بالأفلاك الدائرات.
أين المفر ولا مفر لهارب وله البسيطان الثرى والماء
ومن باب الإشارة أن المشرق عبارة عن عالم النور والظهور وهو جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه ، والمغرب عالم الأسرار والخفاء وهو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة باطنه ، أو المشرق عبارة عن إشراقه سبحانه على القلوب بظهور أنواره فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة الشهود ، والمغرب عبارة عن الغروب بتستره واحتجابه واختفائه بصفة جلاله حالة البقاء بعد الفناء وللّه تعالى كل ذلك فأي جهة يتوجه المرء من الظاهر والباطن فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ المتحلي بجميع الصفات المتجلي بما شاء منزها عن الجهات وقد قال قائل القوم :
وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا
إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ لا يخرج شيء عن إحاطته عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شيء من أحوال خليقته ومظاهر صفته.
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نزلت في اليهود حيث - قالوا عزيز ابن اللّه - وفي نصارى نجران حين قالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وفي مشركي العرب حيث قالوا - الملائكة بنات اللّه - فالضمير لما سبق ذكره من النصارى واليهود والمشركين الذين لا يعلمون ، وعطفه على قالَتِ الْيَهُودُ وقال أبو البقاء على وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وجوز أن يكون عطفا على منع أو على مفهوم - من أظلم - دون لفظه للاختلاف إنشائية وخبرية. والتقدير ظلموا ظلما شديدا بالمنع ، وقالوا : وإن جعل من عطف القصة على القصة لم يحتج إلى تأويل ، والاستئناف حينئذ بياني كأنه قيل بعد ما عدد من قبائحهم هل انقطع خيط إسهابهم في الافتراء على اللّه تعالى أم امتد؟ فقيل : بل امتد فإنهم قالوا ما هو أشنع وأفظع ، والاتخاذ - إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد. وإما بمعنى التصيير ، والمفعول الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولدا ، وقرأ ابن عباس ، وابن عامر. وغيرهما - قالوا - بغير واو على الاستئناف أو
___________
(1) بالمعنى اللغوي أي الخارج عن العمران ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 365
ملحوظا فيه معنى العطف ، واكتفى بالضمير ، والربط به عن الواو كما في البحر سُبْحانَهُ تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا : بأبلغ صيغة ومتعلق - سبحان - محذوف كما ترى لدلالة الكلام عليه.
بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إبطال لما زعموه وإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من التشبيه بالمحدثات في التناسل والتوالد ، والحاجة إلى الولد في القيام بما يحتاج الوالد إليه ، وسرعة الفناء لأنه لازم للتركيب اللازم للحاجة ، وكل محقق قريب سريع ، ولأن الحكمة في التوالد هو أن يبقى النوع محفوظا بتوارد الأمثال فيما لا سبيل إلى بقاء الشخص بعينه مدة بقاء الدهر. وكل ذلك يمتنع على اللّه تعالى فإنه الأبدي الدائم والغني المطلق المنزه عن مشابهة المخلوقات.
واللام في لَهُ قيل للملك ، وقيل : إنها كالتي في قولك لزيد - ضرب - تفيد نسبة الأثر إلى المؤثر ، وقيل : للاختصاص بأي وجه كان ، وهو الأظهر ، والمعنى ليس الأمر كما افتروا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها ما زعموه ولدا ، والخالق لكل موجود لا حاجة له إلى الولد إذ هو يوجد ما يشاء منزها عن الاحتياج إلى التوالد كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي كل ما فيهما كائنا ما كان جميعا منقادون له لا يستعصي شيء منهم على مشيئته وتكوينه إيجادا وإعداما وتغيرا من حال إلى حال ، وهذا يستلزم الحدوث والإمكان المنافي للوجوب الذاتي فكل من كان متصفا بهذه الصفة لا يكون والدا لأن من حق الولد أن يشارك والده في الجنس لكونه بعضا منه ، وإن لم يماثله ، وكان الظاهر كلمة من مع قانِتُونَ كيلا يلزم اعتبار التغليب فيه ، ويكون موافقا لسوق الكلام فإن الكلام في العزير والمسيح والملائكة وهم عقلاء إلا أنه جاء بكلمة ما المختصة بغير أولي العلم كما قاله بعضهم : محتجا بقصة الزبعرى مخالفا لما عليه الرضيّ من أنها في الغالب لما يعلم ، ولما عليه الأكثرون من عمومها كما في التلويح ، واعتبر التغليب في قانِتُونَ إشارة إلى أن هؤلاء الذين جعلوهم ولد اللّه تعالى سبحانه وتعالى في جنب عظمته جمادات مستوية الأقدام معها في عدم الصلاحية لاتخاذ الولد ، وقيل : أتى بما في الأول لأنه إشارة إلى مقام الألوهية ، والعقلاء فيه بمنزلة الجمادات ، وبجمع العقلاء في الثاني لأنه إشارة إلى مقام العبودية ، والجمادات فيه بمنزلة العقلاء.
ويحتمل أن يقدر المضاف إليه كل ما جعلوه ولدا لدلالة المقول لا عاما لدلالة مبطلة ، ويراد بالقنوت الانقياد لأمر التكليف كما أنه على العموم الانقياد لأمر التكوين ، وحينئذ لا تغليب في قانِتُونَ وتكون الجملة إلزاما بأن ما زعموه ولدا مطيع للّه تعالى مقر بعبوديته بعد إقامة الحجة عليهم بما سبق ، وترك العطف للتنبيه على استقلال كل منهما في الدلالة على الفساد واختلافهما في كون أحدهما حجة والآخر إلزاما ، وعلى الأول يكون الأخير مقررا لما قبله ، وذكر الجصاص أن في هذه الآية دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده لأنه نفي الولد بإثبات الملك باعتبار أن اللام له فمتى ملك ولده عتق عليه ، وقد حكم صلى اللّه تعالى عليه وسلم بمثل ذلك في الوالد إذا ملكه ولده ولا يخفى أن هذا بعيد عما قصد بالآية لا سيما إذا كان الأظهر الاختصاص كما علمت بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما فهو فعيل من أفعل وكان الأصمعي ينكر فعيلا بمعنى مفعل ، وقال ابن بري : قد جاء كثيرا نحو مسخن وسخين. ومقعد وقعيد. وموصى ووصي. ومحكم وحكيم. ومبرم وبريم. ومونق وأنيق في أخوات له ، ومن ذلك السميع في بيت عمرو بن معديكرب السابق. والاستشهاد بناء على الظاهر المتبادر على ما هو الأليق بمباحث العربية فلا يرد ما قيل في البيت لأنه على خلافه كما لا يخفى على المنصف ، وقيل : هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف أي بديع سماواته. وأنت تعلم أنه قد تقرر أن الصفة إذا أضيفت إلى الفاعل يكون فيها ضمير يعود إلى الموصوف فلا تصح الإضافة إلا إذا صح اتصاف الموصوف بها نحو - حسن الوجه - حيث يصح اتصاف الرجل بالحسن لحسن وجهه بخلاف حسن الجارية وإنما صح زيد كثير الإخوان لاتصافه بأنه متقوّ بهم. وفيما نحن فيه -

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 366
وإن امتنع اتصافه بالصفة المذكورة - لكن يصح اتصافه بما دلت عليه وهو كونه مبدعا لهما. وهذا يقتضي أن يكون الأولى بقاء المبدع على ظاهره وهو الذي عليه أساطين أهل اللغة ، والإبداع اختراع الشيء لا عن مادة ولا في زمان ، ويستعمل ذلك في إيجاده تعالى للمبادى ء - كما قاله الراغب وهو غير الصنع إذ هو تركيب الصورة بالعنصر ويستعمل في إيجاد الأجسام وغير التكوين فإنه ما يكون بتغير وفي زمان غالبا وإذا أريد من السماوات والأرض جميع ما سواه تعالى من المبدعات والمصنوعات والمكونات لاحتوائها على عالم الملك والملكوت فبعد اعتبار التغليب يصح إطلاق كل من الثلاثة إلا أن لفظ الإبداع أليق لأنه يدل على كمال قدرته تعالى ، والقول بتعين حمل الإبداع على التكوين من مادة أو أجزاء لأن إيجاد السماوات من شيء كما يشير إليه قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت : 11] ناشىء من الغفلة عما ذكرنا ، والآية حجة أخرى لإبطال تلك المقالة الشنعاء ، وتقريرها أنه تعالى مبدع لكل ما سواه فاعل على الإطلاق ، ولا شيء من الوالد كذلك ضرورة انفعاله بانفصال مادة الولد عنه فاللّه تعالى ليس بوالد ، وقرأ المنصور بَدِيعُ بالنصب على المدح ، وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في لَهُ على رأي من يجوز ذلك وَإِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا بقرينة قوله تعالى : إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً [يس : 83] وجاء القضاء على وجوه ترجع كلها إلى إتمام الشيء قولا أو فعلا وإطلاقه على الإرادة مجاز من استعمال اللفظ المسبب في السبب فإن الإيجاد الذي هو إتمام الشيء مسبب عن تعلق الإرادة لأنه يوجبه ، وساوى ابن السيد بينه وبين القدر ، والمشهور التفرقة بينهما بجعل القدر تقديرا لأمور قبل أن تقع ، والقضاء إنفاذ ذلك القدر وخروجه من العدم إلى حد الفعل ، وصحح ذلك الجمهور لأنه قد جاء
في الحديث «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم مر بكهف مائل للسقوط فأسرع المشي حتى جاوزه فقيل : له أتفر من قضاء اللّه تعالى؟ فقال : أفر من قضائه تعالى إلى قدره»
ففرق صلى اللّه تعالى عليه وسلم بين القضاء والقدر.
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الظاهر أن الفعلين من - كان - التامة لعدم ذكر الخبر مع أنها الأصل أي أحدث فيحدث ، وهي تدل على معنى الناقصة لأن الوجود المطلق أعم من وجوده في نفسه أو في غيره والأمر محمول «1» على حقيقته كما ذهب إليه محققو ساداتنا الحنفية واللّه تعالى قد أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بهذه الكلمة وإن لم يمتنع تكوينها بغيرها ، والمراد الكلام الأزلي لأنه يستحيل قيام اللفظ المرتب بذاته تعالى ولأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر فيتسلسل وتأخره عن الإرادة وتقدمه على وجود الكون باعتبار التعلق ، ولما لم يشتمل خطاب التكوين على الفهم واشتمل على أعظم الفوائد جاز تعلقه بالمعدوم ، وذهب المعتزلة وكثير من أهل السنة إلى أنه ليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال ، وإنما هو تمثيل لحصول ما تعلق به الإرادة بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف فهناك استعارة تمثيلية حيث شبهت هيئة حصول المراد بعد تعلق الإرادة بلا مهلة ، وامتناع بطاعة المأمور المطيع عقيب أمر المطاع بلا توقف وإباء تصويرا لحال الغائب بصورة الشاهد ثم استعمل الكلام الموضوع للمشبه في المشبه به من غير اعتبار استعارة في مفرداته وكان أصل الكلام إذا قضى أمرا فيحصل عقيبه دفعة فكأنما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ثم حذف المشبه ، واستعمل المشبه به مقامه ، وبعضهم يجعل في الكلام استعارة تحقيقية تصريحية مبنية على تشبيه حال يقال ، ولعل الذي دعا هؤلاء إلى العدول عن الظاهر زعم امتناعه لوجوه ذكرها بعض أئمتهم «الأول» أن قوله تعالى :
كُنْ إما أن يكون قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لتأخر النون ولتقدم الكاف ، والمسبوق محدث لا محالة ،
___________
(1) كأن مرادهم أن مدلول اللفظ موجود حقيقة ، وإلا فهذا الأمر تنجيزي وهو مجاز أيضا فافهم ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 367
وكذا المتقدم عليه بزمان مقدر أيضا ، ولأن إِذا للاستقبال فالقضاء محدث وكُنْ مرتب عليه بفاء التعقيب ، والمتأخر عن المحدث محدث ، ولا جائز أن يكون محدثا وإلا لدار أو تسلسل ، «الثاني» إما أن يخاطب المخلوق يكن قبل دخوله في الوجود ، وخطاب المعدوم سفه ، وإما بعد دخوله ولا فائدة فيه.
«الثالث» المخلوق قد يكون جمادا وتكليفه لا يليق بالحكمة «الرابع» إذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله كُنْ فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إليها وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه ب كُنْ فيلزم عجزه بالنظر إلى ذاته «الخامس» أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها فكذا إذا تكلم بها غيرنا.
«السادس» المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين أو أحدهما وهو خلاف المفروض انتهى.
وأنت إذا تأملت ما ذكرنا ظهر لك اندفاع جميع هذه الوجوه ، ويا عجبا لمن يقول بالكلام النفسي ويجعل هذا دالا عليه كيف تروعه هذه القعاقع أم كيف تغره هذه الفقاقع؟! نعم لو ذهب ذاهب إلى هذا القول لما فيه من مزيد إثبات العظمة للّه تعالى ما ليس في الأول لا لأن الأول باطل في نفسه كان حريا بالقبول - ولعلي أقول به - والآية مسوقة لبيان كيفية الإبداع ومعطوفة على قوله تعالى : بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مشتملة على تقرير معنى الإبداع وفيها تلويح بحجة أخرى لإبطال ذلك الهذيان بأن اتخاذ الولد من الوالد إنما يكون بعد قصده بأطوار ومهلة لما أن ذلك لا يمكن إلا بعد انفصال مادته عنه وصيرورته حيوانا ، وفعله تعالى بعد إرادته أو تعلق قوله مستغن عن المهلة فلا يكون اتخاذ الولد فعله تعالى ، وكأن السبب في هذه الضلالة أنه ورد إطلاق الأب على اللّه تعالى في الشرائع المتقدمة باعتبار أنه السبب الأول وكثر هذا الإطلاق في إنجيل يوحنا ثم ظنت الجهلة أن المراد به معنى الولادة فاعتقدوا ذلك تقليدا وكفروا ، ولم يجوز العلماء اليوم إطلاق ذلك عليه تعالى مجازا قطعا لمادة الفساد ، وقرأ ابن عامر فَيَكُونُ بالنصب ، وقد أشكلت على النحاة حتى تجرأ أحمد بن موسى فحكم بخطئها وهو سوء أدب بل من أقبح الخطأ ووجهها أن تكون حينئذ جواب الأمر حملا على صورة اللفظ وإن كان معناه الخبر إذ ليس معناه تعليق مدلول مدخول الفاء بمدلول صيغة الأمر الذي يقتضيه سببية ما قبل الفاء لما بعدها اللازمة لجواب الأمر بالفاء إذ لا معنى لقولنا ليكن منك كون فكون ، وقيل : الداعي إلى الحمل على اللفظ أن الأمر ليس حقيقيا فلا ينصب جوابه وإن من شرط ذلك أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو - ائتني فأكرمك - إذ تقديره إن تأتني أكرمك وهنا لا يصح - إن يكن يكن - وإلا لزم كون الشيء سببا لنفسه ، وأجيب بأن المراد إن يكن في علم اللّه تعالى وإرادته يكن في الخارج فهو على حد «من كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله» وبأن كون الأمر غير الحقيقي لا ينصب في جوابه ممنوع فإن كان بلفظ فظاهر ولكنه مجاز عن سرعة التكوين وإن لم يعتبر فهو مجاز عن إرادة سرعته فيؤول إلى أن يراد سرعة وجود شيء يوجد في الحال فلا محذور للتغاير الظاهر ولا يخفى ما فيه ، ووجه الرفع الاستئناف أي فهو يكون وهو مذهب سيبويه ، وذهب الزجاج إلى عطفه على يَقُولُ وعلى التقديرين لا يكون فَيَكُونُ داخلا في المقول ومن تتمته ليوجه العدول عن الخطاب بأنه من باب الالتفات تحقيرا لشأن الأمر في سهولة تكونه ووجهه به غير واحد على تقدير الدخول.
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ عطف على قوله تعالى : وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ووجه الارتباط أن «الأول» كان قدحا في التوحيد وهذا قدح في النبوة ، والمراد من الموصول جهلة المشركين ، وقد روي ذلك عن قتادة والسدي والحسن وجماعة ، وعليه أكثر المفسرين ويدل عليه قوله تعالى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء :
90] وقالوا : فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء : 5] وقالوا : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 368
21] وقيل : المراد به اليهود الذي كانوا على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بدليل ما
روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن رافع بن خزيمة من اليهود قال لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن كنت رسولا من عند اللّه تعالى فقل للّه يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ،
وقوله تعالى : يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النساء : 153] وقال مجاهد : المراد به النصارى ورجحه الطبري بأنهم المذكورون في الآية ، وهو كما ترى ، ونفي العلم على الأول عنهم على حقيقته لأنهم لم يكن لهم كتاب ولا هم أتباع نبوة ، وعلى الأخيرين لتجاهلهم أو لعدم علمهم بمقتضاه لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلا يكلمنا بأنك رسوله إما بالذات كما يكلم الملائكة أو بإنزال الوحي إلينا ، وهو استكبار منهم بعد أنفسهم الخبيثة كالملائكة والأنبياء المقدسين عليهم الصلاة والسلام أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي حجة على صدقك وهو جحود منهم قاتلهم اللّه تعالى لما آتاهم من الآيات البينات ، والحجج الباهرات التي تخر لها صم الجبال ، وقيل : المراد إتيان آية مقترحة ، وفيه أن تخصيص النكرة خلاف الظاهر كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جواب لشبهتهم يعني أنهم يسألون عن تعنت واستكبار مثل الأمم السابقة والسائل المتعنت لا يستحق إجابة مسألته مِثْلَ قَوْلِهِمْ هذا الباطل الشنيع فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء : 153] هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً [المائدة : 112] اجْعَلْ لَنا إِلهاً [الأعراف : 138] وقد تقدم الكلام على هذين التشبيهين ، ولبعضهم هنا زيادة على ما مر احتمال تعلق كَذلِكَ ب تَأْتِينا وحينئذ يكون الوقف عليه لا على آيَةٌ أو جعل مِثْلَ قَوْلِهِمْ متعلقا ب تَشابَهَتْ وحينئذ يكون الوقف على مِنْ قَبْلِهِمْ وأنت تعلم أنه لا ينبغي تخريج كلام اللّه تعالى الكريم على مثل هذه الاحتمالات الباردة تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد ، وقيل : في التعنت والاقتراح ، والجملة مقررة لما قبلها ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي إسحاق بتشديد الشين قال أبو عمرو الداني : وذلك غير
جائز لأنه فعل ماض والتاءان المزيدتان إنما يجيئان في المضارع فيدغم أما الماضي فلا ، وفي غرائب التفسير أنهم أجمعوا على خطئه ، ووجه ذلك الراغب بأنه حمل الماضي على المضارع فزيد فيه ما يزاد فيه ولا يخفى أنه بهذا القدر لا يندفع الاشكال ، وقال ابن سهمي في الشواذ : إن العرب قد تزيد على أول تفعل في الماضي تاء فتقول تتفعل وأنشد تتقطعت بي دونك الأسباب وهو قول غير مرضي ولا مقبول فالصواب عدم صحة نسبة هذه القراءة إلى هذين الإمامين وقد أشرنا إلى نحو ذلك فيما تقدم قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أي نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها فهو على حد سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يعلمون الحقائق علما ذا وثاقة لا يعتريهم شبهة ولا عناد وهؤلاء ليسوا كذلك فلهذا تعنتوا واستكبروا وقالوا ما قالوا ، والجملة على هذا معللة لقوله تعالى : كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما صرح به بعض المحققين ، ويحتمل أن يراد من الإتيان طلب الحق واليقين و- الآية - رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين مكان الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة ، والمعنى أنهم اقترحوا آيَةٌ فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض سبحانه لرد قولهم لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ إيذانا بأنه منهم أشبه شيء بكلام الأحمق وجواب الأحمق السكوت إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي متلبسا مؤيدا به فالظرف مستقر ، وقيل : لغو متعلق بأرسلنا أو بما بعده ، وفسر الحق بالقرآن أو بالإسلام وبقاؤه على عمومه أولى بَشِيراً وَنَذِيراً حالان من الكاف ، وقيل : من الحق والآية اعتراض لتسلية الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأنه كان يهتم ويضيق صدره لإصرارهم على الكفر والمراد إِنَّا أَرْسَلْناكَ لأن تبشر من أطاع وتنذر من عصى لا لتجبر على الإيمان فما عليك إن أصروا أو كابروا؟ والتأكيد لإقامة غير المنكر مقام المنكر بما لاح عليه من أمارة الإنكار والقصر إفرادي.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 369
وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ تذييل معطوف على ما قبله ، أو اعتراض أو حال أي أرسلناك غير - مسؤول عن أصحاب الجحيم - مات لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت ما أرسلت به وألزمت الحجة عليهم؟! وقرأ أبيّ وما بدل ولا وابن مسعود «ولن» بدل «ذلك» وقرأ نافع ويعقوب لا تسأل - على صيغة النهي إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كما تقول كيف حال فلان وقد وقع في مكروه فيقال لك لا تسأل عنه أي إنه لغاية فظاعة ما حل به لا يقدر المخبر على
إجرائه على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمعه ، والجملة على هذا اعتراض أو عطف على مقدر أي فبلغ ، والنهي مجازي ، ومن الناس من جعله حقيقة ، والمقصود منه بالذات نهيه صلّى اللّه عليه وسلّم عن السؤال عن حال أبويه على ما
روي - أنه عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما فذهب فدعا لهما وتمنى أن يعرف حالهما في الآخرة وقال : ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت -
ولا يخفى بعد هذه الرواية لأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم - كما في المنتخب - عالم بما آل إليه أمرهما ، وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أنه لم يقف عليها ، وقال الإمام السيوطي : لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد فلا يعول عليه ، والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السابقة عليها والتالية لها لا في أبويه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ولتعارض الأحاديث في هذا الباب وضعفها قال السخاوي : الذي ندين اللّه تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما والذي أدين اللّه تعالى به أنا أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر ، وعليه يحمل كلام الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه إن صح بل أكاد أقول :
إنهما أفضل من عليّ القارئ وأضرابه. و- الجحيم - النار بعينها إذا شب وقودها. ويقال : جحمت النار تجحم جحما إذا اضطربت.
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ بيان لكمال شدة شكيمتي هاتين الطائفتين إثر بيان ما يعمهما ، والمشركين مما تقدم ولا بين المعطوفين لتأكيد النفي وللاشعار بأن رضا كل منهما مباين لرضا الأخرى ، والخطاب للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة والسلام ، ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان ، وهو الاتباع لملتهم التي جاء بنسخها فكيف يتصور اتباعهم لملته صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، واحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى اللّه تعالى عليه وسلم على إيمانهم على ما
روي أنه كان يلاطف كل فريق رجاء أن يسلموا فنزلت ،
والملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال الراغب ، ومنه طريق ملول - أي مسلوك معلوم - كما نقله الأزهري ثم نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولا يختلف الأنبياء عليهم السلام فيها ، وقد تطلق على الباطل كالكفر ملة واحدة ، ولا تضاف إليه سبحانه فلا يقال ملة اللّه ، ولا إلى آحاد الأمة ، والدين يرادفها صدقا لكنه باعتبار قبول المأمورين لأنه في الأصل الطاعة والانقياد ولاتحاد ما صدقهما قال تعالى : دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الإنعام : 161] وقد يطلق الدين على الفروع تجوزا ، ويضاف إلى اللّه تعالى وإلى الآحاد وإلى طوائف مخصوصة نظرا إلى الأصل على أن تغاير الاعتبار كاف في صحة الإضافة ، ويقع على الباطل أيضا ، وأما الشريعة فهي المورد في الأصل ، وجعلت اسما للأحكام الجزئية المتعلقة بالمعاش والمعاد سواء كانت منصوصة من الشارع أو لا لكنها راجعة إليه. والنسخ والتبديل يقع فيها ، وتطلق على الأصول الكلية تجوزا قاله بعض المحققين : ووحدت الملة ، وإن كان لهم ملتان للإيجاز أو لأنهما يجمعهما الكفر ، وهو ملة واحدة ، ثم إن هذا ليس ابتداء كلام منه تعالى بعدم رضاهم بل هو حكاية لمعنى كلام قالوه بطريق التكلم ليطابقه قوله سبحانه.
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فإنه على طريقة الجواب لمقالتهم ولعلهم ما قالوا ذلك إلا لزعمهم أن دينهم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 370
حق وغيره باطل فأجيبوا بالقصر القلبي - أي دين اللّه تعالى هو الحق ودينكم هو الباطل ، وهُدَى اللَّهِ تعالى الذي هو الإسلام هو الهدى وما يدعون إليه ليس بهدى بل هوى - على أبلغ وجه لإضافة الهدى إليه تعالى وتأكيده إِنَّ وإعادة الهدى في الخبر على حد شعري شعري ، وجعله نفس الْهُدى المصدري وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخبر ، ويحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم ، والأمر بهذا القول لهم لا يجب أن يكون جوابا لعين تلك العبارة بل جواب ورد لما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية أو النصرانية وأن الاهتداء فيهما وقيل : يصح أن يكون لإقناطهم عما يتمنونه ويطمعونه وليس بجواب وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل - بالملة - وكان الظاهر - ولئن اتبعتها - إلا أنه غير النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذانا بأنهم غيروا ما شرعه اللّه سبحانه تغييرا أخرجوه به عن موضوعه ، وفي صيغة الجمع إشارة إلى كثرة الاختلاف بينهم وأن بعضهم يكفر بعضا.
بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي المعلوم وهو الوحي أو الدين لأنه الذي يتصف بالمجيء دون العلم نفسه ولك أن تفسر المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ جواب للقسم الدال عليه اللام الموطئة ولو أجيب به الشرط هنا لوجبت الفاء ، وقيل : إنه جواب له ويحتاج إلى تقدير القسم مؤخرا عن الشرط وتأويل الجملة الاسمية بالفعلية الاستقبالية أي ما يكون لك وهو تعسف إذ لم يقل أحد من النحاة بتقدير القسم مؤخرا مع اللام الموطئة ، وتأويل الاسمية بالفعلية لا دليل عليه ، وقيل : إنه جواب لكلا الأمرين القسم الدال عليه اللام ، وإن الشرطية لأحدهما لفظا وللآخر معنى وهو كما ترى ، والخطاب أيضا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتقييد الشرط بما قيد للدلالة على أن متابعة أهوائهم محال لأنه خلاف ما علم صحته فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي ولا نصير يدفع عنه العذاب ، وفيه أيضا من المبالغة في الاقناط ما لا يخفى ، وقيل : الخطاب هناك وهنا وإن كان ظاهرا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا أن المقصود منه أمته ، وأنت تعلم مما ذكرنا أنه لا يحتاج إلى التزام ذلك الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اعتراض لبيان حال مؤمني أهل الكتاب بعد ذكر أحوال كفرتهم ولم يعطف تنبيها على كمال التباين بين الفريقين والآية نازلة فيهم وهم المقصودون منها سواء أريد بالموصول الجنس أو العهد على ما قيل : إنهم الأربعون الذين قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب اثنان وثلاثون منهم من اليمن وثمانية من علماء الشام يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرؤونه حق قراءته وهي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى وحق الأمر والنهي ، والجملة حال مقدرة أي آتيناهم الكتاب مقدرا تلاوتهم لأنهم لم يكونوا تالين وقت الإيتاء وهذه الحال مخصصة لأنه ليس كل من أوتيه يتلوه ، وحَقَّ منصوب على المصدرية لإضافته إلى المصدر ، وجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف وأن يكون حالا أي محقين والخبر قوله تعالى : أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ويحتمل أن يكون يَتْلُونَهُ خبرا لا حالا ، أُولئِكَ إلخ خبرا بعد خبر أو جملة مستأنفة ، وعلى أول الاحتمالين يكون الموصول للجنس ، وعلى ثانيهما يكون للعهد أي مؤمنو أهل الكتاب ، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للحصر والتعريض ، والضمير للكتاب أي - أولئك يؤمنون بكتابهم - دون المحرفين فإنهم غير مؤمنين به ، ومن هنا يظهر فائدة الاخبار على الوجه الأخير ، ولك أن تقول محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح بقرينة ما يأتي ، ومن الناس من حمل الموصول على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وإليه ذهب عكرمة وقتادة ، فالمراد من الْكِتابَ حينئذ القرآن ، ومنهم من حمله على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ، وإليه ذهب ابن كيسان ، فالمراد من الْكِتابَ حينئذ الجنس ليشمل الكتب المتفرقة ، ومنهم من قال بما قلنا إلا أنه جوز عود ضمير بِهِ إلى الْهُدى أو إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو إلى اللّه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 371
تعالى ، وعلى التقديرين يكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة أو من التكلم إليها. ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من البعد البعيد.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي الكتاب بسبب التحريف والكفر بما يصدقه ، واحتمالات نظير هذا الضمير مقولة فيه أيضا فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ من جهة أنهم اشتروا الكفر بالإيمان ، وقيل : بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح ، وللإيذان بأن ذلك فذلكة القصة والمقصود منها - وقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة «أولا» بلفظ القبول متقدمة على - العدل - «وهنا» بلفظ - النفع - متأخرة عنه ، ولعله - كما قيل - إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه ، وأعطى المقدم وجودا تقدمه ذكرا ، والمتأخر وجودا تأخره ذكرا ، وقيل : إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة ، وما هنا لتذكير - نعمة بها فضلهم على العالمين - وهي نعمة الإيمان بنبي زمانهم ، وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين - لا المفضولين - وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها - كما اتقوا بمتابعة موسى عليه السلام.
[سورة البقرة (2) : الآيات 124 إلى 136]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 372
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ في متعلق إِذِ احتمالات تقدمت الإشارة إليها في نظير الآية ، واختار أبو حيان تعلقها ب قالَ الآتي ، وبعضهم بمضمر مؤخر ، أي كان كيت وكيت «والمشهور» تعلقها بمضمر مقدم تقديره - اذكر - أو - اذكروا - وقت كذا ، والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة ، والجامع الاتحاد في المقصد فإن المقصد من - تذكيرهم وتخويفهم - تحريضهم على قبول دينه صلّى اللّه عليه وسلّم ، واتباع الحق ، وترك التعصب ، وحب الرياسة ، كذلك المقصد من قصة إِبْراهِيمَ عليه السلام وشرح أحواله ، الدعوة إلى ملة الإسلام وترك التعصب في الدين ، وذلك لأنه إذا علم أنه نال - الإمامة - بالانقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في الظَّالِمِينَ وأن الكعبة كانت مطافا ومعبدا في وقته مأمورا هو بتطهيره ، وأنه كان يحج البيت داعيا مبتهلا - كما هو دين النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم - وأن نبينا عليه الصلاة والسلام من دعوته ، وأنه دعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام ، كان الواجب على من يعترف بفضله وأنه من أولاده ، ويزعم اتباع ملته ، ويباهي بأنه من ساكن حرمه وحامي بيته ، أن يكون حاله مثل ذلك ، وذهب عصام الملة والدين إلى جواز العطف على نِعْمَتِيَ أي اذْكُرُوا وقت - ابتلاء إبراهيم - فإن فيه ما ينفعكم ويرد اعتقادكم الفاسد أن آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة ، لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في - الظلمة - ويدفع عنكم حب الرياسة المانع عن متابعة الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، فإنه يعلم منه أنه لا ينال الرياسة الظَّالِمِينَ واعترض بأنه خروج عن طريق البلاغة مع لزوم تخصيص الخطاب بأهل الكتاب وتخلل اتَّقُوا بين المعطوفين - والابتلاء - في الأصل الاختبار - كما قدمنا - والمراد به هنا التكليف.
أو المعاملة معاملة الاختبار مجازا ، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى - لكونه عالم السر والخفيات - وإِبْراهِيمَ علم أعجمي ، قيل : معناه قبل النقل - أب رحيم - وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره ، والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه السلام ، وإيذان بأن ذلك - الابتلاء - تربية له وترشيح لأمر خطير ، و- الكلمات - جمع - كلمة - وأصل معناها - اللفظ المفرد - وتستعمل في الجمل المفيدة ، وتطلق على معاني ذلك - لما بين اللفظ والمعنى من شدة الاتصال - واختلف فيها.
فقال طاوس عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : إنها العشرة التي من الفطرة ، المضمضة والاستنشاق وقص الشارب وإعفاء اللحية والفرق ونتف الإبط وتقليم الأظفار وحلق العانة والاستطابة والختان ، وقال عكرمة رواية عنه أيضا : لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم ، ابتلاه اللّه تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام ، عشر منها في سورة براءة ، التَّائِبُونَ [التوبة : 112] إلخ ، وعشر في الأحزاب [25] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلخ ، وعشر في المؤمنين وسَأَلَ سائِلٌ إلى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [المعارج : 1 - 24] وفي رواية الحاكم في مستدركه أنها ثلاثون ، وعد السور الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة ، فالذي في براءة ، التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع ، والسجود. والأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر. والحفظ لحدود اللّه تعالى. والإيمان المستفاد من وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أو من إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة : 111] في الأحزاب ، الإسلام. والإيمان. والقنوت.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 373
والصدق. والصبر. والخشوع. والتصدق. والصيام. والحفظ للفروج والذكر ، والذي في المؤمنين الإيمان والخشوع والاعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج - إلا على الأزواج أو الإماء ثلاثة - والرعاية للعهد. والأمانة اثنين والمحافظة على الصلاة ، وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض الخصال بعد جمع العشرات المذكورة. كالإيمان.
والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعدادا - إنما ينافي تغايرها ذاتا - ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند الشافعية باعتبار تكررها في كل سورة ، وما في رواية عكرمة مبني على اعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات ، وعده العاشرة البشارة للمؤمنين في براءة ، وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة عليها واحدا وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج : 24] غير - الفاعلين للزكاة - لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب ، وما روي أنها أربعون وبينت بما في السور الأربع مبني على الاعتبار الأول أيضا - فلا إشكال - وقيل : ابتلاه اللّه تعالى بعدة أشياء بالكوكب والقمرين والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة من كوثى إلى الشام. وروي ذلك عن الحسن ، وقيل : هي ما تضمنته الآيات بعد من الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع قواعده ، والإسلام. «وقيل ، وقيل ..» إلى ثلاثة عشر قولا ، وقرأ ابن عامر وابن الزبير وغيرهما «إبراهام» وأبو بكرة «إبراهم» - بكسر الهاء وحذف الياء - وقرأ ابن عباس. وأبو الشعثاء وأبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنهم برفع إِبْراهِيمَ ونصب رَبُّهُ - فالابتلاء - بمعنى الاختبار حقيقة لصحته من العبد. والمراد دعا رَبُّهُ بِكَلِماتٍ مثل رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الأعراف : 143] واجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم : 35] ليرى هل يجيبه؟ ولا حاجة إلى الحمل على المجاز. وأما ما قيل : إنه - وإن صح من العبد - لا يصح - أو لا يحسن تعليقه بالرب - فوجهه غير ظاهر سوى ذكر لفظ - الابتلاء - ويجوز أن يكون ذلك في مقام الأنس ، ومقام الخلة غير خفي فَأَتَمَّهُنَّ الضمير المنصوب - للكلمات - لا غير.
والمرفوع المستكن يحتمل أن يعود - لإبراهيم - وأن يعود - لربه - على كل من قراءتي - الرفع والنصب - فهناك أربعة احتمالات «الأول» عوده على إِبْراهِيمَ منصوبا ، ومعنى فَأَتَمَّهُنَّ حينئذ أتى بهن على الوجه الأتم وأداهن كما يليق «الثاني» عوده على رَبُّهُ مرفوعا ، والمعنى حينئذ يسر له العمل بهن وقواه على - إتمامهن - أو أتم له أجورهن ، أو أدامهن سنّة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين «والثالث» عوده على إِبْراهِيمَ مرفوعا - والمعنى عليه - أتم إبراهيم الكلمات المدعو بها بأن راعى شروط الإجابة فيها ، ولم يأت بعدها بما يضيعها «الرابع» عوده إلى رَبُّهُ منصوبا - والمعنى عليه - فأعطى سبحانه إِبْراهِيمَ جميع ما دعاه. وأظهر الاحتمالات الأول والرابع ، إِذِ التمدح غير ظاهر في الثاني - مع ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته - والاستعمال المألوف غير متبع في الثالث ، لأن الفعل الواقع في مقابلة الاختبار يجب أن يكون فعل المختبر اسم مفعول.
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً استئناف بياني إن أضمر ناصب إِذِ كأنه قيل : فماذا كان بعد؟ فأجيب بذلك ، أو بيان - لابتلى - بناء على رأي من جعل - الكلمات - عبارة عما ذكر أثره - وبعضهم يجعل ذلك من بيان الكلي بجزئي من جزئياته وإذا نصبت إِذِ بيقال كما ذهب إليه أبو حيان يكون المجموع جملة معطوفة على ما قبلها على الوجه الذي مرّ تفصيله ، وقيل : مستطردة أو معترضة ، ليقع قوله تعالى : أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [الإنعام : 144] إن جعل خطابا لليهود موقعه ، ويلائم قوله سبحانه : وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة : 135] و«جاعل» من - جعل - بمعنى صير المتعدي إلى مفعولين ، ولِلنَّاسِ إما متعلق بجاعل أي لأجلهم ، وإما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي إماما كائنا لهم - والإمام - اسم للقدوة الذي يؤتم به. «ومنه» قيل لخيط البناء : إمام ، وهو مفرد على فعال ، وجعله بعضهم اسم آلة لأن فعالا من صيغها - كالإزار - واعترض بأن - الإمام - ما يؤتم به ، والإزار ما يؤتزر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 374
به - فهما مفعولان - ومفعول الفعل ليس بآلة لأنها الواسطة بين الفاعل والمفعول في وصول أثره إليه ، ولو كان المفعول آلة لكان الفاعل كذلك - وليس فليس - ويكون جمع - آم - اسم فاعل من - أم يؤم - كجائع وجياع ، وقائم وقيام ، وهو بحسب المفهوم وإن كان شاملا للنبي والخليفة وإمام الصلاة ، بل كل من يقتدى به في شيء ولو باطلا كما يشير إليه قوله تعالى : وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص : 41] إلا أن المراد به هاهنا النبي المقتدى به ، فإن من عداه لكونه مأموم النبي ليست إمامته كإمامته ، وهذه الإمامة إما مؤبدة - كما هو مقتضى تعريف الناس - وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار ولا يضر مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته ومأمورا باتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم اتفاق الشرائع التي بعده في الكل ، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده التي هي أبعاضه على التناوب ، وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ - ولو بعضه - لا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم يشع ذلك فالمراد من «الناس» حينئذ أمته الذين اتبعوه ، ولك أن تلتزم القول بتأبيد إمامة كل نبي - ولكن في عقائد التوحيد - وهي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلا كما يشير إليه قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الإنعام : 90] وعدم الشيوع غير مسلم ، ولئن سلم لا يضر ، والامتنان على إبراهيم عليه السلام بذلك دون غيره لخصوصية اقتضت ذلك لا تكاد تخفى فتدبر.
ثم لا يخفى أن ظاهر الآية يشير إلى أن الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى جعل القيام بتلك الكلمات سببا لجعله إماما ، وقيل : إنه كان بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي ، وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق وأنت تعلم أن ذبح الولد والهجرة والنار إن كانت من - الكلمات - يشكل الأمر لأن هذه كانت بعد النبوة بلا شبهة ، وكذا الختان أيضا بناء على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام حين ختن نفسه كان عمره مائة وعشرين فحينئذ يحتاج إلى أن يكون - إتمام الكلمات - سبب الإمامة باعتبار عمومها للناس واستجابة دعائه في حق بعض ذريته ، ونقل الرازي عن القاضي أنه على هذا يكون المراد من قوله تعالى : فَأَتَمَّهُنَّ أنه سبحانه وتعالى علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة ولا يخفى أن الفاء يأبى عن الحمل على هذا المعنى.
قالَ استئناف بياني والضمير لإبراهيم عليه السلام وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف يقال سأكرمك فتقول وزيدا وجعله على معنى ماذا يكون مِنْ ذُرِّيَّتِي بعيد. وذهب أبو حيان إلى أنه متعلق بمحذوف أي - اجعل من ذريتي - إماما لأنه عليه السلام فهم من إِنِّي جاعِلُكَ الاختصاص به ، واختاره بعضهم واعترضوا على ما تقدم بأن الجار والمجرور لا يصلح مضافا إليه فكيف يعطف عليه وبأن العطف على الضمير كيف يصح بدون إعادة الجار وبأنه كيف يكون المعطوف مقول قائل آخر ، ودفع الأولان بأن الإضافة اللفظية في تقدير الانفصال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي في معنى بعض ذُرِّيَّتِي فكأنه قال : وجاعل بعض ذُرِّيَّتِي وهو صحيح على أن العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وإن أباه أكثر النحاة إلا أن المحققين من علماء العربية وأئمة الدين على جوازه حتى قال صاحب العباب : إنه وارد في القراءات السبع المتواترة فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ودفع «الثالث» بأنه من قبيل عطف التلقين فهو خبر في معنى الطلب وكأن أصله واجعل بعض ذُرِّيَّتِي كما قدره المعترض لكنه عدل عنه إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر ونظير هذا العطف ما
روى الشيخان عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال : «اللهم ارحم المحلقين قالوا :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 375
والمقصرين يا رسول اللّه؟ قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول اللّه؟ قال : والمقصرين».
وقد ذكر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف وأنه وقع في الاستثناء كما
في الحديث «إن اللّه تعالى حرم شجر الحرم قالوا إلا الإذخر يا رسول اللّه»
واعترض أيضا بأن العطف المذكور يستدعي أن تكون إمامة - ذريته - عامة لجميع الناس عموم إمامته عليه السلام على ما قيل. وليس كذلك وأجيب بأنه يكفي في العطف الاشتراك في أصل المعنى ، وقيل : يكفي قبولها في حق نبينا عليه الصلاة والسلام - والذرية - نسل الرجل وأصلها الأولاد الصغار ثم عمت الكبار والصغار الواحد وغيره ، وقيل : إنها تشمل الآباء لقوله تعالى : أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس : 41] يعني نوحا وأبناءه والصحيح خلافه ، وفيها ثلاث لغات - ضم الذال وفتحها وكسرها - وبها قرىء وهي إما فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع في الأول واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الأولى - ذريوية - فقلبت الواو ياء لما سبق فصارت - ذريية - كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية ، أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذرئية فقلبت الهمزة ياء وأدغمت ، أو فعلية من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء هربا من ثقل التكرير كما قالوا في تظننت تظنيت ، وفي تقضضت تقضيت ، أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام ، أو فعلية منه على صيغة النسبة قالوا : وهو الأظهر لكثرة مجيئها كحرية ودرية ، وعدم احتياجها إلى الاعلال وإنما ضمت ذاله لأن الابنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر : دهري.
قالَ استئناف بياني أيضا ، والضمير للّه عز اسمه لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ إجابة لما راعى الأدب في طلبه من جعل بعض ذريته نبيا كما جعل مع تعيين جنس البعض الذي أبهم في دعائه عليه السلام بأبلغ وجه وآكده حيث نفى الحكم عن أحد الضدين مع الاشعار إلى دليل نفيه عنه ليكون دليلا على الثبوت للآخر فالمتبادر من العهد الإمامة ، وليست هي هنا إلا النبوة.
وعبر عنها «به» للإشارة إلى أنها أمانة اللّه تعالى وعهده الذي لا يقوم به إلا من شاء اللّه تعالى من عباده ، وآثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء من ذريته عليهم السلام ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامته تنال كلّا منهم في وقته المقدر له ، ولا يعود من ذلك نقص في رتبة نبوة نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأنه جار مجرى التغليب على أن مثل ذلك لو كان يحط من قدرها لما خوطب صلى اللّه تعالى عليه وسلم بقوله تعالى : أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل : 123] والمتبادر من - الظلم - الكفر لأنه الفرد الكامل من أفراده ، ويؤيده قوله تعالى : وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة : 254] فليس في الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر قبل البعثة ولا على أن الفاسق لا يصلح للخلافة ، نعم فيها قطع أطماع الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة ، وسد أبواب آمالهم الفارغة عن نيلها ، واستدل بها بعض الشيعة على نفي إمامة الصديق وصاحبيه رضي اللّه تعالى عنهم حيث أنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك وإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان : 13] والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة ، وأجيب بأن غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لا تناله ، والإمامة إنما نالتهم رضي اللّه تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم ، واعترض بأن مِنْ تبعيضية فسؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة إما للبعض العادل من ذريته مدة عمره أو الظالم حال الامامة سواء كان عادلا في باقي العمر أم لا ، أو العادل في البعض الظالم في البعض الآخر أو الأعم ، فعلى الأول يلزم عدم مطابقة الجواب ، وعلى الثاني جهل الخليل ، وحاشاه وعلى الثالث المطلوب وحياه ، وعلى الرابع إما المطلوب أو الفساد وأنت خبير بأن مبنى الاستدلال حمل العهد على الأعم من النبوة والإمامة التي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 376
يدعونها - ودون إثباته خرط القتاد - وتصريح البعض كالجصاص لا يبنى عليه إلزام الكل ، وعلى تقدير التنزل يجاب بأنا نختار أن سؤال الإمامة بالمعنى الأعم للبعض المبهم من غير إحضار الاتصاف بالعدالة والظلم حال السؤال ، والآية إجابة لدعائه مع زيادة على ما أشرنا إليه ، وكذا إذا اختير الشق الأول بل الزيادة عليه زيادة ، ويمكن الجواب باختيار الشق الثالث أيضا بأن نقول : هو على قسمين ، أحدهما من يكون ظالما قبل الإمامة ومتصفا بالعدالة وقتها اتصافا مطلقا بأن صار تائبا من المظالم السابقة فيكون حال الإمامة متصفا بالعدالة المطلقة ، والثاني من يكون ظالما قبل الإمامة ومحترزا عن الظلم حالها لكن غير متصف بالعدالة المطلقة لعدم التوبة ، ويجوز أن يكون السؤال شاملا لهذا القسم ولا بأس به إذ أمن الرعية من الفساد الذي هو المطلوب يحصل به فالجواب بنفي حصول الإمامة لهذا القسم والشيخان وعثمان رضي اللّه تعالى عنهم ليسوا منه بل هم في أعلى مراتب القسم الأول متصفون بالتوبة الصادقة ، والعدالة المطلقة ، والإيمان الراسخ ، والإمام لا بد أن يكون وقت الإمامة كذلك ، ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم في لغة وعرف وشرع إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة ، وفي غيره مجاز ، ولا يكون المجاز أيضا مطردا بل حيث يكون متعارفا وإلا لجاز صبي لشيخ ونائم لمستيقظ وغني لفقير.
وجائع لشبعان وحي لميت وبالعكس ، وأيضا لو اطرد ذلك يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة أن يحنث ولا قائل به ، هذا ومن أصحابنا من جعل الآية دليلا على عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصح للخلافة ، ومبنى ذلك حمل العهد على الإمامة وجعلها شاملة للنبوة والخلافة ، وحمل الظالم على من ارتكب معصية مسقطة للعدالة بناء على أن الظلم خلاف العدل ، ووجه الاستدلال حينئذ أن الآية دلت على أن نيل الامامة
لا يجامع الظلم السابق فإذا تحقق النيل كما في الأنبياء علم عدم اتصافهم حال النيل بالظلم السابق وذلك إما بأن لا يصدر منهم ما يوجب ذلك أو بزواله بعد حصوله بالتوبة ولا قائل بالثاني إذ الخلاف إنما هو في أن صدور الكبيرة هل يجوز قبل البعثة أم لا؟ فيتعين الثاني وهو العصمة ، أو المراد بها هاهنا عدم صدور الذنب لا الملكة وكذا إذا تحقق الاتصاف بالظلم كما في الفاسق علم عدم حصول الإمامة بعد ما دام اتصافه بذلك واستفادة عدم صلاحية الفاسق للإمامة على ما قررنا من منطوق الآية وجعلها من دلالة النص أو القياس المحوج إلى القول بالمساواة ولا أقل ، أو التزام جامع ، وهما مناط العيوق وإنما يدعو اليه حمل الإمامة على النبوة ، وقد علمت أن المبني الحمل على الأعم وكان الظاهر أن الظلم الطارئ والفسق العارض يمنع عن الإمامة بقاء كما منع عنها ابتداء لأن المنافاة بين الوصفين متحققة في كل آن - وبه قال بعض السلف - إلا أن الجمهور على خلافه مدعين أن المنافاة في الابتداء لا تقتضي المنافاة في البقاء لأن الدفع أسهل من الرفع ، واستشهدوا له بأنه لو قال لامرأة مجهولة النسب يولد مثلها لمثله : هذه بنتي لم يجز له نكاحها ولو قال لزوجته الموصوفة بذلك لم يرتفع النكاح لكن إن أصر عليه يفرق القاضي بينهما وهذا الذي قالوه إنما يسلم فيما إذا لم يصل الظلم إلى حد الكفر أما إذا وصل إليه فإنه ينافي الإمامة بقاء أيضا بلا ريب وينعزل به الخليفة قطعا ، ومن الناس من استدل بالآية على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده وأيد ذلك بما روي عن الحسن أنه قال : إن اللّه تعالى لم يجعل للظالم عهدا وهو كما ترى ، وقرأ أبو الرجاء وقتادة والأعمش - الظالمون - بالرفع على أن عَهْدِي مفعول مقدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ عطف على وَإِذِ ابْتَلى وَالْبَيْتِ من الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا مَثابَةً
لِلنَّاسِ أي مجمعا لهم قاله الخليل. وقتادة - أو معاذا وملجأ - قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أو مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم - قاله مجاهد. وجبير - أو مرجعا يحق أن يرجع ويلجأ إليه - قاله بعض المحققين - أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره - قاله عطاء - وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان كما في مقام ومقامة وهي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 377
لتأنيث البقعة - وهو قول الفراء. والزجاج - وقال الأخفش : إن - التاء فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة ، وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي ، أو ظرف مكان ، واللام في الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الاستغراق العرفي ، وقرأ الأعمش ، وطلحة مثابات على الجمع لأنه مثابة كل واحد من الناس لا يختص به أحد منهم سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج : 25] فهو وإن كان واحدا بالذات إلا أنه متعدد باعتبار الإضافات ، وقيل : إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة تعدد المحل أو باعتبار أن كل جزء منه مثابة ، واختار بعضهم ذلك زعما منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة بالمملوكين ولم يعرف ، وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم وَأَمْناً عطف على مَثابَةً وهو مصدر وصف به للمبالغة ، والمراد موضع أمن إما لسكانه من الخطف أو لحجاجه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح ، أو للجاني الملتجئ إليه من القتل - وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه - إذ عنده لا يستوفى قصاص النفس في الحرم لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل ، وعند الشافعي رضي اللّه تعالى عنه من وجب عليه الحد والتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه ، وعند الإمام أحمد رضي اللّه تعالى عنه لا يستوفى من المتلجئ قصاص مطلقا ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل - أمنا - مفعولا ثانيا لمحذوف على معنى الأمر أي - واجعلوه أمنا - كما جعلناه مثابة وهو بعيد عن الظاهر النظم ، ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل اكتفاء به أو إشارة إلى
العموم أي أنه أمن لكل شيء كائنا ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى عطف على جعلنا أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه السلام وأولاده كما قيل ، أو عطف على اذكر المقدر عاملا ل إِذْ ، أو معطوف على مضمر تقديره ثوبوا إليه وَاتَّخِذُوا وهو معترض باعتبار نيابته عن ذلك بين جعلنا وعهدنا ولم يعتبر الاعتراض من دون عطف مع أنه لا يحتاج إليه ليكون الارتباط مع الجملة السابقة أظهر ، والخطاب على هذين الوجهين لأمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو صلى اللّه تعالى عليه وسلم رأس المخاطبين.
ومِنْ إما للتبعيض أو بمعنى - في - أو زائدة - على مذهب الأخفش - والأظهر الأول ، وقال القفال : هي مثل اتخذت من فلان صديقا وأعطاني اللّه تعالى من فلان أخا صالحا ، دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه ، و- المقام - مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت ، وفيه أثر قدميه قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم ، وأخرجه البخاري - وهو قول جمهور المفسرين - وروي عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل عليه السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله الأخرى فيه أيضا ، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء البيت ، وهو موضعه اليوم - فالمقام - في أحد المعنيين حقيقة لغوية وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما - كذا قالوا - إلا أنه استشكل تعيين الموضع بما هو الموضع اليوم لما في فتح الباري من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي اللّه تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبد الرزاق بسند قوي ، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم هو الذي حوله فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان المحول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. أو عمر رضي اللّه تعالى عنه ، وأيضا كيف يمكن رفع البناء حين القيام

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 378
عليه حال كونه في موضعه اليوم؟! وهو بعيد من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعا ، وأيضا المشهور أن دعوة الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فإنه صعده بعد الفراغ من عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان الوقوف عليه فوق الجبل - كما يشير إليه كلام روضة الأحباب ، وبه يحصل الجمع - أشكل التعيين بما هو اليوم وغاية التوجيه أن يقال لا شك أنه عليه السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين ، وكذا حين الدعوة لم يكن عند البيت بل فوق أبي قبيس فلا بد من صرف عباراتهم عن ظاهرها بأن يقال الموضع الذي كان ذلك الحجر في أثناء زمان قيامه عليه واشتغاله بالدعوة ، أو رفع البناء لا حالة القيام عليه ، ووقع في بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم عليه السلام ، وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه ، وأن الحجر بعد إبراهيم كان موضوعا في جوف الكعبة ، ولعل هذا هو الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل ، وما وقع في الفتح من أنه كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم - كذا ذكره بعض المحققين فليفهم - وسبب النزول ما
أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي اللّه تعالى عنه فقال : يا عمر هذا مقام إبراهيم فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى فقال : لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية»
والأمر فيها للاستحباب إذ المتبادر - من - المصلى - موضع الصلاة مطلقا ، وقيل : المراد به الأمر بركعتي الطواف لما
أخرجه مسلم عن جابر «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، وقرأ الآية»
فالأمر للوجوب على بعض الأقوال ، ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد بصلاة مخصوصة من غير دليل ، وقراءته عليه الصلاة والسلام الآية حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما ، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله ، وابن عباس وعطاء إلى أنه مواقف الحج كلها ، والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار ، ومعنى - اتخاذها مصلى - أن يدعى فيها ويتقرب إلى اللّه تعالى عندها ، والذي عليه الجمهور ، هو ما قدمناه أولا ، وهو الموافق لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده ، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على أنه فعل ماض ، وهو حينئذ معطوف على جَعَلْنَا أي - واتخذ الناس - من مكان إبراهيم الذي عرف به وأسكن ذريته عنده - وهو الكعبة قبلة يصلون إليها. فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا - المصلى - بمعنى القبلة مجاز عن المحل الذي يتوجه إليه في الصلاة بعلاقة القرب والمجاورة وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي وصينا أو أمرنا أو أوحينا أو قلنا ، والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى ب إِلى يكون بمعنى التوصية ، ويتجوز به عن الأمر ، وإسماعيل علم أعجمي قيل : معناه بالعربية مطيع اللّه ، وحكي أن إبراهيم عليه السلام كان يدعو أن يرزقه اللّه تعالى ولدا ، ويقول : - اسمع إيل - أي استجب دعائي يا اللّه فلما رزقه اللّه تعالى ذلك سماه بتلك الجملة ، وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ أي بأن طَهِّرا على أن أَنْ مصدرية وصلت بفعل الأمر بيانا للموصى المأمور به ، وسيبويه. وأبو علي جوزا كون صلة الحروف المصدرية أمرا أو نهيا والجمهور منعوا ذلك مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر ، وبأنه يجب في الموصول الاسمي كون صلته خبرية.
والموصول الحرفي مثله ، قدروا هنا - قلنا - ليكون مدخول الحرف المصدري خبرا ، ويردّ عليهم أولا أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي اتحاد معناهما ضرورة عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه ، وثانيا أن وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية ، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك ، وثالثا أن تقدير - قلنا - يفضي إلى أن يكون المأمور به القول ، وليس كذلك ، وجوز أن تكون أَنْ هذه مفسرة لتقدم ما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 379
يتضمن معنى القول دون حروفه ، وهو العهد ، ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسرا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئا هو أَنْ طَهِّرا والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعا كالحائض وخص مجاهد وابن عطاء ومقاتل وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان ، وذكروا أن البيت كان عامرا على عهد نوح عليه السلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم ، وأنه طال العهد فعبدت من دون اللّه تعالى فأمر اللّه تعالى بتطهيره منها ، وقيل : المراد بخّراه ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه ، وقيل : أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه ، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد ، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسماعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى : وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الحج : 26] وكان إسماعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب ، وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي ، وتمام البناء بمباشرته كما ينبىء عنه إيراده إثر حكاية جعله مَثابَةً وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ك ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف : 73 ، هود : 64 ، الشمس : 13] لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علوا كبيرا لِلطَّائِفِينَ أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له ، و- الطائف - اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله ، والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد - وإليه ذهب عطاء وغيره - وقال ابن جبير : والمراد الغرباء الوافدون مكة حجاجا وزوارا.
وَالْعاكِفِينَ وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير ، وقال عطاء : هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب ، وقال مجاهد : المجاورون له من الغرباء ، وقيل : هم المعتكفون فيه وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وهم المصلون جمع راكع وساجد ، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرا ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع اختصاره إيذانا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود. وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيئة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة ، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيئات وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدّ ولين وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى : رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم : 37] أي اجعل هذا المكان القفر بلدا إلخ فالمدعو به البلدية مع الأمن ، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم [35] رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ولعل السؤال متكرر ، وما في تلك السورة كان بعد ، والأمن المسئول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي ، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه.
وإما غيره بأن يكون المسئول أولا مجرد الأمن المصحح للسكنى ، وثانيا الأمن المعهود ، ولك أن تجعل هَذَا الْبَلَدَ في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ فتطابق الدعوتان حينئذ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدا والمطلوب كونه آمنا على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلدا كاملا في الأمن كأنه قيل اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك كان هذا اليوم يوما حارا ، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل : فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة : 21 ، القارعة : 7] وإما على الاتساع والإسناد المجازي ، والأصل آمنا أهله فأسند ما للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك ، وهل الدعاء بأن يجعله آمنا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 380
من الجبابرة والمتغلبين ، أو من أن يعود حرمه حلالا ، أو من أن يخلو من أهله. أو من الخسف والقذف ، أو من القحط والجدب ، أو من دخول الدجال ، أو من دخول أصحاب الفيل؟؟ أقوال ، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه - كعمرو بن لحي الجرهمي ، والحجاج الثقفي ، والقرامطة وغيرهم - وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان غرضه شيئا آخر لا يجدي نفعا كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه اللّه تعالى ففي المثل :
إذا مت عطشانا فلا نزل القطر
وكان النداء بلفظ الرب مضافا لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل ، وإجابة ضراعته ، وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر.
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ أي من أنواعها بأن تجعل قريبا منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجيء إليه من الأقطار الشاسعة - وقد حصل كلاهما - حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روي أن اللّه سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين ، وقيل : من الأردن وطاف بها حول البيت سبعا فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف ، وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله ، وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع ، وجمع القلة إظهارا للقناعة ، وقد أشرنا إلى أنه كثيرا ما يقوم مقام جمع الكثرة ، ومِنَ للتبعيض ، وقيل : لبيان الجنس.
مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من أَهْلَهُ بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به قالَ أي اللّه تعالى.
وَمَنْ كَفَرَ عطف على مَنْ آمَنَ أي - وارزق من كفر أيضا - فالطلب بمعنى الخبر على عكس ومِنْ ذُرِّيَّتِي وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيم عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه السلام لما سمع لا يَنالُ إلخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضيا عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل ، وبما ذكرنا اندفع ما في البحر من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير قال إبراهيم : وَارْزُقْ فينافيه ما بعد ، ولك أن تجعل العطف على محذوف أي - ارزق من آمن ومن كفر - بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون مِنَ مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى : فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا على الأول معطوف على كَفَرَ وعلى «الثاني» خبر للمبتدأ - والفاء - لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير - أنا - لأن ابن الحاجب نص على أن المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحسانا ، وإلى عدم التقدير ذهب المبرد ، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء ، ثم الكفر وإن لم يكن سببا للتمتع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار - وقليلا - صفة لمحذوف أي متاعا أو زمانا قَلِيلًا وقرأ ابن عامر فَأُمَتِّعُهُ مخففا على الخبر ، وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة ، وقرأ أبيّ - فنمتعه - بالنون ، وابن عباس ومجاهد فَأُمَتِّعُهُ على صيغة الأمر ، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في قالَ عائدا إلى إبراهيم ، وحسن إعادة قالَ طول الكلام وأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 381
أخذ في كلام آخر وكونه عائدا إليه تعالى - أي قال اللّه : فَأُمَتِّعُهُ يا قادر يا رازق خطابا لنفسه على طريق التجريد - بعيد جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادرا من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلا مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبكلا المعنيين قال بعض ، ويؤيد الأول قوله تعالى : يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور : 13] ويُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر : 48] وفَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن : 41] ويؤيد الثاني قوله تعالى : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر : 71] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم : 71] الآية وإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء : 98] والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به وقوعا محققا حتى كأنه مربوط به ، قيل : إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضا كأنه شبه حال الكافر الذي أدرّ اللّه تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلا إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهرا حمل ثُمَّ على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر ، وقرأ ابن عامر - اضطره - بكسر الهمزة ، ويزيد بن أبي حبيب - اضطره - بضم الطاء وأبيّ - نضطره - بالنون ، وابن عباس.
ومجاهد على صيغة الأمر ، وابن محيصن - أطره - بإدغام الضاد في الطاء خبرا - قال الزمخشري - وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس ، وفيه أن هذه الحروف أدغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في نَغْفِرْ لَكُمْ [البقرة : 284 ، الأعراف : 161] والضاد في الشين في - لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ - والشين في السين في الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء : 42] والكسائي الفاء في الباء في نَخْسِفْ بِهِمُ [سبأ : 9] ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا - مضطجع ومطجع - إلا أن عدم الإدغام أكثر ، وأصل اضطر على هذا على ما قيل : اضتر فأبدلت التاء طاء ، ثم وقع الإدغام وَبِئْسَ الْمَصِيرُ المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي - وبئس المصير النار - إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدرا على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ عطف على وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وإذ للمضي وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارا لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات ، ولعله مجاز من المقابل للقيام ، ومنه قعدك اللّه تعالى في الدعاء بمعنى أدامك اللّه تعالى وثبتك ، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليا مرتفعا ، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيئته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيئة الارتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيئة صار البناء عليه سببا للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك يَرْفَعُ بمعنى يبنى عليها ، وقيل : الْقَواعِدَ
ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه ، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها ، ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس ، وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ الْقَواعِدَ عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول ، وقيل : الرفع بمعنى الرفعة والشرف ، والْقَواعِدَ بمعناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية - وفيه بعد - إذ لا يظهر حينئذ فائدة لذكر الْقَواعِدَ. ومِنَ ابتدائية

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 382
متعلقة ب يَرْفَعُ أو حال من الْقَواعِدَ ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الاعتناء الدال على التفخيم ما لا يخفى.
وَإِسْماعِيلُ عطف على إِبْراهِيمُ ، وفي تأخيره عن المفعول المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخليته في رفع البناء ، والعمل دون مدخلية إبراهيم عليه السلام ، وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة ، وقيل : كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب ، وأبعد بعضهم فزعم أن إِسْماعِيلُ مبتدأ وخبره محذوف أي يقول : ربنا ، وهذا ميل إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام هو المتفرد بالبناء ولا مدخلية لإسماعيل فيه أصلا بناء على ما
روي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلا صغيرا ،
والصحيح أن الأثر غير صحيح ، هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه ، ومن أي شيء كان باباه ، وكم مرة حجه آدم ، ومن أي شيء بناه إبراهيم ، ومن ساعده على بنائه ، ومن أين أتي بالحجر الأسود؟؟؟ أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم ، ولا الحديث الصحيح ، وبعضها يناقض بعضا ، وذلك على عادتهم في نقل ما دب ودرج ، ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم ، ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند واستقبلته الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في زمن طوفان نوح عليه السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في زمن إبراهيم فزارها.
ورفع قواعدها وجعل بأبيها بابا واحدا ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود ، وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم اسود بملامسة النساء الحيض ، وهذا الخبر وأمثاله إن صح - عند أهل اللّه تعالى - إشارات ورموز لمن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق : 37] فنزولها في زمن آدم عليه السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد ، وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين ، والاعتدال من عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب ، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب ، واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة ، والملكات الفاضلة ، والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب ، وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين ، ودخوله إشارة إلى تمكينه واستقامته فيه ، ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب ، وبقاؤه في السماء إشارة إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته ، ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه : وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الإنعام : 79] والحجر الأسود إشارة إلى
الروح التي هي أمر اللّه عز شأنه ويمينه ، وموضع سره ، وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره ، ولهذا قيل : خبئت أي احتجبت بالبدن ، واسوداده بملامسة الحيض إشارة إلى تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب ، واستيلائها عليه ، وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه.
ولو ترك القطا ليلا لناما
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان رَبَّنا وبه قرأ أبيّ والجملة حال من فاعل يَرْفَعُ وقيل : معطوفة على ما قبله بجعل القول متعلقا ل إِذْ والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل عمل يقبله اللّه تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه ، وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبا ، وإلا لم يطلب ، وفي اختيار صيغة التفعل اعتراف بالقصور

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 383
لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول ، وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه ، ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم ، وليس الثواب مما يخطر لهم ببال ، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تعليل لاستدعاء التقبل ، والمراد السميع لدعائنا ، والعليم بنياتنا ، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول ، وتأكيد الجملة لاظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة السمع ، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولا.
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك - فمسلمين - إما من استسلم إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض ، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما ، والأول أولى نظرا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله.
وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه «مسلمين» بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر «1» وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية ، وقد قيل به هنا ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا عطف على الضمير المنصوب في اجْعَلْنا وهو في محل المفعول الأول وأُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ في موضع المفعول الثاني معطوف على مُسْلِمَيْنِ لَكَ ولو اعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا - الذرية - بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال اللّه تعالى : قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم : 6] ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر ، وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه : وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ [الصافات : 113] أو من قوله عز شأنه : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ باعتبار السياق ان في - ذريتهما - ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء ، والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل ، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : وَابْعَثْ إلخ ، ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما لا يدل ، وجوز أبو البقاء أن يكون أُمَّةً المفعول الأول وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها - ومسلمة - المفعول الثاني وكان الأصل - واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك - فالواو داخلة في الأصل على أُمَّةً وقد فصل بينهما بالجار والمجرور ، ومِنْ عند بعضهم على هذا بيانية على حد وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور : 55] ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف ، وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون مِنْ للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره ، ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر وَأَرِنا مَناسِكَنا قال قتادة : معالم الحج ، وقال عطاء. وابن جريج : مواضع الذبح ، وقيل : أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العادة ، وأَرِنا من رأى البصرية ولهمزة الافعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية بمعنى عرف لا علم ، وإلا لتعدت إلى ثلاثة ، وأنكر ابن الحاجب وتبعه أبو حيان
___________
(1) بفتح الجيم اسم أم إسماعيل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 384
ثبوت رأى بمعنى عرف ، وذكره الزمخشري في المفصل ، والراغب في مفرداته وهما من الثقات فلا عبرة بإنكارهما ، وقرأ ابن مسعود - وأرهم مناسكهم - باعادة الضمير إلى الذرية ، وقرأ ابن كثير ويعقوب - وأرنا - بسكون الراء وقد شبه فيه المنفصل بالمتصل فعومل معاملة فَخُذْ [البقرة : 260 ، الأعراف : 144 ، يوسف : 78] في إسكانه للتخفيف ، وقد استعملته العرب كذلك ومنه قوله :
أرنا إداوة عبد اللّه نملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
وقول الزمخشري : إن هذه القراءة قد استرذلت لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف مما لا ينبغي لأن القراءة من المتواترات ومثلها أيضا موجود في كلام العرب العرباء وَتُبْ عَلَيْنا أي وفقنا للتوبة أو اقبلها منا والتوبة تختلف باختلاف التائبين فتوبة سائر المسلمين الندم والعزم على عدم العود ورد المظالم إذا أمكن ، ونية الرد إذا لم يمكن ، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء ، والفتور في الأعمال ، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال ، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات ، والترقي في المقامات ، فإن كان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة ، فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير ، وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفا لمن هو من أهلها ممن يصح صدور الذنب المخل بمرتبة النبوة منه ، وإن قيل : إن الطلب للذرية فقط وارتكب التجوز في النسبة إجراء للولد مجرى النفس بعلاقة البعضية ليكون أقرب إلى الإباحة ، أو في الطرف حيث عبر عن الفرع باسم الأصل ، أو قيل : بحذف المضاف - أي على عصاتنا - زال الاشكال كما إذا قلنا : إن ذلك عما فرط منهما من الصغائر سهوا ، والقول بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة ، وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم الناس ان تلك المواضع مواضع التنصل ، وطلب التوبة من الذنوب بعيد جدا ، وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعا - كما لا يخفى - وقرأ عبد اللّه «وتب عليهم» بضمير جمع الغيبة أيضا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة ، وتقديم التوبة للمجاورة ، وتأخير الرحمة لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي أرسل في - الأمة المسلمة - وقيل : في - الذرية - وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد رَسُولًا مِنْهُمْ أي من أنفسهم ، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم ، ويكونوا أعز به وأشرف ، وأقرب للإجابة ، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته ، ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام - لا من ذريتهما - فهو المجاب به دعوتهما ، كما
روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال : «سأخبركم بأول أمري ، أنا دعوة إبراهيم ، وبشارة عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني»
وأراد صلى اللّه تعالى عليه وسلم إثر دعوته ، أو مدعوه ، أو عين دعوته - على المبالغة - ولما كان إسماعيل عليه السلام شريكا في الدعوة كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم دعوة إسماعيل أيضا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته ، وكونه أصلا في الدعاء ، ووهم من قال : إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسماعيل عليهما الصلاة والسلام. وقرأ أبيّ «وابعث فيهم في آخرهم رسولا» وهذا يؤيد أن المراد به نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، «وفي الأثر» أنه لما دعي إبراهيم قيل له : قد استجيب لك ، وهو يكون في آخر الزمان.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ أي يقرأ عليهم ما توحي إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما ، وقيل :
خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة ، والجملة صفة رَسُولًا وقيل : في موضع الحال منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 385
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه ، ويوقفهم على حقائقه وأسراره.
«والظاهر» أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون - الرسول - صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن ، وكونه بخصوصه كان مدعوا به غير بين ولا مبين.
وَالْحِكْمَةَ أي وضع الأشياء مواضعها ، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا ، أو الفقه في الدين ، أو السنة المبينة - للكتاب - أو - الكتاب - نفسه ، وكرر للتأكيد اعتناء بشأنه ، وقد يقال : المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه ، ويكون - تعليم الكتاب - عبارة عن تفهيم ألفاظه ، وبيان كيفية أدائه ، وتعليم الْحِكْمَةَ الإيقاف على ما أودع فيه ، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام فتشمل الْحِكْمَةَ النظرية والعملية ، قالوا :
وبينها وبين ما في الْكِتابَ عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد ، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس - علما وعملا - غير مذكور في الْكِتابَ وأنت تعلم أنت هذا القول بعد سماع قوله تعالى : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الإنعام : 38] وقوله تعالى سبحانه : تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل : 89] مما لا ينبغي الاقدام عليه ، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في الْكِتابَ الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي. وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية - ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته - والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهارتهم أو يشهد لهم - بالتزكية والعدالة - بعيد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي الغالب المحكم لما يريد ، فلك أن تخصص واحدا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص ، وحمل الْعَزِيزُ هنا على من لا مثل له - كما قاله ابن عباس - أو المنتقم - كما قاله الكلبي - والْحَكِيمُ على العالم - كما قيل - لا يخلو عن بعد.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء - من يرغب عن ملته - وهي الحق الواضح غاية الوضوح ، أي لا يرغب عن ذلك أحد إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي جعلها مهانة ذليلة. وأصل - السفه - الخفة ، ومنه زمام سفيه - أي خفيف - وسفه - بالكسر - كما قال المبرد. وثعلب : متعد بنفسه ، ونَفْسَهُ مفعول به ، وأما سَفِهَ بالضم فلازم ، ويشهد له ما جاء
في الحديث «الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس»
وقيل : إنه لازم أيضا ، وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه ، أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره ، وهو قول الزجاج ، أو أهلكها ، وهو قول أبي عبيدة وقيل : إن النصب بنزع الخافض - أي في نفسه - فلا ينافي اللزوم - وهو قول لبعض البصريين - وقيل : على التمييز كما في قول النابغة الذبياني :
ونأخذ بعده بذناب عيش أجبّ الظهر ليس له سنام
وقيل : على التشبيه بالمفعول به ، واعترض الجميع أبو حيان قائلا : إن التضمين والنصب بنزع الخافض لا ينقاسان. وإن التشبيه بالمفعول به مخصوص عند الجمهور بالصفة - كما قيل به في البيت - وإن البصريين منعوا مجيء التمييز معرفة ، فالحق الذي لا ينبغي أن يتعدى القول بالتعدي. ومَنْ إما موصولة أو موصوفة في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في يَرْغَبُ لأنه استثناء من غير موجب ، وسبب نزول الآية ما
روي أن عبد اللّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن اللّه تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر ، فنزلت وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا
أي اخترناه بالرسالة بتلك الملة ، واجتبيناه من بين سائر الخلق ، وأصله اتخاذ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 386
صفوة الشيء أي خالصه وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وذلك من حيث المعنى دليل مبين لكون - الراغب عن ملة إبراهيم سفيها - إذ الاصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية - والصلاح - جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغير - السفيه - سوى خير الدارين ، وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالا مقررة لجهة الإنكار - واللام لام الابتداء - أي أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب عكس ذلك ، وهو الظاهر لفظا لعدم الاحتياج إلى تقدير القسم - وارتضاه الرضيّ - ويحتمل أن يكون عطفا على ما قبله ، أو اعتراضا بين المعطوفين - واللام - جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن الأصل في الجمل الاستقلال ولإفادة زيادة التأكيد المطلوب في المقام والاشعار بأن المدعى لا يحتاج إلى البيان ، والمقصود مدحه عليه السلام وإيراد الجملة الأولى ماضوية لمضيها من وقت الاخبار ، والثانية اسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة ، والتأكيد «بأن ، واللام» لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها ، وكلمة فِي متعلقة ب الصَّالِحِينَ على أن - أل - فيه للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم ب اصْطَفَيْناهُ وفي الآية تقديم وتأخير ، أو بمحذوف حالا من المستكن في الوصف بعيد.
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ظرف - لاصطفيناه - والمتوسط المعطوف ليس بأجنبي لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل اعتراضا أو حالا مقدرة كما قيل به ، أو تعليل له ، أو منصوب ب «اذكر» كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والانقياد إلى ما أمر به وإخلاص سره حين دعاه ربه ، وجوز جعله ظرفا ل قالَ وليس الأمر وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله الدلائل المؤيدة إلى المعرفة ، واستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويرا لسرعة الانتقال بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى استدلاله عليه السلام بالكوكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه كلام الحسن وابن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ ، ومن ذهب إلى أنه بعد النبوة قال : المراد الأمر بالطاعة والإذعان لجزئيات الأحكام والاستقامة والثبات على التوحيد على حد فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد : 19] ولا يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور الوحي والاستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل الإسلام على العمل بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة - كما قيل به - وفي الالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه السلام إظهار لمزيد اللطف به والاعتناء بتربيته ، وإضافة الرب في الجواب إلى الْعالَمِينَ للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه فقط كما هو المأمور به ظاهرا.
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ مدح له عليه السلام بتكميله غيره إثر مدحه بكماله في نفسه ، وفيه توكيد لوجود الرغبة في ملته ، والتوصية التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة سواء كان حالة الاحتضار أو لا وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة الاحتضار وأصلها الوصل من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات ، ويقال : وصاه إذا وصله ، وفصاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الوصي ، والضمير في بِها إما للملة أو لقوله أَسْلَمْتُ على تأويل الكلمة أو الجملة ، ويرجح الأول كون المرجح مذكورا صريحا وكذا ترك المضمر إلى المظهر ، وعطف يَعْقُوبُ عليه فإن ذلك يدل على أنه شروع في كلام آخر لبيان

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 387
تواصي الأنبياء باستمساك الدين الحق الجامع لجميع أحكام الأصول والفروع ليتوارثوا الملة القويمة والشرع المستقيم نسلا بعد نسل ، وذكر يعقوب الدين في توصيته لبنيه - وهو والملة - أخوان ولو كان الضمير للثاني لكان الإسلام بدله ، ويؤيد الثاني كون الموصى به مطابقا في اللفظ ل أَسْلَمْتُ وقرب المعطوف عليه لأنه حينئذ يكون معطوفا على قالَ أَسْلَمْتُ أي ما اكتفى بالامتثال بل ضم توصية بنيه بالإسلام بخلاف التقدير الأول فإنه معطوف على - من يرغب - لأنه كما أشرنا إليه في معنى النفي ، وخص البنين لأنه عليهم أشفق وهم بقبول وصيته أجدر ولأن النفع بهم أكثر ، وقرأ نافع وابن عامر - أوصى - ولا دلالة فيها على التكثير كالأولى الدالة عليه لصيغة التفعيل.
وَيَعْقُوبُ عطف على إبراهيم ، ورفعه على الابتداء وحذف الخبر أي - يعقوب - كذلك ، والجملة معطوفة على الجملة الفعلية ، وجعله فاعلا - لوصى - مضمرا بعيد ، وقرىء بالنصب فيكون عطفا على بَنِيهِ والمراد بهم أبناء الصلب وهو عليه الصلاة والسلام كان نافلة ، وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا - كانا توأمين - فتقدم عيص ، وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه كذا روي عن ابن عباس ولا أظن صحته يا بَنِيَّ على إضمار القول عند البصريين ، ويقدر بصيغة الإفراد على تقدير نصب يعقوب أي قال ، أو قائلا وبصيغة التثنية على تقدير الرفع ووقوع الجملة بعد القول مشروط بأن يكون المقصود مجرد الحكاية ، والكلام المحكي مشترك بين إبراهيم ويعقوب ، وإن كان المخاطبون في الحالين متغايرين ، وذهب الكوفيون إلى عدم الإضمار لأن التوصية لاشتمالها على معنى القول بل هي القول المخصوص كان حكمها حكمه فيجوز وقوع الجملة في حيز مفعولها ، وقرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه : أن يا بني ولا حاجة حينئذ إلى تقدير القول عند البصريين بل لا يجوز ذلك عندهم على ما يشير إليه كلام بعض المحققين ، وبنو إبراهيم على ما في الإتقان اثنا عشر ، وهم إسماعيل وإسحاق ومدين وزمزان وسرح. ونقش. ونقشان.
وأميم. وكيسان. وسورج. ولوطان ، نافس. وبنو يعقوب أيضا كذلك وهم. يوسف. وروبيل. وشمعون. ولاوي. ويهوذا.
وداني. ونفتالي. وكاد. واسبر. وإيساجر. ورايكون وبنيامين إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي جعل لكم الدين الذي هو صفوة الأديان بأن شرعه لكم ووفقكم للأخذ به ، والمراد به دين الإسلام الذي به الإخلاص للّه تعالى ، والانقياد له ، وليس المراد ما يتراءى من أن اللّه تعالى جعله صفوة الأديان لكم لأن هذا الدين صفوة في نفسه لا اختصاص له بأحد ، وليس عند اللّه تعالى غيره ، ومن هنا يعلم أن الإسلام يطلق على غير ديننا لكن العرف خصصه به ، وزعم بعضهم عدم الإطلاق وألف في ذلك رسالة تكلف بها غاية التكلف.
فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت ، والمفهوم من الآية ظاهرا النهي عن الموت على خلاف تلك الحال ، وليس بمقصود لأنه غير مقدور وإنما المقدور قيده فيعود النهي إليه كما جمعت لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يستتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال فأما أن يقال استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني فيكون مجازا ، أو يقال استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه فيكون كناية ، وقال الفاضل اليمني : إن هذا كناية بنفي الذات عن نفي الحال على عكس ما قيل في قوله تعالى : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة : 28] من أنه كناية بنفي الحال عن نفي الذات ، وفيه أن نفي الذات إنما يصير كناية عن نفي جميع الصفات لا عن صفة معينة فافهم ، والمراد من الأمر الذي يشير إليه ذلك النهي الثبات على الإسلام لأنه اللازم له ، والمقصود من التوصية ، ولأن أصل الإسلام كان حاصلا لهم ، وإنما أدخل حرف النفي على الفعل مع أنه ليس منهيا عنه للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه ، وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية الحذر ، وذكر بعضهم أن الإسلام المأمور به هنا ما يكون بالقلب دون العمل بالجوارح لأن ذلك مما لا يكاد يمكن عند الموت

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 388
ولهذا
ورد في الحديث «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان»
ولا يخفى ما فيه أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ الخطاب لجنس اليهود أو الموجودين في زمانه صلى اللّه تعالى عليه وسلم على ما يشير إليه سبب النزول
فقد ذكر الواحدي أن الآية نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودية؟
وأَمْ إما منقطعة بمعنى بل ، وهمزة الإنكار ، ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول وهو بيان التوصية إلى توبيخ اليهود على ادعائهم اليهودية على يعقوب وأبنائه ، وفائدته الانتقال من جملة إلى أخرى أهم منها أي ما كنتم حاضرين حين احتضاره عليه الصلاة والسلام وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟ ولك أن تجعل الاستفهام للتقرير أي كانت أوائلكم حاضرين حين وصى بنيه عليه الصلاة والسلام بالإسلام والتوحيد وأنتم عالمون بذلك فما لكم تدعون عليه خلاف ما تعلمون؟! فيكون قد نزل عليهم بشهادة أوائلهم منزلة الشهادة فخوطبوا بما خوطبوا ، وإما متصلة وفي الكلام حذف - والتقدير أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين - وليس الاستفهام على هذا على حقيقته للعلم بتحقق الأول وانتفاء الثاني بل هو للإلزام والتبكيت أي أي الأمرين كان فمدعاكم باطل ، أما على الأول فلأنه رجم بالغيب ، وأما على الثاني فلأنه خلاف المشهور ، واعترض أبو حيان على هذا الوجه بأنا لا نعلم أحدا أجاز حذف الجملة المعطوف عليها في أَمْ المتصلة وإنما سمع حذف أَمْ مع المعطوف لأن الثواني تحتمل ما لا تحتمل الأوائل ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول والأخذ فيما هو الأهم وهو التحريض على اتباعه صلّى اللّه عليه وسلّم بإثبات بعض معجزاته وهو الإخبار عن أحوال الأنبياء السابقين من غير سماع من أحد ولا قراءة من كتاب كأنه تعالى بعد ذكر ما تقدم التفت إلى مؤمني الأمة أما شهدتم ما جرى وأ ما علمتم ذلك بالوحي وإخبار الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فعليكم باتباعه إلا أنه اكتفى بذكر مقاولة يعقوب وبنيه ليعلم عدم حضورهم حين توصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى ، ولا يخفى أن هذا القائل لم يعتبر سبب النزول ولعله لما فيه من الضعف حتى قال الإمام السيوطي : لم أقف عليه ، و- الشهداء - جمع شهيد أو شاهد بمعنى حاضر ، وحضر من باب قعد ، وقرى ء
حَضَرَ بالكسر ومضارعه أيضا - يحضر - بالضم وهي لغة شاذة ، وقيل : إنها على التداخل إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إِذْ حَضَرَ بدل اشتمال وكلاهما مقصودان كما هو المقرر في إبدال الجمل إلا أن في البدل زيادة بيان ليست في المبدل منه ولو تعلقت إِذْ هنا ب قالُوا لم ينتظم الكلام.
ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ف ما في محل رفع والعائد محذوف ، وكونه في محل نصب على المفعولية مفوت للتقوى المناسب للمقام ويسأل بها عن كل شيء فإذا عرف خص العقلاء ب مِنْ إذا سئل عن تعينه فيجاب بما يفيده ، وإذا سأل عن وصفه قيل ما زيد أكاتب أم شاعر ، وفي السؤال عن حالهم بعد موته دليل على أن الغرض حثهم على ما كانوا عليه حال حياته من التوحيد والإسلام ، وأخذ الميثاق منهم عليه فليس الاستفهام حقيقيا وكان هذا بعد أن دخل عليه السلام مصر ورأى فيها من يعبد النار فخاف على ولده فحثهم على ما حثهم قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ عن حكاية السؤال وفي إضافة الإله إلى المتعدد إشارة إلى الاتفاق على وجوده وألوهيته وقدم إِسْماعِيلَ في الذكر على إِسْحاقَ لكونه أسنّ منه وعده من آباء يعقوب مع أنه عمه تغليبا للأكثر على الأقل أو لأنه شبه العم بالأب لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة فأطلق عليه لفظه ، ويؤيده ما أخرجه الشيخان «عم الرجل صنو أبيه» وحينئذ يكون المراد - بآبائك - ما يطلق عليه اللفظ كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، والآية على حد ما
أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام «احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي»
وقرأ الحسن - أبيك - وهو إما مفرد

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 389
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف نسق عليه وإِبْراهِيمَ وحده عطف بيان ، أو جمع وسقطت نونه للاضافة كما في قوله :
فلما «تبينّ» أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا
إِلهاً واحِداً بدل من إِلهَ آبائِكَ والنكرة تبدل من المعرفة بشرط أن توصف كما في قوله تعالى :
بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق : 16] والبصريون لا يشترطون فيها ذلك ، وفائدة الإبدال دفع توهم التعدد الناشئ من ذكر الإله مرتين ، أو نصب على المدح أو الحال الموطئة كما في البحر وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مذعنون مقرون بالعبودية ، وقيل : خاضعون منقادون مستسلمون لنهيه وأمره قولا وعقدا ، وقيل : داخلون في الإسلام ثابتون عليه ، والجملة حال من الفاعل ، أو المفعول ، أو منهما لوجود ضميريهما ، أو اعتراضية محققة لمضمون ما سبق في آخر الكلام - بلا كلام - وقال أبو حيان : الأبلغ أن تكون معطوفة على نَعْبُدُ فيكونوا قد أجابوا بشيئين وهو من باب الجواب المربي عن السؤال تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ الإشارة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأولاده و- الأمة - أتت بمعان ، والمراد بها هنا الجماعة من أمّ بمعنى قصد ، وسميت كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد ، أو زمان واحد ، أو مكان بذلك لأنهم يؤم بعضهم بعضا ويقصده ، و- الخلو - المضي وأصله الانفراد.
لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ استئناف ، أو بدل من قوله تعالى : خَلَتْ لأنها بمعنى لا تشاركونهم وهي كغير الوافية وهذه وافية بتمام المراد ، أو الأولى صفة أخرى - لأمة - أو حال من ضمير خَلَتْ والثانية جملة مبتدأة ، إذ لا رابط فيها ولا مقارنة في الزمان ، وفي الكلام مضاف محذوف بقرينة المقام ، أي لكل أجر عمله ، وتقديم المسند لقصر المسند إليه على المسند ، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم ، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم ، كما
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «يا معشر قريش ، إن أولى الناس بالنبي المتقون ، فكونوا بسبيل من ذلك ، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا فأصد عنكم بوجهي»
ولك أن تحمل الجملة الأولى على معنى - لها ما كسبته - لا يتخطاها إلى غيرها ، والثانية على معنى ولكم ما كسبتموه - لا ما كسبه غيرهم - فيختلف القصران لاقتضاء المقام ذلك.
وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ إن أجري - السؤال - على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها وإن أريد به مسببه - أعني الجزاء - فهو تذييل لتتميم ما قبله ، والجملة مستأنفة أو معترضة ، والمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم من الانتفاع بحسنات من مضى منهم ، وإنما أطلق - العمل - لإثبات الحكم بالطريق البرهاني في ضمن قضية كلية ، وحمل الزمخشري الآية على معنى - لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم - واعترض بأنه مما لا يليق بشأن التنزيل ، كيف لا وهم منزهون عن كسب السيئات ، فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفائه ، وأنت تعلم أنه إذا كان المقصود سوق ذلك بطريق كلي برهاني لا يتوهم ما ذكر.
هذا ومن الغريب حمل الإشارة على كل من إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وأن المعنى كل واحد منهم أُمَّةٌ أي بمنزلتها في الشرف والبهاء قَدْ خَلَتْ أي مضت ، ولستم مأمورين بمتابعتهم لَها ما كَسَبَتْ وهو ما أمرها اللّه تعالى به وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ مما يأمركم به سبحانه وتعالى ، ولا ينفعكم مكتسبهم لأنه ليس مقبولا منكم لأنه ليس في حقكم ، إنما ينفعكم ما يجب عليكم كسبه وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ هل عملتم به؟ وإنما تسألون

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 390
عما كان يعمل نبيكم الذي أمرتم بمتابعته ، فإن أعماله ما هو كسبكم المسئول عنه ، فدعوا «1» أن هذا ما أمر به إبراهيم أو غيره ، وتمسكوا بما أمر به نبيكم ، واعتبروا إضافة العمل إليه دونهم ، ولا يخفى أنه لو كانت هذه الآيات كلام هذا المفسر لأمكن حملها على هذا التفسير الذي لا فرع ولا أصل له ، لكنها كلام رب العالمين الذي يجل عن الحمل على مثل ذلك.
«ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات السابقة إلى هنا» وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي بمراتب الروحانيات كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات التي يعبر بها على تلك المراتب.
كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها فَأَتَمَّهُنَّ بالسلوك إلى اللّه تعالى وفي اللّه تعالى حتى الفناء فيه قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً بالبقاء بعد الفناء ، والرجوع إلى الخلق من الحق ، تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي ، ويقتدون بك فيهتدون قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فلا يكونون خلفائي مع ظلمهم وظلمتهم برؤية الأغيار ومجاوزة الحدود وَإِذْ جَعَلْنَا بيت القلب مرجعا للناس ، ومحل أمن وسلامة لهم إذا وصلوا إليه وسكنوا فيه من شر غوائل صفات النفس ، وفتك قتال القوى الطبيعية وإفسادها ، وتخييل شياطين الوهم والخيال وإغوائهم.
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ الذي هو مقام الروح والخلة موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والخلة الذوقية وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس ، ونجاسات وساوس الشيطان ، وأرجاس دواعي الهوى ، وأدناس صفات القوى للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم ، والواصلين إلى مقامه بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال ، والخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات وكمال مرتبة الرضا ، الغائبين في الوحدة ، الفانين فيها وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا الصدر الذي هو حريم القلب بلدا آمِناً من استيلاء صفات النفس ، واغتيال العدو اللعين ، وتخطف جن القوى البدنية وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ثمرات معارف الروح من وحد اللّه تعالى منهم وعلم المعاد إليه ، قال : ومن احتجب أيضا من الذين يسكنون الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام العين لاحتجابهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا من المعاني العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على حسب استعدادهم ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ نار الحرمان والحجاب وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم لتعذيبهم بنقصانهم وعدم تكميل نشأتهم وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ على الكيفية التي ذكرناها قبل وَإِسْماعِيلُ كذلك قائلين رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا مجاهداتنا ومساعينا في السلوك إليك بامداد التوفيق إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لهواجس خواطرنا فيك الْعَلِيمُ بنياتنا وأسرارنا رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ لا تكلنا إلى أنفسنا وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا المنتمين إلينا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا طرق الوصول إلى نفي ما سواك وَتُبْ عَلَيْنا لنفنى فيك عن أنفسنا وفنائنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الموفق للرجوع إليك الرَّحِيمُ بمن عول دون السوي عليك
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهو الحقيقة المحمدية يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ الدالة عليك وَيُعَلِّمُهُمُ كتاب العقل الجامع لصفاتك وَالْحِكْمَةَ الدالة على نفي غيرك وَيُزَكِّيهِمْ ويطهرهم عن دنس الشرك إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب ، فأنى يظهر سواك المحكم لما ظهرت فيه فلا يرى إلا إياك وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ وهي التوحيد الصرف ، إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية ، وبقي في ظلمة نفسه وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فكان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية في عالم الملك ، وأنه في عالم الملكوت من أهل الاستقامة ، الصالح لتدبير النظام وتكميل النوع
___________
(1) هكذا ولعل كلمة أن هذا زائدة : تنبيه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 391
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي وحّد وأسلم للّه تعالى ذاتك قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وفنيت فيه وَوَصَّى بكلمة التوحيد إِبْراهِيمُ بَنِيهِ السالكين على يده وكذلك يعقوب يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ دينه الذي لا دين غيره عنده فَلا تَمُوتُنَّ بالموت الطبيعي وموت الجهل ، بل كونوا ميتين بأنفسكم ، أحياء باللّه أبدا ، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم ، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة ، فكونوا على بصيرة في أمركم ، واطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ومن دق باب الكريم ولجّ ولج.
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا الضمير الغائب لأهل الكتاب ، والجملة عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة ، والمراد منها رد دعوتهم إلى دينهم الباطل إثر رد ادعائهم اليهودية على يعقوب عليه السلام ، وأَوْ لتنويع المقال - لا للتخيير - بدليل أن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر ، أي قال اليهود للمؤمنين كُونُوا هُوداً وقالت النصارى لهم كونوا نَصارى وتَهْتَدُوا جواب الأمر ، أي إن كنتم كذلك تَهْتَدُوا. روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت في رؤوس يهود المدينة ، كعب بن الأشرف. ومالك بن الصيف. ووهب بن يهوذا. وأبي ياسر بن أخطب. وفي نصارى أهل نجران ، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين ، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين اللّه من غيرها ، فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن ، وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بمحمد والقرآن ، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين : كُونُوا على ديننا ، فلا دين إلا ذلك ،
في رواية ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عنه أن عبد اللّه بن صوريا الأعور قال للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتبعنا يا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل اللّه تعالى فيهم الآية
قُلْ خطاب للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، أي قل لأولئك القائلين على سبيل الرد عليهم ، وتبيين ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي لا نكون كما تقولون ، بل نكون مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي أهل - ملته - أو بل نتبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «والأول» يقتضيه رعاية جانب لفظ ما تقدم - وإن احتاج إلى حذف المضاف «والثاني» يقتضيه الميل إلى جانب المعنى إذ يؤول الأول إلى اتبعوا ملة اليهود أو النصارى مع عدم الاحتياج إلى التقدير ، وجوّز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم ملته ، أو كونوا أهل ملته ، وقيل : الأظهر بل نؤتى ملة إبراهيم - ولم يظهر لي وجهه - وقرىء بَلْ مِلَّةَ بالرفع ، أي بل ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن ملته أي أهلها ، وقيل : بل الهداية أو تهدى ملة إبراهيم وهو كما ترى حَنِيفاً أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ويوصف به المتدين والدين ، وهو حال إما من المضاف بتأويل الدين أو تشبيها له بفعيل بمعنى مفعول كما في قوله تعالى : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف : 56] وهذا على قراءة النصب وتقدير «نتبع» ظاهر ، وأما على تقدير تكون عليها فلأن ملة فاعل الفعل المستفاد من الإضافة أي تكون ملة ثبتت لإبراهيم ، وعلى قراءة الرفع تكون الحال مؤكدة لوقوعها بعد جملة اسمية جزآها جامدان معرفتان مقررة لمضمونها لاشتهار ملته عليه الصلاة والسلام بذلك فالنظم على حد - أنا حاتم جوادا - أو من المضاف إليه بناء على ما ارتضوه من أنه يجوز مجيء الحال منه في ثلاث صور : إذا كان المضاف مشتقا عاملا ، أو جزءا ، أو بمنزلة الجزء في صحة حذفه كما هنا فإنه يصح - اتبعوا إبراهيم - بمعنى اتبعوا ملته ، وقيل : إن الذي سوغ وقوع الحال من المضاف إليه كونه مفعولا لمعنى الفعل المستفاد من الإضافة أو اللام - وإليه يشير كلام أبي البقاء - ولعله أولى لاطراده في التقدير الأول ، وقيل : هو منصوب بتقدير أعني وَما
كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف على حنيفا على طبق حُنَفاءَ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 392
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ
[الحج : 31] فهو حال من المضاف إليه لا من المضاف إلا أن يقدر - وما كان دين المشركين - وهو تكلف ، والمقصود التعريض بأهل الكتاب والعرب الذين يدعون اتباعه ويدينون بشرائع مخصوصة به من حج البيت والختان وغيرهما فإن في كل طائفة منهم شركاء فاليهود قالوا - عزير ابن اللّه - والنصارى - المسيح ابن اللّه - والعرب عبدوا الأصنام وقالوا الملائكة بنات اللّه قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ خطاب للمؤمنين لا للكافرين - كما قيل - لما فيه من الكلف والتكلف وبيان للاتباع المأمور به فهو بمنزلة بدل البعض من قوله سبحانه : بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لأن الاتباع يشمل الاعتقاد والعمل وهذا بيان الاعتقاد أو بدل الاشتمال لما فيه من التفصيل الذي ليس في الأول ، وقيل : استئناف كأنهم سألوا كيف الاتباع؟ فأجيبوا ، بذلك وأمر أولا بصيغة الإفراد ، وثانيا بصيغة الجمع إشارة إلى أنه يكفي في الجواب قول الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم من جانب كل المؤمنين بخلاف الاتباع فإنه لا بد فيه من قول كل واحد لأنه شرط الإيمان أو شطره قاله بعض المحققين ، والقول بأنه بمنزلة البيان والتأكيد للقول الأول - ولذا ترك العطف - لا يخلو عن شيء وقدم الإيمان باللّه سبحانه لأنه أول الواجبات ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرعيات.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي القرآن وهو وإن كان في الترتيب النزولي مؤخرا عن غيره لكنه في الترتيب الإيماني مقدم عليه لأنه سبب الإيمان بغيره لكونه مصدقا له ولذا قدمه.
وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ يعني الصحف وهي وإن نزلت على إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكن لما كان ما عطف عليه متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها صح نسبة نزولها إليهم أيضا كما صحح تعبدنا بتفاصيل القرآن ودخولنا تحت أحكامه نسبة نزوله إلينا ، والْأَسْباطِ جمع سبط كأحمال وحمل وهم أولاد إسرائيل ، وقيل : هم أولاد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل مأخوذ من السبط وهو شجرة كثيرة الأغصان فكأنهم سموا بذلك لكثرتهم ، وقيل : من السبوطة وهي الاسترسال ، وقيل : إنه مقلوب البسط ، وقيل : للحسنين سبطا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لانتشار ذريتهم ثم قيل لكل ابن بنت : سبط ، وكذا قيل له : حفيد أيضا ، واختلف الناس في الأسباط أولاد يعقوب هل كانوا كلهم أنبياء أم لا؟ والذي صح عندي الثاني وهو المروي عن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه - وإليه ذهب الإمام السيوطي - وألف فيه لأن ما وقع منهم مع يوسف عليه الصلاة والسلام ينافي النبوة قطعا وكونه قبل البلوغ غير مسلم لأن فيه أفعالا لا يقدر عليها إلا البالغون ، وعلى تقدير التسليم لا يجدي نفعا على ما هو القول الصحيح في شأن الأنبياء وكم كبيرة تضمن ذلك الفعل وليس في القرآن ما يدل على نبوتهم ، والآية قد علمت ما ذكرنا فيها فاحفظ ذلك هديت.
وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى أي التوراة والإنجيل ، ولكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك ، والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق ، ولأن أمرهما أيضا بالنسبة إلى مُوسى وَعِيسى أنهما منزلان عليهما حقيقة ، لا باعتبار التعبد فقط كما في المنزل على إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ولم يعد الموصول لذلك في عِيسى لعدم مخالفة شريعته لشريعة مُوسى إلا في النزر ، ولذلك الاهتمام عبر - بالإيتاء - دون - الإنزال - لأنه أبلغ لكونه المقصود منه ، ولما فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض ، ولهذا يقال : أنزلت الدلو في البئر ، ولا تقول : آتيتها إياها.
ولك أن تقول : المراد بالموصول هنا ما هو أعم من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيدي هذين النبيين الجليلين حسبما فصل في التنزيل الجليل ، وإيثار - الإيتاء - لهذا التعميم ، وتخصيص النبيين بالذكر لما أن الكلام مع - اليهود والنصارى ..

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 393
وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ وهي الكتب التي خصت من خصته منهم ، أو ما يشمل ذلك والمعجزات ، وهو تعميم بعد التخصيص كيلا يخرج من الإيمان أحد من الأنبياء مِنْ رَبِّهِمْ متعلق ب أُوتِيَ قبله ، والضمير - للنبيين - خاصة ، وقيل : ل مُوسى وَعِيسى أيضا ، ويكون ما أُوتِيَ تكريرا للأولى ، والجار متعلقا بها ، وهو - على التقديرين - ظرف لغو ، وجوّز أن يكون في موضع الحال من العائد المحذوف ، واحتمال أن يكون ما مبتدأ والجار خبره بعيد لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي كما فرق أهل الكتاب ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض - بل نؤمن بهم جميعا - وإنما اعتبر عدم التفريق بينهم ، مع أن الكلام فيما أوتوه لاستلزام ذلك - عدم التفريق - فيه بين - ما أوتوه - وأَحَدٍ أصله - وحد - بمعنى - واحد - وحيث وقع في سياق النفي عم واستوى فيه - الواحد والكثير - وصح إرادة كل منهما - وقد أريد به هنا الجماعة - ولهذا ساغ أن يضاف إليه بَيْنَ ويفيد عموم الجماعات - كذا قاله بعض المحققين - وهو مخالف لما هو المشهور عند أرباب العربية من أن الموضوع في النفي العام أو المستعمل مع كل في الإثبات - همزته - أصلية بخلاف ما استعمل في الإثبات بدون كل فإن - همزته - منقلبة عن - واو - ومن هنا قال العلامة التفتازاني : إن أَحَدٍ في معنى الجماعة بحسب الوضع لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع ، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة - كل - أو مع النفي ، نص على ذلك أبو عليّ وغيره من أئمة العربية ، وهذا غير - الأحد - الذي هو أول العدد في قوله تعالى : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص :
1] وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي - على ما سبق - إلى كثير من الأوهام ، ألا ترى أنه لا يستقيم لا نُفَرِّقُ بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف أي رسول ورسول ، ولَسْتُنَّ - كَأَحَدٍ - مِنَ النِّساءِ [الأحزاب : 32] ليس في معنى - كامرأة منهن - انتهى. وأنت - بعد التأمل - تعلم أن ما ذكره العلامة لا يرد على ذلك البعض ، وإنما ترد عليه المخالفة في الأصالة وعدمها فقط - ولعل الأمر فيها سهل - على أن دعوى عدم تلك الاستقامة إلا بذلك التقدير غير مجمع عليه ، فقد ذكر في الانتصاف أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا عموما شموليا حتى ينزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله - الآحاد - مطابقة ، لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات ، وجعل هذا التعدد والعموم وضعا هو المسوّغ لدخول بَيْنَ عليها هنا ، ومن الناس من جوّز كون أَحَدٍ في الآية بمعنى واحد ، وعمومه بدلي ، وصحة دخول بَيْنَ عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وغيره ، وفيه من الدلالة على تحقق التفريق بين كل فرد فرد منهم ، وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال : لا نُفَرِّقُ بينهم - ولا يخفى ما فيه - والجملة حال من الضمير في آمَنَّا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي خاضعون للّه تعالى بالطاعة ، مذعنون بالعبودية ، وقيل : منقادون لأمره ونهيه ، ومن جعل الضمير المجرور لما تقدم ذكره من الأنبياء فقد أبعد ، والجملة حال أخرى ، أو عطف على آمَنَّا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 137 إلى 141]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 394
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا متعلق بقوله سبحانه : قُولُوا آمَنَّا إلخ ، أو بقوله عز شأنه : بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إلخ ، و- إن - لمجرد الفرض والكلام من باب الاستدراج ، وإرخاء العنان مع الخصم حيث يراد تبكيته ، وهو مما تتراكض فيه خيول المناظرين - فلا بأس بحمل كلام اللّه تعالى عليه - يعني نحن لا نقول : إننا على الحق وأنتم على الباطل ، ولكن إن حصلتم شيئا مساويا لما نحن عليه مما يجب الإيمان أو التدين به فقد اهتديتم ومقصودنا هدايتكم كيفما كانت ، والخصم إذا نظر بعين الإنصاف في هذا الكلام وتفكر فيه علم أن الحق ما عليه المسلمون لا غير ، إذ لا مثل لما آمنوا به ، وهو ذاته تعالى وكتبه المنزلة على أنبيائه - ولا دين كدينهم - ف آمَنُوا متعدية - بالباء - و- مثل - على ظاهرها ، وقيل : آمَنُوا جار مجرى اللازم - والباء - إما للاستعانة والآلة والمعنى إن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم قولا واعتقادا فَقَدِ اهْتَدَوْا أو فإن تحروا - الإيمان - بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم ، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق ، كما قيل : الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق ، والمقام مقام تعيين الدين الحق لا مقام تعيين شخص الطريق الموصل إليه ليأتي هذا التوجيه ، وإما زائدة للتأكيد وما مصدرية وضمير بِهِ للّه ، أو لقوله سبحانه : آمَنَّا بِاللَّهِ إلخ بتأويل المذكور ، أو للقرآن ، أو لمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والمعنى فَإِنْ آمَنُوا بما ذكر مثل إيمانكم به ، وإما للملابسة ، أي فآمنوا متلبسين بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ متلبسين به ، أو فإن آمنوا إيمانا متلبسا بمثل ما آمنتم إيمانا متلبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم السلام ، وقيل : المثل مقحم كما في قوله تعالى : وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف : 10] أي عليه ، ويشهد له قراءة أبي «بالذي آمنتم به» وقراءة ابن عباس «بما آمنتم به» وكان رضي اللّه تعالى عنه يقول : اقرؤوا ذلك فليس للّه تعالى مثل ، ولعل ذلك محمول على التفسير لا على أنه أنكر القراءة المتواترة - وخفي عليه معناها - ومن الناس من قال : يمكن الاستغناء عن جميع ذلك بأن يقال : فإن آمن اليهود
وأنت تعلم أن المؤمن به لا يتصور فيه التعدد وإبقاء الكلام على ظاهره ، والاستغناء عن جميع ما ذكر يستدعي وجود ذلك التعدد المحال ، فماذا عس
ن زيد - أو عداوة - قاله الحسن - واختلف في اشتقاق - الشقاق - فقيل : من الشق أي الجانب ، وقيل : من المشقة ، وقيل : مأخوذ من قولهم : شق العصا إذا أظهر العداوة - والتنوين للتفخيم - والجملة جواب الشرط إما على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليهم عن الإيمان ، وأوثرت الاسمية للدلالة على ثباتهم واستقرارهم على ذلك ، وإما بتأويل فاعلموا.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تسلية له صلى اللّه تعالى عليه وسلم وتفريح للمؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز على أبلغ وجه للسين الدالة على تحقق الوقوع البتة ، أو للتذييل الآتي حيث إن السين في المشهور لا تدل على أكثر من التنفيس عقب ذكر ما يؤدي إلى الجدال والقتال ، والمراد سيكفيك كيدهم وشقاقهم لأن الكفاية لا تتعلق

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 395
بالأعيان بل بالأفعال ، وتلوين الخطاب بتجريده للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم مع أنه سبحانه أنجز وعده الكريم بما هو كفاية للكل من قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير لما أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم مع الأصل والعمدة في ذلك وهو سلك حبات أفئدة المؤمنين ومطمح نظر كيد الكافرين ، وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المشاق ومقاساة الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصرة في حقه أتم وأكمل وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له أي هُوَ السَّمِيعُ لما تدعو به الْعَلِيمُ بما في نيتك من إظهار دينه فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة بمعنى - يسمع - ما يبدون - ويعلم - ما يخفون مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ، وفيه أيضا تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة بالكسر فعلة من - صبغ - كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها - الصبغ - عبر بها عن التطهير بالإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لأنه ظهر أثره عليهم ظهور - الصبغ - على - المصبوغ - وتداخل في قلوبهم تداخله فيه وصار حلية لهم فهناك استعارة تحقيقية تصريحية والقرينة الإضافة والجامع ما ذكر ، وقيل : للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا - يصبغون - أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية يزعمون أنه الماء الذي ولد فيه عيسى عليه الصلاة والسلام ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالختان لغيرهم ، وقيل : هو ماء يقدس بما يتلى من الإنجيل ثم تغسل به الحاملات ، ويرد على هذا الوجه أن الكلام عام لليهود غير مختص بالنصارى اللهم إلا أن يعتبر أن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة ونصبها على أنها مصدر مؤكد لقوله تعالى : آمَنَّا وهي من المصادر المؤكدة لأنفسها فلا ينافي كونها للنوع والعامل فيها - صبغنا - كأنه قيل - صبغنا اللّه صبغته - وقدر المصدر مضافا إلى الفاعل
لتحقق شرط وجوب حذف عامله من كونه مؤكدا لمضمون الجملة إذ لو قدر منكرا لكان مؤكدا لمضمون أحد جزئيه أعني الفعل فقط نحو ضربت ضربا ، وقيل : إنها منصوبة بفعل الإغراء أي الزموا - صبغة اللّه - لا عليكم وإلا لوجب ذكره - كما قيل - وإليه ذهب الواحدي ، ولا يجب حينئذ إضمار العامل لأنه مختص في الإغراء بصورتي التكرار أو العطف كالعهد العهد وكالأهل والولد وذهب الأخفش والزجاج والكسائي.
وغيرهم إلى أنها بدل من ملة إبراهيم وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً مبتدأ وخبر ، والاستفهام للإنكار ، وقوله تعالى : صِبْغَةَ تمييز منقول من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجها - والتقدير - ومن صبغته أحسن من صبغة اللّه تعالى - كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو ، والتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغة أَحْسَنُ من صبغته تعالى على معنى أنه أَحْسَنُ مِنَ كل صِبْغَةَ وحيث كان مدار التفضيل على تعميم - الحسن - للحقيقي والفرضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم أن يكون في صِبْغَةَ غيره تعالى حسن في الجملة ، والجملة معترضة مقررة لما في صبغة اللّه تعالى من التبجح والابتهاج أو جارية مجرى التعليل للإغراء وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ أي موحدون أو مطيعون متبعون ملة إبراهيم أو خاضعون مستكنون في اتباع تلك الملة ، وتقديم الجار لإفادة اختصاص العبادة له تعالى ، وتقديم المسند إليه لإفادة قصر ذلك الاختصاص عليهم ، وعدم تجاوزه إلى أهل الكتاب فيكون تعريضا لهم بالشرك أو عدم الانقياد له تعالى باتباع ملة إبراهيم ، والجملة عطف على آمَنَّا وذلك يقتضي دخول صبغة اللّه في مفعول قُولُوا لئلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي ، وإيثار الجملة الاسمية للإشعار بالدوام ، ولمن نصب صِبْغَةَ على الإغراء أو البدل أن يضمر قُولُوا قبل هذه الجملة معطوفا على الزموا على تقدير الإغراء ، وإضمار القول سائغ شائع ، والقرينة - السياق - لأن ما قبله مقول المؤمنين وأن يضمر اتبعوا في بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لا نتبع ويكون قُولُوا آمَنَّا بدلا من اتبعوا بدل البعض لأن الإيمان داخل
في اتباع ملة إبراهيم فلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا بين البدل والمبدل منه بالأجنبي وما قيل : إنه يلزم الفصل ببدل الفعل بين المفعول ، والمبدل منه ففيه أن قُولُوا ليس بدلا من الفعل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 396
فقط بل الجملة بدل من الجملة فلا محذور ، وأما القول - بأنه يمكن أن تجعل هذه الجملة حالا من لفظة اللّه في قوله سبحانه : وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي صبغته بتطهير القلب أو الإرشاد أو حفظ الفطرة أحسن الإصباغ حال إخلاص العبادة له - فليس بشيء كما لا يخفى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا تجريد الخطاب للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما أن المأمور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام ، والهمزة للإنكار ، وقرأ زيد ، الحسن ، وغيرهما بإدغام النون أي تجادلونا.
فِي اللَّهِ أي في دينه وتدعون أن دينه الحق اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما ، وقيل : المراد في شأن اللّه تعالى واصطفائه نبيا من العرب دونكم بناء على أن الخطاب لأهل الكتاب وسوق النظم يقتضي أن تفسر المحاجة بما يختص بهم ، والمحاجة في الدين ليست كذلك والقرينة على التقييد قوله سبحانه قيل :
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وبعد وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً حيث إنه تعريض بكتمان أهل الكتاب شهادة اللّه سبحانه بنبوة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وما روي في سبب النزول أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت ، ولا يخفى عليك أن المحاجة في الدين على ما ذكرنا مختصة بهم على أن ظاهر السوق يقتضي ذمهم بما صار ديدنا لهم وشنشنة فيهم حتى عرفوا فيه ، ومشركو العرب وإن حاجوا في الدين أيضا لكنهم لم يصلوا فيه إلى رتبة أهل الكتاب لما أنهم أميون عارون عن سائر العلوم جاهلون بوظائف البحث بالكلية نظرا إلى أولئك القائمين على ساق الجدال وإن القرينتين السابقة واللاحقة على التقييد في غاية الخفاء وأن ما روي في سبب النزول ليس مذكورا في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المعتبرة كما نص على ذلك الإمام السيوطي وكفى به حجة في هذا الشأن.
وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ جملة حالية أي أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى مالك أمرنا وأمركم وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ عطف على ما قبله أي لنا جزاء أعمالنا الحسنة الموافقة لأمره ولكم جزاء أعمالكم السيئة المخالفة لحكمه وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهه فأنى لكم المحاجة ودعوى حقية ما أنتم عليه والقطع بدخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه. والجملة حالية كالتي قبلها ، وذهب بعض المحققين أن هذه الجملة كجملتي وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به مقول على ألسنة العباد بتعليم اللّه تعالى لا عطف ، وتحريره أن وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مناسب - لآمنا - أي نؤمن باللّه وبما أنزل على الأنبياء صلوات اللّه تعالى وسلامه عليهم ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه وقوله تعالى :
وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ ملائم لقوله تعالى : صِبْغَةَ اللَّهِ لأنها بمعنى دين اللّه فالمصدر كالفذلكة لما سبق ، وهذه الآية موافقة لما قبلها ، ولعل الذوق السليم لا يأباه ، وأما القول بأن معنى وَهُوَ رَبُّنا إلخ أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم فيصيب برحمته من يشاء فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب يفتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوة إما تفضل من اللّه تعالى فالكل فيه سواء ، وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها اللّه تعالى في إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون بها لا أنتم ، فمع بنائه على ما علمت ركاكته غير ملائم لسباق النظم الكريم وسياقه بل غير صحيح في نفسه كما أفتى به مولانا مفتي الديار الرومية لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبني على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب هذا؟! وقد اختلف الناس في الإخلاص ،
فروي عن النبي صلى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 397
اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال : «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال : سألت رب العزة عنه فقال : سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي»
وقال سعيد بن جبير : الإخلاص أن لا تشرك في دينه ولا تراء أحدا في عمله ، وقال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك اللّه تعالى منهما ، وقال حذيفة المرعشي : أن تستوي أفعال العبد في الباطن والظاهر ، وقال أبو يعقوب : المكفوف أن يكتم العبد حسناته كما يكتم سيئاته ، وقال سهل : هو الإفلاس ، ومعناه احتقار العمل وهو معنى قول رويم - ارتفاع عملك عن الرؤية - قيل :
ومقابل الإخلاص الرياء ، وذكر سليمان الداراني ثلاث علامات له. الكسل عند العبادة في الوحدة ، والنشاط في الكثرة ، وحب الثناء على العمل.
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أَمْ إما متصلة معادلة للهمزة في أَتُحَاجُّونَنا داخلة في حيز الأمر والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى كل من الأمرين منكر ينبغي أن لا يكون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه ، والحال ما ذكر والتشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء عليهم السلام ، وفائدة هذا الأسلوب مع أن العلم حاصل بثبوت الأمرين الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم فكيف إذا اجتمعا كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا : أتدبيرك أم تقريرك ، وبهذا يندفع ما قاله أبو حيان من أن الاتصال يستدعي وقوع إحدى الجملتين والسؤال عن تعيين إحداهما وليس الأمر كذلك إذ وقعتا معا ، وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقرأ غير ابن عامر ، وحمزة والكسائي وحفص «أم يقولون» - بالياء - ويتعين كون أَمْ حينئذ منقطعة لما فيها من الإضراب من الخطاب إلى الغيبة ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة ويكون الكلام استئنافا غير داخل تحت الأمر بل وارد منه تعالى توبيخا لهم.
وإنكارا عليهم ، وحكى أبو جعفر الطبري عن بعض النحاة جواز الاتصال لأنك إذا قلت - أتقوم يا زيد أم يقوم عمرو - صح الاتصال ، واعترض عليه ابن عطية بأن المثال غير جيد لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غير أن يتجه معادلة أَمْ للهمزة على الحكم المعنوي كان معنى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا أي يحاجون يا محمد أم يقولون ، ولا يخفى أن القول بالانقطاع إن لم يكن متعينا فلا أقل من أنه أولى.
قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه السلام في باب الدين بل اللّه تعالى أعلم بذلك وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه ، واحتج على انتفائهما عنه بقوله : وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران : 65] وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى اللّه تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض وَمَنْ أَظْلَمُ إنكار لأن يكون أحد أظلم مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة.
عِنْدَهُ واصلة مِنَ اللَّهِ إليه وهي شهادته تعالى لإبراهيم عليه السلام بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية حسبما تلي آنفا ، وجيء بالوصفين لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت - الشهادة عنده - وكونها من جانب جناب العلي الأعلى عز شأنه من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها ، وتقديم الأول مع أنه متأخر في الوجود لمراعاة طريق الترقي والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب - حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء - والجملة تذييل يقرر ما أنكر عليهم من ادعاء اليهودية والنصرانية وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة عن دائرة البيان ، أو لا أحد - أظلم منا لو كتمنا هذه - الشهادة - ولم نقمها في مقام المحاجة ، والجملة حينئذ تذييل مقرر ما أوقع في قوله تعالى : أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ من أنهم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 398
شاهدون بما شهد اللّه تعالى به مصدقونه بما أعلمهم ، وجعلها على هذا من تتمة قُولُوا آمَنَّا لأنه في معنى إظهار الشهادة. وعلى الأول من تتمة قُلْ أَتُحَاجُّونَنا لأنه في معنى كتمانها ظاهر التعسف ، ولا يخفى أن في الآية تعريضا بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه ، وفي إطلاق الشهادة - مع أن المراد بها ما تقدم من الشهادة المعينة - تعريض بكتمانهم شهادة اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل ، وفي ري الظمآن أن - من - صلة أَظْلَمُ والكلام على التقديم والتأخير كأنه قيل : ومن أظلم من اللّه ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة ، والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى ثم إن اللّه تعالى كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عما لا يليق علمنا أن الأمر ليس كذلك ، وقيل : إن مِمَّنْ صلة كَتَمَ والكلام على حذف مضاف - أي كتم من عباد اللّه شهادة عنده - ومعناه أنه تعالى ذمهم على منع أن يوصلوا إلى عباد اللّه تعالى ، ويؤدوا إليهم شهادة الحق ، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من التكلف والتعسف وانحطاط المعنى فلينزه كتاب اللّه تعالى العظيم عنه ، على أنك لو نظرت بعين الإنصاف رأيت الوجه الثاني من الأولين لا يخلو عن بعد لأن الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسب إلى إبراهيم عليه السلام ، ومن ذكر معه فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب لا مع الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأتباعه لأنهم مقرون بما أخبر اللّه تعالى به وعالمون بذلك فلا يفرض في حقهم كتمانه والتذييل الذي ادعي فيه خلاف الظاهر أيضا.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد وتهديد لأهل الكتاب أي إن اللّه تعالى لا يترك أمركم سدى بل هو محصل لأعمالكم محيط بجميع ما تأتون وتذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب ، ويدخل في ذلك كتمانهم لشهادته تعالى وافتراؤهم على أنبيائه عليهم السلام ، وقرى ء - عما يعملون - بصيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم باعتبار المعنى أو لأهل الكتاب.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ تكرير لما تقدم للمبالغة في التحذير عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم كما يقال : اتق اللّه اتق اللّه ، أو تأكيد وتقرير للوعيد يعني أن اللّه تعالى يجازيكم على أعمالكم ولا تنفعكم آباؤكم ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم بل عن أعمال أنفسكم ، وقيل : الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب ، وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم ، وقيل : المراد بالأمة في الأول الأنبياء وفي الثاني أسلاف اليهود لأن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه : إنهم كانوا ما كانوا - فكأنهم قالوا - إنهم على مثل طريقة أسلافنا فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يعنوا بالآية ، ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الظاهر.
تم طبع الجزء الأول ، ويتلوه إن شاء اللّه تعالى الجزء الثاني وأوله

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 399
الجزء الثاني

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 400
فارغة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 401
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة البقرة (2) : الآيات 142 إلى 157]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ أي الخفاف الأحلام أو المستمهنوها بالتقليد المحض ، والاعراض عن التدبر ، والمتبادر منهم ما يشمل سائر المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين ، واليهود ، والمشركين ، وروي عن السدي الاقتصار على الأول ، وعن ابن عباس الاقتصار على الثاني ، وعن الحسن الاقتصار على الثالث ، ولعل المراد بيان طائفة نزلت هذه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 402
الآية في حقهم لا حمل الآية عليها لأن الجمع فيها محلى باللام ، وهو يفيد العموم فيدخل فيه الكل ، والتخصيص بالبعض لا يدعو إليه داع ، وتقديم الأخبار بالقول على الوقوع لتوطين النفس به فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما ، والعلم به قبل الوقوع أبعد من الاضطراب ، ولما أن فيها إعداد الجواب والجواب المعد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وفي المثل- قبل الرمي يراش السهم- وليكون الوقوع بعد الأخبار معجزة له صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقيل : إن الوجه في التقديم هو التعليم والتنبيه على أن هذا القول أثر السفاهة فلا يبالي به ولا يتألم منه ويرد عليه- أن التعليم- والتنبيه المذكورين يحصلان بمجرد ذكر هذا السؤال ، والجواب ولو بعد الوقوع ، وقال القفال : إن الآية نزلت بعد تحويل القبلة ، وإن لفظ سَيَقُولُ مراد منه الماضي ، وهذا كما يقول الرجل إذا عمل عملا فطعن فيه بعض أعدائه : أنا أعلم أنهم سيطعنون في- كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فيذكرونه مرات أخرى- ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن البراء رضي اللّه تعالى عنه قال : لما قدم رسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل اللّه تعالى : قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ إلى آخر الآية فقال : السُّفَهاءُ وهم اليهود ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ إلى آخر الآية وفي رواية أبي إسحاق وعبيد بن حميد ، وأبي حاتم عنه زيادة فأنزل اللّه تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ إلخ ،
ومناسبة الآية لما قبلها أن الأولى قدح في الأصول ، وهذا في أمر متعلق بالفروع ، وإنما لم يعطف تنبيها على استقلال كل منهما في الشناعة.
مِنَ النَّاسِ في موضع نصب على الحال ، والمراد منهم الجنس ، وفائدة ذكره التنبيه على كمال سفاهتهم بالقياس إلى الجنس ، وقيل : الكفرة ، وفائدته بيان أن ذلك القول المحكي لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في آسن الفساد ، والأول أولى كما لا يخفى ما وَلَّاهُمْ أي أي شي ء صرفهم ، وأصله من الولي ، وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل والاستفهام للإنكار عَنْ قِبْلَتِهِمُ يعني بيت المقدس وهي فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة ، وأصلها الحالة التي كان عليها المقابل إلا أنها في العرف العام اسم للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة الَّتِي كانُوا عَلَيْها أي على استقبالها ، والموصول صفة القبلة ، وفي وصفها بذلك بعد إضافتها إلى ضمير المسلمين تأكيد للإنكار ومدار هذا الإنكار بالنسبة إلى اليهود زعمهم استحالة النسخ وكراهتهم مخالفته صلى اللّه تعالى عليه وسلم لهم في القبلة حتى أنهم قالوا له : ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك ، ولعلهم ما أرادوا بذلك إلا فتنته عليه الصلاة والسلام ، وبالنسبة إلى مشركي العرب القصد إلى الطعن في الدين وإظهار أن كلا التوجه إليها ، والانصراف عنها بغير داع إليه حتى أنهم كانوا يقولون : إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وبالنسبة إلى المنافقين مختلف باختلاف أصولهم فإن فيهم اليهود وغيرهم ، واختلف الناس في مدة بقائه صلّى اللّه عليه وسلّم مستقبلا بيت المقدس ، ففي رواية البخاري ما علمت ، وفي رواية مالك بن أنس تسعة أشهر أو عشرة أشهر ، وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا ، وعن الصادق سبعة أشهر ،
وهل استقبل غيره قبل بمكة أم لا؟
قولان أشهرهما الثاني وهو المروي أيضا عن الصادق رضي اللّه تعالى عنه.
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي جميع الأمكنة والجهات مملوكة له تعالى مستوية بالنسبة إليه عز شأنه لا اختصاص لشي ء منها به جل وعلا إنما العبرة لامتثال أمره فله أن يكلف عباده باستقبال أي مكان وأي جهة شاء يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريق مستو وهو ما تقتضيه الحكمة من التوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى ، والجملة بدل اشتمال مما تقدم وهو إشارة إلى مصحح التولية وهذا إلى مرجحها كأنه قيل : إن التولية المذكورة هداية يخص اللّه تعالى بها من يشاء ويختار من عباده وقد خصنا بها فله الحمد.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 403
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً اعتراض بين كلامين متصلين وقعا خطابا له صلى اللّه تعالى عليه وسلم استطرادا لمدح المؤمنين بوجه آخر أو تأكيدا لرد الإنكار بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء عليكم يوم الجزاء وشهاداتهم مقبولة عندكم فأنتم إذا أحق باتباعهم والاقتداء بهم فلا وجه لإنكاركم عليهم ، وذلك إشارة إلى الجعل المدلول عليه- بجعلناكم- وجي ء بما يدل على البعد تفخيما.
والكاف مقحم للمبالغة وهو إقحام مطرد ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، وأصل التقدير- جعلناكم أمة وسطا- جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر ، وأقحمت الكاف فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم لا جعلا آخر أدنى منه كذا قالوا ، وقد ذكرنا قبل أن كَذلِكَ كثيرا ما يقصد بها تثبيت ما بعدها وذلك لأن وجه الشبه يكون كثيرا في النوعية والجنسية كقولك- هذا الثوب كهذا الثوب- في كونه خزا أو بزا ، وهذا التشبيه يستلزم وجود مثله وثبوته في ضمن النوع فأريد به على طريق الكناية مجرد الثبوت لما بعده ، ولما كانت الجملة تدل على الثبوت كان معناها موجودا بدونها وهي مؤكدة له فكانت كالكلمة الزائدة ، وهذا معنى قولهم : إن الكاف مقحمة لا أنها زائدة كما يوهمه كلامهم ، وأما استفادة كون ما بعدها عجيبا فليس إلا لأن ما ليس كذلك لا يحتاج لبيان فلما اهتم بإثباته في الكلام البليغ علم أنه أمر غريب ، أو لحمل البعد المفهوم من ذلك على البعد الرتبي ، ومن الناس من جعل كَذلِكَ للتشبيه- بجعل- مفهوم من الكلام السابق أي مثل ما جعلناكم مهديين ، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل- جعلناكم أمة وسطا- ويرد على ذلك أن المحل المشبه به غير مختص بهذه الأمة لأن مؤمني الأمم السابقة كانوا أيضا مهتدين إلى صراط مستقيم ، وكانت قبلة بعضهم أفضل القبل أيضا ، والجعل المشبه مختص بهم فلا يحسن التشبيه على أنه لا يفهم من السابق سوى أن التوجه إلى كل واحد القبلتين في وقته- صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن قبلتهم أفضل القبل ، والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ اللهم إلا أن يكون مراد القائل- كما جعلنا قبلتكم الكعبة التي هي أفضل القبل في الواقع جعلنا- إلا أنه على ما فيه لا يحسم الإيراد كما لا يخفى.
ومعنى وَسَطاً خيارا أو عدولا وهو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه- كالمركز- ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط كالجود بين الإسراف ، والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور ، والحكمة بين الجربزة والبلادة ، ثم أطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل واستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته ، وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من قولهم : خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهم- على الذم أثقل من مغن وسط- لأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس وليس بجيد فيطرب ولا بردي ء فيضحك ، وقولهم : أخو الدون الوسط بل هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها وصميمها ، وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية أعني استعمالها فيما ينبغي على ما ينبغي ، ولما كان علم العباد لم يحط إلا بالظاهر أقام الفقهاء الاجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلك- وسموه عدالة- في إحياء الحقوق فليحفظ ، وشاع عن أبي منصور الاستدلال بالآية- على أن الإجماع حجة إذ لو كان ما اتفقت عليه الأمة باطلا لا نثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار فلا يتم إذ كونهم خيارا لا يقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلا ينافي اتفاقهم على الخطأ- لا يخلو عن شي ء ، أما أولا فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه كيف والمجتهد المخطئ مأجور ، وأما ثانيا فلأن المراد كونهم وَسَطاً بالنسبة إلى سائر الأمم ، وأما ثالثا فلأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد ، وأما رابعا فلأنه لا يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة ، وأما خامسا فلأن قصارى ما تدل عليه بعد

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 404
اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر ، ولا تدل على حجية إجماع مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك ، وأجيب عن الأول ، والثاني بأن العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الاعتقاد والقول والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة عن حالة متشابهة حاصلة عن امتزاج الأوساط من القوى التي ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا ، وعن الثالث بأن المراد أن فيهم من يوجد على هذه الصفة ، فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفة - لكن يدخل المعتبرون في اجتماعهم - ومتى دخلوا وحصل الخطأ انثلمت عدالة المجموع.
وعن الرابع بأن جَعَلْناكُمْ يقتضي تحقق العدالة بالفعل ، واستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر.
وعن الخامس بأن الخطاب للحاضرين - أعني الصحابة كما هو أصله - فيدل على حجية الإجماع في الجملة ، وأنت تعلم أن هذا الجواب الأخير لا يشفي عليلا ، ولا يروي غليلا ، لأنه بعيد بمراحل عن مقصود المستدل ، على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم ، وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها ، نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن الآية خاصة بالأئمة الاثني عشر ، ورووا عن الباقر أنه قال : نحن الأمة الوسط ، ونحن شهداء اللّه على خلقه ، وحجته في أرضه ،
وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه : نحن الذين قال اللّه تعالى فيهم : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
وقالوا : قول كل واحد من أولئك حجة فضلا عن إجماعهم ، وأن الأرض لا تخلو عن واحد منهم حتى يرث اللّه تعالى الأرض ومن عليها ، ولا يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي سائر الأمم يوم القيامة بأن اللّه تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وهو غاية - للجعل - المذكور مترتبة عليه.
أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون : لا ، فيقال له : هل بلغت قومك؟ فيقول : نعم ، فيقال له : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته ، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون : نعم. فيقال : وما علمكم؟ فيقولون : جاءنا نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وفي رواية «فيؤتى بمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم»
وذلك قوله عز وجل : وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وكلمة الاستعلاء لما في - الشهيد - من معنى الرقيب ، أو لمشاكلة ما قبله ، وأخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الثاني اختصاصهم - بكون الرسول شهيدا عليهم - وقيل : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ويزكيكم ويعلم بعدالتكم ، والآثار لا تساعد ذلك على ما فيه وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها وهي صخرة بيت المقدس ، بناء على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن قبلته صلى اللّه تعالى عليه وسلم بمكة كانت بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة - بل يجعلها بينه وبينه - والَّتِي مفعول ثان - لجعل - لا صفة الْقِبْلَةَ والمفعول الثاني محذوف أي الْقِبْلَةَ كما قيل. وقال أبو حيان : إن - الجعل - تحويل الشيء من حالة إلى أخرى ، فالمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني ، كما في - جعلت الطين خزفا - فينبغي أن يكون المفعول الأول هو الموصول ، والثاني هو الْقِبْلَةَ وهو المنساق إلى الذهن بالنظر الجليل ، ولكن التأمل الدقيق يهدي إلى ما ذكرنا لأن الْقِبْلَةَ عبارة عن الجهة التي تستقبل للصلاة - وهو كلي - والجهة التي كنت عليها جزئي من جزئياتها ، - فالجعل - المذكور من باب تصيير الكلي جزئيا ، ولا شك أن الكلي يصير جزئيا - كالحيوان يصير إنسانا - دون العكس ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 405
والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة - كما هو الآن - وَما جَعَلْنَا قبلتك بيت المقدس لشيء من الأشياء إِلَّا لِنَعْلَمَ أي في ذلك الزمان مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ أي يتبعك في الصلاة إليها ، والالتفات إلى الغيبة مع إيراده صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة للإشارة إلى علة الاتباع.
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرتد عن دين الإسلام فلا يتبعك فيها ألفا لقبلة آبائه ، ومَنْ هذه للفصل كالتي في قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة : 220] والكلام من باب الاستعارة التمثيلية بجامع أن المنقلب يترك ما في يديه ويدبر عنه على أسوأ أحوال الرجوع ، وكذلك المرتد يرجع عن الإسلام ويترك ما في يديه من الدلائل على أسوأ حال. و«نعلم» حكاية حال ماضية ، ويَتَّبِعُ ويَنْقَلِبُ بمعنى الحدوث - والجعل - مجاز باعتبار أنه كان الأصل استقبال الكعبة أو المعنى (ما جعلنا) قبلتك بيت المقدس إِلَّا لِنَعْلَمَ الآن بعد التحويل إلى الكعبة من يتبعك حينئذ مِمَّنْ لا يتبعك كبعض أهل الكتاب ارتدوا لما تحولت الْقِبْلَةَ فنعلم على حقيقة الحال.
والحاصل أن ما فعلناه كان لأمر عارض - وهو امتحان الناس - إما في وقت - الجعل - أو في وقت التحويل ، وما كان لعارض يزول بزواله ، وقيل : المراد ب الْقِبْلَةَ الكعبة بناء على أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يصلي إليها بمكة ، والمعنى ما رددناك إِلَّا لِنَعْلَمَ الثابت الذي لا يزيغه شبهة ولا يعتريه اضطراب ممن يرتد بقلقلة واضطراب بسبب التحويل بأنه إن كان الأول حقا فلا وجه للتحويل عنه ، وإن كان الثاني فلا معنى للأمر بالأول - والجعل - على هذا حقيقة ، ويَتَّبِعُ للاستمرار بقرينة مقابله ، ويضعف هذا القول أنه يستلزم دعوى نسخ الْقِبْلَةَ مرتين ، واستشكلت الآية بأنها تشعر بحدوث - العلم - في المستقبل - وهو تعالى لم يزل عالما - وأجيب بوجوه «الأول» أن ذلك على سبيل التمثيل ، أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم «الثاني» أن المراد - العلم - الحالي الذي يدور عليه - فلك الجزاء - أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل ، فالعلم مقيد بالحادث ، والحدوث راجع إلى القيد «الثالث» أن المراد ليعلم الرسول والمؤمنون ، وتجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص فهو كقول الملك : فتحنا البلد ، وإنما فتحها جنده «الرابع» أنه ضمن العلم معنى التمييز أو أريد به التمييز في الخارج ، وتجوز بإطلاق اسم السبب على المسبب ، ويؤيده تعديه ب مَنْ كالتمييز - وبه فسره ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - ويشهد له قراءة «ليعلم» على البناء للمفعول حيث إن المراد ليعلم كل من يأتي منه - العلم - وظاهر أنه فرع تمييز اللّه وتفريقه بينهما في الخارج بحيث لا يخفى على أحد «الخامس» أن المراد به الجزاء ، أي لنجازي الطائع والعاصي ، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن بالعلم «السادس» أن «نعلم» للمتكلم مع الغير ، فالمراد ليشترك - العلم - بيني وبين الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنين ، ويرد على هذا أن مخالفته مع جعلنا آب عنه ، مع أن
تشريك اللّه تعالى مع غيره في ضمير واحد غير مناسب ، ثم العلم إن كان مجازا عن التمييز - فمن ، وممن - مفعولاه بواسطة وبلا واسطة ، وإن كان حقيقة فإمّا أن يكون من الإدراك المعدى إلى مفعول واحد - فمن - موصولة في موضع نصب به ، ومِمَّنْ حال أي متميزا مِمَّنْ أو من - العلم - المعدى إلى مفعولين ف مَنْ استفهامية في موضع المبتدأ ، ويَتَّبِعُ في موضع الخبر ، والجملة في موضع المفعولين مِمَّنْ يَنْقَلِبُ حال من فاعل يَتَّبِعُ وبهذا يندفع قول أبي البقاء : إنه لا يجوز أن تكون مَنْ استفهامية لأنه لا يبقى لقوله تعالى : مِمَّنْ يَنْقَلِبُ متعلق لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده ، ولا معنى لتعلقه ب يَتَّبِعُ والكلام دال على هذا التقدير - فلا يرد أنه لا قرينة عليه - ثم إن جملة وَما جَعَلْنَا إلخ ، معطوفة كالجملتين التاليتين لها على مجموع السؤال والجواب بيان لحكمة التحويل ، وقيل : معطوفة على لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ويحتاج إلى أن يقال حينئذ : إنه صلّى اللّه عليه وسلّم مأمور بأداء مضمون

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 406
هذا الكلام بألفاظه إذ لا يصح ضمير المتكلم في كلامه عليه الصلاة والسلام ، وفيه بعد ما كما لا يخفى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي شاقة ثقيلة ، والضمير لما دل عليه قوله تعالى : وَما جَعَلْنَا إلخ من الجعلة ، أو التولية ، أو الردة ، أو التحويلة ، أو الصيرورة ، أو المتابعة ، أو القبلة ، وفائدة اعتبار التأنيث - على بعض الوجوه - الدلالة على أن هذا الرد والتحويل بوقوعه مرة واحدة ، واختصاصه بالنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كانت ثقيلة عليهم حيث لم يعهدوه سابقا ، والقول بأن تأنيث «كبيرة» يجعله صفة حادثة ، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر فيرجع إلى - الجعل - أو الرد أو التحويل بدون
تكلف تكلف عريّ عن الفائدة وَإِنْ هي المخففة من الثقيلة المفيدة لتأكيد الحكم ألغيت عن العمل فيما بعدها بتوسط «كان» - واللام - هي الفاصلة بين المخففة والنافية وزعم الكوفيون أن إِنْ هي النافية - واللام - بمعنى إلا ، وقال البصريون : لو كان كذلك لجاز أن يقال : جاء القوم لزيدا على معنى إلا زيدا - وليس فليس - وقرىء لَكَبِيرَةً بالرفع ففي «كان» ضمير القصة ، و«كبيرة» خبر مبتدأ محذوف ، أي لهي «كبيرة» والجملة خبر «كان» وقيل : إن كانت زائدة كما في قوله : وإخوان لنا كانوا كرام واعترض بأنه إن أريد أن «كان» مع اسمها زائدة كانت «كبيرة» بلا مبتدأ وَإِنْ المخففة بلا جملة ، ومثله خارج عن القياس ، وإن أريد أن «كان» وحدها كذلك والضمير باق على الرفع بالابتداء - فلا وجه لاتصاله واستتاره - وأجيب بأنه لما وقع بعد «كان» وكان من جهة المعنى في موقع اسم «كان» جعل مستترا تشبيها بالاسم ، وإن كان مبتدأ تحقيقا ، ولا يخفى أنه من التكلف غايته ، ومن التعسف نهايته إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا أو تفصيلا ، والمراد بهم مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ من الثابتين على الإيمان الغير المتزلزلين المنقلبين على أعقابهم.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي صلاتكم إلى القبلة المنسوخة ، ففي الصحيح أنه لما وجه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى القبلة قالوا : يا رسول اللّه ، فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ، فنزلت ، فالإيمان مجاز من إطلاق اللازم على ملزومه ، والمقام قرينة وهو التفسير المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وغيره من أئمة الدين - فلا معنى لتضعيفه كما يحكيه صنيع بعضهم - وقيل : المراد ثباتكم على الإيمان أو إيمانكم بالقبلة المنسوخة - واللام - في لِيُضِيعَ متعلقة بخبر كانَ المحذوف - كما هو رأي البصريين - وانتصاب الفعل بعدها بأن مضمرة أي ما كان مريدا - لأن يضيع - وفي توجيه النفي إلى إرادة الفعل مبالغة ليست في توجيهه إليه نفسه ، وقال الكوفيون : اللام زائدة وهي الناصبة للفعل ، ولِيُضِيعَ هو الخبر ، ولا يقدح في عملها زيادتها كما لا تقدح زيادة حروف الجر في العمل ، وبهذا يندفع استبعاد أبي البقاء خبرية لِيُضِيعَ بأن - اللام لام الجر - وَإِنْ بعدها مرادة فيصير التقدير ما كان اللّه إضاعة إيمانكم - فيحوج للتأويل - لكن أنت تعلم أن هذا الذي ذهب إليه الكوفيون بعيد من جهة أخرى لا تخفى.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ تذييل لجميع ما تقدم ، فإن اتصافه تعالى بهذين الوصفين يقتضي لا محالة أن اللّه لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم - والباء - متعلقة ب لَرَؤُفٌ وقدم على رَحِيمٌ لأن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة ، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر كما يشير إليه قوله تعالى : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور :
2] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما - والرحمة - أعم منه ، ومن الإفضال ودفع الضرر أهم من جلب النفع ، وقول القاضي بيض اللّه تعالى غرة أحواله : لعل تقديم - الرؤوف - مع أنه أبلغ - محافظة على الفواصل - ليس بشيء لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع - فالمراعاة حاصلة على كل حال - ولأن الرحمة حيث وردت في القرآن قدمت ولو في غير الفواصل كما في قوله تعالى : رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الحديد : 27] في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 407
وسط الآية ، وكلام الجوهري في هذا الموضع خزف لا يعول عليه ، وقول عصام : - إنه لا يبعد أن يقال : - الرؤوف - إشارة إلى المبالغة في رحمته لخواص عباده - والرحيم - إشارة إلى الرحمة لمن دونهم فرتبا على حسب ترتيبهم ، فقدم - الرؤوف - لتقدم متعلقه شرفا وقدرا - لا شرف ولا قدر ، بل ولا عصام له لأنه تخصيص لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا استعمال وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص «لرؤوف» بالمد ، والباقون بغير مدكندس.
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي كثيرا ما نرى تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفا للوحي ، وكان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقع في قلبه ، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لما أن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا ، ولما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان ، والظاهر أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه بل كان ينتظر فقط إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره ، ففي ذلك دلالة على كمال أدبه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقال قتادة والسدي وغيرهما : كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى اللّه تعالى أن يحوله إلى الكعبة ،
فعلى هذا يكون السؤال واقعا منه عليه الصلاة والسلام ، ولم يذكر لأن تَقَلُّبَ الوجه نحو السماء التي هي قبلة الدعاء يشير إليه في الجملة ، ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدعاء لما أن الأنبياء لا يسألون اللّه تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إليه فيكون فتنة لقومهم ، ويؤيد ذلك ما
في بعض الآثار أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم استأذن جبريل أن يدعو اللّه تعالى فأخبره بأن اللّه تعالى قد أذن له بالدعاء
كذا يفهم من كلامهم ، والذي أراه أنه لا مانع من دعائه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وسؤاله التحويل لمصلحة ألهمها ومنفعة دينية فهمها ، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان ، ولا الإذن الصريحين لأن من نال قرب النوافل مستغن عن ذلك فكيف من حصل له مقام قرب الفرائض حتى غدا سيد أهله ، ومن علم مرتبة الحبيب عد جميع ما يصدر منه في غاية الكمال مع مراعاة نهاية الأدب ، وأما معاتبته صلى اللّه تعالى عليه وسلم في بعض ما صدر فليس لنقص فيه ولا لإخلال بالأدب عند فعله حاشاه ثم حاشاه ، ولكن الأسرار خفية ، وحكم ربانية علمها من علمها وجهلها من جهلها ، بقي هل دعا صلى اللّه تعالى عليه وسلم في هذه الحادثة صريحا أم لا؟ الظاهر الثاني بناء على ما صح عندنا من ظواهر الأخبار حيث لم يكن فيها سوى حب التحويل ،
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء قال : صلينا مع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ، ثم علم اللّه تعالى هوى نبيه عليه الصلاة والسلام فنزلت قَدْ نَرى الآية ،
وليس في الآية ما يدل صريحا على أحد الأمرين ، وأما الإشارة فقد تصلح لهذا وهذا كما لا يخفى ، وهذا ومن الناس من جعل قَدْ هنا للتقليل زعما منه أن وقوع التقلب قليلا أدل على كمال أدبه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، واعترض بأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال له : قلب بصره إلى السماء ، وإنما يقال : قلب إذا داوم فالكثرة تفهم من الآية لا محالة - لأن التقلب - الذي هو مطاوع التقليب يدل عليها ، وهل التكثير معنى مجازي - لقد - أو حقيقي؟ قولان نسب ثانيهما إلى سيبويه ، وهذه الكثرة أو القلة هنا منصرفة إلى التقلب ، وذكر بعض النحاة أن «قد» تقلب المضارع ماضيا ، ومنه ما هنا ، وقوله تعالى : قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور : 64] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر :
97] إلى غير ذلك فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً أي لنمكننك من استقبالها من قولك : وليته كذا إذا جعلته واليا له أو فلنجعلنك تلي جهتها دون جهة بيت المقدس من وليه دنا منه ووليته إياه أدنيته منه ، والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها ، وهي في الحقيقة داخلة على قسم محذوف تدل عليه اللام ، وجاء هذا الوعد على إضمار القسم مبالغة في وقوعه لأنه يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها ، وجاء قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ثم بإنجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين ، - ونولي -

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 408
يتعدى لاثنين الكاف الأول وقبلة الثاني ، وقوله تعالى : تَرْضاها أي تحبها وتميل إليها للأغراض الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة اللّه تعالى وحكمته في موضع نصب صفة - لقبلة. ، ونكرها لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة فتعرف باللام ، وليس في اللفظ ما يدل على أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يطلب قبلة معينة فَوَلِّ وَجْهَكَ الفاء لتفريع الأمر على الوعد وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه ومعياره ، وقيل : المراد به جميع البدن وكني بذلك عنه لأنه أشرف الأعضاء وبه يتميز بعض الناس عن بعض ، أو مراعاة لما قبل والتولية إذا كانت متعدية بنفسها إلى تمام المفعولين كانت مستعملة بأحد المعنيين المتقدمين ، وإذا كانت متعدية إلى واحد فمعناها الصرف إما عن الشيء أو إلى الشيء على اختلاف صلتها الداخلة على المفعول الثاني ، وهي هنا بهذا المعنى - فوجهك - مفعول أول وقوله تعالى : شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه كما روي عن ابن عباس ، أو
قبله كما روي عن علي كرم اللّه وجهه ،
أو تلقاءه كما روي عن قتادة ظرف مكان مبهم كمفسره منصوب على الظرفية أغنى غناء إلى فإن مؤدى - ولّ وجهك - نحو أو قبل أو تلقاء المسجد - وولّ وجهك إلى المسجد - واحد وإنما لم يجعل الأمر من المتعدية إلى مفعولين بأن يكون شَطْرَ مفعوله الثاني - كما قيل به - لأن ترتبه بالفاء وكونه إيجازا للوعد بأن اللّه تعالى يجعل مستقبل القبلة أو قريبا من جهتها بأن يؤمر بالصلاة إليها يناسبه أن يكون مأمورا بصرف الوجه إليها لا بأن يجعل نفسه مستقبلا لها أو قريبا من جهتها فإن المناسب لهذا فلنأمرنك بأن تولي ولأنه يلزم حينئذ أن يكون الواجب رعاية سمت الجهة لأن المسجد الحرام جهة القبلة فإذا كان النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم مأمورا بجعل نفسه مستقبل جهة المسجد أو قريبا منها كان مأمورا باستقبال جهة الجهة أو بقرب جهة الجهة بخلاف ما إذا جعل من التولية بمعنى الصرف ، و- شطر - ظرفا فإنه يصير المعنى اصرف وجهك نحو المسجد الحرام وتلقاءه الذي هو جهة القبلة فيكون مأمورا بمسامتة الجهة وإصابته - قاله بعض المحققين - وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل فيكون بمعنى بعض الشيء ويتعين حينئذ جعله مفعولا ثانيا - وفيه أنه - وإن لم يلزم حينئذ وجوب رعاية جهة الجهة لكن عدم مناسبته بإنجاز الوعد باق ، والقول - بأن الشطر هنا بمعنى النصف - مما لا يكاد يصح ، و- الحرام - المحرم أي محرم فيه القتال ، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوا ، وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة التي دلت عليها الأحاديث الصحاح إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة وإن لم يصب عينها وهذه الفائدة لا تحصل من لفظ الشطر - كما قاله جمع - لأنه لو قيل : فولّ وجهك شطر الكعبة لكان المعنى اجعل صرف الوجه في مكان يكون مسامتا ومحاذيا للكعبة - وهذا هو مذهب أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه.
وأحمد وقول أكثر الخراسانيين من الشافعية - ورجحه حجة الإسلام في الاحياء إلا أنهم قالوا : يجب أن يكون قصد المتوجه إلى الجهة العين التي في تلك الجهة لتكون القبلة عين الكعبة ، وقال العراقيون والقفال منهم : يجب إصابة العين ، وقال الإمام مالك : إن الكعبة قبلة أهل المسجد ، والمسجد قبلة مكة ، وهي قبلة الحرم ، وهو قبلة الدنيا ، وفي حديث ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما مرفوعا ما يدل عليه ، وهذا الخلاف في غير من يكون شاهدا أما هو فيجب عليه إصابة العين بالإجماع ، ولم يقيد سبحانه وتعالى التولية في الصلاة لأن المطلوب لم يكن سوى ذلك فأغنى عن الذكر ، وقيل : لأن الآية نزلت ، وهو صلى اللّه تعالى عليه وسلم في الصلاة فأغنى التلبس بها عن ذكرها ، واستدل هذا القائل بما
ذكره القاضي تبعا لغيره أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين ، وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم
- فسمي المسجد مسجد القبلتين - وهذا - كما قال الإمام السيوطي - تحريف للحديث ، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 409
إماما ولا هو الذي تحول في الصلاة ،
فقد أخرج النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نغدو إلى المسجد فمررنا يوما ورسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت : حدث أمر ، فجلست فقرأ رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الآية ، فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فنكون أول من صلى ، فصليناهما ، ثم نزل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ.
وروى أبو داود عن أنس رضي اللّه تعالى عنه أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فلما نزلت هذه الآية مرّ رجل ببني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس ، ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة ،
فما ذكر مخالف للروايات الصحيحة الثابتة عند أهل هذا الشأن فلا يعول عليه. وقرأ أبي «تلقاء المسجد الحرام» وهي تؤيد القول الأول في شَطْرَ كما لا يخفى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عطف على فَوَلِّ وَجْهَكَ ومن تتمة إنجاز الوعد - والفاء - جواب الشرط لأن حَيْثُ إذا لحقه ما الكافة عن الإضافة يكون من كلم المجازاة ، والفراء لا يشترط ذلك فيها ، و(كان) تامة - أي في أي موضع وجدتم - وأصل ولوا وليوا فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذف أولهما وضم ما قبل الياء للمناسبة - فوزنه فعوا - وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من السابق اعتناء به إذ الخطاب الوارد في شأن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عام حكمه ما لم يظهر اختصاصه به عليه الصلاة والسلام ، وفائدة تعميم الأمكنة - على ما ذهب إليه البعض - دفع توهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة ، وقيل : لما كان الصرف عن الكعبة لاستجلاب قلوب اليهود وكان مظنة أن لا يتوجه إليها في حضورهم أشار إلى تعميم التولية جميع الأمكنة أو يقال : صرح بأن التولية جهة الكعبة فرض مع حضور بيت المقدس ، ولأهله أيضا لئلا يظن أن حضور بيت المقدس يمنع التوجه إلى جهة الكعبة مع غيبتها فليفهم. وقرأ عبد اللّه «فولوا وجوهكم قبله».
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من اليهود لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التحويل أو التوجه المفهوم من التولية الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ لا غيره لعلمهم بأن محمدا صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا يأمر بالباطل إذ هو النبي المبشر به في كتبهم وتحققهم أنه لا يتجاوز كل شريعة عن قبلتها إلى قبلة شريعة أخرى ، وأما اشتراك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإبراهيم عليه السلام في هذه القبلة فلاشتراكهما في الشريعة على ما ينبىء عنه قوله تعالى : بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة : 135] ، ووقوفهم على ما تضمنته كتبهم من أنه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلي إلى القبلتين ، والجملة عطف على قَدْ نَرى بجامع أن السابقة مسوقة لبيان أصل التحويل وهذه لبيان حقيته قيل : أو اعتراضية لتأكيد أمر القبلة وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراض بين الكلامين جيء به للوعد والوعيد للفريقين من أهل الكتاب الداخلين تحت العموم السابق المشار إليهما فيما سيجيء قريبا إن شاء اللّه تعالى وهما من كتم ومن لم يكتم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالتاء فهو وعد للمؤمنين ، وقيل : على قراءة الخطاب وعدلهم ، وقراءة الغيبة وعيد لأهل الكتاب مطلقا وقيل : الضمير على القراءتين لجميع الناس فيكون وعدا ووعيدا لفريقين من المؤمنين والكافرين.
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عطف على وَإِنَّ الَّذِينَ بجامع أن كلا منهما مؤكد لأمر القبلة ومبين لحقيته والمراد من الموصول الكفار من أولئك بدليل الجواب ولذا وضع المظهر موضع المضمر ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما ينافيه من الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله بِكُلِّ آيَةٍ وحجة قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق واللام موطئة لقسم محذوف ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب القسم ساد مسد جواب الشرط لا جواب الشرط ، لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 410
للقسم لا للشرط إن لم يكن مانع فكيف إذا كان كترك الفاء هاهنا فإنها لازمة في الماضي المنفي إذا وقع جزاء وهذا تسلية للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن قبولهم الحق ، والمعنى أنهم ما تركوا قِبْلَتَكَ لشبهة تدفعها بحجة وإنما خالفوك لمحض العناد وبحت المكابرة ، وليس المراد من التعليق بالشرط الإخبار عن عدم متابعتهم على أبلغ وجه وآكده بأن يكون المعنى أنهم لا يتبعونك أصلا - وإن أتيت بكل - حجة فاندفع ما قيل : كيف حكم بأنهم لا يتبعون وقد آمن منهم فريق واستغنى عن القول بأن ذلك في قوم مخصوصين أو حكم على الكل دون الأبعاض فإنه تكلف مستغنى عنه وإضافة القبلة إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم لأن اللّه تعالى تعبده باستقبالها وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أي لا يكون ذلك منك ومحال أن يكون فالجملة خبرية لفظا ومعنى سيقت لتأكيد حقية أمر القبلة كل التأكيد وقطع تمني أهل الكتاب فإنهم قالوا : يا محمد عد إلى قبلتنا ونؤمن بك ونتبعك مخادعة منهم لعنهم اللّه تعالى ، وفيها إشارة إلى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة أبدا ، وقيل : إنها خبرية لفظا إنشائية معنى ومعناها النهي أي لا تتبع قبلتهم أي داوم على عدم اتباعها ، وأفرد القبلة وإن كانت مثناة إذ لليهود قبلة وللنصارى قبلة لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين فصار الاثنان واحدا من حيث البطلان ، وحسن ذلك المقابلة لأن قبلة ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وقد يقال : إن الإفراد بناء على أن قبلة الطائفتين الحقة في الأصل بيت المقدس وعيسى عليه السلام لم يصل جهة الشرق حتى رفع وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم ثم بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الاستقبال إلى الشرق واعتذروا بأن المسيح عليه السلام فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء وذكروا لهم أن في الشرق أسرارا ليست في غيره ولهذا كان مولد المسيح شرقا كما
يشير إليه قوله تعالى : إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
[مريم : 16] واستقبل المسيح حين صلب بزعمهم الشرق ، وقيل : إن بعض رهبانهم قال لهم : إني لقيت عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لي : إن الشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم فصدقوا وفعلوا ، ويؤيد ذلك أنه ليس في الإنجيل استقبال الشرق ، وذهب ابن القيم إلى أن قبلة الطائفتين الآن لم تكن قبلة بوحي وتوقيف من اللّه تعالى بل بمشورة واجتهاد منهم ، أما النصارى فاجتهدوا وجعلوا الشرق قبلة وكان عيسى قبل الرفع يصلي إلى الصخرة ، وأما اليهود فكانوا يصلون إلى التابوت الذي معهم إذا خرجوا وإذا قدموا بيت المقدس نصبوه إلى الصخرة وصلوا إليه فلما رفع اجتهدوا فأدى اجتهادهم إلى الصلاة إلى موضعه وهو الصخرة وليس في التوراة الأمر بذلك ، والسامرة منهم يصلون إلى طورهم بالشام قرب بلدة نابلس ، وهذان القولان إن صحا يشكل عليهما القول بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة فتدبر.
ثم إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه : كونها اسمية وتكرر فيها الاسم مرتين وتأكد نفيها بالباء وفعل ذلك اعتناء بما تقدم وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ أي أن اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية وفي ذلك بيان لتصابهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك بل حالهم فيما بينهم أيضا كذلك ، والجملة عطف على ما تقدم مؤكدة لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشىء عن فرط العناد وتسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي على سبيل الفرض وإلا فلا معنى لاستعمال أن الموضوعة للمعاني المحتملة بعد تحقق الانتفاء فيما سبق ، والمقصود بهذا الفرض ذكر مثال لاتباع الهوى وذكر قبحه من غير نظر إلى خصوصية المتبع والمتبع.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي المعلوم الذي أوحي إليك بقرينة إسناد المجيء إليه ، والمراد بعد ما بان لك الحق إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي المرتكبين الظلم الفاحش ، وهذه الجملة أيضا تقرير لأمر «القبلة» وفيها وجوه من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 411
التأكيد والمبالغة ، وهي القسم ، واللام الموطئة له ، وإن الفرضية ، وأن التحقيقية ، واللام في حيزها ، وتعريف الظالمين ، والجملة الاسمية ، وإذا الجزائية ، وإيثار «من الظالمين» على - ظالم أو الظالم - لإفادته أنه مقرر محقق وأنه معدود في زمرتهم عريق فيهم. وإيقاع - الاتباع - على ما سماه - هوى - أي لا يعضده برهان ، ولا نزل في شأنه بيان ، والإجمال والتفصيل وجعل الجائي نفس الْعِلْمِ وعد أيضا من ذلك عده واحدا «من الظالمين» مغمورا فيهم غير متعين كتعينهم فيما بين المسلمين ، فإن فيه مبالغة عظيمة للإشعار بالانتقال من مرتبة العدل إلى الظلم ، ومن مرتبة التعين والسيادة المطلقة إلى السفالة والمجهولية ، ولو جعل كُنْتَ في كُنْتَ عَلَيْها بمعنى صرت لكان أعلى كعبا في الإفادة. وأنت تعلم أن التركيب يقتضي المبالغة في الاستعمال لا المجهولية ، ولو اقتضاها فيه لكان العد معدودا في عداد المقبول ، وفي هذه المبالغات تعظيم لأمر الحق وتحريض على اقتفائه وتحذير عن متابعة الهوى ، واستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الانذار عليه أحوج حفظا لمرتبته ، وصيانة لمكانته ، فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي والمعني به غيره.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ مبتدأ وخبر ، والمراد بهم العلماء لأن - العرفان - لهم حقيقة ، ولذا وضع المظهر موضع المضمر ، ولأن - أوتوا - يستعمل فيمن لم يكن له قبول ، وآتينا أكثر ما جاء فيمن له ذلك ، وجوز أن يكون الموصول بدلا من الموصول الأول ، أو لَمِنَ الظَّالِمِينَ فتكون الجملة حالا من الْكِتابَ أو من الموصول ، ويجوز أن يكون نصبا بأعني ، أو رفعا على تقديرهم ، وضمير يَعْرِفُونَهُ لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم - وإن لم يسبق ذكره - لدلالة قوله تعالى : كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ عليه ، فإن تشبيه معرفته بمعرفة - الأبناء - دليل على أنه المراد ، وقيل : المرجع مذكور فيما سبق صريحا بطريق الخطاب ، فلا حاجة إلى اعتبار التقديم المعنوي «غاية الأمر» أن يكون هاهنا التفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له عليه الصلاة والسلام من حيث ذاته ونسبه الزاهر ، بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التي تستلزم إفحامهم ، ومن جملتها أنه يصلي إلى القبلتين ، كأنه قال : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكتاب يعرفون من وصفناه فيه ، وأجيب بأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وإن خوطب في الكلام الذي في شأن «القبلة» مرارا لكنه لا يحسن إرجاع الضمير إليه لأن هذه الجملة اعتراضية مستطردة بعد ذكر أمر «القبلة» وظهورها عند أهل الكتاب بجامع المعرفة الجلية مع الطعن - ولذا لم تعطف - فلو رجع الضمير إلى المذكور لأوهم نوع اتصال - ولم يحسن ذلك الحسن - ودليل الاستطراد (و لكل وجهة) نعم إن قيل : بمجرد الجواز فلا بأس به إذ هو محتمل ، ولعله الظاهر بالنظر الجليل ، وقيل : الضمير - للعلم - المذكور بقوله تعالى : مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أو القرآن بادعاء حضوره في الأذهان ، أو للتحويل لدلالة مضمون الكلام السابق عليه ، وفيه أن التشبيه يأبى ذلك لأن المناسب تشبيه الشيء بما هو من جنسه ، فكان الواجب في
نظر البلاغة حينئذ كما يعرفون التوراة أو الصخرة ، وأن التخصيص بأهل الكتاب يقتضي أن تكون هذه المعرفة مستفادة من الْكِتابَ وقد أخبر سبحانه عن ذكر نعته صلى اللّه تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل بخلاف المذكورات فإنها غير مذكور فيه ذكرها فيهما - والكاف - في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي يَعْرِفُونَهُ بالأوصاف المذكورة في الْكِتابَ بأنه النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم عرفانا مثل - عرفانهم أبناءهم - بحيث لا تلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم ، وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلّا منهما يتعذر الاشتباه فيه ، والمراد - بالأبناء - الذكور لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء ، وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات ، فكان ظن اشتباه أشخاصهم أبعد ، وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 412
الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولية - بخلاف الأبناء - فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه. وما حكي عن عبد اللّه بن سلام أنه قال في شأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : أنا أعلم به مني بابني ، فقال له عمر رضي اللّه تعالى عنه :
لم؟ قال : لأني لست أشك بمحمد أنه نبي ، فأما ولدي فلعل والدته خانت ، فقبل عمر رضي اللّه تعالى عنه رأسه ، فمعناه أني لست أشك في نبوته عليه الصلاة والسلام بوجه ، وأما ولدي فأشك في بنوته وإن لم أشك بشخصه ، وهو المشبه به في الآية فلا يتوهم منه أن - معرفة الأبناء - لا تستحق أن يشبه بها لأنها دون المشبه للاحتمال ، ولا يحتاج إلى القول بأنه يكفي في وجه الشبه كونه أشهر في المشبه به - وإن لم يكن أقوى - ومعرفة الأبناء - أشهر من غيرها ، ولا إلى تكلف أن المشبه به في الآية إضافة - الأبناء - إليهم مطلقا سواء كانت حقة أو لا. وما ذكره ابن سلام كونه ابنا له في الواقع وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ وهم الذين لم يسلموا.
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ الذي يعرفونه وَهُمْ يَعْلَمُونَ جملة حالية ، ويَعْلَمُونَ إما منزلة منزلة اللازم ففيه تنبيه على كمال شناعة كتمان الحق وأنه لا يليق بأهل العلم ، أو المفعول محذوف أي «يعلمونه» فيكون حالا مؤكدة لأن لفظ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يدل على علمه إذ - الكتم - إخفاء ما يعلم ، أو يعلمون عقاب الكتمان ، أو أنهم لَيَكْتُمُونَ فتكون مبينة ، وهذه الجملة عطف على ما تقدم من عطف الخاص على العام ، وفائدته تخصيص من عاند وكتم بالذم ، واستثناء من آمن وأظهر علمه عن حكم الكتمان الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ استئناف كلام قصد به رد الكاتمين ، وتحقيق أمر رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولذا فصل ، والْحَقُّ إما مبتدأ خبره الجار - واللام - إما للعهد إشارة إلى ما جاء به النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ولذا ذكر بلفظ المظهر أو الحق الذي كتمه هؤلاء ووضع فيه المظهر موضع المضمر تقريرا لحقيته وتثبيتا لها ، أو للجنس وهو يفيد قصر جنس الْحَقُّ على ما ثبت من اللّه أي أن الْحَقُّ ذلك كالذي أنت عليه لا غيره كالذي عليه أهل الكتاب ، وإما خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ، أو هذا الحق ، ومِنْ رَبِّكَ خبر بعد خبر أو حال مؤكدة - واللام - حينئذ للجنس كما في ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة : 2] ومعناه أن ما يكتمونه هو الحق - لا ما يدعونه ويزعمونه - ولا معنى حينئذ للعهد لأدائه إلى التكرار فيحتاج إلى تكلف.
وقرأ الإمام علي كرم اللّه تعالى وجهه «الحق» بالنصب على أنه مفعول يَعْلَمُونَ أو بدل ، ومِنْ رَبِّكَ حال منه ، وبه يحصل مغايرته للأول وإن اتحد لفظهما ، وجوز النصب بفعل مقدر - كالزم - وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة من إظهار اللطف به صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما لا يخفى.
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين أو المترددين في كتمانهم الحق عالمين به ، أو في أنه مِنْ رَبِّكَ وليس المراد نهي الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن ذلك لأن النهي عن شيء يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسالة صلى اللّه تعالى عليه وسلم فلا فائدة في نهيه ، ولأن المكلف به يجب أن يكون اختياريا ، وليس الشك والتردد مما يحصل بقصد واختيار بل المراد إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائنا من كان ، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه فيجعل النهي مجازا عن ذلك الأمر وفي جعل امتراء الأمة امتراءه صلّى اللّه عليه وسلّم مبالغة لا تخفى ، ولك أن تقول : إن الشك ونحوه وإن لم يكن مقدور التحصيل لكنه مقدور لإزالة البقاء ، ولعل النهي عنه بهذا الاعتبار ولهذا قال اللّه تعالى : فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ دون فلا تمتر ، ومن ظن أن منشأ الاشكال إفخام الكون لأنه هو الذي ليس مقدورا فلا ينهى عنه دون الشك والتردد لم يأت بشيء لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
أي لكل أهل ملة أو جماعة من المسلمين واليهود والنصارى أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، وتنوين - كل - عوض عن المضاف إليه و- وجهة - جاء

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 413
على الأصل والقياس جهة مثل عدة وزنة وهي مصدر بمعنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى المخلوق وهو محذوف الزوائد لأن الفعل توجه أو اتجه ، والمصدر التوجه أو الاتجاه ، ولم يستعمل منه وجه كوعد ، وقيل : إنها اسم للمكان المتوجه إليه فثبوت الواو ليس بشاذ وقرأ أبيّ - ولكل قبلة - وَمُوَلِّيها
الضمير المرفوع عائد إلى - كل باعتبار لفظه ، والمفعول الثاني للوصف محذوف أي وجهه أو نفسه أي مستقبلها ، ويحتمل أن يكون الضمير للّه تعالى أي - اللّه موليها - إياه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قرأ «ولكل وجهة» بالإضافة ، وقد صعب تخريجها حتى تجرأ بعضهم على ردها وهو خطأ عظيم ، وخرجها البعض أن - كل - كان في الأصل منصوبا على أنه مفعول به لعامل محذوف يفسره وَلِّيها
وضميروَ
عائد إلى اللّه تعالى قطعا ثم زيدت اللام في المفعول به صريحا لضعف العامل المقدر من جهتين ، كونه اسم فاعل وتقديم المعمول عليه والمفعول الآخر محذوف - أي لكل وجهة اللّه مولى موليها - ورد بأن لام التقوية لا تزاد في أحد مفعولي المتعدي لاثنين ، لأنه إما أن تزاد في الآخر ولا نظير له ، أو لا فيلزم الترجيح بلا مرجح ، وإن أجيب بإطلاق النحاة يقتضي جوازه ، والترجيح بلا مرجح مدفوع هنا بأنه ترجح بتقديمه وقيل : إن المجرور معمول للوصف المذكور على أنه مفعول به له واللام مزيدة ، أو أن الكلام من باب الاشتغال بالضمير ، ولا يخفى أن هذين التخريجين يحوج أولهما إلى إرجاع الضمير المجرور بالوصف إلى التولية ، وجعله مفعولا مطلقا كقوله : هذا سراقة للقرآن يدرسه لئلا يقال : كيف يعمل الوصف مع اشتغاله بالضمير ، وثانيهما إلى القول : بأنه قد يجيء المجرور من باب الاشتغال على قراءة من قرأ «والظالمين أعدلهم» والقول : بأن اللام أصلية ، والجار متعلق - بصلوا - محذوفا أو باستبقوا والفاء زائدة بعيد بل لا أكاد أجيزه ، وقرأ ابن عامر ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - مولاها - على صيغة اسم المفعول - أي هو قد ولي تلك الجهة - فالضمير المرفوع حينئذ عائد إلى كل البتة ، ولا يجوز رجوعه إلى اللّه تعالى لفساد المعنى ، وأخرج ابن جرير وابن أبي داود في المصاحف عن منصور قال : نحن نقرأ - ولكل جعلنا قبلة يرضونها - اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
جمع خيرة بالتخفيف وهي الفاضلة من كل شيء ، والتأنيث باعتبار الخصلة ، «واللام» للاستغراق فيعم المحلى أمر القبلة وغيره ، والخطاب للمؤمنين ، والاستباق متعد كما في التاج ، وقيل : لازم ، و«إلى» بعده مقدرة أي إذا كان كذلك فبادروا أيها المؤمنون ما به يحصل السعادة في الدارين من استقبال القبلة وغيره ولا تنازعوا من خالفكم إذ لا سبيل إلى الاجتماع على قبلة واحدة لجري العادة على تولية كل قوم قبلة يستقبلها ، وفي أمر المؤمنين بطلب التسابق فيما بينهم كما قال السعد : دلالة على طلب سبق غيرهم بطريق الأولى ، وقيل : الاقتصار على سبق بعضهم إشارة إلى أن غيرهم ليس في
طريق الخير حتى يتصور أمر أحد بالسبق إلى الخير عليه ، ويجوز أن تكون «اللام» للعهد فالمراد بالخيرات الفاضلات من الجهات التي تسامت الكعبة ، وفيه إشارة إلى أن الصلاة إلى عين الكعبة أكثر ثوابا من الصلاة التي جهتها ، وقيل : يحتمل أن يراد بها الصلوات الفاضلات ، والمراد - بالاستباق - السرعة فيها والقيام بها في أول أوقاتها ، وفيه بعد ، وأبعد منه ما قيل : إن المعنى - فاستبقوا قبلتكم - وعبر عنها بالخيرات إشارة إلى اشتمالها على كل خير.
واستدل الشافعية بالآية على أن الصلاة في أول الوقت بعد تحققه أفضل وهي مسألة فرغ منها في الفروع ، ولبعض العارفين في الآية وجه آخر وهو أنه تعالى جعل الناس في أمور دنياهم وأخراهم على أحوال متفاوتة ، فجعل بعضهم أعوان بعض فواحد يزرع وآخر يطحن وآخر يخبز ، وكذلك في أمر الدين ، واحد يجمع الحديث. وآخر يحصل الفقه وآخر يطلب الأصول ، وهم في الظاهر مختارون ، وفي الباطن مسخرون ، وإليه الإشارة
بقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «كل ميسر لما خلق له»
ولهذا قال بعض الصالحين لما سئل عن تفاوت الناس في أفعالهم : كل ذلك طرق إلى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 414
اللّه تعالى أراد أن يعمرها بعباده ومن تحرى وجه اللّه تعالى في كل طريق يسلكه وصل إليه لكن ينبغي تحري الأحسن من تلك الطرق إذ المراتب متفاوتة والشؤون مختلفة ومظاهر الأسماء شتى ، وقيل : المراد بها أن لكل أحد قبلة فقبلة المقربين العرش والروحانيين الكرسي والكروبيين البيت المعمور والأنبياء قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة ، وهي قبلة جسدك ، وأما قبلة روحك فأنا ، وقبلتي أنت كما يشير إليه
«أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي»
ْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
أين ظرف مكان تضمن معنى الشرط ، وا
مزيدة وأْتِ
جوابها والمعنى في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة لطبعكم كالأرض أو المخالفة كالسماء أو المجتمعة الأجزاء كالصخرة أو المتفرقة التي يختلط بها ما فيها كالرمل يحشركم اللّه تعالى إليه لجزاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والجملة معللة لما قبلها ، وفيها حث على الاستباق بالترغيب والترهيب وهي على حد قوله تعالى : يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان : 16] أو في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض اللّه تعالى أرواحكم إليه فهي على حد قوله تعالى : أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء : 78] ففيها حث على الاستباق باغتنام الفرصة فإن الموت لا يختص بمكان دون مكان ، أو أَيْنَما تَكُونُوا من الجهات المتقابلات يمنة ويسرة وشرقا وغربا يجعل اللّه تعالى صلاتكم مع اختلاف جهاتها في حكم صلاة متحدة الجهة كأنها إلى عين الكعبة أو في المسجد الحرام - فيأت بكم - مجاز عن جعل الصلاة متحدة الجهة وفائدة الجملة المعللة حينئذ بيان حكم الأمر بالاستباق ، ومنهم من قال : الخطاب في استبقوا إما عام للمؤمنين والكافرين ، وإما خاص بالمؤمنين فعلى الأول يراد هنا العموم أي في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة للحق أو المخالفة له ، وعلى الثاني الخصوص - أي أينما تكونوا في الصلاة أيها المؤمنون من الجهات المتقابلة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بعد أن تولوا جهة الكعبة يجعل اللّه تعالى صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة لاتحادكم في الجهة التي أمرتم بالاتجاه إليها - وليس بشيء كما لا يخفى نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ومن ذلك إماتتكم وإحياؤكم ، وجمعكم والجملة وتأكيد لما تقدم.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على اسْتَبِقُوا
وحَيْثُ ظرف لازم الإضافة إلى الجمل غالبا ، والعامل فيها ما هو في محل الجزاء لا الشرط فهي هنا متعلقة - بولّ - والفاء صلة للتنبيه على أن ما بعدها لازم لما قبلها لزوم الجزاء للشرط لأن - حيث - وإن لم تكن شرطية لكنها لدلالتها على العموم أشبهت كلمات الشرط ففيها رائحة الشرط ، ولا يجوز تعلقها - بخرجت - لفظا وإن كانت ظرفا له معنى لئلا يلزم عدم الإضافة والمعنى من أي موضع خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ من ذلك الموضع شَطْرَ إلخ وَمِنْ ابتدائية لأن الخروج أصل لفعل ممتد وهو المشي وكذا التولية أصل للاستقبال وقت الصلاة الذي هو ممتد ، وقيل :
إن - حيث - متعلقة - بولّ - والفاء ليست زائدة ، وما بعدها يعمل فيما قبلها كما بين في محله إلا أنه لا وجه لاجتماع الفاء والواو فالوجه أن يكون التقدير افعل ما أمرت به من حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ فيكون فَوَلِّ عطفا على المقدر ، ويجوز أن يجعل - من حيث خرجت - بمعنى أينما كنت وتوجهت فيكون - فول - جزاء له على أنها شرطية العامل فيها الشرط - ولا يخفى ما فيه من التكلف - والتخريج على قول ضعيف لم يذهب إليه إلا الفراء وهو شرطية - حيث - بدون - ما - حتى قالوا : إنه لم يسمع في كلام العرب ، ثم الأمر بالتولية مقيد بالقيام إلى الصلاة للإجماع على عدم وجوب استقبال القبلة في غير ذلك.
وَإِنَّهُ أي الاستقبال أو الصرف أو التولية والتذكير باعتبار أنها أمر من الأمور أو لتذكير الخبر أو لعدم الاعتداد

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 415
بتأنيث المصدر أو بذي التاء الذي لا معنى للمجرد عنه سواء كان مصدرا أو غيره ، وإرجاع الضمير للأمر السابق واحد الأوامر على قربه بعيد لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الثابت الموافق للحكمة.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازيكم بذلك أحسن الجزاء فهو وعيد للمؤمنين ، وقرى ء - يعملون - على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين ، والجملة عطف على ما قبلها وهما اعتراض للتأكيد.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ معطوف على مجموع قوله تعالى : لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
إلخ أو على قوله تعالى : قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ إلخ عطف القصة على القصة وليس معطوفا على قوله تعالى : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ الداخل تحت فاء السببية الدالة على ترتبه على قوله تعالى : لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
لأنه معلل بقوله تعالى : لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وهو وإن كان علة - لولوا - لا لمحذوف - أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم - والحجة في ذلك كما قيل به : إلا أنه يفهم منه كونه علة - لول - لأن انقطاع الحجة بالتولية إذا حصل للأمة كان حصوله بها للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم بطريق الأولى ، ولو جعل الخطاب عاما للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم والأمة ولم يلتزم تخصيصه بالأمة على حد خطابات الآية كان علة لهما وإنما كرر هذا الحكم لتعدد علله ، والحصر المستفاد من «إلا لنعلم» إلخ إضافي أو ادعائي فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل ، تعظيم الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم بابتغاء مرضاته أولا ، وجري العادة الإلهية على أن يؤتى كل أهل ملة وجهة «ثانيا» ودفع حجج المخالفين «ثالثا» فإن التولية إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة لا الصخرة وهذا النبي يصلي إلى الصخرة فلا يكون النبي الموعود ، وبأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يدعي أنه صاحب شريعة ويتبع قبلتنا وبينهما تدافع لأن عادته سبحانه وتعالى جارية بتخصيص كل صاحب شريعة بقبلة ، وتدفع احتجاج المشركين بأنه عليه الصلاة والسلام يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته وترك سبحانه التعميم بعد التخصيص في المرتبة الثالثة اكتفاء بالعموم المستفاد من العلة ، وزاد مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ دفعا لتوهم مخالفة حال السفر لحال الحضر بأن يكون حال السفر باقيا على ما كان كما في الصلاة حيث زيد في الحضر ركعتان أو يكون مخيرا بين التوجهين كما في الصوم.
وقد يقال فائدة هذا التكرار الاعتناء بشأن الحكم لأنه من مظان الطعن وكثرة المخالفين فيه لعدم الفرق بين النسخ والبداء ، وقيل : لا تكرار فإن الأحوال ثلاثة ، كونه في المسجد ، وكونه في البلد خارج المسجد ، وكونه خارج البلد ، فالأول محمول على الأول ، والثاني على الثاني ، والثالث على الثالث ، ولا يخفى أنه مجرد تشبيه لا يقوم عليه دليل.
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ إخراج من الناس ، وهو بدل على المختار ، والمعنى عند القائلين : بأن الاستثناء من النفي إثبات لئلا يكون لأحد من الناس عليكم حجة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالعناد فإن لهم عليكم حجة فإن اليهود منهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده ، والمشركين منهم يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم ، وتسمية هذه الشبهة الباطلة حجة مع أنها عبارة عن البرهان المثبت للمقصود لكونها شبيهة بها باعتبار أنهم يسوقونها مساقها ، واعترض بأن صدر الكلام لو تناول هذا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وإلا لم يصح الاستثناء لأن الحجة مختصة بالحقيقة ، ولا محيص سوى أن يراد بالحجة المتمسك حقا كان أو باطلا ، وأجيب بأنه لم يستثن شبهتهم عن الحجة بل ذواتهم عن الناس إلا أنه لزم تسمية شبهتهم حجة باعتبار مفهوم المخالفة فلا حاجة إلى تناول الصدر إياها ، وأنت تعلم أن مراد المعترض إن الاستثناء وإن كان من الناس إلا أنه يثبت به ما نفي عن المستثني منه للمستثني بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات فإن كان الصدر مشتملا على ما أثبت للمستثني لزم الجمع وإلا لم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 416
يتحقق الاستثناء بمقتضاه إذ الثابت للمستثنى منه شيء وللمستثني شيء آخر ، ولا محيص للتفصي عن ذلك إلا أن يراد بالحجة المتمسك أو ما يطلق عليه الحجة في الجملة فيتحقق حينئذ الاستثناء بمقتضاه لأن الشبهة حجة بهذا المعنى كالبرهان ، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، ولك أن تحمل الحجة على الاحتجاج والمنازعة كما في قوله تعالى : لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ [الشورى : 15] فأمر الاستثناء حينئذ واضح إلا أن صوغ الكلام بعيد عن الاستعمال عند إرادة هذا المعنى ، وقيل : الاستثناء منقطع ، وهو من تأكيد الشيء بضده وإثباته بنفيه ، والمعنى إن يكن لهم حجة فهي الظلم والظلم لا يمكن أن يكون حجة فحجتهم غير ممكنة أصلا فهو إثبات بطريق البرهان على حد قوله :
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم «يلام» بنسيان الأحبة والوطن
وقرأ زيد بن عليّ رضي اللّه تعالى عنهما «ألا» بالفتح والتخفيف وهي حرف يستفتح به الكلام لينبه السامع إلى الإصغاء ، والَّذِينَ مبتدأ خبره قوله تعالى : فَلا تَخْشَوْهُمْ والفاء زائدة فيه للتأكيد ، وقيل : لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وجوز أن يكون الموصول نصبا على شريطة التفسير ، والمشهور أن - الخشية - مرادفة للخوف أي فلا تخافوا الظالمين لأنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر ، وجوز عود الضمير إلى الناس وفيه بعد.
وَاخْشَوْنِي أي وخافوني فلا تخالفوا أمري فإني القادر على كل شيء ، واستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول بها الإمامية ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق ذلك في محله.
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الظاهر من حيث اللفظ أنه عطف على قوله تعالى : لِئَلَّا يَكُونَ كأنه قيل : فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ولأتم - إلخ فهو علة لمذكور أي أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين ، أما دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين ، وأما عقبى فلإثابتكم الثواب الأوفى ولا يرد الفصل بالاستثناء وما بعده لأنه - كلا فصل - إذ هو من متعلق العلة الأولى ، نعم اعترض ببعد المناسبة وبأن إرادة الاهتداء المشعر بها الترجي إنما تصلح علة للأمر بالتولية لا لفعل المأمور به كما هو الظاهر في المعطوف عليه فالظاهر معنى جعله علة لمحذوف أي وأمرتكم بالتولية - والخشية - لإتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم - والجملة المعللة معطوفة على الجملة المعللة السابقة ، أو عطف على علة مقدرة مثل وَاخْشَوْنِي لأحفظكم ولأتم إلخ. ورجح بعضهم هذا الوجه بما أخرجه البخاري في الأدب المفرد. والترمذي من حديث معاذ بن جبل «تمام النعمة دخول الجنة» ولا يخفى أنه على الوجه الأول قد يؤول الكلام إلى معنى - فاعبدوا ، وصلوا متجهين شطر المسجد الحرام لأدخلكم الجنة - والحديث لا يأبى هذا بل يطابقه حذو القذة بالقذة فكونه مرجحا لذلك بمعزل عن التحقيق «فإن قيل» إنه تعالى أنزل عند قرب وفاته صلى اللّه تعالى عليه وسلم الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة : 3] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك بسنين في هذه الآية : وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ؟ أجيب بأن تمام النعمة في كل وقت بما يليق به فتدبر.
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ متصل بما قبله ، فالكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، والتقدير - لأتم نعمتي عليكم - في أمر القبلة أو في الآخرة إتماما مثل إتمام إرسال الرسول ، وذكر الإرسال وإرادة الإتمام من إقامة السبب مقام المسبب ، وفِيكُمْ متعلق - بأرسلنا - وقدم على المفعول الصريح تعجيلا بإدخال السرور ولما في صفاته من الطول ، وقيل : متصل بما بعده أي اذكروني ذكرا مثل ذكري لكم بالإرسال ، أو اذكروني بدل إرسالنا فيكم رسولا فالكاف للمقابلة متعلق باذكروني ، ومنها يستفاد التشبيه لأن المتقابلين متشابهان ومتبادلان ، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد افتنان وجريان على سنن الكبرياء وإشارة إلى عظمة نعمة هذا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 417
الإرسال ، وهذا الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا صفة رسولا ، وفيه إشارة إلى طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي الآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الأخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته وَيُزَكِّيكُمْ أي يطهركم من الشرك وهي صفة أخرى للرسول وأتى بها عقب التلاوة لأن التطهير عن ذلك ناشىء عن إظهار المعجزة لمن أراد اللّه تعالى توفيقه وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم الْكِتابَ وتفهيم ما انطوى عليه من الحكمة الإلهية والأسرار الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك بالاتباع ، وأما قبل ذلك فالكفر حجاب ، وقدم التزكية على التعليم في هذه الآية وأخرها عنه في دعوة إبراهيم لاختلاف المراد بها في الموضعين ، ولكل مقام مقال ، وقيل : التزكية عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة إلا أنها وسطت بين التلاوة والتعليم المترتب عليها للإيذان بأن كلّا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة ، وقيل : قدمت التزكية تارة وأخرت أخرى لأنها علة غائية لتعليم الْكِتابَ والحكمة ، وهي مقدمة في القصد والتصور مؤخرة في الوجود والعمل فقدمت وأخرت رعاية لكل منهما ، واعترض بأن غاية التعليم صيرورتهم أزكياء عن الجهل لا تزكية الرسول عليه الصلاة والسلام إياها المفسرة بالحمل على ما يصيرون به أزكياء لأن ذلك إما بتعليمه إياهم أو بأمرهم بالعمل به فهي إما نفس التعليم أو أمر لا تعلق له به «1» ، وغاية ما يمكن أن يقال : إن التعليم باعتبار أنه يترتب عليه
زوال الشك وسائر الرذائل تزكيته إياهم فهو باعتبار غاية وباعتبار مغيا - كالرمي.
والقتل - في قولهم : رماه فقتله فافهم وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي وكان الظاهر وما لَمْ تَكُونُوا ليكون من عطف المفرد على المفرد إلا أنه تعالى كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى اللّه تعالى عليه وسلم نعمة عظيمة ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون فَاذْكُرُونِي بالطاعة قلبا وقالبا فيعم الذكر باللسان والقلب والجوارح ، فالأول - كما في المنتخب - الحمد والتسبيح والتحميد وقراءة كتاب اللّه تعالى «والثاني» الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والوعد والوعيد وفي الصفات الإلهية والأسرار الربانية.
«والثالث» استغراق الجوارح في الأعمال المأمور بها خالية عن الأعمال المنهي عنها ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها اللّه تعالى ذكرا في قوله : فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة : 9] وقال أهل الحقيقة : حقيقة ذكر اللّه تعالى أن ينسى كل شيء سواه أَذْكُرْكُمْ أي أجازكم بالثواب ، وعبر عن ذلك بالذكر للمشاكلة ولأنه نتيجته ومنشؤه ، وفي الصحيحين «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه»
وَاشْكُرُوا لِي ما أنعمت به عليكم وهو - واشكروني - بمعنى ولي أفصح مع الشكر وإنما قدم الذكر على الشكر لأن في الذكر اشتغالا بذاته تعالى وفي الشكر اشتغالا بنعمته والاشتغال بذاته تعالى أولى من الاشتغال بنعمته.
وَلا تَكْفُرُونِ بجحد نعمتي وعصيان أمري وأردف الأمر بهذا النهي ليفيد عموم الأزمان وحذف ياء المتكلم تخفيفا لتناسب الفواصل وحذفت نون الرفع للجازم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ على الذكر والشكر وسائر الطاعات من الصوم والجهاد وترك المبالاة
___________
(1) قوله : «أو أمر لا تعلق له به» كذا بخطه ولعل حق العبارة له تعلق به تأمل ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 418
بطعن المعاندين في أمر القبلة وَالصَّلاةِ التي هي الأصل والموجب لكمال التقرب إليه تعالى.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ معية خاصة بالعون والنصر ولم يقل مع المصلين لأنه إذا كان مع الصابرين كان مع المصلين من باب أولى لاشتمال الصلاة على الصبر وَلا تَقُولُوا عطف على اسْتَعِينُوا إلخ مسوق لبيان أنه لا غائلة للمأمور به وأن الشهادة التي ربما يؤدي إليها الصبر حياة أبدية لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته وإعلاء كلمته وهم الشهداء واللام للتعليل لا للتبليغ لأنهم لم يبلغوا الشهداء قولهم : أَمْواتٌ أي هم أموات. بَلْ أَحْياءٌ.
أي بل هم أحياء ، والجملة معطوفة على لا تَقُولُوا إضراب عنه ، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بل - قولوا أحياء - لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم إنهم أحياء وإن كان ذلك أيضا صحيحا وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ. أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي - واختلف في هذه الحياة - فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقية بالروح والجسد ولكنا لا ندركها في هذه النشأة ، واستدلوا بسياق قوله تعالى : عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران : 169] وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم ، وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون لا ينافي ذلك - فقد روي عن الحسن - أن الشهداء أحياء عند اللّه تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الرّوح «1» والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الوجع ، فوصول هذا الروح إلى الروح هو الرزق والامتياز ليس بمجرد الحياة بل مع ما ينضم إليها من اختصاصهم بمزيد القرب من اللّه عز شأنه ومزيد البهجة والكرامة ، وذهب البلخي إلى نفي الحياة بالفعل عنهم مطلقا - وأخرج الجملة الاسمية الدالة على الاستمرار المستوعب للأزمنة من وقت القتل إلى ما لا آخر له عن ظاهرها - وقال :
معنى بَلْ أَحْياءٌ إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء ، فالآية على حد إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار : 13 ، 14] وفائدة الأخبار بذلك الرد على المشركين حيث قالوا : إن أصحاب محمد يقتلون أنفسهم ويخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم فكأنه قيل : ليس الأمر كما زعمتم بل يحيون ويخرجون ، وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل كما
روي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة ،
وحكي عن الأصم أن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى أي لا تقولوا هم أموات في الدين ضالون عن الصراط المستقيم بل هم أحياء بالطاعة قائمون بأعبائها ، ولا يخفى أن هذه الأقوال - ما عدا الأولين - في غاية الضعف بل نهاية البطلان ، والمشهور ترجيح القول الأول ، ونسب إلى ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد والحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجبائي والرماني وجماعة من المفسرين لكنهم اختلفوا في المراد بالجسد ، فقيل : هو هذا الجسد الذي هدمت بنيته بالقتل ولا يعجز اللّه تعالى أن يحل به حياة تكون سبب الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا يرى فيه شيء من علامات الإحياء ، فقد جاء
في الحديث «إن المؤمن يفسح له مد بصره ، ويقال له نم نومة العروس»
مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر بمعزل عن أذهاننا وإدراك قوانا. وقيل : جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه ، واستدل بما
أخرجه عبد الرزاق عن عبد اللّه بن كعب بن مالك قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها اللّه تعالى يوم القيامة»
ولا يعارض هذا ما
أخرجه
___________
(1) - الروح - بفتح الراء الراحة والسرور ا ه - ادارة.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 419
مالك وأحمد والترمذي وصححه والنسائي ، وابن ماجة عن كعب بن مالك : «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة - أو - شجر الجنة»
ولا ما
أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا «إن أرواح الشهداء عند اللّه في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش»
لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور إذ الرائي لا يرى سواها ، وقيل : جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال : رأيت فلانا - وإلى ذلك ذهب بعض الإمامية - واستدلوا بما
أخرجه أبو جعفر مسندا إلى يونس بن ظبيان قال : كنت عند أبي عبد اللّه جالسا فقال : ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت : يقولون : في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش ، فقال أبو عبد اللّه :
سبحان اللّه! المؤمن أكرم على اللّه تعالى من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه اللّه تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.
ووجه الاستدلال إذا كان المراد - بالمؤمنين - الشهداء ظاهر ، وأما إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى ، وعندي أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره ، وأن الأرواح - وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها - مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف ، وليس ذلك من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال ، وإنما يكون منه لو لم تعد إلى جسم نفسها الذي كانت فيه - والعود حاصل في النشأة الجنانية - بل لو قلنا بعدم عودها إليه والتزمنا العود إلى جسم مشابه لما كان في الدنيا مشتمل على الأجزاء النطقية الأصلية أو غير مشتمل لا يلزم ذلك التناسخ أيضا لأنهم قالوه على وجه نفوا به الحشر والمعاد ، وأثبتوا فيه سرمدية عالم الكون والفساد ، وأن أرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق على وجه يمتازون به عمن عداهم إما في أصل التعلق أو في نفس الحياة بناء على أنها من المشكك لا المتواطئ ، أو في نفس المتعلق به مع ما ينضم إلى ذلك من البهجة والسرور والنعيم اللائق بهم ، والذي يميل القلب إليه أن لهاتيك الأبدان شبها تاما صوريا بهذه الأبدان ، وأن المواد مختلفة والأجزاء متفاوتة - إذ فرق بين العالمين ، وشتان ما بين البرزخين - ويمكن حمل أحاديث الطير على تشبيه هذه الأبدان الغضة الطرية بسرعة حركتها وذهابها حيث شاءت بالطير الخضر ، وتحمل الصورة على الصفة كما حملت على ذلك
في حديث «خلق آدم على صورة الرحمن»
واستبعاد أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه ما تقدم محمول على ما يفهمه العامة من ظاهر اللفظ ، ولمزيد الإيضاح اللائق بعوام وقته عدل عنه إلى عبارة لا يتراءى منها شائبة استبعاد كما يتراءى من ظاهر الحديث حتى أن بعض العلماء لذلك حملوا «في» فيه على - على - وهو إما تجاهل أو جهل بأن صغر المتعلق أو ضيقه لو كان موجودا فيما نحن فيه لا يضر الروح شيئا ولا ينافي نعيمها ، أو ظن بأن لتلك الصورة روحا غير روح - الشهيد - فلا يمكن أن تتعلق بها روحان ، والأمر على خلاف ما يظنون ، وإن شئت قلت بتمثل الروح نفسها صورة لأن الأرواح في غاية اللطافة وفيها قوة التجسد كما يشعر به ظهور الروح الأمين عليه السلام بصورة دحية الكلبي رضي اللّه تعالى عنه. وأما القول بحياة هذا الجسد الرميم مع هدم بنيته وتفرق أجزائه وذهاب هيئته - وإن لم يكن ذلك بعيدا عن قدرة من يبدأ الخلق ثم يعيده - لكن ليس إليه كثير حاجة ، ولا فيه مزيد فضل ، ولا عظيم منة ، بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة المؤمنين بالشكوك والأوهام وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما يعدون قائله من سفهة الأحلام ، وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء الذين قتلوا منذ مائة سنين ، وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دما إذا رفعت العصابة عنها فذلك مما رواه - هيان بن بيان - وما هو إلا حديث خرافة وكلام يشهد على مصدقيه تقديم السخافة.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 420
هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات ، إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ - وتلك خصوصية لهم وإن شاركهم في النعيم - بل وزاد عليهم بعض عباد اللّه تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك ، وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبدا ، وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم بالكلية بحيث إنهم ما ذاقوه أصلا ولا طرفة عين ، وإلا لقال تعالى : وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ماتوا ، فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم امتازوا بعد أن قتلوا بحياة لائقة بهم مانعة عن أن يقال في شأنهم : أَمْواتٌ وعدل سبحانه عن - قتلوا - المعبر عنه في آل عمران إلى يُقْتَلُ روما للمبالغة في النهي ، وتأكيد الفعل في تلك السورة يقوم مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين ، والآية نزلت - كما أخرجه ابن منده عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه - في شهداء بدر وكانوا عدة لياليه ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ عطف على قوله تعالى : وَاسْتَعِينُوا إلخ عطف المضمون على المضمون ، والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر ، ومضمون الثانية بيان مواطنه ، والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلى والمختبر ، ففي الكلام استعارة تمثيلية لأن الابتلاء حقيقة لتحصيل العلم ، وهو محال من اللطيف الخبير - والخطاب عام لسائر المؤمنين - وقيل : للصحابة فقط ، وقيل :
لأهل مكة فقط.
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ أي بقليل من ذلك ، والقلة بالنسبة لما حفظهم عنه مما لم يقع بهم وأخبرهم سبحانه به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم فإن مفاجأة المكروه أشد ، ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به ، وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة.
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ عطف إما على شيء ويؤيده التوافق في التنكير ومجيء البيان بعد كل وإما على الْخَوْفِ ويؤيده قرب المعطوف عليه ودخوله تحت بِشَيْءٍ والمراد من الْخَوْفِ خوف العدو ، ومن الْجُوعِ القحط إقامة للمسبب مقام السبب - قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، ومن نقص الْأَمْوالِ هلاك المواشي ، ومن نقص الْأَنْفُسِ ذهاب الأحبة بالقتل والموت ، ومن نقص الثَّمَراتِ تلفها بالجوائح ، ونص عليها مع أنها من الْأَمْوالِ لأنها قد لا تكون مملوكة ، وقال الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه :
الْخَوْفِ خوف اللّه تعالى وَالْجُوعِ صوم رمضان ، والنقص من الْأَمْوالِ الزكوات والصدقات ، ومن الْأَنْفُسِ الأمراض ، ومن الثَّمَراتِ موت الأولاد ، وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل ، كما يقال : ثمرة العلم العمل. وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم «إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم ، فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم ، فيقول اللّه تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول اللّه تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد»
واعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم والزكاة بأن خوف اللّه تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به قبل نزول الآية ، وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل ، فلا معنى للوعد بالابتلاء بذلك ، وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاة - وهي النمو والزيادة - بالنقص ، «وأجيب بأن كون قلوب المؤمنين مشحونة بالخوف قبل لا ينافي ابتلاءهم في الاستقبال بخوف آخر ، فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات ، وكذا الأمراض ، وموت الأولاد أمور متجددة يصح الابتلاء بها في الآتي من الأزمان ، والتعبير عن الزكاة - بالنقص - لكونها نقصا صورة - وإن كانت زيادة معنى - فعند الابتلاء سماها نقصا ، وعند الأمر بالأداء سماها زكاة يسهل أداؤها وَبَشِّرِ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 421
الصَّابِرِينَ
خطاب للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة ، والجملة عطف على ما قبلها عطف المضمون على المضمون من غير نظر إلى الخبرية والإنشائية - والجامع ظاهر - كأنه قيل : الابتلاء حاصل لكم - وكذا البشارة - ولكن لمن صبر منكم. وقيل : على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر ، وفي توصيف الصابرين بقوله تعالى :
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إشارة إلى أن الأجر لمن صبر وقت إصابتها ، كما
في الخبر «إنما الصبر عند أول صدمة»
والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه في نفس أو مال أو أهل - قليلا كان المكروه أو كثيرا - حتى لدغ الشوكة ، ولسع البعوضة ، وانقطاع الشسع ، وانطفاء المصباح ، وقد استرجع النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم من ذلك وقال : «كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة له وأجر»
وليس الصبر بالاسترجاع باللسان ، بل الصبر باللسان وبالقلب بأن يخطر بباله ما خلق لأجله من معرفة اللّه تعالى وتكميل نفسه ، وأنه راجع إلى ربه وعائد إليه بالبقاء السرمدي ، ومرتحل عن هذه الدنيا الفانية وتارك لها على علاتها ، ويتذكر نعم اللّه تعالى عليه ليرى ما أعطاه أضعاف ما أخذ منه فيهون على نفسه ويستسلم له ، والصبر من خواص الإنسان لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة ، والاسترجاع من خواص هذه الأمة ،
فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه قال : قال النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم ، أن تقول عند المصيبة إنا للّه وإنا إليه راجعون» وفي رواية «أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئا لم تعطه الأنبياء قبلهم ، إنا للّه وإنا إليه راجعون ولو أعطيها الأنبياء قبلهم لأعطيها يعقوب إذ يقول : يا أسفا على يوسف»
ويسن أن يقول بعد الاسترجاع : اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ،
فقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول : «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا للّه وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني إلخ ، إلا آجره اللّه تعالى في مصيبته وأخلف له خيرا منها» قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخلف اللّه تعالى لي خيرا منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ،
ومفعول بَشِّرِ محذوف أي برحمة عظيمة وإحسان جزيل - بدليل قوله تعالى : أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ الصلاة في الأصل على ما عليه أكثر أهل اللغة الدعاء ومن اللّه تعالى الرحمة ، وقيل : الثناء ، وقيل :
التعظيم ، وقيل : المغفرة ، وقال الإمام الغزالي : الاعتناء بالشأن ، ومعناها الذي يناسب أن يراد هنا سواء كان حقيقيا أو مجازيا الثناء والمغفرة لأن إرادة الرحمة يستلزم التكرار ، ويخالف ما
روي «نعم العدلان للصابرين الصلاة والرحمة»
وحملها على التعظيم والاعتناء بالشأن يأباهما صيغة الجمع ثم إن جوزنا إرادة المعنيين بتجويز عموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز أو بين المعنيين المجازيين يمكن إرادة المعنيين المذكورين كليهما وإلا فالمراد أحدهما والرحمة تقدم معناها ، وأتي بعلى إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك وقد غشيهم وتجللهم فهو أبلغ من اللام ، وجمع صَلَواتٌ للإشارة إلى أنها مشتملة على أنواع كثيرة على حسب اختلاف الصفات التي بها الثناء والمعاصي التي تتعلق بها المغفرة ، وقيل : للإيذان بأن المراد صلاة بعد صلاة على حد التثنية في «لبيك وسعديك» وفيه أن مجيء الجمع لمجرد التكرار لم يوجد له نظير ، والتنوين فيها وكذا فيما عطف عليها للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم - ومن - ابتدائية ، وقيل تبعيضية ، وثم مضاف محذوف أي من صَلَواتٌ ربهم ، وأتي بالجملة اسمية للإشارة إلى أن نزول ذلك عليهم في الدنيا والآخرة.
فقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا «من استرجع عند المصيبة جبر اللّه تعالى مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه»
وأُولئِكَ إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 422
ذكر من النعوت ، والتكرير لإظهار كمال العناية بهم ، ويجوز أن يكون إشارة إليهم باعتبار حيازتهم ما ذكر من - الصلوات والرحمة - المترتبة على ما تقدم ، فعلى الأول المراد بالاهتداء في قوله عز شأنه هُمُ الْمُهْتَدُونَ. هو الاهتداء للحق والصواب مطلقا والجملة مقررة لما قبل كأنه قيل : وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب ، ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء اللّه تعالى ، وعلى الثاني هو «الاهتداء» والفوز بالمطالب ، والمعنى أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [التوبة : 20] بمطالبهم الدينية والدنيوية فإن من نال تزكية اللّه تعالى ورحمته لم يفته مطلب.
«ومن باب الإشارة والتأويل» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان العياني اسْتَعِينُوا بالصبر معي عند سطوات تجليات عظمتي وكبريائي ، والصلاة أي الشهود الحقيقي إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ المطيقين لتجليات أنواري وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يجعل فانيا مقتولا في سلوك سبيل التوحيد أَمْواتٌ أي عجزة مساكين بَلْ هم أَحْياءٌ عند ربهم بالحياة الحقيقية الدائمة السرمدية شهداء للّه تعالى قادرون به وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ لعمى بصيرتكم وحرمانكم من النور الذي تبصر به القلوب أعيان عالم القدس وحقائق الأرواح وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ أي خوفي الموجب لانكسار النفس وانهزامها وَالْجُوعِ الموجب لهتك البدن وضعف القوى ورفع حجاب الهوى وتضييق مجاري الشيطان إلى القلب وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ التي هي مواد الشهوات المقوية للنفس الزائدة في طغيانها وَالْأَنْفُسِ المستولية على القلب بصفاتها أو أنفس الأحباب الذين تأوون إليهم لتنقطعوا إلي وَالثَّمَراتِ أي الملاذ النفسانية لتلتذوا بالمكاشفات والمعارف القلبية والمشاهدات الروحية عند صفاء بواطنكم وخلوص نضار قلوبكم بنار الرياضة وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ معي بي أو عن مألوفاتهم بلذة محبتي الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ من تصرفاتي فيهم شاهدوا آثار قدرتي بل أنوار تجليات صفتي واستسلموا وأيقنوا أنهم ملكي أتصرف فيه بتجلياتي وتفانوا فيّ وشاهدوا هلكهم بي - فقالوا إنا للّه وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم - بالوجود الموهوب لهم بعد الفناء المنهلة عليه صفاتي الساطعة عليه أنواري وَرَحْمَةٌ أي هداية يهدون بها خلقي ، ومن أراد التوجه نحوي وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بي الواصلون إلي بعد تخلصهم من وجودهم الذي هو الذنب الأعظم عندي.
[سورة البقرة (2) : الآيات 158 إلى 179]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 423

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 424
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ
لما أشار سبحانه فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالم الحج فكأنه جمع بين الحج والغزو ، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال ، وقيل : لما ذكر الصبر عقبه ببحث الحج لما فيه من الأمور المحتاجة إليه ، والصَّفا في الأصل الحجر الأملس مأخوذ من صفا يصفو إذا خلص ، واحده صفاة - كحصى وحصاة ، ونوى ونواة - وقيل : إِنَّ الصَّفا واحد قال المبرد وهو كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب ، وأصله من الواو لأنك تقول في تثنيته صفوان ولا يجوز إمالته ، وَالْمَرْوَةَ في الأصل الحجر الأبيض اللين - والمرو - لغة فيه ، وقيل : هو جمع مثل تمرة وتمر ، وثم صارا في العرق علمين لموضعين معروفين بمكة للغلبة ، واللام لازمة فيهما ، وقيل : سمي الصَّفا لأنه جلس عليه آدم صفي اللّه تعالى ، وسمي - المروة - لأنه جلست عليه امرأته حواء ، و- الشعائر - جمع شعيرة ، أو شعارة - وهي العلامة - والمراد بهما أعلام المتعبدات أو العبادات الحجية ، وقيل : المعنى إن الطواف بين هذين الجبلين من علامات دين اللّه تعالى ، أو أنهما من المواضع التي يقام فيها دينه ، أو من علاماته التي تعبد بالسعي بينهما لا من علامات الجاهلية فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ الحج لغة القصد مطلقا أو إلى معظم ، وقيده بعضهم بكونه على وجه التكرار ، و- العمرة - الزيارة أخذا من العمارة كأن الزائر يعمر المكان بزيارته فغلبا شرعا على المقصد المتعلق بالبيت وزيارته على الوجهين المخصوصين ، والْبَيْتَ خارج من المفهوم ، والنسبة مأخوذة فيه فلا بد من ذكره فلا يرد أن البيت مأخوذ في مفهومهما فيكفي من حج أو اعتمر ولا حاجة إلى أن يتكلف بأنه مأخوذ في مفهوم الاسمين خارج عن مفهوم الفعلين ، وعلى تقدير أخذه في مفهومهما يعتبر التجريد ليظهر شرف البيت فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي لا إثم عليه في أن يطوف.
وأصل الجناح الميل ، ومنه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ [الأنفال : 61] وسمي الإثم به لأنه ميل من الحق إلى الباطل ، وأصل يطوف يتطوف فأدغمت التاء في الطاء ، وسبب النزول ما صح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف ، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما اللّه تعالى حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون اللّه تعالى فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، ومن يعلم دفع ما يتراءى انه لا يتصور فائدة في نفي الجناح بعد إثبات أنهما من الشعائر بل ربما لا يتلازمان إذ أدنى مراتب الأول الندب وغاية الثاني الإباحة ، وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف بينهما في الحج والعمرة لدلالة نفي الجناح عليه قطعا لكنهم اختلفوا في الوجوب ، فروي عن أحمد أنه سنة - وبه قال أنس وابن عباس وابن الزبير - لأن نفي الجناح يدل على الجواز ، والمتبادر منه عدم اللزوم كما في قوله تعالى : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا [البقرة : 230] وليس مباحا بالاتفاق ولقوله تعالى : مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فيكون مندوبا ، وضعف بأن نفي الجناح. وإن دل على الجواز المتبادر منه - عدم اللزوم إلا أنه يجامع الوجوب فلا يدفعه ولا ينفيه - والمقصود ذلك - فلعل هاهنا دليلا يدل على الوجوب كما في قوله تعالى : فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء : 101] ولعل هذا كقولك لمن عليه صلاة الظهر مثلا وظن أنه لا يجوز فعلها عند الغروب فسأل عن ذلك : لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت فإنه جواب صحيح لا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر ، وعن الشافعي ومالك إنه ركن - وهو رواية عن الإمام أحمد - واحتجوا بما
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : «إن اللّه تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا»
ومذهب إمامنا أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أنه واجب يجبر بالدم لأن الآية لا تدل إلا على نفي الإثم المستلزم للجواز ، والركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد ، والحديث إنما يفيد حصول الحكم معللا ومقررا في الذهن ، ولا يدل على بلوغه غاية الوجوب بحيث يفوت الجواز بفوته لتتحقق الركنية وهو ظني السند وإن فرض

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 425
قطعي الدلالة فلا يدل على الفرضية ، وما روى مسلم عن عائشة أنها قالت - لعمري ما أتم اللّه تعالى حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته - ليس فيه دليل على الفرضية أيضا سلمنا لكنه مذهب لها ، والمسألة اجتهادية فلا تلزم به على أنه معارض بما
أخرجه الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي أنه قال : أتيت النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالمزدلفة فقلت : «يا رسول اللّه جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال : من صلي معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف ، وقد أدرك عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه»
فأخبر صلى اللّه تعالى عليه وسلم بتمام حجه ، وليس في السعي بينهما ، ولو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله ، وقرأ ابن مسعود وأبيّ - أن لا يطوف - ولا تصلح أن تكون ناصرة للقول الأول لأنها شاذة لا عمل بها مع ما يعارضها ولاحتمال أن «لا» زائدة كما يقتضيه السياق.
وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي من انقاد انقيادا - خيرا أو بخير ، أو آتيا بخير - فرضا كان أو نفلا ، وهو عطف على فَمَنْ حَجَّ إلخ مؤكد أمر الحج والعمرة والطواف تأكيد الحكم الكلي للجزئي ، أو من تبرع تبرعا - خيرا - أو بخير أو آتيا بخير من حج أو عمرة أو طواف لقرينة المساق ، وعليه تكون الجملة مسوقة لإفادة شرعية التنفل بالأمور الثلاثة ، وفائدة خَيْراً على الوجهين مع أن التطوع لا يكون إلا كذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أي خير كان يثاب عليه ، أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من السعي فقط بناء على أنه سنة ، والجملة حينئذ تكميل لدفع ما يتوهم من نفي الجناح من الإباحة ، وفائدة القيد التنصيص بخيرية الطواف دفعا لحرج المسلمين. وقرأ ابن مسعود - ومن تطوع بخير - وحمزة والكسائي ويعقوب - يطوع - على صيغة المضارع المجزوم لتضمن مِنْ معنى الشرط وأصله - يتطوع - فأدغم فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ أي مجاز على الطاعة بالثواب وفي التعبير به مبالغة في الإحسان إلى العباد. عَلِيمٌ. مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا ، وبهذا ظهر وجه تأخير هذه الصفة عما قبلها ، ومن قال : أتى بالصفتين هاهنا - لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل وذكر العلم باعتبار القصد وأخر صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر كما أن النية متقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآي - لم يأت بشيء.
وهذه الجملة علة لجواب الشرط المحذوف قائم مقامه كأنه قيل : ومن تطوع خيرا جازاه اللّه تعالى أو أثابه فإن اللّه شاكر عليم - إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اخرج جماعة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه قال : سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ. وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية ، وعن قتادة أنها نزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى ، وقيل : نزلت في كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل فقد روى البخاري وابن ماجة وغيرهما عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : لولا آية في كتاب اللّه تعالى ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا هذه الآية ، وأخرج أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار»
والأقرب أنها نزلت في اليهود والحكم عام كما تدل عليه الأخبار وكونها نزلت في اليهود لا يقتضي الخصوص فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، فالموصول للاستغراق ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا ، والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه واليهود قاتلهم اللّه تعالى ارتكبوا كلا الأمرين ما أَنْزَلْنا على الأنبياء مِنَ الْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحة الدالة على الحق ومن ذلك ما أنزلناه على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 426
وَالْهُدى عطف على الْبَيِّناتِ والمراد به - ما يهدي - إلى الرشد مطلقا ومنه - ما يهدي - إلى وجوب اتباعه صلى اللّه تعالى عليه وسلم والإيمان به وهي الآيات الشاهدة على صدقه عليه الصلاة والسلام ، والعطف باعتبار التغاير في المفهوم كجاءني الآكل فالشارب ، وقيل : إنه عطف على ما أَنْزَلْنا إلخ ، والمراد بالأول الأدلة النقلية ، وبالثاني ما يدخل فيه الأدلة العقلية ، أو المراد بالأول التنزيل ، وبالثاني ما يقتضيه من الفوائد ، ولا يخفى أنه تكلف يأبى عنه قرب المعطوف عليه والتبيين الدال على كمال الوضوح في قوله سبحانه : مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف متعلق - بيكتمون - واللام في - الناس - صلة - بينا - أو لام الأجل ، والمراد بهم الجنس أو الاستغراق ، وفي تقييد الكتمان بالظرف إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح - للناس - وإلى عظم الإثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام فِي الْكِتابِ متعلق - ببيناه - وتعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب في جوازه ، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله ، والمراد به الجنس ، وقيل : التوراة ، وقيل : هي والإنجيل ، وقيل : القرآن ، والمراد من الناس أمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ومن الناس من حمل - البينات - على ما في القرآن وعلق مِنْ بَعْدِ ب أَنْزَلْنا ، وفسر الْكِتابِ بالتوراة - والكتمان - بعدم الاعتراف بالحقية ، ولعل ما ذهبنا إليه أولى من جميع ذلك أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي يبعدهم عن رحمته ويذيقهم أليم نقمته والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال ، ولم يؤت بالفاء في هذه الجملة التي هي خبر الموصول كما أتي به فيما بعد من قوله سبحانه : فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ مع أن الموصول متضمن لمعنى الشرط وقصد
السببية في الموضعين ولذا أورد اسم الإشارة الذي تعليق الحكم به كتعليقه بالمشتق ، قيل : لئلا يتوهم أن - لعنهم - إنما هو بهذا السبب بناء على أن - فاء - السببية في الأصل لكونه - فاء - التعقيب يفيد أن حصول المسبب بعد السبب بلا تراخ ، وقد يقصد منه ذلك بمعونة المقام كما في الآية بعد ، وليس كذلك بل له أسباب جمة وبهذا علم أن اسم الإشارة لا يغني عن الفاء لأنه يشعر بالسببية ولا يشعر بالتعقيب الموهم للانحصار بناء على امتناع التوارد.
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي من يتأتى منه اللعن عليهم من الملائكة والثقلين ، فالمراد - باللاعنون - معناه الحقيقي وليس على حد من - قتل قتيلا - في المشهور والاستغراق عرفي أي كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف ، وليس بحقيقي حتى يرد أنه لا يلعنهم كل لاعن في الدنيا ، ويحتاج إلى التخصيص وإنما أعاد الفعل لأن لعنة اللاعنين بمعنى الدعاء عليهم بالإبعاد عن رحمة اللّه تعالى ، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد تفسير اللاعنين بدواب الأرض حتى العقارب والخنافس ، ولعل الجمع حينئذ على حد قوله تعالى : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف : 4] واستدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة وحرمة كتمانه لكن اشترطوا لذلك أن لا يخشى العالم على نفسه وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم إلا إن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر من نفعه قالوا : وفيها دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، وقد يستدل بها على عدم وجوب ذلك على النساء بناء على أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عن الكتمان أو عنه وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه بناء على أن حذف المعمول يفيد العموم ، وفيه إشارة إلى أن التوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف اللعن عنهم ما لم يتوبوا عن الجميع فإن للعنهم أسبابا جمة وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق ومن ذلك أن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال وأن يزيلوا الكلام المحرف ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف وَبَيَّنُوا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 427
أي أظهروا ما بينه اللّه تعالى للناس معاينة وبهذين الأمرين تتم التوبة ، وقيل : أظهروا ما أحدثوه من التوبة ليمحوا سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم فإن إظهار التوبة ممن يقتدي به شرط فيها على ما يشير إليه بعض الآثار ، وفيه إن الصحيح أن إظهار التوبة إنما هو لدفع معصية المتابعة وليس شرطا في التوبة عن أصل المعصية فهو داخل في قوله تعالى : وَأَصْلَحُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ عطف على ما قبله تذييل له والالتفات إلى التكلم للإفتنان مع ما فيه من الرمز إلى اختلاف مبدأ فعليه السابق واللاحق إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الموصول للعهد كما هو الأصل ، والمراد به الذين كتموا وعبر عن الكتمان بالكفر نعيا عليهم به ، والجملة عديلة لما فيها إِلَّا ولم تعطف عليها إشارة إلى كمال التباين بين الفريقين ، والآية مشتملة على الجمع والتفريق جمع الكاتمين في حكم واحد وهو أنهم ملعونون ثم فرق فقال : أما الذين تابوا فقد تاب اللّه تعالى عليهم وأزال عنهم عقوبة اللعنة ، وأما الذين ماتوا على الكتمان ولم يتوبوا عنه فقد استقرت عليهم اللعنة ولم تزل عنهم.
وأورد كلمة الاستثناء في الجملة الأولى مع أنه ليس للإخراج عن الحكم السابق بل هو بمعنى لكن للدلالة على أن التوبة صارت مكفرة للعن عنهم فكأنهم لم يباشروا ولم يدخلوا تحته - قاله بعض المحققين - وفيه ارتكاب خلاف الظاهر في الاستثناء ولهذا قال البعض إن المراد بالجملة المستثنى منها بيان دوام اللعن واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل ، وجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الاستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين والاقتصار على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح والتبيين مبني على أن وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعها كما أن وجودها مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر ، ولذا لم يصرح بالإيمان في صفات التائبين ، والفرق بين الدوامين أن الأول تجددي ، والثاني ثبوتي - ولا يخفى أن هذا أوفق بظاهر اللفظ - وما ذكره بعض المحققين أجزل معنى وأعلى كعبا وأدق نظرا ، وقيل : الموصول عام للذين كتموا وغيرهم كما يقتضيه ظاهر الصلة ، والآية من باب التذييل فيدخل الكاتمون الذين ماتوا على الكتمان دخولا أوليا ، واعترض بأن تقييد الوعيد بعدم التخفيف أعدل شاهد على أن الآية في شأن الكاتمين الذين ماتوا على ذلك لأنهم أشد الكفرة وأخبثهم فإن الوعيد في حق الكفرة مطلق الخلود في النار ، وأنت تعلم أن هذا في حيز المنع بل ما من كافر جهنمي إلا وحاله يوم القيامة طبق ما ذكر في الآية ولا أظنك في مرية من ذلك بعد سماع قوله تعالى : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف : 75] فلا يبعد القول بحسن هذا القيل - وإليه ذهب الإمام - وكلام الطيبي يشير إلى حسنه وطيبه فتدبر.
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ المراد استمرار ذلك ودوامه فهذا الحكم غير ما سبق إذ المراد منه حدوث اللعنة ووقوعها عليهم وليس المقصود من ذكر - الملائكة والناس - التخصيص لينافي العموم السابق ولا العموم ليرد خروج المهيمين الذين لا شعور لهم بذواتهم وكثير من الأتقياء الذين لا يلعنون أحدا بل المقصود أنه يلعنهم هؤلاء المتعدون من خلقه وأَجْمَعِينَ تأكيد بالنسبة إلى الكل لا للناس فقط ، والمراد بهم المؤمنون لأنهم المعتدّون منهم ، والكفار كالإنعام لأنه لا يحسم مادة الإشكال ، وقيل : إنه باق على عمومه والكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة ، أو الجملة مساقة للإخبار باستحقاق أولئك اللعن من العموم لا بوقوعه بالفعل ولم يكرر اللعنة هنا كما كرر الفعل قبل اكتفاء به وافتنانا في النظم الكريم ومناسبة لما يشعر به التأكيد. وقرأ الحسن - والملائكة والناس أجمعون - بالرفع ، وخرج على وجوه ، فقيل : عطف على لَعْنَةُ بتقدير لعنة اللّه ولعنة الملائكة فحذف المضاف من الثاني وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقيل : مبتدأ محذوف الخبر أي - والملائكة ، والناس يلعنونهم - أو فاعل لفعل محذوف أي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 428
يلعنهم ، وقيل إن لَعْنَةُ مصدر مضاف إلى فاعله والمرفوع معطوف على محله ، وقد أتبعت العرب فاعل المصدر على محله رفعا كقوله :
مشى الهلوك عليها الخيعل «الفضل» برفع الفضل وهو صفة للهلوك على الموضع ، وإذا ثبت في النعت جاز في العطف إذ لا فارق بينهما ، وادعى أبو حيان عدم الجواز لأن شرط العطف على الموضع أن يكون ثمت طالب ومحرز للموضع لا يتغير ، وأيضا لَعْنَةُ وإن سلم مصدريته فهو إنما يعمل إذا انحل - لأن ، والفعل - وهنا المقصود الثبوت فلا يصح انحلاله لهما وسلمه له غيره ، وقالوا : إنه مذهب سيبويه خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة ، وهو يؤكد ما تفيده اسمية الجملة من الثبات ، وجوز رجوع الضمير إلى النار والإضمار قبل الذكر يدل على حضورها في الذهن المشعر بالاعتناء المفضي إلى التفخيم والتهويل ، وقيل : إن اللعن يدل عليها إذ استقرار الطرد عن الرحمة يستلزم الخلود في النار خارجا وذهنا ، والموت على الكفر وإن استلزم ذلك خارجا لكنه لا يستلزمه ذهنا فلا يدل عليه ، وخالِدِينَ على كلا التقديرين في المرجع حال مقارن لاستقرار اللعنة لا كما قيل : إنه على الثاني حال مقدرة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيانه كثرته من حيث الكم ، وإما حال من ضمير عليهم أيضا أو من ضمير خالِدِينَ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه ، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفي واستمراره ، والفعل إما من الإنظار بمعنى التأخير - أي لا يمهلون - عن العذاب ولا يؤخرون عنه ساعة.
وإما من النظر بمعنى الانتظار أي - لا ينتظرون - ليعتذروا ، وإما من النظر بمعنى الرؤية أي - لا ينظر اللّه تعالى إليهم نظر رحمة - والنظر بهذا المعنى يتعدى بنفسه أيضا كما في الأساس فيصاغ منه المجهول. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ نزلت كما روي عن ابن عباس لما قال كفار قريش للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : صف لنا ربك ، والخطاب عام لكل من يصح أن يخاطب كما هو الظاهر غير مختص بشأن النزول ، والجملة معطوفة على إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ عطف القصة على القصة ، والجامع أن الأولى مسوقة لإثبات نبوته صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وهذه لإثبات وحدانيته تعالى ، وقيل :
الخطاب للكاتمين ، وفيه انتقال عن زجرهم عما يعاملون رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم حيث يكتمون وحدانيته ، ويقولون : عزير ، وعيسى - ابنان للّه عز وجل ، وفيه أنه وإن حسن الانتظام إلا أنه فيه خروج شأن النزول عن الآية - وهو باطل - وإضافة - إله - إلى ضمير المخاطبين باعتبار الاستحقاق لا باعتبار الوقوع فإن الآلهة الغير المستحقة كثيرة ، وإعادة لفظ - إله - وتوصيفه بالوحدة لإفادة أن المعتبر الوحدة في الألوهية ، واستحقاق العبادة ، ولولا ذلك لكفي - وإلهكم واحد - فهو بمنزلة وصفهم الرجل - بأنه سيد واحد ، وعالم واحد - وقال أبو البقاء : إله - خبر المبتدأ ، وواحِدٌ صفة له ، والغرض هنا هو الصفة إذ لو قال : - وإلهكم واحد - لكان هو المقصود إلا أن في ذكره زيادة تأكيد ، وهذا يشبه الحال الموطئة كقولك : مررت بزيد رجلا صالحا ، وكقولك في الخبر : زيد شخص صالح ، ولعل الأول ألطف ، وأكثر الناس على أن الواحد هنا بمعنى لا نظير له ولا شبيه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وقيل : إن المراد به ما ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه الانقسام ولا يحتمل التجزئة أصلا ، وليس المعنى به هنا مبدأ العدد ، وأصح الأقوال عند ذوي العقول السليمة أنه الذي لا نظير له ولا شبيه له في استحقاق العبادة ، وهو مستلزم لكل كمال آب عما فيه أدنى وصمة وإخلال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر ثان للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب ، وعلى أي تقدير هو مقرر للوحدانية ، ومزيح - على ما قيل - لما عسى أن يتوهم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة ، والضمير المرفوع على الصحيح بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف فهو بدل مرفوع من ضمير مرفوع ، وقد اختلف في المنفي هل المعبود بحق أو المبعود بباطل ، فقال محمد الشيشيني : النفي إنما تسلط

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 429
على الآلهة المعبودة بباطل تنزيلا لها منزلة العدم ، وقال عبد اللّه الهبطي : إنما تسلط على الآلهة المعبودة بحق ولك انتصر بعض ، وذكر الملوي أن الحق مع الثاني لأن المعبود بباطل له وجود في الخارج ، ووجود في ذهن المؤمن بوصف كونه باطلا ، ووجود في ذهن الكافر بوصف كونه حقا فهو من حيث وجوده في الخارج في نفسه لا تنفى لأن الذات لا تنفى ، وكذا من حيث كونه معبودا بباطل لا ينفى أيضا إذ كونه معبودا بباطل أمر حق لا يصح نفيه وإلا كان كذبا ، وإنما ينفى من حيث وجوده في ذهن الكافر من حيث وجوده في ذهنه بوصف كونه معبودا بحق ، فالمعبودات الباطلة لم تنف إلا من حيث كونها معبودة بحق لم ينف في هذه الكلمة إلا المعبود بحق غيره تعالى فافهم ، وسيأتي تحقيق ما في هذه الكلمة الطيبة في محله إن شاء اللّه تعالى : الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. خبران آخران بعد خبر أو خبرين لقوله تعالى إِلهُكُمْ أو لمبتدأ محذوف والجملة معترضة ، أو بدلان على رأي وجيء بهما لتمييز الذات الموصوفة بالوحدة عما سواه وليكون الجواب ، موافقا لما سألوه وفي ذلك إشارة إلى حجة الوحدانية لأنه لما كان مولى النعم كلها أصولا وفروعا دنيا وأخرى ، وما سواه إما خير محض أو خير غالب ، وهو إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره لاستواء الكل في الاحتياج إليه تعالى في الوجود وما يتبعه من الكمالات.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أخرج البيهقي عن أبي الضحى - معضلا - أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك ، فنزلت.
ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان ، وإنما جمع السَّماواتِ وأفرد الْأَرْضِ للانتفاع بجميع أجزاء الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها - وهي ما نشاهده منها - وقال أبو حيان : لم تجمع الْأَرْضِ لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس ، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد ، وجمع لم يقع مفرده - كالألباب - وفي المثل السائر نحوه ، وقال بعض المحققين :
جمع السَّماواتِ لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى :
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة : 29] سواء كانت متماسة - كما هو رأي الحكيم - أو لا ، كما جاء في الآثار - أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام - مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى : وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت : 12] يدل عليه ، ولم يجمع الْأَرْضِ لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك فإنها سواء كانت متفاصلة بذواتها ، كما ورد في الأحاديث - من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءين - أو لا تكون متفاصلة - كما هو رأي الحكيم - غير مختلفة في الحقيقة اتفاقا.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تعاقبهما وكون كل منهما خلفا للآخر ، أو اخْتِلافِ كل منهما في أنفسهما إزديادا وانتقاصا ، أو ظلمة ونورا ، وقدم اللَّيْلِ لسبقه في الخلق أو لشرفه.
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ عطف على خَلْقِ السَّماواتِ لا على السَّماواتِ أو عطف على اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ من الألفاظ التي استعملت مفردا وجمعا ، وقدر بينهما تغاير اعتباري ، فإن اعتبر أن ضمته أصلية كضمة - قفل - فمفرد ، وإن اعتبر أنها عارضة كضمة - أسد - فجمع ، ومن الأول قوله تعالى : فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء : 119] ومن الثاني قوله تعالى : إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس : 22] وقيل : إنه جمع فلك - بفتح الفاء وسكون اللام - وقيل : إنه اسم جمع ، وزعم بعضهم أنه قرىء «فلك» بضمتين وهو عند بعض مفرد لا غير وقال الكواشي : الفلك ، والفلك - بضمتين - لغتان الواحد والجمع سواء في اللفظ ، ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما وإفراده.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 430
بِما يَنْفَعُ النَّاسَ «ما» إما مصدرية أي - بنفعهم - أو موصولة أي - بالذي ينفعهم - وعلى الأول ضمير الفاعل إما - للفلك - لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى - كما قيل - أو - للجري - أو - للبحر - واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الاستدلال وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ عطف على الْفُلْكِ قيل : وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفضيل ، وقيل : المقصود من الأول الاستدلال ب الْبَحْرِ وأحواله لا ب الْفُلْكِ الجاري فيه لأن الاستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء ، أو العلم بكيفية اجرائه ، أو - بتسخير الريح والبحر - لذلك ، أو توسله إلى بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وشيء منها ليس من حاله في نفس ، ولأن الاستدلال - بالفلك الجاري في البحر - استدلال بحال من أحوال الْبَحْرِ بخلاف ما لو استدل ب الْبَحْرِ وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام ، إلا أنه خص الْفُلْكِ بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذ أن يقال : والعجائب التي في البحر - لأنه سبب الإطلاع على أحواله وعجائبه - فكان ذكره ذكرا لجميع أحواله ، وطريقا إلى العلم بوجوه دلالته ، ولذلك قدم على ذكر - المطر والسحاب - لأن منشأهما البحر في غالب الأمر ، وإلا فالمناسب بعد ذكر اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الذي هو من الآيات العلوية ذكر - المطر والسحاب - اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم الْفُلْكِ في البين لكونها من الآيات السفلية.
وعندي أن هذا خلاف الظاهر جدا - وإن جل قائله - إذ يؤول المعنى إلى - والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس - وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعول عليه ، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة ، متعلقة بحبال الهواء على لطفه ، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه ، وكون شيء من ذلك ليس حالا لها في نفسها غير مسلم ، ووجه الترتيب - على ما أرى - أنه سبحانه ذكر أولا خلق أمرين علوي وسفلي ، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي «ثانيا» إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما ازديادا وانتقاصا أو ظلمة ونورا إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين ، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابا وإيابا بِما يَنْفَعُ النَّاسَ في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم ، وهو الْفُلْكِ التي تجري على كبد الْبَحْرِ بذلك ، ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك ، فالآية حينئذ على حد قوله تعالى : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس : 37 - 41] إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار ، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما ، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي ، وله مناسبة لذكر الْبَحْرِ بل ولذكر الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فيه بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفينا في الأرض بالإحياء ، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. ومِنَ الأولى ابتدائية والثانية بيانية ، وجوّز أن
تكون تبعيضية وأن تكون بدلا من الأولى ، والمراد من السَّماءِ جهة العلو ، وقد تقدم تحقيق ذلك فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بتهييج قواها النامية ، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار بَعْدَ مَوْتِها وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عطف إما على أَنْزَلَ والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل ، وفَأَحْيا من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعا للعطف ، إما على «أحيا» فيدخل تحت فاء السببية ، وسببية إنزال «الماء»

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 431
للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب - والبث - فرع الحياة ، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لا غناء فاء السببية عنه في المشهور ، وقيل : يحتاج إلى تقدير به - أي بالماء - ليشعر بارتباطه ب أَنْزَلَ استقلالا كأحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما ، وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي ، و«من» بيانية على التقدير الأول على الصحيح ، والمراد مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ كل نوع من الدواب ، ومعنى - بثها - تكثيرها بالتوالد والتولد ، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض ، وقيل : تبعيضية لأن اللّه تعالى لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته ، على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضا في سورة «حمعسق» ، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في السماء ، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءا من مدخولها لا فردا منه ، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين ، وعدم صحة التبعيض ، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخفش وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي تقليب اللّه تعالى لها جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا ، حارة. وباردة. وعاصفة. ولينة. وعقيما. ولواقح ، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب ، وقرأ حمزة والكسائي الريح على الإفراد وأريد به الجنس ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - الرياح - للرحمة والريح للعذاب ، وروي أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان إذا هبت ريح «قال : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
ولعله قصد بالأول ، والثاني قوله تعالى : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم : 46] وقوله تعالى :
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات : 41] وعقب إحياء الأرض بالمطر ، وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك اللّه تعالى الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار وَالسَّحابِ عطف على ما قبله ، وهو اسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ صفة - للسحاب - باعتبار لفظه ، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع ك سَحاباً ثِقالًا [الأعراف : 57] و«بين» ظرف لغو متعلق بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا ، وقيل : الظرف مستقر وقع حالا من ضمير المسخر ومتعلقه محذوف أي المسخر للرياح حيث تقلبه في الجو بمشيئة اللّه تعالى ، وتوقيت تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الروم : 48 ، فاطر :
9] ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدىء به منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه ، وبما ذكرنا علم وجه الترتيب في الآية ، وقال بعض الفضلاء : لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة ، ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى : لَآياتٍ اسم «إن» دخلته - اللام - لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الإلهية به سبحانه لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يتفكرون ، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته ،
أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال : «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها»
وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول ، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى عن سائرها ، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 432
وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضي ذاته وجوده فضلا عن وجوده على النمط الكذائي فإذا لا بد له من موجد لامتناع وجود الممكن بلا موجد ، قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح يوجده حسبما يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة وتقتضيه مشيئته ، متعال عن مقابلة غيره إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر الحق تعالى عليه فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه مخصوص أراده الآخر فالتأثير إن كان لكل منهما لزم اجتماع فاعلين على أثر واحد وهو يستلزم اجتماع العلتين التامتين ، وإن كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لاستوائهما في إرادة إيجاده على الاستقلال ، وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه إيقاع ما أراده ، وإن اختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده على نحو ، وأراد الآخر وجوده على نحو آخر لزم التمانع والتطارد لعدم المرجح فيلزم عجزهما والعجز مناف للألوهية بديهة ، وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الدالة على توحيده تعالى ، و«من» دون اللّه حال من ضمير «يتخذ» و- الأنداد - الأمثال والمراد بها الأصنام كما هو الشائع في القرآن ، والمروي عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين ، وقيل :
الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال ، وروي عن السدي - ونسب إلى الصادق رضي اللّه تعالى عنه -
وقيل : المراد أعم منهما وهو ما يشغل عن اللّه تعالى والمعنى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ متجاوزين الإله الواحد الذي ذكرت شؤونه الجليلة أمثالا فلا يقصرون الطاعة عليه سبحانه بل يشاركونهم إياه ، وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غبّ تعيينه بالصفات يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ إما جملة مستأنفة أو صفة الأنداد ، أو صفة - لمن - إذا جعلتها نكرة موصوفة مسوقة لبيان وجه الاتخاذ ، و- المحبة - ميل القلب من الحب واحد الحبوب استعير لحبة القلب وسويدائه ثم اشتق منه الحب لأنه يؤثر في صميم القلب ويرسخ فيه ، ومحبة العباد للّه تعالى عند جمهور المتكلمين نوع من الإرادة سواء قلنا إنها نفس الميل التابع لاعتقاد النفع كما هو رأي المعتزلة ، أو صفة مرجحة مغايرة له كما هو مذهب أهل السنة فلا تتعلق إلا بالجائزات ولا يمكن تعلقها بذاته تعالى فمحبة العبد له سبحانه إرادة طاعته وتحصيل مراضيه وهذا مبني على انحصار المطلوب بالذات في اللذة ورفع الألم ، والعارفون باللّه سبحانه قالوا : إن الكمال أيضا محبوب لذاته فالعبد يحب اللّه تعالى لذاته لأنه الكامل المطلق الذي لا يداني كماله كمال ، وأما محبة خدمته وثوابه فمرتبة نازلة ، ومحبة اللّه تعالى للعباد صفة له عز شأنه لا تتكيف ولا يحوم طائر الفكر حول حماها ، وقيل : إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي ، والمراد بالمحبة هنا التعظيم والطاعة أي أنهم يسوون بين اللّه تعالى وبين الأنداد المتخذة فيعظمونهم ويطيعونهم كما يعظمون اللّه تعالى ويميلون إلى طاعته ، وضمير الجمع المنصوب راجع إلى الأنداد فإن أريد بها الرؤساء فواضح وإلا فالتعبير عنها بضمير العقلاء باعتبار ذلك الزعم الباطل أنهم أنداد اللّه تعالى والمصدر المضاف من المبني للفاعل وفاعله ضميرهم بقرينة سبق الذكر وإن المشركين يعترفون به تعالى ويلجأون إليه في الشدائد وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : 25 ، الزمر : 38] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت : 65] ، وقيل وهو الخلاف الظاهر وعدول عما يقتضيه كون جملة - يحبونهم بيانا لوجه الاتخاذ إنه مصدر المبني للمفعول واستغني عن ذكر من يحب لأنه غير ملبس ، والمعنى على تشبيه محبوبية الأنداد من جهة المشركين بمحبوبيته تعالى من جهة المؤمنين ، ولا ينافي ذلك قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأن التشبيه إنما وقع بين المحبوبيتين وذلك يقتضي أن يكون محبوبية الأصنام مماثلا لمحبوبيته تعالى ، والترجيح بين المحبتين لكن باعتبار رسوخ إحداهما دون الأخرى فإن المراد

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 433
بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى اللّه تعالى عند الشدائد ويتبرؤون منها عند معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره وربما أكلوه - كما يحكى : أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها - وللّه أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته كانتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر ، وليس المراد من شدة المحبة شدتها. وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال : إن محبتهم أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه اختيار - أشد حبا - على أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر ولهذا نزل فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود : 112] وكان أحب الأعمال إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أدومها ، وقال العلامة : عدل عن أحب إلى أشد - لأنه شاع في الأشد محبوبية - فعدل عنه احترازا عن اللبس ، وقيل : إن أحب أكثر من حب ، فلو صيغ منه أفعل لتوهم أنه من المزيد.
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لو يعلم هؤلاء الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاتخاذ المذكور ، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلك - الاتخاذ - ظلم عظيم ، وأن اتصاف المتخذين به أمر معلوم مشهور حيث عبر عنه بمطلق الظلم ، والموصول والصلة للاشعار بسبب - رؤيتهم العذاب - المفهومة من قوله سبحانه :
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي عاينوا الْعَذابَ المعد لهم وأبصروه يوم القيامة ، وأورد صيغة المستقبل بعد لَوْ وإِذْ المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضيا تأويلا مستقبلا تحقيقا فروعي الجهتان.
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ساد مسد مفعولي يرى ، وجواب لَوْ محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان ، أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف ، وقيل : هو متعلق الجواب - والمفعولان محذوفان - والتقدير وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أندادهم لا تنفع لعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا ينفع ولا يضر غيره.
وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب «ترى» على أن الخطاب له صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب ، فالجواب حينئذ - لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة - وابن عامر «إذ يرون» بالبناء للمفعول ، ويعقوب «إن» بالكسر ، وكذا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ على الاستئناف أو إضمار القول - أي قائلين ذلك - وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر ، فإن اختصاص الْقُوَّةَ به تعالى لا يوجب شدة «العذاب» لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا بدل من إِذْ يَرَوْنَ مطلقا وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بالجواب ومتعلقة لطول البدل ، وجوّز أن يكون ظرفا ل شَدِيدُ الْعَذابِ أو مفعولا - لاذكروا - وزعم بعضهم أنه بدل من مفعول «ترى» على قراءة الخطاب ، كما أن إِذْ يَرَوْنَ بدل منه أيضا أَنَّ الْقُوَّةَ في موضع بدل الاشتمال من الْعَذابَ ولا يخفى أن هذا يقتضي جواز تعدد البدل ولم يعثر عليه في شيء من كتب النحو ، وأيضا يرد عليه أن المبدل منه في بدل الاشتمال يجب أن يكون متقاضيا للبدل دالا عليه إجمالا ، وأن يكون البدل مشتملا على ضمير المبدل منه - وكلاهما مفقودان - والمعنى «إذ تبرأ» الرؤساء المتبعون مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي المرءوسين بقولهم : تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص : 63] وقرأ مجاهد «الأول» على البناء للفاعل «والثاني» على البناء للمفعول ، أي تبرأ الأتباع وانفصلوا عن متبوعيهم ، وندموا على عبادتهم وَرَأَوُا الْعَذابَ حال من - الأتباع والمتبوعين - كما في لقيته راكبين - أي رائين له - فالواو - للحال ، وقد مضمرة ، وقيل : عطف على تَبَرَّأَ وفيه أنه يؤدي إلى إبدال وَرَأَوُا الْعَذابَ من إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وليس فيه كثير فائدة لأن فاعل الفعلين - وإن كانا متغايرين - إلا أن تهويل الوقت باعتبار ما وقع فيه - وهو رؤية
العذاب - ولأن الحقيق بالاستفظاع - هو تبرؤهم حال رؤية العذاب - لا هو نفسه ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 434
وأجيب أن البدل الوقت المضاف إلى الأمرين ، والمبدل منه الوقت المضاف إلى واحد - وهو الرؤية فقط - وفيه أن هذا أيضا لا يخرج ذلك عن الركاكة إِذْ بعد تهويل الوقت بإضافته إلى - رؤية العذاب - لا حاجة إلى جمعها مع التبري بخلاف ما إذا جعل حالا ، فإن البدل هو التبرؤ الواقع في حال رؤية العذاب.
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ إما عطف على تَبَرَّأَ أو رَأَوُا أو حال ، ورجح الأول لأن الأصل في - الواو - العطف ، وفي الجملة الاستقلال ولإفادته تكثير أسباب التهويل والاستفظاع مع عدم الاحتياج إلى تقدير قد والباء من بِهِمُ للسببية ، أي تَقَطَّعَتْ بسبب كفرهم الْأَسْبابُ التي كانوا يرجون منها النجاة ، وقيل : للملابسة أي - تقطعت الأسباب - موصولة بِهِمُ كقولك : خرج زيد بثيابه ، وقيل : بمعنى عن ، وقيل : للتعدية ، أي - قطعتهم الأسباب - كما تقول : تفرقت بهم الطريق ، ومنه قوله تعالى : فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الإنعام : 153] وأصل - السبب - الحبل مطلقا ، أو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء ، أو الحبل الذي أحد طرفيه متعلق بالسقف ، أو الحبل الذي يرتقي به النخل. والمراد ب الْأَسْبابُ هنا الوصل التي كانت بين - الأتباع والمتبوعين - في الدنيا من الأنساب والمحاب ، والاتفاق على الدين ، والاتباع والاستتباع ، وقرىء تَقَطَّعَتْ بالبناء للمفعول - وتقطع - جاء لازما ومتعديا وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي لو ثبت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا.
فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من المتبوعين كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا اللّه تعالى فيتبرؤوا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعا مثل تبري المتبوعين منهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم ، أي كما جعلوا بالتبري غائظين متحيرين على متابعتهم نجعلهم أيضا بالتبري غائظين متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم ، ولذا لم يتبرؤوا منهم قبل تمني الرجوع لأنه لا يغيظ المتبوعين حيث تبرؤوا من الأتباع أو لا ، ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل لأن تبرؤ الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالانفصال عنهم بعد ما تبين لهم عدم نفعهم ، وذلك لا يغيظ المتبوعين لاشتغال كل منهم بما يقاسيه ، فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرؤوا منهم تبرؤا يغيظهم. وأما قوله سبحانه : كَما تَبَرَّؤُا فلا يقتضي إلا وقوع التبرؤ من المتبوعين - وهو منصوص في آية أخرى - ولا يقتضي أن يكون مذكورا فيما سبق ، وقيل : إن الأتباع بعد أن - تبرؤوا - من المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم ليتبرؤوا منهم فيها ويخذلوهم - فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة - ويحتاج هذا التوجيه إلى اعتبار التغليب في لَنا أي لنا ولهم ، إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين.
كَذلِكَ في موضع المفعول المطلق لما بعده ، والمشار إليه الإراء المفهوم من إِذْ يَرَوْنَ أي كإراء العذاب المتلبس بظهور أن الْقُوَّةَ لِلَّهِ والتبري ، وتقطع الأسباب ، وتمني الرجعة.
يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وجوّز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد - والكاف - مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أيضا ، أي ذلك الإراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : 143] والجملة تذييل لتأكيد الوعيد ، وبيان حال المشركين في الآخرة وخلود عذابهم ، ويجوز أن تكون استئنافا كأنه لما بولغ في وعيدهم وتفظيع عذابهم كان محل أن يتردد السامع ويسأل هل لهم سوى ذلك من العذاب أم تم؟ فأجيب بما ترى ، وحَسَراتٍ أي ندمات وهو مفعول ثالث ليرى إن كانت الرؤية قلبية ، وحال من أَعْمالَهُمْ إن كانت بصرية ، ومعنى رؤية هؤلاء المشركين أَعْمالَهُمْ السيئة يوم القيامة حَسَراتٍ رؤيتها مسطورة في كتاب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف : 49] وتيقن الجزاء عليها ، فعند ذلك يندمون على ما فرطوا في جنب اللّه تعالى ، وعَلَيْهِمْ صفة حَسَراتٍ وجوّز

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 435
تعلقه بها على حذف المضاف أي تفريطهم لأن - حسر - يتعدى - بعلى - واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ المتبادر في أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود : 29] وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود : 91] ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ في النار ، وإذا أريد من الَّذِينَ ظَلَمُوا الكفار مطلقا دون المشركين فقط كان الحصر حقيقيا ، ويكون المقصود منه المبالغة في الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم ، فإن الشركة تهوّن العقوبات ، وقيل : إن المقصود نفي أصل الفعل لأنه اللائق بمقام الوعيد - لا حصر النفي - إذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الانفراد وإن كان صحيحا بالنظر إلى العصاة إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في الخلود ، والإقناط عن الخلاص ، والرجوع إلى الدنيا ، وزيادة - الباء - وإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي ، وأنت تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما يقال سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر ، ومن ذلك قوله تعالى : يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [المائدة : 37] فليس القول بعدم الحصر نصا في الاعتزال كما وهم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» إِنَّ الصَّفا أي الروح الصافية عن دون المخالفات وَالْمَرْوَةَ أي النفس القائمة بخدمة مولاها من إعلام دين اللّه ومناسكه القلبية والقالبية ، فمن بلغ مقام الوحدة الذاتية ، ودخل بيت الحضرة الإلهية بالفناء عن السوي أوزار الحضرة بتوحيد الصفات واتزر بأنوار الجلال والجمال فلا حرج عليه حينئذ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ويرجع إلى مقامهما بالوجود الموهوب بعد التمكين المطلوب وَمَنْ تبرع خَيْراً بالتعليم والنصيحة وإرشاد المسترشدين فإن اللّه يشكر عمله ويعلم جزاءه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أفضنا عليهم من أنوار المعارف وهدى الأحوال مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة أُولئِكَ يبعدهم اللّه تعالى ويحجبهم عنه وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ من الملأ الأعلى فلا يمدونهم ، ومن المستعدين فلا يصحبونهم إِلَّا الَّذِينَ رجعوا إلى اللّه تعالى وعلموا أن ما هم فيه ابتلاء منه عز وجل ، وأصلحوا أحوالهم بالرياضة ، وأظهروا ما احتجب عنهم بصدق المعاملة فَأُولئِكَ أقبل توبتهم وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واحتجبوا عن الحق ، وبقوا على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم أُولئِكَ استحقوا الطرد والبعد عن الحق وعالم الملكوت ، خالِدِينَ في ذلك لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ لرسوخ الأمور الموجبة له فيهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ للزوم تلك الهيئات المظلمة إياهم وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بالذات لا شيء في الوجود غيره فأنى يعبد سواه ، وهو العدم البحت إن في إيجاد سماوات الأرواح وأرض النفوس ، واختلاف النور والظلمة بينهما ، وفلك البدن التي تجري في بحر الاستعداد بما ينفع الناس في كسب كمالاتهم ، وتكميل نشأتهم ، وما أنزل اللّه من سماء الأرواح من ماء العلم فأحيا به أرض النفوس بعد موتها بالجهل وبث فيها القوى الحيوانية ، وفرق في أفلاكها سيارات عالم الملكوت ، وتصريف رياح النفحات المحركة لأغصان أشجار الشوق في رياض القلوب وسحاب التجليات المسخر بين سماء الروح وأرض النفس ليمطر قطرات الخطاب على نيران الألباب لتسكن ساعة من الاحتراق بالتهاب نار الوجد لآيات ودلائل لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بالعقل المنور بالأنوار القدسية المجرد عن شوائب الوهم ، ومن الناس من يعبد من دون اللّه أشياء منعته عن خدمة سيده ، والتوجه إليه يحبونهم ويميلون إليهم كحبهم للّه ويسوون بينهم وبينه سبحانه لأنهم لم يذوقوا لذة محبته ولم يروا نور مشاهدته وحقائق وصله وقربه وَالَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الكامل أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأنهم مستغرقون بمشاهدته هائمون بلذيذ خطابه من عهد أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لا يلتفتون إلى سواه طرفة عين فهيهات أن يزول حبهم أو يميل إلى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 436
الأغيار لبهم وهم أحبوه بحبه وصارت قلوبهم عرش تجلياته وقربه وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وأشركوا من هو في الحقيقة لا شيء ولا حي ولا لي في وقت رؤيتهم عذاب الاحتجاب عن رب الأرباب ، وإن القدرة للّه جميعا ، وليس لآلهتهم التي ألهتهم عنه منها شيء لندموا وتحسروا حيث لم يقصدوا وجه اللّه تعالى ولم يطلبوه ، وعند ذلك يتبرأ الأتباع من المتبوعين وقد رَأَوُا عذاب الحرمان وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الوصل التي كانت بينهم في الدنيا وتمنوا ما لا يمكن بحال وبقوا بحسرة وعذاب. وكذا يكون حال القوى الروحانية الصافية للقوى النفسانية التابعة لها في تحصيل لذاتها ، وطوبى للمتحابين في اللّه تعالى عز شأنه.
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام - كما ذكره ابن جرير وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وقيل : في عبد اللّه بن سلام وأضرابه حيث حرموا على أنفسهم لحم الإبل لما كان حراما في دين اليهود ، وقيل : في قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حيث حرموا التمر والأقط على أنفسهم ، وحَلالًا إما مفعول كُلُوا أو حال من الموصول - أي كلوه حال كونه حلالا - أو صفة لمصدر مؤكد أي أكلا حلالا ، ومن على التقديرين الأخيرين للتبعيض ليكون مفعولا به - لكلوا - وعلى التقدير الأول يجوز أن تكون ابتدائية متعلقة - بكلوا - أو حالا من حَلالًا وقدم عليه لتنكيره ، وأن تكون ابتدائية بل هي متعينة كما في الكشف على مذهب من جعل الأصل في الأشياء الإباحة ، وأن تكون تبعيضية بناء على ما ارتضاه الرضي من أن التبعيضية في الأصل ابتدائية إلا أنه يكون هناك شيء ظاهر أو مقدر هو بعض المجرور - بمن - ولا يلزم صحة إقامة لفظ البعض مقامها ، والعلامة التفتازاني منع كونها تبعيضية على هذا التقدير لأنها في موضع المفعول به حينئذ ، والفعل لا ينصب مفعولين وهو مبني - على ما في التسهيل وغيره - أن التبعيض معنى حقيقي - لمن - وعلامته صحة إقامة لفظ البعض مقامها ، والأمر للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية وللندب كما إذا كان لمؤانسة الضيف وللإباحة فيما عدا ذلك «ومناسبة الآية لما قبلها» أنه سبحانه لما بين التوحيد ودلائله وما للتائبين والعاصين أتبع ذلك بذكر إنعامه وشمول رحمته ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الانعام وقوله تعالى طَيِّباً صفة حَلالًا ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجده فم الشرع لذيذا لا يعافه ولا يكرهه ، أو تراه عينه طاهرا عن دنس الشبهة ، وفائدة وصف الحلال به تعميم الحكم كما في قوله تعالى : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي
الْأَرْضِ [الإنعام : 38 ، هود :
6] ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات ، فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم بخلاف غير الموصوفة ، وقال الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه : المراد به ما تستطيبه الشهوة المستقيمة الناشئة من المزاج الصحيح ، ورد بأن ما لا تستطيبه إما حلال لا شبهة فيه فلا منع وإلا خرج بقيد الحلال ، وأجيب بأن المراد بالحلال ما نص الشارع على حله - وبهذا ما لم يرد فيه نص - ولكنه مما يستلذ ويشتهيه الطبع المستقيم ، ولم يكن في الشرع ما يدل على حرمته كإسكار وضرر ، والأولى نظرا للمقام أن يقال : إن التقييد ليس للاحتراز عما تستطيبه الشهوة الفاسدة بل لكونه معتبرا في مفهومه إذ لا يقال الطيب واللذيذ إلا على ما تستلذه الشهوة المستقيمة وتكون فائدة التوصيف حينئذ التنصيص على إباحة ما حرموه ، والقول بأن في الآية على هذا التفسير إشارة إلى النهي عن الأكل على امتلاء المعدة والشهوة الكاذبة لأن ذلك لا يستطاب لأن الطعام اللذيذ المأكول كذلك مما تستطيبه الشهوة إلا أنه ليس مأكولا بالشهوة المستقيمة ، وبين المعنيين بعد بعيد كما قاله بعض المحققين - واستدل بعضهم بالآية على أن من حرم طعاما مثلا فهو لاغ ولا يحرم عليه ، وفيه خفاء لا يخفى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي آثاره - كما حكي عن الخليل - أو أعماله - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه - أو خطاياه - كما نقل عن مجاهد - وحاصل المعنى لا تعتقدوا به وتستنوا بسنته

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 437
فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام ، وعن الصادق من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق والنذور في المعاصي وكل يمين بغير اللّه تعالى ،
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمي الماشي ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه بضمتين وهمزة ، وفي توجيهها وجهان ، الأول ما قيل : إن الهمزة أصلية من الخطأ بمعنى الخطيئة ، والثاني إن الواو قلبت همزة لأن الواو المضمومة تقلب لها نحو - أجوه - وهذه لما جاورت الضمة جعلت كأنها عليها قال الزجاج : وهذا جائز في العربية ، وعن أبي السمال أنه قرأ بفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو.
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي ، ومُبِينٌ من أبان بمعنى بان وظهر أي ظاهر - العداوة - عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمي وليا في قوله تعالى : أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة : 257] ويحتمل أن يكون ذلك من باب تحيتهم السيف ، وقيل : - أبان - بمعنى أظهر أي مظهر - العداوة - والأول أليق بمقام التعليل إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك ، أو علة للعلة بضم ، وكل من هذا شأنه فهو - عدو مبين - أو علة للأصل بضم ، وكل من هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معللا بعلتين - العداوة - والأمر بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر : 42 ، الإسراء : 65] ينافي ذلك لكونه مبينا على أن المعتبر في الأمر العلو - كما هو مذهب المعتزلة - وإلا فمجرد الاستعلاء لا ينافي أن يكون له سلطان ، وعلى أن يكون - عبادي - لعموم الكل بدليل الاستثناء ، وعلى أن الخطاب في يَأْمُرُكُمْ لجميع الناس لا للمتبعين فقط ، ولا منافاة أيضا بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا وليس إلا التزيين والبعث فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له ، وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم ، ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين فلا بد أن يقال : يأمر لكم ، وإن كان بمعنى البعث فلا بد أن يقال : يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ الأمر فلا بد من رعاية طريق استعماله - والسوء - في الأصل مصدر ساءه يسوءه سوءا أو مساءة إذا أحزنه ، ثم أطلق على جميع المعاصي سواء كانت قولا أو فعلا أو عقدا لاشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها ، والْفَحْشاءِ أقبح أنواعها وأعظمها مساءة ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن السوء ما لا حد فيه ، والْفَحْشاءِ ما فيه حد ، وقيل : هما بمعنى وهو ما أنكره العقل وحكم بأنه ليس فيه مصلحة وعاقبة حميدة واستقبحه الشرع ، والعطف حينئذ لتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الحقيقتين فإن ذلك سوء لاغتمام العاقل ، وفحشاء باستقباحه إياه ، ولعل الداعي إلى هذا القول أنه سبحانه سمى جميع المعاصي والفواحش سيئة في قوله جل شأنه : مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة : 81] وإِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود :
114] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : 40] وسمى جميع المعاصي بالفواحش فقال تعالى : قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف : 33] ويمكن أن يقال : سلمنا ولكن السيئة والفاحشة إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فلا يتم الاستدلال وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ عطف على سابقه أي - ويأمركم الشيطان بأن تفتروا على اللّه الكذب بأنه حرم هذا - وأحل هذا أو بذلك وبأنه أمر باتخاذ الأنداد ورضي بما أنتم عليه من الإفساد ، والتنصيص على الأمر بالتقول مع دخوله فيما سبق للاهتمام بشأنه ، ومفعول العلم محذوف أي - ما لا تعلمون - الإذن فيه منه تعالى ، والتحذير عن ذلك مستلزم للتحذير عن التقول عليه سبحانه بما يعلمون عدم الإذن فيه كما هو حال كثير من المشركين استلزاما ظاهرا ، وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفا ، ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد؟! وأجيب بأن الحكم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 438
المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل القاطع وهو الإجماع ، وكل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه حكم اللّه تعالى : وإلا لم يجب العمل به قطعا ، وكل ما علم قطعا أنه حكم اللّه تعالى فهو معلوم قطعا ، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع على وجوب العمل صار المظنون معلوما وانقلب الظن علما ، فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء ، وزعم ذلك من اتباع الظن وتحقيقه في الأصول وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ الضمير للناس والعدول عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلهم وحمقهم ليسوا أهلا للخطاب بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله ، وفيه من النداء لكل أحد من العقلاء على ضلالتهم ما ليس إذا خوطبوا بذلك ، وقيل : الضمير لليهود وإن لم يذكروا بناء على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه أن الآية نزلت فيهم لما دعاهم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى الإسلام ، وقيل : إنه راجع إلى من يتخذ أو إلى المفهوم من أن الذين يكتمون ، والجملة مستأنفة بناء على ما روي أنها نزلت في المشركين ، وأنت تعلم أن النزول في حق اليهود أو المشركين لا يقتضي تخصيص الضمير بهم ، وقد شاع أن عموم المرجع لا يقتضي عموم الضمير كما في قوله تعالى : وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة : 228] وقوله تعالى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة : 228] على أن نظم القرآن الكريم يأبى هذا القيل ، والموصول إما عام لسائر الأحكام الحقة المنزلة من اللّه تعالى ، وإما خاص بما يقتضيه المقام قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي وجدناهم عليه ، والظرف إما حال من - آبائنا ، وألفينا - متعد إلى واحد ، وإما مفعول ثان له مقدم على الأول.
أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ جواب الشرط محذوف أي - لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم - والواو للحال أو للعطف ، والجملة الشرطية إما حال عن ضمير قالُوا أو معطوفة عليه ، والهمزة لإنكار مضمون تلك الجملة وهو التزامهم الاتباع على تقدير ينافيه وهو كونهم غير عاقلين ولا مهتدين المستلزم لالتزامهم الاتباع على أي حال كانوا من غير تمييز ، وعلم بكونهم محقين أو مبطلين وهو التقليد المذموم - ويتولد من ذلك الإنكار التعجيب - وجوز أن تكون الجملة حالا عن ضمير جملة محذوفة أي أيتبعونهم في حال فرضهم غير عاقلين ولا مهتدين - وأن تكون معطوفة على شرط مقدر أي - يتبعونهم لو لم يكونوا غير عاقلين ، ولو كانوا غير عاقلين ، وإلى الأول ذهب الزمخشري ، وإلى الثاني الجرمي ، ولا يخفى أنه على تقدير حذف الجملة المتقدمة لا يحتاج إلى القول بحذف الجزاء ، ولعل ما ذكر أولا أولى لما فيه من التحرز عن كثرة الحذف وإبقاء لَوْ على معناها المشهور ، والهمزة الاستفهامية على أصلها - وهو إيلاء المسئول عنه - وكون المعنى يدور على العطف على المحذوف في أمثال ذلك في سائر اللغات غير مسلم ، واختار الرضي أن - الواو - الداخلة على كلمة الشرط في مثل هذا اعتراضية ، وعنى بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام ، أو يجيء آخره متعلقا به معنى مستأنفا لفظا ، قيل : وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر ، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما أنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل اللّه تعالى - وليس من التقليد المذموم في شي ء - وقد قال سبحانه : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل : 43].
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً جملة ابتدائية واردة لتقرير ما قبلها أو معطوفة عليه ، والجامع أن الأولى لبيان حال الكفار وهذه تمثيل لها وفيها مضاف محذوف إما من جانب المشبه أو المشبه به - أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق - أو مثل الذين كفروا - كمثل بهائم الذي ينعق - ووضع المظهر - وهو الموصول - موضع المضمر - وهو البهائم - ليتمكن من إجراء الصفة التي هي وجه الشبه عليه ، وحاصل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 439
المعنى على التقديرين أن الكفرة لانهماكهم في التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتأملون فيما يقرر معهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها وهي لا تسمع إلا جرس النغمة ودويّ الصوت ، وقيل : المراد تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته ، أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهذا يغني عن الإضمار لكن لا يساعده قوله تعالى : إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لأن الأصنام بمعزل عن ذلك فلا دخل للاستثناء في التشبيه إلا أن يجعل من التشبيه المركب ويلتزم كون مجموع لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً كناية عن عدم الفهم والاستجابة ، والنعيق التتابع في التصويت على البهائم للزجر ، ويقال : نعق الغراب نعاقا ونعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها ، ونغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل : نعب بالباء ، والدعاء والنداء بمعنى ، وقيل : إن الدعاء ما يسمع ، والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ، وقيل : إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ رفع على الذم إذ فيه معنى الوصف مع مانع لفظي من الوصف به فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي لا يدركون شيئا لفقدان الحواس الثلاثة وقد قيل : من فقد حسا فقد فقد علما ، وليس المراد نفي العقل الغريزي باعتبار انتفاء ثمرته - كما قيل به - لعدم صحة ترتبه بالفاء على ما قبله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي مستلذاته أو من حلاله ، والآية إما أمر للمؤمنين بما يليق بشأنهم من طلب الطيبات وعدم التوسع في تناول ما رزقوا من الحلال وذا لم يستفد من الأمر السابق ، وإما أمر لهم على طبق ما تقدم إلا أن فائدة تخصيصهم بعد التعميم تشريفهم بالخطاب وتمهيد لطلب الشكر ، وكُلُوا لعموم جميع وجوه الانتفاع دلالة وعبارة وَاشْكُرُوا لِلَّهِ على
ما أنعم به عليكم والالتفات لتربية المهابة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ بمنزلة التعليل لطلب الشكر كأنه قيل :
واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة وتخصيصكم إياه بالعبادة يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه وهي لا تتم إلا بالشكر لأنه من أجل العبادات - ولذا جعل نصف الإيمان - وورد من حديث أبي الدرداء مرفوعا يقول اللّه تعالى «إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري»
والقول بأن المراد إن كنتم تعرفونه أو إن أردتم عبادته منحط من القول إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي أكلها والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف ، وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة ، وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ وألحق ب الْمَيْتَةَ ما أبين من حي للحديث الذي
أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : ما قطع من البهيمة ، وهي حية فهي ميتة»
وخرج عنها السمك والجراد للحديث الذي
أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما مرفوعا «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال»
وللعرف أيضا فإنه إذا قال القائل : أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما ، نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب ، وعليه أكثر المالكية ، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة ، وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافا لمن أباحه من المالكية ، وقرأ أبو جعفر : الميتة مشددة وَالدَّمَ قيد في سورة الإنعام بالمسفوح وسيأتي ، واستدل بعمومه على تحريم نجاسة دم الحوت ، وما لا نفس له تسيل وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ خص اللحم بالذكر مع أن بقية أجزائه أيضا حرام خلافا للظاهرية لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له ، وقيل : خص اللحم ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وفيه ما لا يخفى ، ولعل السر في إقحام لفظ اللحم هنا إظهار حرمة ما استطيبوه وفضلوه على سائر اللحوم واستعظموا وقوع تحريمه ، واستدل أصحابنا بعموم الخنزير على حرمة خنزير البخر ، وقال الشافعي رضي اللّه تعالى عنه :
لا بأس به ، وروي عن الإمام مالك أنه قال له شخص : ما تقول في خنزير البحر؟ فقال : حرام ثم جاء آخر فقال له : ما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 440
تقول في حيوان في البحر على صورة الخنزير؟ فقال حلال - فقيل له - في ذلك فقال : إن اللّه تعالى حرم الخنزير ولم يحرم ما هو على صورته ، والسؤال مختلف في الصورتين.
وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ما وقع متلبسا به أي بذبحه الصوت لغير اللّه تعالى ، وأصل الإهلال عند كثير من أهل اللغة رؤية الهلال لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي بذلك إهلالا ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان بغيره ، والمراد - بغير اللّه - تعالى الصنم وغيره كما هو الظاهر ، وذهب عطاء ومكحول والشعبي والحسن وسعيد بن المسيب إلى تخصيص الغير بالأول وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح ، وهذا خلاف ما اتفق عليه الأئمة من التحريم وإنما قدم به هنا لأنه أمس بالفعل وأخر في مواضع أخر نظرا للمقصود فيها من ذكر المستنكر وهو الذبح لغير اللّه عز شأنه فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ بالاستتار على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر وَلا عادٍ أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع وهو ظاهر في تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين فعن الإمام أبي حنيفة والشافعي رضي اللّه تعالى عنهما لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه لأن الإباحة للاضطرار ، وقد اندفع به ، وقال عبد اللّه بن الحسن العبري : يأكل منها قدر ما يسد جوعته ، وخالف في ذلك الإمام مالك فقال : يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غني عنها طرحها ، ونقل عن الشافعي أن المراد غَيْرَ باغٍ على الوالي وَلا عادٍ بقطع الطريق وجعل من ذلك السفر في معصية فالعاصي في سفره لا يباح له الأكل من هذه المحرمات - وهو المروي عن الإمام أحمد أيضا - وهو خلاف مذهبنا ، ويحتاج حكم الرخصة على هذا إلى التقييد بأن لا يكون زائدا على قدر الضرورة من خارج ، واستدل بعموم الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي خلافا لمن منع ذلك ، وقرأ أهل الحجاز والشام والكسائي فَمَنِ اضْطُرَّ بضم النون وأبو جعفر منهم بكسر الطاء من اضطر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي في تناوله بل ربما يأثم بترك التناول إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلذا أسقط الحرمة في
تناوله ورخص ، وقيل : الحرمة باقية إلا أنه سقط الإثم عن المضطر وغفر له لاضطراره كما هو من تقييد الإثم بعليه ، واستدل للأول بقوله تعالى : إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الإنعام : 119] حيث استثني من الحرمة ، ثم أعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ما ذكر مطلقا كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد بما اعتقدوه حلالا بقرينة أنهم كانوا يستحلون ما ذكر فكأنه قيل : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ما ذكر من جهة ما استحللتموه لأشياء أخر ، والمقصود من قصر الحرمة على ما ذكر رد اعتقادهم حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس لرد اعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما استحلوه بل تأكيد الجزء الأول ، والخطاب للناس باعتبار دخول المشركين فيهم فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا زجر عن تحريم الحلالات أو المراد قصر حرمة ما ذكر على حال الاختيار ، كأنه قيل : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها ، والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة هذه الأمور ، وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب الحلال الطيب ، أو تشريفهم بالامتنان بهذا الترخيص بعد الامتنان عليهم بإباحة المستلذات ، واختار بعضهم أن المراد من الحصر رد المشركين في تحريمهم ما أحله اللّه تعالى - من البحيرة والوصيلة والحام - وأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية ، فكأنهم قالوا : تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا ، فقيل : ما حرمت إلا هذه - فهو إذا إضافي - وذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات ، وفيه أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم ، قاله بعض المحققين فليتدبر.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 441
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات ، والآية نزلت - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه - في علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى اللّه تعالى عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رئاستهم وتنقطع هداياهم وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي يأخذون بدله في نفس الأمر ، والضمير - للكتاب
- أو لما أنزل أو للكتمان ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا حقيرا. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إما في الحال - كما هو أصل المضارع - لأنهم أكلوا ما يتلبس ب النَّارَ وهو - الرشا - لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من - أكلهم النار - من حيث إنه يترتب على - أكل - كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر ، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه ، وإما في المآل ، أي لا يأكلون يوم القيامة إِلَّا النَّارَ فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي ، وقيل :
إنها مجاز عن - الرشا - إذا أريد الحال ، والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل ، ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد ، والجار والمجرور حال مقدرة ، أي ما يَأْكُلُونَ شيئا حاصلا فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إذ الحصول في - البطن - ليس مقارنا للأكل ، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الاستثناء ، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق ب يَأْكُلُونَ والمراد في طريق بُطُونِهِمْ كما اختاره أبو البقاء ، والتقييد - بالبطون - لإفادة - المل ء - لا للتأكيد - كما قيل به - والظرفية بلفظة فِي وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف ، لكنه شاع استعمال ظرفية - البطن - في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله :
كلوا - في بعض - بطنكم - تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي كلام رحمة - كما قال الحسن - فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم ، وقيل :
«لا يكلمهم» أصلا لمزيد غضبه جل جلاله عليهم ، والسؤال بواسطة الملائكة.
وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من دنس الذنوب ، أو لا يثني عليهم.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم ، وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى ، لأنه لما ذكر سبحانه اشتراءهم بذلك - الثمن القليل - وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولا في الخبر بقوله تعالى : ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ثم قابل - كتمانهم الحق - وعدم التكلم به بقوله تعالى : وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ تعالى ، وابتنى على - كتمانهم واشترائهم بما أنزل اللّه تعالى ثمنا قليلا - أنهم شهود زور وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه : وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وبدأ أولا بما يقابل فردا فردا ، وثانيا بما يقابل المجموع أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا بسبب كتمانهم الحق للمطامع الدنية ، والأغراض الدنيوية الضَّلالَةَ بِالْهُدى في الدنيا وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ في الآخرة ، والجملة إما مستأنفة فإنه لما عظم وعيد الكاتمين كان مظنة أن يسأل عن سبب عظم وعيدهم ، فقيل : إنهم بسبب الكتمان خسروا الدنيا والآخرة ، وإما خبر بعد خبر لأن ، والجملة الأولى لبيان شدة وعيدهم ، وهذه لبيان شناعة كتمانهم.
فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ أي ما أشد صبرهم ، وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر لهم ، وما في مثل هذا التركيب قيل : نكرة تامة - وعليه الجمهور - وقيل : استفهامية ضمنت معنى التعجب - وإليه ذهب الفراء - وقيل : موصولة - وإليه ذهب الأخفش - وحكي عنه أيضا أنها نكرة موصوفة - وهي على هذه الأقوال - في محل رفع على الابتداء ، والجملة خبرها ، أو خبرها محذوف إن كانت صفة أو صلة ، وتمام الكلام

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 442
في كتب النحو. ذلِكَ أي مجموع ما ذكر من أكل النار ، وعدم التكليم ، والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي بسبب أن اللّه تعالى نَزَّلَ القرآن ، أو التوراة متلبسا بالحق ليس فيه شائبة البطلان أصلا فرفضوه - بالتكذيب أو الكتمان.
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ أي في جنسه - بأن آمنوا ببعض كتب اللّه تعالى وكفروا ببعض - أو في التوراة ، ومعنى اخْتَلَفُوا تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها ، أو جعلوا ما بدلوه خلفا عما فيها - أو في القرآن - واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه سحر ، وبعضهم إنه شعر ، وبعضهم إنه أساطير الأولين.
لَفِي شِقاقٍ أي خلاف بَعِيدٍ عن الحق موجب لأشد العذاب ، وهذه الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه. ومن الناس من جعل - الواو - للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم كما لا يخفى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْبِرَّ اسم جامع لأنواع الخير والطاعات المقربة إلى اللّه تعالى - والخطاب لأهل الكتابين - والمراد من قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ السمتان المعينان ، فإن اليهود تصلي - قبل المغرب - إلى بيت المقدس من أفق مكة ، والنصارى - قبل المشرق - والآية نزلت ردا عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر - البر - على قبلته ردا على الآخر فرد اللّه تعالى عليهم جميعا بنفي جنس الْبِرَّ عن قبلتهم لأنها منسوخة ، فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفي - لا للقصر - إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي.
ويحتمل أن يكون الخطاب عاما لهم وللمسلمين - فيكون عودا على بدء - فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع ، فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل. والمراد من ذكر الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ التعميم - لا تعيين السمتين - وتعريف الْبِرَّ حينئذ إما للجنس فيفيد القصر ، والمقصود نفي اختصاص الْبِرَّ بشأن القبلة مطلقا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك والذهول عما سواه ، وإما للعهد أي ليس الْبِرَّ العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك ، وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب ، وقرأ حمزة وحفص - البر - بالنصب والباقون بالرفع. ووجه الأولى أن يكون خبرا مقدما كما في قوله :
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم فليس «سواء» عالم وجهول
وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم ، ووجه الثانية أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك ، وقرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه لَيْسَ الْبِرَّ بالنصب بأن تولوا - بالباء - وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل ، وأل - في الْبِرَّ إما للجنس فيكون القصر ادعائيا لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد ، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله ، والكلام على حذف مضاف أي - برّ من آمن - إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال بإطلاق الْبِرَّ على البار مبالغة ، والأول أوفق لقوله : لَيْسَ الْبِرَّ وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول ، والمراد بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى القائلين - عزير ابن اللّه والمسيح ابن اللّه - وقرأ نافع وابن عامر - «ولكن» - بالتخفيف ، وقرأ بعضهم «البار» بصيغة اسم الفاعل.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 443
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي المعاد الذي يقول به المسلمون وما يتبعه عندهم وَالْمَلائِكَةِ أي وآمن بهم وصدق بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون بينه تعالى وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي وإنزال الكتب وَالْكِتابِ أي جنسه فيشمل جميع - الكتب - الإلهية لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه ، ولما
ورد في الحديث «أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله»
أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقا لما بين يديه ، وقيل : التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا باعتبار استلزامه الإيمان بالقرآن ، والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسبما اقتضته الحكمة من اللغات وَالنَّبِيِّينَ أي جميعهم من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس حسبا ونسبا وأن ليس فيهم وصمة ولا عيب منفر ويعتقد أن سيدهم وخاتمهم محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة.
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ حال من ضمير آتى ، والضمير المجرور للمال - أي أعطى المال كائنا على حب المال - والتقييد لبيان أفضل أنواع الصدقة
فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم [الواقعة : 83] قلت لفلان كذا لفلان كذا إلا وقد كان لفلان»
وفي هذا إيذان بأن درجات الثواب تتفاوت حسب تفاوت المراتب في الحب حتى أن صدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغني والكريم إلا أن يكونا أحب للمال منهما ، ويؤيد ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام : «أفضل الأعمال أحمزها»
وجوز رجوع الضمير للّه تعالى أو للمصدر المفهوم من الفعل والتقييد حينئذ للتكميل ، وبيان اعتبار الإخلاص أو طيب النفس في الصدقة ودفع كون إيتاء المال مطلقا برا ، والأول هو المأثور عن السلف الصالح ، ولعله المروي عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ذَوِي الْقُرْبى مفعول أول ل آتَى قدم عليه مفعوله «الثاني» للاهتمام أو لأن فيه مع «ما» عطف عليه طولا لو روعي الترتيب لفات تجاوب الأطراف ، وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضا ، وقيل : هو المفعول الثاني ، والمراد ب ذَوِي الْقُرْبى - ذوو قرابة - المعطي لكن المحاويج منهم لا مطلقا لدلالة سوق الكلام ، وعد مصارف الزكاة على أن المراد الخير والصدقة - وإيتاء - الأغنياء هبة لا صدقة ، وقدم هذا الصنف لأن - إيتاءهم - أهم فقد صح
عن أم كلثوم بنت عقبة قالت : سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول : «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح»
وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن سلمان بن عامر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة».
وَالْيَتامى عطف على ذَوِي الْقُرْبى وقيل على الْقُرْبى إذ لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فالمعطي حينئذ كافلهم لأجلهم ، فيه ما لا يخفى وَالْمَساكِينَ جمع - مسكين - وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون ، والالتجاء إلى الناس ، وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما يقع موقعا من حاجته خارج عن مفهومه وَابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر - كما قاله مجاهد - وسمي بذلك لملازمته الطريق في السفر أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدا يتوق إلى الجمع ، ويشتاق إلى الربع ، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه ، أو لأنه لما لم يكن بين أبناء السبيل ، والمعطي تعارف غالبا يهون أمر الإعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 444
وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعا ينبغي أن يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد منفعتهم فليفهم ، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير أنه الضيف الذي ينزل بالمسلمين وَالسَّائِلِينَ أي الطالبين للطعام سواء كانوا أغنياء إلا أن ما عندهم لا يكفي لحاجتهم أو فقراء كما يدل عليه ظاهر ما
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي رضي اللّه تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «للسائل حق وإن جاء على فرس»
فإن الجائي على فرس يكون في الغالب غنيا ، وقيل : أراد الْمَساكِينَ الذين يسألون فتعرف حالهم بسؤالهم ، وَالْمَساكِينَ السابق ذكرهم الذين لا يسألون وتعرف حاجتهم بحالهم وإن كان ظاهرهم الغنى وعليه يكون التقييد في الحديث لتأكيد رعاية حق السائل وتحقيق أن السؤال سبب للاستحقاق ، وإن فرض وجوده من الغنى كالقرابة واليتم.
وَفِي الرِّقابِ متعلق ب آتَى أي آتى المال في تخليص الرقاب وفكاكها بمعاونة المكاتبين ، أو فك الأسارى ، أو ابتياع الرقاب لعتقها ، و- الرقبة - مجاز عن الشخص وإيراد كلمة - في للإيذان بأن ما يعطى لهؤلاء مصروف في تخليصهم لا يملكونه كما في المصارف الأخر وَأَقامَ الصَّلاةَ عطف على صلة مَنْ والمراد بالصلاة المفروضة كالزكاة في وَآتَى الزَّكاةَ بناء على أن المراد بما مر من إيتاء المال نوافل الصدقات وقدمت على الفريضة مبالغة في الحث عليها ، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة ،
أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ الآية» وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه نحو ذلك ،
واختلف هل بقي هذا الحق أم لا؟ فذهب قوم إلى الثاني واستدلوا بما
روي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه مرفوعا - نسخ الأضحى كل ذبح ، ورمضان كل صوم وغسل الجنابة كل غسل ، والزكاة كل صدقة -
وقال جماعة بالأول لقوله تعالى : وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات :
19] ولقوله عليه الصلاة والسلام : «لا يؤمن باللّه واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه»
وللإجماع على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم وأجابوا عن الحديث بأنه غريب معارض ، وفي إسناده المسيب بن شريك - وهو ليس بالقوي عندهم - وبأن المراد أن الزكاة نسخت كل صدقة مقدرة ، وجوز أن يكون المراد بما مر الزكاة المفروضة أيضا ولا تكرار لأن الغرض مما تقدم بيان مصارفها ، ومن هذا بيان أدائها والحث عليها وترك ذكر بعض المصارف لأن المقصود هاهنا بيان أبواب الخير دون الحصر ، وقدم بيان المصرف اهتماما بشأنه فإن الصدقة إنما تعتبر إذا كانت في مصرفها ومحلها كما يدل عليه قوله تعالى : قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة : 215] وعلى هذا يتعين أن يراد بالسائلين الفقراء وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا عطف على مَنْ آمَنَ ولم يقل وأوفى كما قبله إشارة إلى وجوب استقرار الوفاء ، وقيل : رمزا إلى أنه أمر مقصود بالذات ، وقيل : إيذانا بمغايرته لما سبق فإنه من حقوق اللّه تعالى والسابق من حقوق الناس ، وعلى هذا فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا من العهود الجارية فيما بين الناس ، والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق ، وحذف المعمول يؤذن بذلك ، والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة ، وقيل : للإشارة إلى عدم كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل : به وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ نصب على المدح بتقدير - أخص أو أمدح - وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول ، ومجيء القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب أيضا واستحسنه الأجلة وجعلوه أبلغ من الاتباع

روح المعاني ، ج 1 ،
ص : 445
وقد جاء في النكرة أيضا كقول الهذلي :
ويأوي إلى نسوة عطل وشعثا مراضيع مثل السعالى
و- البأساء - البؤس والفقر ، و- الضراء - السقم والوجع وهما مصدران بنيا على فعلاء وليس لهما أفعل لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت وقرىء والصابرون كما قرىء والموفين.
وَحِينَ الْبَأْسِ أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض ، وعدي الصبر على الأولين بفي لأنه لا يعد الإنسان من الممدوحين إذا صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له وأما إذا أصاباه وقتا ما وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك وأتى - بحين - في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في إيمانهم أو طلب البر.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عذاب اللّه تعالى بتجنب معاصيه وامتثال أوامره ، وأتى بخبر - أولئك - الأولى موصولا بفعل ماض إيذانا بتحقق اتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم واستقر ، وغاير في خبر الثانية ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد بل صار كالسجية لهم ، وأيضا لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة ، هذا والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة أقسام ، فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد ، وآخرها قوله : وَالنَّبِيِّينَ وافتتحها بالإيمان باللّه واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة فيلتئم مع ما نفاه أو لا غاية الالتئام ، والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها وَآتَى الْمالَ وآخرها وَفِي الرِّقابِ والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها وَأَقامَ الصلاة وآخرها وَحِينَ الْبَأْسِ ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان «ومن باب التأويل» لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد فإن ذلك تقيد واحتجاب وَلكِنَّ الْبِرَّ بر الموحد الذي آمن باللّه والمعاد في مقام الجمع وشاهد الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجب بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين والكتاب الجامع بين الظاهر والباطن وَآتَى العلم الذي هو مال القلب مع كونه محبوبا ذوي قربى القوى الروحانية القريبة منه ، ويتامى القوى النفسانية المنقطعة عن الأب الحقيقي وهو نور الروح ، ومساكين القوى الطبيعية التي لم تزل دائمة السكون إلى تراب البدن ، وأبناء السبيل السالكين إلى منازل الحق ، والسائلين الطالبين بلسان استعدادهم ما يكون غذاء لأرواحهم ، وفي
فك رقاب عبدة الدنيا وأسراء الشهوات بالوعظ والإرشاد ، وأقام صلاة الحضور ، وآتى ما يزكي نفسه بنفي الخواطر ومحو الصفات ، والموفون بعهد الأزل بترك المعارضة في العبودية والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة ، والصابرين في بأساء الافتقار إلى اللّه تعالى دائما ، وضراء كسر النفس ، وحين بأس محاربة العدو الأعظم أولئك الذين صدقوا اللّه تعالى في السير إليه وبذل الوجود وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عن الشرك المنزهون عن سائر الرذائل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلافي لما فرط من المخلين بما تقدم من قواعد الدين التي يبنى عليها أمر المعاش والمعاد كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يضر فيه قدرة الولي على العفو فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين ، وأصل الكتابة الخط ثم كني به عن الإلزام ، وكلمة - على - صريحة في ذلك الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى أي بسببهم على حد «إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها» وقيل : عدي القصاص بفي لتضمنه معنى المساواة إذ معناه أن يفعل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 446
بالإنسان مثل ما فعل ، ومنه سمي المقص مقصا لتعادل جانبيه ، والقصة قصة لأن الحكاية تساوي المحكي ، والقصاص قصاصا لأنه يذكر مثل أخبار الناس ، والْقَتْلى جمع قتيل كجريح وجرحى ، وقرى ء - كتب - على البناء للفاعل ، والْقِصاصُ بالنصب وليس في إضمار المتعين المتقرر قبل ذكره إضمار قبل الذكر الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى جملة مبينة لما قبلها أي الحر يقتص بالحر ، وقيل : مأخوذ به
روي أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فنزلت فأمرهم «1» أن يتباؤوا ،
فالآية كما تدل على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا لم يعلم نفيه بمفهوم الموافقة وقد علم من قتل العبد بالعبد وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى كذلك لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى لأن مفهوم المخالفة كما هو مشروط بذلك الشرط مشروط بأن لا يكون للتخصيص فائدة أخرى ، والحديث بين الفائدة وهو المنع من التعدي وإثبات المساواة بين حر وحر وعبد وعبد فمنع الشافعي ومالك قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ليس للآية بل للسنة والإجماع والقياس ، أما الأول
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي اللّه تعالى عنه «أن رجلا قتل عبده فجلده الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به»
وأخرج أيضا أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال «من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد»
وأما الثاني فقد روي أن أبا بكر وعمر رضي اللّه تعالى عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم وهم الذين لم تأخذهم في اللّه تعالى لومة لائم. وأما الثالث فلأنه لا قصاص في الأطراف بين الحر والعبد بالاتفاق فيقاس القتل عليه ، وعند إمامنا الأعظم رضي اللّه تعالى عنه يقتل الحر بالعبد
لقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم»
ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما ، والتفاضل في الأنفس غير معتبر بدليل أن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به ولقوله تعالى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة : 45] وشريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا ، ومن الناس من قال : إن الآية دالة على ما ذهب إليه المخالف لأن الْحُرُّ بِالْحُرِّ بيان وتفسير لقوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فدل على أن رعاية التسوية في - الحرية والعبدية - معتبرة ، وإيجاب الْقِصاصُ على - الحر - بقتل الْعَبْدُ إهمال لرعاية التسوية في ذلك المعنى ، ومقتضى هذا أن لا يقتل الْعَبْدُ إلا بِالْعَبْدِ ولا تقتل الْأُنْثى إلا بِالْأُنْثى إلا أن المخالف لم يذهب إليه ، وخالف الظاهر للقياس والإجماع ، ومن سلم هذا منا ادعى نسخ الآية بقوله تعالى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لأنه لعمومه نسخ اشتراط المساواة في الحرية والذكورة المستفادة منها ، وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والثوري وأورد عليه أن الآية حكاية ما في التوراة وحجية حكاية شرع من قبلنا مشروطة بأن لا يظهر ناسخه كما صرحوا به ، وهو يتوقف على أن لا يوجد في القرآن ما يخالف المحكي إذ لو وجد ذلك كان ناسخا له لتأخره عنه فتكون الحكاية حكاية المنسوخ ، ولا تكون حجة فضلا عن أن تكون ناسخا ، وبعد تسليم الدلالة يوجد الناسخ كما لا يخفى هذا ، وذهب ساداتنا الحنفية والمالكية وجماعة إلى أنه ليس للولي إلا
___________
(1) إن كان الحيان كفارا كما يشعر به لفظ التحاكم. ويدل عليه ما في المغني أنهم قريظة ، والنضير فالأمر بالتساوي ظاهر ، وإن كانوا مسلمين كما يدل عليه ما في الدر المنظوم - فمعنى الأمر به أن ما مضى سواء بسواء ، وأن ما أقسموا عليه يجب أن ينتهوا عنه فلا يرد أن الإسلام يجب ما قبله ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 447
القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل لأن اللّه تعالى ذكر في الخطأ الدية فتعين أن يكون القصاص فيما هو ضد الخطأ وهو العمد ولما تعين بالعمد لا يعدل عنه لئلا يلزم الزيادة على النص بالرأي ، واعترض بأن منطوق النص وجوب رعاية المساواة في القود وهو لا يقتضي وجوب أصل القود ، وأجيب بأن القصاص وهو القود بطريق المساواة يقتضي وجوبهما فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز ولو أقل قليل فالمصدر المبهم في حكم الموصوف فيجوز نيابته عن الفاعل وله مفعول به ، ومِنْ أَخِيهِ يجوز أن يتعلق بالفعل ويجوز أن يكون حالا من شيء ، وفي إقامة شيء مقام الفاعل على إشعار بأن بعض العفو كأن يعفى عن بعض الدم أو يعفو عنه بعض الورثة كالعفو التام في إسقاط القصاص لأنه لا يتجزأ ، والمراد بالأخ وليّ الدم سماه أخا استعطافا بتذكير إخوة البشرية والدين ، وقيل : المراد به المقتول ، والكلام على حذف مضاف أي من دم أخيه ، وسماه أخا القاتل للإشارة إلى أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع بالقتل ، وعُفِيَ تعدى إلى الجاني وإلى الجناية بعن يقال : عفوت عن زيد وعن ذنبه - وإذا عديت إلى الذنب مرادا سواء كان مذكورا أولا كما في الآية عدي إلى الجاني «باللام» لأن التجاوز عن الأول والنفع للثاني فالقصد هنا إلى التجاوز عن الجناية إلا أنه ترك ذكرها لأن الاهتمام بشأن الجاني ، وقدر بعضهم - عن - هذه داخلة على شيء لكن لما حذفت ارتفع لوقوعه موقع الفاعل ، وهو من باب الحذف والإيصال المقصور على السماع ، ومن الناس من فسر عُفِيَ بترك فهو حينئذ متعد أقيم مفعوله مقام فاعله ، واعترض بأنه لم يثبت - عفا - الشيء بمعنى تركه ، وإنما الثابت أعفاه ، ورد بأنه ورد ، ونقله أئمة اللغة المعول عليهم في هذا الشأن وهو وإن لم يشتهر إلا أن إسناد المبني للمجهول إلى المفعول الذي هو الأصل يرجح اعتباره ويجعله أولى من المشهور لما أن
فيه إسناد المجهول للمصدر وهو خلاف الأصل ، والقول بأن شَيْءٌ مرفوع - بترك - محذوفا يدل عليه عُفِيَ ليس بشيء لأنه بعد اعتبار معنى العفو لا حاجة إلى معنى الترك بل هو ركيك كما لا يخفى فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي فليكن - اتباع - أو فالأمر - اتباع - والمراد وصية العافي بأن لا يشدد في طلب الدية على المعفو له وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة عليها والمعفو بأن لا يمطل العافي فيها ولا يبخس منها ويدفعها عند الإمكان ، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه والحسن وقتادة ومجاهد ، وقيل : المراد فعلى المعفو له الاتباع والأداء ، والجملة خبر مِنْ على تقدير موصوليتها ، وجواب الشرط على تقدير شرطيتها ، وربما يستدل بالآية على أن مقتضى العمد القصاص وحده حيث رتب الأمر بأداء الدية على العفو المرتب على وجوب القصاص ، واستدل بها بعضهم على أن الدية أحد مقتضى العمد وإلا لما رتب الأمر بأداء الدية على مطلق العفو الشامل للعفو عن كل الدم وبعضه بل يشترط رضا القاتل وتقييده بالبعض ، واعترض بأنه إنما يتم لو كان التنوين في شيء للإبهام أي شيء من العفو أي شيء كان ككله أو بعضه أما لو كان للتقليل فلا إذ يكون الأمر بالأداء مرتبا على بعض العفو ولا شك أنه إذا تحقق عن الدم يصير الباقي مالا وإن لم يرض القاتل ، وأيضا الآية نزلت في الصلح وهو الموافق للأم فإن عفا إذا استعملت بها كان معناها البدل أي فمن أعطى له من جهة أخيه المقتول شيء من المال بطريق الصلح فلمن أعطى وهو الولي مطالبة البدل عن مجاملة وحسن معاملة إلا أن يقال : إنها نزلت في - العفو - كما هو ظاهر اللفظ ، وبه قال أكثر المفسرين.
ذلِكَ أي الحكم المذكور في ضمن بيان العفو والدية تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ لما في شرعية العفو تسهيل على القاتل ، وفي شرعية - الدية - نفع لأولياء المقتول ، وعن مقاتل أنه كُتِبَ على اليهود الْقِصاصُ وحده ، وعلى النصارى - العفو - مطلقا وخير هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب المنازل وعلى هذا يكون فَمَنْ تَصَدَّقَ بيانا لحكم هذه الشريعة بعد حكاية حكم كان في التوراة ، وليس داخلا تحت

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 448
الحكاية فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي تجاوز ما شرع بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم ، أو قتل القاتل بعد - العفو - وأخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي نوع من العذاب مؤلم ، والمتبادر أنه في الآخرة ، والمروي عن الحسن وابن جبير أنه في الدنيا بأن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية لما
أخرجه أبو داود من حديث سمرة مرفوعا «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية».
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ عطف على قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ والمقصود منه توطين النفس على الانقياد لحكم الْقِصاصِ لكونه شاقا للنفس - وهو كلام في غاية البلاغة - وكان أوجز كلام عندهم في هذا المعنى - القتل أنفى للقتل - وفضل هذا الكلام عليه من وجوه «الأول» قلة الحروف ، فإن الملفوظ هنا عشرة أحرف - إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة - وهناك أربعة عشر حرفا «الثاني» الإطراد ، إذ في كل - قصاص حياة - وليس كل قتل أنفى للقتل - فإن للقتل ظلما أدعى للقتل «الثالث» ما في تنوين حَياةٌ من النوعية أو التعظيم.
«الرابع» صنعة الطباق بين - القصاص والحياة - فإن الْقِصاصِ تفويت - الحياة - فهو مقابلها.
«الخامس» النص على ما هو المطلوب بالذات - أعني الحياة - فإن نفي - القتل - إنما يطلب لها لا لذاته.
«السادس» الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده ، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق ، فكان الْقِصاصِ فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات «السابع» الخلو عن التكرار مع التقارب ، فإنه لا يخلو عن استبشاع ، ولا يعد رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا «الثامن» عذوبة اللفظ وسلاسته حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة إذ ليس في قولهم : حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد ، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان ، وأيضا الخروج من - الفاء إلى اللام - أعدل من الخروج من - اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام - وكذلك الخروج من - الصاد إلى الحاء - أعدل من الخروج من - الألف إلى اللام - «التاسع» عدم الاحتياج إلى الحيثية ، وقولهم : يحتاج إليها.
«العاشر» تعريف الْقِصاصِ بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على - الضرب والجرح والقتل - وغير ذلك ، وقولهم : لا يشمله «الحادي عشر» خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا.
«الثاني عشر» اشتماله على ما يصلح للقتال وهو - الحياة - بخلاف قولهم ، فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان ، وإنه لمما يليق بهم «الثالث عشر» خلوه عما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه - وهو محال إلى غير ذلك - فسبحان من علت كلمته ، وبهرت آيته ، ثم المراد ب حَياةٌ اما الدنيوية - وهو الظاهر - لأن في شرع الْقِصاصِ والعلم به يروع القاتل عن القتل ، فيكون سبب حَياةٌ نفسين في هذه النشأة ، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، وتقوم حرب البسوس على ساق ، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون - ويصير ذلك سببا لحياتهم - ويلزم على الأول الإضمار ، وعلى الثاني التخصيص ، وأما الحياة الأخروية بناء على أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة ، وعلى هذا يكون الخطاب خاصا بالقاتلين ، والظاهر أنه عام والظرفان إما خبران ل حَياةٌ أو أحدهما خبر والآخر صلة له ، أو حال من المستكن فيه. وقرأ أبو الجوزاء «في القصص» وهو مصدر بمعنى المفعول ، والمراد من المقصوص هذا الحكم بخصوصه - أو القرآن مطلقا - وحينئذ يراد - بالحياة - حياة القلوب لا حياة الأجساد ، وجوز كون «القصص» مصدرا بمعنى الْقِصاصِ فتبقى - الحياة - على حالها يا أُولِي الْأَلْبابِ يا ذوي العقول الخالصة عن شوب الهوى ، وإنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 449
لأنهم أهل التأمل في حكمة الْقِصاصِ من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس ، وقيل : للإشارة إلى أن الحكم مخصوص بالبالغين دون الصبيان لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ربكم باجتناب معاصيه المفضية إلى العذاب أو القتل بالخوف من الْقِصاصِ وهو المروي عن ابن عباس والحسن وزيد رضي اللّه تعالى عنهم ، والجملة متعلقة بأول الكلام.
[سورة البقرة (2) : الآيات 180 إلى 193]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 450
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بيان حكم آخر من الأحكام المذكورة ، وفصله عما سبق للدلالة على كونه حكما مستقلا - كما فصل اللاحق لذلك - ولم يصدره بيا أيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقا بالأموات ، أو لأنه لما لم يكن شاقا لم يصدره كما صدر الشاق تنشيطا لفعله ، والمراد من - حضور الموت - حضور أسبابه ، وظهور أماراته من العلل والأمراض المخوفة أو حضوره نفسه ودنوه ، وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها.
إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا - كما قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ومجاهد - وقيده بعضهم بكونه كثيرا إذ لا يقال في العرف للمال : خَيْراً إلا إذا كان كثيرا ، كما لا يقال : فلان ذو مال إلا إذا كان له مال كثير ، ويؤيده ما
أخرجه البيهقي وجماعة - عن عروة - أن عليا كرم اللّه تعالى وجهه دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم ، فقال : ألا أوصي؟ قال لا إنما قال اللّه تعالى : إِنْ تَرَكَ خَيْراً وليس لك كثير مال ، فدع مالك لورثتك.
وما أخرجه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أن رجلا قال لها : أريد أن أوصي قالت : كم مالك؟
قال : ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة ، قالت : قال اللّه تعالى : إِنْ تَرَكَ خَيْراً وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل ، والظاهر من هذا أن الكثرة غير مقدرة بمقدار ، بل تختلف باختلاف حال الرجل فإنه بمقدار من المال يوصف رجل بالغني ولا يوصف به غيره لكثرة العيال. وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما تقديرها ، فقد أخرج عبد بن حميد عنه «من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا» ومذهب الزهري أن الْوَصِيَّةُ مشروعة مما قل أو كثر ، - فالخير - عنده المال مطلقا - وهو أحد إطلاقاته - ولعل اختياره إيذانا بأنه ينبغي أن يكون الموصى به حلالا طيبا لا خبيثا لأن الخبيث يجب رده إلى أربابه ويأثم ب الْوَصِيَّةُ فيه.
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مرفوع ب كُتِبَ وفي الرضيّ إذا كان الظاهر غير حقيقي التأنيث منفصلا فترك العلامة أحسن إظهار الفضل الحقيقي على غيره - ولهذا اختير هنا تذكير الفعل - والْوَصِيَّةُ اسم من أوصى يوصي ، وفي القاموس أوصاه ووصاه توصية - عهد إليه - والاسم الوصاية والْوَصِيَّةُ وهي الموصى به أيضا والجار متعلق بها فلا بد من تأويلها بأن مع الفعل عند الجمهور ، أو بالمصدر بناء على تحقيق الرضى من أن عمل المصدر لا يتوقف على تأويله ، وهو الراجح ولذلك ذكر الراجع في بدله ، وجوز أن يكون النائب عَلَيْكُمْ والْوَصِيَّةُ خبر مبتدأ كأنه قيل : ما المكتوب؟ فقيل هو الوصية ، وجواب الشرط محذوف دل عليه كُتِبَ عَلَيْكُمْ ، وقيل : مبتدأ خبره لِلْوالِدَيْنِ والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء لأن الاسمية إذا كانت جزاء لا بد فيها منها ، والجملة الشرطية مرفوعة ب كُتِبَ أو عَلَيْكُمْ وحده ، والجملة استئنافية ورد بأن إضمار الفاء غير صحيح لا يجترى عليه إلا في ضرورة الشعر كما قال الخليل ، والعامل في إِذا معنى كُتِبَ والظرف قيد للإيجاب من حيث الحدوث والوقوع ، والمعنى توجه خطاب اللّه تعالى عَلَيْكُمْ ومقتضى كتابته إِذا حَضَرَ وغير إلى ما ترى لينظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، وجوز أن يكون العامل الوصية ، وهي وإن كانت اسما إلا أنها مؤولة بالمصدر أو بأن والفعل ، والظرف مما يكفيه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزيله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه ، وعدم انفكاكه عنه ، ولهذا توسع في الظروف ما لم يتوسع في غيرها ، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أوّل به ، وقد كثر تقديم معمول المصدر عليه في الكلام ، والتقدير تكلف ، ولا يرد على التقديرين أن الوصية واجبة على - من حضره الموت -

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 451
لا على جميع المؤمنين عند حضور أحدهم الموت لأن «أحدكم» يفيد العموم على سبيل البدل فمعنى إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ إذا حضر واحدا بعد واحد ، وإنما زيد لفظ - أحد - للتنصيص على كونها فرض عين لا كفاية كما في كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى والقول بأن الوصية لم تفرض على من - حضره الموت - فقط بل عليه بأن يوصي ، وعلى الغير بأن يحفظ ولا يبدل ، ولهذا قال : عَلَيْكُمْ وقال أَحَدَكُمُ لأن الموت يحضر أحد المخاطبين بالافتراض عليهم ليس بشيء لأن حفظ الوصية إنما يفرض على البعض بعد الوصية لا وقت الاحتضار فكيف يصح أن يقال فرض عليكم حفظ الوصية إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ولأن إرادة الإيصاء ، وحفظه من الوصية تعسف لا يخفى ، واختار بعض المحققين أن إِذا شرطية وجواب الشرط كل من الشرطين محذوف ، والتقدير إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ - فليوص إن ترك خيرا - فليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه ، وحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه ، والشرط الثاني عند صاحب التسهيل مقيد للأول كأنهقيل : إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تاركا للخير فليوص ، ومجموع الشرطين معترض بين كُتِبَ وفاعله لبيان كيفية الإيصاء قبل ، ولا يخفى أن هذا الوجه مع غنائه عن تكلف تصحيح الظرفية وزيادة لفظ - أحد - أنسب بالبلاغة القرآنية حيث ورد الحكم أولا مجملا ثم مفصلا ووقع الاعتراض بين الفعل وفاعله للاهتمام ببيان كيفية الوصية الواجبة انتهى. وأنت تعلم ما في ذلك من كثرة الحذف المهونة لما تقدم ، ثم إن هذا الحكم كان في بدء الإسلام ثم نسخ بآية المواريث كما قاله ابن عباس وابن عمر وقتادة وشريح ومجاهد وغيرهم ، وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد ، والترمذي ، وصححه والنسائي ، وابن ماجة عن عمرو بن خارجة رضي اللّه تعالى عنهم أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال :
«إن اللّه قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية»
وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن أبي أمامة الباهلي سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول : «إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ذلك ،
وهذه الأحاديث لتلقي الأمة لها بالقبول انتظمت في سلك المتواتر في صحة النسخ بها عند أئمتنا قدس اللّه أسرارهم بل قال البعض : إنها من المتواتر وإن التواتر قد يكون بنقل من لا يتصور تواطؤهم على الكذب وقد يكون بفعلهم بأن يكونوا عملوا به من غير نكير منهم على أن النسخ في الحقيقة بآية المواريث والأحاديث مبينة لجهة نسخها ، وبين فخر الإسلام ذلك بوجهين «الأول» أنها نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وقد قال تعالى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء : 11] فرتب الميراث على - وصية - منكرة - والوصية - الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك - الوصية - باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين «والثاني» أن النسخ نوعان : أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض ، والثاني بطريق الحوالة من محل إلى آخر كما في نسخ القبلة ، وهذا من قبيل الثاني لأن اللّه تعالى فرض الإيصاء في الأقربين إلى العباد بشرط أن يراعوا الحدود ، ويبينوا حق كل قريب بحسب قرابته ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :
بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل ، ثم لما كان الموصي قد لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم وربما كان يقصد المضارة تولى بنفسه بيان ذلك الحق على وجه تيقن به أنه الصواب وأن فيه الحكمة البالغة ، وقصره على حدود لازمة من السدس والثلث والنصف والثمن لا يمكن تغيرها فتحول من جهة الإيصاء إلى الميراث فقال :
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء : 11] أي الذي فوض إليكم تولي شأنه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم ، ولما بين بنفسه ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطرق كمن أمره غيره بإعتاق

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 452
عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه بذلك انتهى حكم الوكالة ، وإلى ذلك تشير الأحاديث لما أن - الفاء - تدل على سببية ما قبلها لما بعدها فما قيل : إن من أن آية المواريث لا تعارض هذا الحكم بل تحققه من حيث تدل على تقديم الوصية مطلقا ، والأحاديث من الآحاد وتلقي الأمة لها بالقبول لا تلحقها بالمتواتر ، ولعله احترز عن النسخ من فسر الوصية بما أوصى به اللّه عز وجل من توريث الوالدين والأقربين بقوله سبحانه يُوصِيكُمُ اللَّهُ أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به اللّه تعالى عليهم على ما فيه بمعزل عن التحقيق وكذا ما قيل : من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الإيصاء فهم منها بتنبيه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن المراد منه هذه الوصية التي كانت واجبة كأنه قيل : إن اللّه تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم لأن كون آية المواريث رافعة لذلك الحكم مبينة لانتهائه مما لا ينبغي أن يشتبه على أحد ، ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا ، فمنهم من قال : إن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقربين كأن يكونوا كافرين ، وإليه ذهب ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ، وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية ،
ومنهم من قال : إن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة ، وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون وإليه ذهب الأكثرون ، واستدل محمد بن الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه عليه حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه كُتِبَ وعامله إما كُتِبَ أو حق محذوفا أي حق ذلك حقا فهو على طرز قعدت جلوسا ، ويحتمل أن يكون مؤكدا لمضمون جملة كُتِبَ عَلَيْكُمْ وإن اعتبر إنشاء فيكون على طرز - له عليّ ألف - عرفا ، وجعله صفة لمصدر محذوف أي إيصاء حقا ليس بشيء وعلى التقديرين عَلَى الْمُتَّقِينَ صفة له أو متعلق بالفعل المحذوف على المختار ، ويجوز أن يتعلق بالمصدر لأن المفعول المطلق يعمل نيابة عن الفعل ، والمراد - بالمتقين - المؤمنون ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن المحافظة على الوصية والقيام بها من شعائر المتقين الخائفين من اللّه تعالى.
فَمَنْ بَدَّلَهُ أي غير الإيصاء من شاهد ووصي ، وتغيير كل منهما إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل صفتها أو غير ذلك ، وجعل الشافعية من التبديل عموم وصيته من أوصى إليه بشيء خاص ، فالموصي بشيء خاص لا يكون وصيا في غيره عندهم ويكون عندنا وليس ذلك من التبديل في شيء بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي علمه وتحقق لديه ، وكني بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي فما إثم الإيصاء المبدل أو التبديل ، والأول رعاية لجانب اللفظ ، والثاني رعاية لجانب المعنى إلا على مبدليه لا على الموصي لأنهم الذين خالفوا الشرع وخانوا ، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على علية التبديل للإثم ، وإيثار صيغة الجمع مراعاة لمعنى من ، وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الافراد إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيسمع أقوال المبدلين والموصين ويعلم بنياتهم فيجازيهم على وفقها ، وفي هذا وعيد للمبدلين ووعد للموصين ، واستدل بالآية على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ولا يلحقه ضرر إن لم يعمل بها ، وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة وإن ترك الوصي والوارث قضاءه - وإلى ذلك ذهب الكيا - والذي يميل القلب إليه أن المديون لا تبعة عليه بعد الموت مطلقا ولا يحبس في قبره - كما يقوله الناس - أما إذا لم يترك شيئا ومات معسرا فظاهر لأنه لو بقي حيا لا شيء عليه بعد تحقق إعساره سوى نظرة إلى ميسرة ، فمؤاخذته وحبسه في قبره بعد ذهابه إلى اللطيف الخبير مما لا يكاد يعقل ، وأما إذا ترك شيئا وعلم الوارث بالدين أو برهن عليه به كان هو المطالب بأدائه والملزم بوفاته فإذا لم يؤد ولم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 453
يف أوخذ هو لا من مات وترك ما يوفى منه دينه كلا أو بعضا فإن مؤاخذة من يقول يا رب تركت ما يفي ولم يف عني من أوجبت عليه الوفاء بعدي ولو أمهلتني لوفيت مما ينافي الحكمة ولا تقتضيه الرحمة ، نعم المؤاخذة معقولة فيمن استدان لحرام وصرف المال في غير رضا الملك العلام ، وما ورد في الأحاديث محمول على هذا أو نحوه وأخذ ذلك مطلقا مما لا يقبله العقل السليم والذهن المستقيم.
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً الجنف مصدر جنف كفرح مطلق الميل والجور ، والمراد به الميل في الوصية من غير قصد بقرينة مقابلته بالإثم فإنه إنما يكون بالقصد ، ومعنى خاف توقع وعلم ، ومنه قوله :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وتحقيق ذلك أن الخوف حالة تعتري عند انقباض من شر متوقع فلتلك الملابسة استعمل في التوقع وهو قد يكون مظنون الوقوع وقد يكون معلومه فاستعمل فيهما بمرتبة ثانية ولأن الأول أكثر كان استعماله فيه أظهر ، ثم أصله أن يستعمل في الظن والعلم بالمحذور ، وقد يتسع في إطلاقه على المطلق وإنما حمل على المجاز هنا لأنه لا معنى للخوف من الميل والإثم بعد وقوع الإيصاء وقرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب - من موص - بالتشديد والباقون بالتخفيف فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أي بين الموصى لهم من الوالدين والأقربين بإجرائهم على نهج الشرع ، وقيل المراد فعل ما فيه الصلاح بين الموصي والموصى له بأن يأمر بالعدل والرجوع عن الزيادة وكونها للأغنياء وعليه لا يراد الصلح المرتب على الشقاق فإن الموصي والموصى له لم يقع بينهما شقاق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في ذلك التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف السابق ، واستدل بالآية على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها خلافا لزاعمه.
وإنما يبطل منها ما زاد عليه لأن اللّه تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ تذييل أتى به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه وذكر المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات وهي إنما تليق من فعل ما لا يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة ولذلك حسن ذكرها وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه يعني أنه تعالى غفور للآثام فلأن يكون رحيما من أطاعه من باب الأولى ، ويحتمل أن يكون ذكرها وعدا للمصلح بمغفرة ما يفرط منه في الإصلاح إذ ربما يحتاج فيه إلى أقوال كاذبة وأفعال تركها أولى ، وقيل : المراد غفور للجنف والإثم الذي وقع من الموصي بواسطة إصلاح الوصي وصيته ، أو غفور للموصي بما حدث به نفسه من الخطأ والعمل إذ رجع إلى الحق ، أو غفور للمصلح بواسطة إصلاحه بأن يكون الإصلاح مكفرا لسيئاته والكل بعيد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار الاعتناء مع بعد العهد ، والصِّيامُ كالصوم مصدر صام وهو لغة الإمساك ، ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ، قال ابن دريد : كل شيء تمكث حركته فقد صام ، ومنه قول النابغة :
خيل «صيام» وخيل غير - صائمة تحت العجاج - وأخرى تعلك اللجما
فصامت الريح ركدت ، وصامت الشمس إذا استوت في منتصف النهار ، وشرعا إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى يومنا كما هو ظاهر عموم الموصول ، وعن ابن عباس ومجاهد رضي اللّه تعالى عنهما اتهم أهل الكتاب ، وعن الحسن والسدي والشعبي أنهم النصارى ، وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين فيه ، فإن الأمور الشاقة إذا عمت طابت ، والمراد بالمماثلة إما المماثلة في أصل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 454
الوجوب - وعليه أبو مسلم والجبائي - وإما في الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون ، وزاد فيه النصارى يوما قبل ويوما بعد احتياطا حتى بلغوا فيه خمسين يوما فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل ، وأخرج ابن حنظلة والنحاس والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعا كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا : لئن شفاه اللّه تعالى لنزيدن عشرا ، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه فقالوا : لئن شفاه اللّه لنزيدن سبعة ، ثم كان عليهم ملك آخر فقال : ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما ،
وفي كَما خمسة أوجه. أحدها أن محله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي - كتب كتبا - مثل ما كتب. الثاني أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة أي - كتب عليكم الصيام الكتب - مشبها بما كتب ، و«ما» على الوجهين مصدرية. الثالث أن يكون نعتا لمصدر من لفظ الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم.
الرابع أن يكون حالا من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب ، و«ما» على الوجهين موصولة. الخامس أن يكون في محل رفع على أنه صفة للصيام بناء على أن المعرف - بأل - الجنسية قريب من النكرة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي كي تحذروا المعاصي فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها أو يكسرها.
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال لنا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»
ويحتمل أن يقدر المفعول الإخلال بأدائه ، وعلى الأول يكون الكلام متعلقا بقوله كُتِبَ من غير نظر إلى التشبيه ، وعلى الثاني بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي - تتقوا - الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك - كما قيل به - وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى.
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا قال مقاتل :
كل مَعْدُوداتٍ في القرآن أو - معدودة - دون الأربعين ولا يقال ذلك لما زاد ، والمراد بهذه الأيام إما رمضان واختار ذلك ابن عباس والحسن وأبو مسلم رضي اللّه تعالى عنه وأكثر المحققين - وهو أحد قولي الشافعي - فيكون اللّه سبحانه وتعالى قد أخبر أولا أنه كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عز وجل : أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عز من قائل : شَهْرُ رَمَضانَ توطينا للنفس عليه ، واعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا ، وأجيب بأنه كان في الابتداء صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار واجبا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما تنبيها على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم المقيم والصحيح وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من كل شهر - وهي أيام البيض - على ما روي عن عطاء ونسب إلى ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ، أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما روي عن قتادة ، واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ بصوم رمضان ، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة - كما قيل به - فكيف يكون الناسخ متصلا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل ، وأجيب أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا يدل على الاتصال في النزول ، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 455
وانتصاب أَيَّاماً ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل بمضمر دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعا ، وقيل : منصوب بفعل يستفاد من كاف التشبيه ، وفيه بيان لوجه المماثلة كأنه قيل :
كتب عليكم الصيام مماثلا لصيام الذين من قبلكم في كونه أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي المماثلة واقعة بين الصيامين من هذا الوجه وهو تعلق كل منهما بمدة غير متطاولة ، فالكلام من قبيل زيد كعمرو فقها ، وقيل : نصب على أنه مفعول ثان - لكتب - على الاتساع ورده في البحر بأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفا - لكتب - وذا لا يصح لأن الظرف محل الفعل ، والكتابة ليست واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وهو الصيام ، وأجيب بأنه يكفي للظرفية ظرفية المتعلق كما في يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحج : 70 ، العنكبوت : 52 ، التغابن : 4] وبأن معنى كُتِبَ فرض ، وفرضية الصيام ، واقعة في الأيام وَمَنْ كانَ مَرِيضاً مرضا يعسر عليه الصوم معه كما يؤذن به قوله تعالى فيما بعد : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وعليه أكثر الفقهاء ، وذهب ابن سيرين ، وعطاء ، والبخاري إلى أن المرخص مطلق المرض عملا بإطلاق اللفظ ، وحكي أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع إصبعه وهو قول للشافعية أَوْ عَلى سَفَرٍ أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه بأن اشتغل به قبل الفجر ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر ولهذا المعنى أوثر على مسافرا ، واستدل بإطلاق السفر على أن القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار ، وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وما يلزمه العسر غالبا وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر وحذف الشرط والمضافان للعلم بهما ، أما الشرط فلأن المريض والمسافر داخلان في الخطاب العام فدل على وجوب الصوم عليهما فلو لم يتقيد الحكم هنا به لزم أن يصير المرض والسفر اللذان هما من موجبات اليسر شرعا وعقلا موجبين للعسر ، وأما المضاف الأول فلأن الكلام في الصوم ووجوبه ، وأما الثاني فلأنه لما
قيل - من كان مريضا أو مسافرا فعليه عدة - أي أيام معدودة موصوفة بأنها من أيام أخر علم أن المراد معدودة بعدد أيام المرض والسفر واستغنى عن الإضافة وهذا الإفطار مشروع على سبيل الرخصة فالمريض والمسافر إن شاءا صاما وإن شاءا أفطرا كما عليه أكثر الفقهاء إلا أن الإمام أبا حنيفة ومالكا قالا : الصوم أحب. والشافعي وأحمد والأوزاعي قالوا : الفطر أحب ، ومذهب الظاهرية وجوب الإفطار وأنهما إذا صاما لا يصح صومهما لأنه قبل الوقت الذي يقتضيه ظاهر الآية ، ونسب ذلك إلى ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم - وبه قال الإمامية - وأطالوا بالاستدلال على ذلك بما رووه عن أهل البيت ، واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا وأنه ليس على الفور خلافا لداود. وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى - أياما معدودة - فلو كان تاما لم يجزه شهر ناقص أو ناقصا لم يلزمه شهر كامل خلافا لمن خالف في الصورتين ، واحتج بها أيضا من قال : لا فدية مع القضاء وكذا من قال : إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفي أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن اللّه تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه ، ولا يخفى ما فيه ، وقرى ء - فعدة - بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أي فليصم عدة ومن قدر الشرط هناك قدره هنا وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا.
فِدْيَةٌ أي إعطاؤها طَعامُ مِسْكِينٍ وهي قدر ما يأكله كل يوم وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز لكل يوم وكان ذلك في بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 456
والطبراني وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي اللّه تعالى عنه قال : لما نزلت هذه الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدي فعل ذلك حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، وقرأ سعيد بن المسيب : «يطيقونه» بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية. ومجاهد وعكرمة «يطّيقونه» بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو واوي ، وقد جعلت الواو ياء فيهما ثم أدغمت الياء في الياء ومعناهما يتكلفونه ، وعائشة رضي اللّه تعالى عنها «يطوقونه» بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ، ورويت الثلاث عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه أيضا ، وعنه «يتطوقونه» بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونه - بإدغام التاء في الطاء - وذهب إلى عدم النسخ - كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما - وقال : إن الآية نزلت في الشيخ الكبير الهرم ، والعجوز الكبيرة الهرمة.
ومن الناس من لم يقل بالنسخ أيضا على القراءة المتواترة وفسرها بيصومونه جهدهم وطاقتهم ، وهو مبني على أن - الوسع - اسم للقدرة على الشيء على وجه السهولة - والطاقة - اسم للقدرة مع الشدة والمشقة ، فيصير المعنى وَعَلَى الَّذِينَ يصومونه مع الشدة والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضا ، وعلى أنه من أطاق الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه ، وجاز أن تكون - الهمزة - للسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند تمامه ، ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلك - كما في الكشف - والحق أن كلّا من القراءات يمكن حملها على ما يحتمل النسخ ، وعلى ما لا يحتمله - ولكل ذهب بعض - وروي عن حفصة أنها قرأت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وقرأ نافع وابن عامر بإضافة فِدْيَةٌ إلى - الطعام وجمع المسكين - والإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسه - كخاتم فضة - لأن طعام المسكين يكون فدية وغيرها ، وجمع المسكين لأنه جمع في وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فقابل الجمع بالجمع ، ولم يجمع فِدْيَةٌ لأنها مصدر - والتاء فيها للتأنيث لا للمرة - ولأنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن زاد على القدر المذكور في - الفدية - قال مجاهد : أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم مسكينين فصاعدا - قاله ابن عباس - أو جمع بين الإطعام والصوم - قاله ابن شهاب.
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي التطوع أو الخير الذي تطوعه ، وجعل بعضهم الخير الأول مصدر - خرت يا رجل وأنت خائر - أي حسن ، والخير الثاني اسم تفضيل - فيفيد الحمل أيضا بلا مرية - وإرجاع الضمير إلى مِنْ أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده وَأَنْ تَصُومُوا أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء ، أو المطوقون من الشيوخ والعجائز ، أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين ، والمرضى والمسافرين ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبرا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة ، وقرأ أبيّ والصيام خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية أو تطوع الخير على الأولين ، أو منهما ومن التأخير للقضاء على الأخير إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في الصوم من الفضيلة ، وجواب أَنْ محذوف ثقة بظهوره - أي اخترتموه - وقيل : معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك ، وعليه تكون الجملة تأكيدا لخيرية الصوم ، وعلى الأول تأسيسا.
شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ خبره الموصول بعده ، ويكون ذكر الجملة مقدمة لفرضية صومه بذكر فضله ، أو فَمَنْ شَهِدَ والفاء لتضمنه معنى الشرط لكونه موصوفا بالموصول ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم الوقت الذي كتب عليكم الصيام فيه ، أو المكتوب شهر رمضان ، أو بدل من الصيام بدل كل بتقدير مضاف ، أي كتب عليكم الصيام

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 457
صيام شهر رمضان ، وما تخلل بينهما من الفصل متعلق ب كُتِبَ لفظا أو معنى فليس بأجنبي مطلقا ، وإن اعتبرته بدل اشتمال استغنيت عن التقدير ، إلا أن كون الحكم السابق - وهو فرضية الصوم - مقصودا بالذات ، وعدم كون ذكر المبدل منه مشوقا إلى ذكر البدل يبعد ذلك ، وقرىء شهر بالنصب على أنه مفعول ل «صوموا» محذوفا وقيل إنه مفعول وَأَنْ تَصُومُوا وفيه لزوم الفصل بين أجزاء المصدرية بالخبر ، وجوز أن يكون مفعول تَعْلَمُونَ بتقدير مضاف - أي شرف شهر رمضان ونحوه - وقيل : لا حاجة إلى التقدير.
والمراد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ نفس الشهر ولا تشكون فيه ، وفيه إيذان بأن الصوم لا ينبغي مع الشك - وليس بشيء كما لا يخفى - والشهر المدة المعينة التي ابتداؤها رؤية الهلال ، ويجمع في القلة على أشهر ، وفي الكثرة على شهور ، وأصله من شهر الشيء أظهره ، وهو - لكونه ميقاتا للعبادات والمعاملات - صار مشهورا بين الناس ، و«رمضان» مصدر رمض - بكسر العين - إذا احترق ، وفي شمس العلوم من المصادر التي يشترك فيها الأفعال فعلان - بفتح الفاء والعين - وأكثر ما يجيء بمعنى المجيء والذهاب والاضطراب - كالخفقان والعسلان واللمعان - وقد جاء لغير المجيء والذهاب كما في - شنأته شنآنا إذا بغضته - فما في البحر من أن كونه مصدرا يحتاج إلى نقل - فإن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم - فإن جاء شيء منه كان شاذا ، فالأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا ناشىء عن قلة الاطلاع ، والخليل يقول : إنه من الرمض - مسكن الميم - وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار ، وقد جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما للشهر المعلوم ، ولولا ذلك لم يحسن إضافة شَهْرُ إليه كما لا يحسن - إنسان زيد - وإنما تصح إضافة العام إلى الخاص إذا اشتهر كون الخاص من أفراده ، ولهذا لم يسمع شهر رجب وشهر شعبان ، وبالجملة فقد أطبقوا على أن العلم في ثلاثة أشهر مجموع المضاف والمضاف إليه شهر رمضان ، وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني ، وفي البواقي لا يضاف شهر إليه ، وقد نظم ذلك بعضهم فقال :
ولا تضف شهرا إلى اسم شهر إلا لما أوله - الرا - فادر
واستثن منها رجبا فيمتنع لأنه فيما رووه ما سمع
ثم في الإضافة يعتبر في أسباب منع الصرف وامتناع - اللام - ووجوبها حال المضاف إليه فيمتنع في مثل شَهْرُ رَمَضانَ وابن داية من الصرف ودخول - اللام - وينصرف في مثل شهر ربيع الأول - وابن عباس - ويجب - اللام - في مثل - امرئ القيس - لأنه وقع جزءا حال تحليته باللام ، ويجوز في مثل - ابن عباس - أما دخوله فللمح الأصل ، وأما عدمه فلتجرده في الأصل ، وعلى هذا فنحو من صام رمضان من حذف جزء العلم لعدم الإلباس - كذا قيل - وفيه بحث - أما أولا فلأن إضافة العام إلى الخاص مرجعها إلى الذوق ، ولهذا تحسن تارة كشجر الأراك ، وتقبح أخرى - كإنسان زيد - وقبحها في شَهْرُ رَمَضانَ لا يعرفه إلا من تغير ذوقه من أثر الصوم ، وأما ثانيا فإن قولهم : لم يسمع شهر رجب إلخ مما سمع بين المتأخرين - ولا أصل له - ففي شرح التسهيل جواز إضافة شَهْرُ إلى جميع أسماء الشهور وهو قول أكثر النحويين - فادعاء الاطباق غير مطبق عليه ، ومنشأ غلط المتأخرين ما في - أدب الكاتب - من أنه اصطلاح الكتاب ، قال : لأنهم لما وضعوا التاريخ في زمن عمر رضي اللّه تعالى عنه وجعلوا أول السنة المحرم ، فكانوا لا يكتبون في تواريخهم شهرا إلا مع رمضان والربيعين ، فهو أمر اصطلاحي - لا وضعي لغوي - ووجهه في رَمَضانَ موافقة القرآن وفي ربيع الفصل عن الفصل ، ولذا صحح سيبويه جواز إضافة الشهر إلى جميع أسماء الشهور ، وفرق بين ذكره وعدمه بأنه حيث ذكر لم يفد العموم - وحيث حذف أفاده - وعليه يظهر الفرق بين - إنسان زيد - وشَهْرُ رَمَضانَ ولا يغم هلال ذلك. وأما ثالثا فلأن قوله : ثم في الإضافة إلخ ، مما صرح النحاة بخلافه ، فإن - ابن داية - سمع منه وصرفه كقوله :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 458
ولما رأيت النسر عز - ابن داية وعشش في وكريه جاش له صدري
قالوا : ولكل وجه أما عدم الصرف فلصيرورة الكلمتين بالتركيب كلمة بالتسمية فكان - كطلحة - مفردا وهو غير منصرف ، وأما الصرف فلأن المضاف إليه في أصله اسم جنس - والمضاف كذلك - وكل منهما بانفراده ليس بعلم ، وإنما العلم مجموعهما فلا يؤثر التعريف فيه ولا يكون لمنع الصرف مدخل فليحفظ ، وبالجملة المعول عليه أن رَمَضانَ وحده علم وهو علم جنس لما علمت ، ومنع بعضهم أن يقال : رَمَضانَ بدون شَهْرُ لما
أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عدي والبيهقي والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا «لا تقولوا : رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان»
وإلى ذلك ذهب مجاهد - والصحيح الجواز - فقد روي ذلك في الصحيح - والاحتياط لا يخفى - وإنما سمي الشهر به لأن الذنوب ترمض فيه - قاله ابن عمر - وروى ذلك أنس.
وعائشة مرفوعا إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ،
وقيل : لوقوعه أيام رمض الحر حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة ، وكان اسمه قبل ناتقا ، ولعل ما روي عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم مبين لما ينبغي أن يكون وجه التسمية عند المسلمين ، وإلا فهذا الاسم قبل فرضية الصيام بكثير على ما هو الظاهر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي ابتدئ فيه إنزاله - وكان ذلك ليلة القدر - قاله ابن إسحاق ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وابن جبير والحسن أنه نزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض في ثلاث وعشرين سنة ، وقيل : أنزل في شأنه القرآن ، وهو قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وأخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع. عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال : «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين»
ولما كان بين الصوم ونزول الكتب الإلهية مناسبة عظيمة كان هذا الشهر المختص بنزولها مختصا بالصوم الذي هو نوع عظيم من آيات العبودية ، وسبب قوي في إزالة العلائق البشرية المانعة عن إشراق الأنوار الصمدية. هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل أي أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير ، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق ، والفارقة بين الحق والباطل باشتمالها على المعارف الإلهية والأحكام العملية كما يشعر بذلك جعله بينات منها فهو هاد بواسطة أمرين مختص وغير مختص فالهدى ليس مكررا ، وقيل : مكرر تنويها وتعظيما لأمره وتأكيدا لمعنى الهداية فيه كما تقول عالم نحرير فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ من شرطية أو موصولة - والفاء - إما جواب الشرط ، أو زائدة في الخبر ، ومِنْكُمُ في محل نصب على الحال من المستكن في شَهِدَ والتقييد به لإخراج الصبي والمجنون ، وشَهِدَ من الشهود والتركيب يدل على الحضور إما ذاتا أو علما ، وقد قيل : بكل منهما هنا ، والشَّهْرَ على الأول مفعول فيه والمفعول به متروك لعدم تعلق الغرض به فتقدير البلد أو المصر ليس بشيء ، وعلى الثاني مفعول به بحذف المضاف أي هلال الشهر - وأل - فيه على التقديرين للعهد ووضع المظهر موضع المضمر للتعظيم ونصب الضمير المتصل في - يصمه - على الاتساع لأن صام لازم والمعنى فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه أو من علم هلال الشهر وتيقن به فليصم ، ومفاد الآية على هذا عدم وجوب الصوم على من شك في الهلال وإنما قدر المضاف لأن شهود الشهر بتمامه إنما يكون بعد انقضائه ولا معنى لترتب وجوب الصوم فيه بعد انقضائه وعليه يكون قوله تعالى : وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مخصصا بالنظر إلى المريض والمسافر
كليهما ، وعلى الأول مخصص بالنظر إلى الأول دون الثاني وتكريره حينئذ لذلك التخصيص أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه والأول كما قيل على رأي من شرط في المخصص أن يكون متراخيا موصولا ، والثاني على رأي من جوز كونه متقدما وهذا بجعل المخصص هو الآية السابقة ، و«ما» هنا لمجرد دفع التوهم ورجح المعنى الأول من المعنيين بعدم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 459
الاحتياج إلى التقدير وبأن الفاء في «فمن شهد» عليه وقعت في مخرها مفصلة لما أجمل في قوله تعالى : شَهْرُ رَمَضانَ من وجوب التعظيم المستفاد مما في أثره على كل من أدركه ومدركه إما حاضر أو مسافر فمن كان حاضرا فحكمه كذا إلخ ولا يحسن أن يقال من علم الهلال فليصم وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فليقض لدخول القسم الثاني في الأول والعاطف التفصيلي يقتضي المغايرة بينهما كذا قيل ، لكن ذكر المريض يقوي كونه مخصصا لدخوله فيمن شهد على الوجهين ، ولذا ذهب أكثر النحويين إلى أن الشهر مفعول به - فالفاء - للسببية أو للتعقيب لا للتفصيل.
يُرِيدُ اللَّهُ بهذا الترخيص بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لغاية رأفته وسعة رحمته ، واستدل المعتزلة بالآية على أنه قد يقع من العبد ما لا يريده اللّه تعالى وذلك لأن المريض والمسافر إذا صاما حتى أجهدهما الصوم فقد فعلا خلاف ما أراد اللّه تعالى لأنه أراد التيسير ولم يقع مراده ، ورد بأن اللّه تعالى أراد التيسير وعدم التعسير في حقهما بإباحة الفطر ، وقد حصل بمجرد الأمر بقوله عز شأنه : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ من غير تخلف ، وفي البحر تفسير الإرادة هنا بالطلب ، وفيه أنه التزام لمذهب الاعتزال من أن إرادته تعالى لأفعال العباد عبارة عن الأمر وأنه تعالى ما طلب منا اليسر بل شرعه لنا ، وتفسير اليسر بما يسر بعيد ، وقرأ أبو جعفر اليسر والعسر بضمتين.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علل لفعل محذوف دل عليه فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ إلخ أي وشرع لكم جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر المستفاد من قوله تعالى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وأمر المرخص له بالقضاء كيفما كان متواترا أو متفرقا وبمراعاة عدة ما أفطره من غير نقصان فيه المستفادين من قوله سبحانه وتعالى : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ومن الترخيص المستفاد من قوله عز وجل : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أو من قوله تعالى : فَعِدَّةٌ إلخ - لتكملوا - إلخ والأول علة الأمر بمراعاة عدة الشهر بالأداء في حال شهود الشهر ، وبالقضاء في حال الإفطار بالعذر فيكون علة لمعللين أي أمرناكم بهذين الأمرين لتكملوا عدة الشهر بالأداء والقضاء فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته نقصت أيامه أو كملت وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة الترخيص والتيسير ، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى أن هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة ، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر ، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى اليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللا لما سبق ولذا قال من لم يبلغ درجة الكمال : إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلما فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملا على ما سبق إجمالا يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل بحاله ولكونه مغايرا له بالإجمال ، والتفصيل يصح عطفه عليه ، وفي ذكر الأحكام تفصيلا أولا ، وإجمالا ثانيا وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم
السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء ، وجوز أن تكون عللا لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير - ولتكملوا العدة - أوجب عليكم عدة أيام أخر وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ علمكم كيفية القضاء وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون وَلِتُكْمِلُوا إلخ وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار الإعلام بها فقوله : ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار الإعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر ، ولك أن لا تقدر شيئا أصلا وتجعل العطف على اليسر أي - ويريد بكم لتكملوا - إلخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل : بعد فعل الإرادة تأكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك ، وقيل : إنها بمعنى أن كما في الرضيّ إلا أنه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 460
يلزم على هذا الوجه أن يكون وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عطفا على يُرِيدُ إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون ، وحينئذ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد ، ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع ، وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل :
رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا إلخ ، ولا يخفى عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم ، والمراد من التكبير الحمد والثناء مجازا لكونه فردا منه ولذلك عدي بعلى ، واعتبار التضمين أي لتكبروا حامدين ليس بمعتبر لأن الحمد نفس التكبير ولكونه على هذا عبادة قولية ناسب أن يعلل به الأمر بالقضاء الذي هو نعمة قولية أيضا ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن زيد بن أسلم أن المراد به التكبير يوم العيد ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه التكبير عند الإهلال ، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا اللّه تعالى حتى يفرغوا من عيدهم لأن اللّه تعالى يقول : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ وعلى هذين القولين لا يلائم تعليل الأحكام السابقة ، وما يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة أي الذي هداكموه أو هداكم إليه ، والمراد من الشكر ما هو أعم من الثناء ولذا ناسب أن يجعل طلبه تعليلا للترخيص الذي هو نعمة فعلية. وقرأ أبو بكر عن عاصم وَلِتُكْمِلُوا بالتشديد وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي في تلوين الخطاب مع توجيهه لسيد ذوي الألباب عليه الصلاة والسلام ، ما لا يخفى من التشريف ورفع المحل عَنِّي أي عن قربي وبعدي إذ ليس السؤال عن ذاته تعالى فَإِنِّي قَرِيبٌ أي فقل لهم ذلك بأن تخبر عن القرب بأي طريق كان ، ولا بد من التقدير إذ بدونه لا يترتب على الشرط ، ولم يصرح بالمقدر كما في أمثاله للإشارة إلى أنه تعالى تكفل جوابهم ولم يكلهم إلى رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم تنبيها على كمال لطفه ، والقرب حقيقة في القرب المكاني المنزه عنه تعالى فهو استعارة لعلمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على سائر أحوالهم ، وأخرج سفيان بن عيينة ، وعبد اللّه بن أحمد عن أبي قال : قال المسلمون يا رسول اللّه أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل اللّه الآية
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ دليل للقرب وتقرير له فالقطع لكمال الاتصال ، وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على ما تشير إليه كلمة إِذا لا كليا فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى : فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الإنعام : 41] لا إلى أن القول بأن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى لبيك يا عبدي وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا إلى تخصيص الدعوة بما ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، أو الداعي بالمطيع المخبت. نعم كونه كذلك أزجي للإجابة لا سيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة المعلومة ، والكيفية المشهورة ، ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقا وقد تتخلف إلى بدل ،
ففي الصحيح عن أبي سعيد قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللّه تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها»
وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم ، واستجاب وأجاب واحد ومعناه قطع مسألته بتبليغه مراده من الجواب بمعنى القطع ، وهذا ما عليه أكثر المفسرين ولا يغني عنه وَلْيُؤْمِنُوا بِي لأنه أمر بالثبات والمداومة على الإيمان لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم ، وأصل الباب إصابة الخير ، وقرىء بفتح الشين وكسرها ، ولما أمرهم سبحانه وتعالى بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأفعالهم سميع لأقوالهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ، أو أنه لما نسخ الأحكام في الصوم ذكر هذه الآية الدالة على كمال علمه بحال العباد وكمال قدرته عليهم ونهاية لطفه بهم في أثناء نسخ الأحكام تمكينا لهم في الإيمان ، وتقريرا لهم على الاستجابة لأن مقام النسخ من مظان الوسوسة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 461
والتزلزل ، فالجملة على التقديرين اعتراضية بين كلامين متصلين معنى ، أحدهما ما تقدم ، والثاني قوله سبحانه وتعالى :
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ
أخرج أحمد وجماعة عن كعب بن مالك قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه من عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت : إني قد نمت فقال : ما نمت ، ثم وقع بها ، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخبره فنزلت.
وفي رواية ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ثم أتى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إني أعتذر إلى اللّه تعالى وإليك من نفسي هذه الخاطئة فإنها زينت لي فواقعت أهلي هل تجد لي من رخصة؟ قال : لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وأمر اللّه تعالى رسوله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال :
أُحِلَّ لَكُمْ إلخ
- وليلة الصيام - الليلة التي يصبح منها صائما فالإضافة لأدنى ملابسة ، والمراد بها الجنس وناصبها - الرفث - المذكور أو المحذوف الدال هو عليه بناء على أن المصدر لا يعمل متقدما ، وجوز أن يكون ظرفا - لأحل - لأن إحلال الرفث في ليلة الصيام وإحلال الرفث الذي فيها متلازمان ، والرَّفَثُ من رفث في كلامه وأرفث وترفث أفحش وأفصح بما يكنى عنه ، والمراد به هنا الجماع لأنه لا يكاد يخلو من الإفصاح ، وما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه أنشد وهو محرم :
وهن يمشين بنا هميسا إن صدق الطير ننك لميسا
فقيل له : أرفثت؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء ، فالرفث فيه يحتمل أن يكون قولا وأن يكون فعلا ، والأصل فيه أن يتعدى - بالباء - وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ولم يجعل من أول الأمر كناية عنه لأن المقصود هو الجماع فقصرت المسافة ، وإيثاره هاهنا على ما كني به عنه في جميع القرآن من التغشية والمباشرة واللمس والدخول ونحوها استقباحا لما وجد منهم قبل الإباحة ، ولذا سماه اختيانا فيما بعد ، والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك ، وقرأ عبد اللّه - الرفوث - هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن قاله ابن عباس حين سأله نافع بن الأزرق وأنشد رضي اللّه تعالى عنهما لما قال له هل تعرف العرب ذلك؟ قول الذبياني :
إذا ما الضجيع ثنى عطفه تثنت عليه فكانت «لباسا»
ولما كان الرجل والمرأة يتعانقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه كل واحد بالنظر إلى صاحبه باللباس أو لأن كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه عن الفجور ، وقد جاء
في الخبر «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه»
والجملتان مستأنفتان استئنافا نحويا والبياني يأباه الذوق ، ومضمونهما بيان لسبب الحكم السابق وهو قلة الصبر عنهن كما يستفاد من الأولى ، وصعوبة اجتنابهن كما تفيده الثانية - ولظهور احتياج الرجل إليهن وقلة صبره - قدم الأولى ، وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم وأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا»
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ جملة معترضة بين قوله تعالى : أُحِلَّ إلخ وبين ما يتعلق به أعني فَالْآنَ إلخ لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم قبل الإحلال ، ومعنى عَلِمَ تعلق علمه ، و- الاختيان - تحرك

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 462
شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة البليغة فيكون المعنى تنقصون أنفسكم تنقيصا تاما بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب ، ويؤول إلى معنى تظلمونها بذلك ، والمراد الاستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال كما ينبىء عنه صيغتا الماضي والمضارع وهو متعلق العلم ، وما تفهمه الصيغة الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على الأزلي الذاهب إليه البعض فَتابَ عَلَيْكُمْ عطف على عَلِمَ والفاء لمجرد التعقيب ، والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه وَعَفا عَنْكُمْ أي محا أثره عنكم وأزال تحريمه ، وقيل :
الأول لإزالة التحريم وهذا لغفران الخطيئة فَالْآنَ مرتب على قوله سبحانه وتعالى أُحِلَّ لَكُمْ نظرا إلى ما هو المقصود من الإحلال وهو إزالة التحريم أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو ليلة الصيام كما يدل عليه الغاية الآتية فإنها غاية للأوامر الأربعة التي هذا ظرفها ، والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل نسخ التحريم وليس حاضرا بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى : بَاشِرُوهُنَّ ، وقيل : إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر إلا أنه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا أو أنه مستعمل في حقيقته والتقدير قد أبحنا لكم مباشرتهن ، وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة وأطلقت على الجماع للزومها لها.
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطلبوا ما قدره اللَّهُ تعالى لَكُمْ في اللوح من الولد ، وهو المروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد رضي اللّه تعالى عنهم وغيرهم. والمراد الدعاء بطلب ذلك بأن يقولوا : اللهم ارزقنا ما كتبت لنا ، وهذا لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنه قدر له ولد ، وقيل : المراد ما قدره لجنسكم والتعبير ب ما نظرا إلى الوصف كما في قوله تعالى : وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس : 5] وفي الآية دلالة على أن المباشر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل - لا قضاء الشهوة فقط - لأنه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية ، ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم ، وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل ، أو عن إتيان المحاش ، وبعض فسر من أول مرة ما كتب بما سن وشرع من صب الماء في محله ، أي اطلبوا ذلك دون العزل والإتيان المذكورين - والمشهور حرمتهما - أما الأول فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير رضاها ، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على الاختلاف بين الإمام وصاحبيه ، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها إذ لا حق لها.
وأما الثاني فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء اللّه تعالى. وروي عن أنس رضي اللّه تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر. وحكي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد ابْتَغُوا الرخصة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ تعالى لَكُمْ فإن اللّه تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، وعليه تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها ، وعن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية ابْتَغُوا أو «اتبعوا»؟ فقال : أيهما شئت ، وعليك بالقراءة الأولى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الليل كله حَتَّى يَتَبَيَّنَ أي يظهر لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره ، وحمله على الفجر الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل مِنَ الْفَجْرِ بيان لأول الخيطين - ومنه يتبين الثاني - وخصه بالبيان لأنه المقصود وقيل : بيان لهما بناء على أن الْفَجْرِ عبارة عن مجموعهما لقول الطائي : وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه فهو على وزان قولك : حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم ، وبهذا البيان خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه بالكلية ، وادعاء أن المشبه هو المشبه به لولا القرينة والبيان ينادي على أن المراد - مثل هذا الخيط وهذا الخيط - إذ هما لا يحتاجان إليه ، وجوّز أن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 463
تكون مِنَ تبعيضية لأن ما يبدو جزء من «الفجر» كما أنه فجر بناء على أنه اسم للقدر المشترك بين الكل والجزء ، ومِنَ الأولى قيل : لابتداء للغاية ، وفيه أن الفعل المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد ، وعلامتها أن يحسن في مقابلتها إِلى أو ما يفيد مفادها - وما هنا ليس كذلك - فالظاهر أنها متعلقة ب يَتَبَيَّنَ بتضمين معنى التميز ، والمعنى حتى يتضح «لكم الفجر» متميزا عن غبش الليل ، فالغاية إباحة ما تقدم حَتَّى يَتَبَيَّنَ أحدهما من الآخر ويميز بينهما ، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء ب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الفجر ، أو «يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر» لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة ، فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان ، وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي اللّه تعالى عنهما قال : أنزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل اللّه تعالى بعد «من الفجر» فعلموا إنما يعني الليل والنهار ، فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما ، إلا أنه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم ، ويؤيد ذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلّم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح - بالبلادة - ولو كان الأمر موقوفا على البيان لاستوى فيه الذكي والبليد ،
فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري.
ومسلم وأبو داود والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي اللّه تعالى عنه قال : لما أنزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته بالذي صنعت فقال : «إن وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» وفي رواية «إنك لعريض القفا»
وقيل : إن نزول الآية كان قبل دخول رمضان - وهي مبهمة - والبيان ضروري إلا أنه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو لا يضر - ولا يخفى ما فيه - وقال أبو حيان : إن هذا من باب النسخ ، ألا ترى أن الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ ثم صار مجازا بالبيان ويرده على ما فيه أن النسخ يكون بكلام مستقل ولم يعهد نسخ هكذا وفي هذه الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب بل على وقوعه بناء على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنة ، وليس في القرآن ما يدل عليها ، وأُحِلَّ أيضا يدل على ذلك إلا أنه نسخ بلا بدل وهو مختلف فيه ، واستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنبا فإن لم يصح صومه لما جازت المباشرة لأن الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم مناف للملزوم ، ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل قبله لأنه إنما يفسد الصوم لكونه مكمل الجماع فهو جماع واقع في الصبح ، وليس بلازم للجماع كالجنابة ، وخالف في ذلك بعضهم ومنع الصحة زاعما أن الغاية متعلقة بما عندها ، واحتج بآثار صح لدى المحدثين خلافها.
واستدل بها أيضا على جواز الأكل مثلا لمن شك في طلوع الفجر لأنه تعالى أباح ما أباح مغيّى بتبينه ولا تبين مع الشك خلافا لمالك. ومجاهد بها على عدم القضاء والحال هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر لأنه أكل في وقت اذن له فيه ، وعن سعيد بن منصور مثله - وليس بالمنصور - والأئمة الأربعة رضي اللّه تعالى عنهم على أن أول النهار الشرعي طلوع الفجر فلا يجوز فعل شيء من المحظورات بعده وخالف في ذلك الأعمش ولا يتبعه إلا الأعمى ، فزعم أن أوله طلوع الشمس كالنهار العرفي وجوز فعل المحظورات بعد طلوع الفجر ، وكذا الإمامية وحمل مِنَ الْفَجْرِ على التبعيض وإرادة الجزء الأخير منه والذي دعاه لذلك خبر صلاة النهار عجماء وصلاة الفجر ليست بها فهي في الليل ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 464
وأيده بعضهم بأن شوب الظلمة بالضياء كما أنه لم يمنع من الليلية بعد غروب الشمس ينبغي أن لا يمنع منها قبل طلوعها وتساوي طرفي الشيء مما يستحسن في الحكمة وإلى البدء يكون العود ، وفيه أن النهار في الخبر بعد تسليم صحته يحتمل أن يكون بالمعنى العرفي ولو أراده سبحانه وتعالى في هذا الحكم لقال : وكلوا واشربوا إلى النهار ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ مع أنه أخصر وأوفق مما عدل إليه فحيث لم يفعل فهم أن الأمر مربوط بالفجر لا بطلوع الشمس سواء عد ذلك نهارا أم لا ، وما ذكر من استحسان تساوي طرفي الشيء مع كونه - مما لا يسمن ولا يغني من جوع - في هذا الباب يمكن معارضته بأن جعل أول النهار كأول الليل وهما متقابلان مما يدل على عظم قدرة الصانع الحكيم وإلى الانتهاء غاية الإتمام ، ويجوز أن يكون حالا من الصيام فيتعلق بمحذوف ولا يجوز جعله غاية للإيجاب لعدم امتداده ، وعلى التقديرين تدل الآية على نفي كون الليل محل الصوم وأن يكون صوم اليومين صومة واحدة ، وقد استنبط النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم منها حرمة الوصال كما قيل ،
فقد روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال : إن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم نهى عنه ، وقال : يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم اللّه تعالى ،
وأَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فإذا كان الليل فافطروا ، ولا تدل الآية على أنه لا يجوز الصوم حتى يتخلل الإفطار خلافا لزاعمه ، نعم استدل بها على صحة نية رمضان في النهار ، وتقرير ذلك أن قوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا إلخ معطوف على قوله : بَاشِرُوهُنَّ إلى قوله سبحانه :
حَتَّى يَتَبَيَّنَ وكلمة ثُمَّ للتراخي والتعقيب بمهلة - واللام - في الصِّيامِ للعهد على ما هو الأصل ، فيكون مفاد ثُمَّ أَتِمُّوا إلخ الأمر - بإتمام الصيام - المعهود أي الإمساك المدلول عليه بالغاية سواء فسر بإتيانه تاما ، أو بتصييره كذلك متراخيا عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر تحقيقا لمعنى ثُمَّ فصارت نية الصوم بعد مضي جزء من الفجر لأن قصد الفعل إنما يلزمنا حين توجه الخطاب ، وتوجهه - بالإتمام - بعد الفجر لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لإنقضاء الليل تحقيقا لمعنى التراخي ، والليل لا ينقضي إلا متصلا بجزء من الفجر ، فتكون النية بعد مضي جزء الفجر الذي به انقطع الليل ، وحصل فيه الإمساك المدلول عليه بالغاية ، فإن قيل : لو كان كذلك وجب وجوب النية بعد المضي ، أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع ، وبأن إعمال الدليلين - ولو بوجه - أولى من إهمال أحدهما ، فلو قلنا بوجوب النية كذلك عملا بالآية بطل العمل
بخبر «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل»
ولو قلنا باشتراط النية قبله عملا بالخبر بطل العمل بالآية ، فقلنا بالجواز عملا بهما ، فإن قيل : مقتضى الآية - على ما ذكر - الوجوب وخبر الواحد لا يعارضها ، أجيب بأنها متروكة الظاهر بالإجماع فلم تبق قاطعة - فيجوز أن يكون الخبر بيانا لها - ولبعض الأصحاب تقرير الاستدلال بوجه آخر ، ولعل ما ذكرناه أقل مؤنة فتدبر. وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت ، لأن معنى «ثم أتموا» صيروه تاما بعد الانفجار ، وهو يقتضي الشروع فيه قبله - وما ذاك إلا بالنية - إذ لا وجوب للإمساك قبل ، ولا يخفي ما فيه وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ أي معتكفون فيها - والاعتكاف - في اللغة الاحتباس واللزوم مطلقا ، ومنه قوله :
فباتت بنات الليل حولي - عكفا عكوف - بواك حولهن صريع
وفي الشرع لبث مخصوص ، والنهي عطف على أول الأوامر - والمباشرة فيه كالمباشرة فيه - وقد تقدم أن المراد بها الجماع ، إلا أنه لزم من إباحة الجماع إباحة اللمس والقبلة وغيرهما بخلاف النهي فإنه - لا يستلزم النهي عن الجماع - النهي عنهما ، فهما إما مباحان اتفاقا بأن يكونا بغير شهوة ، وإما حرامان بأن يكونا بها «يبطل الاعتكاف ما لم ينزل» وصحح معظم أصحاب الشافعي البطلان - وقيل : المراد من - المباشرة - ملاقاة البشرتين ففي الآية منع عن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 465
مطلق المباشرة - وليس بشي ء - فقد كانت عائشة رضي اللّه تعالى عنها ترجل رأس النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو معتكف ، وفي تقييد - الاعتكاف بالمساجد - دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد إذ لو جاز شرعا في غيره لجاز في البيت - وهو باطل بالإجماع - ويختص بالمسجد الجامع عند الزهري ، وروي عن الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أنه مختص بمسجد له إمام ومؤذن راتب ، وقال حذيفة رضي اللّه تعالى عنه : يختص بالمساجد الثلاثة ، وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه لا يجوز إلا في المسجد الحرام ،
وعن ابن المسيب لا يجوز إلا فيه أو في المسجد النبوي ، ومذهب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه أنه يصح في جميع المساجد مطلقا بناء على عموم اللفظ وعدم اعتبار أن المطلق ينصرف إلى الكامل ، واستدل بالآية على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد بناء على أنها لا تدخل في خطاب الرجال ، وعلى اشتراط الصوم في الاعتكاف لأنه قصر الخطاب على الصائمين ، فلو لم يكن الصوم من شرطه لم يكن لذلك معنى ، وهو المروي عن نافع مولى ابن عمر ، وعائشة رضي اللّه تعالى عنهم ، وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يوم - كما أن الصوم لا يكون كذلك - والشافعي رضي اللّه تعالى عنه لا يشترط يوما ولا صوما ، لما
أخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» ومثله عن ابن مسعود ،
وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه روايتان أخرجهما ابن أبي شيبة من طريقين إحداهما الاشتراط ، وثانيتهما عدمه ، وعلى أن المعتكف إذا خرج من المسجد فباشر خارجا جاز لأنه حصر المنع من المباشرة حال كونه فيه ، وأجيب بأن المعنى لا تُبَاشِرُوهُنَّ حال ما يقال لكم : إنكم عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ومن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فاعتكافه باق ، ويؤيده ما روي عن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع - فنهوا عن ذلك - واستدل بها أيضا على أن الوطء يفسد الاعتكاف لأن النهي للتحريم ، وهو في العبادات يوجب الفساد ، وفيه أن المنهي عنه هنا - المباشرة حال الاعتكاف - وهو ليس من العبادات لا يقال :
إذا وقع أمر منهي عنه في العبادة - كالجماع في الاعتكاف - كانت تلك العبادة منهية باعتبار اشتمالها على المنهي ومقارنتها إياه إذ يقال : فرق بين كون الشيء منهيا عنه باعتباره ما يقارنه ، وبين كون المقارن منهيا في ذلك الشيء والكلام في الأول ، وما نحن فيه من قبيل الثاني تِلْكَ أي الأحكام الستة المذكورة المشتملة على إيجاب وتحريم وإباحة حُدُودُ اللَّهِ أي حاجزة بين الحق والباطل فَلا تَقْرَبُوها كيلا يداني الباطل والنهي عن القرب من - تلك الحدود - التي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازما للثاني وهو أبلغ من فَلا تَعْتَدُوها [البقرة : 229] لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الصريح ، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح ، وعلى هذا لا يشكل «لا تقربوها» في تلك الأحكام مع اشتمالها على ما سمعت ، ولا وقوع «فلا تعتدوها» وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح «لا تقربوها» في الكل ، وقيل : يجوز أن يراد ب حُدُودُ اللَّهِ تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية ، وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه : وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وأمثاله ، وقال أبو مسلم : معنى «لا تقربوها» لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الإنعام : 152 ، الإسراء : 34] فيشمل جميع الأحكام - ولا يخفى ما في الوجهين من التكليف - والقول - بأن تلك إشارة إلى الأحكام - والحد - إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين ، فعلى الأول يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات اللّه تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء فَلا تَقْرَبُوها أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشي ء - فإن الحكم للّه تعالى عز شأنه - وعلى الثاني يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية ، فالإله يحكم والعباد تنقاد ، فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين باللّه تعالى - لا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه ، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 466
كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين الواقع في أحكام الصوم يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ إما مطلقا أو الآيات الدالة على سائر الأحكام التي شرعها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مخالفة أوامره ونواهيه ، والجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير الأحكام السابقة والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل تقواكم ، ولما ذكر سبحانه الصيام وما فيه عقبه بالنهي عن الأكل الحرام المفضي إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه فقال :
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ والمراد من - الأكل - ما يعم الأخذ والاستيلاء ، وعبر به لأنه أهم الحوائج - وبه يحصل إتلاف المال غالبا - والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض ، فهو على حد وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات : 11] وليس من تقسيم الجمع على الجمع ، كما في - ركبوا دوابهم - حتى يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه ، بدليل قوله سبحانه : بَيْنَكُمْ فإنه - بمعنى الواسطة - يقتضي أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين بكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما - وذلك ظاهر على المعنى المذكور - والظرف متعلق ب تَأْكُلُوا كالجار والمجرور بعده ، أو بمحذوف حال من «الأموال» - والباء - للسببية والمراد من بِالْباطِلِ الحرام ، كالسرقة ، والغصب ، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع.
وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عطف على تأكلوا فهو منهي عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه والإدلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر ثم استعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء - والباء - صلة الإدلاء وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور «للأموال» أي لا تتوصلوا ، أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى - الحكام - وقيل : لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ، وقرأ أبيّ «ولا تدلوا» لِتَأْكُلُوا بالتحاكم والرفع إليهم.
فَرِيقاً قطعة وجملة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي بسبب ما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة ، ويحتمل أن تكون - الباء - للمصاحبة أي متلبسين - بالإثم. والجار والمجرور على الأول متعلق «بتأكلوا» وعلى الثاني حال من فاعله وكذلك وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ومفعول العلم محذوف أي - تعلمون - أنكم مبطلون ، وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل ، وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه ،
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبدان بن أشوع الحضرمي ، وامرؤ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران : 77] فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت.
واستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا فلا يحل به الأخذ في الواقع ، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد ويؤيده ما
أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار».
وذهب الإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما ، وإن كان الشهود زورا كما
روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة : لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم اللّه تعالى وجهه : قد زوجك الشاهدان ،
وذهب فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 467
وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على ذلك ، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه لأن الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه يقول بذلك ، ولكن فيما سمعت والمسألة معروفة في الفروع والأصول ، ولها تفصيل في أدب القاضي فارجع إليه.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
أخرج ابن عساكر بسند ضعيف - أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم ، قالا : يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت ، وفي رواية أن معاذا قال : يا رسول اللّه إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ،
فيراد بالجمع على الرواية الأولى ما فوق الواحد أو ينزل الحاضرون المترقبون للجواب منزلة السائل وظاهره المتبادر على الرواية الثانية بناء على أن سؤال اليهود من بعض أصحابه بمنزلة السؤال منه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ هو طريق علمهم ومستمد فيضهم ، والْأَهِلَّةِ جمع هلال واشتقاقه من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وسمي به القمر في ليلتين من أول الشهر أو في ثلاث أو حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخط دقيق - وإليه ذهب الأصمعي - أو حتى يبهر ضوءه سواد الليل ، وغيا ذلك بعضهم بسبع ليال - وسمي بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره - أو بالتكبير ولهذا يقال أهلّ الهلال واستهل ولا يقال هلّ ، والسؤال يحتمل أن يكون عن الغاية والحكمة وأن يكون عن السبب والعلة ، ولا نص في الآية والخبر على أحدهما أما الملفوظ من الآية فظاهر ، وأما المحذوف فيحتمل أن يقدر ما سبب اختلافها وأن يقدر ما حكمته ، وهي وإن كانت في الظاهر سؤالا عن التعدد إلا أنها في الحقيقة متضمنة للسؤال عن اختلاف التشكلات النورية لأن التعدد يتبع اختلافها إذ لو كان الهلال على شكل واحد لا يحصل التعدد كما لا يخفى ، وأما الخبر فلأن ما فيه يسأل بها عن الجنس وحقيقته فالمسؤول حينئذ حقيقة أمر الهلال وشأنه حال اختلاف تشكلاته النورية ، ثم عوده إلى ما كان عليه وذلك الأمر المسئول عن حقيقته يحتمل ذينك الأمرين بلا ريب فعلى الأول يكون الجواب بقوله تعالى : قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مطابقا مبينا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة اللّه تعالى ومزيد رأفته سبحانه وهي أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية ويعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ومعالم للعبادات الموقتة يعرف بها أوقاتها كالصيام والإفطار وخصوصا الحج ، فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء ولو كان الهلال
مدورا كالشمس أو ملازما حالة واحدة لم يكد يتيسر التوقيت به ، ولم يذكر صلى اللّه تعالى عليه وسلم الحكمة الباطنة لذلك مثل كون اختلاف تشكلاته سببا عاديا أو جعليا لاختلاف أحوال المواليد العنصرية كما بين في محله لأنه مما لم يطلع عليه كل أحد ، وعلى الثاني يكون من الأسلوب الحكيم ، ويسمى القول بالموجب وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله - واختاره السكاكي. وجماعة - فيكون في هذا الجواب إشارة إلى أن الأولى على تقدير وقوع السؤال أن يسألوا عن الحكمة لا عن السبب لأنه لا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم ، والنبي إنما بعث لبيان ذلك لا لأن الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق علم الهيئة الموقوفة على الإرصاد والأدلة الفلسفية كما وهم لأن ذلك على فرض تسليمه في حق أولئك المشائين في ركاب النبوة ، والمرتاضين في رواق الفتوة ، والفائزين بإشراق الأنوار ، والمطلعين بأرصاد قلوبهم على دقائق الأسرار ، وإن لم يكن نقصا من قدرهم إلا أنه يدل على أن سبب الاختلاف ما بين في علم الهيئة من بعد القمر عن الشمس وقربه إليها وهو باطل عند أهل الشريعة فإنه مبني على أمور لم يثبت جزما شيء منها غاية الأمر أن الفلاسفة الأول تخيلوها موافقة لما أبدعه الحكيم المطلق

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 468
كما يشير إليه كلام مولانا الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته ، ومما ينادى على أن ما ذهبوا إليه مجرد تخيل لا تأباه الحكمة وليس مطابقا لما في نفس الأمران المتأخرين مما انتظم في سلك الفلاسفة كهرشل الحكيم وأتباعه أصحاب الرصد والزيج الجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في أمر الهيئة ، وقالوا : بأن الشمس مركز والأرض وكذا النجوم دائرة حولها وبنوا حكم الكسوف والخسوف ونحوه على ذلك وبرهنوا عليه وردوا مخالفيه ولم يتخلف شيء من أحكامهم في هذا الباب بل يقع حسبما يقع ما يقوله الأولون مبنيا على زعمهم فحيث اتفقت الأحكام مع اختلاف المبنيين وتضاد المشائين ، ورد أحد الزعمين بالآخر ارتفع الوثوق بكلا المذهبين ووجب الرجوع إلى العلم المقتبس من مشكاة الرسالة والمنقدح من أنوار شمس السيادة والبسالة ، والاعتماد على ما قاله الشارع الأعظم صلّى اللّه عليه وسلّم بعد إمعان النظر فيه وحمله على أحسن معانيه وإذا أمكن الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء فلا بأس به بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرا ما تعرض لضعفاء المؤمنين وإذا لم يمكن ذلك فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع وتنزلت به أملاك الحق.
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
وسيأتي تتمة لهذا المبحث إن شاء اللّه تعالى ، و«المواقيت» جمع ميقات صيغة آلة أي ما يعرف به الوقت ، والفرق بينه وبين المدة والزمان - على ما يفهم من كلام الراغب - أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك في الظاهر من مبدئها إلى منتهاها ، والزمان مدة مقسومة إلى السنين والشهور والأيام والساعات ، والوقت الزمان المقدر والمعين ، وقرىء بإدغام نون عَنِ في الْأَهِلَّةِ بعد النقل والحذف ، واستدل بالآية على جواز الإحرام بالحج في كل السنة ، وفيه بعد بل ربما يستدل بها على خلاف ذلك لأنه لو صح لم يحتج إلى الهلال في الحج ، وإنما احتيج إليه لكونه خاصا بأشهر معلومة محتاجة في تمييزها عن غيرها إليه ، وإلى هذا ذهب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه ، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة لأنه في بيان حكم الصيام ، وذكر شهر رمضان وبحث الْأَهِلَّةِ يلائم ذلك لأن الصوم مقرون برؤية الهلال وكذا الإفطار ، ولهذا
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة ، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة السبعية ، وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحا ، وعن عبد قلبه قلبا ، وعن أنثى نفسه نفسا فإنّه كما كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ في قتلاكم - كتب على نفسه الرحمة في قتلاه - ففي بعض الآثار من طرق القوم أنه سبحانه يقول : من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكم في مقاصة اللّه تعالى إياكم بما ذكر حياة عظيمة لا موت بعدها يا أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والإجرام لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم ، ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات ووصية أهل اللّه تعالى قدس اللّه تعالى أسرارهم المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق ، ومنها الصيام ، وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية ، وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فاجعلها كلها أيام صومك واجعل فطرك في عيد لقاء اللّه تعالى ، وشهر رمضان هو وقت احتراق النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن ، وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع ، ودلائل مفصلة من الجمع ، والفرق - فمن حضر منكم ذلك الوقت وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له ، وبه ، وفيه ، ومنه ، وإليه ، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 469
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ والوصول إلى مقام التوحيد ، والاقتدار بقدرته وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة وَلِتُكْمِلُوا عدة المراتب ولتعظموا اللّه تعالى على هدايته لكم إلى مقام الجمع وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بالاستقامة وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي المختصون بي المنقطعون إلى عن معرفتي فَإِنِّي قَرِيبٌ منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق أُجِيبُ من يدعوني بلسان الحال ، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله ، واستعداده فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بتصفية استعدادهم وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين.
ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية ، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله سبحانه : هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي لا صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ أي وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء بَاشِرُوهُنَّ بقدر الحاجة الضرورية وَابْتَغُوا بقوة هذه المباشرة ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول إلى المقامات العقلية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهما منها ولولا ذلك لتعطلت مصالح المعاش ، وإليه الإشارة
بخبر «لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولي وقت مع حفصة وزينب» ،
ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب وَلا تَأْكُلُوا أموال معارفكم بَيْنَكُمْ بباطل شهوات النفس ، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء لِتَأْكُلُوا الطائفة مِنْ أَمْوالِ القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها قُلْ هِيَ مَواقِيتُ للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل اللّه وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب ، والوقوف في عرفة العرفان ، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة ، وقيل : الْأَهِلَّةِ للزاهدين مواقيت أورادهم.
وللصديقين مواقيت مراقباتهم ، والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة ، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة ، فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا ، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا ، فهم بين جلال وجمال وخضوع ودلال نفعنا اللّه تعالى بهم ، وأفاض علينا من بركاتهم وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أخرج ابن جرير والبخاري. عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل اللّه وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية ، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح به الزهري في رواية ابن جرير عنه - ويعدون فعلهم ذلك برا - فبين لهم أنه ليس ببر وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى أي - بر من اتقى - المحارم والشهوات ، أو لكن ذا الْبِرُّ أو البار مَنِ اتَّقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول - قل - فلا بد من الجامع بينهما فإما أن يقال : إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق ، فجمع بينهما في الجواب بناء على الاجتماع الاتفاقي في السؤال ، والأمر الثاني مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازا واكتفاء بدلالة الجواب عليه ، وإيذانا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه ، أو يقال : إن السؤال واقع عَنِ الْأَهِلَّةِ فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 470
مذكور للاستطراد حيث ذكر - مواقيت الحج - والمذكور أيضا من أفعالهم فيه إلا الخمس ، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر ، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الْأَهِلَّةِ وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم ، وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال ، فالمعنى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تعكسوا مسائلكم وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ذلك ولم يجبر على مثله ، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه : يَسْئَلُونَكَ والجامع بينهما أن الأول قول لا ينبغي ، والثاني فعل لا ينبغي وقعا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات.
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها إذ ليس في العدول برا وباشروا الأمور عن وجوهها ، والجملة عطف على وَلَيْسَ الْبِرُّ إما لأنه في تأويل - ولا تأتوا البيوت من ظهورها - أو لكونه مقول القول ، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول ، وقرأ ابن كثير وكثير بكسر باء الْبُيُوتَ حيثما وقع وَاتَّقُوا اللَّهَ في تغيير أحكامه - كإتيان البيوت من أبوابها - والسؤال عما لا يعني ، ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء ، أو في جميع أموركم.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر ، فإن مَنِ اتَّقى اللّه تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا لإعزاز دين اللّه تعالى وإعلاء كلمته - فالسبيل - بمعنى الطريق مستعار لدين اللّه تعالى وكلمته لأنه يتوصل المؤمن به إلى مرضاته تعالى ، والظرفية التي هي مدلولة في ترشيح للاستعارة الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي يناجزونكم القتال من الكفار ، وكان هذا - على ما روي عن أبي العالية - قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة - المناجزين والمحاجزين - فيكون ذلك حينئذ تعميما بعد التخصيص المستفاد من هذا الأمر مقررا لمنطوقه ناسخا لمفهومه - أي لا تقاتلوا المحاجزين - وكذا المنطوق في النهي الآتي فإنّه على هذا الوجه مشتمل على النهي عن قتالهم أيضا ، وقيل : معناه الذين يناصبونكم القتال ، ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ ، والصبيان والنساء والرهبان فتكون الآية مخصصة لعموم ذلك الأمر مخرجة لمن لم يتوقع منهم وقيل : المراد ما يعم سائر الكفار فإنهم بصدد قتال المسلمين وقصده فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا ، ويؤيد الأول ما
أخرجه أبو صالح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المشركين صدوا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن البيت عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء فلما كان العام المقبل تجهز رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل اللّه تعالى الآية ،
وجعل ما يفهم من الأثر - وجها رابعا في المراد بالموصول بأن يقال المراد به من يتصدى من المشركين للقتال في الحرم وفي الشهر الحرام كما فعل البعض - بعيد لأنه تخصيص من غير دليل وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم وَلا تَعْتَدُوا أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم فقد اعتديتم رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس - أو لا تعتدوا - بوجه من الوجوه كابتداء القتال أو قتال المعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نهيتم عن قتله قاله بعضهم ، وأيد بأن الفعل المنفي يفيد العموم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي المتجاوزين ما حد لهم وهو كالتعليل لما قبله ومحبته تعالى لعباده في المشهور عبارة عن إرادة الخير والثواب لهم ولا واسطة بين المحبة والبغض بالنسبة إليه عز شأنه وذلك بخلاف محبة الإنسان وبغضه فإن بينهما واسطة وهي عدمهما.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 471
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم كما قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما حين سأله نافع بن الأزرق ، وأنشد عليه قول حسان رضي اللّه تعالى عنه :
فإمّا «يثقفن» بني لويّ جذيمة إن قتلهم دواء
وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء عملا كان أو علما ويستعمل كثيرا في مطلق الإدراك ، والفعل منه ثقف ككرم وفرح وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي مكة وقد فعل بهم ذلك عام الفتح وهذا الأمر معطوف على سابقه ، والمراد افعلوا كل ما يتيسر لكم من هذين الأمرين في حق المشركين فاندفع ما قيل : إن الأمر بالإخراج لا يجامع الأمر بالقتل فإن القتل والإخراج لا يجتمعان ، ولا حاجة إلى ما تكلف من أن المراد إخراج من دخل في الأمان أو وجدوه بالأمان كما لا يخفى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي شركهم في الحرم أشد قبحا فلا تبالوا بقتالهم فيه لأنه ارتكاب القبيح لدفع الأقبح فهو مرخص لكم ويكفر عنكم ، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن المحبب للطباع السليمة أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها ، ومن هنا قيل :
لقتل بحد سيف أهون موقعا على النفس من قتل «بحد فراق»
والجملة على الأول من باب التكمل والاحتراس لقوله تعالى : وَاقْتُلُوهُمْ إلخ عن توهم أن القتال في الحرم قبيح فكيف يؤمر به ، وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه : وَأَخْرِجُوهُمْ إلخ لبيان حال الإخراج والترغيب فيه ، وأصل - الفتنة - عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم استعمل في الابتلاء والعذاب والصد عن دين اللّه والشرك به ، وبالأخير فسرها أبو العالية في الآية وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ نهي للمؤمنين أن يبدؤوا القتال في ذلك الموطن الشريف حتى يكون هم الذين يبدؤون ، فالنهي عن المقاتلة التي هي فعل اثنين باعتبار نهيهم عن الابتداء بها الذي يكون سببا لحصولها ، وكذا كونها غاية باعتبار المفاتحة لئلا يلزم كون الشيء غاية لنفسه.
فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ نفي للحرج عن القتال في الحرم الذي خاف منه المسلمون وكرهوه أي إن قاتلوكم هناك فلا تبالوا بقتالهم لأنهم الذين هتكوا الحرمة وأنتم في قتالهم دافعون القتل عن أنفسكم وكان الظاهر الإتيان بأمر المفاعلة إلا أنه عدل عنه إلى أمر فعل بشارة للمؤمنين بالغلبة عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصر بحيث أمرتم بقتلهم ، وقرأ حمزة والكسائي - ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم - واعترض الأعمش على حمزة في هذه القراءة فقال له : أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا : قتلنا ، وإذا ضرب منهم الرجل قالوا : ضربنا ، وحاصله أن الكلام على حذف المضاف إلى المفعول وهو لفظ بعض فلا يلزم كون المقتول قاتلا ، وأما إسناد الفعل إلى الضمير فمبني على أن الفعل الواقع من البعض برضا البعض الآخر يسند إلى الكل على التجوز في الإسناد فلا حاجة فيه إلى التقدير ، ولذا اكتفى الأعمش في السؤال بجانب المفعول ، وكذا قوله سبحانه : وَلا تُقاتِلُوهُمْ جاز على حقيقة من غير تأويل لأن المعنى على السلب الكلي أي لا يقتل واحد منكم واحدا منهم حتى يقع منهم قتل بعضهم. ثم إن هذا التأويل مختص بهذه القراءة ولا حاجة إليه في - لا تقاتلوهم - لأن المعنى لا تفاتحوهم والمفاتحة لا تكون إلا بشروع البعض بقتال البعض قاله بعض المحققين ، وقد خفي على بعض الناظرين فتدبر كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا ، والْكافِرِينَ إما من وضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولا أوليا.
والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر ، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بالتوبة منه كما روي عن مجاهد وغيره ، أو عنه وعن القتال كما قيل :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 472
لقرينة ذكر الأمرين فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ما قد سلف ، واستدل به في البحر على قبول توبة قاتل العمد إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل ، وقد أخبر سبحانه أنه يقبل التوبة منه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ عطف على قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ والأول مسوق لوجوب أصل القتال ، وهذا لبيان غايته ، والمراد من «الفتنة» الشرك على ما هو المأثور عن قتادة والسدي وغيرهما ، ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف لقوله سبحانه تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح : 16] وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي خالصا له كما يشعر به اللام ، ولم يجىء هنا كلمة - كله - كما في آية الأنفال لأن ما هنا في مشركي العرب ، وما هناك في الكفار عموما فناسب العموم هناك وتركه هنا فَإِنِ انْتَهَوْا تصريح بمفهوم الغاية فالمتعلق الشرك - والفاء - للتعقيب فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه ، والتقدير فَإِنِ انْتَهَوْا وأسلموا - فلا تعتدوا - عليهم لأن «العدوان على الظالمين» والمنتهون ليسوا بظالمين ، والمراد نفي الحسن والجواز لا نفي الوقوع لأن «العدوان» واقع على غير الظالمين ، والمراد من «العدوان» العقوبة بالقتل ، وسمي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة - للعدوان - وهو الظلم كما في قوله تعالى :
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : 40] وحسن ذلك لازدواج الكلام والمزاوجة هنا معنوية ويمكن أن يقال سمي جزاء الظلم ظلما لأنه وإن كان عدلا من المجازي لكنه ظلم في حق الظالم من عند نفسه لأنه ظلم بالسبب لإلحاق هذا الجزاء به وقيل : لا حذف والمذكور هو الجزاء على معنى فلا تعتدوا على المنتهين إما بجعل فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ بمعنى - فلا عدوان على غير الظالمين - المكنىبه عن المنتهين ، أو جعل اختصاص العدوان بالظالمين كناية عن عدم جواز العدوان على غيرهم وهم المنتهون ، واعترض بأنه على التقدير الأول يصير الحكم الثبوتي المستفاد من القصر زائدا ، وعلى التقدير الثاني يصير المكنى عنه من المكنى به ، وجوز أن يكون المذكور هو الجزاء ومعنى الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن حد حكم القتال ، كأنه قيل :
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى المتجاوزين عما حده اللّه تعالى للقتال وهم المتعرضون للمنتهين ، ويؤول المعنى إلى أنكم إن تعرضتم للمتقين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم - وفيه من المبالغة في النهي عن قتال المنتهين ما لا يخفى - وذهب بعضهم إلى أن هذا المعنى يستدعي حذف الجزاء ، وجعل المذكور علة له على معنى فَإِنِ انْتَهَوْا فلا تتعرضوهم لئلا تكونوا ظالمين فيسلط اللّه عليكم من يعدو عليكم لأن - العدوان - لا يكون إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أو فَإِنِ انْتَهَوْا يسلط عليكم من يعدو عليكم على تقدير تعرضكم لهم لصيرورتكم ظالمين بذلك ، وفيه من البعد ما لا يخفى فتدبر.
[سورة البقرة (2) : الآيات 194 إلى 213]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 473
فارغة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 474
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ
قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالا خفيفا بالرمي بالسهام والحجارة ، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته. فقيل : هذا الشَّهْرُ الْحَرامُ بذلك ، وهتكه بهتكه فلا تبالوا به وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات قِصاصٌ أو مقاصة ، وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق ، كأنه قيل : لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة ، وهتك حرمة هذا الشهر ابتداء بالغلبة ، فإن الْحُرُماتُ يجري فيها - القصاص - فالصد قصاصه العنوة فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فذلكة لما تقدمه ، وهو أخص مفادا منه لأن الأول يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلا بخلاف هذا ، وفيه تأكيد لقوله تعالى : الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفا - بالفاء - والأمر للإباحة - إذ العفو جائز - و«من» تحتمل الشرطية والموصولية ، وعلى الثاني تكون - الفاء - صلة في الخبر - والباء - تحتمل الزيادة وعدمها ، واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله ، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة - كما في ذوات الأمثال - وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له وَاتَّقُوا اللَّهَ في الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء بما لم يرخص لكم فيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والعون وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عطف على قاتلوا أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بترك الغزو والإنفاق فيه ، فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهيا عن
ضدهما تأكيدا لهما ، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد - عن أبي عمران - قال : كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم ، فقال الناس : ألقى بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس ، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار ، إنا لما أعز اللّه تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن اللّه تعالى قد أعز الإسلام ، وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل اللّه تعالى على نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا وَأَنْفِقُوا إلخ ، فكانت التَّهْلُكَةِ الإقامة في الأموال وإصلاحها ، وترك الغزو. وقال الجبائي : التَّهْلُكَةِ الإسراف في الإنفاق ، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالإنفاق تحريا للطريق الوسط بين الإفراط والتفريط فيه ، وروى البيهقي في الشعب - عن الحسن - أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكدا للأمر السابق ، واختار البلخي أنها اقتحام الحرب من غير مبالاة ، وإيقاع النفس في الخطر والهلاك ، فيكون الكلام متعلقا ب قاتِلُوا نهيا عن الإفراط والتفريط في الشجاعة ، وأخرج سفيان بن عيينة.
وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل له : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل ، قال : لا ، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول : لا يغفر اللّه تعالى لي أبدا - وروي مثله عن عبيدة السلماني - وعليه يكون متعلقا بقوله سبحانه : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في غاية البعد ، ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي اللّه تعالى عنه سوى الحاكم - وتصحيحه لا يوثق به - وظاهر اللفظ العموم - والإلقاء - تصيير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز ، ويقال لكل من أخذ في عمل ألقى يديه إليه وفيه ، ومنه قول لبيد في الشمس :
حتى إذا «ألقت» يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها
وعدي - بإلى - لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء - والباء - مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي ، لأن - ألقى - يتعدى بنفسه كما في فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء : 45] وزيادتها في المفعول لا تنقاس ، والمراد - بالأيدي -

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 475
الأنفس مجازا ، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها ، وقيل : يحتمل أن تكون زائدة - والأيدي - بمعناها ، والمعنى لا تجعلوا التَّهْلُكَةِ آخذة بأيديكم قابضة إياها ، وأن تكون غير مزيدة - والأيدي - أيضا على حقيقتها ويكون المفعول محذوفا أي لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أنفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ وفائدة ذكر - الأيدي - حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار ، والتَّهْلُكَةِ مصدر كالهلك والهلاك ، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة - بضم العين - إلا هذا في المشهور ، وحكى سيبويه عن العرب - تضره وتسره - أيضا بمعنى الضرر والسرور ، وجوز أن يكون أصلها - تهلكة بكسر اللام - مصدر هلك مشددا كالتجربة والتبصرة فأبدلت - الكسرة ضمة - وفيه أن مجيء تفعلة - بالكسر - من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ ، والقياس تفعيل وإبدال - الكسرة بالضم من غير علة - في غاية الشذوذ ، وتمثيله بالجوار - مضموم الجيم - في جوار مكسورها - ليس بشي ء - إذ ليس ذلك نصا في الابدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعال - مضموم الفاء شذوذا - يؤيده ما في الصحاح جاورته مجاورة وجوارا وجوارا - والكسر أفصح ، وفرق بعضهم بين التَّهْلُكَةِ والهلاك بأن الأول ما يمكن التحرز عنه ، والثاني ما لا يمكن ، وقيل : الهلاك مصدر والتَّهْلُكَةِ نفس الشيء المهلك ، وكلا القولين خلاف المشهور ، واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس ، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين وَأَحْسِنُوا أي بالعود على المحتاج - قاله عكرمة - وقيل : أحسنوا الظن باللّه تعالى وَأَحْسِنُوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ويثيبهم وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي اجعلوهما تامين إذا تصديتم لأدائهما لوجه اللّه تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية رضي اللّه تعالى عنهم ، فإن إفساد الحج والعمرة مطلقا يوجب المضي في بقية الأفعال والقضاء ، ولا تدل على وجوب الأصل ، والقول بالدلالة بناء على أن الأمر - بالإتمام - مطلقا يستلزم الأمر بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب - ليس بشي ء - لأن الأمر بالإتمام يقتضي سابقية الشروع فيكون الأمر بالإتمام مقيدا بالشروع وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان ، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه ، ويؤيده قراءة «وأقيموا الحج والعمرة» ليس بسديد. «أما أولا» فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها إلى القيد - أعني تامين - لا إلى أصل الإتيان كما في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «بيعوا سواء بسواء»
«وأما ثانيا» فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب - أعني طلب الفعل - والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة ،
فقد أخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن ماجة أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «الحج جهاد والعمرة تطوع»
وأخرج الترمذي وصححه - عن جابر - أن رجلا سأل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن العمرة ، أواجبة هي؟ قال : «لا ، وأن تعتمروا خير لكم»
ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد : «الحج فريضة والعمرة تطوع» وأخرج ابن أبي داود في المصاحف - عنه أيضا - أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول : واللّه لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم شيئا لقلت : إن العمرة واجبة مثل الحج ، وهذا يدل على أنه رضي اللّه تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيه - ولعله سمع ما يخالفه - ولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة ، وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب ، نعم لا يعد ما ذكر صارفا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 476
إلا إذا ثبت كونه قبل الآية ، أما إذا ثبت كونه بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر ظاهر في الوجوب ، وليس مجملا في معانيه على الصحيح حتى يحمل الخبر على تأخير البيان - على ما وهم - والقول - بأن أحاديث الندب سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخا لها - سهو ظاهر لأن الأحاديث نص في الاستحباب ، والقرآن ظاهر في الوجوب فكيف يكون الظاهر ناسخا للنص ، والحال أن النص مقدم على الظاهر عند التعارض. ثم إن هذا الذي ذكرناه - وإن لم يكن مبطلا لأصل التأييد إلا أنه يضعفه جدا ، وادعى بعضهم أن الأحاديث الدالة على استحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها ، فقد
أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت»
وأخرج أبو داود والنسائي أن رجلا قال لعمر : إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا فقال : هديت لسنة نبيك ، فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأن الاستدلال بما حكاه الصحابي من سنته عليه الصلاة والسلام يكون استدلالا بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي ، والقول بأن - أهللت بهما - جملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب ابتداء ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل : فما فعلت؟ فقال : أهللت فيدل على أن الوجدان سبب الإهلال دون العكس لأن مقصود السائل السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما ، وجواب عمر رضي اللّه تعالى عنه بمعزل عن وجوب الإتمام لأن كون الشروع في الشيء موجبا لإتمامه ، لا يقال فيه إنه طريقة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بل يقال في أداء المناسك والعبادات ، ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات - فأهللت - بالفاء الدالة على الترتب ، وما ذكر عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه معارض بما روي عنه من القول بالوجوب وبذلك
قال علي كرم اللّه تعالى وجهه وكان يقرأ : وأقيموا أيضا كما رواه عنه ابن جرير وغيره ،
وكذا ابن عباس وابن عمر رضي اللّه تعالى عنهم انتهى. والإنصاف تسليم تعارض الأخبار ، وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده والمسألة من الفروع ، والاختلاف في أمثالها رحمة وإن الحق أن الآية لا تصلح دليلا للشافعية ومن وافقهم كالإمامية علينا ، وليس فيها عند التحقيق أكثر من بيان وجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما من الوجوب وعدمه ، ووجوب الحج مستفاد من قوله تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران : 97] ومن ادعى من المخالفين أنها دليل له فقد ركب شططا وقال غلطا كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي وجماعة عن علي كرم اللّه تعالى وجهه إتمام الحج والعمرة للّه أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، ومثله عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ،
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما من إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما عن الآخر وأن يعتمر في غير أشهر الحج وقيل : إتمامهما أن تكون النفقة حلالا ، وقيل : أن تحدث لكل منهما سفرا ، وقيل : أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ونحوها ، وقرىء «إلى البيت ، وللبيت» والأول مروي عن ابن مسعود ، والثاني عن عليّ كرم اللّه تعالى وجهه فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مقابل لمحذوف أي هذا إن قدرتم على إتمامهما والإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقا ، وليس الحصر مختصا بما يكون من العدو ، والإحصار بما يكون من المرض ، والخوف - كما توهم الزجاج - من كثرة استعمالهما كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده ، والدليل على ذلك أنه يقال : حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارا ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازا وكلاهما خلاف الأصل ، والمراد من الإحصار

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 477
هنا حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما اللّه تعالى لقوله تعالى : فَإِذا أَمِنْتُمْ فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية ولقول ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بمواقع التنزيل. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما ، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث الحجاج بن عمرو «من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل» وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن زيد قال : «أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال : ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل» وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس ، وروى البخاري مثله عنه ، وقال عروة : كل شيء حبس المحرم فهو إحصار ، وما استدل به الخصم مجاب عنه ، أما الأول فستعلم ما فيه ، وأما الثاني فإنه لا عبرة بخصوص السبب ، والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالا ، والقول بأن - أحصرتم - ليس عاما إذ الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه ، وأما الثالث فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه كان يقول : «من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي» فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه وهو أعلم بمواقع التنزيل والقول - بأن حديث الحجاج ضعيف - ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داود أن عكرمة سأل العباس وأبا هريرة رضي اللّه تعالى عنهما عن ذلك فقالا : صدق ، وحمله على ما إذا اشترط المحرم
الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم لضباعة : «حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني»
لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليكم أو فالواجب أو فاهدوا ما استيسر أي تيسر فهو كصعب واستصعب ، وليست السين للطلب ، والْهَدْيِ مصدر بمعنى المفعول أي المهدي ولذلك يطلق على المفرد والجمع أو جمع هدية - كجدي وجدية - وقرىء هدي بالتشديد جمع هدية - كمطي ومطية - وهي في موضع الحال من الضمير المستكن ، والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة ، قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه : وما عظم فهو أفضل ، وعن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه خص الهدي ببقرة أو جزور فقيل له : أو ما يكفيه شاة؟ فقال : لا ويذبحه حيث أحصر عند الأكثر لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل ، وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله تعالى :
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير بالنسبة للنساء ، والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور ، والهدي الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وهو الحرم لقوله تعالى : ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج : 33] هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة : 95] وما روي من ذبحه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم ، والحنفية يقولون : إن محصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان في طريق الحديبية أسفل مكة ، والحديبية متصلة بالحرم ، والذبح وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما
روى الزهري أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم نحر في الحرم
وكون الرواية عنه ليس

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 478
بثبت في حيز المنع ، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما وهو خلاف الظاهر إلا أنه لا يحتاج إلى تقدير العلم كما في السابق ، واستدل باقتصاره على الهدي في مقام البيان على عدم وجوب القضاء ، وعندنا يجب القضاء لقضاء رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية التي أحصروا فيها وكانت تسمى عمرة القضاء ، والمقام مقام بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام لا مقام بيان كل ما يجب عليه ولم يعلم من الآية حكم غير المحصر عبارة كما علم حكم المحصر من عدم جواز الحل له قبل بلوغ الهدي ، ويستفاد ذلك بدلالة النص وجعل الخطاب عاما للمحصر وغيره بناء على عطف وَلا تَحْلِقُوا على قوله سبحانه : وَأَتِمُّوا لا على فَمَا اسْتَيْسَرَ يقتضي بتر النظم لأن فَإِذا أَمِنْتُمْ عطف على فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ كما لا يخفى. و- المحل - بالكسر من حد ضرب يطلق للمكان كما هو الظاهر في الآية ، وللزمان - كما يقال - محل الدين لوقت حلوله وانقضاء أجله.
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يحتاج للحلق وهو مخصص لقوله سبحانه وَلا تَحْلِقُوا متفرع عليه.
أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ من جراحة
مِمٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ
بيان لجنس الفدية. وأما قدرها
فقد أخرج في المصابيح عن كعب بن عجرة أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم «مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال : أيؤذيك هوامك؟ قال : نعم : قال : فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين - والفرق ثلاثة آصع - أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة»
وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال له : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقال : لا قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك»
وقد بين في هذه الرواية ما يطعم لكل مسكين ولم يبين محل الفدية ، والظاهر العموم في المواضع كلها كما قاله ابن الفرس ، وهو مذهب الإمام مالك فَإِذا أَمِنْتُمْ من الأمن ضد الخوف ، أو الأمنة زواله فعلى الأول معناه فإذا كنتم في أمن وسعة ولم تكونوا خائفين ، وعلى الثاني فإذا زال عنكم خوف الإحصار ، ويفهم منه حكم من كان آمنا ابتداء بطريق الدلالة - والفاء - للعطف على أُحْصِرْتُمْ مفيدة للتعقيب سواء أريد حصر العدو أو كل منع في الوجود ، ويقال للمريض إذا زال مرضه وبرئ : آمن كما روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهم من طريق إبراهيم فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه.
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الفاء واقعة في جواب - إذا والباء وإلى - صلة التمتع ، والمعنى فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى اللّه تعالى بالعمرة إلى وقت الحج أي قبل الانتفاع بالحج في أشهره ، وقيل : الباء سببية ومتعلق التمتع محذوف أي بشيء من محظورات الإحرام ولم يعينه لعدم تعلق الغرض بتعيينه ، والمعنى ومن استمتع بسبب أوان العمرة والتحلل منها باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج ، وفيه صرف التمتع عن المعنى الشرعي إلى المعنى اللغوي ، والثاني هو الانتفاع مطلقا ، والأول هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من جوف مكة ويأتي بأعماله ويقابله القرآن وهو أن يحرم بهما معا ويأتي بمناسك الحج فيدخل فيها مناسك العمرة ، والإفراد وهو أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ الفاء واقعة في جواب مِنَ أي فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع فهو دم جبران لأن الواجب عليه أن يحرم للحج من الميقات فلما أحرم لا من الميقات أورث ذلك خللا فيه فجبر بهذا الدم ، ومن ثم لا يجب على المكي ومن في حكمه ، ويذبحه إذا أحرم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 479
بالحج ، ولا يجوز قبل الإحرام ولا يتعين له يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه ، وهذا مذهب الشافعي وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه شكرا للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي الهدي وهو عطف على فَإِذا أَمِنْتُمْ.
فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه صيام وقرىء فصيام بالنصب أي فليصم ، وظرف الصوم محذوف إذ يمتنع أن يكون شيء من أعمال الحج ظرفا له ، فقال أبو حنيفة : المراد في وقت الحج مطلقا لكن بين الإحرامين إحرام الحج وإحرام العمرة وهو كناية عن عدم التحلل عنهما فيشمل ما إذا وقع قبل إحرام الحج سواء تحلل من العمرة أولا ، وما وقع بعده بدليل أنه إذا قدر على الهدي بعد صوم الثلاثة قبل التحلل وجب عليه الذبح ولو قدر عليه بعد التحلل لا يجب عليه لحصول المقصد بالصوم وهو التحلل ، وقال الشافعي : المراد وقت أداء الحج وهو أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل ، ولا يجوز الصوم عنده قبل إحرام الحج ، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه لأنه غاية ما يمكن في التأخير لاحتمال القدرة على الأصل وهو الهدي ، ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق لكون الصوم منهيا فيها ، وجوز بعضهم صوم الثلاثة الأخيرة احتجاجا بما
أخرجه ابن جرير والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر قال : رخص النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها ،
وأخرج مالك عن الزهري قال : «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عبد اللّه بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال : إن هذه أيام أكل وشرب وذكر اللّه تعالى إلا من كان عليه صوم من هدي» وأخرج الدارقطني مثله من طريق سعيد بن المسيب ،
وأخرج البخاري وجماعة عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : لم يرخص صلى اللّه تعالى عليه وسلم في أيام التشريق أن يصمن إلا لمتمتع لم يجد هديا ،
وبذلك أخذ الإمام مالك ولعل ساداتنا الحنفية عولوا على أحاديث النهي وقالوا : إذا فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم ولا يقضيه بعد أيام التشريق كما ذهب إليه الشافعية لأنه بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة ..
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أي فرغتم ونفرتم من أعماله ، فذكر الرجوع وأريد سببه ، أو المعنى إذا رجعتم من مني ، وقال الشافعي رضي اللّه تعالى عنه - على ما هو الأصح عند معظم أصحابه : إذا رجعتم إلى أهليكم ، ويؤيده ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه «إذا رجعتم إلى أمصاركم» وأن لفظ الرجوع أظهر في هذا المعنى ، وحكم ناوي الإقامة بمكة توطنا حكم الراجع إلى وطنه لأن الشرع أقام موضع الإقامة مقام الوطن ، وفي البحر المراد بالرجوع إلى الأهل الشروع فيه - عند بعض - والفراغ بالوصول إليهم - عند آخرين - وفي الكلام التفات ، وحمل على معنى بعد الحمل «1» على لفظه في إفراده وغيبته وقرىء «سبعة» بالنصب عطفا على محل ثَلاثَةِ أَيَّامٍ لأنه مفعول اتساعا ، ومن لم يجوزه قدر - وصوموا - وعليه أبو حيان.
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ الإشارة إلى - الثلاثة ، والسبعة - ومميز العدد محذوف أي «أيام» وإثبات - التاء - في العدد مع حذف المميز أحسن الاستعمالين ، وفائدة الفذلكة أن لا يتوهم أن - الواو - بمعنى أو التخييرية ، وقد نص السيرافي في شرح الكتاب على مجيئها لذلك ، وليس تقدم الأمر الصريح شرطا فيه بل الخبر الذي هو بمعنى الأمر
___________
(1) قوله : (و حمل على معنى بعد الحمل) كذا بخط المؤلف ولعله سقط (من) قلمه لفظ من سهوا أي وحمل على معنى من بعد الحمل إلخ ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 480
كذلك ، وأن يندفع التوهم البعيد الذي أشرنا إليه في مقدمة إعجاز القرآن ، وأن يعلم العدد جملة - كما علم تفصيلا - فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم ، ومن أمثالهم - علمان خير من علم - لا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب ، فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع ، لا أهل الارتياض بالعلم أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الافهام والإيذان بأن المراد - بالسبعة - العدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين ، فإن قلت : ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي لما ذكر؟ أجيب بأنها لما كانت بدلا عن الْهَدْيِ والبدل يكون في محل المبدل منه غالبا جعل الثلاثة بدلا عنه في زمن الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير ، ولم يجعل - السبعة - فيه لمشقة الصوم في الحج ، وللإشارة إلى هذا التعادل وصفت - العشرة - بأنها كامِلَةٌ فكأنه قيل : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ في وقوعها بدلا من الْهَدْيِ وقيل :
إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا كمالها ولا تنقصوها ، وقيل : إنها صفة مبينة كمال العشرة فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد ، فإن الواحدة مبتدأ العدد ، والاثنين أول العدد ، والثلاثة أول عدد فرد ، والأربعة أول عدد مجذور ، والخمسة أول عدد دائر ، والستة أول عدد تام ، والسبعة عدد أول ، والثمانية أول عدد زوج الزوج ، والتسعة أول عدد مثلث ، والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين.
وذكر الإمام لهذه الفذلكة مع الوصف عشرة أوجه - لكنها عشرة غير كاملة - ولولا مزيد التطويل لذكرتها بما لها وعليها ذلِكَ إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله سبحانه : فَمَنْ تَمَتَّعَ عند أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه إذ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد لأن شرعهما للترفه بإسقاط أحد السفرتين وهذا في حق الآفاقي لا في حق أهل مكة ومن في حكمهم ، وقال الشافعي رضي اللّه تعالى عنه : إنها إشارة إلى الأقرب وهو الحكم المذكور أعني لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقيا لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبورا بالدم ، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوقع خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بدله ، ويرده أنه لو كانت الإشارة للهدي والصوم لأتى - بعلى - دون اللام في قوله سبحانه :
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع والواجب يستعمل بعلى - لا باللام ، وكون اللام واقعة موقع على كما قيل به في «اشترطي لهم الولاء» خلاف الظاهر ، والمراد بالموصول من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي رضي اللّه تعالى عنه ، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، وأهل الحل عند طاوس ، وغير أهل مكة عند مالك رضي اللّه تعالى عنه ، والحاضر على الوجه الأول ضد المسافر ، وعلى الوجوه الأخر بمعنى الشاهد الغير الغائب ، والمراد من حضور الأهل حضور المحرم ، وعبر به لأن الغالب على الرجل كما قيل : أن يسكن حيث أهله ساكنون ، و- للمسجد الحرام إطلاقان ، أحدهما نفس المسجد ، والثاني الحرم كله ، ومنه قوله سبحانه : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الإسراء : 1] بناء على أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد ، وعلى إرادة المعنى الأخير في الآية هنا أكثر أئمة الدين وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه يتم الانتظام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لم يتقه أي استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة وإضافة شديد من إضافة الصفة=

4.  روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 481
المشبهة إلى مرفوعها الْحَجُّ أَشْهُرٌ أي وقته ذلك وبه يصح الحمل ، وقيل : ذو أشهر أو حج أشهر ، وقيل : لا تقدير ، ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان مبالغة ، ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما بعد فالتنصيص عليه أولى ، ومعنى قوله سبحانه وتعالى : مَعْلُوماتٌ معروفات عند الناس وهي شوال وذو القعدة.
وعشر من ذي الحجة عندنا ، وهو المروي عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر والحسن رضي اللّه تعالى عنهم ، وأيد بأن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج - وهو طواف الزيارة - وبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر ، وعند مالك الشهران الأولان وذو الحجة كله عملا بظاهر لفظ الأشهر ، ولأنّ أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف الزيارة ، والحلق ، ورمي الجمار ، والمرأة إذا حاضت تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيامه بعد العشرة ، ولأنه يجوز - كما قيل - تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر ، على ما روي عن عروة بن الزبير - ولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك ،
فقد أخرج الطبراني والخطيب وغيرهما بطرق مختلفة أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عد «الثلاثة أشهر الحج»
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر رضي اللّه تعالى عنه مثل ذلك. وعند الشافعي رضي اللّه تعالى عنه الشهران الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر لأن الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر ، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها ، قاله الرازي ، وفيه أن فوته بفوت ركنه الأعظم - وهو الوقوف - لا بفوت وقته مطلقا ، ومدار الخلاف أنّ المراد بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا - أو وقت إحرامه - والشافعي رضي اللّه تعالى عنه - على الأخير - والإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم النحر لعدم إمكان الأداء ، وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في أيام النحر ، ومالك على الثاني فإنه - على ما قيل - كره الاعتمار في بقية ذي الحجة ، لما روي أنّ عمر رضي اللّه تعالى عنه كان يخوّف الناس بالدرّة وينهاهم عن ذلك فيهن ، وإنّ ابنه رضي اللّه تعالى عنه قال لرجل : إن أطعتني انتظرت حتى إذا هلّ المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
والإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه على الأول لكون العاشر وقتا لأداء الرمي ، والحلق وغيرهما ، وغيرها من بقية أيام النحر - وإن كان وقتا لذلك أيضا - إلا أنه خصص بالعشر اقتضاء لما روي في الآثار من ذكر العشر ، ولعل وجهه أنّ المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه بحيث يحل له كل شيء وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية أيام النحر ، فللتيسير في أداء الطواف ، ولتكميل الرمي ، و«الأشهر» مستعمل في حقيقته إلا أنه تجوز في بعض أفراده ، فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور فجعل بعض من فرد فردا ثم جمع ، وقيل : إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة الاجتماع ، وليس من الجمع حقيقة بناء على المذهب المرجوح فيه لأنه إنما يصح إطلاقه على اثنين فقط ، أو ثلاثة - لا على اثنين - وبعض ثالث ، والقول - بأن المراد به اثنان والثالث في حكم العدم - وقيل : المراد ثلاثة ، ولا تجوز في بعض الأفراد لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة لأنها على معنى - في - فيقال : رأيته في سنة كذا. أو شهر كذا أو يوم كذا. وأنت قد رأيته في ساعة من ذلك - ولعله قريب إلى الحق - وصيغة جمع المذكر في غير العقلاء تجي ء - بالألف والتاء فَمَنْ فَرَضَ أي ألزم نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ بالإحرام ، ويصير محرما - بمجرد النية - عند الشافعي لكون الإحرام التزام الكف عن المحظورات فيصير شارعا فيه بمجردها كالصوم ، وعندنا - لا - بل لا بد من مقارنة التلبية لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمه الصلاة ، ولما كان باب الحج أوسع من باب الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية - فارسيا كان أو عربيا - وفعل كذلك من سوق الْهَدْيِ أو تقليده ، واستدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر ، كما قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه وعطاء وغيرهما.
إذ لو جاز في غيرها - كما ذهب إليه الحنفية - لما كان لقوله سبحانه : فِيهِنَّ فائدة ، وأجيب بأن فائدة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 482
ذكر فِيهِنَّ كونها وقتا لأعماله من غير كراهية فلا يستفاد منه عدم جواز الإحرام قبله ، فلو قدّم الإحرام انعقد حجا مع الكراهة ، وعند الشافعي رضي اللّه تعالى عنه يصير محرما بالعمرة ، ومدار الخلاف أنه ركن عنده - وشرط عندنا - فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت ، والكراهة جاءت للشبهة ،
فعن جابر عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج»
فَلا رَفَثَ أي لا جماع ، أو لا فحش من الكلام وَلا فُسُوقَ ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات ، وقيل : بالسباب والتنابز بالألقاب وَلا جِدالَ ولا خصام مع الخدم والرفقة.
فِي الْحَجِّ أي في أيامه ، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرّب بها إلى اللّه تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك ، وإيثار النفي للمبالغة في النهي والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون ، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج الحروف عن هيئاتها في القرآن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأولين بالرفع حملا لهما على معنى النهي أي لا يكونن رَفَثَ وَلا فُسُوقَ والثالث - بالفتح - على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج ، وذلك أن قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة ، وبعد ما أمر الكل بالوقوف في عرفة ارتفع الخلاف فأخبر به ، وقرىء بالرفع فِيهِنَّ ووجهه لا يخفى.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ بتأويل الأمر معطوف على فَلا رَفَثَ أي لا ترفثوا وافعلوا الخيرات - وفيه التفات - وحث على - الخير - عقيب النهي عن الشر ليستبدل به ، ولهذا خص متعلق العلم مع أنه تعالى عالم بجميع ما يفعلونه من خير أو شر ، والمراد من - العلم - إما ظاهره فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه ، وإما المجازاة مجازا وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون : نحن متوكلون ، وثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت - فالتزوّد - بمعناه الحقيقي - وهو اتخاذ الطعام للسفر - والتَّقْوى بالمعنى اللغوي - وهو الاتقاء من السؤال - وقيل : معنى الآية اتخذوا التَّقْوى زادكم لمعادكم فإنها خير زاد ، فمفعول تَزَوَّدُوا محذوف بقرينة خبر إن - وهو التقوى بالمعنى الشرعي - وكان مقتضى الظاهر أن يحمل خَيْرَ الزَّادِ على التَّقْوى فإن المسند إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات مسندا ، والمطلوب هنا إثبات خَيْرَ الزَّادِ للتقوى لكونه دليلا على تزوّدها إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر للمبالغة لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي بلغكم أنه خَيْرَ الزَّادِ وأنتم تطلبون نعته هو التَّقْوى فيفيد اتحاد خَيْرَ الزَّادِ بها وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أخلصوا لي التقوى فإن مقتضى العقل الخالص عن الشوائب ذلك وليس فيه - على هذا - شائبة تكرار مع سابقه لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج في أَنْ تَبْتَغُوا أي تطلبوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي رزقا منه تعالى بالربح بالتجارة في مواسم الحج ،
أخرج البخاري وغيره - عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه - قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن ذلك فنزلت ،
واستدل بها على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج وإن ذلك لا يحبط أجرا ولا ينقص ثوابا ، ووجه الارتباط أنه تعالى لما نهى عن الجدال في الحج كان مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضا لكونها مفضية في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 483
الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها فعقب ذلك بذكر حكمها ، وذهب أبو مسلم إلى المنع عنها في الحج ، وحمل الآية على ما بعد الحج ، وقال : المراد واتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح إلخ كقوله تعالى : فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة : 10] وزيف بأن حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة فيه ومحل الاشتباه هو التجارة زمان الحج. وأما بعد الفراغ فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها ، وأيضا الآثار لا تساعد ما قاله فقد سمعت ما أخرجه البخاري ، وقد أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال سألت ابن عمر فقلت : إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا قال : ألستم تلبون ألستم تطوفون بين الصفا والمروة ألستم ألستم؟؟ قلت : بلى قال : إن رجلا سأل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية فدعاه فتلا عليه حين نزلت وقال :
«أنتم الحجاج»
وكان ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يقرأ فيما أخرجه البخاري وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عنه لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج ، وكذلك روي عن ابن مسعود ، وأيضا - الفاء - في قوله تعالى : فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك مؤذن بأن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ، نعم قال بعضهم : إذا كان الداعي للخروج إلى الحج هو التجارة أو كانت جزء العلة أضر ذلك بالحج لأنه ينافي الإخلاص للّه تعالى به - وليس بالبعيد - وأَفَضْتُمْ من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا ، وأفضته أسلته والهمزة فيه للتعدية ، ومفعوله مما التزم حذفه للعلم به ، وأصله أفيضتم فنقلت حركة - الياء - إلى - الفاء - قبلها فتحركت - الياء - في الأصل وانفتح ما قبلها الآن فقلبت الفا ثم حذفت ، والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات ومِنْ لابتداء الغاية وعَرَفاتٍ موضع بمنى وهي اسم في لفظ الجمع فلا تجمع قال الفراء : ولا واحد له بصحة ، وقول الناس : نزلنا عرفة شبيه بمولد - وليس بعربي محض - واعترض عليه
بخبر «الحج عرفة»
وأجيب بأن عرفة فيه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة كما صرح به الراغب والبغوي والكرماني ، والذي أنكره استعماله في المكان ، فالاعتراض ناشىء من عدم فهم المراد ومن هنا قيل : إنه جمع عرفة وعليه صاحب شمس العلوم ، والتعدد حينئذ باعتبار تسمية كل جزء من ذلك المكان عرفة كقولهم : جب مذاكيره فلا يرد ما قاله العلامة : من أنه لو سلم كون عرفة عربيا محصنا فعرفة وعرفات مدلولهما واحد ، وليس ثمة أماكن متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات ، وإنما نون وكسر مع أن فيه العلمية والتأنيث لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلة نون جمع المذكر فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين وهو كونه علامة تمام الاسم فقط ، وليس في النون شيء من معاني الأقسام للتنوين فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الاسم فقط ، وليس فيها أيضا شيء من تلك المعاني سوى المقابلة وليس الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين بل تنوين التمكين لأنه الدال على عدم مشابهة الاسم بالفعل وأن ذهاب الكسرة على المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف ، وهنا ليس كذلك - قاله الجمهور - وقال الزمخشري : إنما نون وكسر لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين إذ التأنيث المعتبر مع العلمية في منع الصرف إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع ، وإما أن يكون بتاء مقدرة كما في زينب ، واختصاص هذه التاء بجمع المؤنث يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث فهذه التاء كتاء بنت ليست للتأنيث بل عوض عن الواو المحذوفة ، واختصت بالمؤنث فمنعت تقدير التاء فعلى هذا لو سمي بمسلمات ، وبنت مؤنث كان منصرفا ، وقول ابن الحاجب : إن هذا يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء إذ الاقتضاء غير مسلم ، وكذا ما قاله عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف لا يستدعي قوة ألا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 484
يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف ولا يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه لأن بناء الاستدلال ليس على اعتبار القوة والضعف بل على عدم تحقق التأنيث ، نعم يرد ما أورده الرضي من أنه لو لم يكن فيه تأنيث لما التزم تأنيث الضمير الراجع إليه ، ويجاب بأن اختصاص هذا الوزن بالمؤنث يكفي لإرجاع الضمير ولا يلزم فيه وجود التاء لفظا أو تقديرا وإنما سمي هذا المكان المخصوص بلفظ ينبىء عن المعرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فعرفه ، وروي ذلك عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أو لأن جبريل كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال : قد عرفت ، وروي عن عطاء أو لأن آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا ، وروي عن الضحاك والسدي أو لأن جبريل عليه السلام قال لآدم فيه : اعترف بذنبك واعرف مناسكك قاله بعضهم ، وقيل : سمي بذلك لعلوه وارتفاعه ، ومنه عرف الديك ، واختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من وجوهها كأنه عرفات متعددة وهي من الأسماء المرتجلة قطعا عند المحققين ، وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة من جمع عارف ولا جزم بالنقل إذ لا دليل على جعلها جمع عارف والأصل عدم النقل فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والتهليل والدعاء ، وقيل : بصلاة العشاءين لأن ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ إلا الصلاة ، والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها ، فقد أخرج وكيع وسفيان وابن جرير والبيهقي وجماعة عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه سئل عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال : هذا الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وأيد بأن الفاء تدل على أن الذكر عِنْدَ الْمَشْعَرِ يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة ، وذهب كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى قزح.
وخص اللّه تعالى الذكر عنده مع أنه مأمور به في جميع «المزدلفة» لأنها كلها موقف إلا وادي محسر كما دلت عليه الآثار الصحيحة لمزيد فضله وشرفه وعن سعيد بن جبير - ما بين جبلي مزدلفة فهو الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ومثله عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وإنما سمي - مشعرا - لأنه معلم العبادة ، ووصف - بالحرام - لحرمته ، والظرف متعلق باذكروا أو بمحذوف حال من فاعله وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي كما علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد أي اذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه ، ويحتمل أن يراد مطلق الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال أي اذْكُرُوهُ ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها.
و- ما - على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية فمحل كَما هَداكُمْ النصب على المصدرية بحذف الموصوف أي ذكرا مماثلا لهدايتكم ، وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب ، والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة ، ولذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها. وذهب بعضهم إلى أن - الكاف - للتعليل. وأنها متعلقة بما عندها و- ما - مصدرية لا غير أي اذْكُرُوهُ وعظموه لأجل هدايته السابقة منه تعالى لكم وَإِنْ كُنْتُمْ أي وإنكم كُنْتُمْ فخففت أَنْ وحذف الاسم وأهملت عن العمل ولزم اللام فيما بعدها ، وقيل : إن أَنْ نافية ، واللام بمعنى إلا مِنْ قَبْلِهِ أي - الهدي - والجار متعلق بمحذوف يدل عليه لَمِنَ الضَّالِّينَ ولم يعلقوه به لأن ما بعد - ال - الموصولة لا يعمل فيما قبلها وفيه تأمل ، والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم الطاعات ، والجملة تذييل لما قبلها كأنه قيل : اذْكُرُوهُ الآن إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما هَداكُمْ لأنه من الضلالة ، وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي من عرفة لا من - المزدلفة - والخطاب عام ، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع ، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 485
يفيض منها فذلك قوله سبحانه : ثُمَّ أَفِيضُوا الآية ومعناها ثُمَّ أَفِيضُوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديما وحديثا ، وهو عرفة لا من مزدلفة ، وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة والجملة معطوفة على قوله تعالى : فَإِذا أَفَضْتُمْ ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة وأتى - بثم - إيذانا بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب ، والأخرى خطأ ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع ، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأمورا به ، والآخر منهيا عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة ثُمَّ تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي ، وجوز أن يكون العطف على - فاذكروا - ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضا كما في السابق بلا تفاوت ، وبعضهم جعله معطوفا على محذوف أي أفيضوا إلى منى ثُمَّ أَفِيضُوا إلخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم - ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام واستغفروا» وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى - كما قال الجبائي - بقيت كلمة ثُمَّ على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من - عرفات - لأن الحاج إذا أفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى ، والخطاب على هذا عام بلا شبهة ، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر - أي من حيث أفاض الناس كلهم قديما وحديثا ، وقيل : المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناسا لأنه كان
إماما للناس ، وقيل : المراد هو وبنوه ، وقرى ء - «الناس» - بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه :
فَنَسِيَ [طه : 115] وكلمة - ثم - على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناء على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعا قديما كذا قيل فليتدبر وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للمستغفرين رَحِيمٌ بهم منعم عليهم فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أي كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر ، روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع فأنزل اللّه تعالى ذلك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما مجرور معطوف على الذكر بجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى - واذكروا اللّه ذكرا كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ - أو على ما أضيف إليه بناء على مذهب الكوفيين المجوزين للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة بمعنى - أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا - وإما منصوب بالعطف على آباءَكُمْ وذِكْراً من فعل المبني للمفعول بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم ، أو بمضمر دل عليه المعنى أي ليكن ذكركم اللّه تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكرا للّه تعالى منكم لآبائكم كذا قيل ، واختار في البحر أن يكون أَشَدَّ نصب على الحال من ذكرا المنصوب - باذكروا - إذ لو تأخر عنه لكان صفة لو وحسن تأخر ذِكْراً لأنه كالفاصلة ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم ، أو اذكروا ذكرا أشد ، وفيه أن الظاهر على هذا الوجه أن يقال أو أشد بدون ذِكْراً بأن يكون معطوفا على كذكركم صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف
بالأشدية لا طلبه حال الأشدية فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والإكثار من ذكر اللّه تعالى وطلب ما عنده ، وفيها تفصيل للذاكرين مطلقا حجاجا أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر اللّه تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين ، وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 486
الأغراض والاعراض جهل عظيم ربما يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضا معللة بما تقتضيه الحكمة ، نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى :
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة : 72] وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به ، وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال اللّه تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة حطا لطالب الدنيا عن ساحة عن الحضور ، ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء الناس على عمومه والمطابق لما سيأتي من قوله سبحانه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ إلخ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نعم سبب النزول - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - طائفة من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيطلبون الدنيا ، وطائفة من المؤمنين يجيئونه فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا أي اجعل كل إيتائنا ومنحتنا فيها فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم ذهابا إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ إخبار منه تعالى ببيان حال هذا النصف في الآخرة يعني أنه لا نصيب له فيها ولا حظ ، و- الخلاق - من خلق به إذا لاق ، أو من الخلق كأنه الأمر الذي خلق له وقدر ، وقيل : الجملة بيان لحال ذلك في الدنيا فهي تصريح بما علم ضمنا من سابقه تقريرا له وتأكيدا أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة ، وليس المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال : إن هذا حكم كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان ، ويجاب بمنع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات والكافرون الخلاص من شدة العذاب ، ومَنْ صلة ،
و- له - خبر مقدم والجار والمجرور بعده متعلق بما تعلق به أو حال مما بعده وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني العافية والكفاف قاله قتادة ، أو
المرأة الصالحة قاله علي كرم اللّه تعالى وجهه ،
أو العلم والعبادة قاله الحسن ، أو المال الصالح قاله السدي ، أو الأولاد الأبرار ، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر ، أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب اللّه تعالى ، أو صحبة الصالحين قاله جعفر ، والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلا وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى : وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فقد قيل هي الجنة ، وقيل : السلامة من هول الموقف وسوء الحساب ، وقيل : الحور العين وهو مروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ،
وقيل : لذة الرؤية (و قيل ، وقيل ..) والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان وَقِنا عَذابَ النَّارِ أي احفظنا منه بالعفو والمغفرة واجعلنا ممن يدخل الجنة من غير عذاب ، وقال الحسن : احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى عذاب النار ، وقال علي كرم اللّه تعالى وجهه : عذاب النار الامرأة السوء
أعاذنا اللّه تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان صلّى اللّه عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما
رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي اللّه تعالى عنه وأخرجا عنه أيضا أنه قال : «إن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له صلّى اللّه عليه وسلّم : هل كنت تدعو اللّه تعالى بشي ء؟ قال : نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : سبحان اللّه إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه» اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 487
أُولئِكَ إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف هاهنا لكونه كالنتيجة لما قبله ، قيل : وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل ، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى : لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا ، أو من أجله ، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه ، و- من - إما للتبعيض أو للابتداء ، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل ، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من رَبَّنا آتِنا الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسبا لأنه من الأعمال وقرى ء - مما اكتسبوا - وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا ، وروي بمقدار فواق ناقة ، وروي بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات ، والجملة تذييل لقوله تعالى : فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ إلخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كما وكيفا ، أو مجازاتهم عليها هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» ولَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ولو ماتكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن وَلكِنَّ البر من اتقى شواغل الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة وأتوا هاتيك البيوت مِنْ أَبْوابِها التي تلي الروح ، ويدخل منها الحق واتقوا اللّه عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر وَلا تَعْتَدُوا بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام بمراسم الطاعة ووظائف العبودية فرب مخمصة شر من التخم. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة وَاقْتُلُوهُمْ حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا وَأَخْرِجُوهُمْ عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم فَاقْتُلُوهُمْ بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الساترين للحق فَإِنِ انْتَهَوْا عن نزاعهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقاتِلُوهُمْ على دوام الرعاية وصدق العبودية حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ولا يحصل التفات إلى السوي وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلا على المجاوزين للحدود الشَّهْرُ الْحَرامُ الذي قامت به النفس لحقوقها بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فلا تبالوا بهتك حرمتها وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد - ولا تلقوا بأيديكم إلى تهلكة التفريط وأحسنوا - بأن تكونوا مشاهدين
ربكم في سائر أعمالكم إن اللّه يحب المشاهدين له ، - وأتموا حج - توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات للّه بإتمام جميع المقامات والأحوال فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في اللّه بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب ، ولاختلاف النفوس في الاستعداد قال : ما استيسر ولا تحلقوا رؤوسكم ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس محله فحينئذ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً ضعيف

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 488
الاستعداد أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل بر أو رياضة تقمع بعض القوى فَإِذا أَمِنْتُمْ من المانع المحصر فمن تمتع بذوق تجلي الصفات متوسلا
به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب حاله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ لضعف نفسه وانقهارها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء ، وهي العقل والوهم والمتخيلة وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى مقام التفصيل والكثرة ، وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في الأشياء باللّه عز وجل تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة : 68].
ومن هنا قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ على نفسه بالعزيمة فَلا رَفَثَ أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها وَلا فُسُوقَ ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي ولا ينازع أحدا في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان : 63] وما تفعلوا من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور يعلمه اللّه ويثيبكم عليه ، وتزودوا من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وتمامها بنفي السوي وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء اللّه تعالى ليس عليكم حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقا لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى اللّه تعالى عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعرا لأنه محل الشعور بالجمال ، ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ إلى ذكره في المراتب وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها لَمِنَ الضَّالِّينَ عن هذه الأذكار في طلب الدنيا ثُمَّ أَفِيضُوا إلى ظواهر العبادات مِنْ حَيْثُ أَفاضَ سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية.
أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد اللّه تعالى بالإرشاد والتعليم وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فقد كان الشارع الأعظم صلى اللّه تعالى عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر اللّه تعالى في اليوم سبعين مرة ، ومن أنت يا مسكين بعده إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ وفرغتم من الحج فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قبل السلوك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه فمن الناس من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها وما له في مقام الفناء من نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب بنيران الطبيعة أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية واللّه سريع الحساب وَاذْكُرُوا اللَّهَ أي كبروه إدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ، ورمي الجمار وغيرها.
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وهي ثلاثة أيام التشريق وهو المروي في المشهور عن عمر وعلي
وابن عباس رضي اللّه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 489
تعالى عنهم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها أربعة أيام بضم يوم النحر إليها ، واستدل بعضهم للتخصيص بأن هذه الجملة معطوفة على قوله سبحانه فَاذْكُرُوا اللَّهَ إلخ فكأنه قيل فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا اللّه في أيام معدودات ، والفاء للتعقيب فاقتضى ذلك إخراج يوم النحر من الأيام ، ومن اعتبر العطف والتعقيب وجعل بعض يوم يوما استدل بالآية على ابتداء التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر ، واستدل بعمومها من قال : يكبر خلف النوافل واستشكل وصف أيام بمعدودات لأن أياما جمع يوم وهو مذكر ، ومَعْدُوداتٍ واحدها معدودة وهو مؤنث فكيف تقع صفة له فالظاهر معدودة ووصف جمع ما لا يعقل بالمفرد المؤنث جائز ، وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا معدودة ، وكثيرا ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات ، وقيل : إنه قدر اليوم مؤنثا باعتبار ساعاته ، وقيل : إن المعنى أنها في كل سنة معدودة ، وفي السنين معدودات فهي جمع معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه فَمَنْ تَعَجَّلَ
أي عجل في النفر أو استعجل النفر من منى ، وقد ذكر غير واحد أن عجل واستعجل يجيئان مطلوعين بمعنى عجل يقال : تعجل في الأمر واستعجل ، ومتعديين يقال : تعجل الذهاب ، والمطاوعة عند الزمخشري أوفق لقوله تعالى : وَمَنْ تَأَخَّرَ كما هي كذلك في قوله :
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون من «المستعجل» الزلل
لأجل المتأني ، وذهب بعض أرباب التحقيق إلى ترجيح التعدي لأن المراد بيان أمور - العجل - لا التعجل مطلقا ، وقيل : لأن اللازم يستدعي تقدير فِي فيلزم تعلق حرفي جر أحدهما المقدر والثاني فِي يَوْمَيْنِ بالفعل وذا لا يجوز - واليومان - يوم القر. ويوم الرؤوس. واليوم الذي بعده. والمراد فمن نفر في ثاني أيام التشريق قبل الغروب - وبعد رمي الجمار عند الشافعية - وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عندنا - والنفر في أول يوم منها لا يجوز - فظرفية «اليومين» له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم الأول ، والقول بأن التقدير في أحد يَوْمَيْنِ إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني ، أو في آخر يَوْمَيْنِ خروج عن مذاق النظر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله وَمَنْ تَأَخَّرَ في النفر حتى رمى في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده عندنا ، وعند الشافعي بعده فقط فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بما صنع من التأخر ، والمراد التخيير بين - التعجل والتأخر - ولا يقدح فيه أفضلية الثاني خلافا لصاحب - الإنصاف - وإنما ورد - بنفي الإثم - تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فيه ، فمن مؤثم للمعجل ، ومؤثم للمتأخر لِمَنِ اتَّقى خبر لمحذوف - واللام - إما للتعليل أو للاختصاص ، أي ذلك التخيير المذكور بقرينة القرب لأجل - المتقي - لئلا يتضرر بترك ما يقصده من - التعجيل والتأخر - لأنه حذر متحرز عما يريبه ، أو ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقا نظرا إلى عدم المخصص القطعي ، وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصة - بالمتقي - لأنه الحاج على الحقيقة ، والمنتفع بها ، والمراد من - التقوى - على التقديرين التجنب عما يؤثم من - فعل أو ترك - ولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما سبق للمؤمنين ، واستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا اتقى في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ،
وأخرج ابن جرير عنه أنه فسر الآية بذلك ثم قال : إن الناس يتأولونها على غير تأويلها ، وهو من الغرابة بمكان.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع أموركم التي يتعلق بها العزم لتنتظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة ، أو احذروا الإخلال بما ذكر من أمور الحج وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث ، وأصل - الحشر - الجمع وضم المفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به ، فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى ، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ولتواخي الفواصل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 490
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ عطف على قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ والجامع أنه سبحانه لما ساق بيان أحكام الحج إلى بيان انقسام الناس في الذكر والدعاء في تلك المناسك إلى الكافر ، والمؤمن تممه سبحانه ببيان قسمين آخرين - المنافق والمخلص - وأصل - التعجب - حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه ، وهو هنا مجاز عما يلزمه من الروق والعظمة فإن الأمر الغريب المجهول يستطيبه الطبع ويعظم وقعه في القلوب ، وليس على حقيقته لعدم الجهل بالسبب أعني الفصاحة والحلاوة ، فالمعنى ومنهم من يروقك ويعظم في نفسك ما يقوله : فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي في أمور الدنيا وأسباب المعاش - سواء كانت عائدة إليه أم لا - فالمراد من الْحَياةِ ما به الحياة والتعيش ، أو في معنى الدُّنْيا فإنها مرادة من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان - فالحياة الدنيا - على معناها ، وجعله ظرفا للقول من قبيل قولهم في عنوان المباحث الفصل الأول في كذا والكلام في كذا أي المقصود منه ذلك ولا حذف في شيء من التقديرين على ما وهم وتكون الظرفية حينئذ تقديرية كما في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «في النفس المؤمنة مائة من الإبل»
أي في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن للدية تضمن الظرف للمظروف وهذه هي التي يقال لها إنها سببية كذا في الرضي قاله بعض المحققين ، وجوز تعلق المجرور بالفعل قبله أي يعجبك في الدنيا قوله لفصاحته وطراوة ألفاظه ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك ، والآية كما
قال السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة «أقبل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ذلك منه وقال : إنما جئت أريد الإسلام واللّه تعالى يعلم إني لصادق ثم خرج من عند رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فمر بزرع من المسلمين «1» وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر»
وقيل : في المنافقين كافة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ أي بحسب ادعائه حيث يقول اللّه يعلم أن ما في قلبي موافق لما في لساني وهو معطوف على يُعْجِبُكَ وفي مصحف أبيّ ويستشهد اللّه ، وقرىء ويشهد اللّه بالرفع ، فالمراد بما في قلبه ما فيه حقيقة ، ويؤيده قراءة ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، واللّه يشهد على ما في قلبه على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له ، والجملة حينئذ اعتراضية.
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أي شديد المخاصمة في الباطل كما قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما واستشهد عليه بقول مهلهل.
إن تحت الحجار حزما وجورا وخصيما ألد ذا مقلاق
فألد صفة كأحمر بدليل جمعه على لد ومجيء مؤنثه لداء لا أفعل تفضيل والإضافة من إضافة الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على الإسناد المجازي وجعلها بعضهم بمعنى في على الظرفية التقديرية أي شديد في المخاصمة ونقل أبو حيان عن الخليل أن ألد أفعل تفضيل فلا بد من تقدير ، وخصامه ألد الخصام أو ألد ذوي الخصام ، أو يجعل وهو راجع إلى الخصام المفهوم من الكلام على بعد ، أو يقال الخصام جمع خصم كبحر وبحار وصعب وصعاب ، فالمعنى أشد الخصوم خصومة ، والإضافة فيه للاختصاص كما في أحسن الناس وجها ، وفي الآية إشارة إلى أن شدة المخاصمة مذمومة ، وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم «أبغض الرجال إلى اللّه تعالى الألد الخصم»
وأخرج أحمد عن أبي الدرداء «كفى بك إثما أن لا تزال مماريا وكفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما وكفى بك كاذبا أن لا تزال محدثا إلا حديث في ذات اللّه عز وجل» وشدة الخصومة من صفات
___________
(1) قوله : (بزرع من المسلمين) كذا بخطه ا ه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 491
المنافقين لأنهم يحبون الدنيا فيكثرون الخصام عليها وَإِذا تَوَلَّى أي أدبر وأعرض قاله الحسن ، أو إذا غلب وصار واليا - قاله الضحاك - سَعى أي أسرع في المشي أو عمل فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ما أمكنه وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ كما فعله الأخنس ، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف ، أو بالظلم الذي يمنع اللّه تعالى بشؤمه القطر ، والْحَرْثَ الزرع وَالنَّسْلَ كل ذات روح يقال نسل ينسل نسولا إذا خرج فسقط ، ومنه نسل وبر البعير أو ريش الطائر ، وسمي العقب من الولد نسلا لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه ، وذكر الأزهري أن الْحَرْثَ هنا النساء وَالنَّسْلَ الأولاد ، وعن الصادق أن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس ،
وقرىء ويهلك الحرث ، والنسل على أن الفعل للحرث والنسل ، والرفع للعطف على سَعى وقرأ الحسن بفتح اللام وهي لغة - أبى يأبى - وروي عنه ويهلك على البناء للمفعول وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ لا يرضى به فاحذروا غضبه عليه ، والجملة اعتراض للوعيد واكتفى فيها على الفساد لانطوائه على الثاني لكونه من عطف العام على الخاص ، ولا يرد أن اللّه تعالى مفسد للأشياء قبل الإفساد ، فكيف حكم سبحانه بأنه لا يحب الفساد ، لأنه يقال : الإفساد - كما قيل في الحقيقة - إخراج الشيء عن حالة محمودة - لا لغرض صحيح - وذلك غير موجود في فعله تعالى ولا هو آمر به ، وما نراه من فعله جل وعلا إفسادا فهو بالإضافة إلينا ، وأما بالنظر إليه تعالى فكله صلاح ، وأما أمره بإهلاك الحيوان مثلا لأكله فلإصلاح الإنسان الذي هو زبدة هذا العالم ، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية ورجوعه إلى وطنه الأصلي ، وقد تقدم ما عسى أن تحتاجه هنا.
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في فعلك أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أي احتوت عليه وأحاطت به ، وصار كالمأخوذ بها ، والْعِزَّةُ في الأصل خلاف الذل وأريد بها الأنفة والحمية مجازا. بِالْإِثْمِ أي مصحوبا أو مصحوبة به أو بسبب إثمه السابق ، ويجوز أن يكون - أخذ - من الأخذ بمعنى الأسر ، ومنه الأخيذ للأسير ، أي جعلته الْعِزَّةُ وحمية الجاهلية أسيرا بقيد الإثم لا يتخلص منه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر أي كافيه جَهَنَّمُ وقيل : جَهَنَّمُ فاعل لحسبه ساد مسد خبره ، وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوي لاعتماده على - الفاء - الرابطة للجملة بما قبلها ، وقيل :
«حسب» اسم فعل ماض بمعنى كفى - وفيه نظر - وجَهَنَّمُ علم لدار العقاب أو لطبقة من طبقاتها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث ، وهي من الملحق بالخماسي بزيادة الحرف الثالث ووزن فعنلل ، وفي البحر إنها مشتقة من قولها : ركية جهنام - إذا كانت بعيدة القعر - وكلاهما من الجهم ، وهي الكراهية ، والغلظ ، ووزنها فعنل. ولا يلتفت لمن قال : وزنها فنعلل كعرندس ، وأن فعنلا مفقود لوجود فعنل نحو دونك وخفنك وغيرهما ، وقيل : إنها فارسي وأصلها كهنام فعربت - بإبدال الكاف جيما وإسقاط الألف - والمنع من الصرف حينئذ للعلمية والعجمة وَلَبِئْسَ الْمِهادُ جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه ، والْمِهادُ الفراش ، وقيل : ما يوطىء للجنب - والتعبير به للتهكم - وفي الآية ذم لمن يغضب إذا قيل له : اتَّقِ اللَّهَ ولهذا قال العلماء : إذا قال الخصم للقاضي :
اعدل ونحوه له أن يعزره ، وإذا قال له : اتَّقِ اللَّهَ لا يعزره. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه «إنّ من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه : اتق اللّه تعالى فيقول : عليك بنفسك عليك بنفسك» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روي عن ابن عباس والضحاك رضي اللّه تعالى عنهما أن الآية نزلت في سرية الرجيع ، أو في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على ما أخرج ابن جرير عن أبي الخليل قال : سمع عمر رضي اللّه تعالى عنه إنسانا يقرأ هذه الآية فاسترجع وقال : قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلبا لرضاه ، ف ابْتِغاءَ مفعول له ، ومَرْضاتِ مصدر بني - كما في البحر - على التاء كمدعاة ، والقياس تجريده منها ، وكتب في المصحف - بالتاء - ووقف عليه - بالتاء والهاء - وأكثر الروايات أن الآية نزلت في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 492
صهيب الرومي رضي اللّه تعالى عنه ، فقد أخرج جماعة أنّ صهيبا أقبل مهاجرا نحو النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم أني من أرماكم رجلا وايم اللّه لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا : دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك ، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل ، فلما قدم على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «أبا يحيى ربح البيع ربح البيع» وتلا له الآية. وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى الاشتراء.
وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد بن الأسود لما
قال عليه الصلاة والسلام : «من ينزل خبيبا عن خشبته فله الجنة»
فقال : أنا وصاحبي المقداد - وكان خبيب قد صلبه أهل مكة - وقال الإمامية وبعض منا : إنها نزلت في على كرم اللّه تعالى وجهه حين استخلفه النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار ، وعلى هذا يرتكب في السراء مثل ما ارتكب أولا وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي المؤمنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه ، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت في عبد اللّه بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا ، فأنكر ذلك عليهم المسلمون ، فقالوا :
إنا نقوى على هذا وهذا ، وقالوا للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن التوراة كتاب اللّه تعالى فدعنا فلنعمل بها ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ،
فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب ، والسِّلْمِ بمعنى الإسلام ، وكَافَّةً في الأصل صفة من كف بمعنى منع ، استعمل بمعنى الجملة بعلاقة أنها مانعة للأجزاء عن التفرق - والتاء - فيه للتأنيث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كعامة وخاصة وقاطبة أو للمبالغة. واختار الطيبي الأول مدعيا أن القول بالأخيرين خروج عن الأصل من غير ضرورة ، والشمول المستفاد منه شمول الكل للأجزاء لا الكلي لجزئياته ولا الأعم منهما ، ولا يختص بمن يعقل ، ولا بكونه حالا ولا نكرة خلافا لابن هشام - وليس له في ذلك ثبت - وهو هنا حال من الضمير في ادْخُلُوا والمعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تدعوا شيئا من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره من شريعة موسى عليه السلام ، وقيل : الخطاب للمنافقين ، والسِّلْمِ بمعنى الاستسلام والطاعة على ما هو الأصل فيه ، وكَافَّةً حال من الضمير أيضا ، أي استسلموا للّه تعالى وأطيعوه جملة واتركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا ، وقيل :
الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان بشريعتهم ، والمراد من السِّلْمِ جميع الشرائع بذكر الخاص وإرادة العام بناء على القول بأن الإسلام شريعة نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وحمل - اللام - على الاستغراق ، وكَافَّةً حال من السِّلْمِ والمعنى ادخلوا أيها المؤمنون بشريعة واحدة في الشرائع كلها ولا تفرقوا بينها ، وقيل : الخطاب للمسلمين الخلص ، والمراد من السِّلْمِ شعب الإسلام ، وكَافَّةً حال منه ، والمعنى ادْخُلُوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم فِي شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه ، وقال الزجاج في هذا الوجه : المراد من السِّلْمِ الإسلام ، والمقصود أمر المؤمنين بالثبات عليه ، وفيه أن التعبير عن الثبات على الإسلام بالدخول فيه بعيد غاية البعد ، وهذا ما اختاره بعض المحققين من ستة عشر احتمالا في الآية حاصلة من ضرب احتمالي السِّلْمِ في احتمالي كَافَّةً وضرب المجموع في احتمالات الخطاب ، ومبنى ذلك على أمرين ، أحدهما أن كَافَّةً لإحاطة الأجزاء ، والثاني أن محط الفائدة في الكلام القيد كما هو المقرر عند البلغاء ، ونص عليه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 493
الشيخ في دلائل الإعجاز ، وإذا اعتبرت احتمال الحالية من الضمير والظاهر معا كما في قوله :
خرجت بها نمشي تجر وراءنا على أثرينا ذيل مرط مرحل
بلغت الاحتمالات أربعة وعشرين ، ولا يخفى ما هو الأوفق منها بسبب النزول. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم» بفتح السين والباقون - بكسرها - وهما لغتان مشهورتان فيه ، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بمخالفة ما أمرتم به ، أو بالتفرق في جملتكم ، أو بالتفريق بالشرائع أو الشعب إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة أو مظهر لها ، وهو تعليل للنهي والانتهاء.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي ملتم عن الدخول فِي السِّلْمِ وتنحيتم ، وأصله السقوط وأريد به ما ذكر مجازا.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الحجج الظاهرة الدالة على أنه الحق ، أو آيات الكتاب الناطقة بذلك الموجبة للدخول فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره لا يعجزه شيء من الانتقام منكم حَكِيمٌ لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام في معنى النفي ، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب ، أو إلى مَنْ يُعْجِبُكَ إن أريد به مؤمنو أهل الكتاب أو المسلمون. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بالمعنى اللائق به جل شؤونه منزها عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات.
فِي ظُلَلٍ جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك ، وقرىء ظلال كقلال مِنَ الْغَمامِ أي السحاب أو الأبيض منه وَالْمَلائِكَةُ يأتون ، وقرىء «والملائكة» بالجر عطف على ظلل أو الغمام والمراد مع الْمَلائِكَةُ أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «يجمع اللّه تعالى الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل اللّه تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي ، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد اللّه بن عمر في هذه الآية قال : يهبط حين يهبط وبينه وبين خاتمه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتا تنخلع له القلوب ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن من الغمام ظللا يأتي اللّه تعالى فيها محفوفات بالملائكة ، وقرأ أبيّ «إلا أن يأتيهم اللّه والملائكة في ظلل» ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفا فقال : في الآية الإسناد مجازي ، والمراد يأتيهم أمر اللّه تعالى وبأسه أو حقيقي ، والمفعول محذوف أي يأتيهم اللّه تعالى ببأسه ، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه : أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فإن العزة.
والحكمة تدل على الانتقام بحق ، وهو البأس والعذاب ، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ، ويكون ذكر اللّه تعالى حينئذ تمهيدا لذكرهم كما في قوله سبحانه : يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة : 9] على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير ، ولا يخفى أن من علم أن اللّه تعالى أن يظهر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء وأنه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف الأمة وأرباب القلوب من ساداتنا الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات ، ولم يحم حول هذه التأويلات وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أتم أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ لأنه خبر معنى ووضع الماضي موضع المستقبل لدنو وتيقن وقوعه. وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر عطفا على الملائكة وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تذييل للتأكيد كأنه قيل : وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ التي من جملتها الحساب أو الإهلاك ، وعلى قراءة معاذ عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ أي لا ينظرون إلا الإتيان وأمر ذلك إلى اللّه تعالى ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم - ترجع - على البناء للمفعول على أنه من الرجع ، وقرأ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 494
الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع ، وقرىء أيضا بالتذكير وبناء المفعول سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أمر للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم كما هو الأصل في الخطاب أو لكل واحد ممن يصح منه السؤال ، والمراد بهذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد يقول لمن حضر سله كم أنعمت عليه ، وربط الآية بما قبلها على ما قيل : إن الضمير في هَلْ يَنْظُرُونَ إن كان لأهل الكتاب فهي كالدليل عليه وإن كان لمن يُعْجِبُكَ فهي بيان لحال المعاندين من أهل الكتاب بعد بيان حال المنافقين من أهل الشرك كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي علامة ظاهرة وهي المعجزات الدالة على صدق رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما قال الحسن ، ومجاهد ، وتخصيص إيتاء المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات الأنبياء السابقة وقد يراد بالآية معناها المتعارف وهو طائفة من القرآن وغيره ، وبينة من بان المتعدي ، فالسؤال على إيتاء الآيات المتضمنة لنعت الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم وتحقيق نبوته والتصديق بما جاء به.
وكَمْ إما خبرية والمسئول عنه محذوف ، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع كأنه قيل : سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد - آتيناهم آيات كثيرة بينة - وزعم لزوم انقطاع الجملة على هذا التقدير - وهم كما ترى ، وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني ل سَلْ وقيل : في موضع المصدر أي سلهم هذا السؤال ، وقيل : في موضع الحال أي سلهم قائلا - كم آتيناهم - والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار ، وقيل : بمعنى التحقيق والتثبيت ، واعترض بأن معنى التقريع الاستنكار والاستبعاد وهو لا يجامع التحقيق ، وأجيب بأن التقريع إنما هو على جحودهم الحق وإنكاره المجامع لإيتاء الآيات لا على الإيتاء حتى يفارقه ، ومحلها النصب على أنها مفعول ثان - لآتينا - وليس من الاشتغال كما وهم أو الرفع بالابتداء على حذف العائد ، والتقدير - آتيناهموها - أو آتيناهم إياها ، وهو ضعيف عند سيبويه ، وآيَةٍ تمييز ، ومِنْ صلة أتي بها للفصل بين كون آيَةٍ مفعولا - لآتينا - وكونها مميزة ل كَمْ ويجب الإتيان بها في مثل هذا الموضع فقد قال الرضي : وإذا كان الفصل بين - كم - الخبرية ومميزها بفعل متعد وجب الإتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي نحو كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان : 25] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الحجر : 4] وحال - كم - الاستفهامية المجرور مميزها مع الفصل كحال - كم الخبرية في جميع ما ذكرنا انتهى. وحكي عنه أنه أنكر زيادة من في مميز الاستفهامية وهو محمول على الزيادة بلا فصل
لا مطلقا فلا تنافي بين كلاميه وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ أي آياته فإنها سبب الهدي الذي هو أجل النعم ، وفيه وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات ، وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ ، أو جعلها سببا للضلالة وازدياد الرجس ، وعلى التقديرين لا حذف في الآية ، وقال أبو حيان حذف حرف الجر من نِعْمَةَ والمفعول الثاني ل يُبَدِّلْ والتقدير ومن يبدل بنعمة اللّه كفرا ، ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى ، وقرى ء - ومن يبدل - بالتخفيف مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ أي وصلته وتمكن من معرفتها ، وفائدة هذه الزيادة - وإن كان تبديل الآيات مطلقا مذموما - التعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ، وفيه تقبيح عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجيء فما الفائدة في ذكره فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تعليل للجواب أقيم مقامه والتقدير ومن يبدل نعمة اللّه عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب ، ويحتمل أن يكون هو الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض أهل الكتاب عن الآيات

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 495
وبدلوها ، وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة هو اللّه تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كما في قوله تعالى : لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر : 39] كان فاعل ذلك هو الشيطان والآية محتملة لمعنيين ، والتزيين حقيقة فيهما على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الموصول للعهد ، والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب وبلال وعمار أي يستهزئون بهم على رفضهم الدنيا.
وإقبالهم على العقبى ، ومِنَ للتعدية وتفيد معنى الابتداء كأنهم جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر بالباء إلا أنه لغة رديئة ، والعطف على زين وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار ، وجوز أن تكون الواو للحال ويسخرون خبر لمحذوف أي وهم يسخرون ، والآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم نبيا لاتبعه أشرافنا ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ، وقيل : نزلت في ابن سلول ، وقيل : في رؤساء اليهود ، ومن بني قريظة ، والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزولها في جميعهم وَالَّذِينَ اتَّقَوْا هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير به مدحا لهم بالتقوى وإشعارا بعلة الحكم ، ويجوز أن يراد العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مكانا لأنهم في عليين وأولئك في أسفل السافلين ، أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة ، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها ، وفي ذلك من تسلية المؤمنين ما لا يخفى وَاللَّهُ يَرْزُقُ في الآخرة مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بلا نهاية لما يعطيه ، وقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه : هذا الرزق في الدنيا ، وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير ، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلا لكلا الحكمين كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متفقين على التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ اللّه تعالى عليهم العهد ، وهو المروي عن أبيّ بن كعب ، أو بين آدم وإدريس عليهما السلام بناء على ما في روضة الأحباب أن الناس في زمان آدم كانوا موحدين متمسكين بدينه بحيث
يصافحون الملائكة إلا قليل من قابيل ومتابعيه إلى زمن رفع إدريس ، أو بين آدم ونوح عليهما السلام على ما روى البزار وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه كان بينهما عشرة قرون على شريعة من الحق ، أو بعد الطوفان إذ لم يبق بعده سوى ثمانين رجلا وامرأة ثم ماتوا إلا نوحا وبنيه حام وسام ويافث وأزواجهم وكانوا كلهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام فالاستغراق على الأول والأخير حقيقي ، وعلى الثاني والثالث
ادعائي بجعل القليل في حكم العدم ، وقيل : متفقين على الجهالة والكفر بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهم كانوا كفارا وذلك بعد رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث نوح أو بعد موت نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث هود عليه الصلاة والسلام فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ أي فاختلفوا فبعث إلخ وهي قراءة ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه ، وإنما حذف تعويلا على ما يذكر عقبه مُبَشِّرِينَ من آمن بالثواب وَمُنْذِرِينَ من كفر بالعذاب وهم كثيرون ،
فقد أخرج أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سئل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كم الأنبياء؟
قال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت : يا رسول اللّه كم الرسل؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير»
ولا يعارض هذا قوله تعالى : وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ [النساء : 164] الآية لما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، والجمعان منصوبان على الحال من النبيين ، والظاهر أنها حال مقدرة ، والقول بأنها حال مقارنة خلاف الظاهر.
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ اللام للجنس ومعهم حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف ، وليس منصوبا بأنزل والمعنى أنزل جنس الكتاب مقدرا مقارنته ومصاحبته للنبيين حيث كان كل واحد منهم يأخذ الأحكام إما من كتاب

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 496
يخصه أو من كتاب من قبله ، والكتب المنزلة مائة وأربعة في المشهور وأنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيث ثلاثون وعلى إدريس خمسون وعلى موسى قبل التوراة عشرة والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وجوز كون اللام للعهد وضمير معهم للنبيين باعتبار البعض أي أنزل مع كل واحد من بعض النبيين كتابه ولا يخفى ما فيه من الركة بِالْحَقِّ متعلق ب أَنْزَلَ أو حال من الْكِتابَ أي متلبسا شاهدا به لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ علة للإنزال المذكور أوله وللبعث ، وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الاختلاف فلا يضر تقدم بعثة آدم وشيث وإدريس عليهم الصلاة والسلام بناء على بعض الوجوه السابقة والحكم بمعنى الفصل بقرينة تعلق بين به ولو كان بمعنى القضاء لتعدى بعلى والضمير المستتر راجع إلى اللّه سبحانه ويؤيده قراءة الجحدري فيما رواه عنه مكي لنحكم بنون العظمة أو إلى النبي وأفرد الفعل لأن الحاكم كل واحد من النبيين ، وجوز رجوعه إلى الكتاب والإسناد حينئذ مجازي باعتبار تضمنه ما به الفصل ، وزعم بعضهم أنه الأظهر إذ لا بد في عوده إلى اللّه تعالى من تكلف في المعنى أي يظهر حكمه وإلى النبي من تكلف في اللفظ حيث لم يقل ليحكموا ، ومما ذكرنا يعلم ما فيه من الضعف ، والمراد من الناس المذكورون والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التعيين.
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحق الذي اختلفوا فيه بناء على أن وحدة الأمة بالاتفاق على الحق وإذا فسرت الوحدة بالاتفاق على الجهالة والكفر يكون الاختلاف مجازا عن الالتباس والاشتباه اللازم له والمعنى فيما التبس عليهم وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو في الكتاب المنزل متلبسا به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات زائغة والواو حالية إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق أي عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف سببا لرسوخه واستحكامه ، وبهذا يندفع السؤال بأنه لما لم يكن الاختلاف إلا من الذين أوتوه - فالاختلاف لا يكون سابقا على البعثة - وحاصله أن المراد هاهنا استحكام الاختلاف واشتداده ، وعبر عن - الإنزال بالإيتاء - للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإن - الإنزال - لا يفيد ذلك ، وقيل :
عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين ، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق ، ومِنْ متعلقة ب اخْتَلَفُوا محذوفا ، والحصر على تسليم أن يكون مقصودا مستفاد من المقام أو من حذف الفعل ، ووقوع الظرف بعد حرف الاستثناء لفظا ، أو من تقدير المحذوف مؤخرا - وفي الدر المصون تجويز تعلقه بما اختلف قبله - ولا يمنع منه إلا كما قاله أبو البقاء ، وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أنّ استثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقا عند الأكثرين ، لا على وجه البدل ولا غيره - ويجوز عند جماعة مطلقا - وفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكورا مع كل من المستثنيين وهما بدلان جاز - وإلا فلا - واستدل من أجاز مطلقا بقوله تعالى : وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وأجاب من لم يجوّز بأن النصب بفعل مقدر أي «اتبعوا» وبأن الظرف يكفيه رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره - قاله الرضيّ - وهو مبنى الاختلاف في الآية ، وقوله تعالى : بَغْياً بَيْنَهُمْ متعلق بما تعلق به مِنْ و- البغي - الظلم أو الحسد ، وبَيْنَهُمْ متعلق بمحذوف صفة بَغْياً وفيه إشارة - على ما أرى - إلى أن هذا - البغي - قد باض وفرخ عندهم ، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم ، ولا ملجأ له سواهم ، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه - وهو فائدة التوصيف بالظرف - وقيل : أشار بذلك إلى أن البغي أمر مشترك بينهم وأنّ كلهم سفل ، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها فَهَدَى اللَّهُ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 497
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره ، ومِنْ بيان لِمَا والمراد للحق الذي اختلف الناس فيه - فالضمير عام شامل للمختلفين السابقين واللاحقين - وليس راجعا إلى الذين أوتوه كالضمائر السابقة ، والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين على اختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد اختلافهم ، وقيل : المراد من الَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والضمير في اخْتَلَفُوا للذين أوتوه أي الكتاب ، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : اخْتَلَفُوا في يوم الجمعة ، فأخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد فَهَدَى اللَّهُ تعالى أمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ليوم الجمعة ، واخْتَلَفُوا في القبلة ، فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود بيت المقدس وهدي اللّه تعالى أمّة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم للقبلة. واخْتَلَفُوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، فهدي اللّه تعالى أمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم للحق من ذلك واخْتَلَفُوا في الصيام ، فمنهم من يصوم النهار والليل ، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ، فهدي اللّه أمّة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم للحق من ذلك. واخْتَلَفُوا في إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فقالت اليهود : كان يهوديا ، وقالت النصارى : كان نصرانيا ، وجعله اللّه تعالى : حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران : 67] فهدي اللّه تعالى أمّة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم للحق من ذلك. وَاخْتَلَفُوا في عيسى عليه الصلاة والسلام ، فكذبت به اليهود وقالوا لأمّه بهتانا عظيما ، وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله اللّه تعالى روحه وكلمته ، فهدي اللّه تعالى أمّة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم للحق من ذلك وقراءة أبيّ بن كعب «فهدي اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ليكونوا شهداء على الناس».
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه ، والجملة مقررّة لمضمون ما قبلها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 214 إلى 227]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 498
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وسوء العيش وأنواع الأذى. حتى بلغت القلوب الحناجر ، وقيل : في غزوة أحد ، وقال عطاء : لما دخل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد الضر عليهم ، لأنهم خرجوا بغير مال وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين ، وآثروا رضا اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وأسر قوم من الأغنياء النفاق فأنزل اللّه تطييبا لقلوبهم هذه الآية ، والخطاب إما للمؤمنين خاصة ، أو للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولهم ، ونسبة - الحسبان - إليه عليه الصلاة والسلام إما لأنه لما كان يضيق صدره الشريف من شدائد المشركين نزل منزلة من يحسب أن يدخل الجنة بدون تحمل المكاره ، وإما على سبيل التغليب كما في قوله سبحانه : أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف : 88] وأَمْ منقطعة - والهمزة المقدّرة - لإنكار ذلك الحسبان وأنه لا ينبغي أن يكون ، وقيل : متصلة بتقدير معادل ، وقيل : منقطعة بدون تقدير ، وفي الكلام التفات إلا أنه غير صريح من الغيبة إلى الخطاب لأن قوله سبحانه : كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً كلام مشتمل على ذكر الأمم السابقة والقرون الخالية ، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد ، وإظهار المعجزات تشجيعا للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين ، أو للمؤمنين خاصة - فكانوا من هذا الوجه مرادين غائبين - ويؤيده فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ فإذا قيل : بعد أَمْ حَسِبْتُمْ كان نقلا من الغيبة إلى الخطاب ، أو لأنّ الكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والصبر على أذى المشركين ، فكأنه وضع موضع كان من حق المؤمنين

روح المعاني ، ج
1 ، ص : 499
التشجيع والصبر تأسيا بمن قبلهم ، كما يدل عليه ما
أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والإمام أحمد عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما لقينا من المشركين فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو اللّه تعالى لنا/ فقال : «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فتخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه» ثم قال : «واللّه ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللّه تعالى ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون»
وهذا هو المضرب عنه - ببل - التي تضمنتها أَمْ أي دع ذلك - أحسبوا أن يدخلوا الجنة - فترك هذا إلى الخطاب وحصل الالتفات معنى ، ومما ذكر يعلم وجه ربط الآية بما قبلها ، وقيل : وجه ذلك أنه سبحانه لما قال : يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وكان المراد بالصراط الحق الذي يفضي اتباعه إلى دخول الجنة بين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف وَلَمَّا يَأْتِكُمْ الواو للحال ، والجملة بعدها نصب على الحال أي غير آتيكم وَلَمَّا جازمة - كلم - وفرق بينهما في كتب النحو ، والمشهور أنها بسيطة ، وقيل : مركبة من - لم وما النافية - وهي نظيرة قد في أنّ الفعل المذكور بعدها منتظر الوقوع.
مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي مثل مثلهم وحالهم العجيبة ، فالكلام على حذف مضاف ، والَّذِينَ صفة لمحذوف أي المؤمنين ، ومِنْ قَبْلِكُمْ متعلق ب خَلَوْا وهو كالتأكيد لما يفهم منه.
مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ بيان - للمثل - على الاستئناف سواء قدّر كيف ذلك المثل أو لا ، وجوّز أبو البقاء كونها حالية بتقدير قد وَزُلْزِلُوا أي أزعجوا إزعاجا شديدا بأنواع البلاء.
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي انتهى أمرهم من البلاء إلى حيث اضطروا إلى أن يَقُولَ الرَّسُولُ وهو أعلم الناس بما يليق به تعالى ، وما تقتضيه حكمته ، والمؤمنون المقتدون بآثاره ، المهتدون بأنواره مَتى يأتي نَصْرُ اللَّهِ طلبا وتمنيا له ، واستطالة لمدة الشدة - لا شكا وارتيابا - والمراد من الرَّسُولُ الجنس لا واحد بعينه ، وقيل : وهو اليسع ، وقيل : شعياء ، وقيل : أشعياء ، وعلى التعيين يكون المراد من الَّذِينَ خَلَوْا قوما بأعيانهم - وهم أتباع هؤلاء الرسل - وقرأ نافع يَقُولَ بالرفع على أنها حكاية حال ماضية ومَعَهُ يجوز أن يكون منصوبا ب يَقُولَ أي إنهم صاحبوه في هذا القول وأن يكون منصوبا ب آمَنُوا أي وافقوه في الإيمان أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ استئناف نحوي على تقدير القول أي فقيل لهم حينئذ ذلك تطييبا لأنفسهم بإسعافهم بمرامهم وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقريره ما لا يخفى ، واختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعد للرسول والاقتصار على حكايتها دون حكاية النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف ، وقيل : لما كان السؤال - بمتى - يشير إلى استعلام القرب تضمن الجواب القرب واكتفى به ليكون الجواب طبق السؤال ، وجوز أن يكون هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا واردا عند وقوع المحكي ، والقول بأن هذه الجملة : مقول الرسول ومَتى نَصْرُ اللَّهِ تعالى مقول من معه على طريق اللف والنشر الغير المرتب ليس بشيء ، إما لفظا فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين ، وإما معنى فلأنه لا يحسن ذكر قول الرسول أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة ، والقول - بأن ترك العطف للتنبيه على أن كلّا مقول
لواحد منهما ، واحتراز عن توهم كون المجموع مقول واحد وتنبيه على أن الرسول قال لهم في جوابهم وبأن منصب الرسالة يستدعي تنزيه الرسول عن التزلزل - لا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 500
ينبغي أن يلتفت إليه لأنه إذا ترك العطف لا يكون معطوفا على القول الأول فكيف التنبيه على كون كل مقولا لواحد منهما ، ولا نأمن وراء منع كون منصب الرسالة يستدعي ذلك التنزيه وليس التزلزل والانزعاج أعظم من الخوف ، وقد عرى الرسل صلوات اللّه تعالى وسلامه عليهم كما يصرح به كثير من الآيات ، وفي الآية رمز إلى أن الوصول إلى الجناب الأقدس لا يتيسر إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبىء عنه
خبر «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إن اللّه تعالى ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه اللّه تعالى من السيئات ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن»
«ومن باب الإشارة في الآيات» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يدعي المحبة ويتكلم في دقائق الأسرار ويظهر خصائص الأحوال وهو في مقام النفس الأمارة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ من المعارف والإخلاص بزعمه وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة لأهل اللّه تعالى في نفس الأمر وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها بإلقاء الشبه على ضعفاء المريدين وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ ويحصد بمنجل تمويهاته زرع الإيمان النابت في رياض قلوب السالكين ويقطع نسل المرشدين وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ فكيف يدعي هذا الكاذب محبة اللّه تعالى ويرتكب ما لا يحبه وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية على الإثم لجاجا وحبا لظهور نفسه وزعما منه أنه أعلم باللّه سبحانه من ناصحه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي يكفيه حبسه في سجين الطبيعة وظلماتها ، وهذه صفة أكثر أرباب الرسوم الذين حجبوا عن إدراك الحقائق بما معهم من العلوم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يبذل نفسه في سلوك سبيل اللّه طلبا لرضاه ولا يلتفت إلى القال والقيل ولا يغلو لديه في طلب مولاه جليل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ وتسليم الوجود للّه تعالى والخمود تحت مجاري القدرة لكم وعليكم ك
ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ
في رواية عطاء عنه لا إنها نزلت في رجل أتى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : إن لي دينارا فقال : أنفقه على نفسك فقال : إن لي دينارين فقال :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 501
أنفقهما على أهلك فقال : إن لي ثلاثة فقال : أنفقها على خادمك فقال : إن لي أربعة فقال : أنفقها على والديك فقال : إن لي خمسة فقال : أنفقها على قرابتك فقال : إن لي ستة فقال : أنفقها في سبيل اللّه تعالى»
وعن ابن جريج قال : «سأل المؤمنون رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟» فنزلت.
قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ظاهر الآية أنه سئل عن المنفق فأجاب ببيان المصرف صريحا لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره ، وأشار إجمالا إلى بيان المنفق فإن : مِنْ خَيْرٍ يتضمن كونه حلالا إذ لا يسمى ما عداه خيرا وإنما تعرض لذلك وليس في السؤال ما يقتضيه لأن السؤال للتعلم لا للجدل ، وحق المعلم فيه أن يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء طلبه المريض أم لم يطلبه ، ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيبا في أكل العسل فقال : كله مع الخل ، فالكلام إذا من أسلوب الحكيم ، ويحتمل أن يكون في الكلام ذكر المصرف أيضا كما تدل عليه الرواية الأولى في سبب النزول إلا أنه لم يذكره في الآية للإيجاز في النظم تعويلا على الجواب فتكون الآية جوابا لأمرين مسؤول عنهما ، والاقتصار في بيان المنفق على الإجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون الثاني أهم ، وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أم لا؟ قولان أشهرهما الثاني حيث أجيب عن المتروك صريحا وعن المذكور تبعا ، والأكثرون على أن الآية في التطوع ، وقيل : في الزكاة ، واستدل بها من أباح صرفها للوالدين ، وفيه أن عموم خَيْرٍ مما ينافي كونها في الزكاة لأن الفرض فيها قدر معين بالإجماع ولم يتعرض سبحانه للسائلين ، والرِّقابِ إما اكتفاء بما ذكر في المواضع الأخر ، وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى : وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنه شامل لكل خَيْرٍ واقع في أي مصرف كان وَما شرطية مفعول به - لتفعلوا - والفعل أعم من الإنفاق وأتى بما يعم تأكيدا للخاص الواقع في الجواب.
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يعلم كنهه كما يشير به صيغة فعيل مع الجملة الاسمية المؤكدة ، والجملة جواب الشرط باعتبار معناها الكنائي إذ المراد منها توفية الثواب ، وقيل : إنها دليل الجواب ، وليست به ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن الصبر على النفقة وبذل المال من أعظم ما تحلى به المؤمن وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة حتى
ورد «الصدقة تطفئ غضب الرب»
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي قتال الكفار وهو فرض عين إن دخلوا بلادنا ، وفرض كفاية إن كانوا ببلادهم وقرىء بالبناء للفاعل وهو اللّه عز وجل ونصب القتال ، وقرىء أيضا كتب عليكم القتل أي قتل الكفرة وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ عطف على كتب وعطف الاسمية على الفعلية جائز كما نص عليه ، وقيل : الواو للحال ، والجملة حال ورد بأن الحال المؤكدة لا تجي ء - بالواو - والمنتقلة لا فائدة فيها «والكره» بالضم - كالكره بالفتح - وبهما قرىء «الكراهة» وقيل : المفتوح المشقة التي تنال الإنسان من خارج والمضموم ما يناله من ذاته ، وقيل : المفتوح اسم بمعنى الإكراه ، والمضموم بمعنى «الكراهة» وعلى كل حال فإن كان مصدرا فمؤول أو محمول على المبالغة أو هو صفة كخبز بمعنى مخبوز ، وإن كان بمعنى الإكراه وحمل على الكره عليه فهو على التشبيه البليغ كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته ثم كون القتل مكروها لا ينافي الإيمان لأن تلك الكراهية طبيعية لما فيه من القتل والأسر وإفناء البدن وتلف المال وهي لا تنافي الرضا بما كلف به كالمريض الشارب للدواء البشع يكرهه لما فيه من البشاعة ويرضى به من جهة أخرى.
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وهو جميع ما كلفوا به فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم ومنه القتال فإن فيه الظفر والغنيمة والشهادة التي هي السبب الأعظم للفوز بغاية الكرامة.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 502
وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى ، ومن ذلك ترك قتال الأعداء فإن فيه الذل وضعف الأمر وسبي الذراري ونهب الأموال وملك البلاد وحرمان الحظ الأوفر من النعيم الدائم ، والجملتان الاسميتان حالان من النكرة وهو قليل ، ونص سيبويه على جوازه كما في البحر ، وجوز أبو البقاء أن يكونا صفة لها وساغ دخول الواو لما أن صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا وَعَسى الأولى للاشفاق والثانية للترجي على ما ذهب إليه البعض ، وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروها ومكروهها محبوبا فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال : إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى : عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ [التحريم : 5] وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما هو خير لكم وما هو شر لكم وحذف المفعول للإيجاز وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيرا لكم وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأن فيها الجهاد وهو بذل النفس الذي هو فوق بذل المال.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق زيد بن رومان عن عروة قال : بعث رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عبد اللّه بن جحش ، وهو ابن عمة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى نخلة فقال : كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال ، وذلك في الشهر الحرام وكتب له كتابا قبل أن يعلمه أين يسير فقال : اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك ، وانظر فيه فما أمرتك به فامض له ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك.
فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه «أن امض حتى تنزل نخلة فأتنا من أخبار قريش ، بما اتصل إليك منهم» فقال لأصحابه : وكانوا ثمانية حين قرأ الكتاب سمعا وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه يطلبانه ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد اللّه بن المغيرة ونوفل بن عبد اللّه معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد اللّه ، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا قالوا : عمار ليس عليكم منهم بأس وأتمر القوم بهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى فقالوا : لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشَّهْرِ الْحَرامِ ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة - مكة الحرام - فليتمنعن منكم فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبد اللّه السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد اللّه والحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل وأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال لهم واللّه ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا فلما قال لهم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما قال :
سقط في أيديهم ، وظنوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين ، وقالت قريش : حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال ، واستحل الحرام فنزلت فأخذ رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم العير وفدى الأسيرين ، وفي سيرة ابن سيد الناس أن ذلك في رجب وأنهم لقوا أولئك في آخر يوم منه ، وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 503
صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : أيحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل اللّه تعالى الآية ،
ومن هنا قيل : السائلون هم المشركون ، وأيد بأن ما سيأتي من ذكر الصد والكفر والإخراج أكبر شاهد صدق على ذلك ليكون تعريضا بهم موافقا لتعريضهم بالمؤمنين.
واختار أكثر المفسرين أن السائلين هم المسلمون قالوا : وأكثروا الروايات تقتضيه ، وليس الشاهد مفصحا بالمقصود والمراد من الشَّهْرِ الْحَرامِ رجب أو جمادى فأل فيه للعهد ، والكثير والأظهر أنها للجنس فيراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب ، وسميت حرما لتحريم القتال فيها والمعنى يَسْئَلُونَكَ أي المسلمون أو الكفار عن القتال في الشهر الحرام على أن قِتالٍ فِيهِ بدل اشتمال من الشهر لما أن الأول غير واف بالمقصود مشوق إلى الثاني ملابس له بغير الكلية والجزئية ، ولما كان النكرة موصوفة أو عاملة صح إبدالها من المعرفة على أن وجوب التوصيف إنما هو في بدل الكل كما نص عليه الرضي ، وقرأ عبد اللّه عن قتال وهو أيضا بدل اشتمال إلا أنه بتكرير العامل ، وقرأ عكرمة قتل فيه وكذا في قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي عظيم وزرا ، وفيه تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام ، وأن ما اعتقد من استحلاله صلّى اللّه عليه وسلّم القتال فيه باطل ، وما وقع من أصحابه عليه الصلاة والسلام كان من باب الخطأ في الاجتهاد وهو معفو عنه - بل
من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد - كما في الحديث ،
والأكثرون على أن هذا الحكم منسوخ بقوله سبحانه : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة :
5] فإن المراد بالأشهر الحرم أشهر معينة أبيح للمشركين السياحة فيها بقوله تعالى : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة : 2] وليس المراد بها الأشهر الحرم من كل سنة فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأمكنة والأزمنة وهو نسخ الخاص بالعام ، وساداتنا الحنفية يقولون به ، وأما الشافعية فيقولون : إن الخاص سواء كان متقدما على العام أو متأخرا عنه مخصص له لكون العام عندهم ظنيا والظني لا يعارض القطعي ، وقال الإمام : الذي عندي أن الآية لا تدل على حرمة القتال مطلقا في الشهر الحرام لأن القتال فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم فلا حاجة حينئذ إلى القول بالنسخ ، واعترض بأنها عامة لكونها موصوفة بوصف عام أو بقرينة المقام ولو سلم فقتال المشركين مراد قطعا لأن قتال المسلمين حرام مطلقا من غير تقييد بالأشهر الحرم ، وفيه أنا لا نسلم أنها موصوفة لجواز أن يكون الجار ظرفا لغوا ولو سلم فلا نسلم عموم الوصف بل هو مخصص لها بالقتال الواقع في الشهر الحرام المعين ، والوصف المفيد للعموم هو الوصف المساوي عمومه عموم الجنس كما في قوله تعالى : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الإنعام : 38] وقول الشاعر : ولا ترى الضب بها ينجحر. وكون الأصل مطابقة الجواب للسؤال قرينة على الخصوص وكون المراد قتال المشركين على عمومه غير مسلم لأن الكلام في القتال المخصوص ولو سلم عمومها في السؤال فلا نسلم عمومها في الجواب بناء على ما ذكره الراغب أن النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها يعاد معرفا نحو سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ففي تنكيرها هنا تنبيه على أن ليس المراد كل قتال حكمه هذا فإن قتال النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه
فقد قال عليه الصلاة والسلام : «أحلت لي ساعة من نهار»
وحرمة قتال المسلمين مطلقا لا يخفى ما فيه لأن قتال أهل البغي يحل وهم مسلمون فالإنصاف أن القول بالنسخ ليس بضروري ، نعم هو ممكن وبه قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كما رواه عنه الضحاك ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذا شيء منسوخ ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام ، وخالف عطاء في ذلك فقد روي عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف باللّه تعالى ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة والأمة اليوم على خلافه في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 504
سائر الأمصار وَصَدٌّ أي منع وصرف عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو الإسلام قاله مقاتل ، أو الحج قاله ابن عباس والسدي ، أو الهجرة كما قيل ، أو سائر ما يوصل العبد إلى اللّه تعالى من الطاعات ، فالإضافة إما للعهد أو للجنس وَكُفْرٌ بِهِ أي باللّه أو بسبيله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ اختار أبو حيان عطفه على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار ، وأجاز ذلك الكوفيون ويونس والأخفش وأبو علي وهو شائع في لسان العرب نظما ونثرا ، واعترض بأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام وهو لازم من العطف ، وفيه بحث إذ الكفر قد ينسب إلى الأعيان باعتبار الحكم المتعلق بها كقوله تعالى : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ [البقرة : 256] واختار القاضي تقدير مضاف معطوف على صَدٌّ أي وصد المسجد الحرام عن الطائفين والعاكفين والركع السجود ، واعترض بأن حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه بحاله مقصور على السماع ورد بمنع الإطلاق ففي التسهيل إذا كان المضاف إليه إثر عاطف متصل به أو مفصول بلا مسبوق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى جاز حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على انجراره قياسا نحو ما مثل زيد وأبيه يقولان ذلك - أي مثل أبيه - ونحو ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة ، وإذا انتفى واحد من الشروط كان مقصورا على السماع ، وفيما نحن فيه سبق إضافة مثل ما حذف منه ، واختار الزمخشري عطفه على سبيل اللّه تعالى ، واعترض بأن عطف وَكُفْرٌ بِهِ على وَصَدٌّ مانع من ذلك إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة ، وذكر لصحة ذلك وجهان ، أحدهما أن وَكُفْرٌ بِهِ في معنى الصد عن سبيل اللّه فالعطف على سبيل التفسير كأنه قيل - وصد عن سبيل اللّه أعني كفرا به والمسجد الحرام - والفاصل ليس بأجنبي ، ثانيهما أن موضع وَكُفْرٌ بِهِ عقيب وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلا أنه قدم لفرط العناية كما في قوله تعالى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص : 4] حيث كان
من حق الكلام ولم يكن أحد كفوا له ، ولا يخفى أن الوجه الأول أولى لأن التقديم لا يزيل محذورا الفصل ويزيد محذورا آخر ، واختار السجاوندي العطف على - الشهر الحرام - وضعف بأن القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام واختار أبو البقاء كونه متعلقا بفعل محذوف دل عليه الصد - أي ويصدون عن المسجد الحرام - كما قال سبحانه : هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الفتح : 25] وضعف بأن حذف حرف الجر وبقاء عمله مما لا يكاد يوجد إلا في الشعر ، وقيل : إن الواو للقسم وقعت في أثناء الكلام وهو كما ترى وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ وهم النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنون وإنما كانوا أهله لأنهم القائمون بحقوقه ، وقيل : إن ذلك باعتبار أنهم يصيرون أهله في المستقبل بعد فتح مكة أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ خبر للأشياء المعدودة من كبائر قريش ، وأفعل من يستوي فيه الواحد والجمع المذكور والمؤنث. والمفضل عليه محذوف أي مما فعلته السرية خطأ في الاجتهاد ، ووجود أصل الفعل في ذلك الفعل مبني على الزعم وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ تذييل لما تقدم للتأكيد عطف عليه عطف الحكم الكلي على الجزئي أي ما يفتن به المسلمون ويعذبون به ليكفروا أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ من القتل وما ذكر سابقا داخل فيه دخولا أوليا ، وقيل : المراد بالفتنة الكفر ، والكلام كبرى لصغرى محذوفة ، وقد سيق تعليلا للحكم السابق وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ عطف على يَسْئَلُونَكَ بجامع الاتحاد في المسند إليه إن كان السائلون هم المشركون ، أو معترضة إن كان السائلون غيرهم والمقصود الاخبار بدوام عداوة الكفار بطريق الكناية تحذيرا
للمؤمنين عنهم وإيقاظا لهم إلى عدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور ، وحَتَّى للتعليل ، والمعنى لا يزالون يعاودونكم لكي يردوكم عن دينكم ، وقوله تعالى : إِنِ اسْتَطاعُوا متعلق بما عنده ، والتعبير بإن لاستبعاد استطاعتهم وأنها لا تجوز إلا على سبيل الفرض كما يفرض المحال وفائدة التقييد بالشرط التنبيه على سخافة عقولهم وكون دوام عداوتهم فعلا عبثا لا يترتب عليه الغرض وليس متعلقا - بلا يزالون يقاتلونكم - إذ لا معنى لدوامهم على العداوة إن استطاعوها لكنها مستبعدة. وذهب ابن عطية إلى أن حَتَّى للغاية والتقييد بالشرط حينئذ لإفادة أن الغاية

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 505
مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع وقوعها شائع كما في قوله تعالى : حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف : 40] وفيه أن استبعاد وقوع الغاية مما يترتب عليه عدم انقطاع العداوة وقد أفاده صدر الكلام ، والقول بالتأكيد غير أكيد ، نعم يمكن الحمل على الغاية لو أريد من المقاتلة معناها الحقيقي ويكون الشرط متعلقا - بلا يزالون - فيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في بعض الأوقات لعدم استطاعتهم إلا أن المعنى حينئذ يكون مبتذلا كما لا يخفى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الحق بإضلالهم وإغواهم ، أو الخوف من عداوتهم فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ بأن لم يرجع إلى الإسلام فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الارتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد للإشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد والجمع والإفراد نظرا للفظ والمعنى حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن ، قيل وأصل الحبط فساد يلحق الماشية لأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ مضر ، وفي النهاية أحبط اللّه تعالى عمله أبطله يقال : حبط عمله وأحبط وأحبطه غيره ، وهو من قولهم : حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت ، وقرى ء - حبطت - بالفتح وهو لغة فيه ، فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد في الأولى وسقوط الثواب في الأخرى وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ كسائر الكفرة ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئا ، واستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها وذلك بناء على أنها «لو أحبطت» مطلقا لما كان للتقييد بقوله سبحانه : فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فائدة والقول بأن فائدته أن «إحباط» جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلا موقوف
على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمنا «لا يحبط» إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا معنى له لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذ لا يتأتى هذا القول كما لا يخفى ، وقيل : بناء على أنه جعل الموت عليها شرطا في الإحباط وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط ، واعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطا بهذا المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط ، وذهب إمامنا أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه إلى أن مجرد الارتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة : 5] وما استدل به الشافعي ليس صريحا في المقصود لأنه إنما يتم إذا كانت جملة ، وَأُولئِكَ إلخ تذييلا معطوفة على الجملة الشرطية ، وأما لو كانت معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتبا على الموت على الردة فلا نسلم تماميته ، ومن زعم ذلك اعترض على الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملا بالدليلين ، وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده يكون الإطلاق والتقييد في الحكم واتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سببا كالمقيد ، وثمرة الخلاف على ما قيل : تظهر فيمن صلى ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فإنه يلزمه عند الإمام قضاء الصلاة خلافا للشافعي وكذا الحج واختلف الشافعيون فيمن رجع إلى الإسلام بعد الردة هل يرجع له عمله بثوابه أم لا؟ فذهب بعض إلى الأول فيما عدا الصحبة فإنها ترجع مجردة عن الثواب ، وذهب الجل إلى الثاني وأن أعماله تعود بلا ثواب ولا فرق
بين الصحبة وغيرها ، ولعل ذلك هو المعتمد في المذهب فافهم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الكبير من حديث جندب بن عبد اللّه أنها نزلت في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر وَالَّذِينَ هاجَرُوا أي فارقوا أوطانهم ، وأصله من الهجر ضد

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 506
الوصل وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وإنما كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما وإن كانا مشروطين بالإيمان في الواقع مستقلان في تحقق الرجاء ، وقدم الهجرة على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما أُولئِكَ المنعوتون بالنعوت الجليلة يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي يؤملون تعلق رحمته سبحانه بهم أو ثوابه على أعمالهم ، ومنها تلك الغزاة في الشهر الحرام ، واقتصر البعض عليها بناء على ما
رواه الزهري أنه لما فرج اللّه تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم طمعوا فيما عند اللّه تعالى من ثوابه فقالوا : يا نبي اللّه أنطمع أن تكون غزوة نعطى فيها أجر المهاجرين في سبيل اللّه تعالى فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ،
ولا يخفى أن العموم أعم نفعا وأثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإشارة إلى أن العمل غير موجب إذ لا استحقاق به ولا يدل دلالة قطعية على تحقق الثواب إذ لا علاقة عقلية بينهما وإنما هو تفضل منه تعالى سيما والعبرة بالخواتيم فلعله يحدث بعد ذلك ما يوجب الحبوط ولقد وقع ذلك والعياذ باللّه تعالى كثيرا فلا ينبغي الاتكال على العمل وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل لما تقدم وتأكيد له ولم يذكر المغفرة فيما تقدم لأن رجاء الرحمة يدل عليها وقدم وصف المغفرة لأن درء المفاسد مقدم علىجلب المصالح يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قال الواحدي : نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل ومسلبة للمال فأنزل اللّه تعالى هذه الآية
وفي بعض الروايات «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوه عن ذلك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فقال قوم : ما حرما علينا فكانوا يشربون الخمر إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا أناسا من الصحابة وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب فقدموا عليا كرم اللّه تعالى وجهه فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون : 1] إلخ بحذف لا فأنزل اللّه تعالى : لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء : 43] فقلّ من يشربها ثم اتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم إنهم افتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد ما فيه هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وشكا إليه الأنصار فقال : اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا فأنزل اللّه تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله تعالى :
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : انتهينا يا رب. وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه دابتي.
وعن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما لو أدخلت أصبعي فيها لم تتبعني - وهذا هو الإيمان والتقى حقا.
والخمر عند الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه التي من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد وسميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها ، والخامر وهو من يكتم الشهادة ، وقيل : لأنها تغطى حتى تشتد ، ومنه «خمروا آنيتكم» أي غطوها ، وقيل : لأنها تخالط العقل وخامره داء خالطه ، وقيل : لأنها تترك حتى تدرك ، ومنه اختمر العجين أي بلغ إدراكه وهي أقوال متقاربة ، وعليها فالخمر مصدر يراد به اسم الفاعل أو المفعول ويجوز أن يبقى على مصدريته للمبالغة. وذهب الإمامان إلى عدم اشتراط القذف ويكفي الاشتداد لأن المعنى المحرم يحصل به ، وللإمام أن الغليان بداية الشدة وكمالها بقذف الزبد وسكونه إذ به يتميز الصافي من الكدر وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع ، وأخذ بعضهم بقولهما في حرمة الشرب احتياطا ، ثم إطلاق

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 507
الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة ، ومن الناس من قال هو حقيقة في كل مسكر لما أخرج الشيخان ، وأبو داود والترمذي والنسائي «كل مسكر خمر».
وأخرج أبو داود نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة ، والْخَمْرِ ما خامر العقل ، وأخرج مسلم عن أبي هريرة الْخَمْرِ من هاتين الشجرتين ، - وأشار إلى الكرم والنخلة - وأخرج البخاري عن أنس «حرّمت الخمر حين حرمت» وما يتخذ من خمر الأعناب إلا قليل ، وعامة خمرنا البسر والتمر ، ويمكن أن يجاب أن المقصود من ذلك كله بيان الحكم ، وتعليم أن ما أسكر حرام - كالخمر - وهو الذي يقتضيه منصب الإرشاد - لا تعليم اللغات العربية - سيما والمخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها ، وما يقال : إنه مشتق من مخامرة العقل ، وهي موجودة في كل مسكر لا يقتضي العموم ، ولا ينافي كون الاسم خاصا فيما تقدم فإن النجم مشتق من الظهور ، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف - لا لكل ما ظهر - وهذا كثير النظير ، وتوسط بعضهم فقال : إن الْخَمْرِ حقيقة في لغة العرب في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا ، وإذا استعمل في غيره كان مجازا إلا أن الشارع جعله حقيقة في كل مسكر شابه موضوعه اللغوي ، فهو في ذلك حقيقة شرعية كالصلاة ، والصوم. والزكاة في معانيها المعروفة شرعا ، والخلاف قوي ولقوّته ووقوع الإجماع على تسمية المتخذ من العنب خمرا دون المسكر من غيره ، أكفروا مستحل الأول ، ولم يكفروا مستحل الثاني بل قالوا : إن عين الأوّل حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه ، ومن أنكر حرمة العين وقال : إن السكر منه حرام لأنه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده الكتاب إذ سماه رجسا فيه والرجس محرّم العين فيحرم كثيره وإن لم يسكر - وكذا قليله ولو قطرة - ويحد شاربه مطلقا ، وفي الخبر «حرّمت الخمر لعينها» وفي رواية «بعينها قليلها وكثيرها سواء»
والسكر من كل شراب ، وقالوا : إن الطبخ لا يؤثر لأنه للمنع من ثبوت الحرمة - لا لرفعها بعد ثبوتها - إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه بناء على أن الحد بالقليل النيء خاصة - وهذا قد طبخ - وأما غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة - ويسمى الباذق - والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فحرام عندنا إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف ، وقال الأوزاعي وأكثر المعتزلة : إنه مباح لأنه مشروب طيب - وليس بخمر - ولنا أنه رقيق ملد مطرب ، ولذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه رفعا للفساد المتعلق به ، وأما نقيع التمر وهو السكر - وهو النيء من ماء التمر - فحرام مكروه ، وقال شريك : إنه مباح للامتنان ولا يكون بالمحرم ، ويرده إجماع الصحابة ، والآية محمولة على الابتداء كما أجمع عليه المفسرون ، وقيل : أراد بها التوبيخ أي «أتتخذون منه سكرا ، وتدعون رزقا حسنا» وأمّا نقيع الزبيب - وهو النيء من ماء الزبيب - فحرام إذا اشتدّ وغلى ، وفيه خلاف الأوزاعي ، ونبيذ الزبيب والتمر إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال ، وإن اشتدّ إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي حرام ونبيذ العسل والتين والحنطة والذرة والشعير وعصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه حلال عند الإمام الأوّل ، والثاني ، وعند محمد والشافعي حرام أيضا ، وأفتى المتأخرون بقول محمد في سائر الأشربة ، وذكر ابن وهبان أنه مروي عن الكل ونظم ذلك فقال :
وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر
وعن كلهم يروى ، وأفتى محمد بتحريم ما قد - قلّ - وهو المحرر
وعندي أنّ الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من لم يتعوّده حرام - وقليله ككثيره - ويحدّ شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 508
وفي الصحيحين أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم سئل عن النقيع - وهو نبيذ العسل - فقال : «كل شراب أسكر فهو حرام»
وروى أبو داود «نهى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر»
وصح «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وفي حديث آخر «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام»
والأحاديث متظافرة على ذلك ، ولعمري إنّ اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الْخَمْرِ ورغبتهم فيها فوق اجتماعهم عى شرب الْخَمْرِ ورغبتهم فيه بكثير ، وقد وضعوا لها أسماء - كالعنبرية والإكسير - ونحوهما ظنا منهم أنّ هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة - وهيهات هيهات - الأمر وراء ما يظنون ، فإنا للّه وإنا إليه راجعون ، نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها كما قدّمنا لأنها اجتهادية ، ولو ذهب ذاهب إلى القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل وَالْمَيْسِرِ مصدر ميمي من - يسر - كالموعد والمرجع يقال : يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من - اليسر - لأنه أخذ المال بيسر وسهولة ، أو من - اليسار - لأنه سلب له ، وقيل : من يسروا الشيء إذا اقتسموه ، وسمي المقامر - ياسرا - لأنه بسبب ذلك الفعل يجزىء لحم الجزور ، وقال الواحدي : من يسر الشيء إذا وجب ، والياسر الواجب بسبب القدح ، وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هي الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها ثمانية وعشرين إلا الثلاثة : وهو المنيح والسفيح والوغد ، للفذ سهم ، وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة - وهي خريطة - ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله مع حرمانه ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم ، ونقل الأزهري كيفية أخرى لذلك ولم يذكر - الوغد - في الأسماء بل ذكر غيره ، والذي
اعتمده الزمخشري وكثيرون ما ذكرناه ، وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال :
كل سهام الياسرين عشره فأودعوها صحفا منشره
لها فروض ولها نصيب الفذ والتوأم والرقيب
والحلس يتلوهن ثم النافس وبعده مسبلهن السادس
ثم المعلى كاسمه المعلى صاحبه في الياسرين الأعلى
والوغد والسفيح والمنيح غفل فما فيما يرى ربيح
وفي حكم ذلك جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج ، وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب والقرعة في غير القسمة وجميع أنواع المخاطرة والرهان ، وعن ابن سيرين - كل شيء فيه خطر فهو من الميسر - ومعنى الآية يَسْئَلُونَكَ عما في تعاطي هذين الأمرين ، ودل على التقدير بقوله تعالى : قُلْ فِيهِما إذ المراد في تعاطيهما بلا ريب إِثْمٌ كَبِيرٌ من حيث إن تناولهما مؤدّ إلى ما يوجب - الإثم - وهو ترك المأمور ، وفعل المحظور وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ من اللذة والفرح وهضم الطعام وتصفية اللون وتقوية الباه وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وإعانة الضعيف. وهي باقية قبل التحريم وبعده ، وسلبها بعد التحريم مما لا يعقل ولا يدل عليه دليل ، وخبر «ما جعل اللّه تعالى شفاء أمتي فيما حرّم عليها»
لا دليل فيه عند التحقيق كما لا يخفى وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي المفاسد التي تنشأ منها أعظم من المنافع المتوقعة فيهما. فمن مفاسد الخمر إزالة العقل الذي هو أشرف صفات الإنسان ، وإذا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 509
كانت عدوة للأشرف لزم أن تكون أخس الأمور لأن العقل إنما سمي عقلا لأنه يعقل - أي يمنع صاحبه عن القبائح التي يميل إليها بطبعه - فإذا شرب زال ذلك العقل المانع عن القبائح وتمكن إلفها - وهو الطبع - فارتكبها وأكثر منها ، وربما كان ضحكة للصبيان حتى يرتد إليه عقله. ذكر ابن أبي الدنيا أنه مرّ بسكران وهو يبول بيده ويغسل به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول : الحمد للّه الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا. وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية :
ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ، ولا أرضي أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم ، ومنها صدّها عن ذكر اللّه تعالى وعن الصلاة وإيقاعها العداوة والبغضاء غالبا. وربما يقع القتل بين الشاربين في مجلس الشرب ، ومنها أن الإنسان إذا ألفها اشتد ميله إليها وكاد يستحيل مفارقته لها وتركه إياها ، وربما أورثت فيه أمراضا كانت سببا لهلاكه. وقد ذكر الأطباء لها مضار بدنية كثيرة كما لا يخفى على من راجع كتب الطب ، وبالجملة لو لم يكن فيها سوى إزالة العقل والخروج عن حد الاستقامة لكفى فإنه إذا اختل العقل حصلت الخبائث بأسرها ، ولذلك
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث»
ولم يثبت أن الأنبياء عليهم السلام شربوها في وقت أصلا ، ومن مفاسد الْمَيْسِرِ أن فيه أكل الأموال بالباطل وأنه يدعو كثيرا من المقامرين إلى السرقة وتلف النفس وإضاعة العيال وارتكاب الأمور القبيحة والرذائل الشنيعة والعداوة الكامنة والظاهرة ، وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من أعماه اللّه تعالى وأصمه ، ولدلالة الآية على أعظمية المفاسد ذهب بعض العلماء إلى أنها هي المحرمة للخمر فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل وزاد بعضهم على ذلك بأن فيها الإخبار بأن فيها الإثم الكبير ، والإثم إما العقاب أو سببه ، وكل منهما لا يوصف به إلا المحرم ، والحق أن الآية ليست نصا في التحريم كما قال قتادة : إذ للقائل أن يقول : الإثم بمعنى المفسدة ، وليس رجحان المفسدة مقتضيا لتحريم الفعل بل لرجحانه ، ومن هنا شربها كبار الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم بعد نزولها ، وقالوا : إنما نشرب ما ينفعنا ، ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة فهي المحرمة من وجوه كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وقرىء إثم كثير بالمثلثة ، وفي تقدم الإثم ووصفه بالكبر أو الكثرة وتأخير ذكر المنافع مع تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى ، وقرأ أبيّ - وإثمهما أقرب من نفعهما - وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه أن نفرا من الصحابة أمروا بالنفقة في سبيل اللّه تعالى أتوا النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها فنزلت ،
وكان قبل ذلك ينفق الرجل ماله حتى ما يجد ما يتصدق ، ولا ما يأكل حتى يتصدق عليه ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبان عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا : يا رسول اللّه إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ،
وهي معطوفة على يَسْئَلُونَكَ قبلها عطف القصة على القصة ، وقيل : نزلت في عمرو بن الجموح كنظيرتها ، وكأنه سئل أولا عن المنفق والمصرف ثم سئل عن كيفية الإنفاق بقرينة الجواب فالمعنى يسألونك عن صفة ما ينفقونه قُلِ الْعَفْوَ أي صفته أن يكون عفوا فكلمة «ما» للسؤال عن الوصف كما يقال ما زيد؟ فيقال كريم إلا أنه قليل في الاستعمال وأصل العفو نقيض الجهد ، ولذا يقال - للأرض الممهدة السهلة الوطء - عفو ، والمراد به ما لا يتبين في الأموال ، وفي رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما الفضل من العيال ، وعن الحسن ما لا يجهد ،
أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول
وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أنه قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : خير الصدقة ما أبقت غني واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول تقول المرأة أنفق عليّ أو طلقني ، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني ، ويقول ولدك إلى من تكلني»
وأخرج ابن سعد عن جابر قال : قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب فقال : «يا رسول اللّه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 510
أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته فقال : يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول».
وقرأ أبو عمرو بالرفع بتقدير المبتدأ على أن ماذا يُنْفِقُونَ مبتدأ وخبر ، والباقون بالنصب بتقدير الفعل ، وما ذا مفعول يُنْفِقُونَ ليطابق الجواب السؤال كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد لأنه أبقى للمال وأكثر نفعا في الآخرة فالمشار إليه ما يفهم من قوله سبحانه : قُلِ الْعَفْوَ وإيراد صيغة البعيد مع قربه لكونه معنى متقدم الذكر ، ويجوز أن يكون المشار إليه جميع ما ذكر من قوله سبحانه : يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ إذ لا مخصص مع كون التعميم أفيد والقرب إنما يرجح القريب على ما سواه فقط وجعل المشار إليه قوله عز شأنه : وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما على ما فيه لا يخفى بعده ، والكاف في موضع النصب صفة لمحذوف ، واللام في الْآياتِ للجنس أي يبين لكم الآيات المشتملة على الأحكام تبيينا مثل هذا التبيين إما بإنزالها واضحة الدلالة ، أو بإزالة إجمالها بآية أخرى أو ببيان من قبل الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم وكان مقتضى الظاهر أن يقال - كذلكم - على طبق لَكُمُ لكنه وحد بتأويل نحو القبيلة ، أو الجمع ما هو مفرد اللفظ جمع المعنى روما للتخفيف لكثرة لحوق علامة الخطاب باسم الإشارة ، وقيل : إن الإفراد للإيذان بأن المراد به كل من يتلقى الكلام كما في قوله تعالى : ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [البقرة : 52] وفيه أنه يلزم تعدد الخطاب في كلام واحد من غير عطف وذا لا يجوز كما نص عليه الرضي لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي في الآيات فتستنبطوا الأحكام منها وتفهموا المصالح والمنافع المنوطة بها وبهذا التقدير حسن كون ترجي التفكر غاية لتبيين الآيات فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي في أمورهما فتأخذون بالأصلح منهما وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم أو يضركم أكثر مما ينفعكم ، والجار بعد تقدير المضاف متعلق ب تَتَفَكَّرُونَ بعد تقييده بالأول ، وقيل : يجوز أن
يتعلق ب يُبَيِّنُ أي يبين لكم الآيات فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وقدم التفكر للاهتمام ، وفيه أنه خلاف ظاهر النظم مع أن ترجي أصل التفكر ليس غاية لعموم التبيين فلا بد من عموم التفكر فيكون المراد - لعلكم تتفكرون في أمور الدنيا والآخرة - وفي التكرار ركاكة ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الآيات أي يبينها لكم كائنة فيهما أي مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما ولا يخفى ما فيه ، ومن الناس من لم يقدر - ليتفكرون - متعلقا وجعل المذكور متعلقا بها أي بين اللّه لكم الآيات لتتفكروا في الدنيا وزوالها والآخرة وبقائها فتعلموا فضل الآخرة على الدنيا وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه وقتادة والحسن.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى عطف على ما قبله من نظيره ،
أخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وجماعة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال لما أنزل اللّه تعالى : وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الإنعام : 152 ، الإسراء : 34] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى [النساء : 10] الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت ،
والمعنى - يسألونك عن القيام بأمر اليتامى ، أو التصرف في أموالهم ، أو عن أمرهم وكيف يكونون معهم - قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي مداخلتهم مداخلة يترتب عليها إصلاحهم أو إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من مجانبتهم ، وفي الاحتمال الأول إقامة غاية الشيء مقامه وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ عطف على سابقه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 511
والمقصود الحث على المخالطة المشروعة بالإصلاح مطلقا أي إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم أي في الدين وبذلك قرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ، وأخرج عبد بن حميد عن المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته ويأكل من تمرتك وتأكل من تمرته ، واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد بالمخالطة المصاهرة ، وأيد بما نقله الزجاج كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشرة ويأكلون أموالهم فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا معه التزوج بهم فنزلت هذه الآية فأعلمهم سبحانه أن الإصلاح لهم خير الأشياء وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح جائزة وبأن فيه على هذا الوجه تأسيسا إذ المخالطة بالشركة فهمت مما قبل وبأن المصاهرة مخالطة مع اليتيم نفسه بخلاف ما عداها وبأن المناسبة حينئذ لقوله تعالى : فَإِخْوانُكُمْ ظاهرة لأنها المشروطة بالإسلام فإن اليتيم إذا كان مشركا يجب تحري الإصلاح في مخالطته فيما عدا المصاهرة وبأنه ينتظم على ذلك النهي الآتي بما قبله كأنه قيل : المخالطة المندوبة إنما هي في اليتامى الذين هم إخوانكم فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك ، ولا يخفى أن ما نقله الزجاج أضعف من الزجاج إذ لم يثبت ذلك في أسباب النزول في كتاب يعول عليه ، والزجاج وأمثاله ليسوا من فرسان هذا الشأن وبأن التأسيس لا ينافي الحث على المخالطة لما أن القوم تجنبوا عنها كل التجنب وأن إطلاق المخالطة أظهر من تخصيصها بخلط نفسه وأن المناسبة والانتظام حاصلان بدخول المصاهرة في مطلق المخالطة وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ في أمورهم بالمخالطة مِنَ الْمُصْلِحِ لها بها فيجازي كلّا حسب فعله أو نيته ففي الآية وعيد ووعدهم ، وقدم المفسد اهتماما بإدخال الروع عليه وأل في الموضعين للعهد ، وقيل : للاستغراق ويدخل المعهود دخولا أوليا ، وكلمة
مِنَ للفضل وضمن يعلم معنى يميز فلذا عداه بها وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي لضيق عليكم ولم يجوز لكم مخالطتهم ، أو لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا - قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه - وأصل الإعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا ، ويقال : عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر ، وحذف مفعول المشيئة لدلالة الجواب عليه ، وفي ذلك إشعار بكمال لطفه سبحانه ورحمته حيث لم يعلق مشيئته بما يشق علينا في اللفظ أيضا ، وفي الجملة تذكير بإحسانه تعالى على أوصياء اليتامى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم حَكِيمٌ فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة التي هي أساس التكليف ، وهذه الجملة تذييل وتأكيد لما تقدم من حكم النفي والإثبات - أي ولو شاء لأعنتكم لكونه غالبا - لكنه لم يشأ لكونه حكيما. وفي الآية - كما قال الكيا - دليل لمن جوز خلط مال الولي بمال اليتيم والتصرف فيه بالبيع والشراء ودفعه مضاربة إذا وافق الإصلاح ، وفيها دلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من الاجتهاد وغلبة الظن وفيها دلالة على أنه لا بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر وكان في تركها مراعاة لتنمية المال ناسب ذلك النظر في حال اليتيم فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم. وفي النظر في أحوال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه فمن ترك ذلك وفعل هذا فقد جمع بين النفع لنفسه ولغيره وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ
روى الواحدي وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعث رجلا من غني يقال له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت : ويحك يا مرثد ألا تخلو فقال لها : إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا ولكن إن شئت تزوجتك فقالت : نعم فقال إذا رجعت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استأذنته في ذلك ثم تزوجتك فقالت له : أبي تتبرم؟ ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 512
ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها فقال : يا رسول اللّه أيحل أن أتزوجها - وفي رواية - إنها تعجبني فنزلت»
وتعقب ذلك السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية وإنما هو سبب في نزول آية النور [3] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وروى السدي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن هذه نزلت في عبد اللّه بن رواحة وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع فأتى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخبره خبرها فقال له النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ما هي يا عبد اللّه؟ فقال : هي يا رسول اللّه تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسوله فقال يا عبد اللّه هي مؤمنة قال عبد اللّه : فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا : أنكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينحكوهم رغبة في أنسابهم فأنزل اللّه تعالى وَلا تَنْكِحُوا الآية»
وقرىء بفتح - التاء - وبضمها وهو المروي عن الأعمش أي لا تتزوجوهن أو لا تزوجوهن من المسلمين وحمل كثير من أهل العلم المشركات على ما عدا الكتابيات فيجوز نكاح الكتابيات عنده لقوله تعالى :
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة : 1] وما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [البقرة : 105] والعطف يقتضي المغايرة وأخرج ابن حميد عن قتادة المراد بالمشركات مشركات العرب التي ليس لهن كتاب ، وعن حماد قال : سألت إبراهيم عن تزويج اليهودية والنصرانية فقال : لا بأس به فقلت : أليس اللّه تعالى يقول : وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ؟ فقال : إنما ذلك المجوسيات وأهل الأوثان ، وذهب البعض إلى أنها تعم الكتابيات قيل : لأن من جحد نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام فقد أنكر معجزته وأضافها إلى غيره تعالى وهذا هو الشرك بعينه ولأن الشرك وقع في مقابلة الإيمان فيما بعد ولأنه تعالى أطلق الشرك على أهل الكتاب لقوله : وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة : 30] إلى قوله سبحانه : عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة : 30] وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه عن نافع عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال حرم اللّه تعالى المشركات على المسلمين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد اللّه تعالى ، وإلى هذا ذهب الإمامية وبعض الزيدية ، وجعلوا آية [المائدة : 5] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ منسوخة بهذه الآية نسخ الخاص بالعام وتلك وإن تأخرت تلاوة مقدمة نزولا والإطباق على أن سورة المائدة لم ينسخ منها شيء ممنوع ففي الإتقان ومن [المائدة : 2 ، 97] قوله تعالى : وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ منسوخ بإباحة القتال فيه
وقوله تعالى : فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة : 42] منسوخ بقوله سبحانه : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة : 49] وقوله تعالى : أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة : 106] منسوخ بقوله عز شأنه : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق : 2] والمشهور الذي عليه العمل أن هذه الآية قد نسخت بما في المائدة على ما يقتضيه الظاهر ، فقد أخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ نسخ من ذلك نكاح نساء أهل الكتاب أحلهم للمسلمين وحرم المسلمات على رجالهم ، وعن الحسن ومجاهد مثل ذلك وهو الذي ذهب إليه الحنفية والشافعية يقولون بالتخصيص دون النسخ ، ومبنى الخلاف أن قصر العام بكلام مستقل تخصيص عند الشافعي رضي اللّه تعالى عنه ونسخ عندنا وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ تعليل للنهي وترغيب في مواصلة المؤمنات صدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار ، وأصل أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض عنها هاء التأنيث ويدل على أن لامها واو رجوعها في الجمع كقوله :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 513
أما الإماء فلا يدعونني ولدا إذا تداعى بنو الأموان بالعار
وظهورها في المصدر يقال : هي أمة بينة الأموة وأقرت له بالأموّة ، وهل وزنها فعلة - بسكون العين أو فعلة - بفتحها.؟ قولان اختار الأكثرون ثانيهما ، وتجمع على آم وهو في الاستعمال دون إماء وأصله أأمو - بهمزتين - الأولى مفتوحة زائدة ، والثانية ساكنة هي فاء الكلمة ، فوقعت - الواو - طرفا مضموما ما قبلها في اسم معرب ولا نظير له فقلبت - ياء والضمة قبلها كسرة لتصح الياء - فصار الاسم من قبيل - غاز وقاض - ثم قلبت - الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد همزة أخرى مفتوحة - فصارا آم وإعرابه كقاض ، والظاهر أن المراد - بالأمة - ما تقابل الثانية الحرة ، وسبب النزول يؤيد ذلك لأنه العيب على من تزوج الأمة والترغيب في نكاح حرّة مشركة ، ففي الآية تفضيل الأمة المؤمنة على المشركة مطلقا - ولو حرّة - ويعلم منه تفضيل الحرّة عليها بالطريق الأولى ، ثم إنّ التفضيل يقتضي أنّ في الشركة خيرا ، فإما أن يراد بالخير الانتفاع الدنيوي وهو مشترك بينهما ، أو يكون على حد أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان :
24] وقيل : المراد - بالأمة - المرأة حرّة كانت أو مملوكة فإن الناس كلهم عبيد اللّه تعالى وإماؤه ، ولا تحمل على الرقيقة لأنه لا بدّ من تقدير الموصوف في مُشْرِكَةٍ فإن قدر «أمة» بقرينة السياق لم يفد خيرية الأمة المؤمنة على الحرة المشركة ، وإن قدر حرّة أو امرأة كان خلاف الظاهر ، والمذكور في سبب النزول التزوج - بالأمة - بعد عتقها.
و«الأمة» بعد العتق حرة ولا يطلق عليها «أمة» إلا باعتبار مجاز الكون والحق أن «الأمة» بمعنى - الرقيقة - كما هو المتبادر ، وأن الموصوف المقدر ل مُشْرِكَةٍ عام - وكونه خلاف الظاهر - خلاف الظاهر.
وعلى تقدير التسليم هو مشترك الإلزام ، ولعل ارتكاب ذلك آخرا أهون من ارتكابه أول وهلة إذ هو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء - وما في سبب النزول مؤيد لا دليل عليه - وقد قيل فيه : إنّ عبد اللّه نكح أمة - إن حقا وإن كذبا - فالمعنى وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ مع ما فيها من خساسة الرق وقلة الخطر خَيْرٌ مما اتصفت بالشرك مع ما لها من شرف الحرّية ورفعة الشأن وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها ،
أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة ، عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «لا تنكحوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهنّ أن تطغيهن ، وانكحوهن على الدين فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل»
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك»
والواو للحال - ولو لمجرّد الفرض - مجرّدة عن معنى الشرط ولذا لا تحتاج إلى الجزاء والتقدير مفروضا إعجابها لكن بالحسن ونحوه ، وقال الجرمي : الواو للعطف على مقدّر أي لم تعجبكم وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة ، وقال الرضي : إنها اعتراضية تقع في وسط الكلام وآخره ، وعلى التقادير إثبات الحكم في نقيض الشرط بطريق الأولى ليثبت في جميع التقادير ، واستدل بعضهم بالآية على جواز نكاح «الأمة المؤمنة» مع وجود طول الحرّة ، واعترضه الكيا بأنه ليس في الآية نكاح الإماء وإنما ذلك للتنفير عن نكاح الحرّة المشركة لأنّ العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح «الأمة» فقيل لهم : إذا نفرتم عن الأمة فالمشركة أولى - وفيه تأمّل - وفي البحر أن مفهوم الصفة يقتضي أن لا يجوز نكاح «الأمة» الكافرة كتابية أو غيرها وأمّا وطؤها بملك اليمين فيجوز مطلقا وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أي لا تزوجوا الكفار من المؤمنات سواء كان الكافر كتابيا أو غيره وسواء كانت - المؤمنة أمة - أو حرة ، ف تَنْكِحُوا بضم التاء لا غير ، ولا يمكن الفتح - وإلا لوجب - ولا ينكحن المشركين ، واستدل بها على اعتبار الولي في النكاح مطلقا وهو خلاف مذهبنا ، وفي دلالة الآية على ذلك خفاء لأن المراد النهي عن إيقاع هذا الفعل والتمكين

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 514
منه ، وكل المسلمين أولياء في ذلك وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ مع ما فيه من ذل المملوكية.
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ مع ما ينسب إليه من عز المالكية وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بما فيه من دواعي الرغبة أُولئِكَ أي المذكورون من المشركين والمشركات يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي الكفر المؤدي إليها إما بالقول أو بالمحبة والمخالطة فلا تليق مناكحتهم ، فإن قيل : كما أن الكفار يدعون المؤمنين إلى النار كذلك المؤمنون يدعونهم إلى الجنة بأحد الأمرين ، أجيب بأن المقصود من الآية أن المؤمن يجب أن يكون حذرا عما يضره في الآخرة وأن لا يحوم حول حمى ذلك ويجتنب عما فيه الاحتمال مع أن النفس والشيطان يعاونان على ما يؤدّي إلى النار ، وقد ألفت الطباع في الجاهلية ذلك - قاله بعض المحققين - والجملة إلخ معللة لخيرية المؤمنين والمؤمنات من المشركين والمشركات وَاللَّهُ يَدْعُوا بواسطة المؤمنين من يقاربهم إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ أي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم الْجَنَّةِ على الْمَغْفِرَةِ مع قولهم : التخلية أولى بالتقديم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداء بِإِذْنِهِ متعلق ب يَدْعُوا أي يَدْعُوا إلى ذلك متلبسا بتوفيقه الذي من جملته إرشاد المؤمنين لمقاربيهم إلى الخير أحقاء بالمواصلة وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لكي يتعظوا أو يستحضروا معلوماتهم بناء على أنّ معرفة اللّه تعالى مركوزة في العقول ، والجملة تذييل للنصح والإرشاد ، والواو اعتراضية أو عاطفة ، وفصلت الآية السابقة ب تَتَفَكَّرُونَ لأنها كانت لبيان الأحكام والمصالح والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين للمؤمنين فناسب التفكر ، وهذه الآية ب يَتَذَكَّرُونَ لأنها تذييل للإخبار بالدعوة إلى الْجَنَّةِ والنَّارِ التي لا سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب التذكر.
ومن الناس من قدّر في الآية مضافا أي فريق اللّه أو أولياؤه وهم المؤمنون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تشريفا لهم ، واعترض بأن الضمير في المعطوف على الخبر للّه تعالى فيلزم التفكيك مع عدم الداعي لذلك ، وأجيب بأن الداعي كون هذه الجملة معللة للخيرية السابقة ولا يظهر التعليل بدون التقدير ، وكذا لا تظهر الملاءمة لقوله سبحانه : بِإِذْنِهِ بدون ذلك فإن تقييد دعوته تعالى بِإِذْنِهِ ليس فيه حينئذ كثير فائدة بأي تفسير فسر - الإذن - وأمر التفكيك سهل لأنه بعد إقامة المضاف إليه مقام المضاف للتشريف بجعل فعل الأول فعلا للثاني صورة فتتناسب الضمائر - كما في الكشف ولا يخفى ما فيه - وعلى العلات هو أولى مما قيل : إن المراد وَاللَّهُ يَدْعُوا على لسان رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى ذلك فتجب إجابته بتزويج أوليائه لأنه وإن كان مستدعيا لاتحاد المرجع في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبرا ، لكن يفوت التعليل وحسن المقابلة بينه وبين أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وكذا لطافة التقييد كما لا يخفى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أنس رضي اللّه تعالى عنهم «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل اللّه هذه الآية فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح»
وعن السدي - إن الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح رضي اللّه تعالى عنه - والجملة معطوفة على ما تقدم من مثلها ، ووجه مناسبتها له أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ورغب في مناكحة أهل الإيمان بين حكما عظيما من أحكام النكاح ، وهو حكم النكاح في الحيض ، ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوع الكل في وقت واحد عرفي ، وهو وقت السؤال عن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فكأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عنهما والسؤال عن كذا وكذا وحكاية ما عداها بغير عطف لكونها كانت في أوقات متفرقة فكان كل واحد سؤالا مبتدأ ولم يقصد الجمع بينهما بل الإخبار

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 515
عن كل واحد على حدة ، فلهذا لم يورد الواو بينها ، وقال صاحب الانتصاف في بيان العطف والترك : إن أول المعطوفات عين الأول من المجردة ، ولكن وقع جوابه أولا بالمصرف لأنه الأهم ، وأن كان المسئول عنه إنما هو المنفق لا جهة مصرفه ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح بالمسئول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن المسئول عنه صريحا ، وهو العفو الفاضل فتعين إذا عطفه ليرتبط بالأول ، وأما السؤال الثاني من المقرونة فقد وقع عن أحوال اليتامى ، وهل يجوز مخالطتهم في النفقة والسكنى فكان له مناسبة مع النفقة باعتبار أنهم إذا خالطوهم أنفقوا عليهم فلذا عطف على سؤال الإنفاق ، وأما السؤال الثالث فلما كان مشتملا على اعتزال الحيض ناسب عطفه على ما قبله لما فيه من بيان ما كانوا يفعلونه من اعتزال اليتامى ، وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة من الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة البتة إذ الأول منها عن النفقة والثاني عن القتال في الشَّهْرِ الْحَرامِ ، والثالث عن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وبينها من التباين ، والتقاطع ما لا يخفى فذكرت كذلك مرسلة متقاطعة غير مربوطة بعضها ببعض ، وهذا من بدائع البيان الذي لا تجده إلا في الكتاب العزيز ا ه.
ولا أرى القلب يطمئن به كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكرناه فتدبر ، والمحيض كما قال الزجاج :
وعليه الكثير مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا فهو كالمجيء والمبيت وأصله السيلان يقال : حاض السيل وفاض قال الأزهري : ومنه قيل : للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل ، والعرب تدخل الواو على الياء لأنهما من جنس واحد ، وقيل : إنه هنا اسم مكان ، ونسب إلى ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وحكى الواحدي عن ابن السكيت أنه إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة نحو كال يكيل ، وحاض يحيض فاسم المكان منه مكسور ، والمصدر منه مفتوح ، وحكى غيره عن غيره التخيير في مثله بل قيل : إن الكسر والفتح جائزان في اسم الزمان والمكان والمصدر وعلى ما نسب للترجمان ، واختاره الإمام يحتاج إلى الحذف في قوله تعالى : قُلْ هُوَ أَذىً أي موضع أذى وكذا يحتاج إلى اعتبار الزمان في قوله سبحانه : فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ لركاكة قولنا فَاعْتَزِلُوا في موضع الحيض ، وإن اختاره الإمام وقال : إن المعنى - اعتزلوا مواضع الحيض ، والأذى - مصدر من - أذا يؤذيه أذا وإذاء ، ولا يقال في المشهور إيذاء وحمله على المحيض للمبالغة ، والمعنى المقصود منه المستقذر وبه فسره قتادة ، واستعمل فيه بطريق الكناية ، والمراد من اعتزال النساء اجتناب مجامعتهن كما يفهمه آخر الآية ، وإنما أسند الفعل إلى الذات للمبالغة كما في قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء : 23] ووضع الظاهر موضع المضمر لكمال العناية بشأنه بحيث لا يتوهم غيره أصلا ، وقد يقال لا وضع ، وحديث الإعادة أغلبي بل يعتبر ما أشرنا إلى اعتباره فيما أشرنا إلى عدم اعتباره لضعف النسبة ، وقوة الداعي إلى التقدير وعدمه أولى ، وإنما وصف بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء ولم يكتف في الجواب بالأمر للإشعار بأنه العلة والحكم المعلل أوقع في النفس.
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تقرير للحكم السابق لأن الأمر بالاعتزال يلزمه النهي عن القربان وبالعكس فيكون كل منهما مقررا وإن تغايرا بالمفهوم فلذا عطف أحدهما على الآخر وفيه بيان لغايته فإن تقييد الاعتزال بقوله سبحانه وتعالى : فِي الْمَحِيضِ وترتبه على كونه أذى يفيد تخصيص الحرمة بذلك الوقت ، ويفهم منه عقلا انقطاعها بعده ، ولا يدل عليه اللفظ صريحا بخلاف حَتَّى يَطْهُرْنَ والغاية انقطاع الدم عند الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه فإن كان الانقطاع لأكثر مدة الحيض حل القربان بمجرد الانقطاع ، وإن كان لأقل منها لم يحل إلا باغتسال أو ما هو في حكمه من مضي وقت صلاة ، وعند الشافعية هي الاغتسال بعد الانقطاع قالوا : ويدل عليه صريحا قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن عياش «يطهرن» بالتشديد أي «يتطهرن» والمراد به يغتسلن لا لأن الاغتسال

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 516
معنى حقيقي للتطهير كما يوهمه بعض عباراتهم - لأن استعماله فيما عدا الاغتسال شائع في الكلام المجيد والأحاديث على ما لا يخفى على المتتبع - بل لأن صيغة المبالغة يستفاد منها الطهارة الكاملة ، والطهارة الكاملة للنساء عن المحيض هو الاغتسال فلما دلت قراءة التشديد على أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال والأصل في القراءات التوافق حملت قراءة التخفيف عليها بل قد يدعى أن الطهر يدل على الاغتسال أيضا بحسب اللغة ففي القاموس طهرت المرأة انقطع دمها واغتسلت من الحيض كتطهرت ، وأيضا قوله تعالى :
فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ يدل التزاما على أن الغاية هي الاغتسال لأنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل فهو يقوي كون المراد بقراءة التخفيف الغسل لا الانقطاع وربما يكون قرينة على التجوز في الطهر بحمله على الاغتسال إن لم يسلم ما تقدم وعلى فرض عدم تسليم هذا وذاك والرجوع إلى القول بأن قراءة التخفيف من الطهر وهو حقيقة في انقطاع الدم لا غير ولا تجوز ولا قرينة ، وقراءة التشديد من التطهر ، ويستفاد منه الاغتسال يقال أيضا في وجه الجمع كما في الكشف : إن القراءة بالتشديد لبيان الغاية الكاملة وبالتخفيف لبيان الناقصة ، وحتى في الأفعال نظير إلى في أنه لا يقتضي دخول ما بعدها فتكون الكاملة البتة ، وبيانه أن الغاية الكاملة ما يكون غاية بجميع أجزائه وهي الخارجة عن المغيا ، والناقصة ما تكون غاية باعتبار آخرها وحتى الداخلة على الأسماء تقتضي دخول ما بعدها لولا الغاية والداخلة على الأفعال مثل إلى لا تقتضي كون ما بعدها جزءا لما قبلها فانقطاع الدم غاية للحرمة باعتبار آخره فيكون وقت الانقطاع داخلا فيها والاغتسال غاية لها باعتبار أوله فلا تعارض بين القراءتين ، ولعل فائدة بيان الغايتين بيان مراتب حرمة القربان فإنها أشد قبل الانقطاع مما بعده ، ولما رأى ساداتنا الحنفية أن هاهنا قراءتين التخفيف والتشديد وأن مؤدى الأولى انتهاء الحرمة العارضة على الحل بانقطاع الدم مطلقا فإذا انتهت الحرمة العارضة حلت بالضرورة وأن مؤدى الثانية عدم انتهائها عنده بل بعد الاغتسال ، ورأوا أن الطهر إذا نسب إلى المرأة لا يدل على الاغتسال لغة بل معناه فيها انقطاع الدم وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد ، وفي تاج البيهقي طهرت خلاف طمثت ، وفي شمس العلوم امرأة طاهر بغير - هاء - انقطع دمها وفي الأساس امرأة طاهر ونساء طواهر طهرن من الحيض ، ولا يعارض ذلك ما في القاموس لجواز أن يكون بيانا للاستعمال ولو مجازا على ما هو
طريقته في كثير من الألفاظ وأن الحمل على الاغتسال مجازا من غير قرينة معينة له مما لا يصح واعتبار فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ قرينة بناء على ما ذكروا ليس بشيء وما ذكروه في وجه الدلالة من الاقتضاء فيه بحث لأن - الفاء - الداخلة على الجملة التي لا تصلح أن تكون شرطا كالجملة الإنشائية لمجرد الربط كما نص عليه ابن هشام في المغني ومثل له بقوله تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران : 31] ولو سلم فاللازم تأخر جواز الإتيان عن الغسل في الجملة لا مطلقا حتى يكون قرينة على أن المراد بقراءة التخفيف أيضا الغسل وأن القول بأن إحدى الغايتين داخلة في الحكم والأخرى خارجة خلاف المتبادر احتاجوا للجمع بجعل كل منهما آية مستقلة فحملوا الأولى على الانقطاع بأكثر المدة ، والثانية لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض كما حمل إبراهيم النخعي قراءة النصب والجرّ في أرجلكم على حالة التخفيف وعدمه وهو المناسب لأن في توقف قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضا حكما وهو مناف لحكم الشرع لوجوب الصلاة عليها المستلزم لإنزاله إياها ظاهرا حكما بخلاف تمام العدة فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر بل يجوز الحيض بعده ، ولذا لو زادت ولم يجاوز العشرة كان الكل حيضا بالاتفاق بقي أن مقتضى الثانية ثبوت الحرمة قبل الغسل فرفع الحرمة قبله بمضي أول وقت الصلاة أعني أدناه الواقع آخرا ، واعتبار الغسل حكما على ما قالوا معارضة النص بالمعنى ، والجواب أن القراءة الثانية خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف فجاز أن يخص ثانيا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 517
بالمعنى كما قاله بعض المحققين ولا يخفى ما في مذهب الإمام من التيسير والاحتياط لا يخفى ، وحكي عن الأوزاعي أن حل الإتيان موقوف على التطهر وفسره بغسل موضع الحيض وقد يقال لتنقية المحل تطهير ،
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها «أن امرأة سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن غسلها من المحيض فأمرها قبل أن تغتسل قال : خذي فرصة من مسك فتطهري بها قالت : كيف أتطهر بها؟ قال : تطهري بها قالت : كيف؟
قال : سبحان اللّه تطهري بها فاجتذبتها فقلت : تتبعي بها أثر الدم»
وذهب طاوس ومجاهد في رواية عنه أن غسل الموضع مع الوضوء كاف في حل الإتيان - وإليه ذهب الإمامية - ولا يخفى أنه ليس شيء من ذلك طهارة كاملة للنساء وإنما هي طهارة كاملة لأعضائهن وهو خلاف المتبادر في الآية وإنما المتبادر هو الأول وما في الحديث وإن كان أمرا بالتطهر لتلك المرأة لكن المراد بذلك المبالغة في تطهير الموضع إلا أنه لأمر ما لم يصرح به صلى اللّه تعالى عليه وسلم وإطلاق التطهير على تنقية المحل مما لا ننكره وإنما ننكر إطلاق يطهرن على من طهرن مواضع حيضهن ودون إثباته حيض الرجال. واستدل بالآية على أنه لا يحرم الاستمتاع بالحائض بما بين السرة والركبة وإنما يحرم الوطء ، وسئلت عائشة رضي اللّه تعالى عنها فيما أخرجه ابن جرير ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت : كل شيء إلا الجماع وذهب جماعة إلى حرمة الاستمتاع بما بين السرة والركبة استدلالا بما
أخرجه مالك عن زيد بن أسلم «أن رجلا سأل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : ماذا يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال له صلى اللّه تعالى عليه وسلم : لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها»
وكأنه من باب سد الذرائع في الجملة ، ولهذا ورد فيما أخرجه الإمام أحمد والتعفف عن ذلك أفضل والأمر في الآية للإباحة على حد إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة : 2] ففيها إباحة الإتيان لكنه مقيد بقوله سبحانه :
مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي من المكان الذي أمركم اللّه تعالى بتجنبه لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوا غيره قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع ، وقال الزجاج : معناه من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ولا تقربوهن من حيث لا يحل كما إذا كن صائمات أو محرمات أو معتكفات وأيد بأنه لو أراد الفرج لكانت - في - أظهر فيه من - من - لأن الإتيان بمعنى الجماع يتعدى بها غالبا لا بمن ، ولعله في حيز المنع عند أهل القول الأول إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض الذنوب
كالإتيان في الحيض المورث للجذام في الولد كما ورد في الخبر ،
والمستدعي عقاب اللّه تعالى
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي ، والنسائي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ،
وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما
أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «جاء رجل إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه أصبت امرأتي وهي حائض فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يعتق نسمة»
وقيمة النسمة حينئذ دينار ، وهذا إذا كان الإتيان في أول الحيض والدم أحمر أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار كمجامعة الحائض والإتيان لا من حيث أمر اللّه تعالى وحمل التطهر على التنزه هو الذي تقتضيه البلاغة وهو مجاز على ما في الأساس وشمس العلوم ، وعن عطاء حمله على التطهر بالماء والجملتان تذييل مستقل لما تقدم نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال : «كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد أحول فنزلت» والحرث إلقاء البذر في الأرض وهو غير الزرع لأنه إنباته يرشدك إلى ذلك قوله تعالى : أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة : 63 ، 64] وقال الجوهري : الحرث الزرع والحارث الزارع وعلى كل تقدير هو خبر عما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 518
قبله إما بحذف المضاف أي مواضع حرث ، أو التجوز والتشبيه البليغ أي كمواضع ذلك وتشبيههن بتلك المواضع متفرع على تشبيه النطف بالبذور من حيث إن كلّا منهما مادة لما يحصل منه ولا يحسن بدونه فهو تشبيه يكنى به عن تشبيه آخر فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي ما هو كالحرث ففيه استعارة تصريحية ويحتمل أن يبقى الحرث على حقيقته والكلام تمثيل شبه حال إتيانهم النساء في المأتي بحال إتيانهم المحارث في عدم الاختصاص بجهة دون جهة ثم أطلق لفظ المشبه به على المشبه ، والأول أظهر وأوفق لتفريع حكم الإتيان على تشبيههن بالحرث تشبيها بليغا ، وهذه الجملة مبينة لقوله تعالى : فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ لما فيه من الإجمال من حيث المتعلق ، والفاء جزائية وما قبلها علة لما بعدها ، وقدم عليه اهتماما بشأن العلة وليحصل الحكم معللا فيكون أوقع ، ويحتمل أن يكون المجموع كالبيان لما تقدم ، والفاء للعطف وعطف الإنشاء على الأخبار جائز بعاطف سوى الواو أَنَّى شِئْتُمْ قال قتادة والربيع من أين شِئْتُمْ وقال مجاهد : كيف شئتم ، وقال الضحاك : متى شئتم ، ومجيء أَنَّى بمعنى - أين - وكيف ومتى مما أثبته الجم الغفير ، وتلزمها على الأول - من - ظاهرة أو مقدرة ، وهي شرطية حذف جوابها لدلالة الجملة السابقة عليه.
واختار بعض المحققين كونها هنا بمعنى من أين أي من أي جهة ليدخل فيه بيان النزول ، والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلا على جواز الإتيان من الإدبار ناشىء من عدم التدبر في أن - من - لازمة إذ ذاك فيصير المعنى من أي مكان لا في أي مكان فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الإتيان فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها كابن عمر ، والأخبار عنه في ذلك صحيحة مشهورة ، والروايات عنه بخلافها على خلافها ، وكابن أبي مليكة وعبد اللّه بن القاسم حتى قال فيما أخرجه الطحاوي عنه : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال ، وكمالك بن أنس حتى أخرج الخطيب عن أبي سليمان الجوزجاني أنه سأله عن ذلك فقال له : الساعة غسلت رأس ذكري منه ، وكبعض الإمامية لا كلهم كما يظنه بعض الناس ممن لا خبرة له بمذهبهم ، وكسحنون من المالكية ، والباقي من أصحاب مالك ينكرون رواية الحل عنه ولا يقولون به ، ويا ليت شعري كيف يستدل بالآية على الجواز مع ما ذكرناه فيها ومع قيام الاحتمال كيف ينتهض الاستدلال لا سيما وقد تقدم قبل وجوب الاعتزال في المحيض وعلل بأنه أذى مستقذر تنفر الطباع السليمة عنه ، وهو يقتضي وجوب الاعتزال عن الإتيان في الأدبار لاشتراك العلة ولا يقاس ما في المحاش من الفضلة بدم الاستحاضة ومن قاس فقد أخطأت استه الحفرة لظهور الاستقذار.
والنفرة مما في المحاش دون دم الاستحاضة ، وهو دم انفجار العرق كدم الجرح وعلى فرض تسليم أن أَنَّى تدل على تعميم مواضع الإتيان كما هو الشائع يجاب بأن التقييد بمواضع الحرث يدفع ذلك فقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إذ أتاه رجل فقال : ألا تشفيني من آية المحيض قال : بلى فقرأ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ إلى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فقال ابن عباس : من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي فقال :
كيف بالآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ؟ فقال : ويحك ، وفي الدبر من حرث لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخا إذا شغل من هاهنا جئت من هاهنا ولكن أنى شئتم من الليل والنهار ، وما قيل من أنه لو كان في الآية تعين الفرج لكونه موضع الحرث للزم تحريم الوطء بين الساقين وفي الاعكان لأنها ليست موضع حرث كالمحاش مدفوع بأن الإمناء فيما عدا الضمامين لا يعد في العرف جماعا ووطئا واللّه تعالى قد حرم الوطء والجماع في غير موضع الحرث لا الاستمناء فحرمة الاستمناء بين الساقين وفي الاعكان لم تعلم من الآية إلا أن يعد ذلك إيتاء وجماعا وأنى به ، ولا أظنك في مرية من هذا وبه يعلم ما في مناظرة الإمام الشافعي ، والإمام محمد بن الحسن ، فقد أخرج الحاكم عن عبد الحكم أن الشافعي ناظر محمدا في هذه المسألة فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 519
في الفرج فقال له أفيكون ما سوى الفرج محرما فألتزمه؟ فقال : أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها أو في ذلك حرث؟ قال : لا قال : أفيحرم؟ قال : لا قال : فكيف تحتج بما لا تقول به ، وكأنه من هنا قال الشافعي فيما حكاه عنه الطحاوي والحاكم والخطيب لما سئل عن ذلك : ما صح عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وهذا خلاف ما نعرف من مذهب الشافعي فإن رواية التحريم عنه مشهورة فلعله كان يقول ذلك في القديم ورجع عنه في الجديد لما صح عنده من الأخبار أو ظهر له من الآية وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ما يصلح للتقديم من العمل الصالح ومنه التسمية عند الجماع وطلب الولد المؤمن ،
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم اللّه اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا»
وصح عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له»
وعن عطاء تخصيص المفعول بالتسمية. وعن مجاهد بالدعاء عند الجماع ، وعن بعضهم بطلب الولد وعن آخرين بتزوج العفائف والتعميم أولى وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ بالبعث فيجازيكم بأعمالكم فتزودوا ما ينفعكم والضمير المجرور راجع إلى اللّه تعالى بحذف مضاف أو بدونه ورجوعه إلى ما قدمتم أو إلى الجزاء المفهوم منه بعيد والأوامر معطوفة على قوله تعالى :
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ وفائدتها الإرشاد العام بعد الإرشاد الخاص وكون الجملة السابقة مبينة لا يقتضي أن يكون المعطوف عليها كذلك وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الذين تلقوا ما خوطبوا به بالقبول والامتثال بما لا تحبط به عبارة من الكرامة والنعيم ، وحمل بعضهم المؤمنين على الكاملين في الإيمان بناء على أن الخطابات السابقة كانت للمؤمنين مطلقا فلو كانت هذه البشارة لهم كان مقتضى الظاهر وبشرهم فلما وضع المظهر موضع المضمر علم أن المراد غير السابقين وهم المؤمنون الكاملون ولا يخفى أنه يجوز أن يكون العدول إلى الظاهر للدلالة على العلية ولكونه فاصلة فلا يتم ما ذكره والواو للعطف ، وَبَشِّرِ عطف على قُلْ المذكور سابقا أو على «قل» مقدرة قبل قدموا وهي معطوفة على المذكورة «ومن باب الإشارة» يسألونك عن خمر الهوى وحب الدنيا وميسر احتيال النفس بواسطة قداحها التي هي حواسها العشرة المودعة في ربابة البدن لنيل شيء من جزور اللذات والشهوات قل فيهما إثم الحجاب والبعد عن الحضرة ومنافع للناس في باب المعاش وتحصيل اللذة النفسانية والفرح بالذهول عن المعايب والخطرات المشوشة والهموم المكدرة وإثمهما أكبر من نفعهما لأن فوات الوصال في حظائر الجمال لا يقابله شيء ، ولا يقوم مقامه - وصال سعدى ولامى - ولفرق عند الأبرار بين السكر من المدير والسكر من المدار :
وأسكر القوم ورود كأس وكان سكرى من المدير
وهذا هو السكر الحلال لكنه فوق عالم التكليف ووراء هذا العالم الكثيف وهو سكر أرواح لا أشباح وسكر رضوان لا حميا دنان :
وما مل ساقيها ولا مل شارب عقار لحاظ كأسها يسكر اللبا
وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ وهو ما سوى الحق من الكونين كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ المنزلة من سماء الأرواح لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة وتقطعون بواديهما بأجنحة السير والسلوك إلى ملك الملوك وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ وهو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية «قل هو أذى» تنفر القلوب الصافية عنه فاعتزلوا بقلوبكم نساء النفوس في محيض غلبات الهوى حتى يطهرن ويفرغن من قضاء الحوائج الضرورية

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 520
فإذا تطهرن بماء الإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة فأتوهن من حيث أمركم اللّه أي عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها إن اللّه يحب التوابين عن أوصاف الوجود ويحب المتطهرين بنور المعرفة عن غبار الكائنات ، أو يحب التوابين من سؤالاتهم ويحب المتطهرين من إراداتهم نساؤكم وهي النفوس التي غدت لباسا لكم وغدوتم لباسا لهن موضع حرثكم للآخرة فأتوا حرثكم متى شئتم الحراثة لمعادكم وقدموا لأنفسكم ما ينفعها ويكمل نشأتها واتقوا اللّه من النظر إلى ما سواه واعلموا أنكم ملاقوه بالفناء فيه إذا اتقيتم وبشر المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها نزلت في الصديق رضي اللّه تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح ابن خالته وكان من الفقراء المهاجرين لما وقع في إفك عائشة رضي اللّه تعالى عنها ، وقال الكلبي : نزلت في عبد اللّه بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه أبدا ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته بعد أن كان قد طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها ، والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة وهي هنا من عرض الشيء من باب نصر أو ضرب جعله معترضا أو من عرضه للبيع عرضا من باب ضرب إذا قدمه لذلك ، ونصبه له والمعنى على الأول لا تجعلوا اللّه حاجزا لما حلفتم عليه وتركتموه من أنواع الخير فيكون المراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها وعبر عنها بالأيمان لتعلقها بها أو لأن اليمين بمعنى الحلف تقول حلفت يمينا كما تقول حلفت حلفا فسمي المفعول بالمصدر كما في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم وغيره : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» ،
وقيل : على في الحديث زائدة لتضمن معنى الاستعلاء وقوله تعالى أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ عطف بيان لأيمانكم وهو في غير الأعلام كثير وفيها أكثر ، وقيل : بدل وضعف بأن المبدل منه لا يكون مقصودا بالنسبة بل تمهيد وتوطئة للبدل وهاهنا ليس كذلك واللام صلة عرضة ، وفيها معنى الاعتراض أو بتجعلوا والأول أولى وإن كان المال واحدا ، وجوز أن تكون الأيمان على حقيقتها واللام للتعليل وأن تبروا في تقدير لأن ويكون صلة للفعل أو لعرضة ، والمعنى لا تجعلوا اللّه تعالى :
حاجزا لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والإصلاح ، وعلى الثاني ولا تجعلوا اللّه نصبا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل لأن في ذلك نوع جرأة على اللّه تعالى وهو التفسير المأثور عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها ، وبه قال الجبائي وأبو مسلم وروته الإمامية عن الأئمة الطاهرين ، ويكون أن تبروا علة للنهي على معنى أنهيكم عنه طلب بركم وتقواكم وإصلاحكم إذ الحلاف مجترئ على اللّه تعالى والمجترئ عليه بمعزل عن الاتصاف بتلك الصفات ويؤول إلى لا تكثروا الحلف باللّه تعالى لتكونوا بارين متقين ويعتمد عليكم الناس فتصلحوا بينهم ، وتقدير الطلب ونحوه لازم إن كان أَنْ تَبَرُّوا في موضع النصب ليتحقق شرط حذف اللام وهو المقارنة لأن المقارنة للنهي ليس هو البر والتقوى والإصلاح بل طلبها وإن كان في موضع الجر بناء على أن حذف حرف الجر من أن وإن قياسي فليس بلازم وإنما قدروه لتوضيح المعنى والمراد به طلب اللّه تعالى لا طلب العبد ، وإن أريد ذلك كان علة للكف المستفاد من النهي كأنه قيل : كفوا أنفسكم من جعله سبحانه عرضة وطلب العبد صالح للكف وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم وأيمانكم عَلِيمٌ بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما كلفتموه ، ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمرهم بالتقوى نهاهم عن ابتذال اسمه المنافي لها أو نهاهم عن أن يكون اسمه العظيم حاجزا لها ومانعا منها لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين عند الشافعي رضي اللّه تعالى عنه ما سبق له اللسان ، وما في حكمه مما لم يقصد منه اليمين كقول العرب لا واللّه لا باللّه لمجرد التأكيد ، وهو المروي عن عائشة وابن عمر وغيرهما في أكثر الروايات ، والمعنى لا يؤاخذكم أصلا بما لا قصد لكم فيه من الأيمان.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 521
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم ، ولا يعارض هذه الآية ما في المائدة [89] من قوله تعالى : لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ إلخ بناء على أن مقتضى هذه المؤاخذة بالغموس لأنها من كسب القلب وتلك تقتضي عدمها لأن اللغو فيها خلاف المعقودة ، وهي ما يحلف فيها على أمر في المستقبل أن يفعل ولا يفعل لوقوعه في مقابلة قوله سبحانه : بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فيتناول الغموس وهو الحلف على أمر ماض متعمد الكذب فيه ولغويته لعدم تحقق البر فيه الذي هو فائدة اليمين الشرعية لأن الشافعي حمل بما عقدتم على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه ، ولم يعكس لأن العقد مجمل يحتمل عقد القلب ، ويحتمل ربط الشيء بالشيء ، والكسب مفسر ، ومن القواعد حمل المجمل على المفسر ، وإذا حمل عليه شمل الغموس ، وكان اللغو ما لا قصد فيه لا خلاف المعقودة إذ لا معقودة فتتحد الآيتان في المؤاخذة على الغموس وعدم المؤاخذة على اللغو إلا أنه إن كان للفعل المنفي عموم كان في الآيتين نفي المؤاخذة فيما لا قصد فيه بالعقوبة ، والكفارة وإثبات المؤاخذة في الجملة بهما أو بأحداهما فيما فيه قصد ، وإن لم يكن له عموم حمل المؤاخذة المطلقة في هذه الآية على المؤاخذة المقيدة بالكفار في آية المائدة بناء على اتحاد الحادثة والحكم وسوق الآية لبيان الكفارة فلا تكرار ، وأيد العموم بما
أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم «مر بقوم ينتصلون ومعه بعض أصحابه فرمى رجل من القوم فقال : أصبت واللّه أخطأت واللّه ، فقال الذي معه : حنث الرجل يا رسول اللّه فقال كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة»
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللغو هنا ما لا قصد فيه إلى الكذب بأن لا يكون فيه قصد أو يكون بظن الصدق ، وحمل المؤاخذة على الأخروية بناء على أن دار المؤاخذة هي الآخرة وأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقرنت هذه المؤاخذة بالكسب إذ لا عبرة للقصد وعدمه في وجوب الكفارات التي هي مؤاخذات دنيوية ، لا شك أنه بمجرد اليمين بدون الحنث لا تتحقق المؤاخذة الأخروية في المعقودة فلا يمكن إجراء ما كسبت على عمومه فلا بد من تخصيصه بالغموس فيتحصل من هذه الآية المؤاخذة الأخروية في الغموس دون الدنيوية التي هي الكفارة ، وفيه خلاف الشافعي وعدم المؤاخذة الأخروية فيما عداها مما فيه قصد بظن الصدق ، ومما لا قصد فيه أصلا - وفيه وفاق الشافعي - وحمل المؤاخذة في آية المائدة على الدنيوية بقرينة قوله سبحانه فيها : فَكَفَّارَتُهُ إلخ ، وقوله تعالى : بِما عَقَّدْتُمُ على المعقودة لأن المتبادر من - العقد - ربط الشيء بالشيء وهو ظاهر في «المعقودة» فالمراد بِاللَّغْوِ وفي تلك الآية ما عداها من الغموس وغيره فيتحصل منها عدم المؤاخذة الدنيوية - بالكفارة - على غير المعقودة ، وهي الغموس والمؤاخذة عليه في الآخرة - كما علم من آية البقرة - والحلف بلا قصد أو به مع ظن الصدق لغير المؤاخذة عليهما في الآخرة كما علم منها أيضا ، والمؤاخذة الدنيوية على المعقودة التي لم يعلم حكمها في الآخرة من الآيتين لظهوره من ترتب المؤاخذة الدنيوية عليه - فلا تدافع بين الآيتين عنده أيضا - لأن مقتضى الأولى تحقق المؤاخذة الأخروية في الغموس ، ومقتضى الثانية عدم المؤاخذة الدنيوية فيه ، ومن هذا يعلم أن ما في - الهداية - وشاع في كتب الأصحاب عن الإمام حيث قال : إن الأيمان على ثلاثة أضرب : يمين الغموس ويمين منعقدة ويمين لغو وبين حكم كل وفسر الأخير بأن يحلف على ماض وهو يظن - كما قال - والأمر بخلافه ، وثبت في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه وغيره - ليس بشي ء - لو كان المقصود بما في التفسير «الحصر» لا التمثيل للغو لأن اللائق بالنظم أن يكون بِما كَسَبَتْ مقابلا للغو من غير واسطة بينهما ، وبقصد «الحصر» يبقى اليمين الذي لا قصد معه واسطة بينهما غير معلوم الاسم ولا الرسم ، وهو مما لا يكاد يكون كما لا يخفى على المنصف فليتدبر فإنه مما فات كثيرا من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 522
الناس. وذهب مسروق إلى أن «اللغو» هو الحلف على المعاصي وبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة وروي عن ابن عباس وطاوس أنه اليمين في حال الغضب فلا كفارة فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لغو اليمين أن تحرم ما أحل اللّه تعالى عليك بأن تقول : مالي علي حرام إن فعلت كذا مثلا - وبهذا أخذ مالك إلا في الزوجة - وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : هو كقول الرجل : أعمى اللّه بصري إن لم أفعل كذا ، وكقوله : هو مشرك ، هو كافر إن لم يفعل كذا ، فلا يؤاخذ به حتى يكون من قلبه ، وقيل :
لغو اليمين يمين المكره - حكاه ابن الفرس ولم ير مسندا - هذا ولم يعطف قوله تعالى : لا يُؤاخِذُكُمُ الآية على ما قبله لاختلافها خبرا وإنشاء ، وإن كانا متشاركين في كون كل منهما بيانا لحكم الأيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ حيث لم يؤاخذكم باللغو حَلِيمٌ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد والجملة تذييل للجملتين السابقتين ، وفائدته الامتنان على المؤمنين وشمول الإحسان لهم و«الحليم» من حلم بالضم يحلم إذا أمهل بتأخير العقاب ، وأصل «الحلم» لأناة ، وأما حلم الأديم - فبالكسر يحلم بالفتح - إذا فسد ، وأما حلم أي رأى في نومه - فبالفتح - ومصدر الأول - الحلم - بالكسر ومصدر الثاني - الحلم - بفتح اللام ومصدر الثالث - الحلم - بضم الحاء مع ضم اللام وسكونها لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ الإيلاء - كما قال الراغب - الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر الذي يحلف فيه من قوله تعالى : لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران : 118] أي باطلا وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور :
22] وصار في الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة ، ف يُؤْلُونَ أي يحلفون ، ومِنْ نِسائِهِمْ على حذف المضاف ، أو من إقامة العين مقام الفعل المقصود منه للمبالغة ، وعدي القسم على المجامعة ب مِنْ لتضمنه معنى البعد ، فكأنه قيل : يبعدون مِنْ نِسائِهِمْ مولين ، وقيل : إن هذا الفعل يتعدى ب «من» وعلى ، ونقل أبو البقاء عن بعضهم من أهل اللغة تعديته ب مِنْ وقيل : بها بمعنى على ، وقيل : بمعنى في ، وقيل : زائدة ، وجوّز جعل الجار ظرفا مستقرا ، أي استقرّ لهم مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وقرأ «ألوا من نسائهم» وفي مصحف أبيّ «للذين يقسمون» وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - والتربص - الانتظار والتوقف وأضيف إلى الظرف على الاتساع - وإجراء المفعول فيه مجرى المفعول به ، والمعنى على الظرفية وهو مبتدأ ما قبله خبره أو فاعل للظرف - على ما ذهب إليه الأخفش من جواز عمله وإن لم يعتمد - والجملة - على التقديرين - بمنزلة الاستثناء من قوله سبحانه وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ فإن - الإيلاء - لكون أحد الأمرين لازما له الكفارة على تقدير الحنث من غير إثم ، والطلاق على تقدير البر مخالف لسائر الأيمان المكتوبة حيث يتعين فيها - المؤاخذة - بهما أو بأحدهما عند الشافعي - والمؤاخذة - الأخروية عند أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، فكأنه قيل : إلا الإيلاء فإنّ حكمه غير ما ذكر ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها ، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى - أنّ للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر - بين حكمه بقوله تعالى جل شأنه : فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا في المدّة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لما حدث منهم من اليمين على الظالم وعقد القلب على ذلك الحنث ، أو بسبب الفيئة والكفارة ، ويؤيده قراءة ابن مسعود فَإِنْ فاؤُ فيهن وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي صمموا قصده بأن لم يفيئوا واستمرّوا على الإيلاء
فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لإيلائهم الذي صار منهم طلاقا بائنا بمضي العدة عَلِيمٌ بغرضهم من هذا الإيلاء فيجازيهم على وفق نياتهم ، وهذا ما حمل عليه الحنفية هذه الآية فإنهم قالوا : الإيلاء من المرأة أن يقول : واللّه لا أقربك أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فصاعدا على التقييد بالأشهر ، أو لا أقربك على الإطلاق ، ولا يكون فيما دون ذلك عند الأئمة الأربعة ، وأكثر العلماء خلافا للظاهرية والنخعية وقتادة وحماد وابن أبي حماد وإسحاق حيث يصير عندهم موليا في قليل المدة وكثيرها ، وحكمه إن فاء إليها في المدّة بالوطء إن أمكن ، أو بالقول إن عجز عنه صح الفيء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين ولا كفارة على

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 523
العاجز ، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة من غير مطالبة المرأة إيقاع الزوج أو الحكم ، وقالت الشافعية : لا إيلاء إلا فى أكثر من «الأربعة أشهر» فلو قال : واللّه لا أقربك «الأربعة أشهر» لا يكون إيلاء شرعا عندهم ولا يترتب حكمه عليه بل هو يمين كسائر الأيمان ، إن حنث كفر ، وإن برّ فلا شيء عليه ، وللمولي التلبث في هذه المدّة فلا يطالب بفيء ولا طلاق ، فإن فاء في اليمين بالحنث فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ للمولي إثم حنثه إذا كفر كما في الجديد ، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه بالفيئة التي هي كالتوبة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لطلاقه عَلِيمٌ بنيته ، وإذا مضت المدّة ولم يفئ ولم يطلق طولب بأحد الأمرين ، فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم وأريد كون مدته أكثر من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بأن - الفاء - في الآية للتعقيب فتدل على أن حكم الإيلاء من الفيئة والطلاق يترتب عليه بعد مضي أربعة أشهر ، فلا يكون الإيلاء في هذه المدة إيلاء شرعا لانتفاء حكمه - وبذلك اعترضوا على الحنفية - واعترضوا عليهم أيضا بأنه لو لم يحتج إلى الطلاق بعد مضي المدّة لزم وقوع الطلاق من غير موقع ، وإن النص يشير إلى أنه مسموع ، فلو بانت من غير طلاق لا يكون هاهنا شيء مسموع ، وأجيب عن الأول بأن - الفاء - للتعقيب في الذكر ، وعن الثاني بأن المسموع ما يقارن ذلك الترك من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان عليهم بما استمرّوا عليه من الظلم أو الإيلاء الذي صار طلاقا بائنا بالمضي ، وهذا أنسب بقوله سبحانه وتعالى : وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ حيث اكتفى بمجرّد العزم بخلاف ما قالته الشافعية من أنه يحتاج إلى الطلاق بعد مضي المدة فإنه يحتاج إلى التقدير ، وبعده
لا يحتاج إلى عَزَمُوا أو يحتاج إلى جعل «عزم الطلاق» كناية عنه ، فما قيل : من أن الآية بصريحها مع الشافعي ليس في محله ، وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وكثير من الإمامية ، وأخرج عبد بن حميد عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه قال : الإيلاء إيلاءان إيلاء في الغضب ، وإيلاء في الرضا ، فأمّا الإيلاء في الغضب فإذا مضت أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فقد بانت منه ، وأمّا ما كان في الرضا فلا يؤاخذ به.
وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير رضي اللّه تعالى عنهما قال : أتى رجل عليا كرم اللّه تعالى وجهه فقال : إني حلفت أن لا آتي امرأتي سنتين فقال : ما أراك إلا قد آليت ، قال إنما حلفت من أجل أنها ترضع ولدي ، قال فلا إذا.
وروي عن إبراهيم «ما أعلم الإيلاء إلا في الغضب لقوله سبحانه وتعالى فَإِنْ فاؤُ وإنما الفيء من الغضب» وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، واستدل بعموم الآية على صحة الإيلاء من الكافر ، وبأي يمين كان ، ومن غير المدخول بها والصغيرة والخصي. وأن العبد تضرب له «الأربعة أشهر» كالحر ، واستدل بتخصيص هذا الحكم بالمولي على أنّ من ترك الوطء «ضرارا» بلا يمين لا يلزمه شيء ، وما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت وهي تعظ خالد بن سعيد المخزومي وقد بلغها أنه هجر امرأته : إياك يا خالد وطول الهجر ، فإنك قد سمعت ما جعل اللّه تعالى للمولي من الأجل محمول على إرادة العطف والتحذير من التشبه بالإيلاء.
[سورة البقرة (2) : الآيات 228 إلى 252]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ
يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 524
فارغة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 525
وَالْمُطَلَّقاتُ أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهنّ لما قد بين في الآيات والأخبار أن لا عدّة على غير المدخول بها وأن عدّة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل ، وأن عدة الأمة قرءان أو شهران - فأل - ليست للاستغراق لأنه هاهنا متعذر لما بين ، فتحمل على الجنس كما في - لا أتزوج النساء - ويراد منه ما ذكر بقرينة الحكم ، وهذا مذهب ساداتنا الحنفية لأن الكلام المستقل الغير الموصول عندهم ناسخ للعام ، والنسخ إنما يصح إذا ثبت عموم الحكم السابق - ولا عموم هاهنا - وقال الشافعية : إن الْمُطَلَّقاتُ عام وقد خص البعض بكلام

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 526
مستقل غير موصول ، واعترضه الإمام بأنّ التخصيص إنما يحسن إذا كان الباقي تحت العام أكثر ، وهاهنا ليس كذلك وليس بشيء لأنه مما لا شاهد له فإنّ المذكور في كتب الأصول أن العام يجوز تخصيصه إلى أن يبقى تحته ما يستحق به معنى الجمع لئلا يلزم إبطال الصيغة فليفهم.
يَتَرَبَّصْنَ أي ينتظرن ، وهو خبر قصد منه الأمر على سبيل الكناية فلا يحتاج في وقوعه خبرا لمبتدأ إلى التأويل على رأي من لم يجوّز وقوع الإنشاء خبرا من غير تأويل ، وقيل : إنّ الجملة الاسمية خبرية بمعنى الأمر ، أي ليتربصن الْمُطَلَّقاتُ ولا يخفى أنه لا يحتاج إليه ، وتغيير العبارة للتأكيد بدلالته على التحقيق لأن الأصل في الخبر الصدق والكذب احتمال عقلي ، والإشعار بأنه مما يجب أن يسارع إلى امتثاله حيث أقيم اللفظ الدال على الوقوع مقام الدال على الطلب ، وفي ذكره متأخرا عن المبتدأ فضل تأكيد لما فيه من إفادة التقوى على أحد الطريقين المنقولين عن الشيخ عبد القاهر والسكاكي وقيد - التربص - هنا بقوله سبحانه وتعالى : بِأَنْفُسِهِنَّ وتركه في قوله تعالى : تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لتحريض النساء على - التربص - لأن - الباء - للتعدية فيكون المأمور به أن يقمعن أنفسهن ويحملنها على الانتظار ، وفيه إشعار بكونهنّ مائلات إلى الرجال وذلك مما يستنكفن منه ، فإذا سمعن هذا تربصن وهذا بخلاف الآية السابقة فإن المأمور فيها - بالتربص - الأزواج وهم وإن كانوا طامحين إلى النساء لكن ليس لهم استنكاف منه ، فذكر - الأنفس - فيها لا يفيد تحريضهم على التربص ثَلاثَةَ قُرُوءٍ نصب على الظرف لكونه عبارة عن المدّة ، والمفعول به محذوف لأن - التربص - متعدّ قال تعالى : وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ [التوبة : 52] أي يتربصن التزوج ، وفي حذفه إشعار بأنهنّ يتركن التزوّج في هذه المدّة بحيث لا يتلفظن به ، وجوّز أن يكون على المفعولية بتقدير مضاف أي يَتَرَبَّصْنَ مضيها - والقروء - جمع قرء - بالفتح والضم - والأول أفصح وهو يطلق للحيض ، لما
أخرج النسائي وأبو داود والدارقطني «أن فاطمة ابنة أبي حبيش قالت : يا رسول اللّه إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة؟ فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لا ، دعي الصلاة أيام أقرائك»
ويطلق للطهر الفاصل بين الحيضتين كما في ظاهر قول الأعشى :
أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي أطهارهن لأنها وقت الاستمتاع ولا جماع في الحيض في الجاهلية أيضا وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض لاستلزامه كل واحد منهما ، والدليل على ذلك كما قال الراغب : إن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء والحائض التي استمر لها الدم لا يقال لها ذلك أيضا ، والمراد بالقرء في الآية عند الشافعي الانتقال من الطهر إلى الحيض في قول قوي له ، أو الطهر المنتقل منه كما في المشهور وهو المروي عن عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وخلق كثير لا الحيض ، واستدلوا على ذلك بمعقول ومنقول أما الأول فهو أن المقصود من العدة براءة الرحم من ماء الزوج السابق والمعرف لبراءة الرحم هو الانتقال إلى الحيض لأنه يدل على انفتاح فم الرحم فلا يكون فيه العلوق لأنه يوجب انسداد فم الرحم عادة دون الحيض فإن الانتقال من الحيض إلى الطهر يدل على انسداد فم الرحم وهو مظنة العلوق فإذا جاء بعده الحيض علم عدم انسداده. «وأما الثاني» فقوله تعالى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق : 1] واللام للتأقيت والتخصيص بالوقت فيفيد أن مدخوله وقت لما قبله كما في قوله تعالى : وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء : 47] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء : 78] فيفيد أن العدة وقت الطلاق والطلاق في الحيض غير مشروع لما
أخرج الشيخان أن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما طلق زوجته وهي حائض فذكر عمر لرسول

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 527
اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فتغيظ ثم قال : «مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر اللّه تعالى أن يطلق لها النساء»
وهو أحد الأدلة أيضا على أن العدة بالاطهار ، وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المراد بالقرء الحيض وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وجم غفير وكون الانتقال من الطهر إلى الحيض هو المعرف للبراءة إذا سلم معارض بأن سيلان الدم هو السبب للبراءة المقصودة ولا نسلم أن اعتبار المعرف أولى من اعتبار السبب وليس هذا من المكابرة في شيء على أن المهم في مثل هذه المباحث الأدلة النقلية ، وفيما ذكروه منها بحث لأن لام التوقيت لا تقتضي أن يكون مدخولها ظرفا لما قبلها ففي الرضي أن اللام في نحو جئتك لغرة كذا هي المفيدة للاختصاص الذي هو أصلها ، والاختصاص هاهنا على ثلاثة أضرب : أما أن يختص الفعل بالزمان بوقوعه فيه نحو كتبته لغرة كذا. أو يختص به لوقوعه بعده نحو لليلة خلت أو اختص به لوقوعه قبله نحو لليلة بقيت ، فمع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه ومع قرينة نحو خلت يكون لوقوعه بعده ومع قرينة نحو بقيت لوقوعه قبله انتهى.
وفيما نحن فيه قرينة تدل على كونه قبله لأن التطليق يكون قبل العدة لا مقارنا لها ، ويؤيده قراءة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم في قبل عدتهن ففي الصحاح القبل والقبل نقيض الدبر والدبر ، ووقع السهم بقبل الهدف وبدبره - وقدّ قميصه من قبل ودبر - أي من مقدمه ومؤخره ، ويقال : أنزل بقبل هذا الجبل - أي بسفحه - فمعنى في قبل عدتهنّ في مقدم عدتهنّ وأمامها - كما يقتضيه ظاهر الأمثلة - وما ذكره من أن قبل الشيء أوله يرجع إلى هذا أيضا ، على تسليم عدم الرجوع يرجع المقدّم الأول بالتبادر وكثرة الاستعمال والتأييد يحصل بذلك المقدار ، والحديث الذي أخرجه الشيخان مسلم لكن جعله دليلا على أن - العدّة - هي الأطهار غير مسلم لأنه موقوف على جعل الإشارة للحالة التي هي الطهر ، ولا يقوم عليه دليل فإن - اللام - في
«يطلق لها النساء»
كاللام في لِعِدَّتِهِنَّ يجوز أن تكون بمعنى - في - وأن تكون بمعنى - قبل - فيجوز أن يكون المشار إليه الحيض ، وأنث اسم الإشارة مراعاة للخبر كالضمير إذا وقع بين مرجع مذكر وخبر مؤنث فإنّ الأولى على ما عليه الأكثر مراعاة الخبر إذ ما مضى فات ، والمعنى فتلك الحيض العدّة التي أمر اللّه تعالى أن يطلق قبلها النساء - لا أن يطلق فيها النساء - كما فهمه ابن عمر وأوقع الطلاق فيه ، وقول الخطابي : الأقراء التي تعتدّ بها المطلقة الاطهار لأنه ذكر فتلك العدّة بعد الطهر مجاب عنه بأن ذكره بعد الطهر لا يقتضي أن يكون مشارا إليه لجواز أن يكون ذكر الطهر للإشارة إلى أنّ الحيض المحفوف بالطهر يكون عدة ، وحينئذ لا يحتاج ذكر الطهر الثاني إلى نكتة وهي أنه إذا راجعها في الطهر الأوّل بالجماع لم يكن طلاقها فيه للسنة فيحتاج للطهر الثاني ليصح فيه إيقاع الطلاق السني ، وأن لا تكون الرجعة لغرض الطلاق فقط ، وأن يكون كالتوبة عن المعصية باستبدال حاله ، وأن يطول مقامه معها فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسها من سبب الطلاق فيمسكها هذا ما يرجع إلى الدفع ، وأما الاستدلال على أن «القرء» الحيض فهو ما
أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني عن عائشة أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «طلاق الأمة تطليقتان ، وعدّتها حيضتان»
فصرح بأن عدة الأمة حيضتان ، ومعلوم أن الفرق بين الحرّة والأمة باعتبار مقدار العدّة لا في جنسها فيلتحق قوله تعالى : ثَلاثَةَ قُرُوءٍ للإجمال الكائن بالاشتراك بيانا به وكونه لا يقاوم ما أخرجه الشيخان في قصة ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما لضعفه لأن فيه مظاهرا ولم يعرف له سواه لا يخلو عن بحث ، أما أولا فلما علمت أن ذلك الحديث ليس بنص في المدعى ، وأما ثانيا فلأن تعليل تضعيف مظاهر غير ظاهر ، فإن ابن عدي أخرج له حديثا آخر ووثقه ابن حبان ، وقال الحاكم : ومظاهر شيخ من أهل البصرة ولم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح فإذا إن لم يكن الحديث صحيحا كان حسنا ، ومما يصحح الحديث عمل العلماء على وفقه قال الترمذي عقيب روايته : حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 528
وغيرهم ، وفي الدارقطني قال القاسم وسالم : وعمل به المسلمون ، وقال مالك : شهرة الحديث تغني عن سنده كذا في الفتح ، ومن أصحابنا من استدل بأنه لو كان المراد من القرء الطهر لزم إبطال موجب الخاص أعني لفظ ثلاثة فإنه حينئذ تكون العدة طهرين ، وبعض الثالث في الطلاق المشهور ولا يخفى أنه كأمثاله في هذا المقام ناشىء من قلة التدبر فيما قاله الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه فلهذا اعترضوا به عليه لأنه إنما جعل القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض ، أو الطهر المنتقل منه لا الطهر الفاصل بين الدمين ، والانتقال المذكور ، أو الطهر المنتقل منه تام على أن كون الثلاثة اسما لعدد كامل غير مسلم ، والتحقيق فيه أنه إذا شرع في الثالث ساغ الإطلاق ألا تراهم يقولون هو ابن ثلاث سنين وإن لم تكمل الثالثة ، وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل ، ومن الشافعية من جعل القرء اسما للحيض الذي يحتوشه دمان وجعل إطلاقه على بعض الطهر وكله كإطلاق الماء والعسل ، قالوا والاشتقاق مرشد إلى معنى الضم والاجتماع ، وهذا الطهر يحصل فيه اجتماع الدم في الرحم وبعضه وكله في الدلالة على ذلك على السواء - وأطالوا الكلام في ذلك - والإمامية وافقوهم فيه واستدلوا عليه برواياتهم عن الأئمة والرواية عن علي كرم اللّه تعالى وجهه في هذا الباب مختلفة ، وبالجملة كلام الشافعية في هذا المقام قوي كما لا يخفى على من أحاط بأطراف كلامهم واستقرأ ما قالوه وتأمل ما دفعوا به أدلة مخالفيهم وفي الكشف بعض الكشف وما في الكشاف غير شاف لبغيتنا وهذا المقدار يكفي أنموذجا.
هذا وكان القياس ذكر القرء بصيغة القلة التي هي الإقراء ولكنهم يتوسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ولعل النكتة المرجحة لاختياره هاهنا أن المراد بالمطلقات هاهنا جميع المطلقات ذوات الأقراء الحرائر وجميعها متجاوز فوق العشرة فهي مستعملة مقام جمع الكثرة ولكل واحدة منها ثلاثة أقراء فيحصل في الأقراء الكثرة فحسن أن يستعمل جمع الكثرة في تمييز الثلاثة تنبيها على ذلك وهذا كما استعمل أنفسهن مكان نفوسهن للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يقع على القلة وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال ابن عمر :
الحمل والحيض أي لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها ولا إن كانت حائضا أن تكتم حيضها فتقول وهي حائض : قد طهرت وكن يفعلن الأول لئلا ينتظر لأجل طلاقها أن تضع ولئلا يشفق الرجل على الولد فيترك تسريحها والثاني
استعجالا لمضي العدة وإبطالا لحق الرجعة وهذا القول هو المروي عن الصادق
والحسن ومجاهد وغيرهم والقول - بأن الحيض غير مخلوق في الرحم بل هو خارج عنه - فلا يصح حمل ما على عمومها بل يتعين حملها على الولد وهو المروي عن ابن عباس وقتادة مدفوع بأن ذات الدم وإن كان غير مخلوق في الرحم لكن الاتصاف بكونه حيضا إنما يحصل له فيه وما قيل : إن الكلام في المطلقات ذوات الأقراء فلا يحتمل خلق الولد في أرحامهن فيجب حمل ما على الحيض كما حكي عن عكرمة فمدفوع أيضا بأن تخصيص العام وتقييده بدليل خارجي لا يقتضي اعتبار ذلك التخصيص أو التقييد في الراجع ، واستدل بالآية على أنّ قولهما يقبل فيما خلق اللّه تعالى في أرحامهن إذ لولا قبول ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهن ، قال ابن الفرس : وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب. لأنّ كل ذلك مما خلق اللّه تعالى في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه ، وفيه تأمل إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرط لقوله تعالى : لا يَحِلُّ لكن ليس الغرض منه التقييد حتى لو لم يؤمن كالكتابيات - حل لهنّ الكتمان - بل بيان منافاة الكتمان للإيمان وتهويل شأنه في قلوبهنّ ، وهذه طريقة متعارفة يقال : إن كنت مؤمنا فلا تؤذ أباك ، وقيل : إنه شرط جزاؤه محذوف - أي فلا يكتمن - وقوله سبحانه : لا يَحِلُّ علة له أقيم مقامه ، وتقدير الكلام «إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر لا يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن لأنه لا يحل لهن» وفيه «أن لا يكتمن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 529
المقدّر» إن كان نهيا يلزم تعليل الشيء بنفسه ، وإن كان نفيا يكون مفاد الكلام تعليق عدم وقوع الكتمان في المستقبل بأيمانهم في الزمان الماضي وهو كما ترى وَبُعُولَتُهُنَّ أي أزواج المطلقات جمع - بعل - كعم وعمومة ، وفحل وفحولة - والهاء - زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ، والأمثلة سماعية لا قياسية ، لا يقال : كعب وكعوبة ، قاله الزجاج «وفي القاموس» - البعل - الزوج ، والأنثى - بعل وبعلة - والرب والسيد والمالك والنخلة التي لا تسقى أو تسقى بماء المطر «وقال الراغب» - البعل - النخل الشارب بعروقه ، عبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص ، وقيل :
باعلها جامعها ، وبعل الرجل إذا دهش فأقام كأنه النخل الذي لا يبرح ، ففي اختيار لفظ - البعولة - إشارة إلى أنّ أصل الرجعة بالمجامعة ، وجوّز أن يكون - البعولة - مصدرا نعت به من قولك : بعل حسن البعولة - أي العشرة مع الزوجة - أو أقيم مقام المضاف المحذوف ، أي وأهل بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ إلى النكاح والرجعة إليهن ، وهذا إذا كان الطلاق رجعيا للآية بعدها ، فالضمير - بعد اعتبار القيد - أخص من المرجوع إليه ، ولا امتناع فيه كما إذا كرّر الظاهر ، وقيل : بعولة المطلقات أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وخصص بالرجعي ، وأَحَقُّ هاهنا بمعنى - حقيق - عبر عنه بصيغة التفضيل للمبالغة ، كأنه قيل : للبعولة حق الرجعة ، أي حق محبوب عند اللّه تعالى بخلاف الطلاق فإنه مبغوض ، ولذا
ورد للتنفير عنه «أبغض الحلال إلى اللّه تعالى الطلاق»
وإنما لم يبق على معناه من المشاركة والزيادة إذ لا حق للزوجة في الرجعة كما لا يخفى. وقرأ أبيّ «بردّتهن» فِي ذلِكَ أي زمان - التربص - وهو متعلق ب أَحَقُّ أو بِرَدِّهِنَّ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً أي إن أراد البعولة بالرجعة إِصْلاحاً لما بينهم وبينهن ، ولم يريدوا الإضرار بتطويل العدّة عليهنّ مثلا ، وليس المراد من التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز للإجماع على جوازها مطلقا ، بل المراد تحريضهم على قصد الإصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفي بانتفائه وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فيه صنعة الاحتباك ، ولا يخفى لطفه فيما بين الزوج والزوجة حيث حذف في الأول بقرينة الثاني ، وفي الثاني بقرينة الأول ، كأنه قيل : ولهنّ عليهم مثل الذي لهم عليهنّ ، والمراد - بالمماثلة - المماثلة في الوجوب - لا في جنس الفعل - فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك ، ولكن يقابله بما يليق بالرجال ،
أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «ألا إنّ لكم على نسائكم حقا ، ولنسائكم عليكم حقا ، فأمّا حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهن»
وأخرج وكيع وجماعة عن أنس عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي ، لأن اللّه تعالى يقول : وَلَهُنَّ» الآية ، وجعلوا مما يجب لهنّ عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها.
والمجرور الأخير متعلق بما تعلق به الخبر ، وقيل : صفة ل مِثْلُ وهي لا تتعرف بالإضافة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ زيادة في الحق لأنّ حقوقهم في أنفسهن ، فقد ورد أنّ النكاح كالرق أو شرف فضيلة لأنهم قوام عليهن وحرّاس لهن ، يشاركوهنّ في غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش ، ويخصون بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن - والدرجة - في الأصل - المرقاة - ويقال فيها : دَرَجَةٌ كهمزة «قال الراغب» الدرجة - نحو المنزلة لكن تقال إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط - كدرجة السطح والسلم - ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة ، ومنه الآية فهي على التوجيهين مجاز «وفي الكشف» أن أصل التركيب لمعنى الأناة والتقارب على مهل من - درج الصبي إذا حبا - وكذلك الشيخ والمفيد لتقارب خطوهما - والدرجة - التي يرتقي عليها لأن الصعود ليس في السهولة كالانحدار والمشي على مستو ، فلا بدّ من تدرّج - والدرج - المواضع التي يمر عليها السيل شيئا فشيئا ، ومنه التدرّج في الأمور ، والاستدراج من اللّه ، والدركة هي الدرجة بعينها لكن في الانحدار - والرجال - جمع رجل ، وأصل الباب القوّة والغلبة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 530
وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكر - الرجولية - التي بها ظهرت المزية لِلرِّجالِ على النساء وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام حَكِيمٌ عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها ، والجملة تذييل للترهيب والترغيب.
الطَّلاقُ مَرَّتانِ إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهو الرجعي وهو بمعنى التطليق الذي هو فعل الرجل - كالسلام بمعنى التسليم - لأنه الموصوف بالوحدة والتعدّد دون ما هو وصف المرأة ، ويؤيد ذلك ذكر ما هو من فعل الرجل أيضا بقوله تعالى : فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي بالرجعة وحسن المعاشرة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي إطلاق مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق ، وذلك إما بأن لا يراجعها حتى تبين ، أو يطلقها الثالثة - وهو المأثور -
فقد أخرج أبو داود وجماعة عن أبي رزين الأسدي أنّ رجلا قال : يا رسول اللّه - صلى اللّه تعالى عليه وسلم - إني أسمع اللّه تعالى يقول الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟ فقال : «التسريح بإحسان هو الثالثة»
وهذا يدل على أن معنى مَرَّتانِ اثنتان ، ويؤيد العهد - كالفاء - في الشق الأوّل فإنّ ظاهرها التعقيب بلا مهلة ، وحكم الشيء يعقبه بلا فصل ، وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية ، ولعله أليق بالنظم حيث قد انجرّ ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو طلاق ، ثم انجرّ ذلك إلى ذكر حكم الْمُطَلَّقاتُ من العدة والرجعة ، ثم انجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة ، ثم انجرّ ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثة - وأوفق بسبب النزول - فقد أخرج مالك والشافعي والترمذي رضي اللّه تعالى عنهما وغيرهم. عن عروة قال : كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة ، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت انقضاء عدّتها ارتجعها ثم طلقها ثم قال : واللّه لا آويك إليّ ولا تخلين أبدا ، فأنزل اللّه تعالى الآية ، والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث غير محرّم وأنه لا سنة في التفريق كما في تحفتهم ، واستدلوا عليه بأن - عويمرا العجلاني - لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى اللّه تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه - رواه الشيخان - فلو حرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية ، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف ، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل ، ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون ، وقال ساداتنا الحنفية : إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة ، وإنما السنة التفريق لما
روي في حديث ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال له : «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة»
فإنه لم يرد صلى اللّه تعالى عليه وسلم من السنة أنه يستعقب الثواب لكونه أمرا مباحا في نفسه لا مندوبا بل كونه من الطريقة المسلوكة في الدين - أعني ما لا يستوجب عقابا - وقد حصره عليه الصلاة والسلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع ، والطلاق في الحيض بدعة - أي موجب لاستحقاق العقاب - وبهذا يندفع ما قيل : إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر واحد ليس سنة ، وأمّا أنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف ، ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى «وفي الهداية» وقال الشافعي ، كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع - حتى يستفاد به الحكم - المشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في الحيض لأن المحرّم تطويل العدّة عليها - لا الطلاق - ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص ، ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث ، وهي في المفرق على - الاطهار - ثابتة نظرا إلى دليلها ، والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها ، والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا ينافي الحظر لمعنى في غيره - وهو ما ذكرناه - انتهى. ومنه يعلم أن المخالف معمم - لا مقسم - وإذا قلنا إنه مقسم بناء على ما في كتب بعض مذهبه فغاية ما أثبت

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 531
أن الجمع خلاف الأولى من التفريق على الأقراء أو الأشهر ، وقد علمت أن تقسيم أبي القاسم صلى اللّه تعالى عليه وسلم غير تقسيمه ، وأجيب عما في خبر عويمر بأنها وقاعة حال - فلعلها من المستثنيات - لما أن مقام اللعان ضيق فيغتفر فيه مثل ذلك ويعذر فيه الغيور وأعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما وحملوا الآية على أن المراد التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق لما أن وظيفة الشارع بيان الأمور الشرعية واللام ليست نصا في العهد بل الظاهر منها الجنس وأيضا تقييد الطلاق بالرجعي يدع ذكر الرجعة بقوله سبحانه : فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ تكرارا إلا أن يقال المطلوب هاهنا الحكم المردد بين الإمساك والتسريح ، وأيضا لا يعلم على ذلك الوجه حكم الطلاق الواحد إلا بدلالة النص ، وهذا الوجه مع كونه أبعد عن توهم التكرار ودلالته على حكم الطلاق الواحد بالعبارة يفيد حكما زائدا وهو التفريق ، ودلالة الآية حينئذ على ما ذهبوا إليه ظاهرة إذا كان معنى مرتين مجرد التنكير يردون التثنية على حد ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك : 4] أي كرة بعد كرة لا كرتين ثنتين إلا أنه يلزم عليه إخراج التثنية عن معناها الظاهر ، وكذا إخراج - الفاء - أيضا وجعل ما بعدها حكما مبتدأ وتخييرا مطلقا عقيب تعليمهم كيفية التطليق وليس مرتبا على الأول ضرورة أن التفريق المطلق لا يترتب عليه أحد الأمرين لأنه إذا كان بالثلاث لا يجوز بعده الإمساك ولا التسريح وتحمل - الفاء - حينئذ على الترتيب الذكري - أي إذا علمتم كيفية الطلاق فاعلموا أن حكمه الإمساك أو التسريح - فالامساك في الرجعي والتسريح في غيره ، وإذا كان معنى - مرتين - التفريق مع التثنية كما قال به المحققون - بناء على أنه حقيقة في الثاني ظاهر في الأول إذ لا يقال لمن دفع إلى آخر درهمين مرة واحدة أنه أعطاه مرتين حتى يفرق بينهما وكذا لمن طلق زوجته ثنتين دفعة أنه طلق مرتين - اندفع حديث ارتكاب
خلاف الظاهر في التثنية كما هو ظاهر ، وفيما بعدها أيضا لصحة الترتب ويكون عدم جواز الجمع بين التطليقتين مستفادا من مَرَّتانِ الدالة على التفريق والتثنية ، وعدم الجمع بين الثالثة مستفادا من قوله سبحانه : أَوْ تَسْرِيحٌ حيث رتب على ما قبله بالفاء قيل : إنه مستفاد من دلالة النص هذا ثم من أوجب التفريق ذهب إلى أنه لو طلق غير مفرق وقع طلاقه وكان عاصيا وخالف في ذلك الإمامية وبعض من أهل السنة - كالشيخ أحمد بن تيمية ومن اتبعه - قالوا : لو طلق ثلاثا بلفظ واحد لا تعد له أربعا بالإجماع وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجزه إجماعا ، ومثل ذلك ما لو حلف ليصلين على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ألف مرة فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ألف مرة فإنه لا يكون بارا ما لم يأت بآحاد الألف ، وتمسكا بما أخرجه مسلم. وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال :
كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه.
وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضا لما
أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال : طلقتها ثلاثا قال : في مجلس واحد؟ قال : نعم قال :
فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت فراجعها»
والذي عليه أهل الحق اليوم خلاف ذلك كله.
والجواب عن الاحتجاج بالآية أنها كما علمت ليست نصا في المقصود ، وأما الحديث فقد أجاب عنه جماعة قال السبكي : وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ فكانوا أولا يصدقون في إرادة التأكيد لديانتهم فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع الثلاث ، واعترضه العلامة ابن حجر قائلا : إنه عجيب فإن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 532
صريح مذهبنا تصديق مريد التأكيد بشرطه وإن بلغ في الفسق ما بلغ ، ثم نقل عن بعض المحققين أن أحسنها أنهم كانوا يعتادونه طلقة ثم في زمن عمر رضي اللّه تعالى عنه استعجلوا وصاروا يوقعونه ثلاثا فعاملهم بقضيته وأوقع الثلاث عليهم ، فهو إخبار عن اختلاف عادة الناس لا عن تغيير حكم في مسألة ، واعترض عليه بعدم مطابقته للظاهر المتبادر من كلام عمر لا سيما مع قول ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : الثلاث إلخ ، فهو تأويل بعيد لا جواب حسن فضلا عن كونه أحسن ، ثم قال : والأحسن عندي أن يجاب بأن عمر رضي اللّه تعالى عنه لما استشار الناس علم فيه ناسخا لما وقع قبل فعمل بقضيته وذلك الناسخ إما خبر بلغه أو إجماع وهو لا يكون إلا عن نص ، ومن ثمّ أطبق علماء الأمة عليه ، وأخبار ابن عباس لبيان أن الناسخ إنما عرف بعد مضي مدة من وفاته صلّى اللّه عليه وسلّم انتهى ، وأنا أقول الطلاق الثلاث في كلام ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يحتمل أن يكون بلفظ واحد ، وحينئذ يكون الاستدلال به على المدعى ظاهرا ، ويؤيد هذا الاحتمال ظاهرا ما أخرجه أبو داود عنه إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة وحينئذ يجاب بالنسخ ، ويحتمل أن يكون بألفاظ ثلاثة في مجلس واحد مثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق ، ويحمل ما أخرجه أبو داود على هذا بأن يكون ثلاثا متعلقا - يقال - لا صفة لمصدر محذوف أي طلاقا ثلاثا ولا تمييز للابهام الذي في الجملة قبله ، وبفم واحدة معناه متتابعا وحينئذ يوافق الخبر بظاهره أهل القول الأخير ، ويجاب عنه بأن هذا في الطلاق قبل الدخول فإنه كذلك لا يقع إلا واحدة كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه لأن البينونة وقعت بالتطليقة الأولى فصادفتها الثانية وهي مبانة ، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود والبيهقي عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق
امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتايعوا «1» فيها قال : أجيزوهن عليهم ، وهذه مسألة اجتهادية كانت على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولم يرو في الصحيح أنها رفعت إليه فقال فيها شيئا ، ولعلها كانت تقع في المواضع النائية في آخر أمره صلّى اللّه عليه وسلّم فيجتهد فيها من أوتي علما فيجعلها واحدة ، وليس في كلام ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما تصريح بأن الجاعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، بل في قوله جعلوها واحدة إشارة إلى ما قلنا ، وعمر رضي اللّه تعالى عنه بعد مضي أيام من خلافته ظهر له بالاجتهاد أن الأولى القول بوقوع الثلاث لكنه خلاف مذهبنا ، وهو مذهب كثير من الصحابة حتى ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فقد أخرج مالك والشافعي وأبو داود والبيهقي عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا مع عبد اللّه بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن أبي إياس ابن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير : إن هذا الأمر ما لنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة : أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة رضي اللّه تعالى عنه : الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره ، وقال ابن عباس مثل ذلك ، وإن حملت الثلاث في هذا الخبر على ما كان بلفظ واحد لئلا يخالف مذهب الإمام فإن عنده إذا طلق الرجل امرأته الغير المدخول بها ثلاثا بلفظ واحد وقعن عليها
لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا فلم
___________
(1) قوله : تتايع الناس هو بتاءين فوقيتين بعدهما ألف ومثناة تحتية بعدها عين مهملة وهو الوقوع في الشر من غير تماسك ولا توقف. وفي أصل المؤلف بتاء بعدها باء وهو تصحيف تدبر ا ه إدارة الطباعة المنيرية.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 533
يكن أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة كان هذا الخبر معارضا لما رواه مسلم مؤيدا للنسخ كالخبر الذي
أخرجه الطبراني والبيهقي عن سويد بن غفلة قال : كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي رضي اللّه تعالى عنهما فقال لها : قتل علي كرم اللّه وجهه قالت : لتهنك الخلافة قال : يقتل عليّ وتظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثا قال :
فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت : متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال : لولا أني سمعت جدي - أو حدثني - أبي أنه سمع جدي يقول أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم تحل به حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها ،
وما
أخرجه ابن ماجة عن الشعبي قال : قلت لفاطمة بنت قيس حدثيني عن طلاقك قالت : طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ،
وأما حديث ركانة فقد روي على أنحاء ، والذي صح ما
أخرجه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي «أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك وقال : واللّه ما أردت إلا واحدة فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : واللّه ما أردت إلّا واحدة؟
فقال ركانة : واللّه ما أردت إلا واحدة قال : هو ما أردت فردها عليه»
وهذا لا يصلح دليلا لتلك الدعوى لأن الطلاق فيه كناية ونية العدد فيها معتبرة ، وقد يستدل به على صحة وقوع الثلاث بلفظ واحد لأنه دل على أنه لو أراد ما زاد على الواحدة وقع وإلا لم يكن للاستخلاف فائدة والقياس على شهادات اللعان. ورمي الجمرات قياس في غير محله ، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق وتحصل به البينونة بانقضاء العدة ويتم الغرض إجماعا ، ولعظم أمر اللعان لم يكتف فيه إلا بالإتيان بالشهادات واحدة واحدة مؤكدات بالأيمان مقرونة ، خامستها باللعن في جانب الرجل لو كان كاذبا وفي جانبها بالغضب لو كان صادقا فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر أو يقام الحد ويكفر الذنب ، وأيضا الشهادات الأربع من الرجل منزلة منزلة الشهود الأربعة المطلوبة في رمي المحصنات مع زيادة كما يشير إليه قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النور : 4] مع قوله سبحانه بعده : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ [النور : 6] إلخ فكما أن - شهادة الشهود - متعددة لا يكفي فيها اللفظ الواحد كذلك المنزل منزلتها ، ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي وسره خفي فيحتاط له ويتبع المأثور فيه حذو القذة بالقذة ، وباب الطلاق ليس كهذين البابين على أن من الاحتياط فيه أن نوقعه ثلاثا بلفظ واحد ، ومجلس واحد ، ولا نلغي فيه لفظ الثلاث التي لم يقصد بها إلا إيقاعه على أتم وجه وأكمله ، وما ذكر في مسألة الحلف على أن لا يصلين ألف مرة من أنه لا يبر ما لم يأت بآحاد الألف فأمر اقتضاه القصد والعرف ، وذلك وراء ما نحن فيه كما لا يخفى ، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة
فقد أخرج البيهقي عن بسام الصيرفي قال : سمعت جعفر بن محمد يقول من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد برئت ،
وعن مسلمة بن جعفر الأحمس ، قال : قلت لجعفر بن محمد رضي اللّه تعالى عنهما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونه واحدة يروونها عنكم؟ قال : معاذ اللّه ما هذا من قولنا من طلق ثلاثا فهو كما قال ،
وقد سمعت ما رويناه عن الحسن : وما أخذ به الإمامية يروونه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه مما لا ثبت له والأمر على خلافه ، وقد افتراه على علي كرم اللّه تعالى وجهه شيخ بالكوفة وقد أقر بالافتراء لدى الأعمش رحمه اللّه تعالى فليحفظ ما تلوناه فإني لا أظنك تجده مسطورا في كتاب.
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا في مقابلة الطلاق مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ أي من الصدقات فإن ذلك مناف للإحسان ومثلها في الحكم سائر أموالهن إلا أن التخصيص إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أن عدم حل الأخذ مما عدا ذلك من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 534
باب الأولى ، والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده أو حالا من شَيْئاً لأنه لو أخر عنه كان صفة له ، والتنوين للتحقير ، والخطاب مع الحكام ، وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع ، وقيل : إنه خطاب للأزواج ، ويرد عليه أن فيه تشويشا للنظم الكريم لأن قوله تعالى : إِلَّا أَنْ يَخافا أي الزوجان كلاهما أو أحدهما أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بترك إقامة مواجب الزوجية غير منتظم معه لأن المعبر عنه في الخطاب الأزواج فقط ، وفي الغيبة الأزواج والزوجات ولا يمكن حمله على الالتفات إذ من شرطه أن يكون المعبر عنه في الطريقين واحدا ، وأين هذا الشرط نعم لهذا القيل وجه صحة لكنها لا تسمن ولا تغني ، وهو أن الاستثناء لما كان بعد مضي جملة الخطاب من أعم الأحوال أو الأوقات أو المفعول له على أن يكون المعنى بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف جاز تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة لنكتة وهي أن لا يخاطب مؤمن بالخوف من عدم إقامة حدود اللّه ، وقرىء «تخافا» و«تقيما» بتاء الخطاب وعليها يهون الأمر فإن في ذلك حينئذ تغليب المخاطبين على الزوجات الغائبات ، والتعبير بالتثنية باعتبار الفريقين ، وقرأ حمزة ويعقوب «يخافا» على البناء للمفعول وإبدال أَنْ بصلته من - ألف الضمير - بدل اشتمال كقولك : خيف زيد تركه حُدُودَ اللَّهِ ويعضده قراءة عبد اللّه إلا أن تخافوا وقال ابن عطية : عدي «خاف» إلى مفعولين «أحدهما» أسند إليه الفعل «والآخر» بتقدير حرف جر محذوف فموضع أَنْ جرّ بالجار المقدر ، أو نصب على اختلاف الرأيين وردّه في البحر بأنه لم يذكره النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين ، وأصل «أحدهما» بحرف الجرّ ، وفي قراءة أبيّ «إلا أن يظنا» وهو يؤيد تفسير - الظن بالخوف - فَإِنْ خِفْتُمْ خطاب للحكام لا غير لئلا يلزم تغيير الأسلوب قبل مضي الجملة أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ التي حدّها لهم.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوجين ، وهذا قائم مقام الجواب أي فمروهما فإنه لا جناح فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نفسها واختلعت لا على الزوج في أخذه ولا عليها في إعطائه إياه ،
أخرج ابن جرير عن عكرمة أنه سئل هل كان للخلع أصل؟ قال : كان ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يقول : إن أوّل خلع كان في الإسلام في أخت عبد اللّه بن أبي امرأة ثابت بن قيس «أنها أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : يا رسول اللّه لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها قال زوجها : يا رسول اللّه إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليّ حديقتي قال : ما تقولين؟ قالت : نعم وإن شاء زدته قال : ففرق بينهما»
وفي رواية البخاري - أن المرأة اسمها جميلة وأنها بنت عبد اللّه المنافق - وهو الذي رجحه الحفاظ وكون اسمها زينب جاء من طريق الدارقطني قال الحافظ ابن حجر : فلعل لها اسمين أو أحدهما لقب وإلا فجميلة أصح ، وقد وقع في حديث آخر أخرجه مالك والشافعي وأبو داود أن اسم امرأة ثابت حبيبة بنت سهل ، قال الحافظ : والذي يظهر أنهما قضيتان وقعتا له في امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما حد من الأحكام من قوله سبحانه : الطَّلاقُ مَرَّتانِ إلى هنا فالجملة فذلكة لذلك أوردت لترتيب النهي عليها فَلا تَعْتَدُوها بالمخالفة والرفض وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل للمبالغة في التهديد والواو للاعتراض وفي إيقاع الظاهر موقع المضمر ما لا يخفى من إدخال الروعة وتربية المهابة ، وظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق لأن نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه ظاهرا إلا أن يدل الدليل على خلاف الظاهر ، وعلى أنه لا يجوز أن يكون بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد لأن - في مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ تبعيضية فيكون مفاد الاستثناء حل أخذ شيء مما آتيتموهن حين الخوف ، وأما كلمة ما في قوله سبحانه : فِيمَا افْتَدَتْ فليست ظاهرة في العموم حتى ينافي ظهور الآية في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 535
الحكم المذكور بل فاء التفسير في فَإِنْ خِفْتُمْ يدل ظاهرا على أنه بيان للحكم المفهوم بطريق المخالفة عن الاستثناء ، وفائدته التنصيص على الحكم ونفي الجناح في هذا العقد فإن ثبوت الحل المستفاد من الاستثناء قد يجامع الجناح بأن يكون مع الكراهة ، نعم تحتمل العموم فلا تكون نصا في عدم جواز الخلع بجميع ما يساق ، ولهذا قال عمر رضي اللّه تعالى عنه : اخلعها ولو بقرطها ، ويؤيد الأول ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ثوبان قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» وقال : «المختلعات هن المنافقات»
ويؤيد الثاني ما
روي من بعض الطرق أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال لجميلة «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت : أردها وأزيد عليها فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : أما الزائد فلا»
وهذا وإن دل على نفي الزيادة دون جميع المهر إلا أنه يستفاد منه أن فيما افتدت به ليس على عمومه فيكون المراد به ما يستفاد من الاستثناء وهو البعض ، وأكثر الفقهاء على أن الخلع بلا شقاق وبجميع ما ساق مكروه لكنه نافذ لأن أركان العقد من الإيجاب والقبول وأهلية العاقدين مع التراضي متحقق والنهي لأمر مقارن كالبيع وقت النداء وهو لا ينافي الجواز ، وعلى أنه يصح بلفظ المفادات لأنه تعالى سمي الاختلاع افتداء ، واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق فسخ أو طلاق ، ومن جعله فسخا احتج بقوله تعالى : فَإِنْ طَلَّقَها فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا ، والأظهر أنه طلاق وإليه ذهب أصحابنا وهو قول للشافعية لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض فحينئذ يكون فَإِنْ طَلَّقَها متعلقا بقوله سبحانه الطَّلاقُ مَرَّتانِ تفسيرا لقوله تعالى : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ لا متعلقا بآية الخلع ليلزم المحذور ، ويكون ذكر الخلع اعتراضا لبيان أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى ، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين أو بعد الطلاق الموصوف بما تقدم.
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد ذلك التطليق حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي تتزوّج زوجا غيره ، ويجامعها فلا يكفي مجرد العقد كما ذهب إليه ابن المسيب وخطؤه لأن العقد فهم من زوجا ، والجماع من تنكح ، وبتقدير عدم الفهم ، وحمل النكاح على العقد تكون الآية مطلقة إلا أن السنة قيدتها
فقد أخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وجماعة عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلّا مثل هدبة الثوب فتبسم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»
وعن عكرمة أن هذه الآية نزلت في هذه المرأة واسمها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك وكان نزل فيها فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فيجامعها فإن طلقها بعد ما جامعها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ، وفي ذلك دلالة على أن الناكح الثاني لا بد أن يكون زوجا فلو كانت أمة وطلقت البتة ثم وطئها سيدها لا تحل للأول. وعلى أنه لو اشتراها الزوج من سيدها أو وهبها سيدها له بعد أن بت طلاقها لم يحل له وطؤها في الصورتين بملك اليمين حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وعلى أنّ الولي ليس شرطا في النكاح لأنه أضاف العقد إليها ، والحكمة في هذا الحكم ردع الزوج عن التسرع إلى الطلاق لأنه إذا علم أنه إذا بت الطلاق لا تحل له حتى يجامعها رجل آخر.
ولعله عدوه ارتدع عن أن يطلقها البتة لأنه وإن كان جائزا شرعا لكن تنفر عنه الطباع وتأباه غيرة الرجال ، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند مالك وأحمد والثوري والظاهرية وكثيرين ، واستدلوا على ذلك بما
أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : ألا أخبركم بالتيس

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 536
المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه قال : هو المحلل لعن اللّه المحلل والمحلل له»
وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رحمتهما ، والبيهقي عن سليمان بن يسار أن عثمان رضي اللّه تعالى عنه رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحللها لزوجها ففرق بينهما ، وقال : لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ، وعندنا هو مكروه. والحديث لا يدل على عدم صحة النكاح لما أن المنع عن العقد لا يدل على فساده ، وفي تسمية ذلك محللا ما يقتضي الصحة لأنها سبب الحل ، وحمل بعضهم الحديث على من اتخذه تكسبا أو على ما إذا شرط التحليل في صلب العقد لا على من أضمر ذلك في نفسه فإنه ليس بتلك المرتبة بل قيل : إن فاعل ذلك مأجور فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوج الأول والمرأة أَنْ يَتَراجَعا أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بالزواج بعد مضي العدة إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية التي حدها اللّه تعالى وشرعها وتفسير الظن بالعلم هاهنا قيل : غير صحيح لفظا ومعنى ، أما معنى فلأنه لا يعلم ما في المستقبل يقينا في الأكثر ، وأما لفظا فلأن أن المصدرية للتوقع وهو ينافي العلم ، ورد بأن المستقبل قد يعلم ويتيقين في بعض الأمور وهو يكفي للصحة ، وبأن سيبويه أجاز - وهو شيخ العربية - ما علمت إلا أن يقوم زيد والمخالف له فيه أبو علي الفارسي ، ولا يخفى أن الاعتراض الأول فيما نحن فيه مما لا يجدي نفعا لأن المستقبل وإن كان قد يعلم في بعض الأمور إلا أن ما هنا ليس كذلك وليس المراجعة مربوطة بالعلم بل الظن يكفي فيها وَتِلْكَ إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا حُدُودَ اللَّهِ
أي أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة يُبَيِّنُها بهذا البيان اللائق ، أو سيُبَيِّنُها بناء على أن بعضها يلحقه زيادة كشف في الكتاب والسنة ، والجملة خبر على رأي من يجوّزه في مثل ذلك ، أو حال من حُدُودَ اللَّهِ والعامل معنى الإشارة ، وقرىء «نبينها» بالنون على الالتفات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يفهمون ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العمل - كما قيل - أو لأنهم المنتفعون بالبيان ، أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا يعقله إلا الراسخون ، أو ليخرج غير المكلفين وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي آخر عدتهم فهو مجاز من قبيل استعمال الكل في الجزء إن قلنا : إن الأجل حقيقة في جميع المدة - كما يفهمه كلام الصحاح - وهو الدائر في كلام الفقهاء ، ونقل الأزهري عن الليث يدل على أنه حقيقة في الجزء الأخير ، وكلا الاستعمالين ثابت في الكتاب الكريم ، فإن كان من باب الاشتراك فذاك وإلا فالتجوّز من الكل إلى الجزء الأخير أقوى من العكس - والبلوغ - في الأصل الوصول وقد يقال لدنو منه - وهو المراد في الآية - وهو إمّا من مجاز المشارفة أو الاستعارة تشبيها للمتقارب الوقوع بالواقع ليصح أن يرتب عليه.
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل لأنها حينئذ غير زوجة له ولا في عدّته فلا سبيل له عليها - والإمساك - مجاز عن المراجعة لأنها سببه - والتسريح - بمعنى الإطلاق وهو مجاز عن الترك ، والمعنى فراجعوهن من غير «ضرار» أو خلوهن حتى تنقضي عدّتهن من غير تطويل ، وهذا إعادة للحكم في صورة بلوغهنّ أجلهنّ اعتناء لشأنه ومبالغة في إيحاب المحافظة عليه ، ومن الناس من حمل - الإمساك بالمعروف - على عقد النكاح وتجديده مع حسن المعاشرة - والتسريح بالمعروف - على ترك العضل عن التزوّج بآخر ، وحينئذ لا حاجة إلى القول بالمجاز في «بلغن» ولا يخفى بعده عن سبب النزول ، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أنّ رجلا من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا انقضت عدّتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر يضارها فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً تأكيد للأمر - بالإمساك بالمعروف - وتوضيح لمعناه وهو أدل منه على الدوام والثبات وأصرح في الزجر عما كانوا يتعاطونه ، وضِراراً

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 537
نصب على العلية أو الحالية أي لا ترجعوهن للمضارة أو مضارين ، ومتعلق النهي القيد - واللام - في قوله تعالى :
لِتَعْتَدُوا متعلق ب ضِراراً أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء ، واعترض بأن - الضرار - ظلم - والاعتداء - مثله فيؤول إلى وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ظلما لتظلموا وهو كما ترى ، وأجيب بأنّ المراد - بالضرار - تطويل المدة - وباعتداء - الإلجاء ، فكأنه قيل : لا تمسكوهنّ بالتطويل لتلجئوهنّ إلى الاختلاع والظلم قد يقصد ليؤدّي إلى ظلم آخر ، والمشهور أن هذا الوجه متعين على الوجه الأول في ضِراراً ولا يجوز عليه أن يكون هذا علة لما كان هو له إذ المفعول له لا يتعدّد إلا بالعطف ، أو على البدل - وهو غير ممكن لاختلاف الإعراب - ويجوز أن يكون كذلك على الوجه الثاني ، وجوّز تعلقه بالفعل مطلقا إذا جعلت - اللام - للعاقبة ، ولا ضرر في تعدّي الفعل إلى علة وعاقبة لاختلافهما وإن كانت - اللام - حقيقة فيهما على رأي - وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ المذكور وما فيه من البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها للعذاب ، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن المعاشرة ، ومنافع الدنيا من عدم رغبة النساء به بعد لاشتهاره بهذا الفعل القبيح وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ المنطوية على الأحكام المذكورة في أمر النساء أو جميع آياته وهذه داخلة فيها هُزُواً مهزوءا بها بأن تعرضوا عنها ، وتتهاونوا في المحافظة عليها لقلة اكتراثكم بالنساء وعدم مبالاتكم بهن ، وهذا نهي أريد به الأمر بضده ، أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها. وأخرج ابن أبي عمرة وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : كان الرجل يطلق ثم يقول : لعبت ويعتق ، ثم يقول : لعبت ، فنزلت ، وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ثلاث هزلهنّ جد : النكاح والطلاق والرجعة»
وعن أبي الدرداء «ثلاث اللاعب فيها كالجاد ، النكاح ، والطلاق والعتاق» وعن عمر رضي اللّه تعالى عنه «أربع مقفلات. النذر والطلاق والعتق والنكاح» وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها - والنعمة - إما عامة فعطف.
وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ عليها من عطف الخاص على العام ، وإمّا أن تخص بالإسلام ونبوّة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه ، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضرارا من سنن الجاهلية المخالفة ، كأنه لما قيل : جدّوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه ، ويكون العطف تأكيدا على تأكيد لأن الإسلام ونبوّة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة - وهو قريب من عطف التفسير - ولا بأس أن يسمى عطف التقرير ، قيل : ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن ، ولا يخفى أنه في حيز المنع ، والظرف الأوّل متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوّز حذف الموصول مع بعض الصلة ، ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله - تاء التأنيث - لأنه مبني عليها كما في قوله :
فلو لا رجاء النصر منك وهيبة عقابك قد كانوا لنا كالموارد
والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم ، وما موصولة حذف عائدها من الصلة ، ومَنْ في قوله تعالى : مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ بيانية ، والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين ، أو القرآن والسنة ، والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهارا للفضل وإيماء إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج ، وذاك من قبيل :
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يَعِظُكُمْ بِهِ أي بما أنزل حال من فاعل أَنْزَلَ أو من مفعوله ، أو منهما معا ، وجوّز أن يكون ما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 538
مبتدأ وهذه الجملة خبره ومِنَ الْكِتابِ حال من العائد المحذوف ، وقيل : الجملة معترضة للترغيب والتعليل.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في أوامره والقيام بحقوقه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون فليحذر من جزائه وعقابه ، أو أن عَلِيمٌ بكل شيء فلا يأمر إلا بما فيه الحكمة والمصلحة فلا تخالفوه ، وفي هذا العطف ما يؤكد الأوامر والأحكام السابقة ، وليس هذا من التأكيد المقتضي للفصل ، لأنه ليس إعادة لمفهوم المؤكد ولا متحدا معه.
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن كما يدل عليه السياق. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ أي لا تمنعوهن ذلك ، وأصل العضل الحبس والتضييق ، ومنه عضلت الدجاجة بالتشديد إذا نشبت بيضتها ولم تخرج ، والفعل مثلث العين ، واختلف في الخطاب فقيل - واختاره الإمام - إنه للأزواج المطلقين حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم بعد مضي العدة ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرا لحمية الجاهلية ، وقد يكون ذلك بأن يدس إلى من يخبطهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما ينفر الرجل من الرغبة فيهن ، وعليه يحمل الأزواج على من يردن أن يتزوجنه ، والعرب كثيرا ما تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه ، وقيل - واختاره القاضي - إنه للأولياء ، فقد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود وخلق كثير من طرق شتى عن معقل بن يسار قال : كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ، ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له : يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها ، واللّه لا ترجع إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم اللّه تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، قال : ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه ، وفي لفظ فلما سمعها معقل قال : سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك ، وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجا وخطاب التطليق حينئذ إما أن يتوجه لما توجه له هذا الخطاب ويكون نسبة التطليق للأولياء باعتبار التسبب كما ينبئ عنه التصدي للعضل ، وإما أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلقين ويتحمل تشتيت الضمائر اتكالا على ظهور المعنى ، وقيل - واختاره الزمخشري - إنه لجميع الناس فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعا ، ويسلم من انتشار ضميري الخطاب والتفريق بين
الاسنادين مع المطابقة لسبب النزول ، وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم ، وجعل بعضهم الخطابات السابقة كذلك ، وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقلية والشرعية توزعت بحسبها كما إذا قيل لجماعة معدودة أو غير محصورة. أدوا الزكاة وزوجوا الأكفاء وامنعوا الظلمة كان الكل مخاطبين والتوزع على ما مر ، هذا وليس في الآية على أي وجه حملت دليل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها كما وهم ونهي الأولياء عن العضل ليس لتوقف صحة النكاح على رضاهم بل لدفع الضرر عنهن لأنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن شرعا لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة أو مخافة البطش بهن ، وفي إسناد النكاح إليهن إيماء إلى عدم التوقف وإلا لزم المجاز وهو خلاف الظاهر ، وجوز في أن ينكحن وجهان : الأول أنه بدل اشتمال من الضمير المنصوب قبله. والثاني أن يكون على إسقاط الخافض والمحل إما نصب أو جر على اختلاف الرأيين إِذا تَراضَوْا ظرف - لا تعضلوا - والتذكير باعتبار التغليب والتقييد به لأن المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي ، وقيل ظرف لأن ينكحن. وقوله تعالى : بَيْنَهُمْ ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه بِالْمَعْرُوفِ أي بما لا يكون مستنكرا شرعا ومروءة ، والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل تَراضَوْا أو نعتا لمصدر محذوف أي تراضيا كائنا بِالْمَعْرُوفِ وإما بتراضوا أو بينكحن ، وفي التقييد بذلك إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 539
المثل ليس من باب العضل ذلِكَ إشارة إلى ما فصل والخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن المخاطب وحدة وتذكيرا وغيرهما.
والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بين الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ليطابق ما في سورة الطلاق ، وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عند اللّه تعالى : يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الامتثال إجلالا للّه تعالى وخوفا من عقابه ، ومِنْكُمْ إما متعلق - بكان - على رأي من يرى ذلك وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل يُؤْمِنُ ذلِكُمْ أي الاتعاظ به والعمل بمقتضاه أَزْكى لَكُمْ أي أعظم بركة ونفعا وَأَطْهَرُ أي أكثر تطهيرا من دنس الآثام ، وحذف لكم اكتفاء بما في سابقه ، وقيل : إن المراد أطهر لكم ولهم لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه من المصلحة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فلا رأي إلا الاتباع ، ويحتمل تعميم المفعول في الموضعين ، ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا وفائدة الجملة الحث على الامتثال.
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لاستعطافهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر ، وخصه بعضهم بالوالدات المطلقات وهو المروي عن مجاهد وابن جبير وزيد بن أسلم ، واحتج عليه بأمرين : الأول أن اللّه تعالى ذكر هذه الآية عقيب آيات الطلاق فكانت من تتمتها وإنما أتمها بذلك لأنه إذا حصلت الفرقة ربما يحصل التعادي والتباغض وهو يحمل المرأة غالبا على إيذاء الولد نكاية بالمطلق وإيذاء له وربما رغبت في التزوج بآخر وهو كثيرا ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته فلا جرم أمرهن على أبلغ وجه برعاية جانبه والاهتمام بشأنه ، والثاني أن إيجاب الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص إذ لو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع ، وقال الواحدي :
الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى ولا يفوت الغرض من التعقيب وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا يقتضي التخصيص لأنه باعتبار البعض على أن على ما قيل : ليس في الآية ما يدل على أنه للرضاع ومن قال : إنه له جعل ذلك أجرة لهن إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثا على إعطائها نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله فتدبر حَوْلَيْنِ أي عامين والتركيب يدور على الانقلاب وهو منصوب على الظرفية وكامِلَيْنِ صفته ، ووصف بذلك تأكيدا لبيان أن التقدير تحقيقي لا تقريبي مبني على المسامحة المعتادة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بيان للمتوجه عليه الحكم ، والجار في مثله خبر لمحذوف أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وجوز أن يكون متعلقا - بيرضعن - فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له وكون الرضاع واجبا على الأب لا ينافي أمرهن لأنه للندب أو لأنه يجب عليهن أيضا في الصور السابقة. واستدل بالآية على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا يعتد به بعدهما فلا يعطى حكمه وأنه يجوز أن ينقص عنهما ، وقرىء «أن يتم» بالرفع واختلف في توجيهه فقيل : حملت أن المصدرية على ما أختها في الإهمال كما حملت أختها عليها في الإعمال في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «كما تكونوا يولى عليكم»
على رأي ، وقيل : ان يتموا بضمير الجمع باعتبار معنى من وسقطت الواو في اللفظ لالتقاء الساكنين فتبعها الرسم وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه ولم يعبر به مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب بما فيه من معنى الانتساب

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 540
المشيرة إليه اللام وتسمى هذه الإشارة إدماجا عند أهل البديع وإشارة النص عندنا ، وقيل : عبر بذلك لأن الوالد قد لا تلزمه النفقة وإنما تلزم المولود له كما إذا كانت تحته أمة فأتت بولد فإن نفقته على مالك الأم لأنه المولود له دون الوالد ، وفيه بعد لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد تناولا واحدا وحكم العبيد دخيل في البين رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ أي إيصال ذلك إليهن أي الوالدات أجرة لهن ، واستئجار الأم جائز عند الشافعي وعندنا لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة بِالْمَعْرُوفِ أي بلا إسراف ولا تقتير أو حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف ولهذا فصل وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه ولا ينفي الجواز والإمكان الذاتي فلا ينتهض حجة للمعتزلة ، ونصب وُسْعَها على أنه مفعول ثان - لتكلف - وقرىء ولا تكلف بفتح - التاء - ولا نكلف - بالنون.
لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم وهو الداعي للفصل ، والمضارة مفاعلة من الضرر ، والمفاعلة إما مقصودة والمفعول محذوف أي تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وأن تقول بعد أن ألفها الصبي أطلب له ظئرا مثلا ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها ، أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو يكرهها على الإرضاع وإما غير مقصودة والمعنى لا يضر واحد منهما الآخر بسبب الولد ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا تضار بالرفع فتكون الجملة بمنزلة بدل الاشتمال مما قبلها ، وقرأ الحسن تضار بالكسر وأصله تضارر مكسور الراء مبنيا للفاعل وجوز فتحها مبنيا للمفعول ، ويبين ذلك أنه قرى ء - ولا تضارر ، ولا تضارر - بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها ، وعلى تقدير البناء للمفعول يكون المراد لا نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد ، والباء على كل تقدير سببية ولك أن تجعل فاعل بمعنى فعل والباء سيف خطيب ، ويكون المعنى لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ولا يضر الوالد ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه ، وقرأ أبو جعفر - لا تضار - بالسكون مع التشديد على نية الوقف ، وعن الأعرج - لا تضار - بالسكون والتخفيف ، وهو من ضار يضير ونوى الوقف كما نواه الأول ، وإلا لكان القياس حذف الألف ، وعن كاتب عمر رضي اللّه تعالى عنه - لا تضرر - والتعبير بالولد في الموضعين ، وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للاستعطاف ، والإشارة إلى ما هو كالعلة في النهي ولذا أقام المظهر مقام المضمر ، ومن غريب التفسير ما
رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر رضي اللّه تعالى عنهما أن المعنى - لا تضار - والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها الرضيع - ولا يضار - مولود له بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده ،
وحينئذ تتعين الباء للسببية ، ويجب أن يكون الفعلان مبنيين للمفعول ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين ، وتخرج الآية عما يقتضيه السياق ، وبعيد عن الباقر ، والصادق الإقدام على ما زعمه هذا الراوي الكاذب وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عطف على قوله تعالى : «وعلى المولود له» إلخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء وإبراهيم والشعبي وعبد اللّه بن عتبة وخلق كثير ، ويؤيده أن أل كالعوض من المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو الأكثر في الاستعمال ، وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي ، وبه قال حماد ويؤيده قراءة ابن مسعود ، وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ، وقيل : عصباته وبه قال أبو زيد ، ويروى عن عمر رضي اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 541
عنه ما يؤيده ، وقال الشافعي : المراد وارث الأب وهو الصبي أي مؤن الصبي من ماله إذا مات الأب ، واعترض أن هذا الحمل يأباه أن لا يخص كون المئونة في ماله إذا مات الأب بل إذا كان له مال لم يجب على الأب أجرة الإرضاع بل يجب عليه النفقة على الصبي وأجرة الإرضاع من مال الصبي بحكم الولاية وفيه نظر ، وقيل : المراد الباقي من الأبوين ، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني»
قيل : وهذا يوافق مذهب الشافعي إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولاد ولا يخفى ما في ذلك من البحث لأن - من - إن كانت للبيان لزم التكرار أو الركاكة أو ارتكاب خلاف الظاهر ، وإن كانت للابتداء كان المعنى الباقي غير الأبوين وهو يجوز أن يكون من العصبات أو ذوي الأرحام الذين ليست قرابتهم قرابة الولاد وكون ذلك موافقا لمذهب الشافعي إنما يتأتى إذا تعين كون الباقي ذوي قرابة الولاد وليس في اللفظ ما يفيده كما لا يخفى فَإِنْ أَرادا أي الوالدان فِصالًا أي فطاما للولد قبل الحولين وهو المروي عن مجاهد وقتادة وأهل البيت ، وقيل : قبلهما أو بعدهما وهو مروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وعلى الأول يكون هذا تفصيلا لفائدة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ وبيانا لحكم إرادة عدم الإتمام ، والتنكير للإيذان بأنه - فصال - غير معتاد ، وعلى الثاني توسعة في الزيادة والتقليل في مدة الرضاعة بعد التحديد والتنكير للتعميم ، ويجوز على القولين أن يكون للإشارة إلى عظمه نظرا للصبي لما فيه من مفارقة المألوف عَنْ تَراضٍ متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن وإن كان كونا خاصا أي صادرا عَنْ تَراضٍ وجوز أن يتعلق بأراد مِنْهُما أي الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر الولد بأن تمل الأم أو يبخل الأب وَتَشاوُرٍ في شأن الولد وتفحص أحواله وهو مأخوذ من الشور وهو اجتناء العسل وكذا - المشاورة والمشورة والمشورة - والمراد من ذلك استخراج الرأي وتنكيره للتفخيم.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك وإنما اعتبر رضا المرأة مع أن ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره مراعاة لصلاح الطفل لأن الوالدة لكمال شفقتها على الصبي ربما ترى ما فيه المصلحة له وَإِنْ أَرَدْتُمْ خطاب للآباء هزا لهم للامتثال على تقدير عدم الاتفاق على عدم الفطام أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ بحذف المفعول الأول استغناء عنه أي - تسترضعوا المراضع أولادكم - من أرضعت المرأة طفلا واسترضعتها إياه كقولك أنجح اللّه تعالى حاجتي واستنجحتها إياه ، وقد صرح الإمام الكرماني بأن الاستفعال قد جاء لطلب المزيد كالاستنجاء لطلب الانجاء والاستعتاب لطلب الاعتاب وصرح به غيره أيضا فلا حاجة إلى القول بأنه من رضع بمعنى أرضع ولم يجعل من الأول أول الأمر لعدم وجوده في كلامهم فإنه بمعزل عن التحقيق ، وقيل : إن استرضع إنما يتعدى إلى الثاني بحرف الجر يقال استرضعت المرأة للصبي والمراد أن تَسْتَرْضِعُوا المراضع «لأولادكم» فحذف الجار كما في قوله تعالى : وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين : 3] أي كالوا لهم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي في ذلك ، واستدل بالإطلاق على أن للزوج أن - يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع - وهو مذهب الشافعية ، وعندنا أن الام أحق برضاع ولدها وأنه ليس للأب أن يسترضع غيرها إذا رضيت أن ترضعه لقوله تعالى : وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وبه يخصص هذا الإطلاق وإلى ذلك يشير كلام ابن شهاب إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ أي ضمنتم والتزمتم أو أردتم إتيانه لئلا يلزم تحصيل الحاصل ، وقرأ ابن كثير أتيتم من أتى إليه إحسانا إذا فعله ، وشيبان عن عاصم «أوتيتم» أي ما آتاكم اللّه تعالى وأقدركم عليه من الأجرة بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجوز أن يتعلق بآتيتم وأن يكون حالا من فاعله أو فاعل الفعل الذي قبله ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وليس التسليم
شرطا لرفع الإثم بل هو الأولى والأصلح للطفل فشبه ما هو من شرائط الأولية بما هو من شرائط الصحة للاعتناء به فاستعير له عبارته ، وقيل :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 542
لا حاجة إلى هذا لأن نفي الإثم بتسليم الأجرة مطلقا غير مقيد بتقديمها عليه يعني لا جناح عليكم في الاسترضاع لو لم تأثموا بالتعدي في الأجرة وتظلموا الأجير ، وفيه تأمل لأن الإثم إذا لم يسلم بعد إنما هو بالتعدي ، والاسترضاع كان قبل خاليا عما يوجب الإثم وَاتَّقُوا اللَّهَ في شأن مراعاة الأحكام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم عليها ، وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة ، وفي الآية من التهديد ما لا يخفى وَالَّذِينَ مبتدأ.
يُتَوَفَّوْنَ أي تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض يقال : توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أي قبضته وأخذته. وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه فيما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عنه والمفضل عن عاصم يُتَوَفَّوْنَ بفتح - الياء - أي يستوفون آجالهم فعلى هذا يقال للميت متوفى بمعنى مستوف لحياته ، واستشكل بما حكي أن أبا الأسود كان خلف جنازة فقال له رجل من المتوفي؟ بكسر الفاء فقال : اللّه تعالى وكأن هذا أحد الأسباب لعلي كرم اللّه تعالى وجهه على أن أمره بوضع كتاب النحو ، وأجاب السكاكي بأن سبب التخطئة أن السائل كان ممن لم يعرف وجه صحته فلم يصلح للخطاب به مِنْكُمْ في محل نصب على الحال من مرفوع يُتَوَفَّوْنَ و- من - تحتمل التبعيض وبيان الجنس والخطاب لكافة الناس بتلوين الخطاب وَيَذَرُونَ أي يتركون ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل اسم الفاعل ولا اسم المفعول وجاء الماضي على شذوذ أَزْواجاً أي نساء لهم.
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ خبر عن الذين والرابط محذوف أي لهم أو بعدهم ، ورجح الأول بقلة الإضمار وبما في اللام من الإيماء إلى أن العدة حق المتوفى ، وقيل : خبر لمحذوف أي أزواجهم يتربصن ، والجملة خبر الذين وبعض البصريين قدر مضافا في صدر الكلام أي أزواج الذين وهن نساؤهم ، وفيه أنه لا يبقى - ليذرون أزواجا - فائدة جديدة يعتد بها ، ويروى عن سيبويه - إن الذين - مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الذين إلخ ، وحينئذ يكون جملة - يتربصن - بيانا لذلك الحكم وفيه كثرة الحذف ، وذهب بعض المحققين إلى أن الَّذِينَ مبتدأ ويَتَرَبَّصْنَ خبره والرابط حاصل بمجرد عود الضمير إلى الأزواج لأن المعنى يتربص الأزواج اللاتي تركوهن ، وقد أجاز الأخفش والكسائي مثل ذلك ولولا أن الجمهور على منعه لكان من الحسن بمكان أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لعل ذلك العدد لسر تفرد اللّه تعالى بعلمه أو علمه من شاء من عباده ، والقول - بأنه لعل المقتضي لذلك أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشرة استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها مع ما فيه من المنافاة
للحديث الصحيح «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه تعالى ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح»
لأن ظاهره أن نفخ الروح بعد هذه المدة مطلقا - لا يروي الغليل ولا يشفي العليل ، وتأنيث العشر قيل : لأن التمييز المحذوف هو الليالي وإلى ذلك ذهب ربيعة ويحيى ابن سعيد ، وقيل : بل هو باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله ذهابا إلى الأيام حتى أنهم يقولون - كما حكى الفراء - صمنا عشرا من شهر رمضان مع أن الصوم إنما يكون في الأيام ويشهد له قوله تعالى :
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً [ط : 103] ثم إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه : 104] وذكر أبو حيان أن قاعدة تذكير العدد وتأنيثه إنما هي إذا ذكر المعدود ، وأما عند حذفه فيجوز لأمران مطلقا ولعله أولى مما قيل ، واستدل بالآية على وجوب العدة على المتوفى عنها سواء كان مدخولا بها أو لا ، وذهب ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إلى أنه لا عدة للثانية وهو محجوج بعموم اللفظ كما ترى ، وشملت الآية المسلمة والكتابية وذات الأقراء والمستحاضة والآيسة والصغيرة والحرة والأمة -

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 543
كما قاله الأصم - والحامل وغيرها لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة والإجماع خص الحامل عنه لقوله تعالى :
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق : 4] وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس أنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا
وهو لا ينافي الإجماع بل فيه عمل بمقتضى الآيتين ، واستدل بعضهم بها على أن العدة من الموت حيث علقت عليه فلو لم يبلغها موت الزوج إلا بعد مضي العدة حكم بانقضائها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون والشافعي في أحد قوليه ، ويؤيده أنّ الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدّتها هذه المدّة ، وقيل : إنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تنقضي عدّتها بهذه الأيام لما روي «امرأته المفقود امرأته حتى يأتيها تبين موته أو طلاقه» فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها القادرون عليهن ، وقيل : الخطاب للأولياء ، وقيل : لجميع المسلمين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مما حرم عليهنّ في العدّة ، وفي التقييد إشارة إلى علة النهي بِالْمَعْرُوفِ أي بالوجه الذي يعرفه الشرع ولا ينكره ، وقيد به للإيذان بأنه لو فعلن خلاف ذلك فعليهم أن يكفوهنّ ، فإن قصروا أثموا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به «والظاهر» أنّ المخاطب في سابقه. وجوّز أن يكون خطابا للقادرين من الأولياء والأزواج فيكون فيه تغليبان - الخطاب على الغيبة - والذكور على الإناث - وفيه تهديد للطائفتين ، ويحتمل أن يكون وعدا ووعيدا لهما وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الرجال المبتغون للزواج.
فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ بأن يقول أحدكم - كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - إني أريد التزوج ، وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها ، وإن من شأني النساء ، ولوددت أن اللّه تعالى كتب لي امرأة صالحة ، أو يذكر للمرأة فضله وشرفه ،
فقد روي «أنّ رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد كانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من اللّه تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها وكان ذلك تعريضا لها»
والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه وجانب ، واستعمل في أن تذكر شيئا مقصودا في الجملة بلفظه الحقيقي أو المجازي أو الكنائي ليدل بذلك الشيء على شيء آخر لم يذكر في الكلام مثل أن تذكر المجيء للتسليم بلفظه ليدل على التقاضي وطلب العطاء ، وهو غير الكناية لأنها أن تذكر معنى مقصودا بلفظ آخر يوضع له لكن استعمل في الموضوع - لا على وجه القصد - بل لينتقل منه إلى الشيء المقصود ، فطويل النجاد مستعمل في معناه لكن لا يكون المقصود بالإثبات بل لينتقل منه إلى طول القامة ، وقرّر بعض المحققين أن بينهما عموما من وجه ، فمثل قول المحتاج : جئتك لأسلم عليك كناية وتعريض ، ومثل - زيد طول النجاد - كناية لا تعريض ، ومثل قولك : في عرض من يؤذيك وليس المخاطب - آذيتني فستعرف - تعريض بتهديد المؤذي لا كناية «والمشهور» تسمية التعريض تلويحا لأنه يلوح منه ما تريده ، وعدوا جعل السكاكي له اسما للكناية البعيدة لكثرة الوسائط مثل - كثير الرماد - للمضياف اصطلاحا جديدا «وفي الكشف» وقد يتفق عارض يجعل الكناية في حكم المصرح به كما في الاستواء على العرش وبسط اليد ، ويجعل الالتفات في التعريض نحو المعرض به كما في قوله تعالى : وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة : 41] فلا ينتهض نقضا على الأصل «والخطبة» - بكسر الخاء - قيل : الذكر الذي يستدعى به إلى عقد النكاح أخذا من الخطاب ، وهو توجيه الكلام للإفهام - وبضمها - الوعظ المتسق على ضرب من التأليف ، وقيل : إنهما اسم الحالة غير أنّ - المضمومة - خصت بالموعظة - والمكسورة - بطلب المرأة والتماس نكاحها - وأل - في النِّساءِ للعهد ، والمعهودات هي الأزواج المذكورة في قوله تعالى : وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ولا يمكن حملها على الاستغراق لأنّ من النساء من يحرم التعريض بخطبتهن في العدّة - كالرجعيات والبائنات - في قول ، والأظهر عند الشافعي رضي اللّه تعالى عنه جوازه في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 544
لِعِدَّتِهِنَّ قياسا على معتدات الوفاة لا يقال : كان ينبغي أن تقدم هذه الآية على قوله تعالى : فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ لأنّ ما فيها من أحكام النساء قبل البلوغ إلى الأجل لأنا نقول : لا نسلم ذلك ، بل هي من أحكام الرجال بالنسبة إليهن ، فكان المناسب أن يذكر بعد الفراغ من أحكامهنّ قبل البلوغ من الأجل وبعده ، واستدل الكيا بالآية على نفي الحدّ بالتعريض في القذف لأنه تعالى جعل حكمه مخالفا لحكم التصريح ، وأيد بما
روي «من عرض عرضنا ، ومن مشي على الكلا ألقيناه في النهر»
واستدل بها على جواز نكاح الحامل من الزنا إذ لا عدة لها ، ولا يخفى ما فيه أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي أسررتم في قلوبكم من نكاحهنّ بعد مضي عدتهنّ ولم تصرحوا بذلك لهنّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهنّ ، فلهذا رخص لكم ما رخص ، وفيه نوع ما من التوبيخ.
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا استدراك عن محذوف دل عليه سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي فاذكروهن وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم ، وجواز أن يكون استدراكا عن لا جُناحَ فإنه في معنى - عرّضوا بخطبتهنّ - أو أكنوا في أنفسكم وَلكِنْ إلخ ، وحمله على الاستدراك على ما عنده - ليس بشي ء - وإرادة النكاح من - السر - بواسطة إرادة الوطء منه إذ قد تعارف إطلاقه عليه لأنه يسر ، ومنه قول امرئ القيس :
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن - السر - أمثالي
وإرادة العقد من ذلك لما بينهما من السببية والمسببية ، ولم يجعل من أول الأمر عبارة عن العقد لأنه لا مناسبة بينهما في الظاهر ، والمروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن - السر. هنا الجماع ، وتوهم الرخصة حينئذ في المحظور الذي هو التصريح - بالنكاح - مما لا يكاد يخطر ببال ، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وروي عن الحبر أيضا أنه العهد على الامتناع عن التزوج بالغير - وهو على هذه الأوجه نصب على المفعولية - وجوّز انتصابه على الظرفية ، أي لا تُواعِدُوهُنَّ في السر ، على أن المراد بذلك المواعدة بما يستهجن.
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وهو التعريض الذي عرف تجويزه ، والمستثنى منه ما يدل عليه النهي أي لا تُواعِدُوهُنَّ نكاحا مواعدة ما إِلَّا مواعدة معروفة أو إِلَّا مواعدة بقول معروف ، أو لا تقولوا في وعد الجماع أو طلب الامتناع عن الغير إِلَّا قولكم قَوْلًا مَعْرُوفاً والاستثناء في جميع ذلك متصل ، وفي الكلام على الوجه الأوّل تصريح بما فهم من وَلا جُناحَ على وجه يؤكد ذلك الرفع وهو نوع من الطرد - والعكس حسن - وعلى الأخيرين تأسيس لمعنى ربما يعلم بطريق المقايسة إذ حملوا التعريض - فيهما على - التعريض - بالوعد لها أو الطلب منها ، وهو غير - التعريض - السابق لأنه بنفس «الخطبة» وإذا أريد الوجه الرابع وهو الأخير من الأوجه السابقة احتمل الاستثناء الاتصال والانقطاع ، والانقطاع في المعنى أظهر على معنى لا تُواعِدُوهُنَّ بالمستهجن وَلكِنْ واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في المجاهرة من حسن المعاشرة والثبات إن وقع النكاح ، وبعض قال بذلك إلا أنه جعل الاستثناء من سِرًّا وضعف بأنه يؤدّي إلى كون التعريض موعودا ، وجعله من قبيل «إلا من ظلم» يأبى أن يكون استثناء منه بل من أصل الحكم.
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي لا تقصدوا قصدا جازما عقد عُقْدَةَ النِّكاحِ وفي النهي عن مقدمة الشيء نهي عن الشيء على وجه أبلغ ، وصح تعلق النهي به لأنه من الأفعال الباطنة الداخلة تحت الاختيار ولذا يثاب على النية ، والمراد به العزم المقارن لأن من قال : لا تعزم على السفر في صفر مثلا لم يفهم منه النهي عن عزم فيه متأخر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 545
الفعل إلى ربيع ، وذلك لأن القصد الجازم حقه المقارنة وتقدير المضاف لصحة التعلق لأنه لا يكون إلا على الفعل ، و- العقدة - ليست به لأنها موضع العقد وهو ما يعقد عليه ولم يقدره بعضهم ، وجعل الإضافة بيانية فالعقدة حينئذ نفس النكاح وهو فعل ، ويحتمل أن يكون الكلام من باب حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء : 23] وعلى كل تقدير هي مفعول به ، وجوز أن تكون مفعولا مطلقا على أن معنى - لا تعزموا - لا تعقدوا فهو على حد - قعدت جلوسا - وأن الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله ، وقيل : المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح فيكون النهي عن نفس الفعل لا عن قصده كما في الأول ، وبهذا ينحط عنه ، ومن الناس من حمل العزم على القطع ضد الوصل وجعل المعنى لا تقطعوا عقدة نكاح الزوج المتوفى بعقد نكاح آخر ولا حاجة حينئذ إلى تقدير مضاف أصلا ، وفيه بحث أما أولا فلأن مجيء العزم بمعنى القطع ضد الوصل في اللغة محل تردد ، وقول الزمخشري : حقيقة العزم القطع بدليل
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروي «لم يبيت»
ليس بنص في ذلك بل لا يكاد يصح حمله إذ الدليل لا يساعده إذ لا خفاء في أن المراد بعزم الصوم ليس قطعه بمعنى الفك بل الجزم وقطع التردد ، وأما ثانيا فلأنه لا معنى للنهي عن قطع عقدة نكاح الزوج الأول حتى ينهى عنه إذ لا تنقطع عقدة نكاح المتوفى بعقد نكاح آخر لأن الثاني لغو ، ومن هنا قيل : إن المراد لا تفكوا عقدة نكاحكم ولا تقطعوها ، ونفي القطع عبارة عن نفي التحصيل فإن تحصيل الثمرة من الشجرة بالقطع ، وهذا كما ترى مما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام اللّه تعالى العزيز حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي ينتهي ما كتب وفرض من العدة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك فَاحْذَرُوهُ ولا تعزموا عليه أو - احذروه - بالإجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعا عنه بعد تحققه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لمن يقلع عن عزمه أو ذنبه خشية منه حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يتوهم من تأخيرها أن ما نهي عنه لا يستتبع المؤاخذة وإعادة العامل اعتناء بشأن الحكم ، ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة رحمته تبارك اسمه لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا تبعة من مهر وهو الظاهر ، وقيل : من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس ولو كان في الحيض ، وقيل : كان النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كثيرا ما ينهي عن الطلاق فظن أن فيه جناحا فنفى ذلك إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أي غير ماسين لهن أو مدة عدم المس وهو كناية عن الجماع ، وقرأ حمزة والكسائي - «تماسوهن» - والأعمش من - «قبل أن تمسوهن» - وعبد اللّه من قبل - «أن تجامعوهن» - أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي حتى تَفْرِضُوا أو إلا أن تَفْرِضُوا على ما في شروح الكتاب ، وفَرِيضَةً فعيلة بمعنى مفعول نصب على المفعول به ، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية فصار بمعنى المهر فلا
تجوز ، وجوز أن يكون نصبا على المصدرية ، وليس بالجيد والمعنى أنه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر أصلا إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا في حال الفرض فإن عليه حينئذ نصف المسمى كما سيصرح به ، وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل ، وأما إذا كان بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى ، وفي صورة عدمها تمام مهر المثل ، هذه أربع صور للمطلقة نفت الآية بمنطوقها الوجوب في بعضها ، واقتضى مفهومها الوجوب في الجملة في البعض الآخر ، قيل : وهاهنا إشكال قوي ، وهو أن ما بعد أو التي بمعنى حتى التي بمعنى إلى نهاية للمعطوف عليه فقولك لألزمنك أن تقضيني حقي معناه أن اللزوم ينتهي إلى الإعطاء فعلى قياسه يكون فرض الفريضة نهاية عدم المساس لا عدم الجناح ، وليس المعنى عليه ، وأجيب بأن ما بعدها عطف على الفعل وهو مرتبط بما قبله فهو معنى مقيد به فكأنه قيل : أنتم ما لم تمسوهن بغير جناح وتبعة إلا إذا - فرضت الفريضة - فيكون الجناح لأن المقيد في المعنى ينتهي برفع قيده فتأمل ، ومن الناس من جعل كلمة - أو - عاطفة لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزوم ، ولم حينئذ لنفي أحد الأمرين لا بعينه ، وهو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم أي ما لم يكن منكم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 546
مسيس ، ولا فرض على حد وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان : 24] واعترضه القطب بأنه يوهم تقدير حرف النفي فيصير ما لم تمسوهن وما لم تفرضوا فيكون الشرط حينئذ أحد النفيين لا نفي أحد الأمرين فيلزم أن لا يجب المهر إذا عدم المسيس ووجد الفرض أو عدم الفرض ووجد المسيس ، ولا يخفى أنه غير وارد ، ولا حاجة إلى القول بأن أو بمعنى الواو كما في قوله تعالى : أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات : 147] على رأي وَمَتِّعُوهُنَّ أي ملكوهن ما يتمتعن به وذلك الشيء يسمى متعة وهو عطف على ما هو جزاء في المعنى كأنه قيل : إن طلقتم النساء فلا جناح ومتعوهن ، وعطف الطلبي على الخبري على ما في الكشف لأن الجزاء جامع جعلهما كالمفردين أي الحكم هذا وذاك ، أو لأن المعنى فلا جناح وواجب هذا ، أو فلا تعزموا ذلك ومتعوهن ، وجوز أن يكون عطفا على الجملة الخبرية عطف القصة على القصة وأن يكون اعتراضا بالواو واردا لبيان ما يجب للمطلقات المذكورات على أزواجهن بعد
التطليق ، والعطف على محذوف ينسحب عليه الكلام أي فطلقوهن ومتعوهن يأباه الذوق السليم إذ لا معنى لقولنا إذا طلقتم النساء فطلقوهن إلا أن يكون المقصود المعطوف ، والحكمة في إعطاء المتعة جبر إيحاش الطلاق ، والظاهر فيها عدم التقدير لقوله تعالى : عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ أي على كل منهما مقدار ما يطيقه ويليق به كائنا ما كان ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة ، وعن ابن عمر أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما ، وقال الإمام أبو حنيفة : هي درع وخمار وملحفة على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها من ذلك فلها الأقل من نصف مهر المثل ، ومن المتعة ولا ينتقص من خمسة دراهم ، والموسع من يكون ذا سعة وغنى من أوسع الرجل إذا كثر ماله واتسعت حاله ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ من يكون ضيق الحال من - أقتر - إذا افتقر وقلّ ما في يده وأصل الباب الإقلال ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار حال المتعة بالنظر إلى حال المطلق - إيسارا وإقتارا - والجمهور على أنها في موضع الحال من فاعل مَتِّعُوهُنَّ ، والرابط محذوف أي منكم ، ومن جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه أي على موسعكم إلخ استغنى عن القول بالحذف.
وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر وابن ذكوان قَدَرُهُ بفتح الدال ، والباقون بإسكانها وهما لغتان فيه ، وقيل : - القدر - بالتسكين الطاقة وبالتحريك المقدار ، وقرئ قَدَرُهُ بالنصب ووجه بأنه مفعول على المعنى لأن معنى مَتِّعُوهُنَّ إلخ ليؤد كل منكم - قدر - وسعه قال أبو البقاء : وأجود من هذا أن يكون التقدير فأوجبوا على الموسع قَدَرُهُ مَتاعاً اسم مصدر أجري مجراه أي تمتيعا بِالْمَعْرُوفِ أي متلبسا بالوجه الذي يستحسن وهو في محل الصفة - لمتاعا - وحَقًّا أي ثابتا صفة ثانية له يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا أي حق ذلك حقا عَلَى الْمُحْسِنِينَ متعلق بالناصب للمصدر أو به أو بمحذوف وقع صفة ، والمراد بالمحسنين من شأنهم الإحسان أو الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع وإنما سموا بذلك اعتبارا للمشارفة ترغيبا وتحريضا.
وقال الإمام مالك : المحسنون المتطوعون وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب وعندنا هي واجبة للمطلقات في الآية مستحبة لسائر المطلقات ، وعند الشافعي رضي اللّه تعالى عنه في أحد قوليه هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول ، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى : وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ لأنه يحمل المطلق على المقيد قال بالقياس ، وجعله مقدما على المفهوم لأنه من الحجج القطعية دونه ، وأجيب عما قاله مالك بمنع قصر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 547
المحسن على المتطوع بل هو أعم ومنه ومن القائم بالواجبات فلا ينافي الوجوب فلا يكون صارفا للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ حقا وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً بيان لحكم التي سمي لها مهر وطلقت قبل المسيس ، وجملة وَقَدْ إلخ إما حال من فاعل طَلَّقْتُمُوهُنَّ أو من مفعوله ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها ، وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضا فيما سبق فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فلهن نصف ما قدرتم وسميتم لهن من المهر ، أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح في أن المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر ، وقرى ء - فنصف - بالنصب على معنى فأدّوا نصف ولعل تأخير حكم التسمية مع أنها الأصل في العقد والأكثر في الوقوع من باب التدرج في الأحكام ، وذكر الأشق فالأشق ، والقول بأن ذلك لما
أن الآية الكريمة نزلت في أنصاري تزوج امرأة من بني حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له عليه الصلاة والسلام : «أمتعتها؟ قال : لم يكن عندي شيء قال : متعها بقلنسوتك»
مما لا أراه شيئا على أن في هذا الخبر مقالا حتى قال الحافظ ولي الدين العراقي : لم أقف عليه إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ
استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي فلهن نصف المفروض معينا في كل حال إلا حال عفوهن أي المطلقات المذكورات فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه والصيغة في حذ ذاتها تحتمل التذكير والتأنيث ، والفرق بالاعتبار فإن الواو في الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفي الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم تؤثر فيه إِنْ هنا مع أنها ناصبة لا مخففة بدليل عطف المنصوب عليه من قوله تعالى : «أو يعفو» وقرأ الحسن بسكون الواو فهو على حد.
أبى اللّه أن أسمو بأم ولا أب الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهو الزوج المالك لعقد النكاح وحله وهو التفسير المأثور عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا - وبه قال جمع من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم - ومعنى عفوه تركه تكرما ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه كملا على ما هو المعتاد أو إعطاؤه تمام المهر المفروض قبل بعد الطلاق كما فسره بذلك ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وتسمية ذلك عفوا من باب المشاكلة وقد يفسر بالزيادة والفضل كما في قوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة : 219] وقول زهير :
حزما وبرا للإله وشيمة تعفو على خلق المسيء المفسد
فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أي فلهن هذا المقدار بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه لا يكون إذ ذاك لهن القدر المذكور بل ينتفي أو ينحط ، أو في حال عفو الزوج فإنه وقتئذ تكون لهن الزيادة هذا على تقدير الأول في فَنِصْفُ غير ملاحظ فيه الوجوب ، وأما على التقدير الثاني فلا بد من القطع بكون الاستثناء منقطعا لأن في صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه كذا قيل فليتدبر ، وذهب ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه وعائشة وطاوس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري والشافعي رضي اللّه تعالى عنه في قوله القديم إلى - أن الذي بيده عقدة النكاح - هو الولي الذي لا تنكح المرأة إلا بإذنه فإن له العفو عن المهر إذا كانت المنكوحة صغيرة في رأي البعض ومطلقا في رأي الآخرين وإن أبت ، والمعول عليه هو المأثور وهو الأنسب بقوله تعالى : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن إسقاط حق الغير ليس في شيء من التقوى وهذا خطاب للرجال والنساء جميعا ، وغلب المذكر لشرفه وكذا فيما بعد - واللام - للتعدية ، ومن قواعدهم التي قلّ من يضبطها أن أفعل التفضيل وكذا فعل التعجب يتعدى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 548
بالحرف الذي يتعدى به فعله كأزهد فيه من كذا وإن كان من متعد في الأصل فإن كان الفعل يفهم علما أو جهلا تعدى - بالباء - كأعلم بالفقه وأجهل بالنحو ، وإن كان لا يفهم ذلك تعدى باللام كأنت أضرب لعمرو إلا في باب الحب والبغض فإنه يتعدى إلى المفعول - بفي - كهو أحب في بكر وأبغض في عمرو وإلى الفاعل المعنوي بإلى زيد أحب إلى خالد من بشر أو أبغض إليه منه ، وقرىء وأن يعفو - بالياء - وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ عطف على الجملة الاسمية المقصود منها الأمر على أبلغ وجه أي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشيء المنسي ، والظرف إما متعلق بتنسوا أو بمحذوف وقع حالا من الفضل وحمل الفضل على الزيادة إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى : وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة : 228] في الدرك الأسفل من الضعف ، وقيل : إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة للفضل على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته والفضل بمعنى الإحسان أي - لا تنسوا الإحسان - الكائن بينكم من قبل وليكن منكم على ذكر حتى يرغب كل في العفو مقابلة لإحسان صاحبه عليه ، وليس بشيء لأنه على ما فيه يرد عليه أن لا إحسان في الغالب بين المرأة وزوجها قبل الدخول ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه - ولا تناسوا
- وبعضهم - ولا تنسوا - بسكون الواو.
إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يكاد يضيع ما عملتم حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال كما ينبىء عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو ، والنهي عن ترك الفضل لأنها تهيئ النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن الفحشاء والمنكر ، أو ليجمع بين التعظيم لأمر اللّه تعالى على خلقه ، وقيل : أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذانا بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن أولئك فكأنه قيل : لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن وتوجهوا إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين وَالصَّلاةِ الْوُسْطى أي المتوسطة بينها أو الفضلى منها ، وعلى الأول استدل بالآية على أن الصلوات خمس بلا زيادة دون الثاني ، وفي تعيينها أقوال «أحدها» أنها الظهر لأنها تفعل في وسط النهار ، «الثاني»
أنها العصر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل وهو المروي عن علي
والحسن وابن عباس وابن مسعود وخلق كثير وعليه الشافعية «والثالث» أنها المغرب ، وعليه قبيصة بن ذؤيب لأنها وسط في الطول والقصر «والرابع» أنها صلاة العشاء لأنها بين صلاتين لا يقصران «والخامس» أنها الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعين وهو المروي عن معاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد واختاره الشافعي رضي اللّه تعالى عنه نفسه ، وقيل : المراد بها صلاة الوتر ، وقيل : الضحى ، وقيل : عيد الفطر ، وقيل : عيد الأضحى ، وقيل : صلاة الليل ، وقيل : صلاة الجمعة ، وقيل : الجماعة ، وقيل : صلاة الخوف «وقيل ، وقيل ..».
والأكثرون صححوا أنها صلاة العصر لما
أخرج مسلم من حديث عليّ كرم اللّه تعالى وجهه «أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللّه تعالى بيوتهم نارا»
وخصت بالذكر لأنها تقع في وقت اشتغال الناس لا سيما العرب ، قال بعض المحققين : والذي يقتضيه الدليل من بين هذه الأقوال أنها الظهر ونسب ذلك إلى الامام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، وبيان ذلك أن سائر الأقوال ليس لها مستند يقف له العجلان سوى القول بأنها صلاة العصر ، والأحاديث الواردة بأنها هي قسمان : مرفوعة وموقوفة ، والموقوفة لا يحتج بها لأنها أقوال صحابة عارضها أقوال صحابة آخرين أنها غيرها ، وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول صحابي آخر قطعا وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به عند عدم المعارضة ، وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده عن مقال والسالم من المقال

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 549
قسمان : مختصر بلفظ الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ومطول فيه قصة وقع في ضمنها هذه الجملة ، والمختصر مأخوذ من المطول اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما ستسمع ، والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال فلا يصح الاستدلال بها
فقوله من حديث مسلم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر»
فيه احتمالان ، أحدهما أن يكون لفظ صلاة العصر ليس مرفوعا بل مدرج في الحديث أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه كما وقع ذلك كثيرا في أحاديث ، ويؤيده ما
أخرجه مسلم من وجه آخر عن علي كرم اللّه تعالى وجهه بلفظ «حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس»
يعني العصر ، الثاني على تقدير أنه ليس بمدرج يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف لا بيانا ولا بدلا والتقدير شغلونا عن الصلاة الوسطى وصلاة العصر ، ويؤيد ذلك أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم يشغل يوم الأحزاب عن صلاة العصر فقط بل شغل عن الظهر والعصر معا كما ورد من طريق أخرى فكأنه أراد بالصلاة الوسطى الظهر وعطف عليها العصر ، ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى الاستدلال بالحديث والاحتمال الأول أقوى للرواية المشار إليها ، ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تفسير أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا ، وقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه ، ثم على تقدير عدم الاحتمالين فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر ، وإذا تعارض الحديثان ، ولم يمكن الجمع طلب الترجيح ، وقد ذكر الأصوليون أن من المرجحات أن يذكر السبب ، والحديث الوارد في أنها الظهر مبين فيه سبب النزول ومساق لذكرها بطريق القصد بخلاف
حديث «شغلونا» إلخ
فوجب الرجوع إليه ، وهو ما
أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن زيد بن ثابت قال : «كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ، ولم تكن صلاة أشد على الصحابة منها فنزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى »
وأخرج أحمد من وجه آخر عن زيد أيضا «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل اللّه تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلخ فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم»
ويؤكد كونها غير العصر ما
أخرجه مسلم وغيره من طرق عن أبي يونس مولى عائشة قال : «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فأملت عليّ - حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر - وقالت : سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم»
والعطف يقتضي المغايرة ، وأخرج مالك وغيره من طرق أيضا عن عمرو بن رافع قال : «كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأملت عليّ - حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر - وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن عبد اللّه بن رافع أنه كتب لأم سلمة مصحفا فأملت عليه مثل ما أملت عائشة وحفصة» وأخرج ابن أبي داود عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قرأ كذلك ، وأخرج أيضا عن أبي رافع مولى حفصة قال : «كتبت مصحفا لحفصة فقالت اكتب - حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر - فلقيت أبيّ بن كعب فقال : هو كما قالت أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا» وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر هذا ، وعن الربيع بن خيثم وأبي بكر الوراق أنها إحدى الصلوات الخمس ولم يعينها اللّه تعالى وأخفاها في جملة «الصلوات» المكتوبة ليحافظوا على جميعها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان. واسمه الأعظم في جميع الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وقرأ عبد اللّه وعلي الصَّلاةِ الْوُسْطى
وروي عن عائشة وَالصَّلاةِ بالنصب على المدح والاختصاص ، وقرأ نافع - الوصطى - بالصاد وَقُومُوا لِلَّهِ أي في الصلاة قانِتِينَ أي مطيعين كما هو أصل معنى القنوت عند بعض وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أو ذاكرين له تعالى في القيام بناء على أن القنوت هو الذكر فيه ، وقيل : خاشعين ، وقيل : مكملين الطاعة ومتميها على أحسن وجه من غير إخلال بشيء مما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 550
ينبغي فيها ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال : من القنوت طول الركوع وغض البصر والخشوع وأن لا يلتفت وأن لا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا ، وفسره البخاري في صحيحه بساكتين لما أخرج هو ومسلم وأبو داود وجماعة عن زيد بن أرقم قال «كنا نتكلم على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ، ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود ، ولعل الأوضح منه ما
أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهما قال : أتيت النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد عليّ فلما قضى الصلاة قال : «إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانِتِينَ لا نتكلم في الصلاة»
وقال ابن المسيب :
المراد به القنوت في الصبح وهو رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، والجار والمجرور متعلق بما قبله أو بما بعده فَإِنْ خِفْتُمْ من عدو أو غيره فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً حالان من الضمير في جواب الشرط أي فصلوا راجلين أو راكبين ، والأول جمع راجل ، وهو الماشي على رجليه - ورجل - بفتح فضم أو بفتح فكسر بمعناه ، وقيل : الراجل الكائن على رجليه واقفا أو ماشيا ، واستدل الشافعي رضي اللّه تعالى عنه بظاهر الآية على وجوب الصلاة حال المسايفة وإن لم يمكن الوقوف ، وذهب إمامنا إلى أن المشي ، وكذا القتال يبطلها ، وإذا أدى الأمر إلى ذلك أخرها ثم صلاها آمنا ،
فقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنه قال : حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا القتال ، وذلك قوله تعالى : وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب : 25] فدعا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بلالا فأمر فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي ، ثم أقام العصر فصلاها كذلك ، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك ،
وفي لفظ «فصلى كل صلاة ما كان يصليها في وقتها» وقد كانت صلاة الخوف مشروعة قبل ذلك لأنها نزلت في ذات الرقاع - وهي قبل الخندق - كما قاله ابن إسحاق وغيره من أهل السير ، وأجيب بمنع أن صلاة الخوف مطلقا ولو شديدا شرعت قبل الخندق ليستدل بما وقع فيه من التأخير ، ويجعل ناسخا لما في الآية - كما قيل - والمشروع في ذات الرقاع قبل صلاة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء : 102] لا صلاة شدّة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها - وهي لم تشرع قبل الخندق بل بعده - وفيه كان الخوف شديدا فلا يضر التأخير ، وقد أجاب بعض الحنفية بأنا سلمنا جميع ذلك إلا أن هذه الآية ليست نصا في جواز الصلاة مع المشي أو المسايفة إذ يحتمل أن يكون الراحل فيها بمعنى الواقف على رجليه لا سيما وقد قوبل بالراكب وقد علم من خارج وجوب عدم الإخلال في الصلاة ، وهذا إخلال كلي لا يحتمل فيها لإخراجه لها عن ماهيتها بالكلية ، وأنت تعلم - إذا أنصفت - أن ظاهر الآية صريحة مع الشافعية لسبق «وقوموا والدين يسر لا عسر» والمقامات مختلفة ، والميسور لا يسقط بالمعسور ، وما لا يدرك لا يترك فليفهم.
وقرىء «رجالا» - بضم الراء مع التخفيف ، وبضمها مع التشديد - وقرىء «فرجلا» أيضا فَإِذا أَمِنْتُمْ وزال خوفكم. وعن مجاهد - إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة - ولعله على سبيل التمثيل فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا صلاة الأمن - كما قال ابن زيد - وعبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها ، وقيل : المراد - اشكروه على الأمن - وبعضهم أوجب الإعادة ، وفسر هذا - بأعيدوا الصلاة - وهو من البعد بمكان كَما عَلَّمَكُمْ أي ذكرا مثل ما عَلَّمَكُمْ من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي - الأمن والخوف - أو شكرا يوازي ذلك ، و«ما» مصدرية وجوّز أن تكون موصولة - وفيه بعد.
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مفعول علمكم وزاد تَكُونُوا ليفيد النظم ، ووقع في موضع آخر بدونها كقوله

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 551
تعالى : عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق : 5] فقيل : الفائدة في ذكر المفعول فيه وإن كان الإنسان لا يعلم إلا ما لم يعلم التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقل عنها فإنه أوضح في الامتنان ، وفي إيراد الشرطية الأولى بأن المفيد لمشكوكية وقوع الخوف وندرته ، وتصدير الثانية ب «إذا» المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى ، والإطناب في جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا لإجراء مقتضى المقام الأوّل في كل منهما مجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة والاعتبار كما قيل - ما فيه عبرة لذوي الأبصار وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سبق ، وفي يُتَوَفَّوْنَ مجاز المشارفة وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة عن عاصم بنصب وَصِيَّةً على المصدرية ، أو على أنها مفعول به ، والتقدير ليوصوا أو يوصون وَصِيَّةً أو كتب اللّه تعالى عليهم ، أو ألزموا وَصِيَّةً ويؤيد ذلك قراءة عبد اللّه «كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول» مكان وَالَّذِينَ إلخ ، وقرأ الباقون - بالرفع - على أنه خبر بتقدير ليصح الحمل أي ووصية الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أو حكمهم وصية أو وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أهل وصية ، وجوّز أن يكون نائب فاعل فعل محذوف ، أو مبتدأ لخبر محذوف مقدّم عليه أي كُتِبَ عَلَيْهِمُ أو عليهم وَصِيَّةً وقرأ أبيّ متاع لأزواجهم ، وروي عنه فَمَتاعُ بالفاء.
مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ نصب بيوصون إن أضمرته ويكون من باب الحذف والإيصال ، وإلا ف «بالوصية» لأنها بمعنى التوصية ، وبمتاع على قراءة أبيّ لأنه بمعنى التمتع غَيْرَ إِخْراجٍ بدل منه بدل اشتمال إن اعتبر اللزوم بين التمتع إِلَى الْحَوْلِ وبين - غير الإخراج - وبدل الكل بحسب الذات فإنهما متحدان بالذات ، ومتغايران بالوصف ، وذكر بعضهم أنه على تقدير البدل لا بد من تقدير مضاف إلى غير تقديره مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ متاع غَيْرَ إِخْراجٍ وإلا لم يصح لأن مَتاعاً مفسر بالإنفاق ، وغَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان وليس مدلوله مدول الأول ، ولا جزأه ، ولا ملابسا له ، فيكون بدل غلط - وهو لا يصح في الكلام المجيد - فيتعين التقدير ، وحينئذ يكون إبدال الخاص من العام وهو من قبيل إبدال الكل من الجزء نحو - رأيت القمر فلكه - وهو بدل الاشتمال - كما صرح به صاحب المفتاح - وأجيب بأنا لا نسلم أن مَتاعاً مفسر بالإنفاق فقط بل - المتاع - عام شامل للإنفاق والإسكان جميعا ، فيكون غَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان الذي هو بعض من مَتاعاً فيكون بدل البعض من الكل ، وجوّز أن يكون مصدرا مؤكدا لأن - الوصية بأن يمتعن حولا - يدل على أنهن لا يخرجن ، فكأنه قيل : لا يخرجن غَيْرَ إِخْراجٍ ويكون تأكيدا لنفي - الإخراج - الدال عليه لا يَخْرُجْنَ فيؤول إلى قولك : لا يخرجن لا يخرجن ، وأن يكون حالا من أزواجهم والأكثرون على أنها حال مؤكدة إذ لا معنى لتقييد - الإيصاء - بمفهوم هذه الحالة وأنها مقدّرة لأن معنى نفى - الإخراج إلى الحول - ليس مقارنا - للإيصاء - وفيه تأمل ، وأن يكون صفة متاع أو منصوبا بنزع الخافض ، والمعنى يجب على الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أن يوصوا قبل أن يحتضروا لِأَزْواجِهِمْ لأن يمتعن بعدهم - حولا - بالنفقة والسكنى ، وكان ذلك على الصحيح في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله تعالى : أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وهو وإن كان متقدما في
التلاوة فهو متأخر في النزول ، وكذا النفقة بتوريثهن الربع أو الثمن ، واختلف في سقوط السكنى وعدمه ، والذي عليه ساداتنا الحنفية الأول ، وحجتهم أن مال الزوج صار ميراثا للوارث ، وانقطع ملكه بالموت ، وذهب الشافعية إلى الثاني
لقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله»
واعترض بأنه ليس فيه دلالة على أن لها السكنى في مال الزوج ، والكلام فيه فَإِنْ خَرَجْنَ بعد الحول ، ومضيّ العدة ، وقيل : في الأثناء باختيارهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا أولياء الميت ، أو أيها الأئمة.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 552
فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ لا ينكره الشرع كالتطيب والتزين وترك الحداد والتعرض للخطاب أو في ترك منعهنّ من الخروج ، أو قطع النفقة عنهنّ ، فلا نص في الآية على أنه لم يكن يجب عليهنّ ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه ، وإنما كنّ مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة ، وبين الخروج وتركها وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره ينتقم ممن خالف أمره في - الإيصاء - وإنفاذ «الوصية» وغير ذلك حَكِيمٌ يراعي في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه.
وَلِلْمُطَلَّقاتِ سواء كن مدخولا بهن أو لا مَتاعٌ أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل ، وقيل : المراد بالمتاع نفقة العدة ، ويجوز أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة وهن غير الممسوسات وغير المفروض لهن ، والتكرير للتأكيد والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال : لما نزل قوله تعالى : مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة : 236] قال رجل : إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه ابن المسيب وهو أحد قولي الإمامية بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي من الكفر والمعاصي كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح للأحكام السابقة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على ما تحتاجون إليه معاشا ومعادا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تكمل عقولكم أو لكي تصرفوا عقولكم إليها أو لكي تفهموا ما أريد منها أَلَمْ تَرَ هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأخبار وأهل التواريخ ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه حال من «لم ير» الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجري الكلام معه كما يجري مع من رأى قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب ، والرؤية إما بمعنى الابصار مجازا عن النظر ، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء ولهذا
تعدت بإلى في قوله تعالى : إِلَى الَّذِينَ كما قاله غير واحد ، وقال الراغب : إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما استعير لمعنى - ألم تنظر - عدي تعديته بإلى وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا انتهى. وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول امرئ القيس :
ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا ولم تتطيب
والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا إليه وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ وكانوا فوق عشرة آلاف على ما استظهره الأكثر بناء على أنه لا يقال - عشرة ألوف لا تسعة ألوف - وهكذا وإنما يقال آلاف ، فقول عطاء الخراساني : إنهم كانوا ثلاثة آلاف ، وابن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف ، ومقاتل والكلبي أنهم ثمانية آلاف ، وأبي صالح أنهم تسعة آلاف ، وأبي رؤوف أنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الاستعمال ، والقائلون بالفوقية اختلفوا فقيل : كانوا بضعة وثلاثين ألفا ، وحكي ذلك عن السدي وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهم أربعون ألفا ، وقال عطاء بن أبي رباح إنهم سبعون ألفا ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك ، وحكي عن ابن زيد أن المراد

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 553
خَرَجُوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن تباغض فجعله جمع آلف مثل قاعد وقعود وشاهد وشهود وهو خلاف الظاهر ، وليس فيه كثير اعتبار إذ ورود الموت دفعة كما ينبىء عنه قوله تعالى : فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا على جمع عظيم أبلغ في الاعتبار ، وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه على غيرهم ، ومثل هذا القول بأن المراد ألفهم وحبهم لديارهم أو لحياتهم الدنيا ، والمراد بقوله تعالى إما ظاهره وإما مجاز عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة ، وقيل :
هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر مطاع لمأمور مطيع ، وقيل : ناداهم ملك بذلك ، وعن السدي أن المنادي ملكان وإنما أسند إليه تعالى تخويفا وتهويلا ثُمَّ أَحْياهُمْ عطف على مقدر يستدعيه المقام أي فماتوا ثُمَّ أَحْياهُمْ قيل : وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته الكونية ، وجوز أن يكون عطفا على - قال - لما أنه عبارة عن الإماتة والمشهور أنهم بقوا موتى مدة حتى تفرقت عظامهم فمر بهم حزقيل الشهير بابن العجوز خليفة كالب بن يوفنا خليفة يوشع بن نون ، وقيل شمعون ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقال وهب : إنه شمويل وهو ذو الكفل ، وقيل : يوشع نفسه فوقف متعجبا لكثرة ما يرى منهم
«فأوحى اللّه تعالى إليه أن ناد أيتها العظام إن اللّه تعالى يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت حتى التزق بعضها ببعض فصارت أجسادا من عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى اللّه تعالى إليه أن ناد أيتها الأجسام إن اللّه تعالى يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست لحما ثم أوحى اللّه تعالى إليه أن ناد إنّ اللّه تعالى يأمرك تقومي فبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت»
والروايات في هذا الباب كثيرة.
والظاهر أنهم لم يروا في هذا الموت من الأهوال والأحوال ما يصير بها معارفهم ضرورية ، ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة ، ويمكن أن يقال إنهم رأوا ما يراه الموتى إلا أنهم أنسوه بعد العودة ، والقادر على الإماتة والإحياء قادر على الإنساء وسبحان من لا يعجزه شيء ، وعلى كلا التقديرين لا يشكل موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى : لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدخان : 56] الآية لأن ذلك لم يكن عن استيفاء آجال - كما قال مجاهد - وإنما هو موت عقوبة فكأنه ليس بموت ، وأيضا هو من خوارق العادات فلا يرد نقضا ، ومن الناس من قال : إن هذا لم يكن موتا كالموت الذي يكون وراءه الحياة للنشور ، وإنما هو نوع انقطاع تعلق الرّوح عن الجسد بحيث يلحقه التغير والفساد وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بانقطاع التعلق أصلا ولم يعلم أنه قد بقي تعلق ما لكن لم يصل إلى حد الحياة المعلومة لدينا ، ولعل هذا القول يعود بالآخرة إلى انقسام الموت أو إلى أن إطلاق الموت على ما ذكر مجاز ، وكلا الأمرين في القلب منهما شيء بل أشياء.
وقد ذهب إلى مثله ابن الراوندي في جميع الأموات فقال : إن الأرواح لا تفارق الأبدان أصلا وإنما يحدث في الأبدان عوارض وعلل يحدث تفرق الأجزاء منها كما يحدث للمجذومين ، والروح كامنة في الأجزاء المتفرقة أينما كانت لكونها عرية عن الاحساس والإدراك وهو مذهب تحكم الضرورة برده عافانا اللّه تعالى والمسلمين عن اعتقاد مثله إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ جميعا ، أمّا أولئك فقد أحياهم ليعتبروا فيفوزوا بالسعادة وأما الذين سمعوا فقد هداهم إلى الاعتبار ، وهذا كالتعليل لما تقدم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ استدراك مما تضمنه ما قبله والتقدير فيجب عليهم أن يشكروا فضله وَلكِنَّ إلخ ، وجوز أن يراد بالشكر الاستبصار والاعتبار ، ولا يخفى بعده ، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد التشنيع ومناسبة هذه لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر جملا من الأحكام التكليفية مشتملة على ذكر شيء من أحكام الموتى عقب ذلك بهذه القصة العجيبة تنبيها على عظيم قدرته وأنه القادر على الإحياء والبعث للمجازاة واستنهاضا للعزائم على العمل للمعاد والوفاء بالحقوق والصبر على المشاق.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 554
وقيل : وجه المناسبة أنه لما ذكر سبحانه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته ، وقيل : جعل اللّه تعالى هذه القصة لما فيها من تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، والحث على التوكل والاستسلام للقضاء تمهيدا لقوله تعالى : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو عطف في المعنى على أَلَمْ تَرَ لأنه بمعنى انظروا وتفكروا ، والسورة الكريمة لكونها سنام القرآن ذكر فيها كليات الأحكام الدينية من الصيام والحج والصلاة والجهاد على نمط عجيب مستطردا تارة للاهتمام بشأنها يكر عليها كلما وجد مجال ، ومقصودا أخرى دلالة على أن المؤمن المخلص لا ينبغي أن يشغله حال عن حال.
وإن المصالح الدنيوية ذرائع إلى الفراغة للمشاغل الأخروية ، والجهاد لما كان ذروة سنام الدين ، وكان من أشق التكاليف حرضهم عليه من طرق شتى مبتدئا من قوله سبحانه : وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة : 154] منتهيا إلى هذا المقال الكريم مختتما بذكر الانفاق في سبيله للتتميم - قاله في الكشف - وجوز في العطف وجوه أخر ، الأول أنه عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم - وقاتلوا في سبيله - لما علمتم أن الفرار لا ينجي من الحمام وأن المقدر لا يمحى فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيل اللّه تعالى خير سبيل وإلا فنصر وثواب ، الثاني أنه عطف على ما يفهم من القصة أي اثبتوا ولا تهربوا كما هرب هؤلاء وقاتلوا ، الثالث أنه عطف على حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلى فَإِنْ خِفْتُمْ الآية لأن فيه إشعارا بلقاء العدوّ وما جاء جاء كالاعتراض ، الرابع أنه عطف على فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ والخطاب لمن أحياهم اللّه تعالى وهو كما ترى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله المتخلف عن الجهاد من تنفير الغير عنه وما يقوله السابق إليه من ترغيب فيه عَلِيمٌ بما يضمره هذا وذلك من الأغراض والبواعث فيجازي كلّا حسب عمله ونيته مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ مَنْ استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء ، وذَا خبره والَّذِي صفة له أو بدل منه ، ولا يجوز أن يكون مَنْ ذَا بمنزلة اسم واحد مثل ما تكون ماذا كذلك كما نص عليه أبو البقاء لأن ما أشد إبهاما من - من - وإقراض اللّه تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طائل للثواب الآجل ، والمراد هاهنا إمّا الجهاد المشتمل على بذل النفس والمال ، وإما مطلق العمل الصالح ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا ، وعلى كلا التقديرين لا يخفى انتظام الجملة بما قبلها قَرْضاً إمّا مصدر بمعنى - إقراضا - فيكون نصبا على المصدرية ، وإما بمعنى المفعول فيكون نصبا على
المفعولية ، وقوله سبحانه : حَسَناً صفة له على الوجهين وجهة الحسن على الأوّل الخلوص مثلا وعلى الثاني الحل والطيب ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه - القرض الحسن - المجاهدة والإنفاق في سبيل اللّه تعالى ، وعليه يلتئم النظم أتم التئام فَيُضاعِفَهُ أي - القرض - لَهُ وجعله - مضاعفا - مجاز لأنه سبب - المضاعفة - وجوز تقدير مضاف أي - فيضاعف - جزاءه ، وصيغة المفاعلة ليست على بابها إذ لا مشاركة وإنما اختيرت للمبالغة المشيرة إليها المغالبة.
وقرأ عاصم بالنصب ، وفيه وجهان : أحدهما أن يكون - معطوفا - على مصدر - يقرض - في المعنى أي - من ذا الذي - يكون منه قرض فمضاعفة من اللّه تعالى ، وثانيهما أن يكون جوابا لاستفهام معنى أيضا لأن المستفهم عنه وإن كان المقرض في اللفظ إلا أنه في المعنى الإقراض فكأنه قيل : أيقرض اللّه تعالى أحد فَيُضاعِفَهُ وهذا ما اختاره أبو البقاء ولم يجوز أن يكون جواب الاستفهام في اللفظ لأن المستفهم عنه فيه المقرض لا القرض ولا عطفه على المصدر الذي هو قرضا كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار إن لأمرين - على ما قيل - الأوّل أن قرضا هنا مصدر مؤكد وهو لا يقدر بأن والفعل ، والثاني أن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولا ليقرض ، ولا يصح هذا لأن المضاعفة ليست مقروضة ، وإنما هي فعل من اللّه تعالى وفيه تأمل ، وقرأ ابن كثير : يضعفه بالرفع والتشديد ، ويعقوب وابن عامر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 555
يضعفه بالنصب أَضْعافاً جمع ضعف وهو مثل الشيء في المقدار إذا زيد عليه فليس بمصدر والمصدر الإضعاف أو المضاعفة فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الهاء في فَيُضاعِفَهُ وأن يكون مفعولا ثانيا على المعنى بأن تضمن المضاعفة معنى التصيير ، وجوّز أن يعتبر واقعا موقع المصدر فينتصب على المصدرية حينئذ ، وإنما جمع والمصادر لا تثنى ولا تجمع لأنها موضوعة للحقيقة من حيث هي لقصد الأنواع المختلفة ، والمراد به أيضا إذا ذاك الحقيقة لكنها تقصد من حيث وجودها في ضمن أنواعها الداخلة تحتها كَثِيرَةً لا يعلم قدرها إلا اللّه تعالى ، وأخرج الإمام أحمد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : إن اللّه تعالى ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا للقائه في هذا الحديث فلقيت أبا هريرة فقلت له : فقال : ليس هذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك إنما قلت إن اللّه تعالى ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ثم قال أبو هريرة أو ليس تجدون هذا في كتاب اللّه تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فالكثير عنده تعالى أكثر من ألفي ألف وألفي ألف والذي نفسي بيده
لقد سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول : «إن اللّه تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة»
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أي يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه الحكمة التي قد دق سرها وجل قدرها وإذا علمتم أنه هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما هو من بسطه وعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم بدل توسعته وإعطائه ولا تعكسوا بأن تبخلوا بدل ذلك فيعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض ويقتر عليكم من بعد ما وسع عليكم وأقدركم على الانفاق ، وعن قتادة والأصم والزجاج أن المعنى يقبض الصدقات ، ويبسط الجزاء عليها فالكلام كالتأكيد والتقرير لما قبله ووجه تأخير البسط عليه ظاهر ، ووجه تأخيره على الأوّل الإيماء إلى أنه يعقب القبض في الوجود تسلية للفقراء ، وقرىء «يبصط».
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على حسب ما قدمتم «ومن باب الإشارة» إن الصلوات خمس صلاة السر بشهوده مقام الغيب ، وصلاة النفس بخمودها عن دواعي الريب ، وصلاة القلب بمراقبته أنوار الكشف ، وصلاة الروح بمشاهدة الوصل ، وصلاة البدن بحفظ الحواس وإقامة الحدود ، فالمعنى حافظوا على هذه الصلوات الخمس ، والصلاة الوسطى التي هي صلاة القلب التي شرطها الطهارة عن الميل إلى السوي وحقيقتها التوجه إلى المولى ولهذا تبطل بالخطرات والانحراف عن كعبة الذات وَقُومُوا لِلَّهِ بالتوجه إليه قانِتِينَ أي مطيعين له ظاهرا وباطنا بدفع الخواطر فَإِنْ خِفْتُمْ صدمات الجلال حال سفركم إلى اللّه تعالى فصلوا راجلين في بيداء المسير سائرين على أقدام الصدق أو راكبين على مطايا العزم ولا يصدنكم الخوف عن ذلك فَإِذا أَمِنْتُمْ بعد الرجوع عن ذلك السفر إلى الوطن الأصلي بكشف الحجاب فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا له بكليتكم حتى تفنوا فيه أو فإذا أمنتم بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء فاذكروا اللّه تعالى لحصول الفرق بعد الجمع حينئذ ، وأما قبل ذلك فلا ذكر إذ لا امتياز ولا تفضيل وقد ، قيل :
للمجنون أتحب ليلى؟ فقال : ومن ليلى؟! أنا ليلى ، وقال بعضهم :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
أَلَمْ تَرَ إلى الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي أوطانهم المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى وهم قوم ألوف كثيرة أو متحابون متألفون في اللّه تعالى حذر موت الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا أي أمرهم بالموت الاختياري أو

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 556
أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا فيه ثم أحياهم بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود الحقاني - والبقاء بعد الفناء - إن اللّه لذو فضل على سائر الناس بتهيئة أسباب إرشادهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لمزيد غفلتهم عما يراد بهم وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ النفس والشيطان وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ هواجس نفوس المقاتلين في سبيله عَلِيمٌ بما في قلوبهم مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ ويبذل نفسه له بذلا خالصا عن الشركة فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً بظهور نعوت جماله وجلاله فيه - واللّه يقبض أرواح الموحدين - بقبضته الجبروتية في نور الأزلية ، ويبسط أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها في مشاهدة ثناء الأبدية ، ويقال : القبض سره والبسط كشفه ، وقيل :
القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول للمشتاقين والثاني للعارفين ، والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف الرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن ، والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب ، والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبي وكان الأول من آثار الجلال والثاني من آثار الجمال.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد من لفظه ، وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمي الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالؤون أي يتعاونون بما لا مزيد عليه ، ومن للتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الملأ مِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد وفاته عليه السلام ، ومن للابتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر اتحاد الحرفين لفظا لاختلافهما معنى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ قال أبو عبيدة : هو أشمويل بن حنة بن العاقر - وعليه الأكثر.
وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة : هو يوشع بن نون لمكان من بعد من قبل وهي ظاهرة في الاتصال ، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى عليهما السلام وكان بينه وبين داود قرون كثيرة والاتصال غير لازم ، وإِذْ متعلقة بمضمر يستدعيه المقام أي أَلَمْ تَرَ قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا : ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي أقم لنا أميرا ، وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه لكن يختلف باختلاف متعلقه يقال : بعث البعير من مبركه إذا أثاره وبعثته في السير إذا هيجته ، وبعث اللّه تعالى الميت إذا أحياه ، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال.
نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مجزوم بالأمر ، وقرىء بالرفع على أنه حال مقدرة أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا تفعلون مع الملك؟ فأجيب نقاتل ، وقرىء يقاتل - بالياء - مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر. والوصف - لملكا - وسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار أنه لما مات موسى خلفه يوشع ليقيم فيهم أمر اللّه تعالى ويحكم بالتوراة ثم خلفه كالب كذلك ثم حزقيل كذلك ثم إلياس كذلك ثم اليسع كذلك ، ثم ظهر لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوت - وكانوا سكان بحر الروم - بين مصر وفلسطين وظهروا عليهم ، وغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين ، وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه إسماعيل ، وقيل :
شمعون فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم فلما كبر نبأه اللّه تعالى وأرسله إليهم فقالوا : إن كنت صادقا - فابعث لنا ملكا - الآية ، وكان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبيائهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم أمره ويرشده ويشير عليه قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا عسى من النواسخ وخبرها أن لا تقاتلوا وفصل بالشرط اعتناء به ، والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم ، والمراد تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل ، واعترض بأن عسيتم أن لا تقاتلوا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 557
معناه توقع عدم القتال. وهل لا يستفهم بها إلا عما دخلته فيكون الاستفهام عن التوقع لا المتوقع ولا يلزم من تقرير الاستفهام أن المتوقع ثابت بل إن التوقع كائن وأين هذا من ذاك؟! وأجيب بأن الاستفهام دخل على جملة مشتملة على توقع متوقع ولا سبيل إلى الأول لأن الرجل لا يستفهم عن توقعه فتعين أن يكون عن المتوقع ، ولما كان الاستفهام على سبيل التقرير كان المراد أن المتوقع كائن ، وقيل : لما كانت عسى لإنشاء التوقع ولا تخرج عنه جعل الاستفهام التقريري متوجها إلى المتوقع وهو الخبر الذي هو محل الفائدة فقرره وثبته وكون المستفهم عنه يلي الهمزة ليس أمرا كليا ، وقيل : إن عسى ليست من النواسخ وقد تضمنت معنى قارب وأن وما بعدها مفعول لها وهذا معنى قول بعضهم :
إنها خبر لا إنشاء ، واستدل على ذلك بدخول الاستفهام عليها ووقوعها خبرا في قوله لا تكسرن إني عسيت صائما ولا يخفى ما فيه ، وإنما ذكر في معرض الشرط كتابة القتال دون ما التمسوه مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم مبالغة في بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب اللّه تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن ما ذكروه ربما يوهم أن سبب تخلفهم هو المبعوث لا نفس القتال ، ويحتمل أنه أقام هذا مقام ذلك إيماء إلى أن ذلك البعث المترتب عليه القتال إذا وقع فإنما يقع على وجه يترتب عليه الفرضية ، وقرى ء - عسيتم - بكسر السين وهي لغة قليلة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل أي إلى ترك القتال.
والجار والمجرور متعلق بما تعلق به لنا أو به نفسه وهو خبر عن «ما» ودخلت الواو لتدل على ربط هذا الكلام بما قبله ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعا عنه - قاله أبو البقاء - وجوز أن تكون عاطفة على محذوف كأنهم قالوا عدم القتال غير متوقع منا - وما لنا أن لا نقاتل - وإنما لم يصرحوا به تحاشيا عن مشافهة نبيهم بما هو ظاهر في رد كلامه ، والشائع في مثل هذا التركيب ما لنا نفعل أو لا نفعل على أن الجملة حال ، ولما منع من ذلك هنا أن المصدرية إذ لا توافقه التزم فيه ما التزم ، والأخفش ادعى زيادة ان وأن العمل لا ينافيها ، والجملة نصب على الحال كما في الشائع ، وقيل : إنه على حذف الواو ويؤول إلى ما لنا ولأن لا نقاتل كقولك : إياك وأن تتكلم وقد يقال : إياك أن تتكلم والمعنى على - الواو - وقيل : إن ما هنا نافية أي ليس لنا ترك القتال وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا في موضع الحال والعامل نقاتل والغرض الإخبار بأنهم يقاتلون لا محالة إذ قد عرض لهم ما يوجب المقاتلة إيجابا قويا وهو الإخراج عن الأوطان والاغتراب من الأهل والأولاد ، وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال وهو معطوف على الديار وفيه حذف مضاف عند أبي البقاء أي ومن بين أبنائنا ، وقيل : لا حذف والعطف على حد
علفتها تبنا وماء باردا
وفي الكلام إسناد ما للبعض للكل إذ المخرج بعضهم لا كلهم.
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بعد سؤال النبي وبعث الملك تَوَلَّوْا أعرضوا وضيعوا أمر اللّه تعالى ولكن لا في ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته كما سيجيء وإنما ذكر هاهنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشرة عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء رضي اللّه تعالى عنه ، والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ومنهم الذين ظلموا بالتولي عن القتال وترك الجهاد وتنافت أقوالهم وأفعالهم ، والجملة تذييل أريد منها الوعيد على ذلك وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شروع في التفصيل بعد الإجمال أي قال بعد أن أوحى لهم ما أوحى إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً يدير أمركم وتصدرون عن رأيه في القتال. وطالُوتَ فيه قولان أظهرهما أنه علم أعجمي عبري - كداود - ولذلك لم ينصرف ، وقيل : إنه عربي من الطول وأصله طولوت - كرهبوت ورحموت - فقلبت - الواو ألفا - لتحركها وانفتاح ما قبلها ومنع صرفه حينئذ للعلمية وشبه العجمة لكونه ليس من أبنية

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 558
العرب ، وأما ادعاء العدل عن طويل ، والقول بأنه عبراني وافق العربي فتكلف ، ومَلِكاً حال من طالُوتَ أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن - نبيهم - لما دعا ربه أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن وهب بن منبه أنه لما دعا اللّه تعالى قال له : انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي فيه فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه منه وملكه عليهم فأقام ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم ، وقيل : كان سقاء وكان من سبط بنيامين بن يعقوب عليه السلام ولم يكن فيهم نبوة ولا ملك فخرج طالوت في ابتغاء دابة له ضلت ومعه غلام فمرا ببيت النبي فقال غلام طالوت له : لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير فقال طالوت : ما بما قلت من بأس فدخلا عليه فبينما هو عنده يذكر له شأن دابته ويسأله أن يدعو له إذ نش الدهن الذي في القرن فقام إليه النبي فأخذه ثم قال لطالوت : قرب رأسك فقربه فدهنه منه ثم قال : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني اللّه تعالى أن أملكك عليهم فجلس عنده وقال الناس : ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم مستغربين ذلك حيث لم يكن من بيت النبوة ولا الملك.
قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أي من أين يكون أو كيف يكون له ذلك؟ والاستفهام حقيقي أو للتعجب لا لتكذيب نبيهم والإنكار عليه في رأي ، وموضعه نصب على الحال من الملك ، و- يكون - يجوز أن تكون الناقصة فيكون الخبر له ، - وعلينا - حال من الملك أو الخبر علينا وله حال ، ويجوز أن تكون التامة فيكون له متعلقا بها.
وعَلَيْنا حال وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ الواو الأولى حالية ، والثانية عاطفة جامعة للجملتين أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هم أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال ، أو لعدم ما يجبر نقصه لو كان ويلحقه بالأشراف عرفا من ذلك ، وأصل - سعة - وسعة بالواو وحذفت لحذفها من يسع وكان حق الفعل كسر السين فيه ليتأتى الحذف كما في - يعد - وإنما ارتكب الفتح لحرف الحلق فهو عارض ، ولذا أجري عليه حكم الكسرة ولذلك الفتح فتحت السين في المصدر ولم تكسر كما كسرت عين عدة.
قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ رد عليهم بأبلغ وجه وأكمله كأنه قيل : لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره وانحطاط نسبه عنكم ، أما أولا فلأن ملاك الأمر هو اصطفاء اللّه تعالى وقد اصطفاه واختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح لكم ، وأما ثانيا فلأن العمدة وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية ، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم وقد خصه اللّه تعالى بحظ وافر منهم ، وأما ثالثا فلأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من شاء من التصرف في ملكه بإذنه ، وأما رابعا فلأنه سبحانه واسع الفضل يوسع على الفقير فيغنيه عَلِيمٌ بما يليق بالملك من النسيب وغيره ، وفي تقديم البسطة في العلم على البسطة في الجسم إيماء إلى أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف من الفضائل الجسمانية بل يكاد لا يكون بينهما نسبة لا سيما ضخامة الجسم ولهذا حمل بعضهم البسطة فيه هنا على الجمال أو القوة لا على المقدار كطول القامة كما قيل : إن الرجل القائم كان يمد يده حتى ينال رأسه فإن ذلك لو كان كمالا لكان أحق الخلق به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مع أنه عليه الصلاة والسلام كان ربعة من الرجال ، ولعل ذكر ذلك التقدير لأنه صفة تزيد الملك المطلوب لقتال العمالقة حسنا لأنهم كانوا ضخاما ذوي بسطة في الأجسام وكان ظل ملكهم جالوت ميلا على ما في بعض الأخبار لا أنها من الأمور التي هي عمدة في الملوك من حيث هم كما لا يخفى على من تحقق - أن المرء بأصغريه لا بكبر جسمه وطول برديه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 559
وفي اختيار واسِعٌ وعَلِيمٌ في الإخبار عنه تعالى هنا من حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له الخواطر لا سيما على ما يتبادر من بسطة الجسم ، وقدم الوصف الأول مع أن ما يناسبه ظاهرا مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول الإخبار إذ الاصطفاء من سعة الفضل أيضا ، ولأن عليم أوفق بالفواصل وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ عطف على مثله مما تقدم وكان توسيط ما تقدم بينهما للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للأحق ، وروايات القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم ، ما آية ملكه واصطفائه علينا؟ فقال : إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ولما لم يكن قولهم ذلك مذكورا ليقع هذا جوابا له صراحة أعاد الفاعل ليغاير ما علم صراحة كونه جوابا ، وإنما لم يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم ويكون هذا جوابا له ، ويكتفي بالإضمار كما اكتفى به أولا للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي بعد تصديقهم له وبيانه لهم ما استفهموا عنه مما لا ينبغي أن يكون حتى يجاب لأن له شبها تاما بالتعنت حينئذ وإن عد من باب السؤال لتقوية العلم ، وهذا بناء على أن القوم كانوا مؤمنين ، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ فعن السدي أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل فلما أراد اللّه تعالى أن يبعثه نبيا أتاه جبريل وهو غلام نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأمن عليه غيره فدعاه بلحن الشيخ فقام فزعا إلى الشيخ فقال : يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع فقال يا بني ارجع فنم فرجع فنام فدعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا فقال : دعوتني؟ فقال : ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني ، فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن اللّه تعالى قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه ، وقالوا : استعجلت بالنبوة ولم يأن لك وقالوا : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا ثم جرى ما جرى فقال : إن اللّه قد بعث لكم طالُوتَ مَلِكاً فقالوا : ما كنت قط أكذب منك الساعة واعترضوا وأجيبوا ثم - قالوا إن كنت صادقا فأتنا بآية - إن هذا ملك فقال : ما قص اللّه تعالى ، وحينئذ لا يبعد أن يكون الاستفهام المصرح به في الآية وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرا
عن إنكار وعدم إيقان ، ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من شأن الأنبياء الإتيان بالآيات وإن لم تطلب منهم جلبا للشارد وتقيدا للوارد «وليزداد الذين آمنوا هدي» والتابوت الصندوق وهو فعلوت من التوب وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته فتاؤه مزيدة كتاء ملكوت ، وأصله توبوت فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول من التبت لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق ، وقرىء تابوه بالهاء ، وهي لغة الأنصار والأولى لغة قريش ، وهي التي أمر عثمان رضي اللّه تعالى عنه بكتابتها في الإمام حين ترافع لديه في ذلك زيد وأبان رضي اللّه تعالى عنهما ووزنه حينئذ - على ما اختاره الزمخشري - فاعول لأن شبهة الاشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم النظير ، وأما جعل الهاء بدلا من التاء لاجتماعهما في الهمس - وأنهما من حروف الزيادة - ضعيف لأن الإبدال في غير تاء التأنيث ليس بثبت ، وذهب الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث وأصله عنده تابوة مثل ترقوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء ، والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم ، واختلف في تحقيق ذلك فقال : أرباب الأخبار : هو صندوق أنزله اللّه تعالى على آدم عليه السلام فيه تماثيل الأنبياء جميعهم. وكان من عود الشمشاذ نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين ، ولم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب ثم إلى بنيه - ثم ، وثم - إلى أن فسد بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى عليه السلام فسلط اللّه تعالى عليهم العمالقة فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد اللّه تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من أحدث عنده ابتلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 560
فعلموا أن ذلك بسبب استهانتهم به فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبلا يسيران وقد وكل اللّه تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت.
وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه صندوق التوراة وكان قد رفعه اللّه تعالى إلى السماء سخطا على بني إسرائيل لما عصوا بعد وفاة موسى عليه السلام فلما طلبت الآية أتى من السماء والملائكة يحفظونه وبنو إسرائيل يشاهدون ذلك حتى أنزلوه في بيت طالوت. وعن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه أنه التابوت الذي أنزل على أم موسى فوضعته فيه وألقته في البحر وكان عند بني إسرائيل يتبركون به إلى أن فسدوا فجعلوا يستخفون به فرفعه اللّه تعالى إلى أن كان ما كان ،
وروي غير ذلك مما يطول ، وأقرب الأقوال التي رأيتها أنه صندوق التوراة تغلبت عليه العمالقة حتى رده اللّه تعالى ، وأبعدها أنه صندوق نزل من السماء على آدم عليه السلام وكان يتحاكم الناس إليه بعد موسى عليه السلام إذا اختلفوا فيحكم بينهم ويتكلم معهم إلى أن فسدوا فأخذه العمالقة ، ولم أر حديثا صحيحا مرفوعا يعول عليه يفتح قفل هذا الصندوق ولا فكرا كذلك فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة ، فالسكينة مصدر حينئذ أو فيه نفسه ما تسكنون إليه وهو التوراة ، وقيل : وليس بالصحيح - كما قاله الراغب - صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. والجملة في موضع الحال. ومِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض أي من سكينات ربكم.
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ هي رضاض الألواح وثياب موسى وعمامة هارون وطست من ذهب كانت تغسل به قلوب الأنبياء. وكلمة الفرج لا إله إلا اللّه الحليم الكريم وسبحان اللّه رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ، والحمد للّه رب العالمين ، وآلهما أتباعهما أو أنفسهما ، أو أنبياء بني إسرائيل ، لأنهم أبناء عمهما تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ حال من التابوت ، والحمل إما حقيقة أو مجاز على حد. حمل زيد متاعي إلى مكة.
إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت فهو من كلام النبي لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء خطاب منه تعالى للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين جيء به قبل تمام القصة إظهارا لكمال العناية ، وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق ونحوه لَآيَةً عظيمة كائنة لَكُمْ دالة على جعل طالوت ملكا عليكم أو على نبوة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم حيث أخبر بما أخبر من غير سماع من البشر ولا أخذ من كتاب إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيء من الآيات ، وإِنَّ شرطية والجواب محذوف اعتمادا على ما قبله وليس المقصود حقيقة الشرطية إذا كان المخاطب من تحقق إيمانه ، وقيل : هي بمعنى إذ فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي انفصل عن بيت المقدس مصاحبا لهم لقتال العمالقة ، وأصله فصل نفسه عنه ، ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر - كانفصل - وقيل : فصل فصولا وجوز كونه أصلا برأسه ممتازا من المتعدي بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وصد عنه صدودا وصده صدا وهو باب مشهور ، والجنود الأعوان والأنصار جمع جند ، وفيه معنى الجمع ، وروي أنه قال لقومه : لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا ، وقيل : سبعون ألفا ، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة فسألوا نهرا قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ أي معاملكم معاملة من يريد أن يختبركم ليظهر للعيان الصادق منكم والكاذب بِنَهَرٍ بفتح الهاء ، وقرىء بسكونها ، وهي لغة فيه وكان ذلك «نهر» فلسطين كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وعن قتادة والربيع أنه «نهر» بين فلسطين والأردن فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أي ابتدأ شربه لمزيد عطشه من نفس
النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 561
وهذا كثيرا ما يفعله العطشان المشرف على الهلاك ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي فَمَنْ شَرِبَ من مائة مطلقا فَلَيْسَ مِنِّي أي من أشياعي ، أو ليس بمتصل بي ومتحد معي فَمَنْ اتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض وكأنها بيانية عنده وعينها عند آخرين. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا حكاه الأزهري عن الليث ، وذكره الجوهري أن الطعم ما يؤديه الذوق وليس هو نفس الذوق فمن فسره به على هذا فقد توسع وعلى التقديرين استعمال طعم الماء بمعنى ذاق طعمه مستفيض لا يعاب استعماله لدى العرب العرباء ويشهد له قوله :
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم - أطعم - نقاخا ولا بردا
وأما استعماله بمعنى شربه واتخذه طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام كما في حديث زمزم «طعام طعم وشفاء سقم» فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه ، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالد بن عبد اللّه القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد : أطعموني ماء فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على شدة جزعه ، وقيل فيه :
بل المنابر من خوف ومن وهل واستطعم - الماء - لما جد في الهرب
وألحن الناس كل الناس قاطبة وكان يولع بالتشديق بالخطب
لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح ، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه ، وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه ومن لم يطعم أطاعه بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل وإنما لم يخبرهم النبي نفسه بذلك ألقاه إلى طالوت فأخبر به كأنه من تلقاء نفسه ليكون له وقع في قلوبهم ، وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه بناء على أنه نبىء بعد أن ملك وهو قول لا ثبت له ، والقول بأنه يحتمل أن يكون بالفراسة والإلهام بعيد إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من الموصول الأول أو ضميره في الخبر فإن فسر الشرب بالكروع كان الاستثناء منقطعا وإلا كان متصلا ، وفائدة تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنها من تتمة الأولى وأن الغرض منها تأكيدها وتتميمها نهيا عن الكروع من كل وجه ، وإفادة أن المعترف ليس بذائق حكما فيؤكد ترخيص الاغتراف ولو أخرت لم تفد هذه الفوائد ولا ختل النظم لدلالة الاستثناء إذ ذاك على أن المغترف متحد معه ، ودلالة الجملة الثانية بمفهومها على أنه غير متحد معه ولا يصح في الاستثناء أن يكون من أحد الضميرين الراجعين إلى الموصولين في الصلة للفصل بين أجزاء الصلة حينئذ بالخبر وأداء المعنى في الأول إلى أن المجتزئ في الشرب بغرفة واحدة ليس متصلا به متحدا معه لأن التقدير - والذين شربوا كلهم إلا المغترف ليس مني - ولا يصح أيضا أن يكون من الموصول الثاني أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافا للبعض إذ لا فرق لأدائه إلى أن المجتزئ المذكور مخرج من حكم الاتحاد معه لأن التقدير - والذين لم يذوقوه فإنّهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي متحدون معي - وليس بالمراد أصلا ، والغرفة ما يغرف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة - غرفة - بفتح الغين على أنها مصدر ، وقيل : الغرفة والغرفة مصدران والضم والفتح لغتان ، والباء متعلقة باغترف أو بغرفة في قول ، أو
بمحذوف وقع صفة لها فَشَرِبُوا مِنْهُ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فابتلوا به فشربوا ، والمراد إما كرعوا - وهو المتبادر - وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أو أفرطوا في الشرب إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يكرعوا أو لم يفرطوا في الشرب بل اقتصروا على الغرفة باليد وكانت تكفيهم لشربهم وإداوتهم كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ، وأخرج عنه أيضا أن من شرب لم يزدد إلا عطشا ، وفي رواية إن الذين شربوا اسودت شفاههم وغلبهم العطش
وكان ذلك من قبيل المعجزة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 562
لذلك النبي ، وقرأ أبي ، والأعمش - إلا قليل - بالرفع وجعلوه من الميل إلى جانب المعنى فإن قوله تعالى : فَشَرِبُوا مِنْهُ في قوة أن يقال : فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثنى مرفوعا كما في قول الفرزدق :
وعض زمان يا ابن مروان - لم يدع - من المال إلا مسحت أو مجلف
فإن قوله : لم يدع في حكم لم يبق. وذهب أبو حيان إلى أنه لا حاجة إلى التأويل ، وجوز في الموجب وجهين النصب وهو الأفصح والإتباع لما قبله على أنه نعت أو عطف بيان وأورد له قوله :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
ولا يخفى ما فيه فَلَمَّا جاوَزَهُ أي النهر وتخطاه هُوَ أي طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل ، والمراد بهم القليلون والتعبير عنهم بذلك تنويها بشأنهم وإيماء إلى أن من عداهم بمعزل عن الإيمان مَعَهُ متعلق - يجاوز - لا - بآمنوا - وجوز أن يكون خبرا عن الَّذِينَ بناء على أن الواو للحال كأنه قيل :
فَلَمَّا جاوَزَهُ والحال إن الذين آمنوا كائنون مَعَهُ.
قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لا قدرة لنا بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن الغلبة عليهم ، وجالوت كطالوت ، والقائل بعض المؤمنين لبعض وهو إظهار ضعف لا نكوص لما شاهدوا من الأعداء ما شاهدوا من الكثرة والشدة ، قيل : كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح ، وقيل : ثلاثمائة ألف قالَ على سبيل التشجيع لذلك البعض وهو استئناف بياني الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ بالبعث والرجوع إلى ما عنده وهم الخلص من أولئك والأعلون إيمانا فلا ينافي وصفهم بذلك إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة ويحتمل إبقاء الظن على معناه ، والمراد يظنون أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون اللّه تعالى ، وقيل : الموصول عبارة عن المؤمنين كافة ، وضمير قالُوا للمنخزلين عنهم كأنهم قالوا ذلك اعتذارا عن التخلف والنهر بينهما ولا يخفى بعده لأن الظاهر أنهم قالوا هذه المقالة عند لقاء العدو ولم يكن المنخزلون إذ ذاك معهم ، وأيضا أي حاجة إلى إبداء العذر عن التخلف مع ما سبق من طالوت أن الكارعين ليسوا منه في شيء فلو لم ينخزلوا لمنعوا من الذهاب مَعَهُ كَمْ مِنْ فِئَةٍ أي قطعة من الناس وجماعة - من فأوت رأسه - إذا شققته أو من فاء إليه إذا رجع وأصلها على الأول فيوة فحذفت لامها فوزنها فعة ، وأصلها على الثاني فيئة فحذفت عينها فوزنها فله. وكَمْ هنا خبرية ومعناها كثير ، ومَنْ زائدة ، وفِئَةٍ تمييز ، وجوز أبو البقاء أن يكون مِنْ فِئَةٍ في موضع رفع صفة ل - كم - كما تقول عندي مائة من درهم ودينار ، وجوز بعضهم أن تكون كَمْ استفهامية ولعله ليس على حقيقته ، ونقل عن الرضي أن مَنْ لا تدخل بعد كَمْ الاستفهامية ، فالقول بالخبرية أولى قَلِيلَةٍ نعت - لفئة - على لفظها غَلَبَتْ أي قهرت عند المحاربة فِئَةً كَثِيرَةً بالنسبة إليها.
بِإِذْنِ اللَّهِ أي بحكمه وتيسيره ولم يقولوا أطاقت حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغة في تشجيعهم وتسكين قلوبهم ، وإذا حمل التنوين في فِئَةٍ الأولى للتحقير ، وفي - فئة - الثانية للتعظيم كان أبلغ في التشجيع وأكمل في التسكين وقد ورد مثل ذلك في قوله :
له حاجب عن كل أمر يشينه وليس له عن طالب العرف حاجب
وهذا كما ترى ناشىء من كمال - إيمانهم باللّه واليوم الآخر - وتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى كما لا يعجزه إماتة الاحياء فضلا عن نصرة الضعفاء فلا ريب في أن ما في حيز الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول لا سيما وقد أخذ فيه إذن اللّه تعالى وحكمه ، ومن لا يؤمن بلقاء اللّه تعالى لا يكاد يقرب من هذا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 563
القيد قيد شبر فاندفع بهذا ما قاله - مولانا مفتي الديار الرومية - من أن هذا الجواب كما ترى ناشىء من كمال ثقتهم بنصر اللّه تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء اللّه تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه ، ولا ريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فإن الملاءمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره رحمه اللّه تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة فإنه بمعزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس هو من قبيل قوله تعالى : وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ المراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك كما لا يخفى ، وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين أتى به تكميلا للتشجيع وترغيبا بالصبر بالإشارة إلى ما فيه ، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام من جهته تعالى جيء به تقريرا لكلامهم ودعاء للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم وَلَمَّا بَرَزُوا أي ظهر طالوت ومن معه وصاروا في براز من الأرض وهو ما انكشف منها واستوى لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لمحاربتهم وقتالهم قالُوا جميعا بعد أن قويت قلوب الضعفاء متضرعين إلى اللّه تعالى متبرئين من الحول والقوة.
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي صب ذلك علينا ووفقنا له ، والمراد به حبس النفس للقتال وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي هب لنا كمال القوة والرسوخ عند المقارعة بحيث لا تتزلزل ، وليس المراد بتثبيت الاقدام مجرد تقررها في حين واحد إذ ليس في ذلك كثير جدوى وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي أعنّا عليهم بقهرهم وهزمهم ، ووضع الْكافِرِينَ موضع الضمير العائد إلى - جالوت وجنوده - للإشعار بعلة النصر عليهم ، وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى ، أما أولا فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال ، وأما ثانيا فلأن فيه الإفراغ ، وهو يؤذن بالكثرة ، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه ، وأما ثالثا فلأن فيه التعبير - بعلى - المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين ، وأما رابعا فلأن فيه تنكير صبرا المفصح عن التفخيم ، وأما خامسا فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبيت وأما سادسا فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا أولا إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء وثانيا ثبات القدم والقوة على مقاومة العدوّ حيث إن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له ، وثالثا العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة ، وقيل : إنما طلبوا أولا إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر ، وثانيا التثبيت لأنه متفرع عليه ، وثالثا النظر لأنه الغاية القصوى ، واعترض هذا بأنه يقتضي حينئذ التعبير بالفاء لأنها التي تفيد الترتيب ، وأجيب بأن الواو أبلغ لأنه عول في الترتيب على الذهن الذي هو أعدل شاهد كما ذكر السكاكي فَهَزَمُوهُمْ أي كسروهم وغلبوهم ، والفاء فيه فصيحة أي استجاب اللّه تعالى دعاءهم فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته انهزامهم ويؤول إلى نصره وتأييده ، والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة وَقَتَلَ داوُدُ هو ابن إيشا جالُوتَ
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال : لما برز طالوت لجالوت قال جالوت : أبرزوا إليّ من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فأتي بداود إلى طالوت فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكمه في ماله فألبسه طالوت سلاحا فكره داود أن يقاتله بسلاح وقال : إن اللّه تعالى إن لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئا فخرج إليه بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار ثم برز له فقال له جالوت : أنت تقاتلني؟ قال داود : نعم قال : ويلك ما خرجت إلا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 564
كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة لأبددن لحمك ولأطعمنه اليوم للطير والسباع فقال له داود : بل أنت عدوّ اللّه تعالى شر من الكلب فأخذ داود حجرا فرماه بالمقلاع فأصابت بين عينيه حتى قعدت في دماغه فصرخ جالوت وانهزم من معه واحتز رأسه وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في بني إسرائيل بعد ما قتل جالوت وهلك طالوت ، وذلك أن طالوت - كما روي في بعض الأخبار - لما رجع وفى بالشرط فأنكح داود ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده فأراد قتله فعلم به داود فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود فضرب الزق ضربة فخرقه فسال الخمر منه فقال : يرحم اللّه تعالى داود ما كان أكثر شربه للخمر ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال : يرحم اللّه تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس فقال : اليوم أقتل داود وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت ففزع داود فاشتد فدخل غارا وأوحى اللّه تعالى إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال : لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت فرجع ،
وجعل العلماء والعباد يطعنون عليه بما فعل مع داود وجعل هو يقتل العلماء وسائر من ينهاه عن قتل داود حتى قتل كثيرا من الناس ثم إنه ندم بعد ذلك وخلى الملك وكان له عشرة بنين فأخذهم وخرج يقاتل في سبيل اللّه تعالى كفارة لما فعل حتى قتل هو وبنوه في سبيل اللّه تعالى فاجتمعت بنو إسرائيل على داود وملكوه أمرهم فهذا إيتاء الملك وَالْحِكْمَةَ المراد بها النبوة ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله بل كانت النبوة في سبط ، والملك في سبط ، وهذا بعد موت ذلك النبي وكان موته قبل طالوت ، وذكر الحكمة بعد الملك لأنها كانت بعده وقوعا أو للترقي من ذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كصنعة اللبوس ومنطق الطير وكلام الدواب ، والضمير المستتر راجع إلى اللّه تعالى ، وعوده إلى داود كما قال - السمين ضعيف - لأن معظم ما علمه تعالى له مما لا يكاد يخطر ببال ، ولا يقع في أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ وهم أهل الشرور في الدنيا أو في الدين أو في مجموعهما بِبَعْضٍ آخر منهم يردهم عما هم عليه بما قدره اللّه تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره ، وقرأ نافع هنا وفي الحج - دفاع - على أن صيغة المغالبة للمبالغة لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يصلح الأرض ويعمرها ، وقيل : هو كناية عن فساد أهلها وعموم الشر فيهم ، وفي هذا تنبيه على فضيلة الملك وأنه لولاه ما استتب أمر العالم ، ولهذا قيل : الدين والملك توأمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر لأن الدين أس والملك حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع.
وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ لا يقدر قدره عَلَى الْعالَمِينَ كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع «نقيض» المقدم منتج - لنقيض - التالي خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى يتفضل في ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل : ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وينتظم به مصالح العالم وينصلح أحوال الأمم ، قاله مولانا مفتي الديار الرومية قدس سره.
واعترض بأنه مخالف لقول المنطقيين إن المتصلة ينتج استثناء عين مقدمها عين تاليها لاستلزام وجود الملزوم وجود اللازم واستثناء نقيض تاليها نقيض المقدم لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم ولا ينعكس فلا ينتج استثناء عين

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 565
التالي عين المقدم ولا نقيض المقدم نقيض التالي لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم ولا من عدم الملزوم عدم اللازم ، وأجيب بأن ذلك إنما هو باعتبار الهيئة. وقد يستلزمه بواسطة خصوصية مادة المساواة ، وقد صرح ابن سينا في الفصول بأن الملازمة إذا كانت من الطرفين كما بين العلة والمعول ينتج استثناء كل من المقدم والتالي عين الآخر ونقيضه نقيض الآخر ، وفي تعليل القوم أيضا إشارة إليه حيث قالوا : لجواز أن يكون اللازم أعم وكأن في عبارة المولى إشارة إلى أن الملازمة في الشرطية من الطرفين حيث قال : منتج ولم يقل ينتج ا ه.
وأجاب بعضهم بأن قولهم ذلك ليس على سبيل الاطراد بل إذا كان نقيض المقدم أعم من نقيض التالي ، وأما إذا كان نقيضه بعكس هذا كما في هذه الآية الكريمة وأمثالها فإنه ينتج التالي ، وذلك أن الدفع المذكور لما كان ملزوما لعدم فساد الأرض كانت الملازمة ثابتة بينهما لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم كما بين في موضعه وادعاء أن الملازمة من الطرفين هنا كما زعمه المجيب الأول ليس بشيء بل اللازم هاهنا أعم من الملزوم كما لا يخفى على ذي روية ، وكون عبارة المولى مشيرة إلى أن الملازمة من الطرفين في حيز المنع وما ذكره لا يدل عليه كما لا يخفى فافهم وتدبر فإن نظر المولى دقيق تِلْكَ آياتُ اللَّهِ إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وموتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره بالآية وإهلاك الجبابرة على يد صبي وما فيه البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه ، وقيل : إشارة إلى ما مر من أول السورة إلى هنا وفيه بعد ، والجملة على التقديرين مستأنفة ، وقوله تعالى : نَتْلُوها عَلَيْكَ أي بواسطة جبريل عليه السلام إما حال من الآيات والعامل معنى الإشارة ، وإما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب بِالْحَقِّ في موضع النصب على أنه حال من مفعول نتلوها أي متلبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما عندهم أو لا ينبغي أن يرتاب فيه أو من فاعله أي نتلوها عليك متلبسين بالحق والصواب وهو معنا أو من الضمير المجرور أي متلبسا بالحق وهو معك.
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث تخبر بتلك الآيات وقصص القرون الماضية وأخبارها على ما هي عليه من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع بأحد يخبر بذلك. ووجه مناسبة هذه القصة لما قبلها ظاهرة وذلك لأنّه تعالى لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيله وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت إما بالطاعون أو القتال على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين والاعلام أنه لا ينجي حذر من قدر.
أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة فليس من الأحكام التي خصصتم بها لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يقع به الانفراد هذا «ومن باب الاشارة» في هذه الآيات أَلَمْ تَرَ إِلَى ملأ القوى مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ البدن مِنْ بَعْدِ مُوسى القلب إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ عقولهم ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه بواسطة أمره وإرشاده قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي إني أتوقع منكم عدم المقاتلة لانغماسكم في أوحال الطبيعة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ في طريق السير إلى اللّه تعالى ، وقد أخرجنا من ديار استعداداتنا الأصلية التي لم نزل بالحنين إليها واغتربنا عن أبناء كمالاتنا اللاتي لم نبرح عن مزيد البكاء عليها فلما كتب عليهم القتال لعدوهم الذي تسبب لهم الاغتراب ، وأحل بهم العجب العجاب تولوا وأعرضوا عن مقاتلته وانتظموا في سلك شيعته إلا قليلا منهم وهم القوى المستعدة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين نقصوا حظوظهم وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ الروح الإنساني ملكا متوجا بتاج الأنوار الإلهية جالسا على كسرى التدبيرات الصمدانية قالوا لاحتجابهم بحجاب الانانية وغفلتهم عن العلوم الحقانية كيف يكون له الملك علينا مع انحطاط مرتبته بتنزله إلى عالم الكثافة من عالمه الأصلي وليس فيه مشابهة لنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ لاشتراكنا في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 566
عالمنا ومشابهة بعضنا بعضا وشبيه الشيء ميال إليه قريب اتباعه له ولكل شيء آفة من جنسه وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً من مال التصرف إذ لا يتصرف إلا بالواسطة قال : إن اللّه تعالى اختاره عليكم لبساطته وتركبكم وزاده سعة في العلم الإلهي وقوة في الذات النوراني ، واللّه يؤتي ملكه من يشاء فيدبره بإذنه ، واللّه واسع لسعة الإطلاق ، عليم بالحكم التي تقتضي الظهور والتجلي بمظاهر الأسماء ، وقال لهم نبيهم إن آية ملكه عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم أن يأتيكم تابوت الصدر فيه سكينة أي طمأنينة من ربكم وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس باللّه تعالى ، وبقية مما ترك آل موسى القلب وآل هارون السر ، وهي من التوحيد وعصا لا إله إلا اللّه التي تلقف عظيم سحر صفات النفس وطست تجلي الأنوار الذي يغسل به قلوب الأنبياء وشيء من توراة الإلهامات تحمله ملائكة الاستعدادات لدى طالوت الروح فعند ذلك تسلم له الخلافة وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان ، فلما فصل طالوت وجنوده من وزير العقل ومشير القلب ومدبر الافهام ونظام الحواس قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ الطبيعة الجسمانية المترع بمياه الشهوات فمن شرب منه وكرع مفرطا في الري فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات وأهل مكاشفات الصفات ومن لم يطعمه ويذقه فإنه من سكان حظائر القدس وحضار جلوة عرائس منصة الأنس إلا من اغترف غرفة بيده وقنع من ذلك بقدر الضرورة ولاحتياج من غير حرض وانهماك فشربوا منه وكرعوا وانهمكوا فيه إلا قليلا منهم وهم المتنزهون عن الأقذار الطبيعية المتقدسون عن ملابسها المتجردون عن غواشيها وقليل ما هم فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره هو والذين آمنوا من القلب والعقل والملك وغيرهم من أتباع الروح معه ، قال بعضهم وهم الضعفاء الذين لم يصلوا إلى مقام التمكين لا طاقة لنا اليوم بمحاربة جالوت النفس وأعوانه لعراقتهم بالخدع والدسائس قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو اللّه بالرجوع إليه : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وقهرتها حتى أذهبت كثرتها بإذن اللّه وتيسيره ، واللّه مع الصابرين بالتجلي الخاص لهم ، فلما برزوا لحرب جالوت وجنوده تبرؤوا من الحول والقوة وقالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا واستقامة ، وثبت أقدامنا في ميادين الجهاد حتى لا نرجع القهقرى من بعد وانصرنا على أعدائنا الذين ستروا الحق ، وهم النفس الأمارة وصفاتها فهزموهم وكسروهم بإذن الله
وقتل داود القلب جالوت النفس ، ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين فلا يخشون الرجعة والردة ، وكان قد رماه بحجر التسليم في مقلاع الرضا بيد ترك الالتفات إلى السوي فأصاب ذلك دماغ هواه فخر صريعا فآتى اللّه تعالى داود ملك الخلافة وحكمة الإلهامات وعلمه مما يشاء من صنعة لبوس الحروب ومنطق طيور الواردات وتسبيح جبال الأبدان ، ولولا دفع اللّه الناس بعضهم كأرباب الطلب ببعض كالمشايخ الواصلين لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم عند استيلاء جالوت النفس ، ولكن اللّه ذو فضل على العالمين ، ومن فضله تحريك سلسلة طلب الطالبين وإلهام أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم والتشبث بأهداب سيرتهم فسبحانه من جواد لا يبخل ومتفضل على من سأل ومن لم يسأل.
تم طبع الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوله تِلْكَ الرُّسُلُ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 567
الفهرس
خطبة المفسر ... : 3
تفسير سورة الفاتحة ... : 3
تفسير سورة البقرة الآيات : 1 - 5 : 101 الآيات : 6 - 10 : 128 الآيات : 11 - 20 : 154 الآيات : 21 - 28 : 184 الآيات : 29 - 38 : 216 الآيات : 39 - 59 : 241 الآيات : 60 - 74 : 271 الآيات : 75 - 90 : 297 الآيات : 91 - 102 : 322 الآيات : 103 - 123 : 345 الآيات : 124 - 136 : 371 الآيات : 137 - 141 : 393 الآيات : 142 - 157 : 401 الآيات : 158 - 179 : 422 الآيات : 180 - 193 : 449 الآيات : 194 - 213 : 472 الآيات : 214 - 227 : 497 الآيات : 228 - 252 : 523

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 3
[الجزء الثاني ]
[تتمة سورة البقرة]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة البقرة (2) : الآيات 253 إلى 260]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 4
تِلْكَ الرُّسُلُ استئناف مشعر بالترقي كأنه قيل : إنك لمن المرسلين وأفضلهم فضلا ، والإشارة لجماعة الرسل الذين منهم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وما فيه من معنى البعد - كما قيل - للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم ، واللام للاستغراق ، ويجوز أن تكون للجماعة المعلومة له صلّى اللّه عليه وسلم أو المذكورة قصصها في السورة ، واللام للعهد ، واختيار جمع التكسير لقرب جمع التصحيح فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست تلك المنقبة للبعض الآخر ، وقيل : المراد التفضيل بالشرائع فمنهم من شرع ، ومنهم من لم يشرع ، وقيل : هو تفضيل بالدرجات الأخروية ولا يخفى ما في كل ، ويؤيد الأول قوله تعالى : مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ فإنه تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا ، والجملة لا محل لها من الإعراب ، وقيل : بل من فَضَّلْنا والمراد بالموصول إما موسى عليه السلام فالتعريف عهدي ، أو كل من كلمه اللّه تعالى عن رضا بلا واسطة ، وهم آدم - كما ثبت في الأحاديث الصحيحة - وموسى وهو الشهير بذلك ، ونبينا صلّى اللّه عليه وسلم وهو المخصوص بمقام قاب والفائز بعرائس خطاب ما تعرض بالتعريض لها الخطاب ، وقرىء كَلَّمَ اللَّهُ بالنصب وقرأ اليماني - كالم اللّه - من المكالمة قيل : وفي إيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات تربية للمهابة ورمز إلى ما بين التكلم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي ومنهم من رفعه اللّه تعالى على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة ، وتغيير الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف ، والمراد ببعضهم هنا النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما ينبئ عنه الأخبار بكونه صلّى اللّه عليه وسلم منهم فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الأماني حسرى.
وامتاز بخواص علمية وعملية لا يستطيع لسان الدهر لها حصرا. ورقي أعلام فضل رفعت له على كواهله الأعلام.
وطأطأت له رؤوس شرفات الشرف فقبلت منه الأقدام فهو المبعوث رحمة للعالمين. والمنعوت بالخلق العظيم بين المرسلين ، والمنزل عليه قرآن مجيد لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت :
42] والمؤيد دينه المؤيد بالمعجزات المستمرة الباهرة. والفائز بالمقام المحمود والشفاعة العظمى في الآخرة ، والإبهام لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلم الفرد الغني عن التعيين ، وقيل : المراد به إبراهيم حيث خصه اللّه تعالى بمقام الخلة التي هي أعلى المراتب ولا يخفى ما فيه ، وقيل : إدريس لقوله تعالى : وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم : 57] ، وقيل :
أولو العزم من الرسل ، وفيه - كما في الكشف - أنه لا يلائم ذوق المقام الذي فيه الكلام البتة ، وكذا الكلام عندي في سابقه إذ الرفعة عليه حقيقة والمقام يقتضي المجاز كما لا يخفى ، و- درجات - قيل : حال من بعضهم على معنى ذا درجات ، وقيل : انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قيل : ورفعنا بعضهم رفعات ، وقيل : التقدير - على - أو - إلى - أو - في - درجات فلما حذف حرف الجر وصل الفعل بنفسه ، وقيل : إنه مفعول ثان لرفع على أنه ضمن معنى بلغ ، وقيل : إنه بدل اشتمال وليس بشيء وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى. والاخبار بما يأكلون ويدخرون ، أو الإنجيل ، أو كلما يدل على نبوته ، وفي ذكر ذلك في مقام التفضيل إشارة إلى أنه السبب فيه ، وهذا يقتضي أفضلية نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم على سائر الأنبياء إذ له من قداح ذلك المعلى والرقيب. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قد تقدم تفسيره ، وإفراده عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه من التفريط والإفراط ، والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم السلام متفاوتة الأقدار

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 5
فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع لأن الظن في الاعتقاديات لا يغني من الحق شيئا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي جاؤوا من بعد كل رسول كما يقتضيه المعنى لا جميع الرسل كما هو ظاهر اللفظ من الأمم المختلفة أي لو شاء اللّه تعالى عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على الحق وإتباع الرسل الذين جاؤوا به فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة ، ومن قدر - ولو شاء اللّه هدى الناس جميعا ما اقتتل - إلخ وعدل عما تقتضيه القاعدة ظنا بأن هذا العدم لا يحتاج إلى مشيئة وإرادة بل يكفي فيه عدم تعلق الإرادة بالوجود لم يأت شيء مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ من جهة أولئك الرسل ، وقيل : الضمير عائد إلى الذين من قبلهم وهم الرسل ، المجرور متعلق - باقتتل - وقيل : بدل من نظيره مما قبله الْبَيِّناتِ أي المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة للاتباع الزاجرة عن الاعراض المؤدي إلى الاقتال وَلكِنِ اخْتَلَفُوا استدراك إن الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشىء من قبلهم وسوء اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداء كأنه قيل : ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ أي بما جاءت به أولئك الرسل وثبت على إيمانه وعمل بموجبه ، وهذا بيان للاختلاف فلا محل للجملة من الإعراب وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة عدم مشيئته لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب ما اقتضته أحوالهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف المستتبع للقتال عادة مَا اقْتَتَلُوا وما رفعوا رأس التطاول والتعادي لما أن الكل بيد قهره فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل للتنبيه
على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك بقوله عز وجل : وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه عنه مانع كذا قرره المولى أبو السعود قدس سره وهو من الحسن بمكان إلا أنه قد اعترضه العلامة عبد الباقي البغدادي في تفسيره بنحو ما تقدم آنفا في نظير هذا القياس ، وذكر أنه خلاف استعمال لَوْ عند أرباب العربية وأرباب الاستدلال ولعل الجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك مع أدنى تغيير فلا تغفل ، وما ذكره من توجيه التكرير مما تفرد به فما أعلم ، والأكثرون على أنه للتأكيد إلا أن وراءه سرا خص منه - كما ذكره صاحب الانتصاف - وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول طرت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها ، وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك وطريق معبد ، وفي كتاب اللّه تعالى مواضع من ذلك منها قوله تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل :
106] وهذه الآية من هذا النمط فإنه لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ثم لما طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة اللّه تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعبر عنه في قوله تعالى : وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال ليتلوه عموم تعلق المشيئة ليتناسب الكلام ويقرن كل بشكله وهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح له السر ولعله أحسن من القول بأن الأول بلا واسطة والثاني بواسطة المؤمنين أو بالعكس ، هذا وفي الآية دليل على أن الحوادث تابعة لمشيئة اللّه تعالى خيرا كانت أو شرا إيمانا أو كفرا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ قيل : أراد به الفرض كالزكاة دون النفل لأن الأمر حقيقة في الوجوب ولاقتران الوعيد به وهو المروي عن الحسن ، وقيل : يدخل فيه الفرض والنفل وهو المروي عن ابن جريج

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 6
واختاره البلخي ، وجعل الأمر لمطلق الطلب وليس فيما بعد سوى الأخبار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ترغيبا في الإنفاق وليس فيه وعيد على تركه ليتعين الوجوب ، وقال الأصم : المراد به الإنفاق في الجهاد ، والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد معنى ، وبذلك ترتبط الآية بما قبلها ولا يخفى أن هذا الدليل مما لا ينبغي أن يسمع لأن الارتباط على تقدير العموم حاصل أيضا بدخول الإنفاق المذكور فيه دخولا أوليا ، وكذا على تقدير إرادة الفرض لأن الإنفاق في الجهاد قد يكون فرضا إذا توقف الفرض عليه ، ومَا موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق والترغيب فيه.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ أي لا مودة ولا صداقة وَلا شَفاعَةٌ أي لأحد إلا من بعد أن يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى وأراد بذلك يوم القيامة ، والمراد - من وصفه بما ذكر - الإشارة إلى أنه لا قدرة لأحد فيه على تحصيل ما ينتفع به بوجه من الوجوه لأن من في ذمته حق مثلا إما أن يأخذ بالبيع ما يؤديه به. وإما أن يعينه أصدقاؤه. وإما أن يلتجئ إلى من يشفع له في حطه والكل منتف ولا مستعان إلا باللّه عز وجل ومِنْ متعلقة بما تعلقت به أختها ولا ضير لاختلاف معنييهما إذ الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية وإنما رفعت هذه المنفيات الثلاثة مع أن المقام يقتضي التعميم والمناسب له الفتح لأن الكلام على تقدير - هل بيع فيه أو خلة أو شفاعة - والبيع وأخواه فيه مرفوعة فناسب رفعها في الجواب مع حصول العموم في الجملة وإن لم يكن بمثابة العموم الحاصل على تقدير الفتح ، وقد فتحها ابن كثير. وأبو عمرو.
ويعقوب على الأصل في ذكر ما هو نص في العموم كذا قالوا ، ولعل الأوجه القول بأن الرفع لضعف العموم في غالبها وهو الخلة والشفاعة للاستثناء الواقع في بعض الآيات ، والمغلوب منقاد لحكم الغالب ، وأما ما قالوه فيرد عليه أن ما بعد يَوْمٌ جملة وقعت بعد نكرة فهي صفة غير مقطوعة ، ولا يقدر بين الصفة والموصوف إذا لم يكن قطع سؤال قطعا ، واعتبار كون النكرة موصوفة بما يفهمه التنوين من التعظيم فتقدر الجملة صفة مقطوعة تحقيقا لذلك وتقريرا له فيصح تقدير السؤال حينئذ مما لا يكاد يقبله الذهن السليم وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم لتناهي ظلمهم ، والجملة معطوفة على محذوف - أي فالمؤمنون المتقون موفون والكافرون - إلخ والمراد بهم تاركو الإنفاق رأسا ، وعبر عن التارك بالكافر تغليظا حيث شبه فعله وهو ترك الإنفاق بالكفر ، أو جعل مشارفة عليه ، أو عبر بالملزوم عن اللازم فهو إما استعارة تبعية أو مجاز مشارفة أو مجاز مرسل أو كناية ومثل ذلك وضع من كفر موضع من لم يحج آخر آية الحج ، وبعضهم لم يتجوز بالكفر وقال : أن عبارة عن الكفر باللّه تعالى حقيقة ، وفائدة الإخبار حينئذ الإشارة إلى أن نفى تلك الأشياء بالنسبة إليهم وأن ذلك لا يعد منا ظلما لهم لأنهم هم الظالمون لأنفسهم المتسببون لذلك.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر ، والمراد هو المستحق للعبودية لا غير ، قيل : وللناس - في رفع الضمير المنفصل وكذا في الاسم الكريم إذا حل محله - أقوال خمسة : قولان معتبران ، وثلاثة لا معول عليها ، فالقولان المعتبران : أحدهما أن يكون رفعه على البدلية ، وثانيهما أن يكون على الخبرية - والأول هو الجاري على ألسنة المعربين - وهو رأي ابن مالك ، وعليه إما أن يقدر للأخير أولا ، والقائلون بالتقدير اختلفوا فمن مقدر أمرا عاما كالوجود والإمكان ومن مقدر أمرا خاصا كلنا وللخلق ، واعترض تقدير العام بأنه يلزم منه أحد المحذورين إما عدم إثبات الوجود بالفعل للّه تعالى شأنه وإما عدم تنزهه سبحانه عن إمكان الشركة ، وكذا تقدير الخاص يرد عليه أنه لا دليل عليه أو فيه خفاء ، ويمكن الجواب باختيار تقديره عاما ، ولا محذور أما على تقدير الوجود فلأن نفي الوجود يستلزم نفي

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 7
الإمكان إذ لو اتصف فرد آخر بوجوب الوجود لوجد ضرورة فحيث لم يوجد علم عدم اتصافه به وما لم يتصف بوجوب الوجود لم يمكن أن يتصف به لاستحالة الانقلاب ، وأما على تقدير الإمكان فلأنّا نقول قد ظهر أن إمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد إمكانه يستفاد وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود على أنه قد ذكر غير واحد أن نفي وجود إله غيره تعالى يجوز أن يكون مرتبة من التوحيد يناط بها الإسلام ويكتفى بها من أكثر العوام ، وإن لم يعلموا نفي إمكانه سيما مع الغفلة وعدم الشعور به فلا يضر عدم دلالة الكلمة عليه بل قال بعضهم : إن إيجاب النفي جاء والآلهة غير اللّه تعالى موجودة ، وقد قامت عبادتها على ساق ، وعكف عليها المشركون في سائر الآفاق ، فأمر الناس بنفي وجودها من حيث إنها آلهة حقة ولو كان إذ ذاك قوم يقولون بإمكان وجود إله حق غيره تعالى لكنه غير موجود أصلا لأمروا بنفي ذلك الإمكان ولا يخفى أن هذا ليس من المتانة بمكان ، ويمكن الجواب باختيار تقديره خاصا بأن يكون ذلك الخاص مستحقا للعبادة والمقام قرينة واضحة عليه ، واعترض بأنه لا يدل على نفي التعدد لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة وبأنه يمكن أن يقال : إن المراد إما نفي المستحق غيره تعالى بالفعل أو الإمكان ، والأول لا ينفي الإمكان ، والثاني لا يدل على استحقاقه تعالى بالفعل ، وأجيب بأن من المعلوم بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل ولا معنى لاستحقاق العبادة سواه فإذا لم يستحق غيره تعالى للعبادة لم يوجد غيره تعالى وإلا لاستحق العبادة قطعا وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا على ما أشير إليه فثبت أن نفي الاستحقاق يستلزم نفي التعدد مطلقا ، والقائلون بعدم تقدير الخبر ذهب الأكثر منهم إلى أن لا هذه لا خبر لها ، واعترض بأنه يلزم
حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ، وأجيب بأن القول بعدم الاحتياج لا يخرج المركب من لا واسمها عن العقد لأن معناه انتفى هذا الجنس من غير هذا الفرد وإلا عند هؤلاء بمعنى غير تابعة لمحل اسم لا وظهر إعرابها فيما بعدها ولا مجال لجعلها للاستثناء إذ لو كانت له لما أفاد الكلام التوحيد لأن حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفاء أفراد غير خارج عنها ذلك وهو بمعزل عن التوحيد كما لا يخفى ، واستشكل الإبدال من جهتين ، الأول أنه بدل بعض ولا ضمير للمبدل منه وهو شرط فيه ، الثاني أن بينهما مخالفة فإن البدل موجب والمبدل منه منفي ، وأجيب عن الأول بأن إِلَّا تغني عن الضمير لإفهامها البعضية ، وعن الثاني بأنه بدل عن الأول في عمل العامل ، وتخالفهما في الإيجاب والنفي لا يمنع البدلية على أنه لو قيل إن البدل في الاستثناء على حدة لم يبعد.
والثاني من القولين الأولين وهو القول بخبرية ما بعد إِلَّا ذهب إليه جماعة وضعف بأنه يلزم عمل لا في المعارف وهي لا تعمل فيها وبأن اسمها عام وما بعد إلا خاص فكيف يكون خبرا ، وقد قالوا : بامتناع الحيوان إنسان ، وأجيب عن الأول بأن لا لا عمل لها في الخبر على رأي سيبويه وأنه حين دخولها مرفوع بما كان مرفوعا به قبل فلم يلزم عملها في المعرفة وهو كما ترى ، وعن الثاني بأنا لا نسلم أن في التركيب قد أخبر بالخاص عن العام إذ العموم منفي والكلام مسوق العموم ، والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام وفيه ما فيه.
وأما الأقوال الثلاثة التي لا يعول عليها فأولها أن إلا ليست أداة استثناء وإنما هي بمعنى غير وهي مع اسمه تعالى شأنه صفة لا اسم لا باعتبار المحل ، والتقدير لا إله غير اللّه تعالى في الوجود ، وثانيها - وقد نسب للزمخشري - أن لا إله في موضع الخبر ، وإِلَّا وما بعدها في موضع المبتدأ ، والأصل هو ، أو اللّه إله فلما أريد قصر الصفة على

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 8
الموصوف قدم الخبر وقرن المبدأ - بإلا - وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه ، وثالثها أن ما بعد إِلَّا والمقصور هو الواقع في سياق النفي ، والمبتدأ إذا اقترن - بإلا - وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه ، وثالثها أن ما بعد إِلَّا مرفوع - بإله - كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا لأن إلها بمعنى مألوه فيكون قائما مقام الفاعل وسادّا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران ، ويرد على الأول أن فيه خللا من جهة المعنى لأن المقصود من الكلمة أمران نفي الإلهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وهذا إنما يتم إذا كان إِلَّا فيها للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق ، وأما إذا كانت بمعنى غير فلا يفيد الكلام بمنطوقه إلا نفي الإلهية عن غيره تعالى ، وأما إثباتها له عز اسمه فلا يستفاد من التركيب واستفادته من المفهوم لا تكاد تقبل لأنه إن كان مفهوم لقب فلا عبرة به ولو عند القائلين بالمفهوم إذ لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة ، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه ، ويرد على الثاني أنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه أن يكون الخبر مبنيا مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ ، وأيضا لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد إِلَّا في مثل هذا التركيب وجه ، وقد جوزه فيه جماعة ، وعلى الثالث أنا لا نسلم أن إلها وصف وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به.
هذا ولي إن شاء اللّه تعالى عودة بعد عودة إلى ما في هذه الكلمة الطيبة من الكلام ، وفي قوله تعالى :
الْحَيُّ سبعة أوجه من وجوه الإعراب : الأول أن يكون خبرا ثانيا للفظ الجلالة ، الثاني أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هو الحي ، الثالث أن يكون بدلا من قوله سبحانه : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، الرابع أن يكون بدلا من هُوَ وحده ، الخامس أن يكون مبتدأ خبره لا تَأْخُذُهُ ، السادس أنه بدل من اللّه ، السابع أنه صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت ، وفي أصله قولان : الأول أن أصله - حيي - بياءين من حيي يحيي ، والثاني أنه حيو فقلبت الواو المتطرفة المنكسر ما قبلها ياء ، ولذلك كتبوا الحياة بواو في رسم المصحف تنبيها على هذا الأصل ، ويؤيده الحيوان لظهور هذا الأصل فيه ، ووزنه قيل : فعل ، وقيل : فيعل فخفف كميت في ميت ، والحياة عند الطبيعي القوة التابعة للاعتدال النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية. أو قوة التغذية ، أو قوة الحس ، أو قوة تقتضي الحس والحركة. والكل مما يمتنع اتصاف اللّه تعالى به لأنه من صفات الجسمانيات فهي فيه سبحانه صفة موجودة حقيقية قائمة بذاته لا يكتنه كنهيها ولا تعلم حقيقتها كسائر صفاته جل شأنه زائدة على مجموع العلم والقدرة وليست نفس الذات حقيقة ولا ثابتة لا موجودة ولا معدومة - كما قيل بكل - فالحي ذات قامت به تلك الصفة ، وفسره بعض المتكلمين بأنه الذي يصح أن يعلم ويقدر ، واعترضه الإمام بأن هذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح اللّه تعالى نفسه بصفة يشاركه بها أخس الحيوانات.
ثم قال والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن نفس هذه الصحة بل كل شيء كان كاملا في جنسه يسمى حيا ألا يرى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات ، والصفة المسماة في عرف المتكلمين حياة إنما سميت بها لأنها كمال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة ، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحال حياة فالمفهوم الأصلي من الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيدا دل على أنه كامل على الإطلاق والكامل كذلك من لا يكون قابلا للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية والإضافية انتهى ، ولا يخفى أنه صرح ممرد من قوارير أما أولا فلأن قوله : إن الحي - بمعنى الذي يصح أن يعلم ويقدر مما يشترك به سائر الحيوانات فلا يحسن أن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 9
يمدح اللّه تعالى به نفسه - في غاية السقوط لأنه إن أراد الاشتراك في إطلاق اللفظ فليس الحي وحده كذلك بل السميع ، والبصير أيضا مثله في الإطلاق على أخس الحيوانات ، وقد مدح اللّه تعالى بهما نفسه ولم يستشكل ذلك أهل السنة ، وإن أراد الاشتراك في الحقيقة فمعاذ اللّه تعالى من ذلك إذ الاشتراك فيها مستحيل بين التراب ورب الأرباب ، وبين الأزلي والزائل ، ومتى قلت إن الاشتراك في إطلاق اللفظ يوجب ذلك الاشتراك حقيقة ولا مناص عنه إلا بالحمل على المجاز لزمك مثل ذلك في سائر الصفات ولا قائل به من أهل السنة ، وأما ثانيا فلأن كون الحياة في اللغة بمعنى الكمال مما لم يثبت في شيء من كتب اللغة أصلا وإنما الثابت فيها غير ذلك ووصف الجمادات بها إنما هو على سبيل المجاز دون الحقيقة كما وهم فإن قال : إنها مجاز في اللّه تعالى أيضا بذلك المعنى عاد الأشكال بحصول الاشتراك في الكمال مع الجمادات فضلا عن الحيوان ، فإن قال : كمال كل شيء بالنسبة إلى ما يليق به قلنا : فحياة كل حي حقيقة بالنسبة إلى ما يليق به ، وليس كمثل اللّه تعالى شيء ، وكأني بك تفهم من كلامي الميل إلى مذهب السلف في مثل هذه المواطن فليكن ذلك فهم القوم كل القوم ويا حبذا هند وأرض بها هند والزمخشري فسر الحي بالباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وجعلوا ذلك منه تفسيرا بما هو المتعارف من كلام العرب وأرى أن في القلب منه شيء ، ولعلي من وراء المنع لذلك ، نعم روي عن قتادة أنه الذي لا يموت وهو ليس بنص في المدعى الْقَيُّومُ صيغة مبالغة للقيام وأصله قيووم على فيعول فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ولا يجوز أن يكون فعولا وإلا لكان قووما لأنه واوي ، ويجوز فيه قيام وقيم وبهما قرىء ، وروى أولهما عن عمر رضي اللّه تعالى عنه ، وقرىء القائم والقيوم بالنصب ومعناه كما قال الضحاك. وابن جبير : الدائم الوجود ، وقيل : القائم بذاته ، وقيل :
القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداء ، وإيصال أرزاقهم إليهم - وهو المروي عن قتادة - وقيل : هو العالم بالأمور من قولهم فلان يقوم بالكتاب أي يعلم ما فيه ، وقال بعضهم : هو الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ، وذكر الراغب أنه يقال :
قام كذا أي دام وقام بكذا أي حفظه ، والقيوم القائم الحافظ لكل شيء والمعطى له ما به قوامه ، والظاهر منه أن القيام بمعنى الدوام ثم يصير بالتعدية بمعنى الادامة وهو الحفظ فأورد عليه أن المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى القيوم عن أداتها بمعنى اللازم فلا يصح تفسيره بالحافظ ثم إن المبالغة في الحفظ كيف تفيد إعطاء ما به القوام ، ولعله من حيث إن الاستقلال بالحفظ إنما يتحقق بذلك كما لا يخفى ، وأورد على تفسيره بنحو القائم بذاته أن يكون معنى قيوم السموات والأرض الوارد في الأدعية المأثورة واجب السموات والأرض وهو كما ترى ، فالظاهر أنه فيه بمعنى آخر مما يليق إذ لا يصح ذلك إلا بنوع تمحل ، وذهب جمع إلى أن القيوم هو اسم اللّه تعالى الأعظم ، وفسره هؤلاء بأنه القائم بذاته والمقوم لغيره ، وفسروا القيام بالذات بوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات والتنزه عن سائر وجوه النقص وجعلوا التقويم للغير متضمنا جميع الصفات الفعلية فصح لهم القول بذلك ، وأغرب الأقوال أنه لفظ سرياني ومعناه بالسريانية الذي لا ينام ، ولا يخفى بعده لأنه يتكرر حينئذ في قوله تعالى : لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة - بكسر أوله - فتور يتقدم النوم وليس بنوم لقول عدي بن الرقاع :
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه (سنة) وليس بنائم
والنوم بديهي التصور يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ، وزعم السيوطي في بعض رسائله أن سببه شم هواء يهب من تحت العرش ، ولعله أراد تصاعد الأبخرة من المعدة تحت القلب الذي هو عرش الروح وإلا فلا أعقله ، وتقديم - السنة - عليه وقياس المبالغة

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 10
يقتضي التأخير مراعاة للترتيب الوجودي فلتقدمها على النوم في الخارج قدمت عليه في اللفظ ، وقيل : إنه على طريق التتميم وهو أبلغ لما فيه من التأكيد إذ نفي - السنة - يقتضي نفي النوم ضمنا فإذا نفى ثانيا كان أبلغ ، ورد بأنه إنما هو على أسلوب الإحاطة والإحصاء وهو متعين فيه مراعاة الترتيب الوجودي والابتداء من الأخف فالأخف كما في قوله تعالى : لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف : 49] ولهذا توسطت كلمة لا تنصيصا على الإحاطة وشمول النفي لكل منهما ، وقيل : إن تأخير النوم رعاية للفواصل ولا يخفى أنه من ضيق العطن ، وقال بعض المحققين : هذا كله إنما يحتاج إليه إذا أخذ الأخذ بمعنى العروض والاعتراء ، وأما لو أخذ بمعنى القهر والغلبة - كما ذكره الراغب ، وغيره من أئمة اللغة - ومنه قوله تعالى : أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر : 42] فالترتيب على مقتضى الظاهر إذ يكون المعنى لا تغلبه - السنة ، ولا النوم - الذي هو أكثر غلبة منها ، والجملة نفي للتشبيه وتنزيه له تعالى أن يكون له مثل من الأحياء لأنها لا تخلو من ذلك فكيف تشابهه ، وفيها تأكيد لكونه تعالى حيا قيوما لأن النوم آفة تنافي دوام الحياة وبقاءها وصفاته تعالى قديمة لا زوال لها ولأن من يعتريه النوم والغلبة لا يكون واجب الوجود دائمه ولا عالما مستمر العلم ولا حافظا قوي الحفظ ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك؟ قال : اتقوا اللّه تعالى فناداه ربه يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال : يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك»
ولما فيها من التأكيد كالذي بعدها ترك العاطف فيها وهي إما استئنافية لا محل لها من الإعراب وإما حال مؤكدة من الضمير المستكن في القيوم ، وجوز أن تكون خبرا عن الحي أو عن الاسم الجليل لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ - تقريرا - لقيوميته تعالى - واحتجاج على تفرده في الإلهية ، والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فيعلم من الآية نفي كون الشمس والقمر. وسائر النجوم.
والملائكة. والأصنام. والطواغيت آلهة مستحقة للعبادة مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ استفهام إنكاري ولذا دخلت إِلَّا والمقصود منه بيان كبرياء شأنه تعالى وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عنادا أو مناصبة وعداوة وفي ذلك تأييس للكافر حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند اللّه تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي أمر الدنيا وَما خَلْفَهُمْ أي أمر الآخرة قاله مجاهد ، وابن جريج ، وغيرهما ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وقتادة ، عكس ذلك ، وقيل : يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم ، وقيل : ما بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما فعلوه كذلك ، وقيل : ما يدركونه وما لا يدركونه أو ما يحسونه ويعقلونه والكل محتمل ، ووجه الإطلاق فيه ظاهر ، وضمير الجمع يعود على ما في ما فِي السَّماواتِ إلخ إلا أنه غلب من يعقل على غيره ، وقيل : للعقلاء في ضمنه فلا تغليب ، وجوز أن يعود على ما دل عليه مَنْ ذَا من الملائكة والأنبياء ، وقيل : الأنبياء خاصة ، والعلم - بما بين أيديهم وما خلفهم - كناية عن إحاطة علمه سبحانه ، والجملة إما استئناف أو خبر عما قبل أو حال من ضمير يشفع أو من المجرور في - بإذنه - وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي معلومه كقولهم : اللهم اغفر لنا علمك فينا ، والإحاطة بالشيء علما علمه كما هو على الحقيقة ، والمعنى لا يعلم أحد من هؤلاء كنه شيء ما من معلوماته تعالى : إِلَّا بِما شاءَ أن يعلم ، وجوز أن يراد من علمه معلومه الخاص وهو كل ما في الغيب فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن : 26 ، 27] وعطفت هذه الجملة على ما قبلها لمغايرتها له لأن ذلك يشعر بأنه سبحانه يعلم كل شيء وهذه تفيد أنه لا يعلمه غيره

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 11
ومجموعهما دال على تفرده تعالى بالعلم الذاتي الذي هو من أصول صفات الكمال التي يجب أن يتصف الإله تعالى شأنه بها بالفعل وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الكرسي جسم بين يدي العرش محيط السماوات السبع ، وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته - أي الكرسي - إلا بمنزلة الحلقة في المفازة وهو غير العرش كما يدل عليه ما
أخرجه ابن جرير. وأبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن الكرسي فقال : «يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» وفي رواية الدار قطني. والخطيب عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : سئل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ إلخ «قال : كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره»
وقيل : هو العرش نفسه ، ونسب ذلك إلى الحسن ، وقيل : قدرة اللّه تعالى ، وقيل : تدبيره ، وقيل : ملك من ملائكته ، وقيل : مجاز عن العلم من تسمية الشيء بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل ، وحكى ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقيل : عن الملك أخذا من كرسي الملك ، وقيل : أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة ، ففي الكلام استعارة تمثيلية وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي اختاره الجم الغفير من الخلف - فرارا من توهم التجسيم ، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم كما قدمنا ، وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعري - الكرسي - موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل و
في رواية عن عمر مرفوعا «له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع»
وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل عن اتباع الشارع والتسليم له.
وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علما وفوضوا علمه إلى اللّه تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك ، وقد ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام المعبر عنهما بالقدمين ، وقد وسع السماوات والأرض وسع وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى اللّه سبحانه عن ذلك علوا كبيرا ، ولا «الأطيط» عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء المتضادة أو اجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق والجمع ، ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن أن يراها إلا من ولد مرتين ، وليس المراد من الأصابع الأربع ما تعرفه من نفسك ، وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا ، ولعلنا نشير إلى بعض منه إن شاء اللّه تعالى ، ثم المشهور أن الياء في الكرسي لغير النسب ، واشتقاقه من الكرس - وهو الجمع - ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم ، وقيل : كأنه

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 12
منسوب إلى - الكرس - بالكسر وهو الملبد وجمعه كراسي - كبختي وبخاتي - وفيه لغتان ضم كافة - وهي المشهورة - وكسرها للاتباع والجمهور على فتح الواو والعين ، وكسر السين في وَسِعَ على أنه فعل والكرسي فاعله ، وقرىء بسكون السين مع كسر الواو - كعلم - في علم ، ويفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع جر - كرسيه - ورفع السماوات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده والسَّماواتِ وَالْأَرْضَ خبره وَلا يَؤُدُهُ - أي لا يثقله - كما قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وهو مأخوذ من الأود بمعنى الاعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته ، وماضيه آد ، والضمير للّه تعالى وقيل : الكرسي حِفْظُهُما أي السماوات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبع لحفظه ، وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس ، والقول بالاستخدام ليدخل هو والعرش وغيرها مما لا يعلمه إلا اللّه تعالى بعيد وَهُوَ الْعَلِيُّ أي المتعالي عن الأشباه ، والأنداد ، والأمثال ، والأضداد ، وعن امارات النقص ، ودلالات الحدوث ، وقيل : هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء الْعَظِيمُ ذو العظمة وكل شيء بالإضافة إليه حقير ولما جليت على منصة هذه الآية الكريمة عرائس المسائل الإلهية وأشرقت على صفحاتها أنوار الصفات العلية حيث جمعت أصول الصفات من الألوهية ، والوحدانية ، والحياة ، والعلم ، والملك ، والقدرة ، والإرادة ، واشتملت على سبعة عشر موضعا فيها اسم اللّه تعالى ظاهرا في بعضها ومستترا في البعض ونطقت بأنه سبحانه موجود منفرد في ألوهيته حي واجب الوجود لذاته موجد لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يحل بساحة جلاله ما يعرض النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد العالم
وحده يجلي الأشياء وخفيها وكليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يثقل شيء لديه متعال عن كل ما لا يليق بجنابه عظيم لا يستطيع طير الفكر أن يحوم في بيداء صفات قامت به تفردت بقلائد فضل خلت عنها أجياد أخواتها الجياد وجواهر خواص تتهادى بها بين أترابها ولا كما تتهادى لبنى وسعاد.
أخرج مسلم ، وأحمد ، وغيرهما عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي»
وأخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة لأخرى ولا يحافظ عليها إلا نبي أو صديق أو شهيد»
وأخرج الديلمي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : «لو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش لم يؤتها نبي قبلي»
والأخبار في فضلها كثيرة شهيرة إلا أن بعضها مما لا أصل له
كخبر من قرأها بعث للّه تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة ،
وبعضها منكر جدا
كخبر «إن اللّه تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين وأعمال الصديقين».
ولا يخفى أن أكثر الأحاديث في هذا الباب حجة لمن قال : إن بعض القرآن قد يفضل على غيره وفيه خلاف فمنعه بعضهم كالأشعري. والباقلاني وغيرهما لاقتضائه نقص المفضول وكلام اللّه تعالى لا نقص فيه ، وأوّلوا أعظم بعظيم وأفضل بفاضل ، وأجازه إسحق بن راهويه ، وكثير من العلماء ، والمتكلمين - وهو المختار - ويرجع إلى عظم أجر قارئه وللّه تعالى إن يخص ما شاء بما شاء لما شاء ، ومناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر أن الكافرين هم الظالمون ناسب ن ينبههم جل شأنه على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد الذي درج عليه المرسلون

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 13
على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما أينعت من ذلك رياضه وتدفقت حياضه وصدح عندليبه وصدع على منابر البيان خطيبه فلله الحمد على ما أوضح الحجة وأزال الغبار عن وجه المحجة.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات تلك آيات اللّه أي أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته نتلوها بلسان الوحي عليك ملابسة للحق الثابت الذي لا يعتريه تغيير وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس : 3] الذين عبروا هذه المقامات وصح لهم صفاء الأوقات تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بمقتضى استعلاء أنوار استعداداتهم مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ عند تجليه على طور قلبه وفي وادي سره وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الإلهية وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم : 10] من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار والمظهر الأعظم عند ذوي الأبصار وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ «1» بسيوف الهوى ونبال الضلال مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ من أنوار الفطرة وإرشاد الرسل الآيات الواضحات وَلكِنِ اخْتَلَفُوا حسبما اقتضاه استعدادهم الأزلي فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بما جاء به الوحي وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا عن اختلاف بأن يتحد استعدادهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا الإختلاف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ببذل الأرواح وإرشاد العباد من قبل أن يأتي يوم القيامة الكبرى لا بيع فيه ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل النشأة ولا خلة لظهور الحقائق ولا شفاعة للتجلي الجلالي ، والكافرون هم الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها وَما ظَلَمْناهُمْ [هود : 101 ، النحل : 118 ، الزخرف : 43] إذ لم نقض عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول اللَّهُ لا إِلهَ في الوجود العلمي إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الذي حياته عين ذاته وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته الْقَيُّومُ الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به ، وقيل : الحي الذي ألبس حياته أسرار الموحدين فوحدوا به ، والقيوم الذي ربي يتجلى الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه.
ولا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ بيان لقيوميته وإشارة إلى أن حياته عين ذاته له ما في سماوات الأرواح وأرض الأشباح فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إذ كلهم له ومنه وإليه وبه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من الخطرات وَما خَلْفَهُمْ من العثرات ، أو ما بين أيديهم من المقامات. وما خلفهم من الحالات ، أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية استعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ معلوماته التي هي مظاهر أسمائه إِلَّا بِما شاءَ كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشيء من معلوماته فأي طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أنى لخفاش الفهم أن يفتح عينه في شمس هاتيك الذات؟
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الذي هي قلب العارف السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لأنه معدن العلوم الإلهية والعلم اللدني الذي لا نهاية له ولا حد ، ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي : لو وقع العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به ، وقيل : كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت وَلا يَؤُدُهُ ولا يثقله
___________
(1) كذا في الأصل ، ولفظة «جاؤوا» ليست من ضمن الآية.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 14
حِفْظُهُما في ذلك الكرسي لأنهما غير موجودين بدونه وَهُوَ الْعَلِيُّ الشأن الذي لا تقيده الأكوان الْعَظِيمُ الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لاطلاقه حتى عن قيد الإطلاق.
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قيل : إن هذه إلى قوله سبحانه : خالِدُونَ من بقية آية الكرسي ، والحق أنها ليست منها بل هي جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله ، والجملة على هذا خبر باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها حقيقيا ، وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه وهو حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالى : جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة : 73 ، التحريم : 9] وهو المحكي عن ابن مسعود. وابن زيد. وسليمان بن موسى ، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية - وهو المحكي عن الحسن ، وقتادة. والضحاك - وفي سبب النزول ما يؤيده
فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل اللّه تعالى فيه ذلك».
وأل في الدِّينِ للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي دين اللّه وهو ملة الإسلام ، وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى ، من الناس من قال : إن المراد ليس في الدين إكراه من اللّه تعالى وقسر بل مبني الأمر على التمكين والاختيار ولولا ذلك لما حصل الابتلاء ولبطل الامتحان فالآية نظير قوله تعالى : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف : 29] وإلى ذلك ذهب القفال قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ تعليل صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان من الكفر والصواب من الخطأ و- الرشد - بضم الراء وسكون الشين على المشهور مصدر - رشد - بفتح الشين يرشد بضمها : ويقرأ بفتح الراء والشين ، وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض - الغي - وأصله سلوك طريق الهلاك ، وقال الراغب ، هو كالجهل إلا أن الجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد ، والغيّ اعتبارا بالأفعال ، ولهذا قيل : زوال الجهل بالعلم ، وزوال الغيّ بالرشد ، ويقال لمن أصاب : رشد ، ولمن أخطأ غوى ، ويقال لمن خاب : غوى أيضا ، ومنه قوله :
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لم يعدم على الغي (لائما)
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ أي
الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب ، والحسين بن علي رضي اللّه تعالى عنهم
- وبه قال مجاهد ، وقتادة - وعن سيعد بن جبير ، وعكرمة أنه الكاهن ، وعن أبي العالية أنه الساحر ، وعن مالك بن أنس كل ما عبد من دون اللّه تعالى ، وعن بعضهم الأصنام ، والأولى أن يقال بعمومه سائر ما يطغى ، ويجعل الاقتصار على بعض في تلك الأقوال من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت ، واختلف فيه فقيل : هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان - وإلى ذلك ذهب الفارسي - وقيل : هو اسم جنس مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير - وإليه ذهب سيبويه - وقيل : هو جمع - وهو مذهب المبرد. وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى : وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر : 17] وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر الأول الطغيان. والثاني الطغوان ، وأصله على الأول طغيوت ، وعلى الثاني طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت ، وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان باللّه تعالى اهتماما بوجوب التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعي أو للاتصال بلفظ الغي

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 15
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ أي يصدق به طبق ما جاءت به رسله عليهم الصلاة والسلام فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أي بالغ في التمسك حتى كأنه وهو متلبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وهي الإيمان - قاله مجاهد - أو القرآن - قاله أنس بن مالك - أو كلمة الإخلاص - قاله ابن عباس - أو الاعتقاد الحق أو السبب الموصل إلى رضا اللّه تعالى أو العهد ، وعلى كل تقدير يجوز أن يكون في العروة استعارة تصريحية واستمسك ترشيح لها أو استعارة أخرى تبعية ، ويجوز أن يجعل الكلام تمثيلا مبنيا على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الحق الذي لا يحتمل النقيض بوجه أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات ، واختار ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن ، وجعل العروة مستعارة للنظر الصحيح المؤدي للاعتقاد الحق - كما قيل - ليس بالحسن لأن ذلك غير مذكور في حيز الشرط أصلا لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع لها والانفصام والانقصام لغتان وبالفاء أفصح - كما قال الفراء - وفرق بعضهم بينهما بأن الأول انكسار بغير بينونة ، والثاني انكسار بها وحينئذ يكون انتفاء الثاني معلوما من نفي الأول بالأولوية ، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة ، والعامل اسْتَمْسَكَ أو من الضمير المستكن في الْوُثْقى لأنها للتفضيل تأنيث الأوثق ، ولَها في موضع الخبر وَاللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال عَلِيمٌ بالعزائم والعقائد ، والجملة تذييل حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق لما فيها من الوعد والوعيد ، قيل : وفيها أيضا إشارة إلى أنه لا بد من الإيمان من الاعتقاد والإقرار.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي معينهم أو محبهم أو متولي أمورهم والمراد بهم من أراد الإيمان أو ثبت في علمه تعالى إيمانه أو آمن بالفعل يُخْرِجُهُمْ بهدايته وتوفيقه وهو تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير في وَلِيُّ مِنَ الظُّلُماتِ التابعة للكفر أو ظلمات المعاصي أو الشبه كيف كانت. إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان أو نور الطاعات أو نور الإيقان بمراتبه ، وعن الحسن أنه فسر الإخراج هنا بالمنع فالمعنى يمنعهم عن أن يدخلوا في شيء من الظلمات ، واقتصر الواقدي في تفسير الظلمات ، والنور - على ذكر الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في الأنعام من قوله تعالى : وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام : 1] فإن المراد بهما هناك الليل والنهار ، والأولى أن يحمل الظلمات على المعنى الذي يعم سائر أنواعها ويحمل النور أيضا على ما يعم سائر أنواعه ، ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج منها نور مخرج إليه حتى إنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة الدليل إلى نور العيان ، ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة ، ومن ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك «مما لا ، ولا» وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال ، أو أن الأول إيماء إلى القلة والثاني إلى الكثرة وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي أرادوا الكفر أو ثبت كفرهم في علمه سبحانه أو كفروا بالفعل أَوْلِياؤُهُمُ حقيقة أو فيما عندهم الطَّاغُوتُ أي الشياطين أو الأصنام أو سائر المضلين عن طرق الحق ، والموصول مبتدأ أول ، وأَوْلِياؤُهُمُ مبتدأ ثان ، والطَّاغُوتُ خبره ، والجملة خبر الأول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها ، قيل :
ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع الطَّاغُوتُ في مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الاسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا ، وقرء «الطواغيت» على الجمع وصح جمعه على القول بأنه مصدر لأنه صار اسما لما يعبد من دون اللّه تعالى يُخْرِجُونَهُمْ بالوساوس وإلقاء الشبه أو بكونهم بحالة بحالة جرت اعتقادهم فيهم النفع والضر وأنهم يقربونهم إلى اللّه تعالى زلفى ، والتعبير عنهم بضمير العقلاء إما لأنهم منهم حقيقة أو ادعاء ونسبة الإخراج إليهم مجاز من باب النسبة إلى السبب فلا يأبى تعلق قدرته وإرادته تعالى بذلك مِنَ النُّورِ أي

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 16
الفطري الذي جبل عليه الناس كافة ، أو نور البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها فلا يرد أنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه ، وقيل : التعبير بذلك للمقابلة ، وقيل : إن الإخراج قد يكون بمعنى المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول ، وعن مجاهد إن الآية نزلت في قوم ارتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا فيه وهو نور الإيمان إِلَى الظُّلُماتِ وهي ظلمات الكفر والانهماك في الغي وعدم الارعواء والاهتداء بما يترى من الآيات ويتلى ، والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالانفصال لكمال الاتصال ، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح ، وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم ، وفيه بعد أَصْحابُ النَّارِ أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا ، وفي هذا وعد وتحذير للكافرين ، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل : للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء ، أو أن ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة ، وقيل : إن قوله سبحانه وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران : 68] دل على الوعد وكفى به.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف ، واهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون ، وقيل : استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ وتقرير لهم كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها ، وبدأ به لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة في اللّه عز وجل ، وما أتى به في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته ، ولأن فيما بعده تعدادا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وادحاض حجة الكافرين من آثار ولايته تعالى ولا يخفى ما فيه. وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي ، والجمهور على أن في الكلام معنى التعجيب أي - ألم تنظر ، أو ألم ينته علمك - إلى قصة هذا الكافر الذي لست بوليّ له كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناء على أن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفي على أحد ممن له حظ من الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر فقد نصرت الخليل ، وأين مقام الخليل من الحبيب ، وخذلت رأس الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين ، والمراد بالموصول نمروذ بن كنعان بن سنجاريب - وهو أول من تجبر وادعى الربوبية ، كما قاله مجاهد وغيره - وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل لإيرادها موردها ، واختلف في وقتها فقيل : عند كسر الأصنام وقيل إلقائه في النار - وهو المروي عن مقاتل - وقيل : بعد إلقائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما - وهو المروي عن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه -
وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وإيذان من أول الأمر بتأييد وليه له في المحاجة فإن التربية نوع من الولاية أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي لئن آتاه اللّه تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في - أن ، وإن - وليس هناك مفعولا لأجله منصوب لعدم اتحاد الفاعل ، والتعليل فيه على وجهين : إما أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما ، وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة وضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول العلة تحقيقية ، وعلى الثاني تهكمية - كما تقول عاداني فلان لأني أحسنت إليه - وجوز أن يكون آتاهُ إلخ واقعا موقع الظرف بدون تقدير أو بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه اللّه وأورد عليه

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 17
أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل الإيتاء سابق عليها ، وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظه - كجئت خفوق النجم ، وصياح الديك - ولا يجوز إن خفق وإن صاح.
وأجيب باعتبار الوقت ممتدا ، وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن «ما» المصدرية تنوب عن الزمان وليست بمصدر صريح ، والذي جوز ذلك ابن جني والصفار في شرح الكتاب ، والحق أن التعليل لما أمكن - وهو متفق عليه - خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما وتقدير المضاف مع القول بالامتداد والتزام - قول ابن جني والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور - في غاية من التعسف ، والآية حجة على من منع إيتاء اللّه الملك لكافر وحملها على إيتاء اللّه تعالى ما غلب به وتسلط من المال والخدام والأتباع ، أو على أن اللّه تعالى ملكه امتحانا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب رعاية الأصلح - ليس بشيء إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح كالامتحان ، ولقوة هذا الاعتراض التزم بعضهم جعل ضمير آتاهُ لإبراهيم عليه السلام لأنه تعالى قال : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة : 124] وقال سبحانه : فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء : 54] وهو المحكي عن أبي قاسم البلخي - ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن وخلاف التفسير المأثور عن السلف الصالح ، والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس لإبراهيم عليه السلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر.
وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه اللّه للكافر هو ما كان بتمليك الأمر والنهي ، وإيجاب الطاعة على الخلق ، وأما ما كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرا كملك نمروذ فهو مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان ، والقول : بأن هذا المارد أعطى الملك بالاعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه قد عورض في ملكه وغولب على ما منّ اللّه تعالى به عليه إلى أن قضى اللّه تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول ، وهو كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكني أشم منه ريح الضلال ، ويلوح لي أنه تعريض بالأصحاب - واللّه تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور - وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام ما لا يخفى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف لحاج ، وجوّز أن يكون بدلا من آتاه بناء على القول الذي علمت ، واعترضه أبو حيان بأن الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليه السلام رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فإنه على ما روي قاله بعد أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له - وقد كان أوتي قبل الملك من ربك الذي تدعو إليه؟ وأجاب السفاقسي بالتجوز في آتاهُ وعدم إرادة ابتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو ممتد يسع قولين بل أقوالا ، واعترض أبو البقاء أيضا بأن المصدر غير الظرف فلو كان بدلا لكان غلطا إلا أن يجعل إذ بمعنى أن المصدرية ، وقد جاء ذلك ، وقال الحلبي : - وهذا بناء - منه على أن إنّ مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة موقعه فلا يكون بدل - غلط بل بدل كل من كل ، وفيه ما تقدم من الكلام ، وقيل : يجوز أن يكون بدلا من آتاهُ بدل اشتمال ، واستشكل بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى : قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ إلا أن يجعل استئنافا جواب سؤال ، وجعله بمنزلة المرئي يأبى ذلك ، ومن هنا قيل : إن
الظرف متعلق بقوله سبحانه : قالَ أَنَا إلخ ، ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل : كيف حاج إبراهيم؟ فأجيب بما أجيب ، ولا يخفى أن الإباء هو الإباء ، فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه : حَاجَّ ، ورَبِّيَ بفتح الياء ، وقرىء بحذفها ، وأراد عليه السلام - بيحيي ويميت - يخلق الحياة والموت في الأجساد ، وأراد اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتى برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال ما قال : ولما كان هذا بمعزل عن المقصود وكان بطلانه من الجلاء والظهور بحيث لا م 2 - روح المعاني مجلد 2

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 18
يخفى على أحد والتعرض لإبطال مثل ذلك من قبيل السعي في تحصيل الحاصل أعرض الخليل عليه الصلاة والسلام عن إبطاله وأتى بدليل آخر أظهر من الشمس.
قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ وفيه دليل على جواز انتقال المجادل من حجة إلى أخرى أوضح منها ، وهي مسألة متنازع فيها ، وحمل ذلك على هذا أحد طريقين مشهورين في الآية ، وثانيهما أن الانتقال إنما في هو المثال كأنه قال : ربي الذي يوجد الممكنات ويعدمها وأتى بالإحياء والإماتة مثالا فلما اعترض جاء بمثال أجلى دفعا للمشاغبة ، قال الإمام : والإشكال عليهما من وجوه.
الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب ، وذكر الجواب في الحال إزالة للتلبيس والجهل عن العقول ، فلما طعن المارد في الدليل أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فكيف يليق بالمعصوم تركه والانتقال إلى شيء آخر ، والثاني أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال كان ترك المحق الكلام عليه والتنبيه على ضعفه مما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز ، والثالث أنه وإن كان الانتقال من دليل إلى آخر أو من مثال إلى غيره لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح ، وأقرب وهاهنا ليس كذلك لأن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه فلا يبعد وجود ملك عظيم الجثة يكون محركا للسماوات فعلى هذا الاستدلال بالإماتة والإحياء أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح إلى الدليل الخفي ، والرابع أن المارد لما لم يستح من معارضة الاحياء والاماتة الصادرين من اللّه تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند الانتقال إلى طلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون أنه لو أورد هذا السؤال لكان الواجب أن يطلعها من المغرب ، ومن المعلوم طلوع الشمس من المغرب يكون الدليل على وجود الصانع هو هذا الطلوع لا الطلوع الأول ، وحينئذ يصير ذلك ضائعا كما صار الأول كذلك ، وأيضا فما الذي حمل الخليل عليه السلام على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب وبتقدير ذلك يضيع الدليل الثاني كما ضاع الأوّل ، ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا تليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العلماء وأعلم الفضلاء.
فالحق أن هذا ليس دليلا آخر ولا مثالا بل هو من تتمة الدليل الأول ، وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإماتة والإحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الاحياء والإماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب الخليل عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الافلاك لكن تلك الحركات حصلت من اللّه تعالى وذلك لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الافلاك فلا جرم لا يكون الاحياء والإماتة صادرين منهم ، ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من المحذورات عليه انتهى.
ولا يخفى ما فيه ، أما أولا فلأن الشبهة إذا كانت في غاية السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدا من الناس أنها لم يمتنع الاعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعا للشغب وتحصيلا لما هو المقصود من غير كثير تعب ، ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأي تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فيخل تركه بالمعصوم على أنه روي أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد قوله حيث قال له : إنك أحييت الحي ولم تحي الميت ، وعن الصادق رضي اللّه تعالى عنه أنه قال له : أحي من قتلته إن كنت صادقا

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 19
لكن لم يقص اللّه تعالى ذلك الإلزام علينا في الكتاب اكتفاء بظهور الفساد جدا ، وأما ثانيا فلأنه من الواضح أن المنتقل إليه أوضح في المقصود من المنتقل عنه ويكاد القول بعكسه يكون مكابرة ، وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى ما فيه ، وأما ثالثا فلأن ما ذكره رابعا يرد أيضا على الوجه الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات الأفلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب - فما هو الجواب هنا هو الجواب - وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على الإتيان بالشمس من مغربها فسكت ، أو بأن اللّه تعالى أنساه ذلك نصرة لنبيه عليه السلام - وهو ضعيف - بل الجواب أنه عليه السلام استدل بأنه لا بد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لأن حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية ، وبديهي أنه ليس بنمروذ فقال : هو ذا ربي فإن ادعيت أنك الذي تفعل فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى أن الحركة بنفسها - مع أنها مسبوقة بالغير ولو بآحاد الحركات - كان منع البديهي ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم بالتغيير عن تلك الحالة فلا بد من الاعتراف بفاعل يأتي بها من المشرق ، والمدعى أن ذلك الفاعل هو الرب ، وأما رابعا فلأن ما اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه ، وليس في كلام الكافر سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث توسط حركات الأفلاك ولم يوقف له على أثر ليجاب بأن تلك الحركات أيضا من اللّه تعالى فلا يقدح توسطها في كون الإحياء والإماتة منه تعالى شأنه - ولا أظنك في مرية من هذا - ولعل الأظهر مما ذهب إليه الإمام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزا لتعدد الآلهة لم يكن مدعيا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من مذهب الصابئة أن اللّه تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والأفعال من الإيجاد وغيره منسوبة إليهن ، فجوز أن يكون في الأرض أيضا من يفوض إليه إما قولا بالحلول أو لاكتساء خواص فلكية أو غير ذلك أراد إبراهيم عليه السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة وفساد رأيه من جهة علمه الضروري بأنه مولودا حدث بعد أن لم يكن وأن من لا وجود له في نفسه لا يمكنه الإيجاد الذي هو إفاضة الوجود البتة ضرورة احتياجه إلى الموجد ابتداء ودواما وهذا كاف في إبطال دعوى اللعين فلم يعمم الدعوى في تفرده تعالى بالإلهية على إنه لوح إليه من حيث إنه لا فرق بين الإيجاد والإعدام نوعين هما الاحياء والاماتة والقادر على إيجاد كل ممكن وإعدامه يلزمه أن يكون خارجا عن الممكنات واحدا من كل الوجوه لأن التعدد يوجب الإمكان والافتقار كما برهن عليه في محله ، فعارضه اللعين بما أوهم أنه يجوز أن يكون الممكن لاستغنائه عن الفاعل في البقاء - كما عند بعض القاصرين من المتكلمين - مفوضا إليه بعد إيجاده ما يستقل بإيجاد الغير وتدبير الغير ، وهذا قد خفي على الأذكياء فضلا عن الأغبياء ، وقال : - أنا أحيي وأميت وأبدي - فعليه مشيرا إلى أن للدوام حكم الابتداء في طرف الاحياء وهو في ذلك مناقض نفسه من حيث لا يشعر إذ لو كان كذلك لم يكن التدبير مفوضا إلى غير الباري ولم يكن مستغنيا عن الموجد طرفة عين وإلا فليس العفو إحياء إن سلم أن القتل إماتة فألزمه الخليل عليه السلام بأن القادر لا يفترق بالنسبة إليه الدوام والابتداء - فإن اللّه تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب - منبها على المناقضة المذكورة مصرحا بأنه
غالط في إسناد الفعل دواما إلى غير ما أسند إله ابتداء مظهرا لدى السامعين ما كان عسى أن يغبي على البعض فهذا كلام وارد على الخطابة ، والبرهان يتلقاه المواجه به طوعا أو كرها بالإذعان ليس فيه مجال للاعتراض سليم عن العراض ، وعليه يكون المجموع دليلا واحدا وليس من الانتقال إلى دليل آخر لما فيه من القيل والقال ، ولا من العدول إلى مثال أوضح حتى يقال كأنه قيل : ربي الذي يوجد الممكنات وأتي بالإحياء والإماتة مثالا ، فلما اعترض جاء بآخر أجلي دفعا للمشاغة لأنه مع أن فيه ما في الأول يرد عليه أن الكلام لم يسق هذا المساق - كما لا يخفى - هذا واللّه تعالى أعلم بحقائق كتابه المجيد فتدبر.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 20
وإنما أتي في الجملة الثانية بالاسم الكريم ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتي بها في الجملة الأولى بأن يقال : إن ربي ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه السلام ولذلك المارد عليه اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة كالترقي من الأرض إلى السماء وهو في هذا المقام حسن حسن التأكيد بأن والأمر للتعجيز والفاء الأولى للايذان بتعلق ما بعدها بما قبلها ، والمعنى إذا ادعيت الإحياء والإماتة للّه تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والاشكال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ إلخ. والباء للتعدية ، ومِنَ في الموضعين لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل ، وقيل : متعلقة بمحذوف وقع حالا أي مسخّرة أو منقادة فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي غلب وصار مبهوتا منقطعا عن الكلام متحيرا لاستيلاء الحجة عليه ، وقرئ - بهت - بفتح الباء وضم الهاء - وبهت - بفتح الأولى وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم - وبهت - بفتحهما فيجوز أن يكون لازما أيضا ، والَّذِي فاعله وأن يكون متعديا وفاعله ضمير إبراهيم ، والَّذِي مفعوله - أي فغلب إبراهيم عليه السلام الكافر وأسكته - وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم ، قال الكيا : وفي الآية دليل على جواز المحاجة في الدين وإن كانت محاجة هذا الكافر كفرا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي إلى مناهج الحق كما هدى أولياءه ، وقيل : لا يهديهم إلى طريق الجنة يوم القيامة أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ عطف على سابقه والكاف إما اسمية بمعنى مثل معمولة - لأرأيت - محذوفا أي - أو أرأيت. مثل الذي مر وإلى ذلك ذهب الكسائي والفراء وأبو علي وأكثر النحويين وحذف لدلالة - ألم تر - عليه على أنه قد قيل : إن مثال هذا النظم كثيرا ما يحذف منه فعل الرؤية كقوله :
قال لها كلابها أسرعي كاليوم (مطلوبا ، ولا طالبا)
وجيء بهذه الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما في قولك - الفعل الماضي - مثل :
نصر ، وتخصيص هذا بذلك على ما قيل : لأن منكر الأحياء كثير ، والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدعي الربوبية ، وقيل : إنها زائدة - وإلى ذلك ذهب الأخفش - أي أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أو كَالَّذِي مَرَّ إلخ ، وقيل.
إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل : أَلَمْ تَرَ كالذي حاج ، أو كَالَّذِي مَرَّ وقيل : إنه من كلام إبراهيم عليه السلام ذكره جوابا لمعارضة ذلك الكافر ، وتقديره وإن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مرّ ، ولا يخفى ضعفه للفصل وكثرة التقدير ، وإنما لم تجعل الكاف أصلية والعطف على الَّذِي نفسه في الآية السابقة لاستلزامه دخول إلى على الكاف ، وفيه إشكال لأنها إلى كانت حرفية فظاهر وإن كانت اسمية فلأنها مشبهة بالحرف في عدم التصرف لا يدخل عليها من الحروف إلا ما ثبت في كلامهم ، وهو عن - وذلك على قلة أيضا ، وقال بعضهم : إن كلا من لفظ أَلَمْ تَرَ وأَ رَأَيْتَ [الكهف : 63 ، الفرقان : 43 ، العلق : 9 و11 و13 ، الماعون : 1] مستعمل لقصد التعجب إلا أن الأول تعلق بالمتعجب منه فيقال : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله ، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله ، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال - أرأيت مثل الذي صنع كذا بمعنى إنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل ولا يصح أَلَمْ تَرَ إِلَى مثله إذ يكون المعنى أنظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع ، ولذا لم يستقم عطفك كَالَّذِي مَرَّ على الَّذِي حَاجَّ ويحتاج إلى التأويل في المعطوف بجعله متعلقا بمحذوف - أي أرأيت كالذي مر - فيكون من عطف الجملة أو في المعطوف عليه نظرا إلى أنه في معنى - أرأيت كالذي حاج - فيصح العطف عليه ومن هذا يعلم أن عدم الاستقامة ليس لمجرد امتناع دخول إلى على الكاف بل لو قلت أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ أو مثل كَالَّذِي مَرَّ فعدم

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 21
الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب الكلام ، وإن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء بل لا بد في التعجب بكلمة أَرَأَيْتَ من إثبات كاف ، أو ما في معناه - ولا يخفى أن هذا من الغرابة بمكان - فإن أَلَمْ تَرَ يستعمل للتعجب مع التشبيه في كلام العرب كما يشير إليه كلام سيبويه ، أَرَأَيْتَ كثيرا ما يستعمل بدون الكاف أو ما في معناه ، وهو في القرآن كثير وكيف يفرق بينهما بأن الأول تعلق بالمتعجب منه ، وفي الثاني بمثله ، والمثلية إنما جاءت من ذكر الكاف ولو ذكرت في الأول لكان مثله بلا فرق فهذا مصادرة على المطلوب فليس إلا ما ذكر أولا سوى أن تقدير أَرَأَيْتَ مع الكاف أولى لأن استعماله معها أكثر فتدبر.
وأَوْ للتخيير أو للتفصيل - والمار - هو عزيز بن شرخيا - كما أخرجه الحاكم عن علي كرم اللّه تعالى وجهه.
وإسحق بن بشر عن ابن عباس ، وعبد اللّه بن سلام ، واليه ذهب قتادة ، وعكرمة ، والربيع ، والضحاك ، والسدي ، وخلق كثير - وقيل : هو أرميا بن خلقيا من سبط هرون عليه السلام - وهو المروي عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه -
وإليه ذهب وهب ، وقيل : هو الخضر عليه السلام - وحكي ذلك عن ابن إسحق - وزعم بعضهم أن هذين القولين واحد ، وأن أرميا هو الخضر بعينه ، وقيل : شعيا ، وقيل : غلام لوط عليه السلام ، وقال مجاهد : كان المار رجلا كافرا بالبعث وأيد بنظمه مع نمروذ في سلك واحد حيث سيق الكلام للتعجيب من حالهما ، وبأن كلمة الاستبعاد في هذا المقام تشعر بالإنكار ظاهرا وليست هي فيه مثلها في أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [آل عمران : 40 ، مريم : 8 و20] وأَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران : 47] وعورض بما بين قصته وقصة إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوي فإن كليهما طلبا معاينة الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجري مع كافر - وإذا انضم إلى ذلك تحريه الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول الصادر قبل التبيين الموجب لإيمانه على زعم من يدعي كفره - قوى المعارض جدا ، وإن قلنا :
بأن دلالة الانتظام في سلك نمروذ على الإيمان أحق لينطبق على التفصيل المقدم في اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ حسب ما أشرنا إليه في القيل قبل لم يكد يتوهم القول بالكفر كما لا يخفى ، - والقرية - قال ابن زيد : هي التي خرج منها الألوف ، وقال الكلبي : دير سابراباد ، وقال السدي : دير سلماباذ ، وقيل : دير هرقل ، وقيل : المؤتفكة ، وقيل : قرية العنب على فرسخين من بيت المقدس ، وقال عكرمة ، والربيع ، ووهب : هي بيت المقدس وكان قد خربها بختنصر وهذا هو الأشهر ، واشتقاقها من القرى وهو الجمع وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوفها بأن سقط السقف أولا ثم تهدمت الجدران عليه ، وقيل : المعنى خالية عن أهلها ثابتة على عروشها أي إن بيوتها قائمة والجار والمجرور على الأول متعلق - بخاوية - وعلى الثاني بمحذوف وقع خبرا بعد خبر - لهي - والجملة قيل : في موضع الحال من الضمير المستتر في مَرَّ وقيل : من قَرْيَةٍ ويجيء الحال من النكرة على القلة ، وقيل : في موضع الصفة لها ويبعده توسط الواو ، ومن الناس من جوز كون عَلى عُرُوشِها بدلا من قَرْيَةٍ بإعادة الجار وكونه صفة لها ، وجملة وَهِيَ خاوِيَةٌ إما حال من - العروش - أو من - القرية - أو من - ها - والعامل معنى الاضافة والكل مما لا ينبغي حمل التنزيل عليه قالَ في نفسه أو بلسانه أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها المشار إليه إما نفس القرية بدون تقدير كما هو الظاهر ، فالاحياء والاماتة مجازان عن العمارة والخراب ، أو بتقدير مضاف - أي أصحاب هذه القرية - فالإحياء والإماتة على حقيقتها ، وإما عظام القرية البالية وجثثهم المتفرقة ، والسياق دال على ذلك ، والاحياء والاماتة على حالهما أيضا ، فعلى القول بالمجاز يكون هذا القول على سبيل التلهف والتشوق إلى عمارة تلك القرية لكن مع استشعار اليأس عنها على أبلغ وجه وأوكده ولذا أراه اللّه تعالى أبعد الأمرين في
نفسه ، ثم في غيره ، ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة في إزاحة ما عسى يختلج في خلده ، وعلى القول الثاني يكون اعترافا بالعجز عن معرفة طريق الاحياء واستعظاما لقدرة

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 22
المحيي إذا قلنا : إن القائل كان مؤمنا وإنكارا للقدرة على ذلك إن كان كافرا ، ورجح أول الاحتمالات الثلاثة في المشار إليه بأن إرادة إحياء - لأهل ، أو عظامهم - يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر ، والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا أو عظاما نخرة مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستسمعه ، وتقديم المفعول على الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشئ من جهته لا من جهة الفاعل ، وأَنَّى نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى ، وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف ، والعامل فيه على أي حال يُحْيِي.
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ أي فألبثه ميتا مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا تمتد - والعام - السنة من العوم وهو السباحة ، وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروجها ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ، ولعل إيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري عز اسمه ، وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية ، ففي البحر أنه لما مر له سبعون سنة من موته وقد منعه اللّه تعالى من السباع والطير ومنع العيون أن تراه أرسل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له : كوسك فقال : إن اللّه تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها وأهلك اللّه تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى اللّه تعالى من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه اللّه تعالى قالَ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا قال له؟ فقيل قال : كَمْ لَبِثْتَ ليظهر له العجز عن الإحاطة بشؤون اللّه تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و«كم» نصب على الظرفية ومميزها محذوف تقديره كَمْ وقتا والناصب له لَبِثْتَ والظاهر أن القائل هو اللّه تعالى ، وقيل : هاتف من السماء ، وقيل : جبريل ، وقيل : نبي ، وقيل : رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين إحيائه فيكون الإسناد إليه تعالى مجازا قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه ، وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس : يَوْماً ثم التفت فرأى بقية منها فقال : أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
على الإضراب ، واعترض بأنه لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ قيل : كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة ، واشتقاقه من - السنة - وفي لامها اختلاف فقيل : هاء بدليل سانهت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء ، وقيل : واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه ، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضي السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج ، وقيل : أصله لم يتسنن. ومنه - الحمأ المسنون - أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظننت : تظنيت ، وفي تقضضت : تقضيت ، وقد أبدلت هنا النون الأخيرة في رأي ياء ، ثم أبدلت الياء ألفا ، ثم حذفت للجازم والجملة المنفية حال ، وقد جاء مثلها بغير واو خلافا لمن تردد فيه كقوله تعالى : لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [الأنعام : 19 ، 93] وأُوحِيَ إِلَيَّ [هود : 36] وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام : 93] وصاحبها إما الطعام والشراب ، وإفراد الضمير لاجرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة عبد اللّه ، وهذا شريك - لم يتسنه - وقرأ أبي - لم يسنه - بإدغام

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 23
التاء في السين واستشكل تفرع فَانْظُرْ على - لبث المائة - بالفاء وهو يقتضي التغير ، وأجيب بأن المفرع عليه ليس - البث الماء بل لبث المائة من غير تغير في جسمه حتى ظنه زمانا قليلا ففرع عليه ما هو أظهر منه وهو عدم تغير الطعام والشراب وبقاء الحيوان حيا من غير غذاء ، وقيل : إن التقدير - إن حصل لك عدم طمأنينة في أمر البعث - فانظر إلى طعامك وشرابك السريع التغير حتى تعرف أن من لم يغيره يقدر على البعث. وفيه نظر لأنه مع كونه خلاف الظاهر يعكر عليه قوله تعالى : وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصاله وهذا هو الظاهر لأنه أدل على الحال وأوفق بما بعده ، وكون المراد - انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب - ليس بشيء ولا يساعده المأثور وَلِنَجْعَلَكَ متعلق بمقدر أي وفعلنا ذلك لنجعلك ، ومنهم من قدره متأخرا ، وقيل : إنه متعلق بما قبله والواو زائدة وعلى تقديره فهو معطوف على لَبِثْتَ أو على مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدت أو لتهدى ولنجعلك ، وقيل : إنه عطف على قالَ ففيه التفات آيَةً أي عبرة أو مرشدا لِلنَّاسِ أي جنسهم أو من بقي من قومه أو للموجودين في هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا عنك ما انطوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة ، وفيه دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك قرن بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ أي عظام الحمار - كما قاله السدي - وكرر الأمر لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث الدلالة على المكث المديد ، وثانيا هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها ، وقيل : عظام أموات أهل القرية ، وعن قتادة ، والضحاك ، والربيع عظام نفسه قالوا : أول ما أحيا اللّه تعالى منه عيناه وسائر جسده ميت وعظامه نخرة فأمر بالنظر إليها ، وقيل : عظامه وعظام حماره والكل لا يعول عليه.
كَيْفَ نُنْشِزُها بالزاي المعجمة من الإنشاز وهو الرفع أي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد ، وقال الكسائي : نلينها ونعظمها ، وقرأ أبي ننشيها ، وابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب - ننشرها - من أنشر اللّه تعالى الموتى أحياها ولعل المراد بالاحياء ما تقدم لا معناه الحقيقي لقوله تعالى : ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أي نسترها به كما نستر الجسد باللباس ، وقرأ أبان عن عاصم - ننشرها - بفتح النون وضم الشين والراء وهو حينئذ من النشر ضد الطي - كما قال الفراء - فالمعنى كيف نبسطها ، والجملة قيل : إما حال من العظام أي وانظر إليها مركبة مكسوة لحما أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية انشازها وبسط اللحم عليها ، واعترضت الحالية بأن الجملة استفهامية وهي لا تقع حالا ، وأجيب بأن الاستفهام ليس على حقيقته فما المانع من الحالية ، ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح - كما قيل - لما أنها مما لا تقتضي الحكمة بيانها ، وفي بعض الآثار إن ملكا نادى العظام فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم ألبسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الروح فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي اتضح اتضاحا تاما له ما دل عليه الأمر من كيفية الإحياء بمباديه ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللإشعار بسرعة وقوعه كأنه قيل :
فأنشرها اللّه تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين ذلك قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ومن جملته ما شوهد قَدِيرٌ.
وقيل : فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم فالكلام من باب التنازع على مذهب البصريين ، وأورد عليه أن شرط التنازع كما نص عليه النحاة اشتراك العاملين بعطف ونحوه بحيث يرتبطان فلا يجوز ضربني أهنت زيدا قيل : وليس بشيء لأنه لم يشترطه إلا ابن عصفور ، وقد صرح بازات الفن بخلافه - كأبي علي وغيره - مع أنه لم يخص بالعطف إذ هو جار في قوله تعالى : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة : 19] و- لما - رابطة للجملتين فيكفي مثله في الربط وإن لم

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 24
يصرحوا به ، ومن الناس من استحسن أن يجعل من باب ما يكون المراد بالفعل نفس وقوعه لا التلبس بالفاعل فكان معناه فلما حصل له التبين قالَ أَعْلَمُ إلخ ، ويساعده قراءة ابن عباس رضي اللّه عنهما فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ على البناء للمفعول ، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى أن أصله لم يتغير بل إنما تبدل بالعيان وصفه ، وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناء على الاستبعاد العادي واستعظاما للأمر ، وقرأ ابن مسعود - قيل أعلم - على وجه الأمر ، وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ قالَ أَعْلَمُ ويقول : لم يكن بأفضل من إبراهيم عليه السلام قال اللّه تعالى له : أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ [البقرة : 26] وبذلك قرأ حمزة ، والكسائي ، والآمر هو اللّه تعالى ، أو النبي ، أو الملك ، ويحتمل أن يكون المخاطب هو نفسه على سبيل التجريد مبكتا لها موبخا على ما اعتراها من ذلك الاستبعاد ،
يروى أنه بعد هذا القول قام فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكرهم وأنكر منازلهم فانطلق على وهم منهم حتى أتى فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة له وكان قد خرج عزير وهي بنت عشرين سنة فقال لها : يا هذه أهذا منزل عزيز؟ قالت : نعم وبكت وقالت : ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا سنة يذكر عزيزا وقد نسيه الناس قال : فإني أنا عزيز قالت : سبحان اللّه فإن عزيز قد فقدناه منذ مائة سنة فلم يسمع له بذكر قال : فإني عزيز كان اللّه تعالى أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت : فإن عزيزا كان رجلا مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع اللّه تعالى أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصّحتا وأخذ بيدها فقال : قومي بإذن اللّه تعالى فأطلق اللّه تعالى رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت : أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وأنديتهم ومجالسهم ، وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت : هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا إلى ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي ، وزعم أن اللّه تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا عليه فنظروا إليه فقال ابنه : كانت لأبي شامة سوداء بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزيز فقالت بنو إسرائيل : فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا وكان أبوه قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه غير عزير فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فنزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل ، وفي رواية أنه قرأها عليهم حين طلبوا
منه ذلك عن ظهر قلب من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين مما ورد بيت المقدس بعد مهلك بختنصر : حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوها فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزيز عن ظهر قلب فما اختلفا في حرف واحد - فعند ذلك قالوا : عزيز ابن اللّه
تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ لأنه في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي اللازم للفطرة وهو لا مدخل للإكراه فيه قَدْ تَبَيَّنَ ووضح الرُّشْدُ الذي هو طريق الوحدة وتميز مِنَ الْغَيِّ الذي هو النظر إلى الأغيار فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وهو ما سوى اللّه تعالى وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا حقيقيا شهوديا فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي الوحدة الذاتية لَا انْفِصامَ لَها في نفسها لأنها الموافقة لما في نفس الأمر والممكنات والشؤون داخلة في دائرتها غير منقطعة عنها وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع قول كل ذي دين عَلِيمٌ بنيته اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وليس وليّ سواه ولا ناصر ولا معين لهم غيره يُخْرِجُهُمْ مِنَ ظلمات - النفس وشبه

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 25
الخيال والوهم إلى نور اليقين والهداية وفضاء عالم الأرواح وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالميل إلى الأغيار أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ الذي حال بينهم وبين اللّه تعالى فلم يلتفتوا إليه يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات أُولئِكَ المبعدون عن الحضرة أَصْحابُ النَّارِ الطبيعية هُمْ فِيها خالِدُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ وهو نمروذ النفس الأمارة المجادلة لإبراهيم الروح القدسية التي ألقيت في نار الطبيعة فعادت عليها بردا وسلاما ، أو نمروذ الجبار وإبراهيم الخليل عليه السلام أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ الذي هو عالم القوى البدنية وملك هذه الدنيا الدنية إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الروح أو إبراهيم الخليل رَبِّيَ أني من غذيت ببيان أنواره أو إيجاده وهدايته الَّذِي يُحْيِي من توجه إليه وَيُمِيتُ من أعرض عنه ، أو يحيي ويميت الإحياء والإماتة المعهودتين قالَ نمروذ النفس الأمارة ، أو الجبار أَنَا أُحْيِي بعض القوى بصرفها في ميادين اللذات واستنشاق ريح الشهوات وَأُمِيتُ بعضها بتعطيله عن ذلك برهة ، أو أحي بالعفو وأميت بالقتل قالَ إِبْراهِيمُ الروح ، أو الخليل فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بشمس العرفان من مشرقها وهو جانب المبدأ الفياض فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ أي أظهرها عد غروبها وحيلولة أرض الوجود بينك وبينها ، أو أن اللّه - يأتي بشمس الروح من مشرقها - وهو مبدأها الأصلي فتشرق أنوارها على صفحات البدن - فأت بها بعد ما غربت - أي فأرجعها إلى من قتله وأمته ، وعلى هذا يكون من تتمة الأول فَبُهِتَ وغلب الَّذِي كَفَرَ وهو النفس الأمارة المدعية للربوبية على عرش البدن أو نمروذ اللعين أَوْ كَالَّذِي مَرَّ وهو العقل الإنساني عَلى قَرْيَةٍ القلب الذي هو البيت المقدس ، أو هو عزيز النبي وكان قدم على بيت المقدس قبل التجلي
باسمه تعالى المحيي وَهِيَ خاوِيَةٌ خالية من التجليات النافعة ثابتة عَلى عُرُوشِها صورها أو ساقطة منهدمة لضعف أس الاستعداد على عروش العزائم قالَ لذهوله عن النظر إلى الحقائق أَنَّى متى ، أو كيف يُحْيِي هذِهِ القرية اللّه الجامع لصفات الجمال والجلال بَعْدَ مَوْتِها بداء الجهل والالتفات إلى السوي فَأَماتَهُ اللَّهُ أبقاه جاهلا مائة عام أي مدة طويلة ، وقيل : هي عبارة في الأصل عن ثمانية أعوام وأربعة أشهر أو خمسة وعشرين سنة ثم بعثه بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها - إلا يوما أو بعض يوم - استصغارا لمدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية ، أو أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل اللّه تعالى ، أو أماته حتنف أنفه بالموت الطبيعي ثم بعثه بالإحياء قال : بل لبثت في الحقيقة مائة عام فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وكان التين أو العنب ، والأول إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله وكون الجزئيات فيه بالقوة كالحبات التي في التين ، والثاني إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالقشر والعجم وَشَرابِكَ وكان عصير العنب واللبن ، والأوّل إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق ، والثاني إشارة إلى العلم النافع كالشرائع لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير عما كان في الأول بحسب الفطر مودعا فيك فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعداده الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وإن حجبت بالمواد وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها لم تبطل لم تتغير عن حالها حتى إذا رفع الحجاب ظهرت كما كانت وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وهو القالب الحامل للقلب أو المعنى الظاهر وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً أي دليلا للناس بعثناك وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ من القوى كَيْفَ نُنْشِزُها ونرفعها عن أرض الطبيعة ثُمَّ
نَكْسُوها لَحْماً وهو العرفان الذي يكون لباسا لها ، وعبر عنه باللحم لنموه وريادته كلما تغذت الروح بأطعمة الشهود وأشربة الوصال ، والمعنى الظاهر ظاهر فلما تبين ووضح له ذلك قالَ أَعْلَمُ علما مستمرا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ومن جملته ما كان قَدِيرٌ لا يستعصى عليه ولا يعجزه وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ بيان لتسديد المؤمنين إثر بيان ولمغايرته لما تقدم كما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى غير الأسلوب والظرف منتصب إما بمضمر صرح بمثله في قوله تعالى : وَاذْكُرُوا

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 26
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ [الأعراف : 69 ، 74] وإيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بطريق برهاني وإما - يقال - الآتي وقد تقدم تحقيق ذلك رَبِّ كلمة استعطاف شرع ذكرها قبل الدعاء مبالغة في استعداد الإجابة أَرِنِي من الرؤية البصرية المتعدية بهمزة النقل إلى مفعولين فالباء مفعوله الأوّل وقوله تعالى : كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى في محل مفعوله الثاني المعلق عنه ، وإلى ذلك ذهب أكثر المعربين ، واعترض بأن البصرية لا تعلق ، وأجيب بأن ذلك إنما ذكره بعض النحاة ، ورده ابن هشام بأنه سمع تعليقها ، وفي شرح التوضيح يجوز كونها علمية ، ومن الناس من لم يجعل «ما» هنا من التعليق في شيء وجعل كلمة كَيْفَ إلخ في تأويل مصدر هو المفعول كما قاله ابن مالك في قوله تعالى : وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إبراهيم : 45] ثم الاستفهام - بكيف - إنما هو سؤال عن شيء متقرر الوجود عند السائل والمسئول ، فالاستفهام هنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أي - بصرني كيفية إحيائك للموتى - وإنما سأله عليه السلام لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين ، وفي الخبر «ليس الخبر كالمعاينة»
وكان ذلك حين رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر والهواء قاله الحسن ، والضحاك ، وقتادة ، وهو المروي عن أهل البيت ، وروى عن ابن عباس ، والسدي ، وسعيد بن جبير أن الملك بشره عليه السلام بأن اللّه تعالى قد اتخذه خليلا وأنه يجيب دعوته ويحيي الموتى بدعائه فسأل لذلك ، وروى عن محمد بن إسحق بن يسار أن سبب السؤال منازعة النمروذ إياه في الأحياء حيث رد عليه لما زعم أن العفو إحياء وتوعده بالقتل إن لم يحي اللّه تعالى الميت بحيث يشاهده فدعا حينئذ قالَ استئناف مبني على السؤال والضمير للرب أَوَلَمْ تُؤْمِنْ عطف على مقدر - أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني عنه - أو بأني قد اتخذتك خليلا ، أو بأن الجبار لا يقتلك قالَ أي إبراهيم بَلى آمنت بذلك وَلكِنْ سألت لِيَطْمَئِنَّ أي يسكن قَلْبِي بمضامة الأعيان إلى الإيمان والإيقان بأنك قادر على ذلك ، أو لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بالخلة أو بأن الجبار لا يقتلني ، وعلى كل تقدير لا يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافي منصب النبوة أصلا ، وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية - وما ذكر هو المشهور فيها - ويعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه السلام من الكلام ، وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر دينيّ والعياذ باللّه ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها ، فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه ، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كَيْفَ وموضوعها السؤال عن الحال ، ونظير هذا أن يقول القائل : كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ولو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال - أيحكم زيد في الناس - ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحاشاه شكا من هذه الآية قطع النبي صلى
اللّه عليه وسلم دابر هذا الوهم
بقوله على سبيل التواضع : «نحن أحق بالشك من إبراهيم»
أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى ، وقيل : إن الكلام مع أفعل جاء هنا لنفي المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام أي لا شك عندنا جميعا ، ومن هذا الباب أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [الدخان : 37] أي لا خير في الفريقين ، وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له : أرني كيف تحمل هذا وتريد أنك عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه يفهمها كل من يسمعها فهما لا يتخالجه فيه شك ، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد ، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه ، ولا أرى

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 27
رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه السلام شيئا وإنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به ، ومن هنا تعلم أن عليا كرم اللّه تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في الإيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه
بقوله : لو كشفت لي الغطاء ما ازددت يقينا
كما ظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية الثاني على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه الجحود لقوله تعالى :
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل : 14] والطمأنينة لا يتصور طروّ ذلك عليها - ونسب هذا لحجة الإسلام الغزالي - وفي القلب منه شيء ، وبعض قرر في دفعه أن مقام النبوة مغاير لمقام الصديقية ، فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه ، ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه أيضا ، وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان : 45] على ما يعرفه أهل الذوق من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما السلام متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنية كما أبانا عن أنفسهما - برب أرني كيف تحيي الموتى ، ورب أرني أنظر إليك - وطمأنينة مقام الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم اللّه تعالى وجهه
بقوله : «لو كشف» إلخ ،
وكان الاستعداد في صديقي سائر الأنبياء متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم على سائر إخوانه من الأنبياء والصديقية على سائر الصديقين من أممهم ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمأنينتهم الفضيلة على الأنبياء عند فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجده الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان حاصلا لهم ، وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر رضي اللّه تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم
أنه قال : إني لأسهو
فقال : يا ليتني كنت سهو محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم إذ علم أن ما يعده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من نفسه الكريمة سهوا فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وحسنات المقربين سيئات النبيين ، وهذا أولى مما سبق ، وبعض من المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن أولياء هذه الأمة وصديقيهم أعلى كعبا من الأنبياء ولو نالوا مقام الصديقية محتجبين بما روى عن الإمام الرباني سيدي وسندي عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال : يا معاشر الأنبياء الفرق بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه ، وببعض عبارات للشيخ الأكبر قدس سره ينطق بذلك ، وأنت تعلم أن التزام ذلك والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين ، ويوشك أن يكون القول به كفرا بل قد قيل به ، وما روي عن الشيخ عبد القادر قدس سره فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه ، وما يعزى إلى الشيخ الأكبر قدس سره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس سره - وهو الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم الولاية الخاصة - والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق ، وبتقدير تسليم ما نقل عمن نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول : إن ذلك القول صدر عن القائل عند فنائه في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه ، والوقوف عند رتبته - وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة - وبعيد عنه بمراحل ، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء اللّه تعالى ، فخزائن الفكر وللّه الحمد مملوءة ، ولكل مقام مقال ، هذا وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الاستدلال حيث يجوز معنى ذلك ، واعترض بأن العلم
الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام سببه مذكورا في نفس العالم وإنما الذي قبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق في الذكر وبهذا

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 28
ينحط الاعتقاد الصحيح عن العلم ، وأجيب بأن هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه - على ما ذكره ابن الحاجب في مختصره - وقد قيل عليه ما قيل فتدبر ، واللام في لِيَطْمَئِنَّ لام كي والفعل منصوب بعدها بإضمار أن ، وليس بمبني كما - زلق السمين - ومتعلق اللام محذوف كما أشرنا حذف - ما - منه الاستدراك وقيل المتعلق أَرِنِي ولا أراه شيئا ، والماضي للفعل - اطمأن على وزن اقشعر ، واختلف هل هو مقلوب أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوب من - اطأمن - فالطاء فاء الكلمة. والهمزة عينها. والميم لامها فقدمت اللام التي هي الميم على العين وهي الهمزة فوزنه افلعل ، ومذهب الجرمي أنه غير مقلوب وكأنه يقول - اطأمن واطمأن - مادتان مستقلتان ومصدره الطمأنينة بسكون الميم وفتح الهمزة ، وقيل : طمأنينة بتخفيف الهمزة وهو قياس مطرف عند الكوفيين وهو على غير قياس المصادر عند الجميع إذ قياس اطمأن أن يكون مصدره على الاطمئنان ، وقرئ - أرني - بسكون الراء قالَ أي الرب فَخُذْ الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ.
أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ المشهور أنه اسم جمع كركب وسفر ، وقيل : بل هو جمع طائر كتاجر وتجر - وإليه ذهب أبو الحسن - وقيل : بل هو مخفف من طير بالتشديد ، وقال أبو البقاء : هو في الأصل مصدر طار يطير ثم سمي به هذا الجنس وألحقت التاء في عدده لاعتباره مذكرا واسم الجنس لما لا يعقل يذكر ويؤنث والجار متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله أو متعلق - بخذ - والمروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها الغرنوق ، والطاوس ، والديك ، والحمامة ، وعن مجاهد بدل الغرنوق الغراب ، وفي رواية بدل الحمامة بطة ، وفي رواية نسر ، وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان باعتبار طلبه المعاش والمسكن ولذلك وقع
في الحديث «لو توكلتم على اللّه تعالى حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا»
ولأنه أجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة ولما فيه من مزيد أجزاء من الريش ففي إحيائها من يد ظهور القدرة ولأن من صفته الطيران في السماء وكان من همة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الميل إلى جهة العلو والوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته فَصُرْهُنَّ قرأ حمزة ويعقوب بكسر الصاد ، والباقون بضمها مع التخفيف من - صاره يصوره ويصيره - لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما كما ذكره أبو علي ، وقال الفراء : الضم مشترك بين المعنيين ، والكسر بمعنى القطع فقط ، وقيل : الكسر بمعنى القطع ، والضم بمعنى الإمالة ، وعن الفراء إن صاره مقلوب صراه عن كذا قطعة ، والصحيح أنه عربي ، وعن عكرمة أن نبطي ، وعن قتادة أنه حبشي ، وعن وهب أنه رومي ، فإن كان المراد - أملهن - فقوله تعالى :
إِلَيْكَ متعلق به وإن كان المراد - فقطعهن - فهو متعلق - بخذ - باعتبار تضمينه معنى الضم ، واختار أبو البقاء أن يكون حالا من المفعول المضمر أي - فقطعهن مقربة ممالة - إليك - وزعم ابن هشام - تبعا لغيره - أنه لا يصح تعليق الجار - بصرهن - مطلقا إن لم يقدر مضاف أي إلى نفسك محتجا بأنه لا يتعدى فعل غير علمي عامل في ضمير متصل إلى المنفصل ، ورد بأنه إنما يمنع إذا كان متعديا بنفسه أما المتعدي بحرف فهو جائز كما صرح به علماء العربية ، وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : - «فصرّهن» - بتشديد الراء مع ضم الصاد وكسرها من صره إذا جمعه ، والراء إما مضمومة للاتباع أو مفتوحة للتخفيف ، أو مكسورة لالتقاء الساكنين ، وعنه أيضا - «فصرّهن» - من التصرية بفتح الصاد وكسر الراء المشددة وأصلها تصررة فأبدل أحد أحرف التضعيف ياء وهي في الأصل من صريت الشاة إذا لم تحلبها أياما حتى يجتمع اللب ژن في ضرعها ثم استعمل في مجرد معنى الجمع - أي اجمعهن وضمهن إليك لتتأملها وتعرف شأنها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا.
ثُمَّ اجْعَلْ أي ألق ، أو صير بعد ذبحهن وخلط لحومهن وريشهن ودمائهن كما قاله قتادة.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 29
عَلى كُلِّ جَبَلٍ يمكنك الوضع عليه ولم يعين له ذلك - كما روي عن مجاهد. والضحاك - وروي عن ابن عباس والحسن ، وقتادة أن الجبال كانت أربعة ، وعن ابن جريج. والسدي أنها كانت سبعة ، وعن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه أنها كانت عشرة مِنْهُنَّ أي من تلك الطير جُزْءاً أي قطعة ، وبعضا ربعا ، أو سبعا ، أو عشرا ، أو غير ذلك ، وقرئ «جزوءا» بضمتين «وجزا» بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف وهو مفعول - لا جعل - والجاران قبله متعلقان بالفعل ، ويجوز أن يكون على كل مفعولا ثانيا له إن كان بمعنى صير ، ومِنْهُنَّ حال من جُزْءاً لأنه في الأصل صفة للنكرة قدمت عليها ثُمَّ ادْعُهُنَّ أي نادهنّ ،
أخرج ابن المنذر عن الحسن قال : إنه عليه الصلاة والسلام نادى أيتها العظام المتمزقة واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة اجتمعي يرد اللّه تعالى فيكن أرواحكن فوثب العظم إلى العظم وطارت الريشة إلى الريشة وجرى الدم إلى الدم حتى رجع إلى كل طائر دمه ولحمه وريشه ثم أوحى اللّه تعالى إلى إبراهيم إنك سألتني كيف أحيي الموتى وأني خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة أرواح الشمال. والصبا. والجنوب. والدبور حتى إذا كان يوم القيامة نفخ نافخ في الصور فيجتمع من في الأرض من القتلى والموتى كما اجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ثم قرأ ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان : 28]
وعن مجاهد أنه دعاهن باسم إله إبراهيم تعالين ، واستشكل بأن دعاء الجماد غير معقول ، وأجيب بأنه من قبيل دعاء التكوين ، وقيل : في الآية حذف كأنه قيل : فقطعهن ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا فإن اللّه تعالى يحييهن فإذا أحياهن فادعهن.
يَأْتِينَكَ سَعْياً فالدعاء إنما وقع بعد الإحياء. ولا يخفى أن الآثار مع ما فيه من التكلف لا تساعده ، وأعظم منه فسادا ما قيل : إنه عليه الصلاة والسلام جعل على كل جبل منهن طيرا حيا ثم دعاها فجاءت فإن ذلك مما يبطل فائدة الطلب ويعارض الأخبار الصحيحة فإن أكثرها ناطق بأنه دعاها ميتة متفرقة الأجزاء ، وفي بعضها أن رؤوسهن كانت بيده فلما دعاهن جعل كل جزء منهن يأتي إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رؤوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة ، وسعيا حال من فاعل - يأتينك - أي ساعيات مسرعات ، أو ذوات سعي طيرانا أو مشيا ، وقيل : إطلاق السعي على الطيران مجاز ، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية كقعدت جلوسا ، ومن الغريب ما نقل عن النضر بن شميل.
قال : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى : يَأْتِينَكَ سَعْياً هل يقال الطائر إذا طار سعى؟ فقال : لا قلت : فما معناه؟ قال : معناه يَأْتِينَكَ وأنت تسعى سعيا - وهو من التكلف الغير المحتاج إليه بمكان - وإنما اقتصر سبحانه على حكاية أوامره جل شأنه من غير تعرض لامتثال خليله عليه الصلاة والسلام ، ولا لما ترتب عليه من آثار قدرته التي علمت النزر منها للايذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا ، وزعم بعضهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام لم يفعل شيئا مما اقتضاه ظاهر الكلام وأن الأوامر فيه مثلها في قولك لمن لا يعرف تركيب الحبر مثلا : خذ كذا وكذا وأمكنهما سحقا وألق عليهما كذا وكذا وضع ذلك في الشمس مدة أيام ثم استعمله تجده حبرا جيدا فأنا لا يقتضي الامتثال إذا كان الغرض مجرد تعليم ، و- الرؤية - هنا علمية كما نقل عن شرح التوضيح ، وإبراهيم حصل له العلم التام بمجرد وصف الكيفية واطمأن قلبه وسكن لبه ، ولهذا لم يذكر اللّه تعالى ما ترتب على هذه الأوامر من هاتيك الأمور ولم يتعرض للامتثال ولم يعبأ بالإيماء إليه - بقال - أو حال - ومال إلى هذا القول أبو مسلم فأنكر القصة أيضا ، وقال : إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما طلب إحياء الموتى من ربه سبحانه وأراه مثالا محسوسا قرب الأمر عليه ، والمراد - بصرهن - أملهن ومرنهنّ على الإجابة - أي عود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة -

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 30
والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا يخفى أن هذا خلاف إجماع المسلمين ، وضرب من الهذيان لا يركن إليه أرباب الدين وعدول عما يقتضيه ظاهر الآية المؤيد بالأخبار الصحيحة والآثار الرجيحة إلى ما تمجه الاسماع ولا يدعو إليه داع فالحق اتباع الجماعة ويد اللّه تعالى معهم ، وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء الموتى يوم القيامة يجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية ، واحتج بها بعضهم أيضا على أن البنية ليست شرطا في الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا قادرا على السعي والعدو ، وقال القاضي : دلت الآية على أنه لا بد من البنية حيث أوجب التقطيع بطلان الحياة ، وأجيب بأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة ، والانفكاك في بعض الأحوال يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء كانت دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة - وفيه تأمل - والمشهور أنها حجة على من ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهي ظاهرة في أنه يزيد في الكيف وإن كان لا يزيد في الكم لكن المكلف به هو الجزم الحاصل بالنظر والاستدلال ، ويسميه البعض علم اليقين لا الجزم الكائن بالمشاهدة المسمى بعين اليقين فإن في التكليف به حرجا في الدين ، وأنت تعلم أن في دلالة الآية على زيادة الايمان ونقصه بناء على الوجه الذي أشرنا إلى اختياره ترددا كما لا يخفى وفيها أيضا دليل على فضل الخليل عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما
يكون من الوجوه ، وأرى عزيزا عليه السلام ما أراه بعد ما أماته مائة عام. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة في أفعاله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن خرق العادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح ،
حكى أن اللّه سبحانه لما وفى لابراهيم عليه الصلاة والسلام بما سأل قال له : يا إبراهيم نحن أريناك كيف نحيي الموتى فأرنا أنت كيف تميت الأحياء
مشيرا إلى ما سيأمره به من ذبح ولده عليه الصلاة والسلام وهو من باب الانبساط مع الخليل ودائرة الخلة واسعة إلا أن حفاظ المحدثين لم يذكروا هذا الخبر وليس له رواية في كتب الأحاديث أصلا.
(و من باب الاشارة في هذه القصة) البقرة 261 - 672 وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى أي موتى القلوب بداء الجهل قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي ألم تعلم ذلك علما يقينا قالَ بَلى أعلم ذلك :
ولكن للعيان لطيف معنى له سأل المشاهدة الخليل
وهو المشار إليه بقوله سبحانه : لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الذي هو عرشك قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ إشارة إلى طيور الباطن التي في قفص الجسم ، وهي أربعة من أطيار الغيب : العقل ، والقلب ، والنفس ، والروح فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أي ضمهن واذبحهن ، فاذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت ، واذبح طير القلب بسكين الشوق على باب الجبروت ، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية ، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الربانية ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فاجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه في ، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكير منعوتا بصرف نور المحبة ، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية ، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 31
التجليات ثُمَّ ادْعُهُنَّ ونادهنّ بصوت سر العشق يَأْتِينَكَ سَعْياً إلى محض العبودية بجمال الأحدية وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ يعزك بعرفانك هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة حَكِيمٌ في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك ، وقد يقال : أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى القوى الأربعة التي تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية ، ووقع في أثر أنها كانت طاوسا ، وديكا ، وغرابا ، وحمامة ، ولعل الطاوس إشارة إلى العجب ، والديك إلى الشهوة ، والغراب إلى الحرص ، والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر والبرج ، وفي أثر بدل الحمامة بطة ، وفي آخر نسر ، وكأن الأوّل إشارة إلى الشره الغالب ، والثاني إلى طول الأمل ، ومعنى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ حينئذ ضمهنّ وأملهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها ، وفي الأثر أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده - أي يمنعها عن أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة ويبقي أصولها فيه - ثم أمر أن يجعل على كل من الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه جزءا منهنّ
وكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع العناصر التي هي فيه ، وفي رواية أن الجبال كانت سبعة
فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن ، وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة ، وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة متى دعيت أتت سعيا وامتثلت طوعا وذلك هو الفوز العظيم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 261 إلى 276]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 32
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في وجوه الخيرات الشاملة للجهاد وغيره ، وقيل : المراد الإنفاق في الجهاد لأنه الذي يضاعف هذه الأضعاف ، وأما الإنفاق في غيره فلا يضاعف كذلك وإنما تجزى الحسنة بعشر أمثالها كَمَثَلِ حَبَّةٍ خبر عن المبتدأ قبله ولا بد من تقدير مضاف في أحد الطرفين أي مثل نفقة الذين كَمَثَلِ حَبَّةٍ أو مثلهم كمثل باذر حبة ولولا ذلك لم يصح التمثيل ، والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للاقتيات وأكثر إطلاقه على البر وبذر ما لا يقتات به من البقل حبة بالكسر أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ أي أخرجت تلك الحبة ساقا تشعب منه سبع شعب لكل واحد منها سنبلة. فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما نرى ذلك في كثير من الحب في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك ، والسنبلة على وزن فنعلة فالنون زائدة لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل ، وقيل : وزنه فعلله فالنون أصلية والأول هو المشهور وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز لأنها سبب للإنبات - والمنبت في الحقيقة هو اللّه تعالى - وهذا التمثيل تصوير للإضعاف كأنها حاضرة بين يدي الناظر فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
وَاللَّهُ يُضاعِفُ هذه المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء اللّه تعالى ، واقتصر بعض على الأول ، وبعض على الثاني ، والتعميم أتم نفعا لِمَنْ يَشاءُ من عبادة المنفقين على حسب حالهم من الإخلاص والتعب وإيقاع الإنفاق في أحسن مواقعه ،
أخرج ابن ماجه ، وابن أبي حاتم عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وعمران بن حصين ،

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 33
وأبي أمامة ، وعبد اللّه بن عمر ، وجابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهم كلهم يحدث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «من أرسل بنفقة في سبيل اللّه وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل اللّه تعالى وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية
وعن معاذ بن جبل «إن غزاة المنفقين قد خبأ اللّه تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد» وَاللَّهُ واسِعٌ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة عَلِيمٌ بنية المنفق وسائر أحواله ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة المار على القرية ، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام - وكانا من أدل دليل على البعث - ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يجد جزاءه هناك وهو الإنفاق في سبيل اللّه تعالى كما أعقب قصة الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة : 243] بقوله تعالى عز شأنه : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة : 245 ، الحديد : 11] وكما عقب قتل داود جالوت وقوله تعالى :
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة : 253] بقوله سبحانه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ [البقرة : 254] إلخ.
وفي ذكره الحبة في التمثيل هنا إشارة أيضا إلى البعث وعظيم القدرة إذ من كان قادرا على أن يخرج من حبة واحدة في الأرض سبعمائة حبة فهو قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم بجامع اشتركا فيه من التغذية والنمو الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استئناف جيء به لبيان كيفية الانفاق الذي بين فضله.
ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا أي انفاقهم أو ما أنفقوه مَنًّا على المنفق عليه وَلا أَذىً أي له - والمنّ - عبد الإحسان وهو في الأصل القطع ، ومنه قوله : حبل منين - أي ضعيف - وقد يطلق على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه ، و- الأذى - التطاول والتفاخر على المنفق عليه بسبب إنفاقه ، وإنما قدم المنّ لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة لا لشمول النفي لاتباع كل واحدة منهما ، وثُمَّ للتفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى في الرتبة والبعد بينهما في الدرجة ، وقد استعيرت من معناها الأصلي وهو تباعد الأزمنة لذلك - وهذا هو المشهور في أمثال هذه المقامات - وذكر في الانتصاف وجها آخر في ذلك وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه وعلى هذا لا تخرج عن الأشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناها المستعارة له دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه وعليه يحمل قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت : 30 ، الأحقاف :
13] أي داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد وتلك الاستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات ، وكذلك ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ إلخ أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ليسوا بتاركيه في أزمنة ثم يثوبون إلى الإيذاء وتقليد المنّ ، وبسببه مثله يقع في السين نحو إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات : 99] إذ ليس لتأخر الهداية معنى فيحمل على دوان الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها - وهو كلام حسن - ولعله أولى مما ذكروه لأنه أبقى للحقيقة وأقرب للوضع على أحسن طريقة.
والآية كما
أخرج الواحدي عن الكلبي - والعهدة عليه - نزلت في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف أما عبد الرحمن فإنه جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة فقال : كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضها ربي فقال له رسول اللّه صلى اللّه تعالى وسلم : «بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وأما عثمان رضي اللّه تعالى عنه فقال : عليّ جهاز له في غزوة تبوك فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين ، وقال أبو سعيد الخدري : رأيت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول : «يا رب عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر» فأنزل اللّه تعالى فيه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلخ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ حسبما

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 34
وعدهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول ، وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله تعالى لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول لتضمنه معنى الشرط كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم لكنه عدل عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به استحقاق وصفي ، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق ، وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للايذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المنّ والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ المراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على نظيرها قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك اللّه يرزقك اللّه إن شاء اللّه تعالى أعطيك بعد هذا وَمَغْفِرَةٌ أي ستر لما وقع من السائل من الالحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه خَيْرٌ للسائل مِنْ صَدَقَةٍ عليه يَتْبَعُها من المتصدق أَذىً له لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأوليين من الضرر ، وقيل :
يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة اللّه تعالى للمسؤول بسبب تحمله ما يكره من السائل أو مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسئول خَيْرٌ للمسؤول من تلك الصدقة ، وفيه أن الأنسب أن يكون المفضل والمفضل عليه في هذا المقام كلاهما صفتي شخص واحد - وعلى هذين الوجهين - ليس كذلك على أن اعتبار الخيرية فيهما يؤدي إلى أن يكون في القصة الموصوفة بالنسبة إليه خَيْرٌ في الجملة مع بطلانها بالمرة ، وجعل الكلام من باب هو خير من لا شيء ليس بشيء ، والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المنّ والأذى ، وإنما لم يذكر المنّ لأن الأذى يشمله وغيره ، وذكره فيما تقدم اهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه ، وصح الابتداء بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة ، وقد يقال : إن المعطوف تابع لا يفتقر إلى مسوغ.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقات العباد وإنما أمرهم بها بمصلحة تعود إليهم أو عن الصدقة بالمنّ والأذى فلا يقبلها ، أو غني لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤونة المنّ والأذى ويرزقهم من جهة أخرى حَلِيمٌ فلا يعجل بالعقوبة على المنّ والإيذاء لا أنهم لا يستحقونها بسببهما ، والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة البالغة في إيجاب العمل بموجب النهي ولذلك ناداهم بوصف الإيمان لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى أي بكل واحد منهما لأن النفي أحق بالعموم وأدل عليه ، والمراد بالمنّ المنّ على الفقير كما تقدم وهو المشهور ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما المراد به المنّ على اللّه تعالى ، وبالأذى الأذى للفقير ، واستشكل ابن عطية هذه الآية بأن ظاهرها يستدعى أن أجر الصدقة يبطل بأحد هذين الأمرين ولا يمكن توجه الابطال بذلك إلى نفس الصدقة لأنها قد ثبتت في الواقع فلا يعقل إبطالها ومن العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات خلافا للمعتزلة ، والآية أحد متمسكاتهم ، وأجيب بأن الصدقة التي يعلم اللّه تعالى من صاحبها أنه يمنّ ويؤذي لا تقبل حتى قيل : إنه سبحانه يجعل للملك علامة فلا يكتبها ، والإبطال المتنازع فيه إنما هو في عمل صحيح وقع عند اللّه تعالى في حيز القبول وما هنا ليس كذلك ، فمعنى لا تُبْطِلُوا حينئذ لا تأتوا بهذا العمل باطلا كذا قالوا ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر إلا أن قوله تعالى : كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ فيه نوع تأييد له بناء على أن كَالَّذِي في محل نصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي إلخ وإما على أنه حال من فاعل لا تُبْطِلُوا أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يبطل إنفاقه بالرياء ، ووجه التأييد أن
المرائي بالإجماع لم يأت بالعمل مقبولا صحيحا ، وإنما أتي به باطلا مردودا ، وقد وقع التشبيه في البين فتدبر ، وانتصاب رِئاءَ إما على أنه علة لينفق أي لأجل ريائهم أو على أنه حال من فاعله أي

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 35
ينفق ماله مرائيا ، وجعله نعتا لمصدر محذوف أي إنفاقا رياء الناس ليس بشيء ، وقريب منه جعل الجار حالا من ضمير المصدر المقدر لأنه لا يتمشى إلا على رأي سيبويه ، وأصل رياء رِئاءَ فالهمزة الأولى عين الكلمة والثانية بدل من ياء هي لام لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة ، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة ، وقد قرأ به الخزاعي ، والشموني ، وغيرهما ، والمفاعلة في فعله عند السمين على بابها لأن المرائي يري الناس أعماله والناس يرونه الثناء عليه والتعظيم له والمراد من الموصول ما يشمل المؤمن والكافر - كما قيل - وغالب المفسرين على أن المراد به المنافق لقوله تعالى : وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا فَمَثَلُهُ أي المرائي في الإنفاق ، والفاء لربط ما بعدها بما قبلها كَمَثَلِ صَفْوانٍ أي حجر كبير أملس وهو جمع صفوانة «1» أو صفاء ، أو اسم جنس. ورجح بعود الضمير إليه مفردا في قوله تعالى : عَلَيْهِ تُرابٌ أي شيء يسير منه فَأَصابَهُ وابِلٌ أي مطر شديد الوقع. والضمير للصفوان ، وقيل : للتراب.
فَتَرَكَهُ صَلْداً أي أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلا ، وهذا التشبيه يجوز أن يكون مفرقا فالنافق المنافق كالحجر في عدم الانتفاع ونفقته كالتراب لرجاء النفع منهما بالأجر والإنبات ، ورياؤه كالوابل المذهب له سريعا الضار من حيث يظن النفع ولو جعل مركبا لصح ، وقيل : إنه هو الوجه والأول ليس بشيء.
لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا رياء ولا ينتفعون به قطعا ، والجملة مبينة لوجه الشبه أو استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل : لا يقدرون ، وجعلها حالا من الذي كما قال : السمين مهزول من القول كما لا يخفى ، والضمير راجع إلى الموصول باعتبار المعنى ما بعد روعي لفظه إذ هو صفة لمفرد لفظا مجموع معنى كالجمع والتفريق ، أو هو مستعمل للجمع كما في قوله تعالى : وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة : 69] على رأي ، وقوله :
إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد «2»
وقيل : إن من والذي يتعاقبان فعومل هنا معاملته ، ولا يخفى بعده ، ورجوع الضمير إلى الَّذِينَ آمَنُوا من قبل بالالتفات مما لا يلتفت إليه. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى ما ينفعهم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، وفيه تعريض بأن كلّا من الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لطلب رضاه أو طالبين له. وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي ولتثبيت أو مثبتين بعض أنفسهم على الإيمان - فمن تبعيضية - كما في قولهم هزّ من عطفيه وحرك من نشاطه فإن للنفس قوى بعضها مبدأ بذل المال ، وبعضها مبدأ بذل الروح فمن سخر قوة بذل المال لوجه اللّه تعالى فقد ثبت بعض نفسه ، ومن سخر قوة بذل المال وقوة بذل الروح فقد ثبت كل نفس ، وقد يجعل مفعول تثبيتا محذوفا أي تثبيتا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم وقلوبهم. فمن ابتدائية كما في قوله تعالى : حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة : 109] ويحتمل أن يكون المعنى وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد : «وتبيينا من أنفسهم» وجوز أن تكون مِنْ بمعنى اللام والمعنى توطينا لأنفسهم على طاعة اللّه تعالى. وإلى ذلك ذهب أبو علي
___________
(1) قوله : وهو جمع إلخ كذا بخطه رحمه اللّه.
(2) هو من شعر للأشهب النهشلي وهو شاعر إسلامي من طبقة الفرزدق ، وقيل : للحارث بن مخفض ، و«حانت» بمعنى هلكت وذهبت ، و«فلج» بالسكون موضع بقرب البصرة ، والمراد بدمائهم نفوسهم ا ه إدارة الطباعة المنيرية.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 36
الجبائي - وليس بالبعيد - وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذي هو الداء العضال والرأس لكل خطيئة.
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أي بستان بنشز من الأرض ، والمراد تشبيه نفقة هؤلاء في الزكاء بهذه الجنة ، واعتبر كونها في ربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده.
وقرأ ابن عامر وعاصم بربوة بالفتح ، والباقون بالضم ، وابن عباس بالكسر ، وقرىء «رباوة» وكلها لغات وقرئ :
«كمثل حبة» بالحاء والباء. أَصابَها وابِلٌ مطر شديد فَآتَتْ أي أعطت صاحبها أو الناس ونسبة الإيتاء إليها مجاز. أُكُلَها بالضم الشيء المأكول والمراد ثمرها وأضيف إليها لأنها محله أو سببه ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير.
ونافع بسكون الكاف تخفيفا. ضِعْفَيْنِ أي ضعفا بعد ضعف فالتثنية للتكثير ، أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل ، أو أربعة أمثاله بناء على الخلاف في أن الضعف هل هو المثل أو المثلان ، وقيل :
المراد تأتي أكلها مرتين في سنة واحدة كما قيل في قوله تعالى : تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم : 25] ونصبه على الحال من أكلها أي مضاعفا فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها ، والمراد أن خيرها لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها و- الطل - الرذاذ من المطر وهو اللين منه.
وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند اللّه تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك ، فهناك تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة اللّه تعالى الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشئ عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين الوابل ، والطل ، والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم ، وهذا من التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند اللّه تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه اللّه تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل : - وهو محتمل - لأن يكون التشبيه حينئذ من المفرق - ويحتمل أن يكون من المركب - والكلام مساق للإرشاد إلى انتزاع وجه الشبه وطريق التركيب ، والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني.
والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثر منهم الأضعاف لاجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف لأثمارها ، واختار بعضهم الأول ، وأبى آخرون الثاني فافهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازي كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به ، ففي الجملة ترغيب للأوّل ، وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغنى رؤيته من لا تغنى رؤيته شيئا وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أي أيحب أحدكم ، وكذلك قرأ عمر رضي اللّه عنه في رواية عنه والهمزة فيه للانكار أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ وقرئ جنات مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما ، والنخيل - قيل : اسم جمع ، وقيل : جمع نخل وهو اسم جنس جمعي ، وأَعْنابٍ جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك - لأن النخلة كلها منافع - ونعمت العمات : هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره ، وفي

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 37
بعض الآثار - ولم أجده في كتاب يعول عليه - إن اللّه تعالى يقول : أتكفرون بي وأنا خالق العنب ، و- الجنة - تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة ، وعلى الأرض المشتملة عليها ، والأول أنسب بقوله تعالى : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إذ على الثاني يحتاج إلى تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وكذا يحتاج إلى جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازيا والجملة في موضع رفع صفة جَنَّةٌ أو في موضع نصب حال منها لوصفها بالجار والمجرور قبل لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الظرف الأول في محل رفع خبر مقدم ، والثاني حال من الضمير المستتر في الخبر ، والثالث نعت لمبتدأ محذوف أي رزق ، أو ثمر كائن من كل الثمرات ، وجوز زيادة مِنْ على مذهب الأخفش ، وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف المبتدأ ، وعلى التقديرين ليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو الكثير ، ومن الناس من جوز كون المراد من الثمرات المنافع ، وهذا يجعل ذكر ذينك الجنسين لعدم احتواء الجنة على ما سواهما ، ومنهم من قال : إن هذا من ذكر العام بعد الخاص للتتميم وليس بشيء وَأَصابَهُ الْكِبَرُ أي أثر فيه علو السن والشيخوخة وهو أبلغ من كبر ، والواو للحال ، والجملة بتقدير قد في موضع نصب على الحال من فاعل - يود - أي أيود أحدكم ذلك في هذه الحال التي هي مظنة شدة الحاجة إلى منافع تلك الجنة ومئنة العجز عن تدارك أسباب المعاش ، وقيل :
الواو للعطف ووضع الماضي موضع المضارع كما قاله الفراء ، أو أول المضارع بالماضي أي لو كانت له جنة وأصابه الكبر ، واعترضه أبو حيان بأن ذلك يقتضي دخول الإصابة في حيز التمني وَأَصابَهُ الْكِبَرُ لا يتمناها أحد ، والجواب بأن ذلك غير وارد لما أن الاستفهام للانكار فهو ينكر الجمع بينهما لا يخفى ما فيه وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ في موضع الحال من الضمير في - أصابه أي أصابه الكبر ، والحال أن له صبية ضعفاء لا يقدرون على الكسب وترتيب معاشه ومعاشهم ، و- الضعفاء - جميع ضعيف كشركاء جمع شريك ، وترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب كما لا يخفى ، وقرئ - ضعاف - فَأَصابَها إِعْصارٌ أي ريح تستدير على نفسها وتكون مثل المنارة وتسمى الزوبعة وهي قد تكون هابطة ، وقد تكون صاعدة خلافا لما يفهمه ظاهر كلام البعض من تخصيصها بالثانية ، وسبب الأولى أنه إذا انفصل ريح من سحابة وقصدت النزول فعارضها في طريق نزولها قطعة من السحاب وصدمتها من تحتها ودفعها من فوقها سائر الرياح بقيت ما بين دافعين دافع من العلو ودافع من السفل فيعرض من الدفعين المتمانعين أن تستدير وربما زادها تعوج المنافذ تلويا كما يعرض للشعر أن لا يتجعد بسبب التواء مسامه ، وسبب الثانية أن المادة الريحية إذا وصلت إلى الأرض وقرعتها قرعا عنيفا ثم أثبتت فقلبتها ريح أخرى من جهتها التوت واستدارت وقد تحدث أيضا من تلاقي ريحين شديدتين ، وربما بلغت قوتها إلى حيث تقلع الأشجار وتخطف المراكب من البحر ، وعلامة النازلة أن تكون لفائفا تصعد وتنزل معا كالراقص ، وعلامة الصاعدة أن لا يرى للفائفها إلا الصعود وقد يكون كل منهما بمحض قدرة اللّه تعالى من غير توسط سبب ظاهر وربما اشتمل دور الزوبعة على بخار مشتعل قوي فيكون نار تدور أيضا ، ولتعيين هذا النوع وصف الإعصار بقوله سبحانه : فِيهِ نارٌ وتذكير الضمير لاعتبار التذكير فيه وإنما سمي ذلك الهواء إعصارا
لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور وقيل : لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها والتنوين في النار للتعظيم وروى عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقا وأن المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر ، ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال - فأصابها نار فَاحْتَرَقَتْ لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر ، والفعل المقرون بالفاء عطف على أَصابَها وقيل : على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها - فاحترقت - وهذا كما روى عن السدي تمثيل حال من ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباء منثورا بحال من هذا شأنه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 38
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : آية من كتاب اللّه تعالى ما وجدت أحدا يشفيني عنها قوله تعالى : أيحب أحدكم أن تكون له «1» إلخ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها فقال له عمر : فلم تحقر نفسك؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذا مثل ضربه اللّه تعالى فقال. أيحب أحدكم أن يكون عمره يعمل بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كبر سنه وقرب أجله ورقّ عظمه وكان أحوج ما يكون إلى أن يختم عمله بخير عمل يعمل أهل الشقاء فأفسد عمله فأحرقه قال : فوقعت على قلب عمر وأعجبته.
وفي رواية البخاري ، والحاكم ، وابن جرير ، وجماعة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ إلخ؟ قالوا : اللّه تعالى أعلم فغضب عمر فقال : قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : ضربت لرجل غني عمل بطاعة اللّه تعالى ثم بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله ، قيل : وهذا أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمنّ والأذى والرياء ، وفصل عنه لاتصاله بمنا ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له ، وأجيب بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل المذكور ، وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد قاله ترجمان القرآن وارتضاه الأمير المحدث رضي اللّه تعالى عنه كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى الأمور المحسوسة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما تضمنته من العبر وتعلموا بموجبها ، أو لعلكم تعلمون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا وفيما هو باق لكم في الأخرى فتزهدون في الدنيا وتنفقون مما أتاكم اللّه تعالى منها وترغبون في الآخرة ولا تفعلون ما يحزنكم فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ أي جياد أو حلال ما كَسَبْتُمْ أي الذي كسبتموه أو كسبكم أي مكسوبكم من النقد وعروض التجارة والمواشي.
وأخرج ابن جرير عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال في طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ : من الذهب والفضة وفي قوله تعالى : وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة ،
والجملة لبيان حال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته وأعاد مِنْ في المعطوف لأن كلا من المتعاطفين نوع مستقل ، أو للتأكيد - ولعله أولى - وترك ذكر - الطيبات - لعلمه مما قبله ، وقيل : لعلمه مما بعد ، وبعض جعل ما عبارة عن ذلك وَلا تَيَمَّمُوا أي تقصدوا وأصله تتيمموا بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا إما الأولى وإما الثانية على الخلاف ، وقرأ عبد اللّه ولا تأمموا ، وابن عباس تيمموا بضم التاء والكل بمعنى الْخَبِيثَ أي الرديء وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تذكر موصوفاتها مِنْهُ تُنْفِقُونَ الضمير المجرور للخبيث وهو متعلق - بتنفقون - والتقديم للتخصيص ، والجملة حال مقدرة من فاعل تَيَمَّمُوا أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه ، أو من الخبيث أي مختصا به الإنفاق ، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة.
فعن عبيدة السلماني قال : سألت عليا كرم اللّه تعالى وجهه عن هذه الآية فقال : نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة إعطاء من الرديء فقال اللّه تعالى : وَلا
___________
(1) كذا في الأصل ، والقراءة في مصاحفنا أَيَوَدُّ.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 39
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ
وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث ، والضمير راجع إلى المال الذي في ضمن القسمين ، أو لما أخرجنا وتخصيصه بذلك لأن الرداءة فيه أكثروا كذا الحرمة لتفاوت أصنافه ومجالبه ، وتُنْفِقُونَ حال من الفاعل المذكور - أي ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال - أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى : وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ حال على كل حال من ضمير تُنْفِقُونَ أي - والحال أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات - أو بوجه من الوجوه إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ إلا وقت إغماضكم أو إلا بإغماضكم فيه والإغماض كالغمض إطباق الجفن لما يعرض من النوم ، وقد استعير هنا - كما قال الراغب - للتغافل والتساهل ، وقيل : إنه كناية عن ذلك ولا يخلو عن تساهل وتغافل ، وذكر أبو البقاء أنه يستعمل متعديا - وهو الأكثر - ولازما مثل أغضى عن كذا ، والآية محتملة للأمرين ، وعلى الأول يكون المفعول محذوفا أي أبصاركم ، والجمهور على ضم التاء وإسكان العين وكسر الميم ، فقرأ الزهري - تغمضوا - بتشديد الميم وعنه أيضا - تغمضوا - بضم الميم وكسرها مع فتح التاء ، وقرأ قتادة - تغمضوا - على البناء للمفعول أي تحملوا على الإغماض أي توجدوا مغمضين وكلا المعنيين مما أثبته الحفاظ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، والمنسبك من أَنْ والفعل على كل تقدير في موضع الجر كما أشرنا إليه ، وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع النصب على الحالية ، وسيبويه لا يجوز أن تقع أَنْ وما في حيزها حالا ، وزعم الفراء أَنْ هنا شرطية لأن معناه إن أغمضتم أخذتم ، وينبغي أن يغمض طرف القبول عنه ، ومن البعيد في الآية ما قيل : إن الكلام تم عند قوله تعالى : وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع : مِنْهُ تُنْفِقُونَ والحال - أنكم لا تأخذونه إلا إن أغمضتم - فيه ومآله الاستفهام الإنكاري فكأنه قيل : أمنه تنفقون إلخ ، وهو على بعده خلاف التفاسير المأثورة عن السلف
الصالح رضي اللّه تعالى عنهم.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن نفقاتكم وإنما أمركم بها لانتفاعكم ، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه عن شأنه حَمِيدٌ أي مستحق للحمد على نعمه ، ومن جملة الحمد اللائق بجلاله تحري إنفاق الطيب مما أنعم به ، وقيل : حامد بقبول الجيد والإثابة عليه ، واحتج بالآية على وجوب زكاة قليل ما تخرجه الأرض وكثيرة حتى البقل ، واستدل بها على أن من زرع في أرض اكتراها فالزكاة عليه لا على رب الأرض لأن أخرجنا لكم يقتضي كونه على الزارع وعلى أن صاحب الحق لا يجبر على أخذ المعيب بل له الرد وأخذ سليم بدله الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ استئناف لبيان سبب تيمم الخبيث في الإنفاق وتوهين شأنه والوعد في أصل وضعه لغة شائع في الخير والشر ، وأما في الاستعمال الشائع فالوعد في الخير والإيعاد في الشر حتى يحملوا خلافه على المجاز والتهكم ، وقد استعمل هنا في الشر نظرا إلى أصل الوضع لأن الفقر مما يراه الإنسان شرا ، ولهذا يخوف الشيطان به المتصدقين فيقول لهم : لا تنفقوا الجيد من أموالكم وأن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا ، وتسمية ذلك وعدا مع أنه اعتبر فيه الأخبار بما سيكون من جهة المخبر والشيطان لم يضف مجىء الفقر إلى جهته للإيذان بمبالغة اللعين في الأخبار بتحقق مجيئه كأنه نزله في تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة حسب إرادته ، ولوقوعه في مقابلة وعده تعالى على طريق المشاكلة ، ومن الناس من زعم أن استعمال الوعد هنا في الخير حسب الاستعمال الشائع ، والمراد أن ما يخوفكم به هو وعد الخبر لأن الفقر للإنفاق أجل خير ، ولا يخفى أنه بمراحل عن مذاق التنزيل ، وقرئ - الفقر - بالضم والسكون وبفتحتين وضمتين وكلها لغات في الفقر وأصله كسر فقار الظهر وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي الخصلة الفحشاء وهي البخل وترك
الصدقات والعرب تسمي البخيل فاحشا قال كعب :

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 40
أخي يا أخي «لا فاحشا» عند بيته ولا برم عند اللقاء هيوب
والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية ، وقيل : المراد بالفحشاء سائر المعاصي وحملها على الزنا نعوذ باللّه منه وجوز أن تكون بمعنى الكلمة السيئة فتكون هذه الجملة كالتأكيد للأولى وقدم وعد الشيطان على أمره لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر إذ فيه استعلاء على المأمور وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ في الإنفاق على لسان نبيكم صلى اللّه تعالى عليه وسلم مَغْفِرَةً لذنوبكم ، وعن قتادة لفحشائكم ، والتنوين فيها للتفخيم وكذا وصفها بقوله تعالى : مِنْهُ فهو مؤكد لفخامتها ، وفيه تصريح بما علم ضمنا من الوعد كما علمت مبالغة في توهين أمر الشيطان وَفَضْلًا أي رزقا وخلفا - وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - فتكون المغفرة إشارة إلى منافع الآخرة ، وهذا إشارة إلى منافع الدنيا.
وفي الحديث «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر :
اللهم أعط ممسكا تلفا»
وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها ، وقيل : المغفرة والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأول حينئذ لتقدم التخلية على التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح. وفي الآية فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران : 185] وحذف صفة الثاني لدلالة المذكور عليها وَاللَّهُ واسِعٌ بالرحمة والفضل عَلِيمٌ بما تنفقونه فيجازيكم عليه ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومثلها في قوله تعالى :
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله ، وفي رواية عنه الفقه في القرآن ، ومثله عن قتادة ، والضحاك ، وخلق كثير ، وما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما
أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له اقبض فيقبض فيقال له هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم»
وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء - الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه - وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل ، وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه ، وفي أخرى العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته ، وعن عطاء أنها المعرفة باللّه تعالى ، وقال أبو عثمان : هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام ، وقيل : غير ذلك ، وفي البحر أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض ، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحا واقتصارا على ما رآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهي في الأصل مصدر من الأحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها ، وعن مقاتل أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة.
قيل : ولعل الأنسب بالمقام ما ينتظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها مَنْ يَشاءُ من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 41
المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم ، وقرأ يعقوب - يؤتى - على البناء للفاعل وجعل مَنْ الشرطية مفعولا مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف ، ويؤيد الثاني قراءة الأعمش ومن - يؤته الحكمة - فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً عظيما كَثِيراً إذ قد جمع له خير الدارين.
أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن لقمان قال لابنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن اللّه تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر»
وأخرج البخاري ، ومسلم عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه اللّه تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه اللّه تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»
وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : يبعث اللّه تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم» وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول : «إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي»
وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس ، وديمقراطيس ، وأفلاطون ، وأرسطاليس ومن مشى على آثارهم واعتكف في رواق أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما عولوا عليه حتى إن كثيرا من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم واستدلوا على ذلك بما
أخرجه الإمام أحمد. وأبو يعلى من حديث جابر «أن عمر رضي اللّه تعالى عنه استأذن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه فغضب ولم يأذن له وقال : لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية «يكفيكم كتاب اللّه تعالى»
ووجه الاستدلال أنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يبح استعمال الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونورا في وقت كانت فيه أنوار النبوة ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح الاشتغال بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا في وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه غريبا ، وفي كتاب اللّه تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم اتباع الهوى وهؤلاء هم الذين أوتوا الحكمة ولإظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر ، والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي.
ومن باب الإشارة في الآيات أنها اشتملت على ثلاثة إنفاقات متفاضلة ، الأول الانفاق في سبيل اللّه تعالى وهو إنفاق في عالم الملك عن مقام تجلي الأفعال ، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة : 261] إلخ ، والثاني الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات وهو الانفاق لطلب رضا اللّه تعالى ، وإليه أشار بقوله تعالى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ومن تمثيله بجنة يعلم مقدار فضله على الأول الممثل بحبة ، ولعل فضل أحدهما على الآخر كفضل الجنة على الحبة ، ومما يزيد في الفرق أن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة ، ولتأكيد الإشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق على الأول أتى بالربوة وهي المرتفع من الأرض ، والثالث الانفاق باللّه تعالى وهو عن مقام شهود الذات وهو إنفاق النفس بعد تزكيها وإليه الإشارة بقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ والنفس مكتسبة بهذا الاعتبار وجزاء الانفاق الأول الأضعاف إلى سبعمائة وتزيد لأن يد الطول طويلة ، وجزاء الثاني الجنة الصفاتية المثمرة للإضعاف وجزاء الثالث الحكمة اللازمة للوجود الموهوب بعد البذل وهي الخير العظيم الكثير لأنها أخص صفاته تعالى ، وصاحب هذا الإنفاق لا يزال ينفق من الحكم

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 42
الإلهية والعلوم اللدنية لارتفاع البين وشهود العين وقد نبه سبحانه في أثناء ذلك على أن الإنفاق يبطله المنّ والأذى لأنه إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه كونه موافقا للأمر - وهو حال له بالنسبة إليه تعالى - وكونه مزيلا لرذائل البخل - وهو حال له بالنسبة إلى المنفق نفسه - وكونه نافعا مريحا - وهو حال له بالنسبة إلى المستحق - فإذا منّ صاحبه وآذى فقد خالف أمر اللّه تعالى وأتى بما ينافي راحة المستحق ونفعه وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من اللّه تعالى وكلها رذائل أردأ من البخل ولهذا كان القول الجميل خيرا من الصدقة المتبوعة بالأذى بل لا نسبة وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل ، فالآية بيان لحكم كلي شامل لجميع أفراد النفقات أو ما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل اللّه تعالى أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ متعلق بالمال أو بالأفعال بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية ، والنذر عقد القلب على شيء والتزامه على وجه مخصوص قيل : وأصله الخوف لأن الشخص يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير أو خوف وقوع أمر خطير ومنه نذر الدم وهو العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال عمرو بن معدي كرب :
هم (ينذرون دمي) وأن ذر إن لقيت بأن أشدا
وفعله كضرب ونصر ، وعن يونس فيما حكاه الأخفش تقول العرب : نذر على نفسه نذرا ونذرت مالي فأنا أنذره نذرا فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم ، والفاء داخلة في الجواب إن كانت ما شرطية وصلة في الخبر إن كانت موصولة وتوحيد الضمير مع أن متعلق العلم متعدد لاتحاد المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو وهي لأحد الشيئين ، وقال ابن عطية : إن التوحيد باعتبار المذكور وكأنه لم يعتبر المذكور لاعتبار المرجع النفقة والنذر المذكورين دون المصدرين المفهومين من فعليهما وهما المتعاطفان - بأو دونهما ، وعلى تسليم أن عطف الفعلين مستلزم لعطفهما لا ينبغي اعتبارهما أيضا لأن الضمير مذكر قطعا وهما مذكر ومؤنث ، واعتبار أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ولا يخفى ما فيه فإن مثل هذا الضمير قد يعتبر فيه حال المقدم مراعاة للأولية كما في قوله تعالى : وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة : 11] وقد يعتبر فيه حال المؤخر مراعاة للقرب كما في قوله تعالى : وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء : 112] وكل منهما سائغ شائع في الفصيح وما نحن فيه من الثاني إن اعتبر المذكور صريحا والتزام التأويل في جميع ما ورد تعسف مستغنى عنه كما لا يخفى ، نعم جوز إرجاع الضمير إلى ما لكن على تقدير كونها موصولة كما قاله غير واحد.
وَما لِلظَّالِمِينَ أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمنّ والأذى ، والمتحرين للخبيث في الإنفاق ، والمنفقين في باطل والناذرين في معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق ، والباخلين بالصدقة مما آتاهم اللّه تعالى من فضله ، وخصهم أبو سليمان الدمشقي بالمنفقين بالمنّ والأذى والرياء والمبذرين في المعصية ومقاتل بالمشركين ولعل التعميم أولى مِنْ أَنْصارٍ أي أعوان ينصرونه من بأس اللّه تعالى لا شفاعة ولا مدافعة وهو جمع نصير - كحبيب ، وأحباب - أو ناصر - كشاهد وأشهاد - والإتيان به جمعا على طريق المقابلة فلا يرد أن نفي الأنصار لا يفيد نفي الناصر وهو المراد.
والقول - بأن هذا إنما يحتاج إليه إذا جعلت مِنْ زائدة ولك أن تجعلها تبعيضية أي شيء من الأنصار ليس بشيء كما يخفى والجملة استئناف مقرر للوعيد المشتمل عليه مضمون ما قبله ، ونفي أن يكون للظالم على رأي مقاتل ناصر مطلقا ظاهر ، وأما على تقدير أخذ المظالم عاما أو خاصا بما قاله أبو سليمان فيحتاج إلى القول بأن الآية خارجة مخرج الترهيب لما أن العاصي غير المشرك كيف ما كانت معصيته يجوز أن يكون له ناصر يشفع له عند ربه ،

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 43
واستدل بالآية على مشروعية النذر والوفاء به ما لم يكن معصية وإلا فلا وفاء ،
فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : النذر نذران فما كان من نذر في طاعة اللّه تعالى فذلك للّه تعالى وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية اللّه تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ، ويكره ما يكفر اليمين»
وتفصيل الكلام في النذر يأتي بعد إن شاء اللّه تعالى.
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أي تظهروا إعطاءها ، قال الكلبي : لما نزلت وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الآية قالوا : يا رسول اللّه أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت ، فالجملة نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما ، والمراد من الصدقات على ما ذهب إليه جمهور المفسرين صدقات التطوع ، وقيل :
الصدقات المفروضة ، وقيل : العموم فَنِعِمَّا هِيَ - الفاء - جواب للشرط ، - ونعم - فعل ماض ، وما كما قال ابن جني : نكرة تامة منصوبة على أنها تمييز وهي مبتدأ عائد للصدقات على حذف مضاف أي إبداؤها أو لا حذف ، والجملة خبر عن هي ، والرابط العموم ، وقرأ ابن كثير ، وورش ، وحفص بكسر النون والعين للاتباع وهي لغة هذيل قيل :
ويحتمل أنه سكن ثم كسر لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل كعلم ، وقرأ أبو عمرو ، وقالون : وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين ، وروي عنهم الإسكان أيضا - واختاره أبو عبيدة - وحكاه لغة ، والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان حتى جعله بعضهم من وهم الرواة ، وممن أنكره المبرد ، والزجاج ، والفارسي لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حدة وَإِنْ تُخْفُوها أي تسروها والضمير المنصوب إما للصدقات مطلقا وإما إليها لفظا لا معنى بناء على أن المراد بالصدقات المبدأة المفروضة وبالمخفاة المتطوع بها فيكون من باب - عندي درهم ونصفه - أي نصف درهم آخر ، وفي جمع الإبداء والإخفاء من أنواع البديع الطباق اللفظي كما أن في قوله تعالى : وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ الطباق المعنوي لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء قيل : ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه لا بد منه في الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغني ربما يدّعي الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس ، وتخصيص الفقراء بالذكر اهتماما بشأنهم ، وقيل : إن المبداة لما كانت الزكاة لم يذكر فيها الفقراء لأن مصرفها غير مخصوص بهم ، والمخفاة لما كانت التطوع بين أن مصارفها الفقراء فقط وليس بشيء لأنه بعد تسليم أن المبداة زكاة والمخفاة تطوع لا نسلم أن مصارف الثانية الفقراء فقط - ودون إثبات ذلك الموت الأحمر - وكأنه لهذا فسر بعضهم الفقراء بالمصارف فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فالإخفاء خَيْرٌ لَكُمْ من الإبداء ، وخَيْرٌ لَكُمْ من جملة الخيور ، والأول هو الذي دلت عليه الآثار والأحاديث في أفضلية الإخفاء أكثر من أن تحصى.
أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة أن أبا ذر قال : يا رسول اللّه أيّ الصدقة أفضل؟ قال : «صدقة سر إلى فقير أو جهد من مقل ثم قرأ الآية» ،
وأخرج الطبراني مرفوعا «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب».
وأخرج البخاري «سبعة يظلهم اللّه تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله - إلى أن قال - ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»
والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان كل من صدقتي السر والعلانية تطوعا ممن لم يعرف بمال وإلا فإبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وأمن نفسه ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا» وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أي واللّه يكفر أو الإخفاء ، والإسناد مجازي ، ومِنْ تبعيضية لأن الصدقات لا يكفر بها جميع السيئات ،

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 44
وقيل : مزيدة على رأي الأخفش ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية ابن عياش ، ويعقوب - «نكفّر» - بالنون مرفوعا على أنه جملة مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي ونحن نكفر ، وقيل : لا حاجة إلى تقدير المبتدأ ، والفعل نفسه معطوف على محل ما بعد الفاء لأنه وحده مرفوع لأن الفاء الرابطة مانعة من جزمه لئلا يتعدد الرابط ، وقرأ حمزة. والكسائي - نكفر - بالنون مجزوما بالعطف على محل الفاء مع ما بعدها لأنه جواب الشرط قاله غير واحد ، واستشكله البدر الدماميني بأنه صريح في أن الفاء ، وما دخلت عليه في محل جزم ، وقد تقرر أن الجملة لا تكون ذات محل من الإعراب إلا إذا كانت واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال المفرد حتى تكون الجملة واقعة موقع ذات محل من الإعراب وذلك لأن جواب الشرط إنما يكون جملة ولا يصح أن يكون مفردا فالموضع للجملة بالأصالة وادعى أن جزم الفعل ليس بالعطف على محل الجملة وإنما هو لكونه مضارعا وقع صدر جملة معطوفة على جملة جواب الشرط الجازم وهي لو صدرت بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة المعطوف عليها وهو جزم صدرها إذا كان فعلا مضارعا ويمكن دفعه بالعناية فتدبر ، وقرئ - وتكفر - بالتاء مرفوعا ومجزوما على حسب ما علمت والفعل للصدقات وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ في صدقاتكم من الإبداء والإخفاء خَبِيرٌ عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك كله ، ففي الجملة ترغيب في الإعلان والإسرار وإن اختلفا في الأفضلية ، ويجوز أن يكون الكلام مساقا للترغيب في الثاني لقربه ولكون الخبرة بالإبداء ليس فيها كثير مدح.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ أي لا يجب عليك أيها الرسول أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن المنهيين عن هاتيك الرذائل مهديين إلى الائتمار والانتهاء - إن أنت إلا بشير ونذير ، وما عليه إلا البلاغ المبين - وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي بهدايته الخاصة الموصلة إلى المطلوب قطعا مَنْ يَشاءُ هدايته منهم ، والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى اللّه تعالى عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن. وأبو علي الجبائي ، وهو مبني على رجوع ضمير هُداهُمْ إلى المخاطبين في تلك الآيات السابقة ، والذي يستدعيه سبب النزول رجوعه إلى الكفار ،
فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية»
وأخرج ابن جرير عنه قال : كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : لا تصدقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل اللّه تعالى لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ
أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام وحينئذ لا التفات ، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط ، والآية حث على الصدقة أيضا ولكن بوجه آخر والارتباط على التقديرين ظاهر ، وجعلها مرتبطة - بقوله سبحانه : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [البقرة : 269] إشارة إلى قسم آخر من الناس لم يؤتها - ليس بشيء وَما تُنْفِقُوا في وجوه البر مِنْ خَيْرٍ أي مال فَلِأَنْفُسِكُمْ أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم «فلا تيمموا الخبيث» ولا تبطلوه بالمنّ والأذى ورئاء الناس ، أو فلا تمنعوه عن الفقراء كيف كانوا فإن نفعكم به دينيّ ونفع الكافر منهم دنيوي ، وما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية ، مَنْ تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ استثناء من أعم العلل وأعم الأحوال أي ما تنفقون بسبب من الأسباب إلا لهذا السبب ، أو في حال من الأحوال إلا في هذه الحال ، والجملة إما حال أو معطوفة على ما قبلها على معنى وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فإنما يكون لكم لا عليكم

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 45
إذا كان حالكم أن لا تنفقوا إلا لأجل طلب وجه اللّه تعالى ، أو الا طالبين وجهه سبحانه لا مؤذين ولا مانين ولا مرائين ولا متيممين الخبيث ، أو على معنى ليست نفقتكم إلا لكذا أو حال كذا فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث أو تمنعونها فقراء المشركين من أهل الكتاب وغيرهم ، وقيل : إنه نفي بمعنى النهي أي لا تنفقوا إلا كذا وإقحام الوجه للتعظيم ودفع الشركة لأنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أجلّ من قولك : فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقا ، وأيضا قول القائل : فعلت هذا الفعل لفلان يحتمل الشركة وأنه قد فعله له ولغيره ومتى قال : فعلته لوجهه انقطع عرق الشركة عرفا ، وجعله كثير من الخلق بمعنى الذات وبعضهم حمله هنا على الرضا وجعل الآية على حد إلا ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة : 207 ، 265 ، النساء : 114] تعالى والسلف بعد أن نزهوا فوضوا كعادتهم في المتشابه وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي تعطون جزاءه وافرا وافيا كما تشعر به صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل - وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - والمراد نفي أن يكون لهم عذر في مخالفة الأمر المشار إليه في الإنفاق ، فالجملة تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الأمر فكأنه قيل : كيف يمن ّ أو يقصر فيما يرجع إليه نفعه أو كيف يفعل ذلك فيما لو عوض وزيادة ، وهي بهذا الاعتبار أمر مستقل ، وقيل : إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء استجابة
لقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا»
والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن معها إليكم لتضمنها معنى التأدية وإسنادها إلى ما مجازي وحقيقته ما سمعت ، والآية بناء على سبب النزول دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير الواجبة أمر مقرر ، وأما الواجبة التي للإمام أخذها كالزكاة فلا يجوز ، وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف ، والإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه يجوزه ، وظاهر قوله تعالى : وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان :
8] يؤيده إذ الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون شيئا مما وعدتم ، والجملة حال من ضمير إِلَيْكُمْ والعامل يوف لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام ولهذا حذف أي اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء ، والجملة استئناف مبني على السؤال ، وجوز أن يكون الجار متعلقا بقوله تعالى : وَما تُنْفِقُوا ، وقوله سبحانه : وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ اعتراض أي وما ننفقوا للفقراء الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حبسهم الجهاد أو العمل في مرضاة اللّه تعالى يوف إليكم ولا يخفى بعده لا يَسْتَطِيعُونَ لاشتغالهم بذلك ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي مشيا فيها وذهابا للتكسب والتجارة وهم أهل الصفة رضي اللّه تعالى عنهم ، قاله ابن عباس. ومحمد بن كعب القرظي - وكانوا نحوا من ثلاثمائة ويزيدون وينقصون من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وعن سعيد بن جبير هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل اللّه تعالى فصاروا زمنى فجعل لهم في أموال المسلمين حقا ولعل المقصود في الروايتين بيان بعض أفراد هذا المفهوم ودخوله فيه إذ ذاك دخولا أوليا لا الحصر إذ هذا الحكم باق إلى يوم الدين يَحْسَبُهُمُ أي يظنهم الْجاهِلُ الذي لا خبرة له بحالهم.
أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي من أجل تعففهم على المسألة - فمن - للتعليل وأتى بها لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد الفاعل ، وقيل : لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم ، والتعفف ترك الشيء وهو اتحاد الفاعل ، وقيل : لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم ، والتعفف ترك الشي ء

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 46
والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه ، ومفعوله محذوف اختصارا كما أشرنا إليه ، وحال هذه الجملة كحال سابقتها تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أي تعرف فقرهم واضطرارهم بالعلامة الظاهرة عليهم كالتخشع والجهد ورثاثة الحال.
أخرج أبو نعيم عن فضالة بن عبيد قال : «كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين».
وأخرج هو أيضا عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : «كان من أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء» والخطاب للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم ، ووزن - سيما - عفلا لأنها من الوسم بمعنى السمة نقلت الفاء إلى موضع العين وقلبت ياء لوقوعها بعد كسرة لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي إلحاحا وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده ، وقيل : سمي الإلحاح بذلك لأنه يغطي القلب كما يغطي اللحاف من تحته. ونصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال أو على الحال أي ملحفين ، والمعنى أنهم لا يسألون أصلا - وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ، وإليه ذهب الفراء ، والزجاج ، وأكثر أرباب المعاني - وعليه يكون النفي متوجها لأمرين على حد قول الأعشى :
لا يغمز الساق من - أين ومن وصب - ولا يغص على - شرسوفه الصغر
واعترض بأن هذا إنما يحسن إذا كان القيد لازما للمقيد أو كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيه بطريق برهاني وما هنا ليس كذلك إذ الإلحاف ليس لازما للسؤال ولا كلازمه ، وأجيب بأن هذا مسلم إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه وهو كذلك هنا لأن التعفف حتى يظنوا أغنياء يقتضي عدم السؤال رأسا ، وأيضا تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ مؤيد لذلك إذ لو سألوا لعرفوا بالسؤال واستغنى عن العرفان - بالسيما - وقيل : المراد إنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا ، ومن الناس من جعل المنصوب مفعولا مطلقا للنفي أي يتركون السؤال إلحاحا أي ملحين في الترك وهو كما ترى وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم به وهو ترغيب في الإنفاق لا سيما على هؤلاء ،
أخرج البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف ،
واقرؤوا إن شئتم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ، وتقديم الظرف مراعاة للفواصل أو إيماء للمبالغة.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة ، فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد بما بعده جميع الأحوال ، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار ، وانتصاب سِرًّا وَعَلانِيَةً على أنهما مصدران في موضع الحال أي مسرّين ومعلنين ، أو على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه ، أو نعتان لمصدر محذوف أي إنفاقا سرا ، والباء بمعنى في ، واختلف فيمن نزلت ،
فأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت في عليّ كرم اللّه تعالى وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما ، وسرا درهما وعلانية درهما ،
وفي رواية الكلبي ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ما حملك على هذا؟ قال : حملني أن استوجب على اللّه تعالى الذي وعدني فقال له رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ألا إن ذلك لك».
وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أن الآية كلها في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والواحدي من طريق حسن بن عبد اللّه الصنعاني أنه سمع ابن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 47
عباس رضي اللّه تعالى عنهما يقول في هذه الآية : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلخ هم الذين يعلفون الخيل في سبيل اللّه تعالى - وهو قول أبي أمامة ، وأبي الدرداء ، ومكحول ، والأوزاعي ، ورباح بن يزيد - ولا يأبى ذلك ذكر السر والعلانية كما لا يخفى ، وقال بعضهم : إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية ، وتعقبه الإمام السيوطي - بأن حديث تصدقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها ، وخبر أنّ الآية نزلت فيه - لم أقف عليه وكان من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحق قال : لما قبض أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أيها الناس إن بعض الطمع فقر وإن بعض اليأس غنى وإنكم تجمعون مالا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون واعلموا أن بعضا من الشح شعبة من النفاق فأنفقوا خيرا لأنفسكم فأين أصحاب هذه الآية وقرأ الآية الكريمة ، وأنت تعلم أنها لا دلالة فيها على المدعى فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ المخبوء لهم في خزائن الفضل عِنْدَ رَبِّهِمْ والفاء داخلة في حيز الموصول للدلالة على سببية ما قبلها ، وقيل : للعطف والخبر محذوف أي - ومنهم الذين - إلخ ، ولذلك جوز الوقف على علانية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تقدم تفسيره والإشارة في الآيات ظاهرة.
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يأخذونه فيعم سائر أنواع الانتفاع والتعبير عنه بالأكل لأنه معظم ما قصد به ، والربا في الأصل الزيادة من قولهم : ربا الشيء يربو إذا زاد ، وفي الشرع عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال وإنما يكتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة من يفخم وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع فصار اللفظ به على طبق المعنى في كون كل منهما مشتملا على زيادة غير مستحقة فأخذ لفظ الربا الحرف الزائد وهو الألف بسبب اللفظ الذي يشابهه وهو واو الجمع حيث زيدت فيه الألف كما يأخذ معنى لفظ الربا بمشابهته معنى لفظ البيع لاشتمال المعنيين على معاوضة المال بالمال بالرضا - وإن كان أحد العوضين أزيد - وقيل : الكتابة بالواو والألف لأن للفظ نصيبا منهما ، وإنما لم تكتب الصلاة والزكاة بهما لئلا يكون في مظنة الالتباس بالجمع ، وقال الفراء : إنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط لغتهم - ربوا - بواو ساكنة فكتب كذلك وهذا مذهب البصريين ، وأجاز الكوفيون كتابته وكذا تثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله ، قال أبو البقاء : وهو خطأ عندنا لا يَقُومُونَ أي يوم القيامة - وبه قرئ كما في الدر المنثور.
إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أي إلا قياما كقيام المتخبط المصروع في الدنيا - و- التخبط - تفعل بمعنى فعل وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة ، ثم تجوز به عن كل ضرب غير محمود ، وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار ،
فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إياك الذنوب التي لا تغفر : الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة. وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط» ثم قرأ الآية ،
وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ، ولعل اللّه تعالى جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له كما جعل لبعض المطيعين أمارة تليق به يعرف بها كرامة له ، ويشهد لذلك - أن هذه الأمة - يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء - وإلى هذا ذهب ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة - واختاره الزجاج - وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة : قد جن ، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ، وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات مِنَ الْمَسِّ أي الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا جن وأصله اللمس باليد وسمي به لأن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 48
الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسد ويحدث الجنون ، وهذا لا ينافي ما ذكره الأطباء من أن ذلك من غلبة مرة السوداء وما ذكروه سبب قريب - وما تشير إليه الآية سبب بعيد - وليس بمطرد أيضا بل ولا منعكس فقد يحصل مس ولا يحصل جنون كما إذا كان المزاج قويا وقد يحصل جنون ولم يحصل مس كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبي ، والجنون الحاصل بالمس قد يقع أحيانا ، وله عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها ، وقد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضا على أتم وجه وربما استولى ذلك البخار على الحواس وعطلها ، واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلا ، وهذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعد منكره مكابرا منكرا للمشاهدات.
وقال المعتزلة. والقفال من الشافعية : إن كون الصرع والجنون من الشيطان - باطل لأنه لا يقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم : 22] الآية وما هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله وليس لذلك حقيقة - وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة بقواطع الشرع
فقد ورد «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا» وفي بعض الطرق «إلا طعن الشيطان في خاصرته»
ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وابنها لقول أمها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [آل عمران : 36] وقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين»
وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة والسلام أنه حدث من شأنه معهم قال : «فجاءني طائر كأنه جمل قبعثري فاحتملني على خافية من خوافيه»
إلى غير ذلك من الآثار ، وفي لقط المرجان في أحكام الجان كثير منها ، واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطا طويلا لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم وبذلك ونحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم فاحذرهم قاتلهم اللّه أنى يؤفكون ، والآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدعاهم لا تدل عليه إذ السلطان المنفي فيها إنما هو القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك ، ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من الشيطان بل وقوعه بالفعل ، وخبر «الطاعون من وخز أعدائكم الجن»
صريح في ذلك ، وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبط والمس حيث قال : إن الهواء إذا تعفن تعفنا مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية باقية على هوائيتها أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما عرف في الكلام أجسام حية لا ترى اما الغالب عليها الهوائية أو النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا نزل واحد منها طبعا ، أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه ، أو ضرب وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية وما في الشخص من الاستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب العادية في المسببات - ألم شديد مهلك غالبا مظهر للدماميل والبثرات في الأكثر بسبب إفساده للمزاج المستعد ، وبهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب - وهو تحقيق حسن لم نجده لغيره كما لم نجد ما حققناه في شأن المس - لأحد سوانا فليحفظ.
والجار والمجرور متعلق بما قبله من الفعل المنفي بناء - على أن ما قبل إِلَّا يعمل فيما بعدها إذا كان ظرفا كما في الدر المصون أي لا يقومون من جهة المس الذي بهم بسبب - أكلهم الربا - أو - بيقوم - أو - يتخبطه -

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 49
ذلِكَ إشارة إلى الأكل أو إلى ما نزل بهم من العذاب بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أرادوا نظمهما في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فحيث حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حل بيع درهم بدرهمين إلا أنهم جعلوا الربا أصلا في الحل وشبهوا البيع به روما للمبالغة كما في قوله :
ومهمه مغبرة أرجاؤه كأن (لون أرضه سماؤه)
وقيل : يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا جملة مستأنفة من اللّه تعالى ردا عليهم وإنكارا لتسويتهم ، وحاصله أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان على أن بين البابين فرقا ، وهو أن من باع ثوبا يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابله شيء من الثوب ، وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال حتى يكون في مقابله المال ، وقيل : الفرق بينهما أن أحد الدرهمين في الثاني ضائع حتما وفي الأول منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها ، وجوز أن تكون الجملة من تتمة كلام الكفار إنكارا للشريعة وردا لها أي مثل هذا من الفرق بين المتماثلات لا يكون عند اللّه تعالى فهي حينئذ حالية ، وفيها - قد - مقدرة ولا يخفى أنه من البعد بمكان ، والظاهر عموم البيع والربا في كل بيع وفي كل ربا إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا ، وقيل : هما مجملان فلا يقدم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان ، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد ، وابن ماجه ، وابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : من آخر ما أنزل آية الربا وأن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي فمن بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا واستحلاله ، و«من» شرطية أو موصولة ، مَوْعِظَةٌ فاعل جاء وسقطت التاء للفصل وكون التأنيث مجازيا مع ما في الموعظة معنى من التذكير ، وقرأ أبيّ ، والحسن : جاءته بإلحاق التاء مِنْ رَبِّهِ متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وعلى التقديرين فيه تعظيم لشأنها وفي ذكر الرب
تأنيس لقبول الموعظة إذ فيه إشعار بإصلاح عبده ومِنَ لابتداء الغاية أو للتبعيض وحذف المضاف فَانْتَهى عطف على جاءه أي فاتعظ بلا تراخ وتبع النهي فَلَهُ ما سَلَفَ أي
ما تقدم أخذه قبل التحريم لا يسترد منه ، وهذا هو المروي عن الباقر ،
وسعيد بن جبير ، وقيل : المراد لا مؤاخذة عليه في الدنيا ولا في الآخرة فيما تقدم له أخذه من الربا قبل ، والفاء إما للجواب أو صلة في الخبر ، وما في موضع الرفع بالظرف إن جعلت مِنَ موصولة ، وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي من يشترط الاعتماد ، وكون المرفوع اسم حدث ، ومن لا يشترطهما يجوز كونه فاعل الظرف وَأَمْرُهُ أي المنتهى بعد التحريم إِلَى اللَّهِ إن شاء عصمه من الربا فلم يفعل وإن شاء لم يفعل ، وقيل : المراد أنه يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية أو يحكم في شأنه يوم القيامة بما شاء لا اعتراض لكم عليه.
ومن الناس من جعل الضمير المجرور لما سَلَفَ أو للربا وكلاهما خلاف الظاهر وَمَنْ عادَ أي رجع إلى ما سلف ذكره من فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع فَأُولئِكَ إشارة إلى - من عاد - والجمع باعتبار المعنى أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ أي ماكثون أبدا لكفرهم ، والجملة مقررة لما قبلها وجعل الزمخشري متعلق - عاد - الربا فاستدل بالآية على تخليد مرتكب الكبيرة وعلى ما ذكرنا - وهو التفسير المأثور - لا يبقى للاستدلال بها مساغ ، واعترض بأن الخلود لو جعل جزاء للاستحلال بقي جزاء مرتكب الفعل من غير استحلال غير مذكور في الكلام أصلا لا عبارة ولا إشارة مع أنه المقصود الأهم بخلاف ما لو جعل ذلك

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 50
جزاء الفعل فإن المقصود يكون مذكورا صريحا مع إفادته جزاء الاستحلال وأنه أمر فوق الخلود ، وأجيب بأن ما يكفر مستحلّه لا يكون إلا من كبائر المحرمات وجزاؤها معلوم ولذا لم ينبه عليه لظهوره ، وقال بعض المحققين في الجواب : إن جعل ذلك إشارة إلى الأكل كان الجزاء القيام المذكور من القبور إلى الموقف وكفى به نكالا ، ثم أخبر أن حاملهم على الأكل كان هذا القول فأشعر الوصف أولا أن الوعيد به ثم ذكر موجب اجترائهم فدل على أنه وعيد كل آكل سواء كان حامله عليه ذلك القول أو لا.
وأما قوله سبحانه : فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى وقوله تعالى : وَمَنْ عادَ فهو في القائل المعتقد وإن جعل إشارة إلى القيام المذكور فالجزاء ما يفهم من ضم الفعل إلى القول فإنه لو لم يكن له مدخل في التعذيب لم يحسن في معرض الوعيد ، والقول بأن المتعلق الربا والآية محمولة على التغليظ خلاف الظاهر فتدبر.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه ،
أخرج أحمد ، وابن ماجه ، وابن جريج ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ».
وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال : سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق ، ولعل هذا مخرج الغالب ، وعن الضحاك أن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه فلا يبقى لأهله منه شيء وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يزيدها ويضاعف ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة.
أخرج البخاري. ومسلم عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل اللّه تعالى إلا طيبا - فإن اللّه تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرج الشافعي ، وأحمد مثل ذلك.
والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب في الربا زيادة في المال ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال ، فبين سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان - كذا قيل - وجعلوه وجها لتعقيب آيات الإنفاق بآية الربا.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ لا يرتضي كُلَّ كَفَّارٍ متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد له أَثِيمٍ منهمك في ارتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد ، واختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله ، وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال؟ أعاذنا اللّه تعالى من ذلك.
فقد أخرج الطبراني ، والبيهقي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم قال : «درهم ربا أشد على اللّه تعالى من ست وثلاثين زنية» وقال : «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به»
وأخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن الربا سبعون بابا أدناها مثل أن يقع الرجل على أمه وإنّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه».
وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد اللّه الحسين رضي اللّه تعالى عنه قال : «درهم ربا أعظم عند اللّه تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت اللّه الحرام».
وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : «لعن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه».
[سورة البقرة (2) : الآيات 277 إلى 286]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 51
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما وجب الإيمان به وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ على الوجه الذي أمروا به وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تخصيصهما بالذكر مع اندارجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما ، فإن الأولى أعظم الأعمال البدنية. والثانية أفضل الأعمال المالية لَهُمْ أَجْرُهُمْ الموعود لهم حال كونه عِنْدَ رَبِّهِمْ وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لوفور حظهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر اتَّقُوا اللَّهَ أي قوا أنفسكم عقابه وَذَرُوا أي اتركوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا لكم عند الناس إِنْ كُنْتُمْ

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 52
مُؤْمِنِينَ
عن صميم القلب فإن دليله امتثال ما أمرتم به وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله ، ومِنَ تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل بقي ، وقيل : متعلقة - يبقي وقرأ الحسن بقي بقلب الياء ألفا على لغة طيء ، والآية كما قال السدي : نزلت في العباس رضي اللّه تعالى عنه ابن عبد المطلب ، ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني عمرة وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة من الربا فتركوها حين نزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو ، وربيعة بن عمرو ، وحبيب بن عمير وكلهم إخوة وهم الطالبون ، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم صالح ثقيفا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما فقال بنو المغيرة : واللّه لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه اللّه تعالى ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل - ويقال - عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن بني عمرو بن عمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ ، فكتب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن أعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من اللّه تعالى ورسوله
وذلك قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف فَأْذَنُوا أي فأيقنوا - وبذلك قرأ الحسن - وهو التفسير المأثور عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وهو كحرب المرتدين على الأول وكحرب البغاة على الثاني ، وقيل : لا حرب حقيقة وإنما هو تهديد وتخويف - وجمهور المفسرين على الأول - وقرأ حمزة. وعاصم في رواية ابن عياش فآذنوا بالمد أي فأعلموا بها أنفسكم أو بعضكم بعضا أو غيركم ، وهذا مستلزم لعلمهم بالحرب على أتم وجه وتنكير - حرب - للتعظيم ، ولذا لم يقل بحرب اللّه تعالى بالإضافة ، أخرج أبو يعلى عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يدي لنا بحرب اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم. وَإِنْ تُبْتُمْ عما يوجب الحرب فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ تأخذونها لا غير لا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزيادة وَلا تُظْلَمُونَ أنتم من قبلهم بالنقص من رأس المال أو به وبنحو المطل ، وقرأ المفضل عن عاصم - لا تظلمون - الأول بالبناء للمفعول والثاني بالبناء للفاعل على عكس القراءة الأولى ، والجملة إما مستأنفة - وهو الظاهر - وإما في محل نصب على الحال من الضمير في لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار لوقوعه خبرا - وهو رأي الأخفش - ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم المرتدون ومالهم المكسوب في حال الردة فيء للمسلمين عند الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، وكذا سائر أموالهم عند الشافعي رضي اللّه تعالى عنه ، وعندنا هو لورثتهم ولا شيء لهم على كل حال وإن كان مع الاعتراف فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم يكد تسلم لهم رؤوسهم فكيف برؤوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ،
فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال : من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه ، ومثله عن الصادق رضي اللّه تعالى عنه ،
وأما عند غيرهما فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم ولا يمكنون من التصرفات رأسا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شيء من أموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم ، قال المولى أبو السعود. وغيره : واستدل بالآية على أن الممتنع عن أداء الدين مع القدرة ظالم يعاقب بالحبس وغيره وقد فصل ذلك الفقهاء أتم تفصيل وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ أي إن وقع المطلوب - ذا إعسار لضيق حال من جهة عدم المال على - إن - كان تامة ، وجوز بعض الكوفيين - إن - تكون ناقصة ،

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 53
وذُو اسمها والخبر محذوف أي - وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو غريما أو من غرمائكم.
وقرأ عثمان رضي اللّه تعالى عنه ذا عسرة. وقرئ - ومن كان ذا عسرة - وعلى القراءتين كانَ ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود للغريم ، وإن لم يذكر ، والآية نزلت - كما قال الكلبي : حين قالت بنو المغيرة لبني عمرو بن عمير : نحن اليوم أهل عسرة فأخّرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فَنَظِرَةٌ الفاء جواب الشرط - ونظرة - مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة أو فاعل بفعل مضمر أي فتجب نظرة ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي - فالأمر ، أو فالواجب نظرة ، والنظرة كالنظرة - بسكون الظاء الانتظار ، والمراد به الإمهال والتأخير ، وقرأ عطاء فناظره بإضافة ناظر إلى ضمير ذُو عُسْرَةٍ أي فالمستحق ناظره أي منتظره وممهله وصاحب نظرته على طريق - لابن ، وتامر - وعنه أيضا - فناظره - أمر من المفاعلة أي فسامحه بالنظرة إِلى مَيْسَرَةٍ أي إلى وقت أو وجود يسار ، وقرأ حمزة ، ونافع - ميسرة - بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة ، وقرئ بهما مضافين بحذف التاء وإقامة الإضافة مقامها فاندفع ما أورد على هذه القراءة بأن مفعلا بالضم معدوم أو شاذ وحاصله أنها مفعلة لا مفعل ، وأجيب أيضا بأنه معدوم في الآحاد وهذا جمع ميسرة - كما قيل في مكرم - جمع مكرمة ، وقيل : أصله ميسورة فخففت بحذف الواو بدلالة الضمة عليها وَأَنْ تَصَدَّقُوا بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بتشديد الصاد على أن أصله تتصدقوا فقلبت التاء الثانية صادا وأدغمت أي وتصدقكم على معسري غرمائكم برؤوس أموالكم كلا أو بعضا خَيْرٌ لَكُمْ أي أكثر ثوابا من الإنظار ، أو خير مما تأخذونه لنفاد ذلك وبقاء هذا.
أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال : النظرة واجبة وخير اللّه تعالى الصدقة على النظرة ، وقيل : المراد بالتصدق الإنظار لما
أخرج أحمد عن عمران بن الحصين قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة»
وضعفه الإمام مع مخالفته للمأثور بأن وجوب الإنظار ثبت بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة زائدة وبأن قوله سبحانه : خَيْرٌ لَكُمْ لا يليق بالواجب بل بالمندوب ، واستدل بإطلاق الآية من قال بوجوب إنظار المعسر مطلقا سواء كان الدين دين ربا أم لا. وهو الذي ذهب إليه ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ، والحسن ، والضحاك ، وأئمة أهل البيت ، وذهب شريح ، وإبراهيم النخعي ، وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في رواية عنه إلى أنه لا يجب إلا في دين الربا خاصة وتأولوا الآية على ذلك. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جواب «إن» محذوف - أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه - وفيه تحريض على الفعل وَاتَّقُوا يَوْماً. وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيبا تُرْجَعُونَ فِيهِ على البناء للمفعول من الرجع ، وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل : في التهويل ، وقرئ - يرجعون - على طريق الالتفات ، وقرأ أبيّ - تصيرون - وعبد اللّه - تردون. إِلَى اللَّهِ أي حكمه وفصله ثُمَّ تُوَفَّى أي تعطى كملا كُلُّ نَفْسٍ كسبت خيرا أو شرا ما كَسَبَتْ أي جزاء ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار ، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى ، وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن ، ولك أن تقول : إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله.
أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن آية وَاتَّقُوا يَوْماً إلخ آخر ما نزل من القرآن ، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل : تسع ليال ، وقيل : سبعة أيام ، وقيل : ثلاث ساعات ،

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 54
وقيل : أحدا وعشرين يوما ، وقيل : أحدا وثمانين يوما ثم مات - بنفسي هو - حيا وميتا صلّى اللّه عليه وسلم.
روي أنه قال : اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ، وفي رواية أخرى أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «جاءني جبرائيل فقال : اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة»
ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري. وأبو عبيد. وابن جرير. والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : آخر آية أنزلها اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم آية الربا ، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب - كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي - أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا ، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد ، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عز من قائل :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه تعالى وبما جاء منه إِذا تَدايَنْتُمْ أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا بِدَيْنٍ فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصا لأن تَدايَنْتُمْ يجيء بمعنى تعاملتم بدين ، وبمعنى تجازيتم ، ولا يرد عليه أن السياق يرفعه لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا الفطن ، وقيل : ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب الكلام ، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ [المائدة : 8] وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفى به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس ، وقيل : ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل ، وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك إِلى أَجَلٍ أي وقت وهو متعلق بتداينتم ، ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل مُسَمًّى بالأيام أو الأشهر ، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض فَاكْتُبُوهُ أي الدين بأجله لأنه أرفق وأوثق والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه : فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة : 283] والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك ، وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخاري عنه أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن اللّه تعالى أجله وأذن فيه - ثم قرأ الآية - واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالا ، ومفعول - يكتب - محذوف ثقة بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للايذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد
المتعاملين دفعا للتهمة ، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب - أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص - ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا - بكاتب - أو بفعله ، والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم ، فالكلام - كما قال الطيبي - مسوق لمعنى ، ومدمج فيه آخر بإشارة النص - وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة إلا من كان فقيها - ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون ، ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع واللّه لا يحب المفسدين.
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما ذكر أَنْ يَكْتُبَ بين المتداينين كتاب الدين كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أي لأجل ما علمه اللّه تعالى من كتابة الوثائق وتفضل به عليه وهو متعلق - بيكتب - والكلام على حد - وأحسن كما أحسن اللّه تعالى إليك - أي - لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لأجل أن اللّه تعالى تفضل عليه

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 55
وميزه - ويجوز أن يتعلق الكاف - بأن يكتب - على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه ، والتقدير أن يكتب كتابة مثل ما علمه اللّه تعالى أو أن يكتبه أي الكتب مثل ما علمه اللّه تعالى وبينه له بقوله سبحانه : بِالْعَدْلِ وجوز أن يتعلق بقوله تعالى : فَلْيَكْتُبْ والفاء غير مانعة كما في وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر : 3] لأنها صلة في المعنى ، والأمر بالكتابة بعد النهي عن الأداء منها على الأول للتأكيد ، واحتيج إليه لأن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده صريحا على الأصح فأكده بذكره صريحا اعتناء بشأن الكتابة ، ومن هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في مسألة جهالة الأجل ، وأما على الوجه الثاني فلا تأكيد وإنما هو أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الامتناع من المطلقة وهذا لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الامتناع عن المطلق لا يدل على الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيدا ، وادعاه بعضهم لأنه إذا كان الامتناع عن مطلق الكتابة منهيا فلأن يكون الامتناع عن الكتابة الشرعية منهيا بطريق الأولى ، والنهي عن الامتناع عن الكتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحا للتوكيد ، وأيضا إذا ورد مطلق ومقيد الحادثة واحدة يحمل المطلق على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليفيد التأكيد فلم لم يحمل النهي عن الامتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة المقيدة للتأكيد ، وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا يخفى؟! و«ما» قيل : إما مصدرية أو كافة - وجوز أن تكون موصولة أو موصوفة - وعليهما فالضمير لها ، وعلى الأولين للكاتب ، وقدر بعضهم على كل تقدير المفعول الثاني لعلم كتابة الوثائق فافهم وَلْيُمْلِلِ من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه وفعله
أمللت ، وقد يبدل أحد المضاعفين ياء ويتبعه المصدر فيه وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال : إملاء فهو والإملال بمعنى أي ، وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر لا غيره وانفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى وَلْيَتَّقِ أي الذي عليه الحق اللَّهَ رَبَّهُ جمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر بالجلال والجمال وَلا يَبْخَسْ أي لا ينقص مِنْهُ أي من الحق الذي يمليه على الكاتب شَيْئاً وإن كان حقيرا ، وقرئ «شيا» بطرح الهمزة و«شيّا» بالتشديد. وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن جبير ، وقيل : يجوز أن يرجع ضمير - يتق - للكاتب وليس بشيء لأن ضمير يبخس لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة ، وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهي عن كليهما ، وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل ، وإرجاع كل منهما تفكيك لا يدل عليه دليل ، وإنما شدد في تكليف المملي حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ما أمكن ، وفي مِنْهُ وجهان : أحدهما أن يكون متعلقا ببخس و- من - لابتداء الغاية ، وثانيهما أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصب حالا.
وشَيْئاً إما مفعول به وإما مصدر فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الأمر والنهي لغيره ، وعليه متعلق بمحذوف أي وجب والحق فاعل ، وجوز أن يكون عَلَيْهِ خبرا مقدما ، الْحَقُّ مبتدأ مؤخرا فتكون الجملة اسمية ، وعلى التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول سَفِيهاً أي عاجزا أحمق قاله ابن زيد ، أو جاهلا بالإملال قاله مجاهد ، أو مبذرا لماله ومفسدا لدينه قاله الشافعي أَوْ ضَعِيفاً أي
صبيا ، أو شيخا خرفا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ جملة معطوفة على مفرد هو خبر كان لتأويلها بالمفرد أي - أو غير مستطيع

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 56
للإملاء بنفسه لخرس- كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة وسائر العوارض المانعة ، والضمير البارز توكيد للضمير المستتر في- أن يمل- وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه ، وقيل : إن الضمير فاعل- ليمل- وتغيير الأسلوب اعتناء بشأن النفي ، ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم ، ومثله الفك في قوله تعالى : فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أي متولي أمره وإن لم يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيّم والوكيل والمترجم ، والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين الإقرار على الغير فاعرفه بِالْعَدْلِ بين صاحب الحق والمولى عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعين ما كلف به من غير الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس ، واستدل بعضهم- بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذميا ولا فاسقا وأنه يجوز أن يكون عبدا أو امرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا العدالة ذكره ابن الفرس- وليس بشي ء كما لا يخفى.
ومن الناس من استدل بقوله سبحانه : فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ على وجوب الكتابة وإلى ذلك ذهب الشعبي ، والجبائي ، والرماني إلا أنهم قالوا : إنها واجبة على الكفاية- وإليه يميل كلام الحسن- وقال مجاهد ، والضحاك : واجب عليه أن يكتب إذا أمر ، وقيل : هي مندوبة ، وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك.
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما ، وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي اشهدوا ، وفي اختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك ، والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك مِنْ رِجالِكُمْ متعلق باستشهدوا- ومِنْ لابتداء الغاية أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين ، ومِنْ تبعيضية والخطاب للمؤمنين المصدر بهم الآية ، وفي ذكر الرجال مضافا إلى ضمير المخاطبين دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في الشاهدين ، والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء بمنزلة البهائم ، وأيضا خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في محله ، وذهب الإمامية إلى عدم اشتراط الحرية في قبول الشهادة وإنما الشرط فيه عندهم الإسلام والعدالة ، وإلى ذلك ذهب شريح ، وابن سيرين ، وأبو ثور ، وعثمان البتي وهو خلاف المروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه- فإنه لم يجوز شهادة العبد في شي ء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأجاز ذلك قياسا الإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه وإن اختلفت مللهم.
فَإِنْ لَمْ يَكُونا أي الشهيدان رَجُلَيْنِ أي لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم النفي وإلا لم يصح قوله تعالى : فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فان لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وامرأتان ، أو فرجل وامرأتان يشهدون. أو يكفون ، أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فليستشهد رجل وامرأتان ، أو فليكن رجل وامرأتان شهودا ، وإن جعلت- يكن- تامة استغنى عن تقدير شهود ، وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص عندنا ، وعند الشافعي في الأموال خاصة لا في غيرها كعقد النكاح ، وقال مالك : لا تجوز شهادة أولئك في الحدود ولا القصاص ، ولا الولاء ولا الإحصان ، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق ، وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا به في الولادة والبكارة والاستهلال وما يجري مجرى ذلك ما بين في الكتب الفقهية ، وقرئ- «و امرأتان»- بهمزة ساكنة ، ولعل ذلك لاجتماع المتحركات مِمَّنْ تَرْضَوْنَ متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 57
فلا يرد ما في البحر من أن جعله صفة للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين ، وقيل : هو صفة لشهيدين- وضعف بالفصل الواقع بينهما ، وقيل : بدل من- رجالكم- بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا ، واختار أبو حيان تعلقه- باستشهدوا- ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط المرأتين وتعليله- وهو كما ترى- والخطاب للمؤمنين وقيل : للحكام ولم يقل من المرضيين لافهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر واللّه تعالى يتولى السرائر مِنَ الشُّهَداءِ متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب.
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن ، وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو هنا إلا إرادة اللّه تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك ، واعترض بأن النسيان وعدم الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد اللّه تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد ، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار ، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا ، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى : فَتُذَكِّرَ قيل : والنكتة في إيثار أَنْ تَضِلَّ إلخ على- أن تذكر إن ضلت- الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار بحيث صار ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا إليه ، وإِحْداهُما الثانية يجوز أن تكون فاعل- تذكر- وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية ، ويجوز أن تكون مفعولا لتذكر- والأخرى- فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى- كما وهم- حتى يتعين الأول بل من قبيل- أرضعت الصغرى الكبرى- لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال ولهذا- كما قيل- عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي لو أخر لم يلزم شي ء سوى وضعه موضعه الأصلي ، وذكر غير واحد أن العدول عن- فتذكرها- الأخرى- وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمش- إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال- بإحداهما- بعينها والتذكير بالأخرى ، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير إِحْداهُما الأولى راجعا إلى الشهادتين ، وضمير إِحْداهُما الأخرى إلى المرأتين فالمعنى- أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما- وأيده الطبرسي بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال : ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه : ضَلُّوا عَنَّا [الأعراف : 37] أي ضاعوا منا ، وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأسا وليس بشي ء إذ لا يكون لاحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الانتظام ، وما ذكر في التأييد ينبى ء عن قلة الاطلاع على اللغة.
ففي نهاية ابن الأثير وغيرها إطلاق الضال على الناسي ، وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، وغيرهم ، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل : إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى فَتُذَكِّرَ إلخ فتجعل إحداهما اخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصورا من جهة المعنى

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 58
واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بيّن ، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكرا مجاز عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه - وبعد التجوز ليس على ظاهره - لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر البتة معهما ، وقوله سبحانه : فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضا - والتزام توجيه مثل ذلك ، وعرضه في سوق القبول - لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول ، ولقد رأيت في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار - إحدى - معرضا بما ذكره المغربي فقال :
يا رأس أهل العلوم السادة البرره ومن نداه على كل الورى نشره
ما سر تكرار - إحدى - دون تذكرها في آية لذوي الاشهاد في البقرة
وظاهر الحال إيجاز الضمير على تكرار إِحْداهُما لو أنه ذكره
وحمل الاحدى على نفس الشهادة في أولاهما ليس مرضيا لدى المهرة
فغص بفكرك لاستخراج جوهره من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
«فأجاب القاضي» :
يا من فوائده بالعلم منتشره ومن فضائله في الكون مشتهره
يا من تفرد في كشف العلوم لقد وافى سؤالك والأسرار مستتره
(تضل إحداهما) فالقول محتمل كليهما فهي للاظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضيا تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رددتم عليه الحل فهو كما أشرتم ليس مرضيا لمن سبره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به واللّه أعلم في الفحوى بما ذكره
وقرئ «أن تضّل» بالبناء للمفعول والتأنيث ، وقرئ - «فتذاكر» - وقرأ ابن كثير ، ويعقوب ، وأبو عمرو ، والحسن - «فتذكر» - بسكون الذال وكسر الكاف ، وحمزة أَنْ تَضِلَّ على الشرط فتذكر بالرفع وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لالتقاء الساكنين ، والفاء في الجزاء قيل : لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة ، وقيل : لا تقدير لأن الجزاء إذا كان مضارعا مثبتا يجوز فيه الفاء وتركه ، وقيل : الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير - الذاكرة - وإِحْداهُما بدل عنه أو عن الضمير في فَتُذَكِّرَ وقال بعض المحققين : الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما - تذكر إحداهما الأخرى - وعليه كلام كثير من المعربين ، والقائلون عن ذلك تفرقوا أيدي سبأ لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع بقوله تعالى : وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة : 95] ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفرادا وتثنية واللّه تعالى الملهم للرشاد فتدبر وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة أو لتحملها - وهو المروي عن ابن عباس ، والحسن رضي اللّه تعالى عنهم - وخص ذلك مجاهد. وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم احتياجه إلى ارتكاب المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم فإن ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة ، وما صلة وهي قاعدة مطردة بعد إِذا وَلا تَسْئَمُوا أي تملوا أو تضجروا ، ومنه قول زهير :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 59
أَنْ تَكْتُبُوهُ أي الدين ، أو الحق - أو الكتاب المشعر به الفعل والمنسبك مفعول به - لتسأموا - ويتعدى بنفسه ، وقيل : يتعدى بحرف الجر وحذف للعلم به ، وقيل : المراد من - السأم - الكسل إلا أنه كني به عنه لأنه وقع في القرآن صفة للمنافقين كقوله تعالى : وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
[النساء : 142] ولذا وقع
في الحديث «لا يقول المؤمن كسلت وإنما يقول ثقلت»
وقرئ - و«لا يسأموا» - «أن يكتبوه» بالياء فيهما صَغِيراً أَوْ كَبِيراً حالان من الضمير أي على كل حال قليلا أو كثيرا مجملا أو مفصلا ، وقيل : منصوبان على أنهما خبرا كان المضمرة وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى إِلى أَجَلِهِ حال من الهاء في - تكتبوه - أي مستقرا في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به وليس متعلقا بتكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى الأجل إذ هي مما ينقضي في زمن يسير ذلِكُمْ أي الكتب - وهو الأقرب - أو الإشهاد - وهو الأبعد - أو جميع ما ذكر - وهو الأحسن - والخطاب للمؤمنين أَقْسَطُ أي أعدل عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه سبحانه.
وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها وهما مبنيان من أقسط وأقام على رأي سيبويه فإنه يجيز بناء أفعل من الأفعال من غير شذوذ ، وقيل : من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم ، وقال أبو حيان : قسط يكون بمعنى جار وعدل ، وأقسط بمعنى عدل لا غير حكاه ابن القطاع - وعليه لا حاجة إلى رأي سيبويه في أقسط - وقيل : هو من قسط بوزن كرم بمعنى صار ذا قسط أي عدل ، وإنما صحت الواو في أقوم ولم يقل أقام لأنها لم تقلب في فعل التعجب نحو ما أقومه لجموده إذ هو لا يتصرف وأفعل التفضيل يناسبه معنى فحمل عليه وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك ، قيل : وهذا حكمة خلق اللوح المحفوظ ، والكرام الكاتبين مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام ، وحرف الجر مقدر هنا - وهو إلى كما سمعت - وقيل : مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام ، وحرف الجر مقدر هنا - وهو إلى كما سمعت - وقيل : اللام ، وقيل : من ، وقيل في ، ولكل وجهة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ استثناء منقطع من الأمر بالكتابة فقوله تعالى : وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ إلى هنا جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه أي لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يدا بيد - كذا قيل.
وفي الدر المصون يجوز أن يكون استثناء متصلا من الاستشهاد فيكون قد أمر بالاستشهاد في كل حال إلا في حال حضور التجارة ، وقيل : إنه استثناء من هذا وذاك وهو منقطع أيضا أي لكن التجارة الحاضرة يجوز فيها عدم الاستشهاد والكتابة وقيل : غير ذلك - ولعل الأول أولى - ونصب عاصم تجارة على أنها خبر تكون واسمها مستتر فيها يعود إلى التجارة - كما قال الفراء - وعود الضمير في مثل ذلك على متأخر لفظا ورتبة جار في فصيح الكلام ، وقال بعضهم : يعود إلى المداينة والمعاملة المفهومة من الكلام ، وعليه فالتجارة مصدر لئلا يلزم الأخبار عن المعنى بالعين ، ورفعها الباقون على أنها اسم تَكُونَ والخبر جملة تُدِيرُونَها ويجوز أن تكون تَكُونَ تامة فجملة تُدِيرُونَها صفة فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أي فلا مضرة عليكم أو لا إثم في عدم كتابتكم لها لبعد ذلك عن التنازع والنسيان ، أو لأن في تكليفكم الكتابة حينئذ مشقة جدا وإدخال الفاء للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ أي هذا التبايع المذكور أو مطلقا وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ نهي عن المضارة - والفعل يحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول - والدليل عليه قراءة عمر رضي اللّه تعالى عنه - ولا يضار - بالفك والكسر ، وقراءة ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بالفك والفتح - والمعنى على الأول - نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان ، وعلى الثاني النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أولا يعطى

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 60
الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مؤونة المجيء من بلد ، ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه ابن جرير عن الربيع قال :
لما نزلت هذه الآية وَلا يَأْبَ كاتِبٌ إلخ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي فيقول : إني مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى غيري فيلزمه ويقول : إنك قد أمرت أن تكتب لي فلا يدعه ويضاره بذلك ، وهو يجد غيره فأنزل اللّه تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشيء كما لا يخفى ، وقرأ الحسن - ولا يضار - بالكسر وقرئ بالرفع على أنه نفي بمعنى النهي وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من الضرار أو منه ومن غيره وبعيد وقوعه منكم فَإِنَّهُ أي ذلك الفعل فُسُوقٌ بِكُمْ أي خروج عن طاعة متلبس بكم ، وجوز كون الباء للظرفية ، قيل : وهو أبلغ إذ جعلوا محلا للفسق وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أحكامه المتضمنة لمصالحكم وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك «فان قيل» كيف كرر سبحانه الاسم الجليل في الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله : فما للنوى جذ النوى قطع النوى حتى قيل : سلط اللّه تعالى عليه شاة تأكل نواه؟ أجيب بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح ، فالمستحسن كل تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها ، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير ، وما في البيت من القسم الثاني لأن - جذ النوى قطع النوى - فيه بمعنى واحد وما في الآية درة تاج القسم الأول لأن اتَّقُوا اللَّهَ حث على تقوى اللّه تعالى وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وعد بإنعامه سبحانه وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعظيم لشأنه عز شأنه ، ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبرا وإنشاء ، ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالا من فاعل اتَّقُوا أي اتقوا اللّه مضمونا لكم التعليم ، ويجوز أن تكون حالا مقدرة ، والأولى ما قدمنا لقلة
اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع حالا بالواو.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب لكم حسبما بين قبل ، والجملة عطف على فعل الشرط أو حال.
وقرأ أبو العالية كتبا ، والحسن ، وابن عباس - كتابا جمع كاتب فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي فالذي يستوثق به. أو فعليكم ، أو فليؤخذ ، أو فالمشروع رهان. وهو جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول - وليس هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب في شرعية الارتهان
لأن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم رهن درعه في المدينة من يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما في البخاري
- بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مظنة إعوازها ، وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر. وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز في السفر إلا عند فقد الكاتب ، وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقا وإعوازا ، والجمهور على وجوب القبض في تمام الرهن ، وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم الراهن بالعقد تسليمه ويشترط عنده بقاؤه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على أحد هذين الوجهين مثلا كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب إلى ذلك لما في الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو علي :
فالخبز واللحم لهن راهن وقهوة راووقها ساكب
وفي التعبير - بمقبوضة - دون تقبضونها إيماء إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرئ - فرهن - كسقف وهو جمع رهن أيضا ، وقرئ بسكون الهاء تخفيفا فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن ، وقرأ أبي - فإن أو من - أي أمنه

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 61
الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن التوثق من مثله ، وبَعْضاً على هذا منصوب بنزع الخافض - كما قيل - فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وهو المديون وعبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للاعلام ولحمله على الأداء أَمانَتَهُ أي دينه ، والضمير لرب الدين أو للمديون باعتبار أنه عليه ، والأمانة مصدر أطلق على الدين الذي في الذمة وإنما سمي أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان به.
وقرئ - «الذيتمن» - بقلب الهمزة ياء ، وعن عاصم أنه قرأ - «الذتمن» - بإدغام الياء في الستار ، وقيل هو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا يدغم ، ورد بأنه مسموع في كلام العرب ، وقد نقل ابن مالك جوازه لأنه قال : إنه مقصور على السماع ، ومنه قراءة ابن محيصن - «اتمن» - ونقل الصاغاني أن القول بجوازه مذهب الكوفيين ، وورد مثله في كلام أم المؤمنين عائشة رضي اللّه تعالى عنها وهي من الفصحاء المشهود لهم ،
ففي البخاري عنها كان صلى اللّه تعالى عليه وسلم يأمرني فأتزر فالمخطئ مخطئ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الخيانة وإنكار الحق ، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى ، وقد أمر سبحانه - بالتقوى - عند الوفاء حسبما أمر بها عند الإقرار تعظيما لحقوق العباد وتحذيرا عما يوجب وقوع الفساد.
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ أي لا تخفوها بالامتناع عن أدائها إذا دعيتم إليها وهو خطاب للشهود المؤمنين كما روي عن سعيد بن جبير وغيره وجعله خطابا للمديونين على معنى لا تكتموا شهادتكم على أنفسكم بأن تقروا بالحق عند المعاملة ، أو لا تحتالوا بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه عند المرافعة خلاف الظاهر المأثور عن السلف الصالح ، وقرئ يكتموا على الغيبة وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ الضمير في أنه راجع إلى مَنْ وهو الظاهر ، وقيل : إنه ضمير الشأن والجملة بعده مفسرة له ، وآثِمٌ خبر إن وقلبه فاعل له لاعتماده ولا يجيء هذا على القول بإن الضمير للشأن لأنه لا يفسر إلا بالجملة والوصف مع مرفوعه ليس بجملة عند البصري.
والكوفي يجيز ذلك ، وقيل : إنه خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر إن وعليه يجوز أن يكون الضمير للشأن وأن يكون - لمن - وقيل : آثِمٌ خبر إن وفيه ضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير - إنه - وقلبه بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل ، وقيل : آثِمٌ مبتدأ وقلبه فاعل سد مسد الخبر ، والجملة خبر إن ، وهذا جائز عند الفراء من الكوفيين ، والأخفش من البصريين وجمهور النحاة لا يجوّزونه وأضاف الآثم إلى القلب مع أنه لو قيل : فَإِنَّهُ آثِمٌ لتم المعنى مع الاختصار ، لأن الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإسناد الفعل بالجارحة التي يعمل بها أبلغ ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي؟ ولأن الإثم وإن كان منسوبا إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الإسناد إلى هذا الجزء المخصوص متجوزا به عن الكل لأنه أشرف الأجزاء ورئيسها ، وفعله أعظم من أفعال سائر الجوارح ، فيكون في الكلام تنبيه على أن الكتمان من أعظم الذنوب ، وقيل : أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقة ومعدن اقترافه ، وقيل : للإشارة إلى أن أثر الكتمان يظهر في قلبه كما جاء
في الخبر «إذا أذنب العبد يحدث في قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه» ،
أو للإشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله ،
فقد ورد «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»
والكل ليس بشيء كما لا يخفى ، وقرئ قلبه بالنصب على التشبيه بالمفعول به.
وآثِمٌ صفة مشبهة ، وجوز أبو حيان كونه بدلا من اسم إن بدل بعض من كل ، وبعضهم كونه تمييزا واستبعده أبو البقاء ، وقرأ ابن أبي عبلة آثِمٌ قَلْبُهُ أي جعله آثما وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من كتمان الشهادة وأدائها على وجهها وغير ذلك عَلِيمٌ فيجازيكم بذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 62
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما كيف كانت أي كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لأحد أن يقول المال مالي أتصرف به كيف شئت ، ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما قبلها وَإِنْ تُبْدُوا أي تظهروا للناس ما فِي أَنْفُسِكُمْ أي ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة أَوْ تُخْفُوهُ بأن لا تظهروه.
يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي يجازيكم به يوم القيامة ، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان ، وإلى هذا الإشارة
بقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إن اللّه تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم»
أي إن اللّه تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها ، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافا لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا : إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى : وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة : 225] لأنا نقول : المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضا من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله :
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
فالآية على ما قررنا محكمة ، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجا بما
أخرجه أحمد ، ومسلم عن أبي هريرة قال : «لما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأتوا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا : يا رسول اللّه كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل اللّه تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل اللّه تعالى في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة : 285] الآية فلما فعلوا ذلك نسخها اللّه تعالى فأنزل سبحانه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة : 286] إلخ ، وصح مثل ذلك عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعائشة رضي اللّه تعالى عنهم ،
وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم - أحسبه ابن عمر إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قال : نسختها الآية التي بعدها ، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه ، ويكون الحديث إخبارا عما كان بعد النسخ ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني.
ومن هنا قال الطبرسي : وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة ، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد ، وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل اللّه تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها» فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفا ، والحكم الشرعي المفهوم من الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى : فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة : 109] كأنه قيل : كيف يحمل ما في أنفسكم على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 63
التكليف بما ليس في الوسع واللّه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد اللّه تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى ، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى اللّه تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام وقال : «أخطأت أم أصبت يا رسول اللّه؟ فقال له صلّى اللّه عليه وسلم : أصبت بعضها وأخطأت بعضها»
ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما ، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى ، وقيل : معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء ، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم اللّه تعالى عليه ، ويؤول إلى قولنا إن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرا أو خفية يحاسبكم بها اللّه تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام ، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك - يحاسبكم به اللّه - وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه في الآية الكريمة قال : نزلت في الشهادة ، وقيل : الآية على ظاهرها ، و«ما في أنفسكم» على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى «يحاسبكم» يخبركم به اللّه تعالى يوم القيامة ، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم ، وجميع هذه الأقوال لا تخلو عن نظر فتدبر ، وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب.
وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به ، وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى :
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران : 29] فلما قيل : إن المعلق - بما في أنفسهم - هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية ، وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية فَيَغْفِرُ بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من عباده وَيُعَذِّبُ بعدله. مَنْ يَشاءُ أن يعذبه من عباده ، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه ، وقرأ غير ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط ، وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بنصبهما بإضمار - أن - وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق ، والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب ، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك :
والفعل من بعد الجزا إن يقترن بالفاء أو الواو بتثليث قمن
وقرأ ابن مسعود - «يغفر» ، و«يعذب» - بالجزم بغير فاء - ووجهه عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر - وأما عند غيره فالجزم على أنهما بدل من يُحاسِبْكُمْ بدل البعض من الكل أو الاشتمال ، فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول عليه - بيحاسبكم - ومطلق الحساب جامع لهما فان اعتبر جمعه لهما على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلي لأفراده يكون بدل اشتمال كذا قيل ، وقيل : إن أريد بيحاسبكم معناه الحقيقي فالبدل بدل اشتمال - كأحب زيدا علمه - وإن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 64
أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض - كضربت زيدا رأسه - وقيل : غير ذلك ، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال قال :
ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس ، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد ، واعترضه الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل وقد قيل بهما في قوله :
متى تأتنا - تلمم - بنا في ديارنا تجد خير نار عندها خير موقد
فإنهم جعلوا الإلمام بدلا من الإتيان إما بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه أو اشتمال لأنه نزول خفيف ، وروي عن أبي عمرو إدغام الراء في اللام ، وطعن الزمخشري - على عادته في الطعن - في القراءات السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الفائت بالإدغام في اللام وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي ، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجع بكونه إثباتا ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له - وممن روي ذلك عنه - أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراءات إمام في اللغات ، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازما على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين ، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعا ، منهم الكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرواسي ، ولسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط ، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب ، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر آمَنَ الرَّسُولُ قال الزجاج : لما ذكر اللّه تعالى عز وجل في هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة ، الزكاة ، والطلاق ، والحيض والإيلاء ، والجهاد ، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والدين ، والربا ، ختمها بهذا تعظيما لنبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأتباعه ، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل ، وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بالفعل وذكره صلى اللّه تعالى عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكي عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده.
أخرج الحاكم. والبيهقي عن أنس قال : «لما نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم آمَنَ الرَّسُولُ قال عليه الصلاة والسلام : وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة - وهي شاهد لحديث أنس - «فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن»
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانا تفصيليا ، وأجمله إجلالا لمحله صلى اللّه تعالى عليه وسلم وإشعارا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 65
والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه ، وفي تقديم الانتهاء على الابتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف وَالْمُؤْمِنُونَ يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه ، ويدل عليه ما
أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قرأ - وآمن المؤمنون -
وعليه يكون قوله تعالى : كُلٌّ آمَنَ جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر ، وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ ، وكُلٌّ مبتدأ ثان ، وآمَنَ خبره ، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون كُلٌّ تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها - ورجح الوجه الأول - بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم حينئذ يكون أصلا في حكم الإيمان بما أنزل اللّه والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك ، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم لكون جملتهم اسمية ومؤكدة ، وعورض بأن في الثاني إيذانا بتعظيم الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم وتأكيدا للإشعار بما بين إيمانه صلى اللّه تعالى عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشئ عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب ويلزم على الأول أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلّى اللّه عليه وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير ، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى اللّه تعالى عليه وسلم اللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الاسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك ، وتوحيد الضمير
في آمَنَ مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى :
وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل : 87] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله - آمن - بِاللَّهِ أي صدق به وبصفاته ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك وَمَلائِكَتِهِ من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى : وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالا وإنما لم يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى : وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة : 177] إلخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرا ما يختصر فيها ، وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وكتابه - بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع - على ما ذهب إليه إمام الحرمين والزمخشري - وروي عن الإمام ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداء فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد - وهذا المبحث من معضلات علم المعاني - وقد فرغ من تحقيقه هناك.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 66
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير كُلٌّ مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع - ولعله أولى - والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير آمَنَ أو مرفوعة على أنها خبر آخر - لكل - أي يقولون ، أو يقول : لا نفرق بين رسل اللّه تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين.
ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها ، ومن اعتبر إدراج الرسول في كُلٌّ واستبعد هذا قال : بالتغليب هاهنا ، ومن لم يستعبد إذ كان صلى اللّه تعالى عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب ، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى : وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة : 136] إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر ، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات ، وقرأ يعقوب.
وأبو عمرو في رواية عنه - لا يفرق - بالياء على لفظ كُلٌّ وقرئ لا يفرقون حملا على معناه ، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا ، والكلام على أَحَدٍ وإدخال بَيْنَ عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى : لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَقالُوا عطف على آمَنَ والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم سَمِعْنا أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع وَأَطَعْنا وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأمر والنواهي ، وقيل : سَمِعْنا ما جاءنا من الحق وتيقّنا بصحته ، وأَطَعْنا ما فيه من الأمر والنهي غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك ، أو نسألك غفرانك ذلك ، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به - ولعل الأول أولى - لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص ، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسئول أقرب إلى الإجابة والقبول ، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي ، والجملة قيل : معطوفة على مقدر أي فمنك المبتدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل.
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة سيقت إخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بماله عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجي ء - والتكليف - إلزام ما فيه كلفة ومشقة ، و- الوسع - ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه - لا يكلف نفسا - من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنّة على هذه الأمة خاصة.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 67
وقرأ ابن أبي عبلة «وسعها» - بفتح السين «1» والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فبطريق الأولى ، وقيل : إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء اللّه تعالى.
لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته - قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس سره - وهو الذي ذهب إليه الكثير ، وقيل : يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم شكروا اللّه تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن اللّه تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم - ولا يخفى أنه بعيد - من جهة - قريب من أخرى - والضمير في لَها للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر ، ومبين ما الأولى الخير لدلالة اللام الدالة على النفع عليه ، ومبين ما الثانية الشر لدلالة - على - الدالة على الضر عليه : وإيراد الاكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال ، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال.
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف ، وقيل : استيفاء لحكاية الأقوال ، وفي البحر - وهو المروي عن الحسن - أن ذلك على تقدير الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم ، ولذلك قيل وقد تقدم :
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من فيض جودك ما علمتني الطلبا
والمؤاخذة : المعاقبة ، وفاعل هنا بمعنى فعل ، وقيل : المفاعلة على بابها لأن اللّه تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف ، واختلفوا في المراد من النسيان والخطأ على وجوه ، الأول أن المراد من الأول الترك ومنه قوله :
ولم أك عند الجود للجود قاليا ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا
والمراد من الثاني العصيان لأن المعاصي توصف بالخطأ الذي هو ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدا كأنه قيل : ربنا لا تعاقبنا على ترك الواجبات وفعل المنهيات ، الثاني أن المراد منهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال
___________
(1) قوله : بفتح السين كذا بالأصل ولعله محرف عن فتح الواو لأن الواو مثلث كما في القاموس ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 68
إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير ، الثالث أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر ، أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه.
ويؤيد ذلك مفهوم
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني ، وقال النووي حديث حسن : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه»
وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام ونعمة يعتد بها رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي عبثا ثقيلا يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه.
والمراد به التكاليف الشاقة ، وقيل : الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه ، وقرئ آصارا على الجمع ، وقرأ أبيّ - ولا تحمّل - بالتشديد للمبالغة كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا ، أو على أنه صفة لإصرا أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا - وهو ما كلفه بنو إسرائيل - من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم. وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها ، وقيل : من البدن وصرف ربع المال في الزكاة.
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجاز باعتبار ما يؤدي إليه ، وجوز أن يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة ، وقيل : هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي ، والتشديد هاهنا لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير وَاعْفُ عَنَّا أي امح آثار دنوبنا بترك العقوبة.
وَاغْفِرْ لَنا بستر القبيح وإظهار الجميل وَارْحَمْنا وتعطف علينا بما يوجب المزيد ، وقيل : اعْفُ عَنَّا من الأفعال وَاغْفِرْ لَنا من الأقوال وَارْحَمْنا بثقل الميزان ، وقيل : وَاعْفُ عَنَّا في سكرات الموت وَاغْفِرْ لَنا في ظلمة القبور وَارْحَمْنا في أهوال يوم النشور ، قال أبو حيان : ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ رَبَّنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء - فاعف عنا - مقابلا لقوله تعالى : لا تُؤاخِذْنا وَاغْفِرْ لَنا لقوله سبحانه : وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَارْحَمْنا لقوله عز شأنه : وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ والعفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب أَنْتَ مَوْلانا أي مالكنا وسيدنا ، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال : مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء :
وإن صخرا - لمولانا وسيدنا - وإن صخرا إذا اشتوا لمنحار
وخطؤوا من قال : سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى - كما قاله ابن أبيك - ولي فيه تردد قيل : والجملة على معنى القول أي قولوا أنت مولانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 69
الكفرة وأتى بالفاء إيذانا بالسببية لأن اللّه تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم علي وأنت البطل فاحم الجار.
(ومن باب الاشارة في هذه الآيات) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه وَما فِي الْأَرْضِ أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ يشهده بأسمائه وظواهره يُحاسِبْكُمْ بِهِ وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيئاته وعدم رسوخها في ذاته وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لفساد اعتقاده ووجود شكه ، أو رسوخ سيئاته في نفسه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب آمَنَ الرَّسُولُ الكامل الأكمل بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى اللّه تعالى عليه وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ يرد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق وَقالُوا سَمِعْنا أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ بالفناء فيك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات لَها ما كَسَبَتْ من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ وتوجهت إليه بالقصد من السوء رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة أَوْ أَخْطَأْنا بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ
عَلَيْنا إِصْراً وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من معاينة الغيوب كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك وَاعْفُ عَنَّا سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها سيئات حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك وَاغْفِرْ لَنا ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر وَارْحَمْنا بالوجود الموهوب بعد الفناء أَنْتَ مَوْلانا أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم ، هذا وقد أخرج مسلم ، والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى اللّه تعالى عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت ،
واخرج أبو سعيد ، والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء اللّه تعالى من الملائكة وقرأها رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ منها ،
وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين ،
وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»
وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إن اللّه تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان»
وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «أنزل اللّه تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة اجزأتاه عن قيام الليل»
وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «إن

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 70
اللّه ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء»
وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن ، وأخرج مسدد عن عمر رضي اللّه تعالى عنه ، والدارمي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه كلاهما قال : ما كنت أرى أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من سورة البقرة.
والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه اللّه تعالى. اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب ، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب ، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعا عما بتوفيقك أردناه ، وصلّ وسلم على خليفتك الأعظم ، وكنزك المطلسم ، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك ، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 71
سورة آل عمران
«وهي مائتا آية» أخرج ابن الضريس ، والنحاس ، والبيهقي من طرق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة ، واسمها في التوراة - كما روى سعيد بن منصور - طيبة ، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة الزهراوين - وتسمى الأمان ، والكنز ، والمعنية ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار ، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم ، وتكررت آية قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ [البقرة : 136] بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له ، فذكر هناك خلق الناس ، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام ، وذكر هناك مبدأ خلق آدم ، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم ، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى ، ولذلك ضرب له المثل بآدم ، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق ، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب ، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها ، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم - والسورة التي هي فيها - جديرة بالتقديم.
وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة في صفة النار : أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة : 24] مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا ، وقال في آخر هذه : وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران : 133] فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة ، مما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران : 130 ، 220] وافتتحت الأولى بقوله سبحانه : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة : 4] وختمت آل عمران بقوله تعالى : وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران : 199] وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة : 245 ، الحديد : 11] الآية : يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران : 181] وهذا مما يقوي التلازم أيضا ، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم : رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة : 129] الآية وهنا لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران : 164] الآية إلى غير ذلك.

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 72
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 إلى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قرأ أبو جعفر ، والأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع الهمزة ولا إشكال فيها لأن طريق التلفظ فيما لا تكون من هذه الفواتح مفردة - كص - ولا موازنة المفرد - كحم - حسبما ذكر في الكتاب الحكاية فقط ساكنة الاعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء ، أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف قطعا ، ولذا ضعفت قراءة عمرو بن عبيد بكسر الميم ، والجمهور يفتحون الميم ويطرحون الهمزة من الاسم الكريم قيل : وإنما فتحت لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في حكم الوقف كقوله :
واحد ، اثنان لا لالتقاء الساكنين - كما قال سيبويه - فإنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم تحرك في لام - وإلى ذلك ذهب الفراء - وفي البحر إنه ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل وما يسقط لا تلقى حركته - كما قاله أبو علي وقولهم : إن الميم في حكم الوقف وحركتها حركة الإلقاء مخالف لإجماع العرب ، والنحاة أنه لا يوقف على متحرك البتة سواء في ذلك حركة الإعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية والاتباع فلا يجوز في قَدْ أَفْلَحَ [المؤمنون : 1 ، الأعلى : 14 ، الشمس : 9] إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن تقف على دال «قد» بالفتحة بل تسكنها قولا واحدا ، وأما تنظيرهم بواحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه - ولم يحك الكسر - لغة فإن صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه كما

روح المعاني ، ج 2 ، ص : 73
زعموا ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم : اثنان فالتقى ساكنان دال واحد ، وثاء اثنين فكسرت الدال لالتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل ، وأما قولهم : إنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم يحرك في لام ، فجوابه إن الذي قال : إن الحركة لالتقاء الساكنين لم يرد بهما التقاء الياء والميم من - ألم - في الوقف بل أراد الميم الأخير من - ألم - ولام التعريف فهو كالتقاء نون من ، ولام الرجل - إذا قلت من الرجل؟ على أن في قولهم تدافعا فإن سكون آخر الميم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض ، ولذا قال الجاربردي :
الوجه ما قاله سيبويه ، والكثير من النحاة أن تحريك الميم لالتقاء الساكنين واختيار الفتح لخفته وللمحافظة على تفخيم الاسم الجليل ، واختار ذلك ابن الحاجب - وادعى أن في مذهب الفراء حملا على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في اللغة.
وقال غير واحد : لا بد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف ، والقول : بأنه ضعيف غير مسلم ولئن سلم فغير ناهض لأنه قوي فيما المطلوب منه الخفة - كثلاثة أربعة - وهاهنا الاحتياج إلى التخفيف أمس ولهذا جعلوه من موجبات الفتح ، وإنما قيل ذلك لأن هذه الأسماء من قبيل المعربات وسكونها سكون وقف لا بناء وحقها أن يوقف عليها ، والم رأس آية ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف إما قرعا للعصا أو مقدمة لدلائل الإعجاز فالواجب أيضا القطع والابتداء بما بعدها تفرقة بينها وبين الكلام المستقل المفيد بنفسه فإذن القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعارا بإبقاء أثر الهمزة المحذوفة للتخفيف المؤذن بالابتداء والوقف ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين وحيث كانت حركة الميم لغيرها كانت في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم لئلا يلزم المحذر - وكلام الزمخشري في هذا المقام مضطرب ففي الكشاف اختار مذهب الفراء ، وفي المفصل اختار مذهب سيبويه ، ولعل الأول مبني على الاجتهاد ، والثاني على التقليد والنقل لما في الكتاب - لأن المفصل مختصره فتدبر.
وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالفواتح من حيث الإعراب وغيره ، وفيه كفاية لمن أخذت العناية بيده ، والاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره ، والجملة مستأنفة أي هو المستحق للعبودية لا غير ، والْحَيُّ الْقَيُّومُ خبر بعد خبر له أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا غير ، وقيل : هو صفة للمبتدأ أو بدل منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ والخبر مقرر لما يفيده الاسم الكريم ، أو حال منه على رأي من يرى صحة ذلك وأيّا ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه ، وقد أخرج الطبراني ، وابن مردويه من حديث أبي أمامة مرفوعا أن اسم اللّه الأعظم في ثلاث سور : سورة البقرة ، وآل عمران ، وطه. وقال أبو أمامة : فالتمستها فوجدت في البقرة اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة : 255] وفي آل عمران اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وفي طه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه : 111].
وقرأ عمر ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وعلقمة - «الحي القيام» وهذا رد على النصارى الزاعمين أن عيسى عليه السلام كان ربا ،
فقد أخرج ابن إسحق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : «قدم على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وفد نجران وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم فكلم رسول للّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب ، وعبد المسيح ، والأيهم السيد وهو من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون : هو اللّه تعالى ، ويقولون : هو ولد اللّه تعالى ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة كذلك قول النصرانية.==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...