الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج1.وج2.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة ) المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

1 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي
الناشر: دار الكتب العلمية ـ بيروت
سنة الطبع: 1415 هـ
تحقيق : على عبد البارى عطية
عدد الأجزاء : 16 مع الفهارس
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 3
[الجزء الأول ]
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة المفسر
حمدا لمن جعل روح معاني الأكوان تفسير الآيات قدرته. وصير نقوش أشباح الأعيان بيانا لبينات وحدته.
وأظهر من غيب هويته قرآنا غدا فرقانه كشافا عن فرق الكتب الإلهية الغياهب. وأبرز من سجف ألوهيته نورا أشرق على مرايا الكائنات. بحسب مزايا الاستعدادات. فاتضحت من معالم العوالم المراتب. وصلاة وسلاما على أول درة أضاءت من الكنز المخفي في ظلمة عماء القدم. فأبصرتها عين الوجود. وعلة إيجاد كل درة برأتها يد الحكيم إذ تردت في هوة العدم. فعادت ترفل بأردية كرم وجود مهبط الوحي الشفاهي الذي ارتفع رأس الروح الأمين بالهبوط إلى موطىء أقدامه ومعدن السر الإلهي. الذي انقطع فكر الملأ الأعلى دون ذكر الوصول إلى أدنى مقامه. فهو النبي الذي أبرزه مولاه من ظهور الكمون إلى حواشي متون الظهور. ليكون شرحا لكتاب صفاته وتقريرا ورفعه بتخصيصه من بين العموم بمظهرية سره المستور. وأنزل عليه قرآنا عربيا غير ذي عوج ليكون للعالمين نذيرا.
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وعلى آله وأصحابه مطالع أنوار التنزيل ومغارب أسرار التأويل. الذين دخلوا عكاظ الحقائق بالوساطة المحمدية.
فما برحوا حتى ربحوا فباعوا نفوسا وشروا نفيسا وقطعوا أسباب العلائق بالهمم الحقيقية. فما عرجوا حتى عرجوا فلقوا عزيزا وألقوا خسيسا. فهم النجوم المشرقة بنور الهدى والرجوم المحرقة لشياطين الردى رضي اللّه عنهم وأرضاهم.
ووالى متبعيهم وأولاهم ، ما سرحت روح المعاني في رياض القرآن ، وسبحت أشباح المباني في حياض العرفان.
«أما بعد» فيقول عيبة العيوب وذنوب الذنوب. أفقر العباد إليه عز شأنه مدرس دار السلطنة العلية ، ومفتي بغداد المحمية أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي عفي عنه. إن العلوم وإن تباينت أصولها ، وغربت وشرقت فصولها ، واختلفت أحوالها. وأتهمت وأنجدت أقوالها. وتنوعت أبوابها. وأشأمت وأعرقت أصحابها وتغايرت مسائلها. وأيمنت وأيسرت وسائلها ، فهي بأسرها مهمة ومعرفتها على العلات نعمة. إلا أن أعلاها قدرا ، وأغلاها مهرا وأسناها مبنى ، وأسماها معنى وأدقها فكرا وأرقها سرا ، وأعرقها نسبا وأعرفها أبا وأقومها قيلا وأقواها قبيلا وأحلاها لسانا وأجلاها بيانا وأوضحها سبيلا وأصحها دليلا وأفصحها نطقا. وأمنحها رفقا العلوم الدينية. والفهوم اللدنية. فهي شمس ضحاها وبدر دجاها وخال وجنتها ولعس شفتها ودعج عيونها وغنج جفونها وحبب رضابها ، وتنهد كعابها ، ورقة كلامها ، ولين قوامها.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 4
على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم
فلا ينبغي لعاقل أن يستغرق النهار والليل إلا في غوص بحارها ، أو يستنهض الرجل والخيل ، إلا في سبر أغوارها.
أو يصرف نفائس الأنفاس إلا في مهور أبكارها ، أو ينفق بدر الأعمار إلا لتشوف بدر أسرارها.
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير سلمى فهو دمع مضيع
وإن من ذلك علم التفسير الباحث عما أراده اللّه سبحانه بكلامه المجيد ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فهو الحبل المتين والعروة الوثقى. والصراط المبين ، والوزر الأقوى والأوقى ، وإني وللّه تعالى المنة مذ ميطت عني التمائم ، ونيطت على رأسي العمائم لم أزل متطلبا لاستكشاف سره المكتوم ، مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم طالما فرقت نومي لجمع شوارده وفارقت قومي لوصال خرائده. فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر ، وأطالع - إن أعوز الشمع يوما - على نور القمر ، في كثير من ليالي الشهر وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو. ويرقلون في ميادين الزهو. ويؤثرون مسرات الأشباح على لذات الأرواح. ويهبون نفائس الأوقات ، لنهب خسائس الشهوات. وأنا مع حداثة سني وضيق عطني لا تغرني حالهم ولا تغيرني أفعالهم. كأن لبني لبانتي ، ووصال سعدي سعادتي. حتى وقفت على كثير من حقائقه ، ووفقت لحل وفير من دقائقه. وثقبت - والثناء للّه تعالى - من دره بقلم فكري درا مثمنا ولا بدع فأنا من فضل اللّه الشهاب وأبو الثناء. وقبل أن يكمل سني عشرين جعلت أصدح به وأصدع. وشرعت أدفع كثيرا من إشكالات الأشكال وأدفع وأتجاهر بما ألهمنيه ربي مما لم أظفر به في كتاب من دقائق التفسير. وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير. ولست أنا أول من منّ اللّه تعالى عليه بذلك ، ولا آخر من سلك في هاتيك المسالك. فكم وكم للزمان ولد مثلي ، وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف فضلي.
ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات
إلا أن رياض هذه الأعصار عراها إعصار ، وحياض تيك الأمصار اعتراها اعتصار. فصار العلم بالعيوق والعلماء أعز من بيض الأنوق ، والفضل معلق بأجنحة النسور وميت حي الأدب لا يرجى له نشور.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولكن الملك المنان أبقى من فضله الكثير قليلا من ذوي العرفان في هذه الأزمان ، دينهم اقتناص الشوارد وديدنهم افتضاض أبكار الفوائد. يروون فيروون ويقدحون فيورون. لكل منهم مزية لا يستتر نورها ومرتبة لا ينتثر نورها.
طالما اقتطفت من أزهارهم واقتبست من أنوارهم. وكم صدر منهم أودعت علمه صدري. وحبر فيهم أفنيت في فوائده حبري. ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبالي مما قيل أو يقال : كتاب اللّه لي أفضل مؤانس وسميري إذا احلولكت ظلمة الحنادس.
نعم السمير كتاب اللّه إن له حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما تفترّ من عجب إلا إلى عجب
أمر ونهي وأمثال وموعظة وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر وروضة يجتنيها كل ذي أدب
وكانت كثيرا ما تحدثني في القديم نفسي أن أحبس في قفص التحرير ما اصطاده الذهن بشبكة الفكر أو

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 5
اختطفه بأن الإلهام في جو حدسي. فأتعلل تارة بتشويش البال «1» بضيق الحال وأخرى بفرط الملال لسعة المجال. إلى أن رأيت في بعض ليالي الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والاثنتين والخمسين بعد هجرة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم رؤية لا أعدها أضغاث أحلام ولا أحسبها خيالات أوهام أن اللّه جل شأنه وعظم سلطانه أمرني بطي السماوات والأرض ، ورتق فتقهما على الطول والعرض فرفعت يدا إلى السماء وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء ثم انتبهت من نومتي ، وأنا مستعظم رؤيتي ، فجعلت أفتش لها عن تعبير فرأيت في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير.
فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم وشرعت مستعينا باللّه تعالى العظيم ، وكأني إن شاء اللّه تعالى عن قريب عند إتمامه بعون عالم سري ونجواي أنادي وأقول غير مبال بتشنيع جهول : هذا تأويل رؤياي ، وكان الشروع في الليلة السادسة عشرة من شعبان المبارك من السنة المذكورة وهي السنة الرابعة والثلاثون من سني عمري جعلها اللّه تعالى بسني لطفه معمورة وقد تشرف الذهن المشتت بتأليفه وأحكمت غرف مغاني المعاني بمحكم ترصيفه ، زمن خلافة خليفة اللّه الأعظم ، وظله المبسوط على خليقته في العالم مجدد نظام القواعد المحمدية ، ومحدد جهات العدالة الإسلامية سورة الحمد الذي أظهره الرحمن في صورة الملك لكسر سورة الكافرين ، وآية السيف الذي عوده الفاطر والفتح والنصر وأيده بمرسلات الذاريات في كل عصر فويل للمنافقين ، من نازعات أرواحهم إذا عبس صمصام عزمه المتين ، حضرة مولانا السلطان ابن السلطان سلطان الثقلين وخادم الحرمين المجدد الغازي محمود خان العدلي ابن السلطان عبد الحميد خان أيده الرحمن وأبد ملكه ما دام الدوران آمين ، وبعد أن أبرمت حبل النية ونشرت مطوي الأمنية وعرا المخاض قريحة الأذهان وقرب ظهور طفل التفسير للعيان جعلت أفكر ما اسمه وبماذا أدعوه إذا وضعته أمه فلم يظهر لي اسم تهتش له الضمائر وتبتش من سماعه الخواطر فعرضت الحال لدى حضرة وزير الوزراء ونور حديقة البهاء ونور حدقة الوزراء آية اللّه التي لا تنسخها آية ، ورب النهى الذي ليس له نهاية وصاحب الأخلاق التي ملك بها القلوب ومعدن الأذواق التي يكاد أن يعلم معها الغيوب مولانا علي رضا باشا لا زال له الرضا غطاء وفراشا فسماه على الفور وبديهة ذهنه تغني عن الغور «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» فيا له اسم ما اسماه نسأل اللّه تعالى أن يطابقه مسماه وأحمد اللّه تعالى حمدا غضا ، وأصلي وأسلم على نبيه النبيه حتى يرضى.
وقد آن وقت الشروع في المقصود مقدما عليه عدة فوائد يليق أن تكتب بسواد العيون على صفحات الخدود فأقول : «الفائدة الأولى» في معنى التفسير والتأويل وبيان الحاجة إلى هذا العلم وشرفه. وأما معناهما فالتفسير تفعيل من الفسر وهو لغة البيان والكشف والقول بأنه مقلوب السفر مما لا يسفر له وجه ، ويطلق التفسير على التعرية للانطلاق يقال فسرت الفرس إذا عريته لينطلق ولعله يرجع لمعنى الكشف كما لا يخفى بل كل تصاريف حروفه لا تخلو عن ذلك كما هو ظاهر لمن أمعن النظر. ورسموه بأنه علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك كمعرفة النسخ وسبب النزول وقصة توضح ما أبهم في القرآن ونحو ذلك. والتأويل من الأول وهو الرجوع والقول بأنه من الايالة وهي السياسة كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه ليس بشيء واختلف في الفرق بين التفسير والتأويل فقال أبو عبيدة : هما بمعنى ، وقال الراغب : التفسير أعم وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها في الكتب الإلهية وغيرها والتأويل في المعاني والجمل في
___________
(1) أنكر جماعة من أهل اللغة مجيء مشوش وقالوا الصواب أن يقال هوشته فهو مهوش لأنه من الهوش وهو اختلاط الشيء. وأثبته الجوهري فقال التشويش التخليط ووهمه صاحب القاموس. وقال ابن بري : إنه من كلام المولدين ولا أصل له في العربية. وقد اشتهر هذا اللفظ ووقع في كلام الزمخشري وغيره من أهل المعاني كقولهم هذا لف ونشر مشوش. ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 6
الكتب الإلهية خاصة وقال الماتريدي : التفسير القطع بأن مراد اللّه تعالى كذا والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع ، وقيل : التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية. وقيل غير ذلك ، وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف فكل الأقوال فيه ما سمعتها وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم إذ قد تعارف من غير نكير أن التأويل إشارة قدسية ومعارف سبحانية تنكشف من سجف العبارات للسالكين وتنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين ، والتفسير غير ذلك وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال أو بوجه ما فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعا وفي كل إرجاع كشفا فافهم ، وأما بيان الحاجة إليه فلأن فهم القرآن العظيم - المشتمل على الأحكام الشرعية التي هي مدار السعادة الأبدية وهو العروة الوثقى والصراط المستقيم - أمر عسير لا يهتدى إليه إلا بتوفيق من اللطيف الخبير حتى أن الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم على علو كعبهم في الفصاحة واستنارة بواطنهم بما أشرق عليها من مشكاة النبوة كانوا كثيرا ما يرجعون إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالسؤال عن أشياء لم يعرجوا عليها ولم تصل أفهامهم إليها بل ربما التبس عليهم الحال ففهموا غير ما أراده الملك المتعال كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود ، ولا شك أنا محتاجون إلى ما كانوا محتاجين إليه وزيادة «وأما بيان شرفه» فلأن شرف العلم بشرف موضوعه وشرف معلومه وغايته وشدة الاحتياج إليه وهو حائز لجميعها ، فإن موضوعه كلام اللّه تعالى وماذا عسى أن يقال فيه ، ومعلومه مع أنه مراد اللّه تعالى الدال عليه كلامه جامع للعقائد الحقة والأحكام الشرعية وغيرها ، وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والوصول إلى سعادة الدارين وشدة الاحتياج إليه ظاهرة مما تقدم بل هو رئيس جميع العلوم الدينية لكونها
مأخوذة من الكتاب وهي تحتاج من حيث الثبوت أو من حيث الاعتداد إلى علم التفسير وهذا لا ينافي كون الكلام رئيسها أيضا لأن علم التفسير لتوقفه على ثبوت كونه تعالى متكلما يحتاج إلى الكلام والكلام لتوقف جميع مسائله من حيث الثبوت أو الاعتداد على الكتاب يتوقف على التفسير فيكون كل منهما رئيسا للآخر من وجه على أن رياسة التفسير بناء على ذلك الشرف مما لا ينتطح فيه كبشان ، وأما الآثار الدالة على شرفه فكثيرة. أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ قال : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله ، وأخرج أبو عبيدة عن الحسن قال : ما أنزل اللّه آية إلا وهو يحب أن تعلم فيما أنزلت وما أراد بها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال : ما مررت بآية لا أعرفها إلا أحزنتني لأني سمعت اللّه يقول : «وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون» إلى غير ذلك.
«الفائدة الثانية» فيما يحتاجه التفسير ومعنى التفسير بالرأي - وحكم كلام السادة الصوفية في القرآن ، فأما ما يحتاجه التفسير فأمور : «الأول» علم اللغة لأن به يعرف شرح مفردات الألفاظ ومعلولاتها بحسب الوضع ولا يكفي اليسير إذ قد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر فمن لم يكن عالما بلغات العرب لا يحل له التفسير كما قاله مجاهد وينكل كما قاله مالك - وهذا مما لا شبهة فيه - نعم روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر فقال ما يعجبني - وهو ليس بنص في المنع عن بيان المدلول اللغوي للعارف كما لا يخفى.
«الثاني» معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة إفرادها وتركيبها ويؤخذ ذلك من علم النحو أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال : حسن فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها - وفي قصة الأسود ما يغني عن الإطالة. «الثالث» علم المعاني والبيان والبديع ، ويعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى - وبالثاني خواصها من حيث اختلافها ، وبالثالث وجوه تحسين

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 7
الكلام وهو الركن الأقوم واللازم الأعظم في هذا الشأن كما لا يخفى ذلك على من ذاق طعم العلوم ولو بطرف اللسان. «الرابع» تعيين مبهم وتبيين مجمل وسبب نزول ونسخ ويؤخذ ذلك من علم الحديث. «الخامس» معرفة الإجمال والتبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأمر والنهي وما أشبه هذا وأخذوه من أصول الفقه.
«السادس» الكلام فيما يجوز على اللّه وما يجب له وما يستحيل عليه والنظر في النبوة ويؤخذ هذا من علم الكلام ولولاه يقع المفسر في ورطات. «السابع» علم القراءات لأنه به يعرف كيفية النطق بالقرآن ، وبالقراءات ترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض هذا - وعد السيوطي مما يحتاج إليه المفسر علم التصريف وعلم الاشتقاق - وأنا أظن أن المهارة ببعض ما ذكرنا يترتب عليها ما يترتب عليهما من الثمرة وعد أيضا علم الفقه ولم يعده غيره ولكل وجهة - وعد علم الموهبة أيضا من ذلك. قال : وهو علم يورثه اللّه تعالى لمن عمل بما علم وإليه الإشارة
بالحديث «من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم»
ثم قال : ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول هذا شيء ليس في قدرة الإنسان تحصيله وليس كما ظننت والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد إلى آخر ما قاله ، وفيه أن علم الموهبة بعد تسليم أنه كسبي إنما يحتاج إليه في الاطلاع على الأسرار لا في أصل فهم معاني القرآن كما يفهمه كلام البرهان وكثير من المفسرين بصدد الثاني والواقفون على الأسرار - وقليل ما هم - لا يستطيعون التعبير عن كثير مما أفيض عليهم فضلا عن تحريره وإقامة البرهان عليه على أن ذلك تأويل لا تفسير فلعل السيوطي أراد من عبارته معنى آخر يظهر لك بالتدبير فتدبر «وأما التفسير بالرأي» فالشائع المنع عنه واستدل عليه بما
أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»
وفي رواية عن أبي داود «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»
ولا دليل في ذلك أما أولا فلأن في صحة الحديث الأول مقالا قال في المدخل في صحته نظر وإن صح فإنما أراد به - واللّه تعالى أعلم - فقد أخطأ الطريق إذ الطريق الرجوع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي نحو الناسخ والمنسوخ إلى الأخبار وفي بيان المراد منه إلى صاحب الشرع فإن لم يجد هناك وهنا فلا بأس بالفكرة ليستدل بما ورد على ما لم يرد أو أراد من قال بالقرآن قولا يوافق هواه بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي وجه فقد أخطأ فالباء على ذلك سببية أو يقال ذلك في المتشابه الذي لا يعلمه إلا اللّه أو في الجزم بأن مراد اللّه تعالى كذا على القطع من غير دليل ، وأما الحديث الثاني فله معنيان ، الأول من قال في مشكل القرآن بما لا يعلم فهو متعرض لسخط اللّه تعالى ، والثاني وصحح من قال : «في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده في النار» وأما ثانيا فلأن الأدلة على جواز الرأي والاجتهاد في القرآن كثيرة وهي تعارض ما يشعر بالمنع فقد قال تعالى : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء : 83] وقال تعالى :
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد : 24] وقال تعالى : كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص : 29] وأخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه»
وقد دعا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لابن عباس
بقوله «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»
وقد روي عن علي كرم اللّه وجهه أنه سئل هل خصكم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بشي ء؟ فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، والعجب كل العجب مما يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني التراكيب ولم ينظر إلى اختلاف التفاسير وتنوعها ولم يعلم أن ما ورد عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في ذلك كالكبريت الأحمر فالذي ينبغي أن يعول عليه أن من كان متبحرا في علم اللسان مترقيا منه إلى ذوق العرفان وله في رياض العلوم الدينية أوفى مرتع ، وفي حياضها أصفى مكرع يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد وقد غدا ذهنه لما أغلق من دقائق التحقيقات أحسن إقليد فذاك يجوز له أن يرتقي من علم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 8
التفسير ذروته ويمتطي منه صهوته ، وأما من صرف عمره بوساوس أرسطاطاليس واختار شوك القنافذ على ريش الطواويس فهو بمعزل عن فهم غوامض الكتاب وإدراك ما تضمنه من العجب العجاب ، وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان لا أنهم اعتقدوا أن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن فقط إذ ذاك اعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية وحاشى سادتنا من ذلك كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر وقالوا لا بد منه أولا إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ومن ادعى فهم أسرار القرآن قبل إحكام التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب ومما يؤيد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : القرآن ذو شجون وفنون ، وظهور وبطون ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء. وقال ابن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين فليتل القرآن ، ومن المعلوم أن هذا لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض من يوثق به :
لكل آية ستون ألف فهم ، وروي عن الحسن قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع»
قال ابن النقيب : إن ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع اللّه تعالى عليها أرباب الحقائق ، ومعنى
قوله ولكل حرف حد
أن لكل حرف منتهى فيما أراده اللّه تعالى من معناه ومعنى
قوله : ولكل حد مطلع
أن لكل غامض من المعاني والأحكام مطلعا يتوصل به إلى معرفته ويوقف عن المراد به وقيل في رواية لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع
والمذكور بوساطة الألفاظ وتأليفاتها وضعا وإفادة وجعلها طرقا إلى استنباط الأحكام الخمسة هو الظهر وروح الألفاظ أعني الكلام المعتلي عن المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية هو البطن وإليه الإشارة بقول الأمير السابق. والحد إما بين الظهر والبطن يرتقى منه إليه وهو المدرك بالجمعية من الجمعية وإما بين البطن والمطلع فالمطلع مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم المشار إليه بقول الصادق لقد تجلى اللّه تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون ، والحد بينهما يرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم واستهلاك صفة العبد تحت تجليات أنوار صفة المتكلم تعالى شأنه ، وقيل الظهر التفسير والبطن التأويل والحد ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام انتهى.
فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل بل أدنى ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من شاء من عباده ويا ليت شعري ماذا يصنع المنكر بقوله تعالى : وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [يوسف :
111 ، الأنعام : 154 ، الأعراف : 145] وقوله تعالى : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام : 38] ويا للّه تعالى العجب كيف يقول باحتمال ديوان المتنبي وأبياته المعاني الكثيرة ولا يقول باشتمال قرآن النبي صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم وآياته وهو كلام رب العالمين المنزل على خاتم المرسلين على ما شاء اللّه تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور : 16] بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت.
وقد ذكر ابن خلكان في تاريخه أن السلطان صلاح الدين لما فتح مدينة حلب أنشد القاضي محيي الدين قصيدة بائية أجاد فيها كل الإجادة وكان من جملتها.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 9
وفتحك القلعة الشهباء في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال فسأل القاضي من أين لك هذا فقال : أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى : الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم : 1 - 4] قال المؤرخ : فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراجه وله نظائر كثيرة ، ومن المشهور استنباط ابن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء : 105] فالإنصاف كل الإنصاف التسليم للسادة الصوفية الذين هم مركز للدائرة المحمدية ما هم عليه واتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق إليه.
وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
وسيأتي تتمة لهذا البحث إن شاء اللّه تعالى واللّه الهادي إلى سواء السبيل. «الفائدة الثالثة» اعلم أن لكتاب اللّه تعالى أسماء أنهاها شيدلة في البرهان خمسة وخمسين اسما وذكر السيوطي بعد عدها في الإتقان وجوه تسميته بها ولم يذكر غير ذلك وعندي أنها كلها ترجع بعد التأمل الصادق إلى القرآن والفرقان رجوع أسماء اللّه تعالى إلى صفتي الجمال والجلال فهما الأصل فيها ، وقد اختلف الناس في تحقيق لفظ القرآن ، فالمروي عن الشافعي وبه قال جماعة أنه اسم علم غير مشتق خاص بهذا الكلام المنزل على النبي المرسل صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو معرفا غير مهموز عنده كما حكاه عنه البيهقي والخطيب وغيرهما ، والمنقول عن الأشعري وأقوام أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه وسمي به عندهم لقران السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض ، وقال الفراء هو مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا ويشبه بعضها بعضا وهو على هذين القولين بلا همز أيضا ونونه أصلية ، وقال الزجاج :
هذا القول غلط والصواب أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ونقل حركتها إلى ما قبلها فهو عنده وصف مهموز على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وسمي به لأنه جمع السور كما قال أبو عبيدة أو ثمرات الكتب السالفة كما قال الراغب أو لأن القارئ يظهره من فيه أخذا من قولهم ما قرأت الناقة سلى قط «1» كما حكي عن قطرب وعند اللحياني وجماعة هو مصدر كالغفران سمي به المقروء تسمية المفعول بالمصدر ، قال السيوطي : قلت والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي رضي اللّه تعالى عنه انتهى - وأنا متبرئ من حولي - أقول قول الزجاج أرق من وجه إذ الشائع فيه الهمز وبه قرأ السبعة ما عدا ابن كثير وقد وجه إسقاطها بما مر آنفا ولم يوجه إثباتها وكأن قول السيوطي محض تقليد لإمام مذهبه حيث لم يذكر الدليل ولم يوضح السبيل ، وعندي أنه في الأصل وصف أو مصدر كما قال الزجاج واللحياني لكنه نقل وجعل علما شخصيا كما ذهب إليه الشافعي ومحققو الأصوليين وعليه لا يعرف القرآن لأن التعريف لا يكون إلا للحقائق الكلية ولعل من عرفه بالكلام المنزل للإعجاز بسورة منه أراد تصوير مفهوم لفظ القرآن وكذا من قال كالغزالي إنه ما نقل بين دفتي المصحف تواترا أراد تخصيص الاسم بأحد الأقسام الثلاثة مما نقل بين الدفتين ومما لم ينقل كالمنسوخ تلاوته نحو - إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة - وما نقل ولم يتواتر نحو - ثلاثة أيام متتابعات - ليعلم أن ذلك هو الدليل وعليه الأحكام من نحو منع التلاوة والمس محدثا وإلا فيرد على الأول إن أريد التمييز أن كونه للإعجاز ليس لازما بينا إذ لا يعرفه إلا الأفراد من العلماء فضلا عن أن يكون ذاتيا فكيف يصح لتعريف الحقيقة وتمييزها وهو إنما يكون بالذاتيات أو باللوازم البينة ،
___________
(1) أي ما أسقطت ولدا أي ما حملت قط.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 10
وأيضا ان معرفة السورة منه متوقفة على معرفته فيدور. ويرد على الثاني مثل ثاني ما ورد على الأول إذ معرفة المصحف موقوفة على معرفة القرآن إذ ليس هو إلا ما كتب فيه القرآن فأخذه في تعريفه دور أيضا ، هذا وقد قال ساداتنا الصوفية أفاض اللّه تعالى علينا من فتوحاتهم القدسية : إن القرآن إشارة إلى الذات التي يضمحل بها جميع الصفات فهي المجلى المسمى بالأحدية أنزلها الحق تعالى شأنه على نبيه محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ليكون مشهد الأحدية من الأكوان ، ومعنى هذا الإنزال أن الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت فيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بكمالها وما ادخر عنه شيء بل أفيض عليه الكل كرما إلهيّا ذاتيا ووصف القرآن في بعض الآيات بالكريم لذلك إذ أي كرم يضاهي هذا الكرم ، وأنى تقاس هذه النعمة بسائر النعم ، وأما القرآن الحكيم فهوية الحقائق الإلهية يعرج العبد بالتحقق بها في الذات شيئا فشيئا على ما اقتضته الحكمة وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله : وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان : 32] وهذا الحكم لا ينقطع أبدا إذ لا يزال العبد في ترقّ والحق في تجلّ فسبحان من لا تقيده الأكوان وهو كل يوم في شأن ، وأما القرآن العظيم في قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر : 87] فهو إشارة إلى الجملة الذاتية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الذاتية التي هي في مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشؤون والاعتبارات ولهذا قرن بالعظيم ، وأما السبع المثاني فهو ما ظهر عليه في وجوده من التحقق بالصفات السبع ، وأما قوله تعالى : الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن : 2] فهو إشارة إلى أن العبد إذا تجلى عليه الرحمن وجد لذة رحمانية تكسبه معرفة قرآنية فلا يعلم الحق إلا من طريق أسمائه وصفاته ، وأما
الفرقان عندهم فإشارة إلى حقيقة الأسماء والصفات على اختلاف تنوعاتها فباعتباراتها تتميز كل صفة واسم من غيرها فحصل الفرق في نفس الحق من حيث أسماؤه وصفاته فإن اسمه المنعم غير اسمه المنتقم وصفة الرضا غير صفة الغضب وإليه الإشارة
بقوله :
«سبقت رحمتي غضبي»
وهي متفاوتة المراتب في الفضل نظرا إلى أعيانها لا باعتبار أن في شيء منها نقصا أو مفضولية ولهذا حكمت بعضها على بعض كما يشير إليه
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «أعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك»
فكانت المعافاة أفضل من العقوبة والرضا أفضل من السخط فأعاذه بالفاضل مما يليه ، وكذا أعاذه بذاته من ذاته فكما أن الفرق حاصل في الأفعال كذلك في الصفات بل في نفس وأحدية الذات التي لا فرق فيها لكن من غريب شؤونها جمعها النقيضين. قال أبو سعيد : عرفت اللّه تعالى بجمعه بين الضدين ، ولكونه صلى اللّه تعالى عليه وسلم مظهرا للقرآن والفرقان كان خاتم النبيين ، وإمام المرسلين. لأنه ما ترك شيئا يحتاج إليه إلا وقد جاء به فلا يجد الذي يأتي بعده من الكمال شيئا مما ينبغي أن ينبه عليه. قال تعالى :
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام : 38]. وقال تعالى : وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء : 12]. إلى غير ذلك من الآيات.
«وقد يقال» : القرآن والفرقان إشارتان إلى مقام الجمع والفرق بأقسامهما. قالوا : ولا بد للعبد الكامل منهما ، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له ، ومن لا جمع له لا معرفة له. والجمع عندهم شهود الأشياء باللّه تعالى والتبري من الحول والقوة إلا باللّه وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى اللّه تعالى وهو المرتبة الأحدية ، والفرق أنواع فرق أول وهو الاحتجاب بالخلق عن الحق وبقاء رسوم الخليقة بحالها وفرق ثان وهو شهود قيام الخلق بالحق ورؤية الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة من غير احتجاب إحداهما عن الأخرى ، وفرق الوصف وهو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدة ، وفرق الجمع وهو تكثر الواحد بظهوره في المراتب التي هي ظهور شؤون الذات الأحدية وتلك الشؤون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الواحد بصورها وكثيرا ما يطلقون القرآن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 11
على العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها والفرقان على العلم التفصيلي الفارق بين الحق والباطل وكتاب اللّه تعالى جامع لذلك كله كما لا يخفى على أهله ، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القرآن يتضمن الفرقان ، والفرقان لا يتضمن القرآن لأن تفاصيل المراتب والأسماء المقتضية لها موجودة في الجمع والجمع لا يوجد في التفاصيل ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم فليفهم. ونسأل اللّه تعالى أن يلهمنا رشدنا ويزيل بعلمه جهلنا إنه على ما يشاء قدير. «الفائدة الرابعة» في تحقيق معنى أن القرآن كلام اللّه تعالى غير مخلوق : «اعلم» أن هذه المسألة من أمهات المسائل الدينية والمباحث الكلامية كم زلت فيها أقدام وضلت عن الحق بها أقوام وهي وإن كانت مشروحة في كتب المتقدمين مبسوطة في زبر المتأخرين لكني بحول من عز حوله وفضل من غمرنا فضله أوردها في هذا الكتاب ليتذكر أولو الألباب بأسلوب عجيب وتحقيق غريب لا أظنك شنفت سمعك بمثل لآليه ، ولا نورت بصرك بشبه بدر لياليه ، فماء ولا كصدي ومرعى ولا كالسعدان.
وما كل زهر ينبت الروض طيب ولا كل كحل للنواظر إثمد
«فأقول» إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذي هو مصدر وكلام بمعنى المتكلم به الذي هو الحاصل بالمصدر.
ولفظ الكلام موضوع لغة للثاني قليلا كان أو كثيرا حقيقة كان أو حكما. وقد يستعمل استعمال المصدر كما ذكره الرضي وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي «فالأول» من اللفظي فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج «والثاني» منه كيفية في الصوت المحسوس «والأول» من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذي لم يبرز إلى الجوارح «والثاني» كيفية في النفس إذ لا صوت محسوسا عادة فيها وإنما هو صوت معنوي مخيل. أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق. وأما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية ، ومعناه الثاني هو هذه الكلمات الذهنية والألفاظ المخيلة المرتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجي.
والدليل على أن للنفس كلاما بالمعنيين الكتاب والسنة فمن الآيات قوله تعالى : فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً [يوسف : 77] فإن «قال» بدل من «أسر» أو استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال في نفسه في ذلك الإسرار فقيل : قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً. وعلى التقديرين فالآية دالة على أن للنفس كلاما بالمعنى المصدري وقولا بالمعنى الحاصل بالمصدر وهو بدل من أسر والجملة بعدها وقوله تعالى : أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى [الزخرف : 80] وفسر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم السر بما أسره ابن آدم في نفسه.
وقوله تعالى :
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف : 205] وقوله تعالى : يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران : 154] أي يقولون في أنفسهم كما هو الأسرع انسياقا إلى الذهن ، والآيات في ذلك كثيرة. ومن الأحاديث ما
رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقد سأله رجل فقال : «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري فقال : لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن»
فسمى صلى اللّه تعالى عليه وسلم ذلك الشيء المحدث به كلاما مع أنه كلمات ذهنية والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها. وقوله تعالى في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» الحديث.
وفيه دليل على أن للعبد كلاما نفسيا بالمعنيين ، وللرب أيضا كلاما نفسيا كذلك ولكن أين التراب من رب الأرباب؟!

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 12
«فالمعنى الأول» للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التي هي بمنزلة الخرس في التكلم الإنساني اللفظي ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلا وهي واحدة بالذات تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به ، وحاصل الحديث من تعلق تكلمه بذكر اسمي تعلق تكلمي بذكر اسمه ، والتعلق من الأمور النسبية التي لا يضر تجددها ، وحدوث المتعلق إنما يلزم في التعلق التنجيزي ولا ننكره ، وأما التعلق المعنوي التقديري ومتعلقة فأزليان ، ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن أشياء رحمة غير نسيان كما في الحديث إذ معناه أن تكلمه الأزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقق اتصافه أزلا بالتكلم النفسي ، وعدم هذا التعلق الخاص لا يستدعي انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى.
«والمعنى الثاني» له تعالى شأنه كلمات غيبية وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقا نسبية كانت أو خيالية أو روحانية ، وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان ، والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية ويقربه من بعض الوجوه وقوع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مرتبة في الوضع الكتابي دفعة فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها فجميع معلومات اللّه الذي هو نور السماوات والأرض مكشوفة له أزلا كما هي مكشوفة له فيما لا يزال ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة ترتبا وضعيا أزليا يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال ، والقرآن كلام اللّه تعالى المنزل بهذا المعنى فهو كلمات غيبية مجردة عن المواد مترتبة في علمه أزلا غير متعاقبة تحقيقا بل تقديرا عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية ، ومعنى تنزيلها إظهار صورها في المواد الروحانية والخيالية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة ، ومن هنا قال السنيون : القرآن كلام اللّه تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسن مسموع بالآذان غير حال في شيء منها وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة ، فقولهم غير حال إشارة إلى مرتبته النفسية الأزلية فإنه من الشؤون الذاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبدا ولكن اللّه تعالى أظهر صورها في الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة وملفوظة مسموعة ومكتوبة مرئية فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الانفصال وليس فليس ، فالقرآن كلامه تعالى غير مخلوق وإن تنزل في هذه المراتب الحادثة ولم يخرج عن كونه منسوبا إليه «أما» في مرتبة الخيال
فلقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «أغنى الناس حملة القرآن من جعله اللّه تعالى في جوفه»
وأما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف : 29] وأما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج : 21 ، 22] وقول الإمام أحمد : لم يزل اللّه متكلما كيف شاء وإذا شاء بلا كيف إشارة إلى مرتبتين ، فالأول إلى كلامه في مرتبة التجلي والتنزل إلى مظهر له
كقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «إذا قضى اللّه الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» الحديث ،
والثاني إلى مرتبة الكلام النفسي إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات والكلام النفسي في مرتبة الذات مجرد عن المادة فارتفع الكيف بارتفاعها «فالحاصل» لم يزل اللّه تعالى متكلما وموصوفا بالكلام من حيث تجلى ومن حيث لا ، فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلما بلا كيف كما كان ولم يزل ، والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلا : بأن للّه تعالى كلاما بمعنى التكلم وكلاما بمعنى المتكلم به وأنه بالمعنى الثاني لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا فإنها أقسام المتكلم به وأن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حروفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق غير أنها في الحق كلمات غيبية مجردة عن المواد أصلا إذ كان اللّه تعالى ولم يكن شيء غيره ، وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية فهي في مادة خيالية ، فكلمات الكلام النفسي في جنابه تعالى كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمة ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكلمة حقيقية إذ قد أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته المخيلة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 13
في خبر يوم السقيفة «1» والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فالأجزاء كلمات حقيقية لغوية مع أنها ليست ألفاظا كذلك إذ ليست حروفها عارضة لصوت واللفظ الحقيقي ما كانت حروفه عارضة وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة ولا انفكاك فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه ، فتفسير المعنى النفسي المشهور عن الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي تفسيره بمجموع اللفظ والمعنى كما فسره هو أيضا وذلك بأن يحمل اللفظ في قوله على النفسي وفي قول الجمهور على الحقيقي ، ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده لأن اللفظ الحقيقي لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه ، ويدل على أن المراد المجموع قول إمام الحرمين في الإرشاد : ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو القول أي المقول الذي يدور في الخلد وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا انفكاك - نعم عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود وله مقالة مفردة في ذلك.
ومحصولها كما قال السيد قدس سره أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير فالشيخ لما قال الكلام النفسي هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده ، وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالته على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة ، وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام اللّه تعالى حقيقة ، وكعدم المعارضة والتحدي بكلام اللّه الحقيقي ، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية ، فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات اللّه تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة «وما يقال» من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة ، فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخر وأصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيته انتهى «واعتراضه» الدواني بوجوه قال «أما أولا» فلأن مذهب الشيخ أن كلامه تعالى واحد وليس بأمر ولا نهي ولا خبر وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق وهذه الأوصاف لا تنطبق على الكلام اللفظي وإنما يصح تطبيقه على المعنى المقابل للفظ بضرب من التكلف «وأما ثانيا» فلأن كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة وهو سفسطة من قبيل أن يقال الحركة توجد في بعض
الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها «وأما ثالثا» فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارىء من الألفاظ وبين ما يقوم بذاته تعالى باجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة «فنقول» هذا الفرق إن أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ وإن لم يوجب وكان ما يقوم بالقارىء وما
___________
(1) حيث قال : فلما سكت أي خطيب الأنصار : - أردت أن أتكلم وكنت زورت في نفسي مقالة أعجبتي أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر - إلى أن قال - فكان هو أعلم مني وأوقر واللّه ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها - الأثر بطوله ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 14
يقوم بذاته تعالى حقيقة واحدة والتفاوت بينهما إنما يكون باجتماعه وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة كان بعض صفاته الحقيقية مجانسا لصفات المخلوقات.
«وأما رابعا» فلأن لزوم ما ذكره من المفاسد وهم ، فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام اللّه تعالى إنما هو إذا اعتقد أنه من مخترعات البشر أما إذا اعتقد أنه ليس كلام اللّه بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته لا يجوز تكفيره أصلا كيف وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه. وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام اللّه تعالى حقيقة إنما هو بمعنى كونه دالا على ما هو كلام اللّه تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى وكيف يدعي أن من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب وكيف يزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم حاشاهم عن ذلك «وأما خامسا» فلأن الأدلة الدالة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ كيف وبعضها مما لا يتعلق النسخ بالتلفظ به كما نسخ حكمه وبقي تلاوته انتهى «والجواب» أما عن الأول فهو أن الحق عز اسمه له كلام بمعنى التكلم وكلام بمعنى المتكلم به.
وما هو أمر واحد ، المعنى الأول وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وأنها ليست من جنس الحروف والألفاظ أصلا لا الحقيقية ولا الحكمية وما ذكر في الاعتراض ينطبق عليه بلا كلفة «والدليل» على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول ، نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به وكل من كان قائلا بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتا والتعدد تعلقا المعنى الأول عنده جمعا بين الكلامين «وأما» عن الثاني فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود له لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مترتبة كما ذكره هو نفسه وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم فليحمل عليه سعيا بالإصلاح مهما أمكن «وأما» الثالث فهو أن الإيراد مبني على ظن ان المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيهه بالقائم بنفس الحافظ. «وأما» الرابع فهو أن الكلام النفسي عند أهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى ، ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجردا عن اللفظ مطلقا وقد سمعهم يقولون : إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازا ، فإذا انضم قولهم بنفي كونه كلاما حقيقة شرعية إلى قولهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ لزم من هذا ما هو في معنى القول يكون اللفظي من مخترعات البشر ولا يخفى استلزامه للمفاسد ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي فإن إطلاق كلام اللّه تعالى المسموع متواتر فلا يتأتى نفيه لأحد بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به قياما يقتضيه حقيقة الكلام وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكل - وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث ولا شك أنه ليس قائما بذاته سبحانه من حيث هو هو بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى ومظهر من مظاهر تنزلاته فهو دال على الحقيقي القائم فسمي كلاما حقيقة شرعية لذلك وفيه إطلاق لاسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازا من هذا الوجه وإلى هذا يشير كلام التفتازاني فلا يلزم شيء من المفاسد واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه «وأما الخامس» فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصا في أن الضمير راجع إلى التلفظ بل يحتمل أن يكون راجعا إلى الملفوظ وذلك أنه قال المعنى الذي في النفس لا ترتب فيه كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ ولا شك أنه لا ترتب فيه أي لا تعاقب فيه في الوجود العلمي وحينئذ فقولهم نعم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 15
الترتب إنما يحصل في التلفظ معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة ، فقوله : وهو الذي هو حادث أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذي هو الصورة حادث لا اللفظ النفسي وتحمل الأدلة التي
تدل على الحدوث على حدوثه أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلا «ومنهم» ومن اعترض أيضا بأنهم اشتركوا في المعجزة أن تكون فعل اللّه تعالى أو ما يقوم مقامه كالنزول فلا يكون القرآن اللفظي الذي هو معجزة قديما صفة له تعالى ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقية العربية فكونه لفظا حقيقيا عربيا مجعول «1» بالنص فيكون معجزة بلا شبهة ، والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى ، وهذا واضح لمن ساعدته العناية ، وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم - واتحدت أغراضهم - وإن اختلفت أساليبهم - وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها غير هياب ولا وكل وإن اتسع علم أهلها فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد - وفضل اللّه تعالى ليس مقصورا على أحد.
«فأقول» قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الايجي ما حاصله أن هذا الذي تدعيه الأشاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل فإنا إذا قلنا زيد قائم فهناك أربعة أشياء «الأول» العبارة الصادرة عنه «والثاني» مدلول هذه العبارة وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها «الثالث» علمه بثبوت تلك النسبة وانتفائها.
«الرابع» ثبوت تلك النسبة وانتفاؤها في الواقع ، والأخيران ليسا كلاما اتفاقا ، والأول لا يمكن أن يكون كلام اللّه حقيقة على مذهبهم فبقي الثاني وكذا نقول في الأمر والنهي هاهنا ثلاثة أمور «الأول» الإرادة والكراهة الحقيقية «الثاني» اللفظ الصادر عنه «الثالث» مفهوم لفظه ومعناه - والأول ليس كلاما اتفاقا - والثاني كذلك على مذهبهم فبقي الثالث وبه صرح أكثر محققيهم وكونه كلاما نفسيا ثابتا للّه تعالى شأنه محكوما عليه بأحكام مختلفة باطل من وجوه :
«الأول» أنه مخالف للعرف واللغة فإن الكلام فيهما ليس إلا المركب من الحروف «الثاني» أنه لا يوافق الشرع إذ قد ورد فيما لا يحصى كتابا وسنة أن اللّه تعالى ينادي عباده ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة «2» وباب المجاز وإن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناها مما لا يقبله العقل السليم «الثالث» أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحدا يخالف العقل فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف ومدلوله في النهي - ومدلول الخبر يخالف مدلول الإنشاء بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر آخر وكذا في الخبر - ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية فيلزم أن يكون كل واحد مشتملا على ما اشتمل عليه الآخر وليس كذلك وكيف يكون معنى واحد خبرا وإنشاء محتملا للتصديق والتكذيب وغير محتمل وهو جمع بين النفي والإثبات انتهى.
«ولا يخفى» أن مبنى جميع اعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده أي المعنى المجرد عن مقارنة اللفظ. مطلقا ولو حكميا وقد عرفت أنه ليس كذلك بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذي يدور في الخلد وتدل عليه العبارات كما صرح به إمام الحرمين - وعليه إذا قال القائل زيد قائم فهناك أربعة
___________
(1) قال تعالى إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ه منه.
(2) منها ما
رواه البخاري عن أبي سعيد قال صلى اللّه عليه وسلم «قال اللّه يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادى بصوت إن اللّه يأمرك ان تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» الحديث
ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 16
أشياء كما ذكر المعترض وشيء خامس تركه وهو المراد وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية دالة على معانيها في النفس وهذا يعنونه بالكلام النفسي فلا محذور «ونقول» على سبيل التفصيل «أما الأول» فجوابه أنه إنما تتم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ النفسي والمعنى فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق - خيالية في الخلق «وأما الثاني» فجوابه أن هذا الذي لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت لا أنه لا يتكلم إلا به فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ بل إذا أمعنت النظر رأيت ذلك حجة له حيث بين ان اللّه تعالى لا يتكلم بالوحي لفظا حقيقيا إلا على طبق ما في علمه وكلما كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي ودليلا من أدلة ثبوتها وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب : 4].
«وأما الثالث» فجوابه أن المنعوت بأنه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لا شك لعاقل فيها - وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحدا بل نص في الإبانة على انقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل فلا اعتراض - وقال النجم سليمان الطوفي : إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين «أحدهما» أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة والمبادرة دليل الحقيقة «الثاني» أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع والمؤثر فيها إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل - نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة ، والعبارة مؤثرة بالفعل فكانت أولى بأن تكون حقيقة والأخرى مجازا - وقال المخالفون :
استعمل لغة في النفسي والعبارة «قلنا» نعم لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه وبالمجاز فيما ذكرتموه والأول ممنوع - قالوا الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا والأصل عدم الاشتراك - ثم أن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات والكثرة دليل الحقيقة - وأما قوله تعالى : يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [المجادلة : 8] فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة «في أنفسهم» ولو أطلق لما فهم إلا العبارة ، وأما قوله تعالى : وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ [الملك : 13] الآية فلا حجة فيه لأن الإسرار خلاف الجهر وكلاهما عبارة عن أن يكون أرفع صوتا من الآخر - وأما بيت الأخطل فالمشهور أن البيان - وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو التصورات المصححة له إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان انتهى وفيه ما لا يخفى.
أما أولا فلأن ما ادعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفا في النفسي والأصل في الإطلاق الحقيقة - وقوله والأصل عدم الاشتراك قلنا : نعم إن أردت به الاشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعي الاشتراك المعنوي وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين ما يتكلم به قليلا كان أو كثيرا حقيقة أو حكما «وأما ثانيا» فلأن ما ادعاه من أن المؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاما لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئا وقد يتذكر الإنسان في حالة سروره كلاما يحزنه - وفي حالة حزنه كلاما يسره فيتأثر بهما ولا صوت ولا حرف هناك وإنما هي حروف وكلمات مخيلة نفسية وهو الذي عناه الشيخ بالكلام النفسي وعلى هذا فالسامع في قولهم - لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد والتأثير في النفس مطلقا معتبر في وجه التسمية «وأما ثالثا» فلأن ما قاله في قوله تعالى :
يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ من أنه مجاز دل على المعنى النفسي فيه بقرينة فِي أَنْفُسِهِمْ ولو أطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى : يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران : 167] وفي آية بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح : 11] إذ لو كان مجرد ذكر «في أنفسهم» قرينة على كون القول مجازا في النفسي لكان ذكر «بأفواههم - وبألسنتهم» قرينة على

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 17
كونه مجازا في العبارة واللازم باطل فكذا الملزوم - نعم التقييد دليل على أن القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي وعين به المراد من فرديه فهو لنا لا علينا «وأما رابعا» فلأن ما ذكره في قوله تعالى : وَأَسَرُّوا [الملك : 13] الآية تحكم بحت لأن السر كما قال الزمخشري ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال ويساعده الكتاب والأثر واللغة كما لا يخفى على المتتبع «وأما خامسا» فلأن ما ذكره في بيت الأخطل خطل من وجوه «أما أولا» فعلى تقدير أن يكون المشهور البيان بدل الكلام يكفينا في البيان لأنه «1» إما اسم مصدر بمعنى ما يبين به أو مصدر بمعنى التبيين وعلى الأول هو بمعنى الكلام ولا فرق بينهما إلا في اللفظ ، وعلى الثاني هو مستلزم للكلام النفسي بمعنى المتكلم به إن كان المراد به التبيين القلبي أعني ترتيب القلب للكلمات الذهنية على وجه إذا عبر عنها باللسان فهم غيره ما قصده منها «وأما ثانيا» فلأن قوله وبتقدير أن يكون إلخ إقرار بالكلام النفسي من غير شعور.
«وأما ثالثا» فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الإطلاق الحقيقة «وأما رابعا» فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع بل هو تحقيق من غير مبالغة كما يفهم مما سلف ، فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر أو كانت منه رمية من غير رام فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد «العينان دليلان والأذنان قمعان واللسان ترجمان - إلى أن قال - والقلب ملك فإذا صلح» الحديث وفي حديث أبي هريرة «القلب ملك وله جنود - إلى أن قال - واللسان ترجمان» الحديث فما قيل «2» إن هذا الشاعر نصراني عدو اللّه تعالى ورسوله فيجب اطراح كلام اللّه تعالى ورسوله تصحيحا لكلامه أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه ، وأيضا يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر والشهرة غير كافية فقد فتش ابن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت انتهى كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت «أما أولا» فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي حيث اعترفوا به في عين إنكارهم «وأما ثانيا» فلأنا أغنانا اللّه تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر «وأما ثالثا» فلأن عدم وجدان ابن الخشاب لا يدل على انتفائه بالكلية كما لا يخفى ، والحاصل أن الناس أكثروا القال والقيل في حق هذا الشيخ الجليل وكل ذلك من باب.
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
نعم البحث دقيق لا يرشد إليه إلا توفيق كم أسهر أناسا وأكثر وسواسا وأثار فتنة وأورث محنة وسجن أقواما وأم إماما.
مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد
ولكن بفضل اللّه تعالى قد أتينا فيه بلب اللباب ، وخلاصة ما ذكره الأصحاب ، وقد اندفع به كثير مما أشكل على الأقوام ، وخفي على أفهام ذوي الأفهام ، ولا حاجة معه إلى ما قاله المولى المرحوم غني زاده في التخلص عن هاتيك الشبه مما نصه ، ثم اعلم أني بعد ما حررت البحث بعثني فرط الإنصاف إلى أنه لا ينبغي لذي الفطرة السليمة أن يدعي قدم اللفظ لاحتياجه إلى هذه التكلفات وكذا كون الكلام عبارة عن المعنى القديم لركاكة توصيف الذات به كيف ومعنى قصة نوح مثلا ليس بشيء يمكن اتصاف الذات به إلا بتمحل بعيد ، فالحق الذي لا محيد عنه هو أن المعاني كلها موجودة في العلم الأزلي بوجود علمي قديم لكن لما كان في ماهية بعضها داعية البروز في الخارج بوجود لفظي حادث حسبما يستدعيه حدوث الحوادث فيما لا يزال اقتضى الذات اقتضاء أزليا إبراز ذلك البعض في
___________
(1) فيه استخدام فلا تغفل ا ه منه.
(2) قائله الموفق بن قدامة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 18
الخارج بذلك الوجود الحادث فيما لا يزال فهذا الاقتضاء صفة قديمة للذات هو بها في الأزل مسماة بالكلام النفسي وأثره الذي هو ظهور المعنى القديم باللفظ الحادث إنما يكون فيما لا يزال والمغايرة بينه وبين صفة العلم ظاهرة وهذا هو غاية الغايات في هذا الباب ، والحمد للّه على ما خصني بفهمه من بين أرباب الألباب انتهى.
وفيه أنه غاية الغايات في الجسارة على رب الأرباب وإحداث صفة قديمة ما أنزل اللّه تعالى بها من كتاب إذ لم يرد في كتاب اللّه تعالى ولا في سنة نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولا روي عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الاقتضاء كلاما بل لا يقتضيه عقل ولا نقل على أنه لا يحتاج إليه عند من أخذت الغاية بيديه ، هذا وإذا سمعت ما تلوناه ، ووعيت ما حققناه فاسمع الآن تحقيق الحق في كيفية سماع موسى عليه السلام كلام الحق «فأقول» الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي والأشعري وغيرهمامن المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام اللّه تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغا لا ينبغي معه تأويل ، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل ، فقد قال تعالى : وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم : 52] ، وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى [الشعراء : 10] ، نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ [القصص : 30] إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النازعات : 16] ، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النمل : 8] واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسر النداء بالصوت «1» بل قد ورد إثبات الصوت للّه تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى ، وأخبار لا تستقصى.
«روى» البخاري في الصحيح «يحشر اللّه العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان»
ومن علم أن للّه تعالى الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء وأنه منزه في تجليه قريب في تعاليه لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق إذ له الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق زالت عنه إشكالات واتضحت لديه متشابهات «2». ومما يدل على ثبوت التجلي في المظهر للّه تعالى قول ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تعالى : أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ كما في الدر المنثور يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة ، وفي رواية عنه كان اللّه في النور ونودي من النور ، وفي صحيح مسلم حجابه النور ، وفي رواية له حجابه النار ودفع اللّه سبحانه توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله : وَسُبْحانَ اللَّهِ أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة وإن ناداك منها لكونه موصوفا بصفة رب العالمين فلا يكون ظهوره مقيدا له بل هو المنزه عن التقييد حين الظهور يا مُوسى إِنَّهُ أي المنادي المتجلي أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ فلا أتقيد لعزتي ولكني الْحَكِيمُ [النمل : 9] فاقتضت حكمتي الظهور والتجلي في صورة مطلوبك فالمسموع على هذا صوت وحرف سمعهما موسى عليه السلام من اللّه تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار لما اقتضته الحكمة فهو عليه السلام كليم اللّه تعالى بلا واسطة لكن من وراء حجاب مظهر النار وهو عين تجلي الحق تعالى له ، وأما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع الكلام النفسي القائم بذات اللّه تعالى فهو من باب التجويز والإمكان لا أن موسى عليه السلام سمع ذلك بالفعل إذ هو خلاف البرهان ، ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي
«ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» الحديث ،
ومن الواضح أن اللّه تبارك وتعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية
___________
(1) قال في القاموس : النداء بالكسر والضم الصوت ا ه منه
(2) مثل قوله تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وحديث «إذا كان يوم الجمعة نزل ربنا تبارك وتعالى من عليين على كرسيه
- إلى أن قال -
ثم يصعد تبارك وتعالى على كرسيه ،
وحديث «فإذا الرب قد أشرف عليها من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة»
إلى غير ذلك ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 19
كانت أو خيالية أو حسية سمع العبد على الوجه اللائق المجامع ل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى : 11] عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت لأنه باللّه يسمع إذ ذاك واللّه سبحانه يسمع السر والنجوى.
والإمام الماتريدي أيضا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التوحيد. فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة فمراده الاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق ، ومعنى قول الأشعري أن كلام اللّه تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ أن المسموع أولا وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة «وقول» الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء يمكن حمله على أنه أراد إنما يسمع أولا وبالذات التلاوة أي المتلو اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت التالي لا النفسي الذي حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية فلا نزاع في التحقيق أيضا.
والفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام اللّه تعالى وسماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من اللّه عز وجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض حروفه لصوته لا من اللّه تعالى المتجلي من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعا من اللّه تعالى بلا واسطة وهذا واضح عند من له قدم راسخة في العرفان وظاهر عند من قال بالمظاهر مع تنزيه الملك الديان. وأنت إذا أمنعت النظر في قول أهل السنة القرآن كلام اللّه عز وجل غير مخلوق وهو مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا محفوظ في صدورنا مكتوب في مصاحفنا غير حال في شيء منها رأيته قولا بالمظاهر ودالا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذات اللّه تعالى فيها غير قادح في قدمه لكونه غير حال في شيء منها مع كون كل منها قرآنا حقيقة شرعية بلا شبهة وهذا عين الدليل على أن تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه وليس من باب الحلول ولا التجسيم ، ولا قيام الحوادث بالقديم ولا ما يشاكل ذلك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك ، ومنه يظهر معنى ظهور القرآن في صورة الرجل الشاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر وظهوره خصما لمن حمله فخالف أمره وخصما دون من حمله فحفظ الأمر بل من أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن قاضي الجبل والطوفي وأبي نصر وأمثالهم «1» صرير باب أو طنين ذباب وهم وإن كانوا فضلاء محققين وأجلاء مدققين لكنهم كثيرا
___________
(1) وما ذكره المؤلف رحمه اللّه تعالى في حق هؤلاء الأئمة مبالغ فيه. ولعله لم يطلع على مؤلفاتهم فإن للإمام ابن تيمية كتابا شرح فيه النزول وبين صفة الكلام والنزول وغير ذلك من صفات اللّه تعالى وأنه لا فرق بينها في الاعتقاد بإبقائها على ظاهرها بدون تحريف ولا تأويل ولا تصحيف وأورد كلام علماء السلف في ذلك. وللإمام ابن القيم أيضا كتاب سماه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية عنى بهؤلاء المؤولين لصفات اللّه بما لم يرد به دليل من كتاب ولا سنة ولا قول لصحابي ولا تابعي ، وحاصل اعتقاد السلف في ذلك أن للّه كلاما هو صفته كما أخبر بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله وأنه ليس كمثله شيء ، والبحث في ذلك ليس من سنة السلف وأئمة الدين بل هو من المتكلمين الذين أشرب في قلوبهم نقل علوم اليونانيين زمن المأمون فأكسبهم خيالات وهمية في أذهانهم وفرضيات فاسدة واحتمالات ما أنزل اللّه بها من سلطان. نسأل اللّه إصلاح الأمة والعمل بما كان عليه سلفها : ا ه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 20
ما انحرفت أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولولا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء. ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا مراء.
فلي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوج
على أن العفو أقرب للتقوى والإغضاء مبنى الفتوة وعليه الفتوى. والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة واندفع عنه بفضل اللّه تعالى كل محنة ومهنة ، فلا بأس بأن نحكي بعض الأقوال ، كما حكى اللّه تعالى كثيرا من أقوال ذوي الضلال ، وبعد أن رسخ الحق في قلبك ، وتغلغل في سويدائه كلام ربك لا أخشى عليك من سماع باطل لا يزيدك إلا حقا.
وكاذب لا يورثك إلا صدقا «فنقول» أما المعتزلة فاتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلما أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية ، واتفقوا أيضا على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق ثم اختلفوا فذهب الجبائي وابنه أبو هاشم إلى أنه حادث في محل ، ثم زعم الجبائي أن اللّه تعالى يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة وخالفه الباقون ، وذهب أبو الهذيل بن العلاف وأصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله كن ، وبعضه لا في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار ، وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام الباري إذا قرىء فهو عرض وإذا كتب فهو جسم ، وذهبت الإمامية والخوارج والحشوية إلى أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات ، ثم اختلف هؤلاء فذهب الحشوية إلى أنه قديم أزلي قائم بذات الرب تعالى لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر وبعضهم قال لا بل الحرف حرفان والصوت صوتان قديم وحادث والقديم منهما ليس من جنس الحادث ، وأما الكرامية فقالوا : إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم وقد يطلق على الأقوال والعبارات وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات اللّه تعالى لكن إن كان بالاعتبار الأول فهو قديم متحد لا كثرة فيه وإن كان بالاعتبار الثاني فهو حادث متكثر ، وأما الواقفية فقد أجمعوا على أن كلام الرب تعالى كائن بعد أن لم يكن لكن منهم من توقف في إطلاق اسم القديم والمخلوق عليه ومنهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق وأطلق اسم الحادث ومن القائلين بالحدوث من قال ليس جوهرا ولا عرضا ، وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما لا بكلام ولا بغير كلام والذي أوقع الناس في حيص بيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة وهما كلام اللّه تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلام اللّه تعالى قديم ،
وكلام اللّه تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود وكل ما هو كذلك فهو حادث فكلام اللّه تعالى حادث ، فقوم «1» ذهبوا إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات فهو حادث ونسب إليهم أشياء هم براء منها ، وآخرون «2» قالوا بحدوث كلامه تعالى وأنه مؤلف من أصوات وحروف وهو قائم بغيره ومعنى كونه متكلما عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم كاللوح أو ملك كجبريل أو غير ذلك فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة اللّه تعالى ، وأناس «3» لما رأوا مخالفة الأولين
___________
(1) هم الحنابلة ا ه منه.
(2) هم المعتزلة ا ه منه.
(3) هم الكرامية ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 21
للضرورة والظاهرة التي هي أشنع من مخالفة الدليل ومخالفة الآخرين فيما ذهبوا إليه للعرف واللغة ذهبوا إلى أن كلامه تعالى صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى فهم منعوا أن كل ما هو صفة له تعالى فهو قديم ، وجمع قالوا : كلامه تعالى معنى واحد بسيط قائم بذاته تعالى قديم فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات وكثر في حقهم القال والقيل والنزاع الطويل ، وبعضهم تحير فوقف وحبس ذهنه في مسجد الدهشة واعتكف ، وعندي القياسان صحيحان والنتيجتان صادقتان ولكل مقام مقال ولكل كلام أحوال ولا أظنك تحوجني إلى التفصيل بعد ما وعاه فكرك الجميل بل ولا تكلفني رد هذه الأقوال الشنيعة التي هي لديك إذا أخذت العناية بيديك كسراب بقيعة فليطر شحرور القلم إلى روضة أخرى وليغرد بفائدة لعلها أولى من الإطالة وأحرى واللّه سبحانه وتعالى الموفق للصواب لا رب غيره.
«الفائدة الخامسة» في بيان المراد بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن أقول روى أحد وعشرون صحابيا «1» حديث نزول القرآن على سبعة أحرف حتى نص أو عبيدة على تواتره وفي مسند أبي يعلى أن عثمان رضي اللّه عنه قال على المنبر أذكر اللّه رجلا سمع النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال وأنا أشهد معهم ،
واختلف في معناه على أقوال «أحدها» أنه من المشكل الذي لا يدرى لاشتراك الحرف «2» وفيه أن مجرد الاشتراك لا يستدعي ذلك اللهم إلا أن يكون بالنظر إلى هذا القائل «ثانيها» أن المراد التكثير لا حقيقة العدد وقد جروا على تكثير الآحاد بالسبعة والعشرات بالسبعين والمئات بسبعمائة وسر التسبيع لا يخفى وإليه جنح عياض وفيه مع عدم ظهور معناه أن
حديث أبيّ كما رواه النسائي «أن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف»
ونحوه من الأحاديث لا سيما
حديث أبي بكرة الذي في آخره «فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة»
أقوى دليل على إرادة الانحصار بل في جمع القلة نوع إشارة إلى عدم الكثرة كما لا يخفى «ثالثها» أن المراد بها سبع قراءات وفيه أن ذلك لا يوجد في كلمة واحدة إلا نادرا «3» والقول أن كلمة تقرأ بوجه أو وجهين إلى سبع يشكل عليه ما قرىء على أكثر اللهم إلا أن يقال ورد ذلك مورد الغالب وفيه ما لا يخفى حتى قال السيوطي قد ظن كثير من القوم أن المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح فتدبر «رابعها» أن المراد بها سبعة أوجه من المعاني المتفقة على ألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم. وعجل وأسرع ، وإليه ذهب ابن عيينة وجمع وأيد
برواية حتى بلغ سبعة أحرف قال : كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب ،
وبما حكي أن ابن مسعود أقرأ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان : 43 ، 44] فقال الرجل طعام اليثيم فردها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول الفاجر؟ قال نعم قال فافعل ، وفيه أن ذلك كان رخصة لعسر تلاوته بلفظ واحد على الأميين ثم نسخ وإلا لجازت روايته بالمعنى ولذهب التعبد بلفظه ولا تسع الخرق ولفات كثير من الأسرار والأحكام وهذا يستدعي
___________
(1) وهم أبيّ بن كعب وأنس وحذيفة وزيد بن أرقم وسمرة بن جندب وسليمان بن صبرة وابن عباس وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمر بن الخطاب وعمر بن أبي سلمة وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وهشام بن حكيم وأبو بكرة وأبو جهم وأبو سعيد الخدري وأبو طلحة الأنصاري وأبو هريرة وأم أيوب ا ه منه. [.....]
(2) أي لغة بين الكلمة والمعنى والجهة قاله ابن سعدان النحوي ا ه منه.
(3) مثل (عبد الطاغوت) (و لا تقل لهما أف) ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 22
نسخ الحديث وفيه بعد بل لا قائل به «خامسها» أن المراد بها كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين وتحقيق ، وفيه أن ذلك ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى ، واللفظ الواحد بهذه الصفات باق على وحدته فليس فيه حينئذ جليل فائدة.
«سادسها» أن المراد سبعة أصناف وعليه كثيرون ثم اختلفوا في تعيينها فقيل : محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص ، وقيل : إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية وتعظيم الألوهية والتعبد للّه ومجانبة الإشراك والترغيب في الثواب ، والترهيب من العقاب ، وقيل أمر ونهي ووعد ووعيد وإباحة وإرشاد واعتبار. وقيل غير ذلك والكل محتمل بل وأضعاف أمثاله إلا أنه لا مستند له ولا وجه للتخصيص.
«سابعها» أن المراد سبع لغات وإليه ذهب ثعلب وأبو عبيد والأزهري وآخرون واختاره ابن عطية وصححه البيهقي. واعترض بأن لغات العرب أكثر ، وأجيب بأن المراد أفصحها وهي لغة قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكره ابن قتيبة قائلا : لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش بدليل وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم : 4] وعليه يلتزم كون السبع في بطون قريش ، وبه جزم أبو علي الأهوازي وليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل أنها مفرقة فيه ولعل بعضها أسعد من بعض وأكثر نصيبا. وقيل السبع في مضر خاصة لقول عمر رضي اللّه عنه : نزل القرآن بلغة مضر ، وقال بعضهم : إنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش ، وقيل أنزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من الفصحاء ثم أبيح للعرب أن تقرأه بلغاتها دفعا للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولم يقع ذلك بالتشهي بل المرعي فيه السماع من النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وكيفية نزول القرآن على هذه السبع أن جبريل عليه السلام كان يأتي رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في كل عرضة بحرف إلى أن تمت. قال السيوطي بعد نقل هذا القول وذكر ما له وما عليه وبعد هذا كله هو مردود بأن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة وقبيلة واحدة وقد اختلفت قراءتهما ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات انتهى ، ويا ليت شعري ادعى أحد من المسلمين أن معنى إنزال القرآن على هذه السبع من لغات هؤلاء العرب أنه أنزل كيفما كان وأنهم هم الذين هذبوه بلغاتهم ورشحوه بكلماتهم بعد الإذن لهم بذلك فإذا لا تختلف أهل قبيلة واحدة في كلمة ولا يتنازع اثنان منهم فيها أبدا أم أن اللّه تعالى شأنه ظهر كلامه في مرايا هذه اللغات على حسب ما فيها من المزايا والنكات.
فنزل بها وحيه. وأداها نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ووعاها أصحابه فكم صحابي هو من قبيلة وعى كلمة نزلت بلغة قبيلة أخرى وكلاهما من السبع وليس له أن يغير ما وعى بل كثيرا ما يختلف صحابيان من قبيلة في الرواية عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وكل من روايتيهما على غير لغتهما كل ذلك اتباعا لما أنزل اللّه تعالى وتسليما لما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقد ينفي صحابي غير روايته وينكر رواية غيره وكل ذلك يدل على أن مرجع السبع الرواية لا الدراية فرد الإمام السيوطي لا أدري ماذا أرد منه وما الذي أسكت عنه ، فها هو بين يديك ، فاعمل ما شئت فيه ، وسلام اللّه تعالى عليك ، ومما ذكرناه علمت أن القلب يميل إلى هذا السابع فافهم ، وقد حققنا بعض الكلام في هذا المقام في كتابنا الأجوبة العراقية ، عن الأسئلة الإيرانية فارجع إليه إن أردته واللّه سبحانه وتعالى أعلم «الفائدة السادسة» في جمع القرآن وترتيبه ، اعلم أن القرآن جمع أولا بحضرة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقد أخرج الحاكم بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال : كنا عند النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم نؤلف القرآن في الرقاع. وثانيا بحضرة أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت أيضا قال «أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 23
أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر بقراء القرآن «1» وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن فقلت لعمر كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال عمر : هذا واللّه خير فلم يزل يراجعني حتى شرح اللّه صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر : إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فو اللّه لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على ما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم
يفعله رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم؟ قال : هو واللّه خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب»
واللخاف وصدور الرجال ووجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة : 128] حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللّه تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر» وأخرج ابن أبي داود بسند رجاله ثقات مع انقطاع أن أبا بكر قال لعمر وزيد مع أنه كان حافظا اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شيء من كتاب اللّه فاكتباه ، ولعل الغرض من الشاهدين أن يشهدا على أن ذلك كتب بين يدي الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو على أنه مما عرض عليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عام وفاته وإنما اكتفوا في آية التوبة بشهادة خزيمة لأن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين والقول بأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة مما لا حجار له «3» وما شاع أن عليا كرم اللّه وجه لما توفي رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم تخلف لجمعه فبعض طرقه ضعيف «4» ، وبعضها موضوع «5» وما صح «6» فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر ، وقيل كان جمعا بصورة أخرى لغرض آخر ، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم ، وقد أخرج ابن أبي داود بسند حسن عن عبد خير قال : سمعت عليا يقول أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه رحمة اللّه على أبي بكر هو أول من جمع كتاب اللّه
أي على الوجه الذي تقدم فلا ينافي ما في مختصر القرماني أن أول من جمعه عمر رضي اللّه تعالى عنه. وما روي عن أبي بريدة أنه قال أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فهو مع غرابته وانقطاعه محمول على أنه أحد الجامعين بأمر أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه قاله الإمام السيوطي وهي عثرة منه لا يقال لصاحبها لعا لأن سالما هذا قتل في وقعة اليمامة كما يدل عليه كلام الحافظ ابن حجر في إصابته ونص عليه السيوطي نفسه في إتقانه بعد هذا المبحث بأوراق ولا شك أن الأمر بالجمع وقع من الصديق بعد تلك الوقعة وهي التي كانت سببا له كما يدل عليه حديث البخاري الذي قدمناه فسبحان من لا ينسى ، وما اشتهر أن جامعه عثمان فهو على ظاهره باطل لأنه رضي اللّه تعالى عنه إنما حمل الناس في سنة خمس وعشرين «7» على القراءة
___________
(1) وقد روي انه قتل يوم اليمامة سبعون من القراء منهم سالم مولى أبي حذيفة ا ه منه.
(2) العسب جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض ، واللخاف بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء هي الحجارة الرقاق وقال الخطابي صفائح الحجارة ا ه منه.
(3) هذا القول لابن حجر قاله على سبيل الظن وهو من بعضه ا ه منه.
(4) وهو ما أخرجه أبو داود من طريق ابن سيرين ا ه منه.
(5) وهو ما أخرجه غير واحد من رواية أبي حيان التوحيدي أحد زنادقة الدنيا ا ه منه.
(6) كرواية أبي الضريس في فضائل علي رضي للّه تعالى عنه ا ه منه.
(7) وقيل في حدود سنة ثلاثين ولا مستند له ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 24
بوجه واحد باختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة من اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات ، فقد روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان : أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت «1» وعبد اللّه بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف «2» مما نسخوا وأمر بما سواه من القراءات في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال زيد : ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب : 23] ألحقناها في سورتها في المصحف. وقد ارتضى ذلك أصحاب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم حتى
أن المرتضى كرم اللّه تعالى وجهه قال على ما أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة عنه : لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فو اللّه ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا.
وفي رواية لو وليت لعملت بالمصحف الذي عمله عثمان ،
وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لما أحرق مصحفه : لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم كما صنعوا بمصحفي كذب كسوء معاملة عثمان معه التي يزعمها الشيعة حين أخذ المصحف منه ، وهذا الذي ذكرناه من فعل عثمان هو ما ذكره غير واحد من المحققين حتى صرحوا بأن عثمان لم يصنع شيئا فيما جمعه أبو بكر من زيادة أو نقص أو تغيير ترتيب سوى أنه جمع الناس على القراءة بلغة قريش محتجا بأن القرآن نزل بلغتهم.
ويشكل عليه ما مر آنفا من قول زيد ففقدت آية من الأحزاب إلخ فإنه بظاهره يستدعي أن في المصاحف العثمانية زيادة لم تكن في هاتيك الصحف والأمر في ذلك هين إذ مثل هذه الزيادة اليسيرة لا توجب مغايرة يعبأ بها ولعلها تشبه مسألة التضاريس ، ولو كان هناك غيرها لذكر وليس فليس ، ولا تقدح أيضا في الجمع السابق إذ يحتمل أن يكون سقوطها منه من باب الغفلة وكثيرا ما تعتري السارحين في رياض حظائر قدس كلام رب العالمين فيذكرهم سبحانه بما غفلوا فيتداركون ما أغفلوا. وزيد هذا كان في الجمعين ولعله الفرد المعول عليه في البين لكن عراه في أولهما ما عراه. وفي ثانيهما ذكره من تكفل بحفظ الذكر فتدارك ما نساه.
وبعد انتشار هذه المصاحف بين هذه الأمة المحفوظة لا سيما الصدر الأول الذي حوى من الأكابر ما حوى وتصدر فيه للخلافة الراشدة على المرتضى. وهو باب مدينة العلم لكل عالم. والأسد الأشد الذي لا تأخذه في اللّه لومة لائم لا يبقى في ذهن مؤمن احتمال سقوط شيء بعد من القرآن وإلا لوقع الشك في كثير من ضروريات هذا الدين الواضح البرهان وزعمت الشيعة أن عثمان بل أبا بكر وعمر أيضا حرفوه وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره ،
فقد روى الكليني منهم عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم سبعة عشر ألف آية «3»
___________
(1) وأخرج ابن أبي داود أنه جمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ا ه منه.
(2) فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحبس بالمدينة واحدا كما أخرج ذلك ابن أبي داود من طريق حمزة الزيات ا ه منه.
(3) والمشهور عندنا أنه ستة آلاف وستمائة وست عشرة آية ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 25
وروى محمد بن نصر عنه أنه قال كان في لم يكن اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم ،
وروي عن سالم بن سليمة ، قال قرأ رجل على أبي عبد اللّه - وأنا أسمعه - حروفا من القرآن ليس ما يقرأها الناس فقال أبو عبد اللّه مه عن هذه القراءات واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم فاقرأ كتاب اللّه على حده ،
وروي عن محمد ابن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد اللّه أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ [النحل : 92] ليس كلام اللّه بل محرف عن موضعه والمنزل - أئمة هي أزكى من أئمتكم -
وذكر ابن شهرآشوب المازندراني في كتاب المثالب له أن سورة الولاية أسقطت بتمامها وكذا أكثر سورة الأحزاب فإنها كانت مثل سورة الأنعام فأسقطوا منها فضائل أهل البيت ، وكذا أسقطوا لفظ - ويلك من قبل لا تحزن إن اللّه معنا ، وعن ولاية علي من بعد ، وقفوهم إنهم مسؤولون ، وبعلي بن أبي طالب من بعد ، وكفى اللّه المؤمنين القتال ، وآل محمد من بعد وسيعلم الذين ظلموا - إلى غير ذلك فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقا وغربا وهو كرة الإسلام ودائرة الأحكام مركزا وقطبا أشد تحريفا عند هؤلاء من التوراة والإنجيل وأضعف تأليفا منهما وأجمع للأباطيل ، وأنت تعلم أن هذا القول أوهى من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت ولا أراك في مرية من حماقة مدعيه وسفاهة مفتريه ، ولما تفطن بعض علمائهم لما به جعله قولا لبعض أصحابه قال الطبرسي في مجمع البيان «1» أما الزيادة فيه أي القرآن فمجمع على بطلانها ، وأما النقصان فقد روي عن قوم من أصحابنا وقوم من حشوية العامة والصحيح خلافه وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات ، وذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإن الغاية اشتدت والدواعي توفرت عى نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه لأن القرآن مفجر النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد ، وقال أيضا : إن العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من
جملتها حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا من النحو ليس من الكتاب لعرف وميزانه ملحوق وأنه ليس من أصل الكتاب وكذا القول في كتاب المزني ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء. وذكر أيضا أن القرآن كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان وأنه كان يعرض على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ويتلى عليه وأن جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عدة ختمات وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مثبور ولا مبثوث ، وذكر أن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته انتهى. وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال - والحمد للّه على أن ظهر الحق وكفى اللّه المؤمنين القتال - إلا أن الرجل قد دس في الشهد سمّا وأدخل الباطل في حمى الحق الأحمى «أما أولا» فلأن نسبة ذلك إلى قوم من حشوية العامة الذين يعني بهم أهل السنة والجماعة فهو كذب أو سوء فهم لأنهم
___________
(1) هو تفسير مطبوع في العجم.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 26
أجمعوا على عدم وقوع النقص فيما تواتر قرآنا كما هو موجود بين الدفتين اليوم ، نعم أسقط زمن الصديق ما لم يتواتر وما نسخت تلاوته وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة ولم يأل جهدا رضي اللّه تعالى عنه في تحقيق ذلك إلا أنه لم ينتشر نوره في الآفاق إلا زمن ذي النورين فلهذا نسب إليه كما روي عن حميدة بنت يونس أن في مصحف عائشة رضي اللّه عنها إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب : 56] - وعلى الذين يصلون الصفوف الأول - وأن ذلك قبل أن يغير عثمان المصاحف فما
أخرج أحمد عن أبيّ قال قال لي رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إن اللّه أمرني أن أقرأ عليك فقرأ عليّ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة : 1 - 4] إن الدين عند اللّه الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره»
- وفي رواية «ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة» إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند اللّه شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم أرسل اللّه النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون اللّه وحده أولئك عند اللّه خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه»
وفي رواية الحاكم «فقرأ فيها ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا ولو سأل ثانيا فأعطيه يسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب اللّه على من تاب»
وما
روي عنه أيضا أنه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد - اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق
- فهو من ذلك القبيل ومثله كثير ، وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر قال : لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر ، والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى إلا أنها محمولة على ما ذكرناه ، وأين ذلك مما يقوله الشيعي الجسور وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور : 40].
وأما ثانيا فلأن قوله : إن القرآن كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن إلخ إن أراد به أنه مرتب الآي والسور كما هو اليوم وأنه يقرأه من حفظه في الصدر من الأصحاب كذلك لكنه كان مفرقا في العسب واللخاف فمسلم إلا أنه خلاف الظاهر من سياق كلامه وسباقه وإن أراد أنه كان في العهد النبوي مقروءا كما هو الآن لا غير وكان مرتبا ومجموعا في مصحف واحد غير متفرق في العسب واللخاف فممنوع والدليل الذي استدل به لا يدل عليه كما لا يخفى ، ويا للّه العجب كيف ذكر في هذا المعرض ختمات ابن مسعود وأبيّ على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وجعل ذلك من أدلة مدعاه مع أن مروي كل منهما يخالف مروي الآخر وكلاهما يخالفان ما في المصحف العثماني فالسور مثلا في مصحفنا مائة وأربع عشرة بإجماع من يعتدّ به وقيل ثلاث عشرة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين «1» بل صح عنه «2» أنه كان يحكهما من المصاحف ويقول ليستا من كتاب اللّه تعالى وإنما أمر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن يتعوذ بهما
___________
(1) ولم يكتب الفاتحة أيضا لكن لا لاعتقاد انها ليست من القرآن معاذ اللّه ولكن للاكتفاء بحفظها الوجوب قراءتها في الصلاة فلا يخشى ضياعها ا ه منه. [.....]
(2) كما أخرجه عبد الرحمن بن أحمد والطبراني عن النخعي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 27
ولهذا عوذ بهما الحسن والحسين ولم يتابعه أحد من الصحابة على ذلك وقد صح أنه صلّى اللّه عليه وسلم قرأهما في الصلاة ، فالظاهر أنهما غير متواترتين قرآنا عنده والقول بأنه إنما أنكر الكتابة وأراد بالكتاب المصحف ليتم التأويل مستبعد جدا بل لا يصح كما لا يخفى ، وفي مصحف أبيّ خمس عشرة لأنه كتب في آخره بعد «العصر» سورتي الخلع والحفد وجعل سورة «الفيل وقريش» فيه سورة واحدة وترتيب كل أيضا متغاير ومغاير لترتيب مصحفنا مغايرة لا سترة عليها فسورة «ن» في مصحف ابن مسعود بعد «الذاريات» و«لا أقسم بيوم القيامة» بعد «عم» «والنازعات» بعد «الطلاق» «والفجر» بعد «التحريم» إلى غير ذلك وسورة «بني إسرائيل» في مصحف أبيّ بعد «الكهف» و«الحجرات» بعد «ن» و«تبارك» بعد «الحجرات» «والنازعات» بعد «الواقعة» و«ألم نشرح» بعد «قل هو اللّه أحد» مع اختلاف كثير يظهر لمن رجع إلى الكتب المتقنة في هذا الباب ، وكأن ران البغض غطى على قلب هذا البعض فقال ما قال ولم يتفكر في حقيقة الحال ولم يبال يوقع النبال قاصدا أن يستر بمنخل مختل كذبه نور ذي النورين الساطع عليه من برج شمس الكونين ومن بدر صحبه مع أن نسبة هذا الجمع إليهما من أوضح الأمور بل أشهر من المشهور ، وهو شائع أيضا عند الشيعة وليس لهم إلى إنكاره ذريعة ولكن مركب التعصب عثور ومذهب التعسف محذور ، وإذا حققت ما ذكرناه ووعيت ما عليك تلوناه فاعلم أن ترتيب آية وسورة بتوقيف من النبي صلّى اللّه عليه وسلم أما ترتيب الآي فكونه توقيفيا مما لا شبهة فيه حتى نقل جمع منهم الزركشي «1» وأبو جعفر «2» الإجماع عليه من غير خلاف بين المسلمين والنصوص متظافرة على ذلك.
وما يدل بظاهره من الآثار على أنه اجتهادي معارض ساقط عن درجة الاعتبار كالخبر الذي أخرجه ابن أبي داود بسنده عن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه قال : أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال : أشهد أني سمعتهما من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ووعيتهما فقال عمرو أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوهما في آخرها - فإنه معارض بما لا يحصى مما يدل على خلافه ، بل لابن أبي داود مخرجه خبر يعارضه أيضا فقد أخرج أيضا عن أبيّ أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [التوبة : 127] ظنوا أن هذا آخر ما نزل فقال أبيّ : إن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أقرأني بعد هذا آيتين لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة : 128] إلى آخر السورة.
وأما ترتيب السور ففي كونه اجتهاديا أو توقيفيا خلاف والجمهور على الثاني «3» قال أبو بكر الأنباري : أنزل اللّه تعالى القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا بالمستخبر فيوقف جبريل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم على موضع الآية والسورة ، فمن قدم أو أخر فقد أفسد «4» نظم القرآن وقال الكرماني : ترتيب السور هكذا هو عند اللّه تعالى في اللوح المحفوظ وعليه كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين ، وقال الطيبي
___________
(1) في البرهان ا ه منه.
(2) في المناسبات ا ه منه.
(3) وهذا آخر قوله ا ه منه.
(4) وبعضهم استنبط عمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم ثلاثا وستين سنة من قوله في سورة المنافقين وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن للإشارة إلى ظهور التغابن بعد فقده صلّى اللّه عليه وسلم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 28
مثله وهو المروي عن جمع غفير إلا أنه يشكل على هذا ما
أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين «1» فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر
بسم اللّه الرحمن الرحيم
ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان :
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول دعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطربسم اللّه الرحمن الرحيم
ووضعتهما في السبع الطوال.
فهذا يدل على أن الاجتهاد دخل في ترتيب السور ولهذا ذهب البيهقي إلى أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال وله انشرح صدر الإمام السيوطي لما ضاق ذرعا عن الجواب ، والذي ينشرح له صدر هذا الفقير هو ما انشرحت له صدور الجمع الغفير من أن ما بين اللوحين الآن موافق لما في اللوح من القرآن وحاشا أن يهمل صلى اللّه تعالى عليه وسلم أمر القرآن وهو نور نبوته وبرهان شريعته فلا بد إما من التصريح بمواضع الآي والسور وإما من الرمز إليهم بذلك وإجماع الصحابة في المآل على هذا الترتيب وعدولهم عما كان أولا من بعضهم على غيره من الأساليب ، وهم الذين لا تلين قناتهم لباطل ، ولا يصدهم عن اتباع الحق لوم لائم ولا قول قائل ، أقوى دليل على أنهم وجدوا ما أفادهم علما ، ولم يدع عندهم خيالا ولا وهما ، وعثمان رضي اللّه تعالى عنه وإن لم يقف على ما يفيده القطع في براءة والأنفال وفعل ما فعل بناء على ظنه إلا أن غيره وقف ، وقبل ما فعله ولم يتوقف ، وكم لعمر رضي اللّه تعالى عنه موافقات لربه أدى إليها ظنه فليكن لعثمان هذه الموافقة التي ظفر غيره بتحقيقها من النصوص أو الرموز فسكت على أن ذلك كان قبل ما فعل عثمان عند التحقيق ولكن لما رفعت الأقلام وجفت الصحف واجتمعت الكلمة في أيامه واقتدت المسلمون في سائر الآفاق بإمامه نسب ذلك إليه ، وقصر من دونهم عليه والسؤال منه وجوابه ليسا قطعيين في الدلالة على الاستقلال لجواز أن يكون السؤال للاستخبار عن سر عدم المخالفة ، والجواب لابدائه على ما خطر في البال ، وبالجملة بعد إجماع الأمة على هذا المصحف لا ينبغي أن يصاخ إلى آحاد الأخبار ولا يشرأب إلى تطلع غرائب الآثار فافهم ذاك واللّه سبحانه وتعالى يتولى هداك. «الفائدة السابعة» في بيان وجه إعجاز القرآن :
«اعلم» أن إعجاز القرآن مما لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه وأرى الاستدلال هنا عليه مما لا يحتاج إليه والشبه صرير باب أو طنين ذباب والأهم بالنسبة إلينا بيان وجه الإعجاز والكلام فيه على سبيل الإيجاز «فنقول» : قد اختلف الناس في ذلك فذهب بعض المعتزلة إلى أن وجه إعجازه اشتماله على النظم الغريب والوزن العجيب والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من العرب في مطالعه وفواصله ومفاصله ورد بوجهين «الأول» أنا لا نسلم المخالفة فإن كثيرا من آياته على وزن أبيات العرب نحو قوله تعالى وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فاطر : 18] وقوله تعالى :
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق : 2] ومثله كثير «الثاني» أنا لو سلمنا المخالفة لكن لا نسلم أنه لمجردها يكون معجزا وإلا لكانت حماقات مسيلمة إذ هي على وزنه كذلك ، وذهب الجاحظ إلى أنه اشتماله على البلاغة التي تتقاصر عنها سائر ضروب البلاغات ورد بوجوه «الأول» أنا إذا نظرنا إلى أبلغ الخطب وأجزل الشعر وقطعنا النظر عن الوزن وقسناه بقصار القرآن كان الأمر في التفاوت ملتبسا ، والمعجز لا بد أن ينتهي إلى
___________
(1) المئين ما تزيد على مائة آية أو تقاربها والمثاني هنا ما ولي المئين ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 29
حد لا يبقى معه لبس ولا ريبة «الثاني» أن القرآن غير خارج عن كلام العرب وما من أحد من بلغائهم إلا وقد كان مقدورا له الإتيان بقليل من مثل ذلك والقادر على البعض قادر على الكل «الثالث» أن الصحابة اختلفوا في البعض ولو كان منتهيا إلى الإعجاز بلاغة لعرفوه وما اختلفوا «الرابع» أنهم طلبوا البينة ممن أتى بشيء منه ولو كانت بلاغته منتهية إلى حد الإعجاز ما طلبوها «الخامس» أن في كل عصر من تنتهي إليه البلاغة وذلك غير موجب للإعجاز ولا للدلالة على صدق مدعي الرسالة لجواز أن يكون هو من انتهت إليه ، وقيل هو اشتماله على الاخبار بالغيب ورد ، أما أولا فبأن الإصابة في المرة والمرتين ليست من الخوارق والحد الذي يصير به الاخبار خارقا غير مضبوط فإذا لا يمتنع أن يقال ما اشتمل عليه القرآن لم يصل إليه ، وأما ثانيا فبأنه يلزم أن يكون أخبار المنجمين والكهنة عن الأمور المغيبة مع كثرة إصابتها معجزة ، وأما ثالثا فبأنه يلزم أن تكون التوراة كذلك لاشتمالها كاشتماله. وأما رابعا فبأنه يلزم أن يكون الخالي عن الاخبار بالغيب من القرآن غير معجز.
وقيل هو كونه مع طوله وامتداده غير متناقض ولا مختلف وأبطل بوجهين «الأول» أنا لا نسلم عدم التناقض والاختلاف فيه أما التناقض فقوله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس : 69] والبحور كلها فيه وقال تعالى : فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون : 101] ثم قال : وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات : 27 ، الطور : 25] وقال تعالى : وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا [الكهف : 55] فحصر المانع في أحد السببين وقال وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء : 94] فحصر المانع في غيرهما إلى غير ذلك ، وأما الاختلاف فكقوله تعالى «كالصوف المنفوش» بدل كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة : 5] وقوله تعالى : «ضربت عليهم المسكنة والذلة» بدل قوله : الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة : 61] وقوله تعالى : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب : 6] وهو أب لهم وقوله تعالى في خلق آدم مرة من تراب ومرة من حمأ ومرة من طين ومرة من صلصال على أن فيه تكرارا لفظيا ومعنويا كما في الرحمن وقصة موسى مثلا وتعرضا لإيضاح الواضحات كما في قوله تعالى : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة :
196] وقال عثمان : إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها «الثاني» أنا لو سلمنا السلامة من جميع ذلك لكنه ليس بإعجاز إذ هو موجود في كثير من الخطب والشعر ويظهر كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار بتقدير التحدي بها ، وقيل هو موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى ورد بأنه معتاد في أكثر كلام البلغاء وينتقض أيضا بكلام الرسول الغير المعجز وبالتوراة والإنجيل ، وقيل إعجازه قدمه واعترض بأنه يستدعي أن يكون كل من صفاته تعالى كذلك وأيضا الكلام القديم مما لا يمكن الوقوف عليه فلا يتصور التحدي به «وقال» الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والنظام : إعجازه بصرف دواعي بلغاء العرب عن معارضته ، وقال المرتضى : بسلبهم العلوم التي لا بد منها في المعارضة واعترض بأربعة أوجه «الأول» أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة لا القرآن وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين من قبل «الثاني» أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب فلو كان الإعجاز بالصرفة لكانت على خلاف المعتاد بالنسبة إلى كل واحد ضرورة تحقق الصرفة بالنسبة إليه فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادا له والمعتاد لكل ليس هو الكلام الفصيح بل خلافه فيلزم أن يكون القرآن كذلك وليس كذلك.
«الثالث» أنه يستلزم أن يكون مثل القرآن معتادا من قبل لتحقق الصرفة من بعد فتجوز المعارضة بما وجد من كلامهم مثل القرآن قبلها «الرابع» وهو خاص بمذهب المرتضى أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم لتناطقوا به ولو تناطقوا لشاع إذ العادة جارية بالتحدث بالخوارق فحيث لم يكن دل على فساد الصرفة بهذا الاعتبار ، واستدل بعضهم على

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 30
فساد القول بها بقوله تعالى : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء : 88] الآية فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهم ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لأنه بمنزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ولا بأس بانضمامه إلى ما ذكرناه ، وأما الاكتفاء به في الاستدلال فلا أظنك ترضاه. وقال الآمدي وغيره الإعجاز بجملته «1» وبالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وارتضاه الكثير ، وقولهم فيما قيل : لا نسلم المخالفة إلخ يجاب عنه بأن ما ذكروه وإن كان على وزن الشعر إلا أنه لا يعد شعرا ولا قائله شاعرا لأن الشعر ما قصد وزنه وحيث لا قصد لا شعر وقد يعرض للبلغاء في سرد خطبهم المنسجمة مثل ذلك بل قد يتفق لمن لا يعرف الشعر رأسا من العوام كلمات متزنة نحو قول السيد لعبده مثلا ادخل السوق واشتر اللحم واطبخ ، ولهذا
قال الوليد «2» : «لما قرأ عليه النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم القرآن فكأنما رق له فاقترح عليه أبو جهل أن يقول فيه ما يبلغ قومه أنه منكر له وكاره ماذا أقول فو اللّه ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيدة ولا بأشعار الجن واللّه ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وو اللّه إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته»
وقولهم : إنا لو سلمنا إلخ مسلم لكن لا يلزم أن لا يكون مع البلاغة والاخبار بالغيب معجزا ومن هنا يعلم الجواب عن الاعتراض على أن وجه إعجازه بلاغته على أن الأوجه الخمسة التي ذكروها فيه باطلة.
«أما الأول» فلأن التفاوت بين لمن تحدى به من البلغاء ولذا لم يعارض وغيرهم عم عن ذلك لقصوره في الصناعة فلا اعتداد به ولا مضرة لثبوت الإعجاز بعجز أولئك ثم قياس أقصر سورة على ما ذكروه «3» عدول عن سواء السبيل «وأما الثاني» فلأن القدرة على البعض لا تستلزم القدرة على الكل ولهذا نجد الكثير قادرا على بليغ فقرة أو فقرتين أو بيت أو بيتين ولا يقدر على وضع خطبة ولا نظم قصيدة.
«وأما الثالث» فلأن الصحابة لم يختلفوا فيما اختلفوا فيه أنه نازل على النبي صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم من ربه أو أن بلاغته غير معجزة ولكنهم اختلفوا في أنه قرآن وذلك لا يضر فيما نحن بصدده.
«وأما الرابع» فلأن طلب البينة لما قدمناه في الفائدة السادسة أو للوضع والترتيب كما قيل أو لمزيد الاحتياط في الأمر الخطير «وأما الخامس» فلأن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب ويبلغ فيه الغاية القصوى ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند اللّه وإلا لم يتحقق عند القوم معجزة النبي ولظنوا أنهم لو كانوا من أهل تلك الصنعة أو متناهين فيها لأمكنهم أن يأتوا بمثلها والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها فلما أتى الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والافتراق علم أن ذلك من عند اللّه تعالى بلا ريب ، واعتراضهم على كون الأخبار بالغيب معجزا مكابرة فإن الاخبار عن الغائبات مع التكرر والإصابة غير معتاد ولا معنى لكونه معجزا غير هذا وما ذكروه من الوجوه باطل.
«أما الأول» فلأنه لا يلزم من عدم كون الإصابة في المرة والمرتين من الخوارق أن لا تكون الإصابة في الكرات
___________
(1) كون الإعجاز بجملته نسبة الإمام السيوطي لبعض المعتزلة وقد ورد التحدي بكل القرآن وبعشر سور وبسورة قيل ولو قصيرة لظاهر الإطلاق وقيل تبلغ مبلغا يتبين فيه رتب ذوي البلاغة فأفهم وتدبر ا ه منه.
(2) والخبر طويل أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس ا ه منه.
(3) على انه يكفينا في الغرض كون القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجزا فافهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 31
الكثيرة منها والضابط العرف ولا يخفى أن ما ورد من أخبار الغيب في القرآن مما يعد في نظر أهل العرف كثيرا لا تعتاد الإصابة فيه بجملته «وأما الثاني» فلأن أخبار المنجمين ما كان كاذبا منها لا احتجاج وما كان صادقا وتكررت الإصابة فيه كالكسوف والخسوف غير وارد لأنه من الحساب المعتاد لمن يتعاطى صناعة التنجيم وأخبار القرآن بالغيوب ليست كذلك وأما أخبار الكهنة فالقول فيها كما في السحر.
«وأما الثالث» فلأن ما في التوراة من الأخبار بالغيب إن كان كثيرا خارقا للعادة ووقع التحدي به فهو أيضا معجز وآية صدق لمن أتى به ولا يضرنا التزام ذلك «وأما الرابع» فلأنه لا يرد على من يقول وجه الإعجاز مجموع ما تقدم أصلا. ومن يقول وجهه مجرد الإخبار بالغيب يقول بأن الخالي من ذلك غير معجز وإنما الإعجاز في القرآن بجملته ويكفي ذلك في غرضه ، والاعتراض على كون وجه الإعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد بوجهيه مدفوع «أما الأول» فلأن اشتمال القرآن على الشعر قد سبق جوابه فلا يناقض وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس : 69] وأما الآيتان الأوليتان فقد أجاب عنهما ابن عباس حين سأله رجل عن آيات من هذا القبيل بأن نفى المسألة قبل النفخة الثانية وإثباتها فيما بعد ، والسدي بأن نفى المسألة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عداها وابن مسعود بأن المسألة المنفية طلب بعضهم العفو من بعض والمثبتة على ظاهر معناها فلا منافاة. وأما الآيتان الأخريتان فمعنى الأولى منهما وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الإسراء : 94 ، الكهف : 55] إلا إرادة اللّه أن تأتيهم سنة الأولين من نحو الخسف أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة ولا شك أن إرادة اللّه تعالى مانعة من وقوع ما ينافي المراد ، فهذا حصر في السبب الحقيقي. ومعنى الثانية «وما منع الناس أن يؤمنوا» إلا استغراب بعثة البشر رسولا وهو مدلول القول التزاما والدال لا يناسب المانعية والمدلول ليس مانعا حقيقيا بل عادي لجواز وجود الإيمان معه فهو حصر في المانع العادي فلا تناقض وسيأتي لهذا إن شاء اللّه تعالى زيادة تحقيق.
وكذا لأمثاله مما يضيق عنه هذا المبحث ، وأما الاختلاف المذكور فليس هو المنفي في قوله تعالى : وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء : 82] لأن المراد به أحد أمرين ، الأول الاختلاف المناقض للبلاغة ، والثاني الاختلاف فيما أخبر عنه من قصص الماضين وسير الأولين مع أمية من جاء به وعدم دراسته للعلوم ومطالعته للكتب ولا شك أنه لم يوجد في القرآن شيء من هذه الاختلافات على أن أمثال بعض ما ذكر من الاختلاف ليس بقرآن لأنه لم يتواتر وأمثال البعض الآخر اختلاف مقال لاختلاف الأحوال ، والمرجع إلى جوهر واحد وهو التراب في خلق آدم مثلا ومنه تدرجت تلك الأحوال وأي ضرر في ذلك ، وأما التكرار اللفظي والمعنوي فلا يخلو عن فائدة لا تحصل من غير تكرار كبيان اتساع العبارة وإظهار البلاغة وزيادة التأكيد والمبالغة إلى غير ذلك مما قد أمعن المفسرون في تحقيقه وبيانه وستراه بحوله تعالى ، وأما ما يتوهم فيه أنه من قبيل إيضاح الواضحات فليس يخلو عن درء احتمال ورفع خيال ، فإنه لو لم يقل فيما ذكر من الآية تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة : 196] لتوهم ولو على بعد أن المراد وتمام سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ [البقرة : 196] بل في ذلك غير هذا أسرار ستأتيك بعون باريك ، وأما قول عثمان إن في القرآن لحنا إلخ فهو مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا اللحن في الكلام فضلا عن القرآن وهم هم ثم كيف يظن بهم ثانيا اجتماعهم على الخطأ وكتابته ثم كيف يظن بهم ثالثا عدم التنبه والرجوع ثم كيف يظن بعثمان عدم تغييره وكيف يتركه لتقيمه العرب وإذا كان الذين تولوا جمعه لم يقيموه وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم فلعمري إن هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة.
فالحق إن ذلك لا يصح عن عثمان والخبر ضعيف مضطرب منقطع. وقد أجابوا عنه بأجوبة لا أراها تقابل مؤنة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 32
نقلها والذي أراه أن رواة هذا الخبر سمعوا شيئا ولم يتقنوه فحرفوه فلزم الإشكال وحل الداء العضال وهو ما روي بالسند عن عبد اللّه بن عبد الأعلى قال : لما فرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه فقال أحسنتم وأجملتم أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا ، وهذا لا إشكال فيه لأنه عرض عليه عقيب الفراغ من كتابته فرأى فيه ما كتب على غير لسان قريش ثم وفى بذلك عند العرض والتقويم ولم يترك فيه شيئا ولا أحسبك في مرية من ذلك. نعم يبقى ما روي بسند صحيح على شرط الشيخين عن هشام بن عروة عن أبيه قال سألت عائشة رضي اللّه تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى :
إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه : 63] وعن قوله : وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء : 162] وعن قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة : 69]؟ فقالت يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطؤوا في الكتاب ، وكذا ما روي عن سعيد بن جبير كان يقرأ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ويقول هو لحن من الكاتب ويجاب عن الأول بأن معنى قولها أخطؤوا أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوه من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز مردود وإن طالت مدة وقوعه ، وهذا الذي رأته عائشة وكم لها من رأي رضي اللّه تعالى عنها. وعن الثاني بأن معنى قوله لحن من الكاتب لغة وقراءة له وفي الآية قراءة أخرى وللنحويين في توجيه هذه القراءات كلام طويل ستسمعه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى. وأما الوجه الثاني «فلأن من ذهب» إلى أن وجه الإعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد يقول القرآن بجملته معجز. لذلك فسلامة كثير من الخطب والشعر من ذلك وظهور ذلك كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار لا يضره شيئا كما لا يخفى فتدبر.
وقد أطال العلماء الكلام على وجه إعجاز القرآن وأتوا بوجوه شتى الكثير منها خواصه وفضائله مثل الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأنه لا يمله تاليه بل يزداد حبا له بالترديد مع أن الكلام يعادي إذا أعيد وكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل اللّه تعالى بحفظه والذي يخطر بقلب هذا الفقير أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى وقد يظهر كلها في آية وقد يستتر البعض كالإخبار عن الغيب ولا ضير ولا عيب فما يبقى كاف وفي الغرض واف.
نجوم سماء كلما انقضّ كوكب بدا كوكب تأوي إليه كواكب
أما بيان كون النظم معجزا فلأن مراتب تأليف الكلام على ما قيل خمس «الأولى» ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض فتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف «والثانية» تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض فتحصل الجمل المفيدة وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعا في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ويقال له : المنثور «والثالثة» ضم ذلك إلى بعض ضما له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج ويقال له المنظوم «والرابعة» أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له المسجع «والخامسة» أن يحصل له مع ذلك وزن ويقال له إن قصد الشعر والمنظوم إما محاورة ويقال له الخطابة وإما مكاتبة ويقال له الرسالة فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ولكل من ذلك نظم مخصوص والقرآن جامع لمحاسن الجميع بنظم مكتس أبهى حلل ، ومتعر عن كل خلل ، ومشتمل على خواص ما شامها سواه ، ومزايا ما سامها عند أهل النقد نظم إلا إياه.
من كل لفظ تكاد الأذن تجعله ربا ويعبده القرطاس والقلم
ويؤيد ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو سجع كما يصح أن يقال هو كلام ، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم بلا ترديد وهذا مما لا خفاء فيه على الرجال حتى على الوليد ، وأما بيان ذلك في البلاغة فهو أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في البيان متفاوتة ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 33
السهل ، ومنها الجاري الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها وقد حازت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الأقسام أوفر حصة وأخذت من كل نوع أعظم شعبة فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما كالمتضادين فكان اجتماع الأمرين فيه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة ومنزلة جليلة وقد خص بذلك القرآن كما لا يخفى «1» على ذوي الفطر السليمة ومن كان له في علم البلاغة إتقان.
وأما بيان إعجاز اشتماله على الإخبار بالغيب فلأنه تضمن ما يحكم العرف بكثرته من أخبار القرون الماضية والأمم البادية والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك وتتبعه فيورده القرآن على وجهه ويأتي به على نصه ، ومن المعلوم أن من أتى به أمي لا يقرأ ولا يكتب صلى اللّه تعالى عليه وسلم مع الإعلام بما في ضمائر كثيرين من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله تعالى : إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران : 122] وقوله تعالى : وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [المجادلة : 8] والإعلان بالحوادث المستقبلة في الأعصار الآتية كقوله تعالى : الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم : 1 - 4] وأخبار أقوام في قضايا أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا كقوله تعالى خطابا لليهود فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة : 94] فما تمناه أحد منهم إلى أضعاف مضاعفة من مثل ذلك قد اشتمل القرآن عليها واختص من بين الكتب بها حتى أن أقصر سورة فيه وهي الكوثر تشير إلى أربعة أخبار عن الغيب مع أنها ثلاث آيات «الأول» في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر :
1] إذا أريد به كما في بعض الروايات كثرة الأتباع «والثاني» في قوله «وانحر» حيث أريد به كما هو الظاهر الأمر بالنحر فهو إشارة إلى اليسار حتى يمكنه الإقدام عليه «والثالث والرابع» في قوله تعالى : إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر :
3] حيث صرح ورمز بأن شانئك لا أنت أبتر لا عقب له فكان كما أخبر ولا شك عند كل عاقل أن مجموع ما ذكرنا يعجز عنه البشر وأما إعجاز موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى فلأنه اشتمل على توحيد اللّه تعالى وتنزيهه والدعاء إلى طاعته وبيان طرق عبادته من تحليل وتحريم ووعظ وتعليم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإشارة إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى أولى منه ولا أليق ولا يتصور أحرى من ذاك ولا أخلق جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وامتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه مع إشارة أنيقة ورموز دقيقة وأسرار جزيلة وحكم جليلة ستقف إن شاء اللّه تعالى على الكثير منها بحيث لا تبقى في شك من رد من يقول بأن ذلك معتاد في أكثر كلام البلغاء وأنه ينتقض بالتوراة والإنجيل وبكلام الرسول الغير المعجز فأين الثريا من يد المتناول.
وما كل مخضوب البنان بثينة ولا كل مصقول الحديد يماني
فهذه الأوجه الأربعة هي الظاهرة في وجه إعجاز القرآن والمشهور عند الجمهور الاقتصار على بلاغته وفصاحته حيث بلغت الرتبة العليا والغاية القصوى التي لم تكد تخفى على أهل هذا الشأن حتى النساء كما يحكى أن الأصمعي وقف متعجبا من امرأة تنشد شعرا فقالت أتعجب من هذا أين أنت من قوله تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص : 7]؟ فقد
___________
(1) وقال السكاكي اعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن والملاحظة وطيب النغم ولا يدرك تفصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علم المعاني والبيان والتمرن فيهما فليفهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 34
جمع أمرين ونهيين وبشارتين أي مع ما فيه مما يدرك بالذوق وبعضهم جعل المدار النظم المخصوص والباقي تابع له قائلا إن الإعجاز المتعلق بالفصاحة والبلاغة لا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى فإن الألفاظ ألفاظهم كما قال تعالى قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف : 3 ، يوسف : 2 ، طه : 113 ، الزمر : 28 ، فصلت : 3 ، الشورى : 7] بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ [الشعراء : 195] ولا بمعانيه فإن كثيرا منها موجود في الكتب المتقدمة كما قال تعالى : وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء : 196] وما فيه من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد والإخبار بالغيب فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن بل لكونه حاصلا من غير سبق تعليم وتعلم ولكون الإخبار بالغيب إخبارا بما لا يعتاد سواء كان بهذا النظم أو بغيره موردا بالعربية أو بلغة أخرى بعبارة أو إشارة ، فإذا هو متعلق بالنظم المخصوص الذي هو صورة القرآن وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره كالخاتم والقرط والسوار إذا كان الكل من ذهب مثلا فإن الاسم مختلف والعنصر واحد وكالخاتم المتخذ من ذهب وفضة وحديد يسمى خاتما والعنصر مختلف فظهر أن الإعجاز المختص بالقرآن متعلق بنظمه المخصوص وإعجاز نظمه قد سلف بيانه وأنت تعلم ما فيه وإن كان قريبا إلى الحق ، وأبعد الأقوال عندي كونه بالصرفة المحضة حتى أن قول المرتضى فيها غير مرتضى كما لا يخفى على من أنصفه ذهنه واتسع عطنه ، وأبعد من ذلك كونه بالقدم كما هو قريب ممن هو حديث عهد بما تقدم - وسيأتي إن شاء اللّه تعالى - تتمة لهذا الكلام من بيان اختلاف الناس أيضا في تفاوت مراتب الفصاحة والبلاغة في آياته ويتضح لك ما هو الحق الحقيق بالقبول واللّه تعالى المبتغى والمسئول ، ولنقتصر من الفوائد على هذا المقدار وفي السبعة ما لا يحصى من الأسرار ، وهذا أوان تقبيل شفاه الأقلام ،
حروف سبحان كلام اللّه تعالى العلام.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 35
سورة الفاتحة
اختلف فيها ، فالأكثرون على أنها مكية بل من أوائل ما نزل من القرآن على قول «1» وهو المروي عن علي وابن عباس وقتادة وأكثر الصحابة وعن مجاهد أنها مدنية «2» وقد تفرد بذلك حتى عد هفوة منه ، وقيل : نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة لما حولت القبلة ليعلم أنها في الصلاة كما كانت وقيل بعضها مكي وبعضها مدني ولا يخفى ضعفه ، وقد لهج الناس بالاستدلال على مكيتها بآية الحجر وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر : 87] وهي مكية لنص العلماء والرواية عن ابن عباس ولها حكم مرفوع لا لأن ما قبلها وما بعدها في حق أهل مكة كما قيل لأنه مبني على أن المكي ما كان في حق أهل مكة والمشهور خلافه ، والأقوى الاستدلال بالنقل عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي والتنزيل لأن ذلك موقوف أولا على تفسير السبع المثاني بالفاتحة وهو وإن كان صحيحا ثابتا في الأحاديث «3» إلا أنه قد صح أيضا عن ابن عباس وغيره تفسيرها بالسبع الطوال ، وثانيا على امتناع الامتنان بالشيء قبل إيتائه مع أن اللّه تعالى قد امتن عليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بأمور قبل إيتائه إياها كقوله تعالى : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح : 1] فهو قبل الفتح بسنين والتعبير بالماضي تحقيق للوقوع وهذا وإن كان خلاف الظاهر لا سيما مع إيراد اللام وكلمة «قد» ووروده في معرض المنة والغالب فيها سبق الوقوع وعطف وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ [الحجر : 88 ، طه : 131] الآية إلا أنه قد خدش الدليل ، لا يقال : إن هذا وذلك لا يدلان إلا على أنها نزلت بمكة ، وأما على نفي نزولها بالمدينة أيضا فلا لأنا نقول : النفي هو الأصل وعلى مدعي الإثبات الإثبات وأنى به وما قالوا في الجواب عن الاعتراض بأن النزول
ظهور من عالم الغيب إلى الشهادة والظهور بها لا يقبل التكرر فإن ظهور الظاهر ظاهر البطلان كتحصيل الحاصل من دعوى أنه كان في كل لفائدة أو أنه على حرف مرة وآخر أخرى لورود مالك وملك أو ببسملة تارة وتارة بدونها وبه تجمع المذاهب والروايات مصحح للوقوع لا موجب له كما لا يخفى ، والسورة مهموزة وغير مهموزة بإبدال إن كانت من السور وهو البقية لأن بقية كل شيء بعضه وبدونه إن كانت من
___________
(1)
فقد روينا عن أبي ميسرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا برز سمع مناديا يناديه يا محمد فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فقال له ورقة بن نوفل إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك قال فلما برز سمع النداء : يا محمد قال لبيك قال قل أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه ثم قال : (الحمد للّه رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) حتى فرغ من فاتحة القرآن
ولو لا صحة الأخبار على غير هذا النحو كان هذا الخبر أقوى دليل على مكيتها فافهم ا ه.
(2) ويلزم منه أنه صلّى اللّه عليه وسلم صلى بضع عشرة سنة بلا فاتحة وهي خاتمة في البعد ا ه منه.
(3)
فقد روينا عن أبي هريرة قال «إن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل اللّه في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 36
سور البناء وهي المنزلة أو سور المدينة لإحاطتها «1» بآياتها ، أو من التسور وهو العلو والارتفاع لارتفاعها بكونها كلام اللّه تعالى وتطلق على المنزلة الرفيعة كما في قول النابغة :
ألم تر أن اللّه أعطاك سورة ترى كل ملك حولها يتذبذب
وحدها قرآن يشتمل على ذي فاتحة وخاتمة. وقيل طائفة أي قطعة مستقلة لتخرج آية الكرسي مترجمة توقيفا وقد ثبتت أسماء الجميع بالأحاديث والآثار فمن قال بكراهة أن يقال سورة كذا بل سورة يذكر فيها كذا بناء على ما روي عن أنس وابن عمر من النهي عن ذلك لا يعتد به إذ حديث أنس ضعيف أو موضوع وحديث ابن عمر موقوف عليه وإن روي عنه بسند صحيح «والفاتحة» في الأصل صفة جعلت اسما لأول الشيء لكونه واسطة في فتح الكل والتاء للنقل أو المبالغة ولا اختصاص لها بزنة علامة أو مصدر أطلقت على الأول «2» تسمية للمفعول بالمصدر إشعارا بأصالته كأنه نفس الفتح إذ تعلقه به أولا ثم بواسطته يتعلق بالمجموع لكونه جزءا منه ، وكذا يقال في الخاتمة فإن بلوغ الآخر يعرض الآخر أولا والكل بواسطته وليس هذا كالأول لقلة فاعلة في المصادر إلا أنه أولى من كونه للآلة أو باعثا لأن هذه ملتبسة بالفعل ومقارنة له ، والغالب أن لا تتصف الآلة ولا يقارن الباعث على أن الآلة هنا غير مناسبة لإيهام أن يكون البعض غير مقصود وجوزوا أن يكون للنسبة أي ذات فتح مع وجوه أخر مرجوحة «والكتاب» هو المجموع الشخصي وفتح الفاتحة بالقياس إليه لا إلى القدر المشترك بينه وبين أجزائه وهو متحقق في العلم أو اللوح أو بيت العزة فلا ضير في اشتهار السورة بهذا الاسم في الأوائل ، والإضافة الأولى من إضافة الاسم إلى المسمى وهي مشهورة ، والثانية بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى من كما في خاتم فضة لأن المضاف جزء لا جزئي قاله شيخ الإسلام «3» وهو مذهب بعض في كل ، وقال ابن كيسان والسيرافي وجمع إضافة الجزء على معنى «من» التبعيضية بل في اللمع وشرحه إن من المقدرة في الإضافة مطلقا كذلك من غير فرق بين الجزء والجزئي ، وبعضهم جعل الإضافة في الجزئي بيانية مطلقا وبعضهم خصها بالعموم والخصوص الوجهي كما في المثال وجعلها في المطلق كمدينة بغداد لامية والشهرة لا تساعده.
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 إلى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
ولهذه السورة الكريمة أسماء أوصلها البعض إلى نيف وعشرين «أحدها» فاتحة الكتاب لأنها مبدؤه على الترتيب المعهود لا لأنها يفتتح بها في التعليم وفي القراءة في الصلاة كما زعمه الإمام السيوطي ولا لأنها أول سورة نزلت كما قيل. أما الأول والثالث فلأن المبدئية من حيث التعليم أو النزول تستدعي مراعاة الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من
___________
(1) ومنه السوار لإحاطته بالساعد ا ه منه. [.....]
(2) المراد بالأول ما يعم الاضافي فلا حاجة إلى الاعتذار بأن اطلاق الفاتحة على السورة باعتبار جزئها الأول ا ه منه.
(3) هو ابو السعود صاحب التفسير ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 37
تينك الحيثيتين ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والنزولي ليسا كالترتيب المعهود ، وأما الثاني فلما عرفت أن ليس المراد بالكتاب القدر المشترك الصادق على ما يقرأ في الصلاة حتى يعتبر في التسمية مبدئيتها له. وحكى المرسي أنها سميت بذلك لأنها أول سورة كتبت في اللوح «1» ويحتاج إلى نقل وإن صححنا أن ترتيب القرآن الذي في مصاحفنا كما في اللوح فلربما كتب التالي ثم كتب المتلو وغلبة الظن أمر آخر «وثانيها» فاتحة القرآن لما قدمنا حذو القذة بالقذة «وثالثها ورابعها» أم الكتاب وأم القرآن وحديث «2»
«لا يقولن أحد كم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب»
لا أصل له بل قد ثبت في الصحاح «3» تسميتها به كما لا يخفى على المتتبع ، وسميت بذلك لأن الابتداء كتابة أو تلاوة أو نزولا على قول أو صلاة بها وما بعدها تال لها فهي كالأم التي يتكون الولد بعدها ، ويقال أيضا للراية أم لتقدمها واتباع الجيش لها ومنه أم القرى أو لاشتمالها - كما قال العلامة - على مقاصد المعاني التي في القرآن من الثناء على اللّه تعالى بما هو أهله ومن التعبد بالأمر والنهي ومن الوعد والوعيد ، أما الثناء فظاهر ، وأما التعبد فأما من الحمد للّه لأنه للتعليم فيقدر أمر يفيده والأمر الإيجابي يلزمه النهي عن الضد في الجملة ولا نرى «4» فيه بأسا أو من اهدنا الصراط المستقيم إن أريد به ملة الإسلام أو من تقدير قولوا بسم اللّه ومن تأخير متعلقه ، وإما من إياك نعبد فإنه إخبار عن تخصيصه بالعبادة وهي التحقق بالعبودية بارتسام ما أمر السيد أو نهى فيدل في الجملة على أنهم متعبدون ، ولا يرد على المعتزلة عدم سبق أمر ونهي أصلا ، ويجاب عندنا بعد تسليم العدم للأولية بأن رأس العبادة التوحيد وفي الصدر ما يرشد إليه «5» لا سيما وقد سبق تكليفه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بالتوحيد وتبليغ السورة وذلك يكفي ، وأما الوعد والوعيد فمن قوله تعالى : أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أو من يوم الدين أي الجزاء ، والمجزي أما ما يسر أو ما يضر وهما الثواب والعقاب وإنما كانت المقاصد هذه لأن بعثة الرسل وإنزال الكتب رحمة للعباد وإرشادا إلى ما يصلحهم معاشا ومعادا وذلك بمعرفة من يقدر على إيصال النعم إيجادا وإمدادا ، ثم التوصل إليه بما يربط العتيد ، ويجلب المزيد عملا واعتقادا والتنصل عما يفضي به إلى رجع المحصل ومنع المستحصل قلوبا وأجسادا والثناء فرع معرفة المثني عليه مع الاستحقاق وتدخل المعرفة بصفات الجلال والجمال ، ومنها ما منه «6» الإرسال والإنزال والتفاوت بين المطيع والمذنب فدخل الإيمان باللّه تعالى وصفاته والنبوات والمعاد على الإجمال ، والتعبد يتمكن به من التوصل والتنصل ويدخل فيه من وجه الإيمان بالنبوات وما يتعلق بها من الكتاب والملائكة إذ الأمر والنهي فرع ثبوت ذلك في الجملة ، والوعد والوعيد يتضمنان الإيمان بالمعاد ، ويبعثان على التعبد ، والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة والأكثرون بعثتهم الرغبة والرهبة ، وأوسطهم الرجاء والخوف. والخواص - وقليل ما هم - الأنس والهيبة فبالثلاثة تم الإرشاد إلى مصالح المعاش والمعاد ولا أحصر لك وجه الحصر بهذا فلمسلك الذهن اتساع ولك أن ترد الثلاثة إلى اثنين فتدرج الثناء في التعبد إذ لا حكم للعقل ولعله إنما جعله قسيما له تلميحا إلى أن شكر المنعم واجب عقلا مراعاة لمذهب الاعتزال ولم يبال البيضاوي
___________
(1) وقيل في التعليل لأنها فاتحة كل كتاب ورد بأن ذلك الحمد لا الكل وبأن الظاهر أن المراد بالكتاب القرآن لا جنسه ا ه منه.
(2) وبه أخذ الحسن البصري ا ه منه.
(3) أخرج الدارقطني وصححه من
حديث أبي هريرة مرفوعا «إذ قرأتم الحمد فاقرؤوابسم اللّه الرحمن الرحيم
إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني»
ا ه منه.
(4) أي معاشر أهل السنة أما المعتزلة فليس الأمر بالشيء نهيا عن ضده عندهم فحينئذ لا يتأتى ذلك ا ه منه.
(5) وهو إجراء الأوصاف وقد يوجد منه التعبد ابتداء ا ه منه.
(6) كالقدرة والرحمة والحكمة ا ه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 38
بذلك فعبر بما عبر به من المقال. أو لاشتمالها على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء ، والأول مستفاد من أول السورة إلى قوله يَوْمِ الدِّينِ والثاني من قوله إِيَّاكَ نعبد وما بعده وسلوك الصراط المستقيم من قوله اهْدِنَا الآية والاطلاع من قوله أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إلخ وفيه وعد ووعيد فدخلا فيه والأمثال والقصص المقصود بها الاتعاظ وكذا الدعاء والثناء ، وهذه جملة المعاني القرآنية إجمالا مطابقة والتزاما وأبسط من هذا أن يقال : إنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين «الأول» علم الأصول ومعاقده معرفة اللّه تعالى وصفاته وإليها الإشارة بقوله رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ومعرفة النبوات وهي المرادة بقوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والمعاد المؤمى إليه بقوله تعالى : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «الثاني» علم الفروع وأسه العبادات وهو المراد بقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وهي بدنية ومالية وهما مفتقران إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات ولا بد لها من الحكومات فتمهدت الفروع على الأصول.
«الثالث» علم ما به يحصل الكمال وهو علم الأخلاق وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والسلوك لطريقة الاستقامة في منازل هاتيك الرتب العلية وإليه الإشارة بقوله إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «الرابع» علم القصص والإخبار عن الأمم السالفة السعداء والأشقياء وما يتصل بها من الوعد والوعيد وهو المراد بقوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ وإذا انبسط ذهنك أتيت بأبسط من ذلك ، وهذان الوجهان يستدعيان حمل الكتاب على المعاني أو تقديرها في التركيب الإضافي ، والوجه الأول لا يقتضيه ومن هذا رجحه البعض وإن كان أدق وأحلى لا لأنه يشكل عليهما ما
ورد من أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن
إذ يزيله إذا ثبت أن الإجمال لا يساوي التفصيل فزيادة مبانيه منزلة منزلة ثلث آخر من الثواب قاله الشهاب ثم قال : ومن العجب ما قيل هنا من أن ذلك لاشتمالها على دلالة التضمن والالتزام وهما ثلثا الدلالات انتهى. وأنا أقول الأعجب من هذا توجيهه رحمه اللّه مع ما رواه الديلمي في الفردوس عن أبي الدرداء فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزىء شيء من القرآن ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات فإنه لا يتبادر منه إلا الفضل في الثواب فيعارض ظاهره ذلك الخبر على توجيهه وعلى توجيه صاحب القيل لا تعارض. نعم إنه بعيد ويمكن التوفيق بين الخبرين وبه يزول الإشكال بأن الأول كان أولا وتضاعف الثواب ثانيا ولا حجر على الرحمة الواسعة أو بأن اختلاف المقال لاختلاف الحال أو بأن ما يعدل الشيء كله يعدل ثلثيه أو بأن القرآن في أحد الخبرين أو فيهما بمعنى الصلاة مثله في قوله تعالى : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء : 78] وذلك يختلف باختلاف مراتب الناس في قراءتهم وصلواتهم فليتدبر ، وعلى العلات لا يقاسان بما قيل في وجه التسمية بذلك لأنها أفضل السور أو لأن حرمتها كحرمة القرآن كله أو لأن مفزع أهل الإيمان إليها أو لأنها محكمة والمحكمات أم الكتاب ولا أعترض على البعض بعدم الاطراد لأن وجه التسمية لا يجب اطراده ولكني أفوض الأمر إليك وسلام اللّه تعالى عليك «لا يقال» إذا كانت الفاتحة جامعة لمعاني الكتاب فلم سقط منها سبعة أحرف الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء؟
لأنا نقول لعل ذلك للإشارة إلى أن الكمال المعنوي لا يلزمه الكمال الصوري ولا ينقصه نقصانه إن اللّه تعالى لا ينظر إلى صوركم وكانت سبعة موافقة لعدد الآي المشتمل على الكثير من الأسرار وكانت من الحروف الظلمانية التي لم توجد في المتشابه من أوائل السور ويجمعها بعد إسقاط المكرر - صراط على حق نمسكه - وهي النورانية المشتملة عليها بأسرها الفاتحة للإشارة إلى غلبة الجمال على الجلال المشعر بها تكرر ما يدل على الرحمة في الفاتحة وإنما لم يسقط السبعة الباقية من هذا النوع فتخلص النورانية ليعلم أن الأمر مشوب فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 39
[الأعراف : 99] وفي قوله تعالى : نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر : 49] إشارة وأي إشارة إلى ذلك لمن تأمل حال الجملتين على أن في كون النورانية - وهي أربعة عشر حرفا - مذكورة بتمامها والظلمانية مذكورة منها سبعة وإذا طوبقت الآحاد بالآحاد يحصل نوراني معه ظلماني ونوراني خالص إشارة إلى قسمي المؤمنين فمؤمن لم تشب نور إيمانه ظلمة معاصيه ومؤمن قد شابه ذلك ، وفيه رمز إلى أنه لا منافاة بين الإيمان والمعصية فلا تطفئ ظلمتها نوره
«ولا يزني الزاني وهو مؤمن»
محمول على الكمال وليس البحث لهذا وإذا لوحظ الساقط وهو الظلماني المحض المشير إلى الظالم المحض الساقط عن درجة الاعتبار والمذكور وهو النوراني المحض المشير إلى المؤمن المحض والنوراني المشوب المشير إلى المؤمن المشوب يظهر سر التثليث في فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر : 32] وإنما كان الساقط هذه السبعة بخصوصها من تلك الأربعة عشر ولم يعكس فيسقط المثبت ويثبت الساقط أو يسقط سبعة تؤخذ من هذا وهذا لسر علمه من علمه وجهله من جهله ، نعم في كون الساقط معجما فقط إشارة إلى أن الغين في العين ، والرين في البين ، فلهذا وقع الحجاب ، وحصل الارتياب ، وهذا ما يلوح لأمثالنا من أسرار كتاب اللّه تعالى وأين هو مما يظهر للعارفين الغارفين من بحاره ، المتضلعين من ماء زمزم أسراره «1».
ولمولانا العلامة فخر الدين الرازي في هذا المقام كلام ليس له في التحقيق أدنى إلمام حيث جعل سبب إسقاط هذه الحروف أنها مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الثبور والجيم أول حرف من جهنم والخاء يشعر بالخزي والزاي والشين من الزفير والشهيق ، وأيضا الزاي تدل على الزقوم والشين تدل على الشقاء والظاء أول الظل في قوله تعالى : انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات : 30] ، وأيضا تدل على لظى والفاء على الفراق ، ثم قال فإن قالوا : لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في اسم شيء يوجب نوعا من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة فتقول الفائدة فيه أنه قال في صفة جهنم لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر : 44] ثم إنه تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب تنبيها على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمنا من الدركات السبع في جهنم انتهى ، ولا يخفى ما فيه وجوابه لا ينفعه ولا يغنيه إذ لقائل أن يقول فلتسقط الذال والواو ، والنون والحاء والعين والميم والغين إذ الواو من الويل والذال من الذلة والنون من النار والحاء من الحميم والعين من العذاب والميم من المهاد والغين من الغواشي والآيات ظاهرة والكل في أهل النار وتكون الفائدة في إسقاطها كالفائدة في إسقاط تلك من غير فرق أصلا على أن في كلامه رحمه اللّه تعالى غير ذلك بل ومع تسليم
___________
(1) اعلم أن ما ذكره المفسر رحمه اللّه تعالى ونقله عن بعض مفسري الصوفية في المعاني التي تستنبط من الحروف بطريق الرمز والإشارة لا يدل عليه كتاب ولا سنة صحيحة وليست هذه المعاني من مدلولات الكلمات لغة ولا سياقا ولا يخفى على أهل العلم بالشريعة الاسلامية والسنة النبوية ان مدلولات الكلمات القرآنية ، والألفاظ المصطفوية هو ما دل عليه اللفظ لغة منطوقا أو مفهوما أو سياقا حقيقة أو مجازا بحسب القرائن وباعتبار النزول وسببه وما ورد فيه عن الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار ونصون كلام صاحب الشريعة عن تأويل أو تصحيف أو تحريف ولو كان قائل ذلك أيّا كان من العلماء ونضرب على يد من يتجرأ على مثل ذلك بسوط من حديد وعلى لسانه بمقارض من نار فإن القرآن أنزل لهداية الأمة وبيان طريق سعادتها دنيا وأخرى والعمل بما دل عليه لفظه المنزل به وقد أخبر اللّه تعالى أنه أنزل بلسان عربي مبين فلا تغتر بما سطره المفسر هنا أو ما سيأتي من الإشارات إلى مدلولات ما جاء بها اثر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ولا عن الصحابة الذين هم هداة الامة من بعده صلّى اللّه عليه وسلم وليسعنا ما وسعهم من العلم النافع والعمل المثمر ونسأل اللّه توفيق الأمة للعمل بما جاء به كتابنا المعصوم وسنة نبينا التي ليلها كنهارها سواء ا ه مصححه منير.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 40
سلامته مما قيل أو يقال لا أرتضيه للفخر وهو السيد الذي غدا سعد الملة وحجة الإسلام وناصرا أهله ، وأما نسبته لأمير المؤمنين علي كرم اللّه تعالى وجهه حين سأل قيصر الروم معاوية عن ذلك فلم يجب فسأل عليا فأجاب فلا أصل له وعلى تقدير التسليم فما مرام الأمير بالاكتفاء على هذا المقدار إلا التنبيه للسائل والمسئول على ما لا يخفى عليك من الأسرار فافهم ذاك واللّه تعالى يتولى هداك «وخامسها وسادسها وسابعها» الكنز والوافية والكافية لما مر من اشتمالها على الجواهر المكنوزة فتفي وتكفي أو لأنها لا تنصف في الصلاة ولا يكفي فيها غيرها «وثامنها الأساس» لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه «وتاسعها وعاشرها والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر» سورة الحمد وسورة الشكر وسورة الدعاء وسورة تعليم المسألة وسورة السؤال لاشتمالها على ذلك ، أما اشتمالها على الحمد فظاهر وكذا على الشكر لدى من أنعم اللّه تعالى عليه بالفهم ويمكن أن يكون الاسمان كأم القرآن وأم الكتاب.
وأما الاشتمال على الثالث فكالاشتمال على الأول بل أظهر ، وأما تعليم المسألة فلأنها بدئت بالثناء قبله والخامس كالثالث وهما كذينك الثالث والرابع كما لا يخفى «والرابع عشر والخامس عشر» سورة المناجاة وسورة التفويض لأن العبد يناجي ربه بقوله إياك نعبد وإياك نستعين» وبالثاني يحصل التفويض «والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر» الرقية والشفاء والشافية والأحاديث الصحيحة مشعرة بذلك «والتاسع عشر» سورة الصلاة لأنها واجبة أو فريضة فيها والاستحباب مذهب بعض المجتهدين ورواية عن البعض في النفل ، قيل ومن أسمائها الصلاة
لحديث «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين»
وأراد السورة والمجاز اللغوي لعلاقة الكلية والجزئية أو اللزوم حقيقة أو حكما كالمجاز في الحذف محتمل «والعشرون» النور لظهورها بكثرة استعمالها أو لتنويرها القلوب لجلالة قدرها أو لأنها لما اشتملت عليه من المعاني عبارة عن النور بمعنى القرآن «والحادي والعشرون» القرآن العظيم وهو ظاهر مما قدمناه «والثاني والعشرون» السبع المثاني لأنها سبع آيات «1» باتفاق وما رأينا مشاركا لها سوى أَرَأَيْتَ [الماعون :
1] والقول بأنها ثمان كالقول بأنها تسع شاذ لا يعبأ به أو وهم من الراوي إلا أن منهم من عد التسمية آية دون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ومنهم من عكس والمدار الرواية فلا يوهن الثاني أن وزان الآية لا يناسب وزان فواصل السور على أن في سورة النصر ما هو من هذا الباب ، وتثني وتكرر في كل ركعة وصلاة ذات ركوع أو المراد المتعارف الأغلب من الصلاة فلا ترد الركعة الواحدة ولا صلاة الجنازة على أن في البتيراء اختلافا وصلاة الجنازة دعاء لا صلاة حقيقة وقيل وصفت بذلك لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنها نزلت مرتين أو لأنها على قسمين دعاء وثناء أو لأنها كلما قرأ العبد منها آية ثناه اللّه تعالى بالأخبار عن فعله كما في الحديث المشهور. وقيل غير ذلك ، وهذه الأقوال مبنية على أن تكون المثاني من التثنية ويحتمل أن تكون من الثناء لما فيها من الثناء على اللّه تعالى أو لما ورد من الثناء على من يتلوها وأن تكون من الثنيا لأن اللّه تعالى استثناها لهذه الأمة ، والحمد للّه على هذه النعمة ، ثم الحكمة في تسوير القرآن سورا كالكتب خلافا للزركشي أن يكون أنشط للقارىء وأبعث على التحصيل كالمسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفس ذلك منه ونشط للمسير وإذا أخذ الحافظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب اللّه تعالى طائفة مستقلة فيعظم عنده ما حفظ ، وأيضا الجنس إذا انطوى تحته أنواع وأصناف كان أحسن من أن يكون تحته باب واحد مع أن في ذلك تحقيق كون السورة بمجردها معجزة وآية من آيات اللّه تعالى والحكمة في كونها طوالا وقصارا أظهر من أن تخفى.
___________
(1) والقول بأنها سبع لأن فيها آداب في كل آية أدب بعيد وأبعد منه أنها سميت السبع لأنها خلت عن سبعة أحرف التاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والهاء والفاء وذلك لأن الشيء على المشهور يسمى بما وجد فيه لا بما فقد منه ا ه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 41
بسم اللّه الرحمن الرحيم
فيها أبحاث «البحث الأول» اختلف العلماء فيها هل هي من خواص هذه الأمة أم لا؟ فنقل العلامة أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن اللّه تعالى افتتح كل كتاب بها وروى السيوطي فيما نقله عنه السرميني والعهدة عليه
بسم اللّه الرحمن الرحيم
فاتحة كل كتاب ، وذهب هذا الراوي إلى أن البسملة من الخصوصيات لما
روي أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يكتب «1» باسمك اللهم إلى أن نزل بسم اللّه مجراها فأمر بكتابة بسم اللّه حتى نزل قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء : 110] فأمر بكتابةبسم اللّه الرحمن الرحيم
إلى أن نزلت آية النمل فأمر بكتابةبسم اللّه الرحمن الرحيم
،
ولما اشتهر أن معاني الكتب في القرآن ومعانيه في الفاتحة ومعانيها في البسملة ومعاني البسملة في الباء فلو كانت في الكتب القديمة لأمر من أول الأمر بكتابتها ولكانت معاني القرآن في كل كتاب واللازم منتف فكذا الملزوم ، وفيه أن الأمر بذلك التفصيل لا يستلزم النفي لاحتمال نفي العلم إذ ذاك ولا ضير وأن المختص بالقرآن اللفظ العربي بهذا الترتيب والكتب السماوية بأسرها خلافا للغيطي غير عربية وما في القرآن منها مترجم فلربما لهذه الألفاظ مدخل في الاشتمال على جميع المعاني فلا تكون في غير القرآن كما توهمه السرميني وإن كان هناك بسملة على أن في أول الدليلين بظاهره دليلا على عدم الخصوصية «البحث الثاني» وهو من أمهات المسائل حتى أفرده جمع «2» بالتصنيف اختلف الناس في البسملة في غير النمل إذ هي فيها بعض آية بالاتفاق على عشرة أقوال «الأول» أنها ليست آية من السور أصلا «الثاني» أنها آية من جميعها غير براءة «الثالث» أنها آية من الفاتحة دون غيرها «الرابع» أنها بعض آية منها فقط «الخامس» أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا للفصل بينها «السادس» أنه يجوز جعلها آية منها وغير آية لتكرر نزولها بالوصفين «السابع» أنها بعض آية من جميع السور «الثامن» أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور «التاسع» عكسه «العاشر» أنها آيات فذة وإن أنزلت مرارا «3» فابن عباس وابن المبارك وأهل مكة كابن كثير وأهل الكوفة كعاصم والكسائي وغيرهما سوى حمزة «4» وغالب أصحاب الشافعي والإمامية على الثاني ، وقال بعض الشافعية وحمزة ونسب للإمام أحمد بالثالث وأهل المدينة ومنهم مالك ، والشام ومنهم الأوزاعي والبصرة ومنهم أبو عمرو ويعقوب على الخامس وهو المشهور من مذهبنا وعلى المرء نصرة مذهبه والذب عنه وذلك بإقامة الحجج
___________
(1) أي يأمر ا ه منه.
(2) كالإمام أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح والحافظ أبي بكر الخطيب وابن عبد اللّه وغيرهم ا ه منه (و انظر كتاب التوحيد له).
(3) عبارة الشهاب (العاشر) آية فذة إلخ فليتأمل.
(4) فيه رد على البيضاوي ا ه. [.....]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 42
على إثباته وتوهين أدلة نفاته وكنت من قبل أعد السادة الشافعية لي غزية ولا أعد نفسي إلا منها ، وقد ملكت فؤادي غرة أقوالهم كما ملكت فؤاد قيس ليلى العامرية فحيث لاحت لا متقدم ولا متأخر لي عنها.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
إلى أن كان ما كان فصرت مشغولا بأقوال السادة الحنفية ، وأقمت منها برياض شقائق النعمان واستولى عليّ من حبها ما جعلني أترنم بقول القائل :
محا حبها حب الأولى كنّ قبلها وحلت مكانا لم يكن حلّ من قبل
وقد أطال الفخر في هذا المقام المقال وأورد ست عشرة حجة لإثبات أنها آية من الفاتحة كما هو نص كلامه ولا عبرة بالترجمة فها أنا بتوفيق اللّه تعالى راده ولا فخر وناصر مذهبي بتأييد اللّه تعالى ومنه التأييد والنصر «1» فأقول قال «الحجة الأولى»
روى الشافعي عن ابن جريج عن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت : «قرأ رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد
بسم اللّه الرحمن الرحيم
آية الحمد للّه رب العالمين آية الرحمن الرحيم آية مالك يوم الدين آية إياك نعبد وإياك نستعين آية اهدنا الصراط المستقيم آية صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية»
وهذا نص صريح «الحجة الثانية»
روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم اللّه الرحمن الرحيم».
«الحجة الثالثة»
روى الثعلبي بإسناده عن أبي بردة عن أبيه قال «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ فقلت بلى قال : بأي شيء تستفتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ فقلتبسم اللّه الرحمن الرحيم
قال هي هي»
«الحجة الرابعة»
روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللّه «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال له كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ قال أقول الحمد للّه رب العالمين قال قل بسم اللّه الرحمن الرحيم»
وروى أيضا بإسناده عن أم سلمة «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يقرأبسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين»
وروى أيضا بإسناده عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأبسم اللّه الرحمن الرحيم
وكان يقول من ترك قراءتها فقد نقص».
وروى أيضا بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر : 87] قال فاتحة الكتاب فقيل لابن عباس فأين السابعة فقالبسم اللّه الرحمن الرحيم
وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال «إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوابسم اللّه الرحمن الرحيم
فإنها إحدى آياتها»
وبإسناده أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم «قال يقول اللّه عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قالبسم اللّه الرحمن الرحيم
قال اللّه تعالى مجدني عبدي وإذا قال الحمد للّه رب العالمين قال اللّه حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى عليّ عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال اللّه تعالى فوض إليّ عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال اللّه تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم قال اللّه تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
وبإسناده أيضا عن أبي هريرة قال «كنت مع النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم في المسجد والنبي يحدث أصحابه إذ دخل رجل يصلي فافتتح الصلاة وتعوذ ثم قال الحمد للّه رب العالمين فسمع النبي صلى اللّه تعالى عليه
___________
(1) سامح اللّه المصنف على هذه المقالة التي أضرت بالمسلمين وجعلتهم أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون ، ولا يخفى على العاقل فسادها وبطلانها.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 43
وسلم ذلك فقال له يا رجل قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أنبسم اللّه الرحمن الرحيم
من الحمد فمن تركها فقد ترك آية منها ومن ترك آية منها فقد قطع عليه صلاته فإنه لا صلاة إلا بها فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته»
وبإسناده عن طلحة بن عبيد اللّه قال «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من تركبسم اللّه الرحمن الرحيم
فقد ترك آية من كتاب اللّه».
«الحجة الخامسة» قراءةبسم اللّه الرحمن الرحيم
واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها بيان الأول اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق : 1] ولا يجوز أن يقال الباء صلة لأن الأصل أن تكون لكل حرف من كلام اللّه تعالى فائدة وإذا كان الحرف مفيدا كان التقدير اقرأ مفتتحا باسم ربك وظاهر الأمر الوجوب ولم يثبت في غير القراءة للصلاة فوجب إثباته في القراءة فيها صونا للنص عن التعطيل.
«الحجة السادسة» التسمية مكتوبة بخط القرآن وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن ألا ترى أنهم منعوا كتابة أسامي السور في المصحف ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس ، والغرض من ذلك كله أن يمنعوا أن يختلط بالقرآن ما ليس بقرآن فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن.
«الحجة السابعة» أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام اللّه تعالى والبسملة موجودة بينهما فوجب جعلها منه «الحجة الثامنة» أطبق الأكثرون على أن الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي قالبسم اللّه الرحمن الرحيم
آية وأبو حنيفة قال : إنها ليست آية لكن صراط الذين أنعمت عليهم آية ، وسنبين أن قوله مرجوح ضعيف فحينئذ يبقى أن الآيات لا تكون سبعا إلا بجعل البسملة آية تامة منها «الحجة التاسعة» أن نقول قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة فوجب كونها آية منها ، بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل وإذا كان كذلك فالظاهر أنه صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى : وَاتَّبِعُوهُ [الأعراف : 158] وإذا ثبت الوجوب ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق وقوله عليه الصلاة والسلام : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر»
وأعظم الأعمال بعد الإيمان الصلاة فقراءة الفاتحة بدون قراءتها توجب كون الصلاة عملا أبتر ولفظه يدل على غاية النقصان والخلل بدليل أنه ذكر ذما للكافر الشانئ فوجب أن يقال للصلاة الخالية عنها في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بذلك قال بالفساد وهو يدل على أنها من الفاتحة «الحجة العاشرة» ما
روي أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب ما أعظم آية في القرآن؟ قالبسم اللّه الرحمن الرحيم
فصدقه النبي في قوله.
وجه الاستدلال أن هذا يدل على أن هذا المقدار آية تامة ومعلوم أنها ليست بتامة في النمل فلا بد أن تكون في غيرها وليس إلا الفاتحة «الحجة الحادية عشرة» عن أنس أن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة جهرية فقرأ أم القرآن ولم يقرأ البسملة فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت أينبسم اللّه الرحمن الرحيم
حين استفتحت القرآن؟! فأعاد معاوية الصلاة وجهر بها.
«الحجة الثانية عشرة» أن سائر الأنبياء كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون باسم اللّه فقد قال نوح : بسم اللّه مجراها وسليمانبسم اللّه الرحمن الرحيم
ألا تعلوا علي فوجب أن يجب على رسولنا ذلك لقوله تعالى : فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام : 90] وإذا ثبت ذلك في حقه صلّى اللّه عليه وسلم ثبت أيضا في حقنا لقوله تعالى : فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام : 153 ، 155] وإذا ثبت في حقنا ثبت أنها آية من سورة الفاتحة.
«الحجة الثالثة عشرة» أنه تعالى قديم والغير محدث فوجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقا على ذكر غيره والسبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كانت قراءة البسملة سابقة وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقديم فما رآه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 44
المؤمنون حسنا فهو عند اللّه حسن وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أنها آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق «الحجة الرابعة عشرة» أنه لا شك أنها من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكررا بخط القرآن فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى : فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [من سورة المرسلات ] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [من سورة الرحمن ] مكررا كذلك قلنا إن الكل منه «الحجة الخامسة عشرة»
روي أنه عليه السلام كان يكتب باسمك اللهم الحديث
وهو يدل على أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن مجموعها منه وهو مثبت فيه فوجب الجزم بأنه من القرآن إذ لو جاز إخراجه مع هذه الموجبات والشهرة لكان جواز إخراج سائر الآيات أولى وذلك يوجب الطعن في القرآن العظيم «الحجة السادسة عشرة» قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن اللّه تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وكان عليه السلام يأمر بكتابتها بخط المصحف فيه وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل تجب قراءته وهل يجوز للمحدث مسه؟ فنقول ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه
لقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم «دع ما يرييك إلى ما لا يرييك»
انتهى كلامه وليس بشيء لأن البعض منه مجاب عنه والبعض لا يقوم حجة علينا لأن الصحيح من مذهبنا أنبسم اللّه الرحمن الرحيم
آية مستقلة وهي من القرآن وإن لم تكن من الفاتحة نفسها وقد أوجب الكثير منا قراءتها في الصلاة وذكر الزيلعي في شرح الكنز أن الأصح أنها واجبة ، وذكر الزاهدي عن المجتبى أن الصحيح أنها واجبة في كل ركعة تجب فيها القراءة وهي الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، وقال ابن وهبان في منظومته :
ولو لم يبسمل ساهيا كل ركعة فيسجد إذ إيجابها قال الأكثر
وفي غنية المتملي وهو الأحوط وبه أقول خلافا لقاضيخان وصاحب الخلاصة وغيرهم والحق أحق بالاتباع «1» والقول عن بعض هذا أنه من طغيان القلم غاية الطغيان ونهاية في التعصب من غير إتقان ولنتكلم على ما ذكره هذا العلامة على التفصيل «فنقول» أما ما ذكره في الحجة الأولى من حديث أم سلمة بالوجه الذي رواه مخالف لما في البيضاوي المخالف «2» لما في الكتب الحديثية فيجاب عنه بأن أبا مليكة لم يثبت سماعه عن أم سلمة وبتقديره للمعاصرة يقال : إن هذا اللفظ لم يوجد في المشهور ولعله نقل بالمعنى لبعض الروايات الآتية على حسب ما يلوح له
فقد أخرج أبو عبيد وأحمد وأبو داود بلفظ «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقطع قراءته آية آيةبسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين»
وابن الأنباري والبيهقي «كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقولبسم اللّه الرحمن الرحيم
ثم يقف ثم يقول الحمد للّه رب العالمين ثم يقف ثم يقول الرحمن الرحيم ثم يقف ثم يقول مالك يوم الدين»
وابن خزيمة والحاكم بلفظ «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قرأ في الصلاةبسم اللّه الرحمن الرحيم
فعدها آية الحمد للّه رب العالمين اثنين الرحمن الرحيم ثلاث آيات مالك يوم الدين أربع آيات وقال هكذا إياك نعبد وإياك نستعين وجمع خمس أصابعه»
والدارقطني بلفظ «كان يقرأبسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين إلى آخرها قطعها آية آية وعدها عد الاعراب وعدبسم اللّه الرحمن الرحيم
ولم يعد عَلَيْهِمْ
والرواية الأولى والثانية يمكن أن يقال عنت بهما بيان كيفية قراءة رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لسائر القرآن وذكرت بعضا منه على سبيل التمثيل ولم تستوعب وليس فيهما سوى إثبات أنها آية وهو مسلم لكن من القرآن وأما أنها من الفاتحة فلا ، وكذا
___________
(1) هذا اعتراض على الشهاب ا ه منه.
(2) اعتراض على البيضاوي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 45
في الرواية الثالثة إثبات أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يقرؤها في الصلاة ويعدها آية لوقوفه عليها وهو مسلمنا أيضا وهي الآية الأولى من القرآن والآية الثانية منه الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وهكذا إلى الخامسة وجمعت الأصابع وانقطع الكلام وأما الرواية الرابعة فليست نصا أيضا في أن البسملة آية من الفاتحة إذ يحتمل أن يكون المعنى كان صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقرأ في بعض الأوقات في الصلاة أو غيرها ولا دوام لا وضعا ولا استعمالا من كتاب اللّه تعالى : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخرها أي الآيات قطعها آية آية ولم يوصل بعضها ببعض وعدها عد الاعراب واحدة واحدة وعدبسم اللّه الرحمن الرحيم
ولم يسقطها لوجوبها في الصلاة وللاعتناء بها في غيرها لما فيها من عظائم الأسرار ودقائق الأفكار ، ومن هذا أوجب الكثير من علمائنا سجود السهو على من تركها وقد أزال صلى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك ظن أنها ليست من القرآن لاستعمالها في أوائل الرسائل ومبادئ الشؤون ولم يعد صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ولم يقف عليها بل وصل صلى اللّه تعالى عليه وسلم تلك المرة لبيان الجواز وعدم تخيل شيء ينافي كونها آية بل هناك ما يشعر به فإن تقارب الآي في الطول والقصر كتقارب الفقرات شيء مرغوب فيه وعدم التشابه في المقاطع لا يضر فأين أفواجا من الفتح «1» فلزوم الرعاية غير لازم وكون الموصوف في آية والصفة في آية أخرى مسبوق بالمثل وسابق على الأمثال ومن أنعم اللّه تعالى عليه وعرف الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وجده تاما وعد توقفه على الشرط المفهوم من غَيْرِ الْمَغْضُوبِ كلاما ناقصا وعلى هذا لم يثبت في هذه الرواية سوى أن البسملة آية من القرآن وهو مسلم عند الطرفين وأما إنها من الفاتحة فدونه خرط القتاد.
«وأما» ما ذكره في الحجة الثانية من حديث أبي هريرة فقد أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي بلفظ «الحمد للّه رب العالمين سبع آيات بسم اللّه الرحمن الرحيم» إحداهن وفي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب» وأخرجه الدارقطني بلفظ «إذا قرأتم الحمد فاقرؤوابسم اللّه الرحمن الرحيم
إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم اللّه الرحمن الرحيم إحدى آياتها» ومعنى الرواية الأولى الحمد للّه رب العالمين إلى آخر الآيات سبع آيات ، وبه قال الحنفيون ، ولما لاحظ صلى اللّه تعالى عليه وسلم توهم السامعين من عدم التعرض للبسملة مع تلك الشبهة السالفة كونها ليست بآية من القرآن أزال هذا التوهم بوجه بليغ فقالبسم اللّه الرحمن الرحيم
إحداهن أي مثل إحداهن في كونها آية من القرآن ومعنى الثانية إذا أردتم قراءة الحمد إلى آخر ما يليه فاقرؤوا قبلهبسم اللّه الرحمن الرحيم
إنها - أي الحمد - إلى الآخر أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني.
وهذا كالتعليل أو الترغيب بقراءة الحمد للّه رب العالمين إلى آخرها وقوله وبسم اللّه الرحمن الرحيم إحدى آياتها على حد ما ذكر في معنى الرواية الأولى وهو كالتعليل أو الترغيب أيضا في قراءة البسملة وما ذكرناه وإن كان فيه ارتكاب مجاز لكن دعانا إليه إجراء صدر الكلام على حقيقته وإن أجري هذا على ظاهره فلابد من ارتكاب المجاز في الصدر كما لا يخفى وهو ارتكاب خلاف الأصل قبل الحاجة إليه «وأما» ما ذكره في الحجة الثالثة فليس سوى إثبات أن التسمية من القرآن كما أقرّ هو به ولسنا ممن نخالفه فيه «وأما» ما ذكره في الرابعة فالحديث الأول والثاني والثالث والسادس مع ضعفه والثامن لا تدل على المقصود ونحن نقول بما تدل عليه ، والرابع موقوف على ابن عباس ولا نسلم أن حكمه الرفع لجواز الاجتهاد وإن قلنا إن الصحيح أن الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع كمعرفة السورة مثلا ولذلك عدوا «الم» آية حيث وقعت ولم يعدوا «المر» لأنا لم نقل إنها جزء آية واجتهد فجعلها آية بل قلنا إنها آية مستقلة من القرآن واجتهد وجعلها آية من الفاتحة أو
___________
(1) رد على الرازي في ثلاثة مواضع ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 46
نقول إنه قال ذلك أيضا عن توقيف لكن على ظنه واجتهاده أنه توقيف ، والخامس لي شك في صحته بهذا اللفظ ولعله باللفظ الذي خرجه به الدارقطني وقد سلف بتقريره وليس لي اعتماد على الفخر في الأحاديث وليس من حفاظها وأراه إذا نقل بالمعنى غير وليس عندي تفسير الثعلبي لأراه فإن النقل منه ، والسابع لا تلوح عليه طلاوة كلام رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولا فصاحته وهو أفصح من نطق بالضاد بل من مارس الأحاديث جزم بوضع هذا ولعمري لو كان صحيحا لاكتفى به الشافعية أو لقدموه على سائر أدلتهم ويا ليته ذكر إسناده لنراه «وأما» الحجة الخامسة ففيها أنا لا نسلم أن وجوبها في أول الفاتحة مستلزم لكونها آية منها واستدلاله في هذا المقام بقوله «اقرأ باسم ربك» واه جدا من وجوه أظهر من الشمس فلا نتعب البنان ببيانها «وأما» الحجة السادسة فهو أقوى ما يستدل به على كون البسملة من القرآن وأما على أنها من الفاتحة فلا ، وتعرض نفاة كونها قرآنا للتكلم في هذا الدليل مما لا يرضاه الطبع السليم ، والذهن المستقيم ، والإنصاف نصف الدين ، والانقياد للحق من أخلاق المؤمنين «وأما» الحجة السابعة فلنا لا علينا كما لا يخفى «وأما» الحجة الثامنة فدون إثبات مدارها - وهو توهين كلام مولانا أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى - جبال راسيات. «وأما» الحجة التاسعة فهي كالحجة الخامسة حذو القذة بالقذة واستدلاله
بقوله صلّى اللّه عليه وسلم «كل أمر ذي بال» إلخ
ليس بشيء لأن الفاتحة جزء من الصلاة المفتتحة بالتكبير المقارن للنية الذي هو ركن منها فحيث لم تفتتح بالبسملة عدت بتراء فبطلت وكذا الركوع والسجود الذي أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه كل منهما أمر ذو بال فإذا لم يفتتح بالبسملة كان أبتر باطلا فحسن الظن بديانة العلامة وعلمه أنه كان يبسمل أول صلاته وعند ركوعه وسجوده وسائر انتقالاته رحمة اللّه تعالى عليه «وأما» الحجة العاشرة فلا تقوم علينا لأنا أعلمناك بمذهبنا «وأما» الحجة الحادية عشرة فقصارى ما تدل عليه ظاهرا بعد تسليمها أن معاوية لما لم يقرأ البسملة وترك الواجب ولم يسجد للسهو أعاد الصلاة لتقع سليمة من الخلل ولهذا أمهلوه إلى أن فرغ ليروا أيجبر الخلل بسجود السهو أم لا واعتراضهم عليه بترك واجب يجبر بالسجود ليس أغرب من اعتراضهم عليه في تلك الصلاة أيضا بترك هيئة حيث روى الشافعي نفسه كما نقله الفخر نفسه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأبسم اللّه الرحمن الرحيم
ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية سرقت من الصلاة أينبسم اللّه الرحمن الرحيم
وأين التكبير عند الرجوع والسجود ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير وهذا لا يضرنا ، نعم يبقى الجهر والبحث عنه مخفي الآن «وأما» الحجة الثانية عشرة ففيها كما تقدم أن الوجوب لا يستلزم الجزئية على أن قوله أن سائر الأنبياء يبتدئون عند الشروع بأعمال الخير بذكر اللّه فوجب أن يجب على رسولنا ذلك إلخ واستدل على الوجوب عليه إذ وجب عليهم عليهم السلام بقوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ لا أدري ما أقول فيه سوى أنه جهل بالتفسير وعدم اطلاع على أخبار البشير النذير «وأما» الحجة الثالثة عشرة فلا تجديه نفعا في مقابلتنا أيضا وفيها ما في أخواتها «وأما» الحجج الباقية فككثير من الماضية لا تنفع في البحث معنا إلا
بتسويد القرطاس وتضييع نفائس الأنفاس على أن بعض ما ذكره معارض بما
أخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : «سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول قال اللّه تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال : العبد الحمد للّه رب العالمين قال اللّه تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى عليّ عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال اللّه تعالى مجدني عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال اللّه تعالى هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»
وهذا يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة وأنها سبع بدونها حيث جعل الوسطى إياك نعبد وإياك نستعين والثلاث قبلها للّه تعالى والثلاث بعدها للعبد وليس فيه نفي أنها من القرآن ، ولا شك أن هذه الرواية

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 47
أصح من رواية الثعلبي ولا أقدم ثعلبيا على مسلم ، وكذا من رواية السجستاني ومتى خالف الراوي الثقة من هو أوثق منه بزيادة أو نقص فحديثه شاذ وليس هذا من باب النفي والإثبات «1» كما ظنه من ليس له في هذا الفن رسوخ ولا ثبات «2» وحمل النصف فيه على النصف في المعنى أو الصنف من عدم الإنصاف إذ ذاك مجاز ولا حاجة إليه ولا قرينة عليه وجعله حقيقة لكن باعتبار الدعاء والثناء يكذبه العد والقول بأن مدار الرواية العلاء وقد ضعفه ابن معين فهو على جلالة الرجل «3» لا يسمن ولا يغني من جوع لأن الموثق كثير وتقديم الجرح على التعديل ليس بالمطلق «4» بل إن لم يكثر المعدلون جدا وقد كثروا هنا «5» وكون التقسيم لما يخص الفاتحة والبسملة مشتركة مع كونه خلاف الظاهر لا تقتضيه الحكمة إذ هي عند الخصم أشرف الأجزاء «6» وكون المراد بعض قراءة الصلاة إذ الظاهر لا يمكن أن يراد لوجود الأعمال وضم السورة ويتحقق البعض بهذا البعض ليس بشيء إذ اللائق أن يكون البعض مستقلا بمبدأ ومقطع والثاني موجود والأول على قولنا وأيضا الفاتحة سورة كالكوثر والملك وقد نص صلى اللّه تعالى عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة عنه بأن الأولى ثلاث آيات والثانية ثلاثون ووقفهم عليها ولم يعد البسملة ولو عدها مستقلة لزاد العدد أو جزءا لو رد ، وعلى المثبت البيان وأنى هو ، على أنه يرد على الثاني استلزامه للتحكم بدعوى الاستقلال في الفاتحة والبعضية في غيرها «7» وقول الرازي هذا غير بعيد فالحمد للّه رب العالمين آية تارة وجزء آية أخرى كما في وَآخِرُ دَعْواهُمْ [يونس : 10] الآية بعيد بل قياس باطل لوجود المقتضي للجزئية هناك وانتفائه هنا وأيضا نزل الكثير من السور بلا بسملة ثم ضمت بعد ، وحديث الصحيح في بدء الوحي يبدي صحة ما قلنا وهذا يبعد كونها آية من السورة أو جزء آية وكونها لم تنزل بعد يبعد الثاني إن لم يبعد الأول وحديث أنها أول ما
نزلت ليس بالقوي بل الثابت ويشكل عليه ما
روي أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم إلخ
على أن الأولية إن سلمت وسلمت لا تضرنا ، وبالجملة يكاد أن يكون اعتقاد عدم كون البسملة جزءا من سورة من الفطريات كما لا يخفى على من سلم له وجدانه فهي آية من القرآن مستقلة «8» ولا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها فو اللّه لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول وإن أمكنني - والفضل للّه تعالى - توجيهه كيف وكتب الأحاديث ملأى
___________
(1) اعتراض على الرازي ا ه منه.
(2) اعتراض على الرازي أيضا ا ه منه.
(3) رد على ما في الشهاب ا ه منه.
(4) قاله السبكي وغيره ا ه منه.
(5) رد على ما في الشهاب أيضا ا ه منه.
(6) رد على العز بن عبد السلام ا ه منه.
(7) رد على الرازي ا ه منه.
(8) استشكل بعضهم الإثبات والنفي فإن القرآن لا يثبت بالظن وينفى به وهو إشكال كالجبل العظيم ، وأجيب عنه أن حكم البسملة في ذلك حكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة فتكون قطعية الإثبات والنفي معا ولهذا قرأ بعض السبعة بإثباتها وبعضهم بإسقاطها وإن اجتمعت المصاحف على الإثبات فإن من القراءات ما جاء على خلاف خطها كالصراط ومصيطر فإنهما قرئا بالسين ولم يكتبا إلا بالصاد وما هو على الغيب بضنين تقرأ بالظاء ولم تكتب إلا بالضاد ففي البسملة التخيير وتتحتم قراءتها في الفاتحة عند الشافعي احتياطا وخروجا عن عهدة الصلاة الواجبة بيقين لتوقف صحتها على ما سماه الشرع فاتحة الكتاب فافهم واللّه تعالى أعلم بالصواب ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 48
بما يدل على خلافه وهو الذي صح عندي عن الإمام «1» والقول بأنه لم ينص بشيء ليس بشيء وكيف لا ينص إلى آخر عمره في مثل هذا الأمر الخطير الدائر عليه أمر الصلاة من صحتها أو استكمالها ويمكن أن يناط به بعض الأحكام الشرعية وأمور الديانات كالطلاق والحلف والتعليق وهو الإمام الأعظم والمجتهد الأقدم رضي اللّه تعالى عنه والإخفاء بها في الجهرية لا يدل على السنية فإن القول بوجوبها لا ينافي إخفاءها اتباعا لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم
فعن ابن عباس لم يجهر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالبسملة حتى مات ،
وروى مسلم عن أنس «صليت خلف النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع منهم أحدا يقرأبسم اللّه الرحمن الرحيم
ولم يرد نفي القراءات بل سماعها للإخفاء بدليل ما صرح به عنه فكانوا لا يجهرون ببسم اللّه الرحمن الرحيم» رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الشيخين ، وروى الطبراني بإسناد عنه «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يسر ببسم اللّه الرحمن الرحيم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي اللّه تعالى عنهم»
وروي عن عبد اللّه بن المغفل ولا نسلم ضعفه أنه قال : سمعني أبي وأنا أقولبسم اللّه الرحمن الرحيم
فقال : أي بني إياك والحدث في الإسلام فقد صليت خلف رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فابتدؤوا القراءة بالحمد للّه رب العالمين فإذا صليت فقل الحمد للّه رب العالمين
اي اجهر بها وأخف البسملة وهو مذهب الثوري وابن المبارك وابن مسعود وابن الزبير وعمار بن ياسر والحسن بن أبي الحسين والشعبي والنخعي وقتادة وعمر بن عبد العزيز والأعمش والزهري ومجاهد وأحمد وغيرهم خلق كثير وأحاديث الجهر لم يصح منها سوى
حديث ابن عباس الذي أخرجه الشافعي عنه كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم
وهو معارض بما تقدم عنه أو محمول على أنه كان يجهر بها أحيانا لبيان أنه تقرأ فيها كل جهر عمر رضي اللّه تعالى عنه بالثناء للتعليم وكما شرع الجهر بالتكبير للإعلام وحتى مات هناك قيد للمنفي لا للنفي فلا يتنافيان على أنه روي عن بعض الحفاظ ليس حديث صريح في الجهر إلا وفي إسناده مقال. وعن الدارقطني أنه صنف كتابا في الجهر فأقسم عليه بعض المالكية ليعرفه الصحيح فقال : لم يصح في الجهر حديث والقول «2» بأن الرواية عن أنس ست متعارضة فتارة يروى عنه الجهر وأخرى الإخفاء للخوف من بني أمية المخالفين لعلي كرم اللّه تعالى وجهه إذ مذهبه الجهر لا يضرنا إذ يقدم عند التعارض الأقوى إسنادا وهو هنا ما يوافقنا إذ هو على شرط الشيخين ، وتهمة الراوي المخالف بالكذب على أنس أهون عندي من تهمة أنس صاحب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالكذب على رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ومقدمي أصحابه.
«ومن عجائب الرازي» كيف يبدي احتمال التهمة ويروي اعتراض أهل المدينة على سيد ملوك بني أمية بذلك اللفظ الشنيع والمحل الرفيع فهلا خافوا وسكتوا وصافوا ، والأعجب من هذا أنه ذكر ست حجج لإثبات الجهر هي أخفى من العدم «الأولى» أن البسملة من السورة فحكمها حكمها سرا وجهرا وكون البعض سريا والبعض جهريا مفقود ويرده ما علمته في الردود وبفرض تسليم أنها من السورة أي مانع من إسرار البعض والجهر بالبعض وقد فعله رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام : 153 ، 155] ولعل السر فيه كالسر في الجهر والإخفاء في ركعات صلاة واحدة ، أو يقال : إن حال المنزل عليه القرآن كان خلوة أولا وجلوة ثانيا فناسب حاله حاله بل إذا تأملت قوله
___________
(1) رد على البيضاوي ا ه منه.
(2) رد للرازي ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 49
تعالى في الحديث القدسي الثابت عند أهل اللّه
«كنت كنزا مخفيا» إلخ
ظهر لك سر أعظم «1» فرضي اللّه تعالى عن المجتهد الأقدم «الثانية» أنها ثناء وتعظيم فوجب الإعلان بها لقوله تعالى فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة : 200] ويرده أن غالب مشتملات الصلاة كذلك أفيجهر بها.
«الثالثة» أن الجهر بذكر اللّه يدل على الافتخار به وعدم المبالاة بمنكره وهو مستحسن عقلا فيكون كذلك شرعا ولا يخفى إلا ما فيه عيب ثم قال وهذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين ويرده ما رد سابقه وقد يخفى الشريف.
ليس الخمول بعار على امرئ ذي جلال
فليلة القدر تخفى وتلك خير الليالي
ويا ليت شعري أكان تسبيحه اللّه تعالى في ركوعه وسجوده معيبا فيخفيه أو جيدا فيجهر به ويبديه ولا أظن بالرجل إلا خيرا فإن الحجة قوية في نفسه راسخة في عقله «الرابعة» ما أخرجه الشافعي عن أنس «أن معاوية صلى بأهل المدينة ولم يقرأبسم اللّه الرحمن الرحيم
فاعترض عليه المهاجرون والأنصار فأعاد الحديث بمعناه ويرده معارضوه أو يقال لم يقرأ على ظاهره وعلموا ذلك ببعض القرائن وما راء كمن سمعا «الخامسة» ما
روى البيهقي عن أبي هريرة كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم وهو المروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير ،
وأما علي
فقد تواتر عنه ومن اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى
ويرده المعارض وبتقدير نفيه يقال : إن الجهر كان أحيانا لغرض وفي الأخبار التي ذكرناها ما يعارض أيضا نسبته إلى عمر وعلي وابن عباس وما زعم من تواتر نسبته إلى علي ممنوع عند أهل السنة ، نعم ادعته الشيعة فذهبوا إلى الجهر في السرية والجهرية ولو عمل أحد بجميع ما يزعمون تواتره عن الأمير كفر فليس إلا الإيمان ببعض والكفر ببعض وما ذكره من أن
من اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى
مسلم لكن إن سلم لنا خبر ما كان عليه عليّ رضي اللّه تعالى عنه ودونه مهامه فيح على أن الشائع عند أهل السنة تقديم ما عليه الشيخان وإذا اختلفا فما عليه الصديق حيث إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ترقى في التخصيص إليه فقال أولا
«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
وثانيا
«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي»
وثالثا
«اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»
ورابعا
«إن لم تجديني فأتي أبا بكر
«السادسة» أنها متعلقة بفعل مضمر نحو بإعانة بسم اللّه اشرعوا ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية اللّه إلا بعصمة اللّه ولا قوة على طاعة اللّه إلا بتوفيق اللّه وينبهه على أنه لا يتم شيء من الخيرات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر اللّه تعالى وبإظهارها أمر بمعروف ويرده مع ركاكة هذا التقدير وعدم قائل به أن انفهام الأمر بالمعروف من هذه الجملة يحتاج إلى فكر لو صرف عشر معشاره في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لحصل ضعف أضعافه من دون غائلة كثيرة فيغني عنه ثم إنه رحمه اللّه تعالى ذكر كلاما لا ينفع إلا في تكثير السواد وإرهاب ضعفاء الطلبة بجيوش المداد.
«البحث الثالث في معناها» فالباء إما للاستعانة أو المصاحبة أو الإلصاق أو الاستعلاء أو زائدة أو قسمية والأربعة الأخيرة ليست بشيء وإن استؤنس لبعض ببعض الآيات واختلف في الأرجح من الأولين فالذي يشعر به كلام البيضاوي أرجحية الأول وأيد بأن جعله للاستعانة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل حتى كأنه لا يتأتى ولا يوجد
___________
(1) ففي المنزل جل شأنه وخلوة وجلوة وفي المنزل عليه كذلك فروعي ذلك في المنزل أيضا ليظهر التناسب بينه وبين الطرفين وخلوة كل وجلوته بمعنى يليق به واللّه تعالى الموفق ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 50
بدون اسم اللّه تعالى ولا يخلو عن لطف وما يدل عليه كلام الزمخشري أرجحية الثاني وأيد بأن باء المصاحبة أكثر في الاستعمال من باء الاستعانة لا سيما في المعاني وما يجري مجراها من الأفعال وبأن التبرك باسم اللّه تعالى تأدب معه وتعظيم له بخلاف جعله للآلة فإنها مبتذلة غير مقصودة بذاتها وأن ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك فينبغي أن يرد عليهم في ذلك ، وأن الباء إذا حملت على المصاحبة كانت أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم اللّه تعالى منها إذا جعلت داخلة على الآلة ويناسبه ما
روي في الحديث تسمية اللّه تعالى في قلب كل مسلم يسمي أو لم يسم
وأن التبرك باسم اللّه تعالى معنى ظاهر يفهمه كل أحد ممن يبتدىء به والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدي إليه إلا بنظر دقيق وأن كون اسم اللّه تعالى آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه يوصل إليه ببركته فقد رجع بالآخرة إلى معنى التبرك فلنقل به أولا وأن جعل اسمه تعالى آلة لقراءة الفاتحة لا يتأتى على مذهب من يقول إن البسملة من السورة وأن
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم بسم اللّه الذي
لا يضر مع اسمه شيء مما يستأنس به له وأن في الأول جعل الموجود حسا كالمعدوم وأن بسم اللّه موجود في القراءة فإذا جعلت الباء للاستعانة كان سبيله سبيل القلم فلا يكون مقروءا وهو مقروء وأن فيه الإيجاز والتوصل بتقليل اللفظ إلى تكثير المعنى لتقدير متبركا وهو لكونه حالا فيه بيان هيئة الفاعل وقد ثبت أن لا بد لكل فعل متقرب به إلى اللّه تعالى من إعانته جل شأنه فدل الحال على زائد «وعندي» أن الاستعانة أولى بل يكاد أن تكون متعينة إذ فيها من الأدب والاستكانة وإظهار العبودية ما ليس في دعوى المصاحبة ولأن فيها تلميحا من أول وهلة إلى إسقاط الحول والقوة ونفي استقلال قدر العباد وتأثيرها وهو استفتاح لباب الرحمة وظفر بكنز لا حول ولا قوة إلا باللّه ولأن هذا المعنى أمس بقوله تعالى وإياك نستعين ولأنه كالمتعين في قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق : 1] ليكون جوابا
لقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم لست بقارئ
على أتم وجه وأكمله وما ذكروه في تأييد المصاحبة كله مردود «أما الأول» فلأن دون إثبات الأكثرية خرط القتاد «وأما الثاني» فلأنه توهم نشأ من تمثيلهم في الآلة بالمحسوسات وليست كل استعانة بآلة ممتهنة ولا شك في صحة استعنت باللّه وقد ورد في الشرع قال تعالى :
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف : 128] فهو إذن على أن جهة الابتذال مما لا تمر ببال والقلب قد أحاط بجهاته جهة أخرى وأيضا في تخصيص الاستعانة بالآلة نظر لأنها قد تكون بها والقدرة ولو سلم فأي مانع من الإشارة بها هنا إلى أنه كما هو المقصود بالذات فهو المقصود بالعرض إذ لا حول ولا قوة إلا به.
«وأما الثالث» فلأن المشركين إلى الاستعانة بآلهتهم أقرب إذ هم وسائطهم في التقرب إليه تعالى وهي أشبه بالآلة.
«وأما الرابع» فلأن الآلة لا بد من وجودها في كل جزء إلى آخر الفعل وإلا لم يتم ولا نسلم اللزوم بين مصاحبة شيء لشيء وملابسته لجميع أجزائه وما ذكره من الحديث فهو بالاستعانة أنسب لأنها مشعرة بتبري العبد من حوله وقوته وإثبات الحول والقوة للّه تعالى وهذا من باب العقائد التي عقد عليها قلب كل مسلم يسمي أو لم يسم.
«وأما الخامس» فلأنه إن أراد أن معنى المصاحبة التبرك فظاهر البطلان وقد رجع بخفي حنين وإن أراد أنه يفهم منها بالقرينة فندعيه نحن بها إذا قصد الآلية لتوقف الاعتداد الشرعي عليها وأما كون التبرك معنى ظاهرا لكل أحد فلا نسلم أنه من خصوص المصاحبة «وأما السادس» فلأن الانحصار فيه ممنوع «وأما السابع» فلأن ما يفتتح به الشيء لا مانع من كونه جزءا فالفاتحة مفتتح القرآن وجزؤه ولو سلم فجعلها مفتتحا بالنسبة إلى ما عداها قاله الشهاب ولا يضر الحنفي ما فيه.
«وأما الثامن» فلأن معنى الحديث أفعل كذا مستعينا باسم اللّه الذي لا يضرني مع ذكر اسمه مستعينا به شيء إذ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 51
من استعان بجنابه أعانه ومن لاذ ببابه حفظه وصانه ، وإن استبعدت هذا ورددت ما قيل في الرد من أن المراد بالحديث الإخبار بأنه لا يضر مع ذكر اسمه شيء من مخلوق والمصاحبة تستدعي أمرا حاصلا عندها نحو جاءكم الرسول بالحق والقراءة لم تحصل بعد فتعذرت حقيقة المصاحبة بأن المصاحبة هنا ليست محسوسة وكونها إخبارا بنفي صحبة الضرر يفهم منه صحبة النفع والبركة وهي دفع الوسوسة عن القارئ مع جزيل الثواب فلا ضير أيضا لأنه مجرد استئناس ولا يوحشنا إذ ما نستأنس به كثير «وأما التاسع» فلأن جعل الموجود كالمعدوم للجري لا على المقتضي من المحسنات والنكتة هاهنا أن شبه اسم اللّه بناء على يقين المؤمن بما ورد من السنة والقطع بمقتضاها بالأمر المحسوس وهو حصول الكتب بالقلم وعدم حصوله بعدمه ثم أخرج مخرج الاستعارة التبعية «1» لوقوعها في الحرف.
«وأما العاشر» فلأنه لا يخفى حال التشبيه بالقلم «وأما الحادي عشر» فلأنه لا نسلم أن التبرك معنى المصاحبة أو لازم معناه بل هو معلوم من أمر خارج هو أن مصاحبة اسمه سبحانه يوجد معها ذلك وهو جار في الاستعانة باسمه عز شأنه على أن في الاستعانة من اللطف ما لا يخفى ويمكن على بعد أن يكون عدم اختيار الزمخشري لها لنزغات الشيطان الاعتزالية من استقلال العبد بفعله فقد ذهب إليه هو وأصحابه وسيأتي إن شاء اللّه تعالى رده ، وقد اختلف في متعلق الجار فذهب الإمام ابن جرير إلى تقديره أتلو لأن تاليه متلو وهكذا يضمر الخاص الفعلي كل فاعل فعلا يجعل التسمية مبدأ له وهو من المعاني القرآنية كنظائر للزومها في متعارف اللسان وبه يندفع كلام الصادقي «2» وليس المقصود هنا متكلما مخصوصا فهو على حد ولو ترى فينوي كل بالضمير نفسه فلا يضر تقدمها على قراءة هذا القارئ بل على وجوده ويتأتى القول بجزئيتها من الكل أو الجزء بلا خفاء ولما خفي ذلك على البعض جعل المقدم فعل أمر متوجه إلى العباد ليتحد قائل الملفوظ والمقدر واختاره الفراء عن اختيار. وروي عن ابن عباس لأنه تعالى قدم التسمية حثا للعباد على فعل ذلك وهو المناسب للتعليم وذهب النحويون إلى تقديره عاما نحو أبتدىء وأيد بوجوه.
«منها» أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل تسمية دون فعل القراءة وتقدير العام أولى ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبرا أو صفة أو حالا أو صلة بالكون والاستقرار حيثما وقع ويؤثرونه لعموم صحة تقديره.
«ومنها» أنه مستقل بالغرض من التسمية وهو وقوعها مبتدأ فتقديره أوقع بالمحل. وأنت إذا قدرت اقرأ قدرت ابتدئ بالقراءة لأن الواقع في أثنائها قراءة أيضا والبسملة غير مشروعة فيها «ومنها» ظهور فعل الابتداء في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أقطع» ،
وأما ظهور القراءة في قوله تعالى : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق : 1] فلأن الأهم ثم هو القراءة غير منظور فيه إلى ابتدائها ولذا قدم الفعل ولا كذلك في التسمية. وما ذهب إليه الإمام أمس وأخص بالمقصود وأتم شمولا فإنه يقتضي أن القراءة واقعة بكمالها مقرونة بالتسمية مستعانا باسم اللّه تعالى عليها كلها بخلاف تقدير أبتدىء إذ لا تعرض له لذلك ، وما ذكر أولا من الاستشهاد بتقدير النحاة الكون والاستقرار فليس بجيد لأنهم فعلوه تمثيلا حيث لا يقصدون عاملا بعينه بل يريدون الكلام على العامل من حيث هو فهو كتمثيلهم بزيد وعمرو لا لخصوصيتهما بل ليقع الكلام على مثال فيكون أقرب إلى الفهم ولا يقال إذا أبهم الفاعل
___________
(1) ولذا صرح بالمؤمن وضم إليه الاعتقاد والسنة ا ه منه.
(2) حيث قال هو من كلام البشر والقرآن قديم معجز فيلزم أن يكون المعجز محتاجا لتقدير هذا المحذوف الغير المعجز الحادث وهذا الاحتياج نقص والمركب من المعجز وغير المعجز غير معجز ومن القديم والحادث حادث فيا علماء الإسلام أرشدوني ا ه على أن ما يرد على هذا الكلام أكثر من ألفاظه فتأمل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 52
يقدر بهما على أن الابتداء هنا ليس أعم من القراءة لأن المراد به ابتداء القراءة وهو أخص من القراءة لصدقها على قراءة الأول والوسط والآخر ، واختصاص ابتداء القراءة بالأول فليس هذا هو الكون والاستقرار الذي قدرهما النحاة فيما تقدم ، ودعوى عموم أبتدىء باعتبار أنه منزل منزلة اللازم لكنه يعلم بقرينة المقام أن المبتدأ به هو القراءة وباعتبار أصل العامل في الجميع لا يخفي فسادها فإنه إذا دل المقام على إرادته فما معنى تنزيله منزلة اللازم حينئذ وكونه باعتبار اللفظ والأصل لا يدفع السؤال في الحال فافهم «وأما ما ذكر ثانيا» من أن فعل البداءة مستقل بالغرض فغير مسلم وقد قدمنا أن القراءة أمس وأشمل والوقوع في الابتداء بالبداية فعلا لا بإضمار الابتداء فمتى ابتدأ بالبسملة حصل له المقصود غير مفتقر إلى شيء كمن صلى فبدأ بتكبيرة الإحرام لا يحتاج في كونه بادئا إلى الإضمار لكنه مفتقر إلى بركتها وشمولها لجميع ما فعله ، ومن هذا يظهر ما في باقي الكلام من الوهن «وأما ما ذكر ثالثا» ففيه أن كون التسمية مبتدأ بها حاصل بالفعل لا بإضمار الفعل ولم يرد الحديث بأن كل أمر ذي بال لم يقل أو لم يضمر فيه أبدأ ببسم اللّه فهو كذا على أن المحافظة على موافقة لفظ الحديث إنما يليق أن يجعل نكتة في كلام المصنفين ومن ينخرط في سلكهم لا في كلام اللّه جل شأنه كما لا يخفى على من له طبع سليم ، وأيضا البحث إنما هو في ترجيح تقدير الفعل العام كأبدأ أو أشرع وما شاكلهما لا في ترجيح خصوص اقرأ أعني فعلا مصدره القراءة على خصوص أبدأ أعني فعلا مصدره البداءة ففيما ذكر خروج عن قانون الأدب وموضع النزاع.
وذهب البعض إلى تقدير ابتدائي مثلا وفيه زيادة إضمار لوجوب إضمار الخبر حينئذ فيكون المضمر ثلاث كلمات ودلالة الاسمية على الثبوت معارضة بدلالة المضارع على الاستمرار التجددي المناسب للمقام إلا أنه تبقى المخالفة بين جملتي البسملة والحمد ولعل الأمر فيه سهل وجعل الشيخ الأكبر قدس سره هذا الجار خبر مبتدأ مضمر هو ابتداء العالم وظهوره لأن سبب وجوده الأسماء الإلهية وهي المسلطة عليه كجعله متعلقا بما بعده إذ لا يحمد اللّه تعالى إلا بأسمائه من باب الإشارة فلا ينظر فيه إلى الظاهر ولا يتقيد بالقواعد ولا أرى الاعتراض عليه من الإنصاف ، وقد ذهب الكثير إلى أن تقدير المتعلق هنا مؤخرا أحرى لأن اسم اللّه تعالى مقدم على الفعل ذاتا فليقدم على الفعل ذكرا ، وفيه إشارة إلى البرهان اللمي وهو أشرف من البرهان الإنيّ ، ولذا قال بعض العارفين ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه قبله وتحنيك طفل الذهن بحلاوة هذا الاسم يعين على فطامه عن رضع ضرع السوي بدون وضع مرارة الحدوث ، على أن بركة التبرك طافحة بالأهمية وإن قلنا بأن في التقديم قطع عرق الشركة ردا على من يدعيها ناسب مقام الرسالة وظهر سر تقديم الفعل في أول آية نزلت إذ المقام إذ ذاك مقام نبوة ولا رد ولا تبليغ فيها ولكل مقام مقال والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، وقد اعتركت الأفهام هنا في توجيه القصر لظنه من ذكر الاختصاص حتى ادعاه بعضهم بأنواعه الثلاثة وأفرد البعض البعض ، فمقتصر على قصر الإفراد ، وقائل به وبالقلب ، وفي القلب من كل شيء وعندي هنا يقدر مقدما ، وبه قال الأكثرون وإن تقديره مؤخرا مؤخر عن ساحة التحقيق لأنه إما أن يقدر بعد الباء أو بعد اسم أو بعد اسم اللّه ، أو بعد البعد ، أما تقديره بعد الباء فلا يقوله من عرف الباء.
وأما بعد الاسم فلاستلزامه الفصل ولو تعقلا حيث أوجبوا الحذف هنا بين المتضايفين وأما بعد اسم اللّه فلاستلزامه الفصل كذلك بين الصفة والموصوف وأما بين الصفتين فيتسع الخرق ، وأما بعد التمام فيظهر نقص دقيق لأن في الجملة تعليق الحكم بما يشعر بالعلية فكان الرحمن الرحيم علة للقراءة المقيدة باسم اللّه فإذا تأخر العامل المقيد المعلول وتقدمت علته أشعر بالانحصار ولا يظهر وجهه ، وإذا قدرنا العامل مقدما كما هو الأصل أمنا من المحذور ويحصل اختصاص أيضا إذ كأنه قيل مثلا اقرأ مستعينا أو متبركابسم اللّه الرحمن الرحيم
لأنه الرحمن الرحيم ، وانتفاء العلة يستلزم انتفاء المعلول في المقام الخطابي إذا لم تظهر علة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 53
أخرى فيفيد الاختصاص لا سيما عند القائل بمفهوم الصفة فيشعر بأن من لم يتصف بذلك خارج عن الدائرة والاقتصار هنا ليس كالاقتصار هناك والتخلص بتقدير التركيب مستعينا باسم اللّه لأنه الرحمن الرحيم اقرأ فيه ما لا يخفى على الطبع السليم ، وفي تقديم الحادث تعقلا وحذفه ذكرا وعدم وجود شيء في الظاهر مستقلا سوى الاسم القديم رمز خفي إلى تقديم الأعيان الثابتة في العلم وإن لم يكن على وجود اللّه تعالى إذ له جل شأنه التقدم المطلق وعدم ظهور شيء سواه وكل شيء هالك إلا وجهه ، وللإشارة إلى أنه لا ضرر في ذلك ارتكب ، والتبرك كالوجوب يقتضي التقدم بالذكر مكسورا لا مضموما وها هو كما ترى ومن الأكابر من قال ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه تعالى فيه ولا حلول وقد عد أكمل من الأول والمراتب أربع وتحنيك الرحمة يغني عن كل در ويفطم طفل الذهن عن ثدي جواري الفكر وكأن من قدر العامل مؤخرا رأى بسم اللّه مجراها ، وباسمك ربي وضعت جنبي وأمثالهما فجرى مجراها والفرق ظاهر للناظر وهذا من نسائم الأسحار فتيقظ له ونم عن غيره.
والظرف مستقر عند بعض ولغو عند آخرين وقد اختلف في تفسيرهما ، فقيل اللغو ما يكون عامله مذكورا ، والمستقر ما يكون عامله محذوفا مطلقا وقيل المستقر ما يكون عامله عاما «1» كالحصول والاستقرار وهو مقدر واللغو بخلافه ، وقيل اللغو ما يكون عامله خارجا عن الظرف غير مفهوم منه سواء ذكر أو لا ، والمستقر ما فهم منه معنى عامله المقدر الذي هو من الأفعال العامة وكل ذلك اصطلاح وحيث لا مشاحة فيه اختار الأول فيكون الظرف هنا مستقرا كيفما قدر العامل ، وإنما كسرت الباء وحق الحروف المفردة أن تفتح لأنها مبنية والأصل في البناء لثقله وكونه مقابلا للإعراب الوجودي السكون لخفته وكونه عدميا إلا أنها من حيث كونها كلمات برأسها مظنة للابتدار وهو بالساكن متعذر أو متعسر كان حقها الفتح إذ هو أخو السكون في الخفة المطلوبة في كثير الدور على الألسنة لامتيازها من بين الحروف بلزوم الحرفية والجر وكل منهما يناسب الكسر ، أما الحرفية فلأنها تقتضي عدم الحركة والكسر لقلته إذ لا يوجد في الفعل ولا في غير المنصرف ولا في الحروف إلا نادرا يناسب العدم. وأما الجر فلموافقة حركة الباء أثرها ولا نقض بواو العطف اللازمة للحرفية ولا بكاف التشبيه اللازمة للجر لأن المجموع سبب الامتياز ولم يوجد في كل لكن يبقى النقض واو القسم وتائه ويجاب بأن عملها بالنيابة عن الباء التي هي الأصل في حروفه فكأن الجر ليس أثرا لهما وهذه علل نحوية مستخرجة بعد الوقوع لإبداء مناسبة فلا تتحمل مناقشة لضعفها كما قيل :
عهد الذي أهوى وميثاقه أضعف من حجة نحوي
فلا نسهر جفن الفكر فيما لها وعليها ، وقال بعضهم من باب الإشارة : كسرت الباء في البسملة تعليما للتوصل إلى اللّه تعالى والتعلق بأسمائه بكسر الجناب والخضوع وذل العبودية فلا يتوصل إلى نوع من أنواع المعرفة إلا بنوع من أنواع الذل والكسر كما أشار إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض قدس اللّه سره الفائض بقوله :
ولو كنت لي من نقطة الباء خفضة رفعت إلى ما لم تنله بحيله
بحيث ترى أن لا ترى ما عددته وأن الذي أعددته غير عده
فإن الخفض يقابل الرفع فمن خفضه النظر إلى ذل العبودية ، رفعه القدر إلى مشاهدة عز الربوبية ، ولا ينال هذا الرفع بحيلة بل هو بمحض الموهبة الإلهية الجليلة ، ومن تنزل ليرتفع فتنزله معلول ، وسعيه غير مقبول انتهى.
___________
(1) ويسمى مستقرا التقدير معنى الاستقرار ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 54
وهو أمر مخصوص بباء البسملة لا يمكن أن يجري في باء الجر مطلقا كما لا يخفى ، وعندي في سر ذلك أن الباء هي المرتبة الثانية بالنسبة إلى الألف البسيطة المجردة المتقدمة على سائر المراتب فهي إشارة إلى الوجود الحق ، والباء إما إشارة إلى صفاته التي أظهرتها نقطة الكون ولذلك لما قيل للعارف الشبلي أنت الشبلي؟ فقال أنا النقطة تحت الباء ، وقال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره :
الباء للعارف الشبلي معتبر وفي نقيطتها للقلب مدكر
سر العبودية العلياء مازجها لذاك ناب مناب الحق فاعتبروا
أليس يحذف من بسم حقيقته لأنه بدل منه فذا وزر
والصفات إما جمالية أو جلالية ، وللأولى السبق كما يشير اليه حديث
«سبقت رحمتي غضبي»
وباء الجر إشارة إليها لأنها الواسطة في الإضافة والإفاضة فناسبها الكسر وخفض الجناح ليتم الأمر ويظهر السر ، وفي الابتداء بها هنا تعجيل للبشارة ورمز إلى أن المدار هو الرحمة كما
قال صلّى اللّه عليه وسلم : «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل حتى أنت يا رسول اللّه قال حتى أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته»
وقد تدرج سبحانه وتعالى بإظهارها فرمز بالباء وأشار باللّه وصرح أتم تصريح بالرحمن الرحيم ، وإما إشارة إلى الحقيقة المحمدية والتعين الأول المشار إليه
بقوله صلّى اللّه عليه وسلم «أول ما خلق اللّه نور نبيك يا جابر»
وبواسطته حصلت الإفاضة كما يشير إليه
لولاك ما خلقت الأفلاك
ولكون الغالب عليه عليه الصلاة والسلام صفة الرحمة لا سيما على مؤمني الأمة كما يشير إليه قوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء :
107] وقوله تعالى : بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة : 128] ناسب ظهور الكسر فيما يشير إلى مرتبته وفي الابتداء به هنا رمز إلى صفة من أنزل عليه الكتاب والداعي إلى اللّه. وفي ذلك مع بيان صفة المدعو اليه بأنه الرحمن الرحيم تشويق تام وترغيب عظيم وقد تدرج أيضا جل شأنه في وصفه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك في القرآن إلى أن قال سبحانه وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم : 4] واكتفى بالرمز هاهنا لعدم ظهور الآثار بعد وأول الغيث قطر ثم ينهمل ، وما من سورة إلا افتتحها الرب بالرمز إلى حاله صلى اللّه تعالى عليه وسلم تعظيما له وبشارة لمن ألقى السمع وهو شهيد ولما كان الجلال في سورة براءة ظاهرا ترك الإشارة بالبسملة وأتى بباء مفتوحة لتغير الحال وإرخاء الستر على عرائس الجمال ولم يترك سبحانه وتعالى الرمز بالكلية إلى الحقيقة المحمدية ولا يسعنا الإفصاح بأكثر من هذا في هذا الباب خوفا من قال أرباب الحجاب وخلفه سر جليل واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل ، والاسم عند البصريين من الأسماء العشرة التي بنيت أوائلها على السكون وهي ابن وابنة وابنم واسم واست واثنان واثنتان وامرؤ وامرأة وأيمن اللّه وايم اللّه منه وإلا فأحد عشر إن اعتد بابنم فإذا نطقوا بها «1» زادوا همزة لبشاعة الابتداء بالساكن غير المدات عندهم وفيها يمتنع والأمر ذوقي «2» وهو مما حذف عجزه كيد وما عدا الثلاثة الأخيرة «3» مما تقدم.
وأصله سمو حذفت الواو تخفيفا لكثرة الاستعمال ولتعاقب الحركات وسكن السين وحرك الميم واجتلبت ألف
___________
(1) إلا أن ذلك فيها لذاتها لا لسكونها ا ه منه.
(2) وقد استدل على الجواز بأنه لولا ذلك لتوقف التلفظ بالحرف المبتدأ به على التلفظ بالحركة فيدور لأن الحركة موقوفة على الحرف في التلفظ توقف العارض على المعروض ويجاب بأن امتناع الابتداء بالساكن يستلزم امتناع انفكاك الحركة عن الحرف المبتدأ به لا توقفه عليها إذ يجوز أن تكون الحركة تابعة له غير منفكة عنه ا ه منه.
(3) فبين ما حذف عجزه وما بني أوله على السكون عموم من وجه ا ه. منه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 55
الوصل فوزنه أفع وتصريفه إلى أسماء «1» وسمى وسميت دون أوسام ووسيم ووسمت يشهد له والجرح بالقلب لا يقبل ، واشتقاقه من السمو كالعلو لأنه لدلالته على مسماه يعليه من حضيض الخفاء إلى ذروة الظهور والجلاء.
وقال الكوفيون هو من السمة لأنه علامة على مسماه وأصله وسم فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل وكفى اللّه المؤمنين القتال ، فوزنه أعل ويرد عليهم أن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره وزيادة الاعلال أقيس من عدم النظير وأيضا كونها عوضا يقتضي كونها مقصودة لذاتها ووصلا كونها مقصودة تبعا والعوض كجزء أصل دون الوصل فما هو إلا جمع بين الضب والنون فلذا قيل لا حذف ولا تعويض وإنما قلبت الواو همزة كإعاء وإشاح ثم كثر استعماله فجعلت همزته همزة وصل وقد تقطع للضرورة ورجح الأول لهاتيك الشهادة وفيه لغات أوصلها البعض إلى ثماني عشرة ونظمها فقال :
للاسم عشر لغات مع ثمانية بنقل جدي شيخ الناس أكملها
سم سمات سما واسم وزد سمة كذا سماء بتثليث لأولها
هذا وقد طال التشاجر في أن الاسم هل هو عين المسمى أو غيره؟ فالأشاعرة على الأول والمعتزلة على الثاني وقد تحير نحارير الفضلاء في تحرير محل البحث على وجه يكون حريا بهذا التشاجر حتى قال مولانا الفخر في التفسير الكبير : إن هذا البحث يجري مجرى العبث وذكر وجها «2» ادعى لطفه ودقته «3» وقد كفانا الشهاب مؤنة رده «4» وقد أراد السيد النحرير في شرح المواقف فلم يتم له ، وللسهيلي في ذلك كلام ادعى أنه الحق وصنف في رده ابن السيد رسالة مستقلة وادعى الشهاب أنه إلى الآن لم يتحرر وأنه لم ير مع سعة اطلاعه في هذه المسألة ما فيه ثلج الصدور ولا شفاء الغليل ولم يأت رحمه اللّه تعالى في حواشيه على البيضاوي من قبل نفسه بشيء يزيح الإشكال ويريح البال وها أنا من فضل اللّه تعالى ذاكر شيئا إذا قبل فهو غاية ما أتمناه وقد يوجد في الاسقاط ما لا يوجد في الأسفاط وإن رد فقد رد قبلي كلام ألوف كل منهم فرد يقابل بصفوف.
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
«فأقول» الاسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين وهي عندهم أسماء مترادفة كما نقله الإمام أبو بكر بن فورك في كتابه الكبير في الأسماء والصفات والأستاذ أبو القاسم السهيلي في شرح الإرشاد وهما ممن يعض عليه بالنواجذ ، ومنه قوله تعالى : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الأعلى : 1] إذ التسبيح في المعروف إنما يتوجه إلى الذات الأقدس وحمله على تنزيه اللفظ كحمله على المجاز والكناية مما لا يليق إذ بعد الثبوت لا يحتاج إليه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ويؤيده قوله تعالى : ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها [يوسف : 40] حيث أطلق الأسماء وأراد الذوات لأن الكفار إنما عبدوا حقيقة ذوات الأصنام دون ألفاظها وإن استقام على بعد ، وقال سيبويه وهو
___________
(1) وأصل اسماء اسما وقلبت الواو همزة لوقوعها رابعة بعد ألف ، وأصل سمى سميو اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، وأصل سميت سموت قلبت الواو لوقوعها رابعة ولم ينضم ما قبلها ياء ا ه منه.
(2) هو أن لفظ الاسم اسم لكل لفظ دال على معنى في نفسه غير مقترن بزمان ولفظ الاسم كذلك فيكون اسما لنفسه وعين مسماه وفيه أنه إنما يصح لو كان النزاع في لفظ (ا س م) ولا يصح محلا للخلاف حتى ينكره المعتزلة وأيضا لفظ كلمة وموضوع كذلك قاله الشهاب فافهم ولا تغفل ا ه منه.
(3) وفي كلام البيضاوي إيماء إليه لمن أنصف ا ه منه.
(4) رد على البيضاوي وغيره ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 56
إمام الصناعة وشيخ الجماعة : والفعل أمثلة أحداث من لفظ أحدث الأسماء ومن العلوم أن الألفاظ لا احداث لها فليس المراد إلا الذوات وهو بهذا المعنى عين المسمى ولا ينافيه أخذ الاسم من السمو لأن سمو المعلوم في الحقيقة إنما هو بوجوده إن كان موجودا حيث ارتفع عن نقص العدم وبمعقوليته عن الالتباس بمعلوم آخر إن لم يكن ولو كنا نرى الموجودات كلها ونعلم المعلومات بأسرها لم نحتج إلى مسمياتها لكن لما صحت غيبتها عنا لمانع في أبصارنا وبصائرنا احتجنا إلى ما يدلنا عليها في التخاطب والإخبار عنها فمن اللّه تعالى بهذه الأوضاع لطفا بنا وحكمة من حكيم عليم فلما سمت المعلومات بمعقوليتها عن الالتباس وبوجود ما كان موجودا منها عن العدم قيل لها أسماء ، ولما دلت الألفاظ عليها قيل لها ذلك أيضا تسمية للشيء باسم ما هو دليل عليه ويطلق الاسم أيضا على الدال وهو قسمان ، قديم وهو ما سمى اللّه تعالى به نفسه في كلامه القديم والقول فيه كالقول في كلامه الذي هو صفة له من أنه لا عين ولا غير ، وحادث وهو ما سمى به تعالى شأنه في غير ذلك وهو غير ، فالمعتزلة لا يثبتون إلا القسم الثاني من هذا الإطلاق لعدم ثبوت الأول عندهم ولنفيهم الكلام القديم ، وأهل السنة لما رأوا أن نزاعهم لهم في القسم الأول من الإطلاق الثاني يعود إلى النزاع في منشئه تركوه واكتفوا بالنزاع في المنشأ عنه حتى برهنوا فيه على مدعاهم ونوروا بالبينات القطعية دعواهم وقد تقدم ذلك لك في المقدمات ونازعوهم في الإطلاق الأول وأثبتوه بظواهر الآيات ونقل الثقات وقالوا ضد قولهم إن الاسم عين المسمى فكأنه ترقي صورد من نفي الغيرية وإثبات لا ولا إلى القول بالعينية التي أنكروها ولعدم فهم المراد من ذلك اعترض بأنه لو كان الاسم هو المسمى لتكثر المسمى عند تكثر الأسماء وأيضا الأسماء تتبدل والمسمى لا يتبدل والاسم يطرأ بعد وجود المسمى والشيء لا يتقدم على
نفسه ولا يتأخر فليس هو هو والكل غير وارد إلا على تقدير القول بالعينية بناء على القسم الثاني من الإطلاق الثاني وليس فليس ، فاتضح من هذا أن قول المعتزلة بالغيرية ناشىء عن ضلالة في الاعتقاد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر : 23] والاسم في البسملة عند بعض بالمعنى الأول لأن الاستعانة بالألفاظ مجردها مما لا معنى لها وليس من التسعة والتسعين ما لفظه اسم فلا يحسن إلا أن يراد به الذات وأمر الإضافة هين وفيه أنه فرق بين الاستعانة المتعدية بنفسها والاستعانة المعتدية بالباء المتعلقة بغير ذوي العلم نحو استعينوا بالصبر والصلاة وقال غير واحد سلمنا أن الاستعانة لا تكون إلا بالذات إلا أن التبرك لا يكون بها وقد قالوا به ولهذا أو للفرق بين اليمين والتيمن أو لئلا يختص التبرك باسم دون اسم أو ليكون أشد وفاقا لحديث الابتداء على ما قيل قال بسم اللّه ولم يقل باللّه ولم تكتب همزة الوصل مع أن الأصل في كل كلمة أن ترسم باعتبار ما يتلفظ بها في الوقف وفي الابتداء بل حذفت تبعا لحذفها في التلفظ للكثرة «1» وقيل لأنها دخلت للابتداء بالسين الساكنة فلما نابت الباء عنها سقطت في الخط بخلاف اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق : 1] إذ الباء لا تنوب منا بها فيه إذ يمكن حذفها مع بقاء المعنى فيقال - اقرأ اسم ربك - وظاهره أن الذي منع من الإسقاط في الآية إمكان حذف الباء فقط وهو مخالف لما ذكره الدماميني من أنه لا بد للحذف من أمرين عدم ذكر المتعلق وإضافة لفظ اسم للجلالة وكلاهما منتف في الآية وهل يشترط تمام البسملة فيه؟ فيه تردد وظاهر كلام التسهيل اشتراطه.
وقيل لا حذف فيه والباء داخلة على سم أحد اللغات السابقة ثم سكنت السين هربا من توالي كسرتين أو انتقاله من كسرة لضمة وهو مع غرابته بعيد ، وعندي أن هذا رسم عثماني وهو مما لا يكاد يعرف السر فيه أرباب الرسوم والكثير من عللهم غير مطردة وبذلك اعتذر البعض «2» عن عدم حذف ألف اللّه مع كثرة استعماله واستغنى به عن الجواب بشدة الامتزاج وبأنها عوض وبأنه يلزم
___________
(1) وقيل قابله الخليل ا ه منه.
(2) البعض هو الشهاب ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 57
الإجحاف لو حذفت أو الالتباس بقولنا للّه مجرورا فالرأي إبداء سر ذوقي لذلك وقد حرره الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بما لا مزيد عليه «1» ولست ممن يفهمه والقريب من الفهم أن الهمزة إنما حذفت في الخط ليكون اتصال السين بالباء المشير إلى ما تقدم أتم وتلقي الفيض أقوى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء : 80] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر : 45] وفيه إشارة من أول الأمر إلى عموم الرحمة وشمول البعثة لأن السين لما كان ساكنا وتوصل إلى النطق به بالألف أشبه حال المعدوم الذي ظهر باللّه وحيث كان ذلك عاما إذ ما من معدوم يطلب الظهور إلا يكون ظهوره باللّه سبحانه وتعالى أعطى ذلك الحكم لما قام مقامه واتصل اتصاله وأدى في اللفظ مؤداه فإن كان عبارة عن صفات الجمال ظهر عموم الرحمة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف :
156] وإن كان عبارة عن الحقيقة المحمدية ظهر شمول البعثة لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان : 1] بل والرحمة أيضا وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء : 107] وتناسبت أجزاء البسملة إشارة وعبارة وإنما طولت الباء للإشارة إلى أن الظهور تام أو إلى أنها وإن انخفضت لكنها إذا اتصلت هذا الاتصال ارتفعت واستعلت ، وفيه رمز إلى أن من تواضع للّه رفعه اللّه وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي. وقال الرسميون طولت لتدل على الألف المحذوفة ولتكون عوضا عنها وليكون افتتاح كتاب اللّه تعالى بحرف مفخم ولذا
قال صلّى اللّه عليه وسلم لمعاوية فيما روي «ألق الدواة وحرف القلم وانصب الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن اللّه ومد الرحمن وجود الرحيم وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك»
ولعل منه أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لكاتبه طول الباء وأظهر السينات ودور الميم ، ولبعضهم «2» في التعليل ما ادعي أنه ليس من عمل الأفهام بل مبذولات الإلهام وهو في التحقيق من مبتذلات الأوهام وليس له في التحقيق أدنى إلمام على أن في تعليلهم السابق خفاء بالنظر إلى مشربهم أيضا فافهم ذلك كله «واللّه» أصله الاعلالي إله كما في الصحاح أو الإله كما في الكشاف - ولكل وجهة - فحذفت الهمزة اعتباطا «3» على الأظهر وعوض عنها الألف واللام «4» ولذلك قيل : يا اللّه «5» بالقطع في الأكثر لتمحض الحرف للعوضية فيه احترازا عن اجتماع أداتي تعريف وأما في غيره فيجري الحرف على أصله ، وذكر الرضي أن القطع لاجتماع شيئين لزوم الهمزة الكلمة إلا نادرا كما في لاهه الكبار وكونها بدل همزة إله ، وقال السعد : قد يقال فيه : إنه نوى الوقف على حرف النداء «6» تفخيما للاسم الشريف واختلفوا في الفرق بين الإله واللّه فقال السيد السند : هما علم لذاته إلا أنه قبل الحذف قد يطلق على غيره تعالى وبعده لا يطلق على غيره سبحانه أصلا ، وقال العلامة السعد : إن الإله اسم لمفهوم كلي هو المعبود بحق واللّه علم لذاته تعالى ، وقال الرضي : هما قبل الإدغام وبعده مختصان بذاته تعالى لا يطلقان على غيره أصلا إلا أنه قبل الإدغام من
___________
(1) فالرأي اعتراض على علماء الرسوم على العموم ا ه منه. [.....]
(2) قال وإنما عوض ليكون الباء بمنزلة ألف اسم اللّه فيكون الابتداء ببسم اللّه ابتداء باسم اللّه فاعرفه فإنه إلخ وفيه أنه بما به يقتضي تخصيص الامتثال بالابتداء الخطي فقط وغير ذلك فافهمه ا ه منه.
(3) ومقابله أنها حذفت بعد نقل حركتها إلى ما قبلها وحذفها لالتقاء الساكنين هي واللام قبلها ولزوم الحذف والتعويض وعدم منع الإدغام بل وجوبه مع أن المحذوف لعلة كالموجود من الأمور الشاذة التي اختص بها هذا الاسم الأعظم فافهم ا ه منه.
(4) فلا يجتمعان إلا نادرا كما في الرضي كقوله «معاذ إله أن تكون كظبية ا ه منه.
(5) وكون القطع في النداء أكثريا نص عليه الرضي ا ه منه.
(6) ونقل عن سيبويه وقيل في توجيهه إن المعظم الجليل المقدم بعد ندائه باسمه من سوء الأدب فلذا جعل النداء كالمنقطع عما بعده والاسم الكريم كأنه غير منادى وفرق بين النداء بالعلم المجرد والنداء بالوصف المادح فلا يرد يا رحمن الدنيا والآخرة فتدبر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 58
الأعلام الغالبة وبعده من الأعلام الخاصة ، وادعى ابن مالك أن اللّه من الأعلام التي قارن وضعها أل وليس أصله الإله ثم قال ولو لم يرد على من قال ذلك إلا أنه ادعى ما لا دليل عليه لكان ذلك كافيا لأن اللّه والإله مختلفان لفظا ومعنى ، أما لفظا فلأن أحدهما معتل العين ، والثاني مهموز الفاء صحيح العين واللام فهما من مادتين ، فردهما إلى أصل واحد تحكم من سوء التصريف «وأما معنى» فلأن اللّه خاص به تعالى جاهلية وإسلاما والإله ليس كذلك لأنه اسم لكل معبود ومن قال أصله الإله لا يخلو حاله من أمرين لأنه إما أن يقول : إن الهمزة حذفت ابتداء ثم أدغمت اللام أو يقول : إنها نقلت حركتها إلى اللام قبلها وحذفت على القياس وهو باطل ، أما الأول فلأنه ادعى حذف الفاء بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من ثلاثي فلا يقاس بيد لأن الآخر وكذا ما يتصل به محل التغيير ولا بعدة مصدر يعد لحمله على الفعل فحذف للتشاكل ولا برقة بمعنى ورق لشبهه بعدة وزنا وإعلالا ولولا أنه بمعناه لتعين إلحاقه بالثنائي المحذوف اللام كلثة ، وأما ناس وأناس فمن نوس وأنس على أن الحمل عليه على تقدير تسليم الأخذ زيادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا سبب يلجىء لذلك «وأما الثاني» فلأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجوه ، أحدها نقل حركة بين كلمتين على سبيل اللزوم ، ولا نظير له ، والثاني نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها وهو يوجب اجتماع مثلين متحركين وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن ، الثالث من مخالفة الأصل تسكين المنقول إليه الحركة فيوجب كونه عملا كلا عمل وهو بمنزلة من نقل في بئس ولا يخفى ما فيه من القبح مع كونه في كلمة فما هو في كلمتين أمكن في الاستقباح وأحق بالإطراح ، الرابع إدغام المنقول إليه فيما بعد الهمزة وهو بمعزل عن القياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت فإدغام ما قبلها فيما بعدها كإدغام أحد المنفصلين ، وقد اعتبر أبو عمرو
في الإدغام الكبير الفصل بواجب الحذف نحو يَبْتَغِ غَيْرَ [آل عمران : 85] فلم يدغم فاعتبار غير واجب الحذف أولى ومن زعم أن أصله إله يقول : إن الألف واللام عوض من الهمزة ولو كان كذلك لم يحذفا في لاه أبوك أي للّه أبوك إذ لا يحذف عوض ومعوض في حالة واحدة وقالوا لهى أبوك أيضا فحذفوا لام الجر والألف واللام وقدموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء وعلم بذلك أن الألف كانت منقلبة لتحركها وانفتاح ما قبلها فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها وفتحتها فتحة بناء ، وسبب البناء تضمن معنى التعريف عند أبي علي «1» ومعنى حرف التعجب إذ لم يقع في غيره وإن لم يوضع له حرف عندي وهو مع بنائه في موضع جر باللام المحذوفة واللام ومجرورها في موضع رفع خبر أبوك ا ه ملخصا ، قال ناظر الجيش : إنه لا مزيد عليه في الحسن ، وأنا أقول لا بأس به لولا قوله : إن الإله اسم لكل معبود فقد بالغ البلقيني في رده وادعى أنه لا يقع إلا على المعبود بالحق جل شأنه ومن أطلقه على غيره حكم اللّه تعالى بكفره وأرسل الرسل لدعائه وكان نظير إطلاق النصارى اللّه على عيسى على أن فيه ما يمكن الجواب عنه كما لا يخفى واشتقاقه من أله كعبد إلاهة كعبادة وألوهة كعبودة وألوهية كعبودية فإله صفة مشبهة بمعنى مألوه ككتاب بمعنى مكتوب وكونه مصدرا كما ذهب إليه المرزوقي وصاحب المدارك خلاف المشهور أو من أله كفرح إذا تحير لتحير العقول في كنه ذاته وصفاته وفيه أن الأصل في الاشتقاق أن يكون لمعنى قائم بالمشتق والحيرة قائمة بالخلق لا بالحق أو من ألهت إلى فلان إذا سكنت إليه أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد : 28] أو من له إذا فزع واللّه مفزوع إليه وهو يجير ولا يجار عليه أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه والعباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد ، وقيل هو من وله الواوي بمعنى تحير أيضا وأصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها
فهو كإعاء وإشاح في وعاء ووشاح ويرده الجمع على آلهة دون أولهة وقلب الواو ألفا إذا
___________
(1) وأورد عليه أن الألف واللام في اللّه زائدة في التسمية مستغنى عن معناها بالعلمية وإذا حذفت لم يبق لها معنى يتضمن فلذا عدل عنه لكن قد يجاب بأن القول بزيادتها ليس متعينا عند أبي علي : وتمام الكلام في التسهيل وبعضه في الشهاب ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 59
لم تتحرك مخالف للقياس وتوهم أصالة الهمزة لعدم ولاه خلاف الظاهر ولعلك لا تعبأ بذلك هنا فالشأن عجيب ، وزعم بعضهم أن أصله لاه مصدر لاه يليه «1» أو لاه يلوه ليها ولاها إذا ارتفع واحتجب وهو المحتجب بسرادقات الجلال والمرتفع عن إدراك الخيال وقد قرىء شاذا «وهو الذي في السماء لاه» وقول ميمون بن قيس الأعشى :
كحلفه من أبي رباح يشهدها لاهه الكبار
ووجه قطع الهمزة في حال النداء حينئذ بعض ما تقدم من الوجوه ، وقيل أصله الكناية لأنها للغائب وهو سبحانه الغائب عن أن تدركه الأبصار أو تحيط به الأفكار ، وأيضا الهاء يخرج مع الأنفاس فهو المذكور وإن لم تشعر الحواس ومتى انقطع خروجه انقطعت الحياة وحل بالحي الممات فيه وباسمه قوام الأرواح والأبدان واستقامة كل متنفس من الحيوان فزيد عليها لام الملك ثم مدّ بها الصوت تعظيما ثم ألزم اللام واستأنس لهذا إن الاسم الكريم إذا حذفت منه الهمزة بقي للّه وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح : 4 ، 7] وإذا تركت اللام بقي على صورة له لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النساء : 171 ، طه : 6 ، الحج : 64 ، الشورى : 4] وإن تركت اللام الباقية بقي الهاء المضمومة من هو لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [البقرة : 163 وغيرها] والواو زائدة بدليل سقوطها في هما وهم فالأصل هو إذ لا يبقى سواه وأنت إذا أمعنت النظر يظهر لك مناسبات أخر ولهذا مال كثير من الصوفية إلى هذا القول وهو إلى المشرب قريب ، وزعم البلخي أنه ليس بعربي بل هو عبراني «2» أو سرياني معرب لاها ومعناه ذو القدرة ولا دليل عليه فلا يصار إليه واستعمال اليهود والنصارى لا يقوم دليلا إذ احتمال توافق اللغات قائم مع أن قولهم تأله وأله يأباه على أن التصرف فيه كما قيل بحذف المدة وإدخال أل عليه وجعله بهذه الصفة دليل على أنه لم يكن علما في غير العربية إذ اشترطوا في منع الصرف للعجمة كون الأعجمي علما في اللغة الأعجمية والتصرف مضعف لها ، فهذا الزعم ساقط عن درجة الاعتبار لا يساعده عقل ولا نقل والذي عليه أكابر المعتبرين كالشافعي ومحمد بن الحسن والأشعري «3» وغالب أصحابه والخطابي وإمام الحرمين والغزالي والفخر الرازي وأكثر الأصوليين والفقهاء ، ونقل عن اختيار الخليل وسيبويه والمازني وابن كيسان أنه عربي وعلم من أصله لذاته تعالى
المخصوصة أما أنه عربي فلا يكاد يحتاج إلى برهان وأما أنه علم كذلك فقد استدل عليه بوجوه. الأول أنه يوصف ولا يوصف به وقراءة صراط العزيز الحميد اللّه بالجر محمولة على البيان وتجويز الزمخشري في سورة «فاطر» كون الاسم الكريم صفة اسم الإشارة من باب قياس العلم على الجوامد في وقوعها صفة لاسم الإشارة على خلاف القياس إذ المنظور فيها رفع الإبهام فقط وقد تفرد به ، «الثاني» أنه لا بد له من اسم يجري عليه صفاته فإن كل شيء تتوجه إليه الأذهان ويحتاج إلى التعبير عنه قد وضع له اسم توقيفي أو اصطلاحي فكيف يهمل خالق الأشياء ومبدعها ولم يوضع له اسم يجري عليه ما يعزى إليه ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه وكونه اسم جنس معرف مما لا يليق لأنه غير خاص وضعا وكونه علما منقولا من الوصفية يستدعي أن لا يكون في الأصل ما تجري عليه الصفات وهو كما ترى «الثالث» أنه لو كان وصفا لم تكن الكلمة توحيدا مثل لا إله
___________
(1) وهذا القول ينسب إلى سيبويه لكن القول بأن لاه مصدر لم ينسب إليه لكن ذكره بعض الثقات فافهم ا ه منه.
(2) العبراني لغة بني إسرائيل والسرياني لغة آدم قال ابن حبيب : كان اللسان الذي نزل به آدم من الجنة عربيا ثم حرف وصار سريانيا وهو منسوب إلى أرض سريانة جزيرة كان بها نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق وهو يشاكل العربي إلا أنه محرف وكان لسان جميع من في الأرض إلا رجلا واحدا يقال له حر فلسانه عربي كذا قاله ابن الأنباري وهم يلحقون ألفا في أواخر الكلم يقولون لاها رحمانا كما في الفارسية فليحفظ ا ه منه.
(3) وحكى ابن جماعة أن الأشعري رئي في المنام فقيل له ما فعل اللّه تعالى بك؟ قال غفر لي قيل بماذا قال بقولي بعلمية اللّه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 60
إلا الرحمن إذ لا منع من الشركة وكذا لو كان اسم جنس والإجماع منعقد على إفادتها له دون الثاني والسر أنه لو كان صفة كان مدلوله المعنى لا الذات المعينة فلا يمنع من الشركة وإن اختص استعمالا بذاته تعالى بخلاف ما إذا كان علما فإن مدلوله حينئذ الذات المعينة وإن تعقل بوجه كلي إذ كليته لا تستلزم كلية المعلوم وقد اعترفوا بعموم الوضع وخصوص الموضوع له وقد انحل بهذا عصام قربة من قال : إنه لو كفى في التوحيد الاختصاص في الواقع فلا إله إلا الرحمن أيضا توحيد وإن لم يكف واقتضى ما يعين بحيث لا تجوز فيه الشركة لم يكن لا إله إلا اللّه كذلك إذ لا تحضر ذاته تعالى لنا على وجه التشخص «1» ولا حاجة إلى ما ذكره من الجواب أخطأ فيه أم أصاب ولا يرد قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص : 1] معارضا فإنه لو دل على التوحيد لم يكن للوصف فائدة لما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من تفسيره لعدم قبول التعدد بوجه وهو ليس من لوازم العلمية ولا يغير هذه الوجوه المفسرة ما قيل إنها لا تستلزم المدعى إذ الاختلاف إنما وقع بعد تسليم الاختصاص في كونه صفة فيكون كالرحمن أو اسما فيكون علما ، وهذا القدر يكفي بعد ذلك في المقصود كما لا يخفى على من لم يركب مطية الجحود ، والإمام البيضاوي مع أن له اليد البيضاء في التحقيق لم يتبلج له صبح هذا القول وهو لا يحتاج إلى النظر الدقيق فاختار أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الوصف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دلّ على مجرد ذاته المخصوص لما أفاد ظاهر قوله تعالى : وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ معنى صحيحا ولأن معنى الاشتقاق كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب وهو حاصل بينه
وبين الأصول المذكورة هذا كلامه ، وقد أبطل فيه الأدلة الثلاث وحيث لم يلزم من إبطال الدليل إبطال المدلول أبطله بوجهين ونظم في سلكهما ثالثا يدل على الوصفية وفيه أن الوجه الأول قد اعترضه هو نفسه حيث قال في تعليقاته وفيه نظر إذ يكفي في وضع العلم تعقله بوجه يمتاز به عن غيره من غير أن يعتبر ما به الامتياز في المسمى فيمكن وضع العلم لمجرد الذات المعقولة في ضمن بعض الصفات وقد تقرر في الكلام أنه يمكن أن يخلق اللّه تعالى العلم بكنه ذاته في البشر ولأنه إنما يتمشى إذا لم يكن الواضع هو اللّه تعالى والتحقيق أن تصوير الموضوع له بوجه ما كاف في وضع العلم وكذا في فهم السامع عند استعماله انتهى ، والمرء مؤاخذ بإقراره وهذا اكتفاء بأقل اللازم وإلا فالمحققون قد أبطلوا هذا الدليل بما لا مزيد عليه ، وأما الثاني ففيه إن لم نقل إن الآية من المتشابه أن العلم قد يلاحظ معه معنى به يصلح لتعلق الطرف كقولك أنت عندي حاتم وقوله :
أسد عليّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
فليلاحظ هنا المعبود بالحق لاشتهاره سبحانه بذلك في ضمن هذا الاسم المقدس على أنه يحتمل التعلق بيعلم في قوله تعالى : يَعْلَمُ سِرَّكُمْ [الأنعام : 3] الآية والجملة خبر ثان أو هي الخبر ولفظ اللّه بدل والظاهر أن قوله ظاهر لهذا.
«وأما الثالث» ففيه أن المنكر لاشتقاقه لا يسلم التوافق في المعنى على أنه لا يستلزم الوصفية «2» أيضا وكون
___________
(1) وقيل إحضاره تعالى على الوجه المذكور تكليف بما لا يطاق فالمطلوب إنما هو إحضاره على وجه كلي منحصر في فرد وعدم حصول التوحيد بالرحمن لإطلاقه مضافا على غيره كرحمن اليمامة فتدبر ا ه منه.
(2) ككتاب وإمام ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 61
المدعى ظني «1» فيكفي فيه الحدس من مثل ذلك لا يجدي نفعا إذ لنا أن نقول مثله والمنشأ أتم والظن أقوى والوجوه التي ذكرت في الابطال ترهقها ذلة لأنها كلها متوجهة تلقاء الغلبة وهي وإن لم تكن تحقيقية ضعيفة بل تقديرية قوية لكنها على كل حال دون العلمية الأصلية قوة وشرفا فالعدول عن الأشرف في هذا الاسم الأقدس مما لا أسوغ الإقدام عليه ودون إثبات الداعي نفي الرقاد وخرط القتاد. وقد رأيت بعض ذلك فالذي أرتضيه لا عن تقليد أن هذا الاسم الأعظم موضوع للذات الجامعة لسائر الصفات وإلى ذلك يشير كلام ساداتنا النقشبندية بلغنا اللّه تعالى ببركاتهم كل أمنية في الوقوف القلبي وهو أن يلاحظ الذاكر في قلبه كلما كرر ذكر هذا الاسم الأقدس ذاتا بلا مثل ، وحققه الشيخ الأكبر قدس سره في مواضع عديدة من كتبه هذا ، وتفخيم اللام من هذا الاسم الكريم إذا انفتح ما قبله أو انضم طريقه معروفة عند القراء وقيل مطلقا ، وحذف ألفه لغة حكاها ابن الصلاح ، وفي التيسير إنها لغة ثابتة في الوقف دون الوصل والأفصح الإثبات حتى قال بعضهم إن الحذف لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمين ولا يرتكب إلا في الضرورة كقوله :
ألا لا بارك اللّه في سهيل إذا ما بارك اللّه في الرجال
وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في الفتوحات عن أسرار حروفه وأتى بالعجب العجاب ، وفي ظهور الألف تارة وخفائها أخرى وسكون اللام أولا وتحركها ثانيا والختم باطنا بما به البدء ظاهرا واشتمال الكلمة على متحرك وساكن وصالح لأن يظهر بأحد الأمرين إشارات لا تخفى على العارفين فارجع إلى كتبهم فهم أعرف باللّه تعالى منا ، وسبحان من احتجب بنور العظمة حتى تحيرت الأفهام في اللفظ الدال عليه إذ انعكست له من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين فلم يستطيعوا أن يمعنوا النظر فيه وإليه والقصور في القابل لا في الفاعل :
توهمت قدما أن ليلى تبرقعت وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا واللّه ما ثم حاجب سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى
والرحمن الرحيم المشهور أنهما صفتان مشبهتان بنيتا لإفادة المبالغة وأنهما من رحم مكسور العين نقل إلى رحم مضمومها بعد جعله لازما وهذا مطرد في باب المدح والذم وأن الرحمة في اللغة رقة القلب ولكونها من الكيفيات التابعة للمزاج المستحيل عليه سبحانه تؤخذ باعتبار غايتها إما على طريقة المجاز المرسل بذكر لفظ السبب وإرادة المسبب وإما على طريقة التمثيل بأن شبه حاله تعالى بالقياس إلى المرحومين في إيصال الخير إليهم بحال الملك إذا رق لهم فأصابهم بمعروفه وإنعامه فاستعمل الكلام الموضوع للهيئة الثانية في الأولى من غير أن يتمحل في شيء من مفرداته وإما على طريقة الاستعارة المصرحة بأن يشبه الإحسان على ما اختاره القاضي أبو بكر أو وإرادته على ما اختاره الأشعري بالرحمة بجامع ترتب الانتفاع على كل ويستعار له الرحمة ويشتق منها الرحمن الرحيم على حد - الحال ناطقة بكذا - وإما على طريقة الاستعارة المكنية التخييلية بأن يشبه معنى الضمير فيهما العائد إليه تعالى بملك رق قلبه على رعيته تشبيها مضمرا في النفس ويحذف المشبه به ويثبت له شيء من لوازمه وهو الرحمة ، وقيل الرحمة في ذلك حقيقة شرعية وأن الرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى فتؤخذ تارة باعتبار الكمية وأخرى باعتبار الكيفية فعلى الأول قيل : يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة وأنه إنما قدم
___________
(1) كذا بخطه ا ه مصحح الأصل.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 62
الرحمن والقياس يقتضي الترقي لتقدم رحمة الدنيا ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره ، وقول بني حنيفة «1» في مسيلمة رحمن اليمامة وقول شاعرهم فيه :
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
غلو في الكفر «2» أو التقديم لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها فيكون كالتتمة «3» والرديف له أو للمحافظة على رؤوس الآي هذا وجميعه لا يخلو عن مقال ولا يسلم من رشق نبال أما أولا فلأن الصفة المشبهة لا تبنى إلا من لازم ولذا قال في التسهيل : إن ربا وملكا ورحمانا ليست منها لتعدي أفعالها ولم يقل أحد بنقل ما تعدى منها لفعل المضموم العين والمسطور في المتون المعول عليها أن فعل المفتوح والمكسور إذا قصد به التعجب يحول إلى فعل المضموم كقضو الرجل بمعنى ما أقضاه وحينئذ فيه اختلاف هل يعطى حكم نعم أو فعل التعجب كما فصلوه ثمة وإلحاقهم له بنعم كالصريح في عدم تصرفه وأنه لا يؤخذ منه صفة أصلا وكون رفيع الدرجات بمعنى رفيع درجاته لا رافع الدرجات لا يجدي نفعا وإنما فسروره بما ذكر لأن المراد درجات عزه وجبروته ليناسب المراد من قوله ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر : 15] وهي بسطة ملكه وسعة ملكوته وتلك الدرجات ليست مرفوعة بفعل.
ونقل ذلك عن الزمخشري في الفائق بعد تسليم أنه مذكور «4» فيه معارض بما صرح به هو في غيره كالمفصل على أن قولهم رحمن الدنيا ورحيم الآخرة بالإضافة إلى المفعول كما نص «5» عليه دون الفاعل يقتضي عدم اللزوم وأنهما ليسا بصفة مشبهة فالأصح أنهما من أبنية المبالغة الملحقة باسم الفاعل وأخذا من فعل متعد وذلك في الرحيم ظاهر وقد نص عليه سيبويه في قولهم رحيم فلانا وكذا الزجاج والصيغة تساعده وللاشتباه في الرحمن وعدم ذكر النحاة له في أبنية المبالغة قال الأعلم وابن مالك : إنه علم في الأصل لا صفة ولا علم بالغلبة التقديرية التي ادعاها الجل من العلماء ، وأما ثانيا فلأن نقل فعل المكسور إلى فعل المضموم لا يتوقف على جعله لازما «6» أولا لأنه بمجرد النقل يصير كذلك وتحصيل المناسبة بين المنقول والمنقول إليه باللزوم لعدم الاكتفاء فيها بمطلق الفعلية مما لا يخفى ما فيه. وأما ثالثا فلأن كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها للّه تعالى لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته ومعاذ اللّه تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين وأين التراب من رب الأرباب. ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة له تعالى لاستحالة اتصافه بما نتصف به فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ما نعلمه منها فينا ارتكاب المجاز أيضا فيها إذا أثبتت للّه تعالى وما سمعنا أحدا قال بذلك وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف اللّه تعالى بها فإما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبت إليه
___________
(1) لا يخفى على المتأمل أنه لا حاجة إلى الاعتذار لأن معنى لا يوصف به غيره لا يصح وصف غيره به تعالى كما يدل عليه التعليل بعدم تحقق معناه في غيره ومعلوم أن عدم الصدق في نفس الأمر لا يستلزم عدم الإطلاق فافهم ا ه منه.
(2) إذ سموا المخلوق باسم الخالق كما سموا الحجارة آلهة ا ه منه. [.....]
(3) أي لا من باب الترقي والتتميم تقييد الكلام بتابع يفيد مبالغة نحو (و يطعمون الطعام على حبه) ا ه منه.
(4) قال الشهاب راجعته فلم أجد فيه ا ه منه.
(5) الناص الشهاب ا ه منه.
(6) ومن يدعي اللزوم يقول إنه على التوسع كما بينه النحاة في باب الظروف وقاله الشهاب أيضا ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 63
عز شأنه أو بتركه كذلك وإثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه. والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته مما لا يعود منه نقص إليه سبحانه بل ذلك من عزة كماله وكمال عزته والعجز عن درك الإدراك إدراك فالقول بالمجاز في بعض والحقيقة في آخر لا أراه في الحقيقة إلا تحكما بحتا بل قد نطق الإمام السكوني في كتابه التمييز لما للزمخشري من الاعتزال في تفسير كتاب اللّه العزيز بأن جعل الرحمة مجازا نزغة اعتزالية قد حفظ اللّه تعالى منها سلف المسلمين وأئمة الدين فإنهم أقروا ما ورد على ما ورد وأثبتوا للّه تعالى ما أثبته له نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من غير تصرف فيه بكناية أو مجاز وقالوا لسنا أغير على اللّه من رسوله لكنهم نزهوا مولاهم عن مشابهة المحدثات. ثم فوضوا اليه سبحانه تعيين ما أراده هو أو نبيه من الصفات المتشابهات.
والأشعري إمام أهل السنة ذهب في النهاية إلى ما ذهبوا إليه. وعول في الإبانة على ما عولوا عليه فقد قال في أول كتاب الإبانة الذي هو آخر مصنفاته : أما بعد فإن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل اللّه به سلطانا ولا أوضح به برهانا. ولا نقلوه عن رسول رب العالمين صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين وساق الكلام إلى أن قال : فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون. وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب اللّه وسنة نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر اللّه وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون. ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان اللّه تعالى به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين. وشك الشاكين فرحمة اللّه عليه من إمام مقدم وكبير معظم مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين ثم سرد الكلام في بيان عقيدته مصرحا بإجراء ما ورد من الصفات على حالها بلا كيف غير متعرض لتأويل ولا ملتفت إلى قال وقيل : فما نقل عنه من تأويل صفة الرحمة إما غير ثابت أو مرجوع عنه والأعمال بالخواتيم «1». وكذا يقال في حق غيره من القائلين به من أهل السنة على أنه إذا سلم الرأس كفى ومن ادعى ورود ذلك عن سلف المسلمين فليأت ببرهان مبين فما كل من قال يسمع ولا كل من ترأس يتبع.
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائهم
والعجب من علماء أعلام ، ومحققين فخام كيف غفلوا عما قلناه ، وناموا عما حققناه ولا أظنك في مرية منه وإن قل ناقلوه وكثر منكروه «وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه» وأما رابعا فلأن إجراء الاستعارة التمثيلية هنا مع أنه تكلف لا سيما على مذهب السيد السند قدس سره فيه ظاهرا نوع من سوء الأدب إذ لا يقال إن للّه تعالى هيئة شبيهة بهيئة الملك ولم يرد إطلاق الحال عليه سبحانه وتعالى فهل هذا إلا تصرف في حق اللّه تعالى بما لم يأذن به اللّه ، ومثل هذا أيضا مكنى في المكنية وبلاغة القرآن غنية عن تكلف مثل ذلك وأما خامسا فلأن وجه تشبيه الإحسان في احتمال الاستعارة المصرحة بالرحمة التي هي رقة القلب غير صريح لأنه لا ينتفع بها نفسها وإنما الانتفاع بآثارها وكم من رق قلبه على شخص حتى أرق له لم ينفعه بشيء ولا أعانه بحي ولا لي.
أهمّ بأمر الحزم لا أستطيعه وقد حيل بين العير والنزوان
___________
(1) وهذا مذهب السلف الصالح وعليه عمل ابن تيمية وتلميذه ابن قيم واضرابهما انظر كتاب الإبانة فإننا طبعناه والحمد للّه ا ه منير.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 64
ولا كذلك الانتفاع بالإحسان وأما الإرادة فهي إن قلنا بصحة إرادتها هنا لا تصح في وجه المجاز المرسل بالنظر إليه تعالى بل إنك إذا تأملت وأنصفت وجدت الرحمة إن تسببت الإحسان أو إرادته فإنما تسببه إذا كانت هي وهو صفتين لنا ومجرد السببية والمسببية في هذه الحالة لا يوجب كون الرحمة المنسوبة إليه عز شأنه مجازا مرسلا عن أحد الأمرين وبفرض وجود الرحمة بذلك المعنى فيه تعالى كيفما كان الفرض لا نجزم بالسببية والمسببية أيضا وقياس الغائب على الشاهد مما لا ينبغي والفرق مثل الصبح ظاهر والذهن مقيد عن دعوى الإطلاق لما لا يخفى عليك فتأمل في هذا المقام فقد غفل عنه أقوام بعد أقوام ، وأما سادسا فلأن كون الرحمن أبلغ من الرحيم غير مسلم وإن قال الراغب إن فعيلا لمن كثر منه الفعل وفعلان لمن كثر منه وتكرر حتى قيل الرحيم أبلغ لتأخره ، وقول ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل غضب وقيل هما سواء لظاهر الحديث الذي
أخرجه الحاكم في المستدرك مرفوعا «رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما»
وإليه ذهب الجويني وقرره بأن فعلان لمن تكرر منه الفعل وكثر وفعيل لمن ثبت منه الفعل ودام وفرق بعضهم بينهما بأن الرحمن دال على الصفة القائمة به تعالى والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للصفة فالأول دال على أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته وإذا أردت فهم ذلك فتأمل قوله تعالى وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب : 43] إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة : 117] ولم يجىء قط رحمن فإنه يستشعر منه أن رحمن هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته وما ذكر من قولهم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى قاعدة أغلبية أسسها ابن جني فلعلها لا تثبت معبسم اللّه الرحمن الرحيم
وقد نقضت بحذر فإنه أبلغ من حاذر مع زيادة حروفه ، فإن أجيب بأنها أكثرية فيأمر حبا بالوفاق وإن أجيب بأن ما ذكر لا ينافي أن يقع في البناء إلا نقص زيادة معنى بسبب آخر كالإلحاق بالأمور الجبلية مثل شره ونهم فجاز أن حاذرا أبلغ من حذر لدلالته على زيادة الحذر وإن لم يدل على ثبوته ولزومه فهو على ما فيه لا يصفو على كدر لأنهم صرحوا بأنه قد كثر استعمال فعيل في الغرائز كشريف وكريم وفعلان في غيرها كغضبان وسكران فيقتضي أنه أبلغ ولو من وجه أولا فسواء وإن أجيب بأن القاعدة فيما إذا كان اللفظان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان وصد وصديان ورحيم ورحمن لا كحذر وحاذر للاختلاف فإن أحدهما اسم فاعل والآخر صفة مشبهة فيقال قد صرح ابن الحاجب بأنه من أبنية المبالغة المعدودة من اسم الفاعل فهما متحدان نوعا أيضا فيحصل الانتقاض البتة ثم إنهم استشكلوا الأبلغية بأن أصل المبالغة مما لا يمكن هنا لأنها عبارة عن أن تثبت للشيء أكثر مما له وذلك فيما يقبل الزيادة والنقص ، وصفاته تعالى منزهة عن ذلك لاستلزامه التغير المستلزم للحدوث ، وأجيب بأن المراد الأكثرية في
التعلقات والمتعلقات لا في الصفة نفسها وهذا إذا كانت صفة ذات وإن كانت صفة فعل فلا إشكال على ما ذهب إليه الأشاعرة من القول بحدوثها ، وأما على ما ذهب إليه ساداتنا الماتريدية القائلون بقدوم صفة التكوين فيجاب بما أجيب به عن الأول.
وأما سابعا فلأن قولهم فعلى الأول قيل يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن إن أرادوا به أن أبلغية الرحمن هاهنا باعتبار كثرة أفراد الرحمة في الدنيا لوجودها في المؤمن والكافر فلا يستقيم عليه ، ورحيم الآخرة إذ النعم الأخروية غير متناهية وإن خصت المؤمن ، وإن أرادوا أنها باعتبار كثرة أفراد المرحومين فلا يخفى أن كثرة أفرادهم إنما تؤثر في الأبلغية باعتبار اقتضائها كثرة أفراد الرحمة في الدنيا أيضا ومعلوم أن أفراد الرحمة في الآخرة أكثر منها بكثير بل لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا فهذا الوجه مخدوش على الحالين على أن في اختصاص رحمة الآخرة بالمؤمنين مقالا إذ
قد ورد في الصحيح شفاعته صلى اللّه تعالى عليه وسلم لعامة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 65
الناس من هول الموقف
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء : 79] وروي تخفيف العذاب عن بعض الأشقياء في الآخرة
وكون الكفار في الأول تبعا غير مقصودين كيف وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد منه فليس ذلك رحمة في حقهم والتخفيف في الثاني على تقدير تحققه نزول من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها فليس رحمة من كل الوجوه ليس بشيء أما أولا فلأن القصد تبعا وأصالة لا مدخل له وحبذا الولد من أين جاء ، وأما ثانيا فلأن ملاقاتهم بعد لما هو أشد فلا يكون ذلك رحمة في حقهم يستدعي أن لا رحمة من اللّه تعالى لكافر في الدنيا كما قد قيل به لقوله تعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [آل عمران : 178] وقوله تعالى : فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها [التوبة : 55] فيبطل حينئذ دعوى شمول الرحمة المؤمن والكافر في الدنيا إذ لا فرق بين ما يكون للكافر في الدنيا مما يتراءى أنه رحمة وما يكون له في الآخرة فوراء كل عذاب شديد ، وأما ثالثا فلأن كون التخفيف ليس برحمة من كل الوجوه لا يضر وكل أهل النار يتمنى التخفيف وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ [غافر : 49] وحنانيك بعض الشر أهون من بعض ، وأما ثامنا فلأن قولهم وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة إلخ فيه بعض شيء وهو أنه يصح أن يكون بالاعتبار الأول لأن نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الآخرة نعم يجاب عنه بأنه يلزم حينئذ أن يكون ذكر رحيم الدنيا لغوا ولا يلزم ذلك على اعتبار الكيفية إذ المراد يا موليا لجسام النعم في الدارين ولما دونها في الدنيا.
وأيضا مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها مشيرا إلى عموم الأول وخصوص الثاني ويحصل في ضمنه الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه الباعثة لمزيد شكره إلا أنه يرد عليه كسابقه أن الأثر لا يعرف والمعروف المرفوع
«رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما»
وكفاية كونه من كلام السلف ليس بشيء كما لا يخفى ، وأما تاسعا فلأن السؤال عن تقديم الرحمن معترض بمقبول ومردود ، وذكر ابن هشام «1» أنه غير متجه لأن هذا خارج عن كلام العرب إذ لم يستعمل صفة ولا مجردا من أل فهو بدل لا نعت والرحيم نعت له لا نعت لاسم اللّه سبحانه إذ لا يتقدم البدل على النعت ومما يوضح لك أن الرحمن غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه : 5] الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن : 1] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء : 110] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الفرقان : 60] وقال ابن خروف هو صفة غالبة ولم يقع تابعا إلا للّه تعالى في البسملة والحمدلة ولذا حكم عليه بغلبة الاسمية وقل استعماله منكرا ومضافا فوجب كونه بدلا لا صفة لكون لفظة اللّه أعرف المعارف ، وقال غير واحد : إنهما ذكرا لإفادة الشمول والعموم كما تقول الكبير والصغير يعرفه ولو عكست صح وكان المعنى بحاله ومثله لا يلزم فيه الترتيب كما فصل في المثل السائر.
وللعلماء في هذا الترتيب كلام كثير وادعى العلامة المدقق في الكشف أن التحقيق يقتضي أن يرد النظم على هذا الوجه ولا يجوز غيره لأن اللّه اسم للذات الإلهية باعتبار أن الكل منه وإليه وجودا ورتبة وماهية والرحمن اسم له باعتبار إفاضة الرحمة العامة أعني الوجود على الممكنات والرحيم اسم له باعتبار تخصيص كل ممكن بحصة من الرحمة وهي الوجود الخاص وما يتبعه من وجود كمالاته فلو لم يورد كذلك لم يكن على النهج الواقع المحقق ذوقا وشهودا عقلا ووجودا ، وأيضا لما كان المقصود تعليم وجه التيمن بأسمائه الحسنى وتقديمها عند كل ملم كان المناسب أن يبدأ من الأعلى فالأعلى إرشادا لمن يقتصر على واحد أن يقتصر على الأولى فالأولى وتقريرا في ذهن السامع لوجه التنزل أولا فأولا انتهى ، ويؤيد
___________
(1) قال الشهاب بعد نقل كلام ابن هشام ولا يخفى ما فيه وإن استفاضة إضافته نحو رحمن الدنيا تنافيه فتأمل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 66
بعضه بعض ما أسلفناه من الآثار «1» والبعض الآخر في القلب منه شيء لأن تخصيص الرحمن بالوجود العام والرحيم بالكمالات تحكم غير مرضي وربما ينافي المأثور على أنه لا معنى لإفاضة الوجود على الكل إلا تخصيص كل ممكن بحصة منه وهل يوجد في الخارج من النوع إلا الحصص الإفرادية فتخصيص الإفاضة بالرحمن والتخصيص بالرحيم على ما يلوح بمعزل عن التحقيق والعجب ممن فاته ذلك «2» ، وأما عاشرا فلأن ما ذكروه في الجواب عن قول بني حنيفة بأنه غلو في الكفر فيكون الإطلاق غير صحيح لغة وشرعا فيه أنه «3» إذا كان إطلاقه عليه تعالى شأنه مجازا كما زعموا وبالغلبة فكيف يقال : إن استعماله في حقيقته وأصل معناه خطأ لغة وقد ذهب السبكي إلى أن المخصوص به تعالى هو المعرف دون المنكر والمضاف لوروده لغيره ورد به على القول بأنه مجاز لا حقيقة له وأن صحة المجاز إنما تقتضي الوضع للحقيقة لا الاستعمال نعم هو في لسان الشرع يمنع إطلاقه على غيره مطلقا وإن جاز لغة كالصلاة «4» على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبذلك صرح العز بن عبد السلام وقيل : إن رحمانا في البيت مصدر لا صفة مشبهة والمراد لا زلت ذا رحمة وفيه ما لا يخفى وافهم كلامه أن الرحيم يوصف به غيره تعالى وهو المعروف لكن أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري أنه قال : الرحيم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه ولعل مراده المعرف دون المنكر والمضاف فافهم ، وأما الحادي عشر فلأن المحافظة على رؤوس الآي إنما تحسن - كما قال الزمخشري - بعد إيقاع المعاني على النهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه فأما أن تهمل المعاني ويهتم للتحسين وحده فليس من قبيل البلاغة «5».
وقال الشيخ عبد القاهر : أصل الحسن في جميع المحسنات اللفظية أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني فمجرد المحافظة على الرؤوس لا يصير نكتة للتقديم إلا بعد أن يثبت أن المعاني إذا أرسلت على سجيتها كانت تقتضي التقديم على أن المحافظة لا تجري في كل سورة بل فيها ما يقتضي خلاف هذا كسورة الرحمن ، وأيضا هو مبني على أن الفاتحة أول نازل فروعي فيها ذلك ثم اطرد في غيرها وعلى أن البسملة آية من السورة ودون ذلك سور من حديد ، وعندي من باب الإشارة أن تأخير الرحيم لأنه صفة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال تعالى : بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة : 128] وبه عليه السلام كمال الوجود وبالرحيم تمت البسملة وبتمامها تم العالم خلقا وإبداعا وكان صلى اللّه تعالى عليه وسلم مبتدأ وجود العالم عقلا ونفسا فبه بدأ الوجود باطنا وبه ختم المقام ظاهرا في عالم التخطيط فقال لا رسول بعدي فالرحيم هو نبينا عليه الصلاة والسلام وبسم اللّه هو أبونا آدم عليه السلام وأعني في مقام ابتداء الأمر ونهايته وذلك أن آدم عليه السلام حامل الأسماء قال تعالى : وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ومحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم حامل معاني تلك الأسماء التي حملها آدم عليه السلام.
لك ذات العلوم من عالم الغي ب ومنها لآدم الأسماء
وهي الكلم
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم «أوتيت جوامع الكلم» «6»
ومن أثنى على نفسه أمكن وأتم ممن أثنى عليه كيحيى وعيسى عليهما السلام ومن حصل له الذات فالأسماء تحت حكمه وليس كل من حصل اسما يكون
___________
(1) وهو
أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يكتببسم اللّه الرحمن الرحيم
حتى نزلت سورة النمل
ا ه منه.
(2) هو الشهاب ا ه منه.
(3) واعترضه ابن السبكي أيضا بأن الغلو لا يفيد جوابا إذ غايته أن ذلك السبب الحامل لهم على الإطلاق فافهم ا ه منه.
(4) أي على رأي.
(5) وبني على ذلك أن التقديم في وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ليس لمجرد الفاصلة بل لرعاية الاختصاص ا ه منه.
(6) وقد حقق ذلك الشيخ قدس سره في النصوص فراجعه إن أردته ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 67
المسمى محصلا عنده ولهذا فضلت الصحابة علينا رضوان اللّه تعالى عليهم فإنهم حصلوا الذات وحصلنا الأسماء ، ولما راعينا الاسم مراعاتهم الذات ضوعف لنا الأجر فللعامل منا أجر خمسين ممن يعمل بعمل الصحابة لا من أعيانهم بل من أمثالهم والحسرة الغيبة التي لم تكن لهم فكان تضعيف على تضعيف «1» فنحن الإخوان وهم الأصحاب وهو صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلينا بالأشواق وما أفرحه بلقاء واحد منا وكيف لا يفرح وقد ورد عليه من كان بالأشواق إليه ، وأيضا وجدنا بين اللّه والرحمن من المناسبة ما ليس بينه وبين الرحيم فلهذا قدم الرحمن على الرحيم. بيان ذلك أما أولا فلاقتران الرحمن بالجلالة في قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء : 110] وقد يشعر هذ الاقتران بجعلهما للذات ولذلك اختار من اختار البدل على النعت وجعلوه إشارة إلى مقام الجمع المرموز إليه بما صح عند القوم من طريق الكشف أن اللّه تعالى خلق آدم على صورته والرحيم ليس كذلك ، وأما ثانيا فلأن في اللّه وفي الرحمن ألفين ألف الذات وألف العلم والأولى في كل خفية والثانية ظاهرة وإنما خفيت الأولى في الأول لرفع الالتباس في الخط بين اللّه والإله وفي الثاني على ما عليه أهل اللّه في رسمه وهو أحد الرسمين عند أهل الرسوم لدلالة الصفات عليهما دلالة ضرورية من حيث قيام الصفة بالموصوف فخفيت الذات وتجلت للعالم الصفات فلم يعرفوا من الإله غيرها والجهل هنا كمال وذلك حقيقة العبودية.
زدني بفرط الحب فيك تحيرا وارحم حشا بلظى هواك تسعرا
فالرحمن مشير إلى الذات وسائر الصفات فالألف الظاهرة واللام والراء إشارة إلى العلم والإرادة والقدرة والحاء والميم والنون إشارة إلى الكلام والسمع والبصر ، وشرط هذه الصفات الحياة ولا يتحقق المشروط بدون الشرط فظهرت الصفات السبع بأسرها وخفيت الذات كما ترى وادعى بعض العارفين أن الألف الخفية هنا ظهرت من حيث الجزئية من هذا اللفظ في الشيطان بناء على أخذه من شطن وزيادة الألف فيه للإشارة إلى عموم الرحمة الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فللشيطان أيضا حصة منها ومنها وجوده وبقي سر لا يمكن كشفه ولا كذلك الرحيم إذ ليس فيه إلا ألف العلم ولما كان هذا الاسم مشيرا إلى سيدنا محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم باعتبار رتبته ظهرت فيه لكونه المرسل إلى الناس كافة فطلب التأييد فأعطيها فظهر بها ، وأما ثالثا فقد طال النزاع في تحقيق لفظ الرحمن كما طال في تحقيق لفظ اللّه حتى توهم أنه ليس بعربي لنفور العرب منه فإنهم لما قيل لهم اعبدوا اللّه لم يقولوا وما اللّه ولما قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ولعل سبب ذلك توهمهم التعدد وأنهم خافوا أن يكون المعبود الذي يدلهم عليهم من جنسهم فأنكروه لذلك لا لأنه ليس بعربي ، واختلف أيضا في الصرف وعدمه قال ابن الحاجب : النون والألف إذا كانا»
في اسم فشرطه العلمية وفي صفة فانتفاء فعلانة وقيل وجود فعلي ، ومن ثمة اختلف في رحمن دون سكران وندمان وبنو أسد يصرفون جميع فعلان لأنهم يقولون في كل مؤنث له فعلانة ا ه وقال في التسهيل واختلف فيما لزم تذكيره كلحيان بمعنى كبير اللحية فمن منعه ألحقه بباب سكران لأنه أكثر ومن حذفه رأى أنه ضعف داعي منعه والأصل الصرف ، واختار الزمخشري والشيخ الرضي وابن مالك واستظهره البيضاوي عدم الصرف إلحاقا له بما هو أغلب في بابه لأن الغالب في فعلان صفة فعلى حتى ذكر الإمام «3» السيوطي أن ما مؤنثه فعلانة لم يجىء إلا أربعة عشر لفظا بل إن فعلان صفة من فعل بالكسر لم يجئ منه ما مؤنثه فعلانة أصلا إلا ما رواه المرزوقي من خشيان
___________
(1) هذا مضمون أثر صح عند الصوفية ا ه منه.
(2) وهاتان الزيادتان في الصفة مشابهتان لألف التأنيث في عدم قبولها هاء التأنيث فلذا لو قبلتها انصرفت كندمان ندمانة فافهم ا ه منه. [.....]
(3) أي في شرح الألفية ا ه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 68
وخشيانة وإنما اقتضى الإلحاق أظهرية ذلك مع أن كون الأصل في الاسم الصرف يقتضي خلافه لأن رعاية ما هو الغالب في النوع أولى من رعاية الأصل ، والحشر مع الجماعة عيد ولما رأى السعد أن هذه المسألة مما تعارض فيها الأصل والغالب ولم يترجح عنده أحدهما مال إلى جواز الصرف وعدمه عملا بالأمرين والأعمال في الجملة أولى من الإهمال بالكلية وحيث لم يسمع هذا الاسم إلا مضافا أو معرفا بأل أو منادى وما ورد شاذا كما في البيت لا يصلح شاهدا لأحد الأمرين لاحتمال أن يكون ممنوعا وألفه للإطلاق عدلوا إلى الاستدلال واتسعت دائرة المقال والرحيم سليم من هذا فافهم ذاك واللّه يتولى هداك ، وإنما جعل اللّه البسملة مبدأ كلامه لوجهين ، أما الأول فلأنها إجمال ما بعدها وهي آية عظيمة ونعمة للعارف جسيمة لا نهاية لفوائدها ولا غاية لقيمة فوائدها والباحث عنها مع قصرها إذا أراد ذرة من علمها ودرة من عيلمها احتاج إلى باع طويل في العلوم واطلاع عريض في المنطوق والمفهوم مثلا إذا أراد أن يبحث عن الباء من حيث إنها حرف جر بل عن سائر كلماتها من حيث الإعراب والبناء احتاج إلى علم النحو وإذا أراد أن يبحث عن أصول كلماتها كيف كانت وكيف آلت احتاج إلى علمي الصرف والاشتقاق وإن أراد أن يبحث عن نحو القصر بأقسامه وهل يوجد فيها شيء منه احتاج إلى علم المعاني وإن أراد أن يبحث عما فيها من الحقيقة والمجاز احتاج إلى علم البيان وإن أراد أن يبحث عما بين كلماتها من المحسنات اللفظية احتاج إلى علم البديع وإن أراد أن يبحث عنها من حيث إنها شعر أو نثر موزون أو غير موزون مثلا احتاج إلى علمي العروض والقوافي وإن أراد أن يعرف مدلولات الألفاظ لغة احتاج إلى مراجعة اللغة وإن أراد أن يعرف من أي الأقسام وضع هاتيك الألفاظ احتاج إلى علم الوضع وإن أراد معرفة ما في رسمها احتاج إلى علم الخط وإن أراد البحث عن كونها قضية ومن أي قسم من
أقسامها أو غير قضية احتاج إلى علم المنطق وإن أراد أن يعرف أن كنه ما فيها من الأسماء هل يعلم أولا احتاج إلى علم الكلام وإن أراد معرفة حكم الابتداء بها وهل يختلف باختلاف المبدوء به احتاج إلى علم الفقه وإن أراد معرفة أن ما فيها ظاهر أو نص مثلا احتاج إلى علم الأصول وإن أراد معرفة تواترها احتاج إلى علم المصطلح وإن أراد معرفة أنها من أي مقولة من الأعراض احتاج إلى علم الحكمة وإن أراد معرفة طبائع حروفها احتاج إلى علم الحرف وإن أراد معرفة أنواع الرحمة المشار إليها بها احتاج إلى علم الأفلاك وعلم تشريح الأعضاء وخواص الأشياء وعلم المساحة وغير ذلك وإن أراد معرفة ما يمكن التخلق به مما تدل عليه الأسماء احتاج إلى علم الأخلاق وإن أراد معرفة ما خفي على أرباب الرسوم من الإشارات فليضرع إلى ربه وإن أراد أن يقف على جميع ما فيها من الأسرار فليعد غير المتناهي وكيف يطمع في ذلك وهي عنوان كلام اللّه تعالى المجيد وخال وجنة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وعلى تفنن واصفيه بوصفه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وإن أردت أن تمتحن ذهنك في بعض أسرارها فتأمل سر افتتاحها واختتامها بحرفين شفويين ومع كل ألف صورية متصلة بأول الأول وآخر الآخر وتحت الأول دائرة غيبية ظهرت في صورة الثاني وسر ما وقع فيها من أنواع التثليث أما أولا ففي مخارج الحروف فإنها ثلاثة الشفة واللسان والحلق في الباء واللام والهام. وأما ثانيا ففي المحذوف من حروفها فإنها ثلاثة أيضا ألف الاسم وألف اللّه وألف الرحمن. وأما ثالثا ففي المنطوق منها والمرسوم فإنه ثلاثة أنواع أيضا منطوق به مرسوم كالباء ومنطوق به غير مرسوم كألف الرحمن ومرسوم غير منطوق به كاللام منه مثلا ، وأما رابعا ففي المتحرك والساكن ، فمتحرك لا يسكن كالباء وساكن لا يتحرك كالألف ، وقابل لهما كميم الرحيم وقفا ووصلا ، وأما خامسا ففي أنواع كلماتها الملفوظة والمقدرة فهي على رأي اسم وفعل وحرف ، وأما سادسا ففي أنواع الجر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 69
الذي فيها فهو جر بحرف وبإضافة وبتبعية على المشهور ، وأما سابعا ففي الأسماء الحسنى التي ذبحتها فهي اللّه والرحمن والرحيم ، وأما ثامنا ففي العاملية والمعمولية فكلمة عاملة غير معمولة ومعمولة غير عاملة وعاملة معمولة. وأما تاسعا ففي الاتصال والانفصال فمتصل بما بعده فقط وبما قبله فقط وبما بعده وقبله ، وفي كل واحد من هذه الثلاثيات أسرار تحير الأفكار وتبهر أولي الأبصار وانظر لم اشتملت حروفها على الطبائع الأربع وتقدم في الظهور الهواء «1» ولم كانت تسعة عشر ، ولم اعتنق اللام الألف واتصلت الميم باللام والهاء بالراء والنون بها نطقا لا خطا ولم فتح ما قبل الألف حتى لم يتغير في موضع أصلا؟ وتفكر في سر تربيع الألفاظ وسكون السين وتحرك الميم ونقطتي الياء ونقطة النون والباء ، والأمر وراء ما يظنه أرباب الرسوم ونهاية ما ذكروه البحث عن المدلولات وتوسيع دائرة المقال بإبداء الاحتمالات ، وقد صرح السرميني بإبداء خمسة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وأحد وتسعين ألفا وثلاثمائة وستين احتمالا وزدت عليه من فضل اللّه تعالى حين سئلت عن ذلك بما يقرب أن يكون بمقدار ضرب هذا العدد بنفسه والدائرة أوسع إلا أن الواقع البعض ، ولقد خلوت ليلة بليلى هذه الكلمة وأوقدت مصباح ذلي في مشكاة حضرتها المكرمة وفرشت لها سري وضممتها سحرا إلى سحري ونحري.
فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
وأما الوجه الثاني فلتعليم العبادة إذا بدؤوا بأمر كيف يبدؤون به ولهذا
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة وأخرجه الحافظ عبد القادر الرهاوي «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر»
والبال الحال والشأن فمعنى ذي بال شريف يحتفل به ويهتم كأنه شغل القلب وملكه حتى صار صاحبه ، وقيل شبه الأمر العظيم بذي قلب على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية ، وفي هذا الوصف فائدتان إحداهما رعاية تعظيم اسم اللّه تعالى لأن يبتدىء به في الأمور المعتد بها. والأخرى التيسير على الناس في محقرات الأمور كذا قالوه ، وعندي أن الأظهر جعل الوصف للتعميم كما في قوله تعالى : وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام : 38] أي كل أمر يخطر بالبال جليلا كان أو حقيرا لا يبدأ به إلخ. وفي هذا غاية الإظهار لعظمة اللّه تعالى وحث على التبري عن الحول والقوة إلا باللّه. وإشارة إلى أن قدر العباد غير مستقلة في الأفعال فحمل تبنة كحمل جبل إن لم يعن اللّه الملك المتعال وقد أمر سبحانه وتعالى بالإكثار من ذكره فقال تعالى : فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة : 200] وحيث لم يجب ذلك كما هو معلوم يحصل للناس تيسير ، وقد سن صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم بعض الأشياء ونفى الحرج بنفي وجوبها وفي
قوله عليه الصلاة والسلام «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شثع نعله»
وما
روي «أن اللّه تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام يا موسى سلني حتى ملح قدرك وشراك نعلك»
ما يدفع عنك توهم عدم رعاية التعظيم في ذكره تعالى عند محقرات الأمور وأي فرق عند المنصف بين ذكره سبحانه عندها وطلبها منه. على أن العارف الجليل لا يقع بصره على شيء حقير ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك : 3 ، 4] نعم التسمية على الحرام والمكروه مما لا ينبغي بل هي حرام في الحرام لا كفر على الصحيح مكروهة في المكروه وقيل مكروهة فيهما إن لم يقصد استخفافا وإن قصده - والعياذ باللّه
___________
(1) قال الشيخ الأكبر قدس سره :
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى لولا الهوى في الكون ما عبد الهوى
ا ه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 70
تعالى - كفر مطلقا وهذا لا يضر فيما قلناه كما لا يخفى. وقد اضطرب الحديث هنا فوقع في بعض الروايات لا يبدأ فيه بالحمد للّه وفي بعضها بحمد اللّه وفي البعض أجذم وفي أخرى أقطع وفي خبر كل كلام وفي أثر يبدأ وفي آخر يفتتح وفي موضع وضع الذكر بدل الحمد إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع حتى قيل : إنه مضطرب سندا ومتنا ولولا أنه في فضائل الأعمال ما اغتفر فيه ذلك على أنه تقوى بالمتابعة معنى أيضا والشهرة في دفع التعارض بين الروايات تغني عن التعرض للاستيفاء ، واستحسن فيه أن روايتي البسملة والحمدلة تعارضتا فسقط قيداهما كما في مسألة التسبيع في الغسلات عند الشافعي ورجع للمعنى الأعم وهو إطلاق الذكر المراد منه إظهار صفة الكمال وقيل إن المراد في كل رواية الابتداء بأحدهما أو بما يقوم مقامه ولو ذكرا آخر بقرينة تعبيره تارة بالبسملة وأخرى بالحمدلة وطورا بغيرهما ولا يرد على كل أنا نرى كثيرا من الأمور يبدأ فيه بما ورد في الحديث مع أنه لا يتم ونرى كثيرا منها بالعكس لأنا نقول المراد من الحديث أن لا يكون معتبرا في الشرع فهو غير تام معنى وإن كان تاما حسا فباسم اللّه تعالى تتم معاني الأشياء ومن مشكاةبسم اللّه الرحمن الرحيم
تشرق على صفحات الأكوان أنوار البهاء.
ولو جليت سرا على أكمه غدا بصيرا ومن راووقها تسمع الصم
ولو أن ركبا يمموا ترب أرضها وفي الركب ملسوع لما ضره السم
ولو رسم الراقي حروف اسمها على جبين مصاب جن أبرأه الرسم
وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها لأسكر من تحت اللوا ذلك الرقم
ولما افتتح سبحانه وتعالى كتابه بالبسملة وهي نوع من الحمد ناسب أن يردفها بالحمد الكلي الجامع لجميع أفراده البالغ أقصى درجات الكمال فقال جل شأنه : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وهو أول الفاتحة وآخر الدعوات الخاتمة كما قال تعالى : وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس : 10].
كأن الحب دائرة بقلبي فأوله وآخره سواء
وقد قيل للجنيد قدس سره ما النهاية؟ فقال الرجوع إلى البداية وفيه أسرار شتى ، والحمد على المشهور هو الثناء باللسان على الجميل سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل ، قالوا ولا بد لتحققه من خمسة أمور محمود به ومحمود عليه وحامد ومحمود وما يدل على اتصاف المحمود بصفة فالأول صفة تظهر اتصاف الشيء بها على وجه مخصوص ويجب كونه صفة كمال ولو ادعاء إذ المناط التعظيم ولا فرق عند الإمام الرازي قدس سره بين كونه ثبوتيا أو سلبيا متعديا أو غير متعد بل ولا بين كونه صادرا عن المحمود باختياره أولا كما قرره العلامة الدواني وصدر الأفاضل في حواشي التجريد والمطالع وجزم به المحقق الملا خسرو وادعى أنه الأشهر إلا أن العلامة في شرح التهذيب نقل عن البعض وجوب كونه اختياريا واختاره كما في المحمود عليه فكما لم يسمع الحمد على رشاقة القدر وصباحة الخد لم يسمع الحمد بهما وعدم حمد اللؤلؤة كما يمكن كونه من جهة حال المحمود عليه يمكن كونه من جهة المحمود فجعله دليلا على أحدهما فقط تحكم ، الثاني ما يقع الثناء بإزائه ويقابله بمعنى أن المثنى عليه لما اتصف به أظهر كماله ولولاه لم يتحقق ذلك فهو كالعلة الباعثة وقد يكون الشيء الواحد محمودا به وعليه معا كأن رأى من ينعم أو يصلي فأظهر اتصافه بذلك فهناك يتحقق الأمران لحيثيتين ويجب أن يكون كمالا على نحو ما سبق وظاهر كلام الجمهور أنه أعم من كونه فعلا صادرا من المحمود أو كيفية قائمة به ويفهم كلام الإمام اختيار الأول واشترط أن يكون حصوله من المحمود باختياره ، واستشكل الحمد على صفاته تعالى الذاتية سواء جعلت عين ذاته أو زائدة عليها ، وأجيب بأن الحمد عليها بتنزيلها منزلة الاختياري لكون ذاته كافية فيها أو بأن المراد بالفعل الاختياري المنسوب إلى الفاعل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 71
المختار سواء كان مختارا فيه أولا. وقيل إنها صادرة بالاختيار بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا بمعنى صحة الفعل والترك أو بمعناه والصفات صادرة بالاختيار وسبقه عليها ذاتي فلا يلزم حدوثها ، وقيل إنه بالنظر إلى حمد البشر فالمراد ما جنسه اختياري كما قيل في قيد اللسان وأورد على الأول مع ما فيه أنه إنما يحسن إذا كان المعتاد في الأفعال الاختيارية كون فاعلها مستقلا في إيجادها من غير احتياج إلى شيء آخر من آلة وغيرها ليظهر استقامة التنزيل وليس كذلك فإن العمل الاختياري يحتاج إلى العلم والقدرة والكثير إلى آلة وأسباب وعلى الثاني أنه خلاف المتبادر وعلى الثالث أن هذا المعنى ادعاه الحكماء حين قالوا بقدم العالم للإيجاب فلزمهم أن لا يكون لموجده إرادة وقالوا : إن صدق الشرطية لا يقتضي وجود مقدمها ولا عدمه فمقدم الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع ومقدم الثانية دائم اللاوقوع ولهذا أطلق عليه الصانع وهو من له الإرادة وهو صرح ممرد من قوارير لأن ما بالإرادة يصح وجوده بالنظر إلى ذات الفاعل فإن أريد بالدوام الدوام مع صحة وقوع النقيض فهو مخالف لما صرحوا به من إيجاب العالم بحيث لا يصح عدم وقوعه منه وإن أريد مع امتناع الوقوع فليس هناك من الإرادة إلا لفظها ومتعلقها لا محيص عن حدوثه والعالم عندهم قديم واختيار الشق الأول ثم القول بأن الصادر عن الموجب بالذات ليس واجبا كذلك بل ممكن بذاته والقدم زماني لا ذاتي وصحة وقوع النقيض لا يقتضي الوقوع إذا أحجم القلم عنه إنما يظهر في العالم ويبقى ما نحن فيه من الصفات ولا أقدم على إطلاق القول بإمكانها لاحتياجها للذات واستنادها إليها وعلى الرابع أن اتصاف الصفات بالصدور لو انشرحت لتوجيهه الصدور يبقى الإشكال في صفة القدرة ولا قدرة لدعوى صدورها بالاختيار وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه فلا حسم وعلى الخامس أن هاتيك الصفات مقدسة عن أن
تشرك مع صفة البشر في جنس وأين الأزلي من الزائل؟ على أنه على ما فيه خلاف المنساق إلى الذهن ولكثرة المقال والقيل لم يشترط بعضهم في المحمود عليه أن يكون اختياريا لأنه الباعث على الحمد وأي مانع من أن لا يكون كذلك ومن ذلك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء : 79] وعند الصباح يحمد القوم السرى ، وجاورته فما حمدت جواره.
والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم
والحق الحقيق بالاتباع أن الحمد اللغوي لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية والحمد على الصفات الذاتية إما لغوي راجع لما يترتب عليها من الآثار الاختيارية ، أو عرفي ولا ضرر في تعلقه بها ، وما ذكر من الأمثلة ونحوها فالحمد فيها مجاز عن الرضا ، ويقال في الآية زيادة عليه إن محمودا حال من الضمير المنصوب أو نعت لمقاما والمعنى محمودا فيه النبي لشفاعته أو اللّه تعالى لتفضله عليه بالإذن وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيقه «والثالث» وهو من يتحقق منه الحمد وشرطه أن يكون معظما بثنائه للمحمود ظاهرا وباطنا كما حققه الصدر نعم لا يلزم اعتقاد اتصاف المحمود بالجميل عند المحققين بل الشرط عدم اقترانه ثبوت تحقير فيدخل الوصف بما قطع بانتفائه ولا يناقضه كما قال الدواني توجيه الشريف اشتراط التعظيمين بأنه إذا عري عن مطابقة الاعتقاد لم يكن حمدا بل سخرية لأنه أراد بالاعتقاد لازمه وهو إنشاء التعظيم لا معناه الحقيقي فإن الحمد قد يكون إنشائيا ولا معنى لمطابقة الاعتقاد فيه لأن ما لا يتعلق به الاعتقاد لا يوصف حقيقة بمطابقته إذ المتبادر منها الاتحاد في الإيجاب والسلب أو ما يستلزمه أو يؤول إليه وذا لا يوجد إلا في القضايا ولذا لا تسمع أحدا يقول إن التصور يطابقه بل لو قال قائل إن مفهوم اضرب يطابق الاعتقاد ضرب عنه صفحا وربما نسب لما يكره وحمل المطابقة على هذا أقرب من التزام اتصاف التصورات بالمطابقة واللامطابقة إذ ليس فيه سوى ذكر الملزوم وإرادة اللازم مع أن أهل العرف العام قد يطلقون الاعتقاد بهذا المعنى فيقولون فلان له اعتقاد في فلان ويريدون ما أردنا ولا بعد فيه لأن الناس يعدون الوصف بالجميل المعلوم الانتفاء إذا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 72
كان كذلك مدحا وحمدا كما في كثير من القصائد «وأما الجواب» بأن الواصف يعتقد الاتصاف وبأن المراد معان مجازية واتصاف المنعوت بها معتقد فيرده أن الأول خلاف البديهة والثاني خلاف الواقع والجواب عن الأول بأنه لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته ولم يكن اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي وعن الثاني بأنه لو كان خلاف الواقع لما كان مستعملا في معناه المجازي فيلزم أن لا يكون الكلام حقيقة ولا مجازا كلام نشأ من ضيق الصدر إذ لا يلزم من عدم اعتقاد المدلول أن لا يكون الكلام مستعملا فيه فالأخبار الغير المعتقدة كقول السني الخفي حاله : العبد خالق لأفعاله مستعمل في حقيقته غير معتقد بل جميع الأكاذيب التي يعتمدها أهلها كذلك ثم إن المجيب حمل أن الأول خلاف البديهة على أن مضمون تلك الأخبار خلافها وفرع عليه أنه يلزم أن لا يقصد العقلاء إفادته ويرد عليه المنع فإن الأكاذيب التي يعتمدها العاقل قد تخالف البديهة مع قصد إفادتها لغرض ما كالتغليط أو التنكيت أو الامتحان أو للتخبل كما في كثير من القضايا حتى قال بعض المحققين : لا يلزم أن يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازا وفيه تأمل «الرابع» المحمود وقد علمت ما يشترط فيه.
«الخامس» وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية وقد اشتهر تقييده باللسان وأريد به جارحة النطق ولما كان الواقع كون آلة التكلم في الغالب هي تلك الجارحة خصوه بها فلو فقد إنسان لسانه فأثنى بحروفه الشفوية أو خلق النطق في بعض جوارحه فأثنى به - كما شوهد في مقطوع جميع اللسان - فهو حمد وقضية التقييد أن لا يكون الصادر عمن لا جارحة له حمدا وقد قال تعالى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء : 44] وأما حمد اللّه تعالى نفسه نفسه مثلا فذهب الأكثر إلى أنه إخبار باستحقاق الحمد وأمر به أو مقول على ألسنة العباد أو مجاز عن إظهار الصفات الكمالية الذي هو الغاية القصوى من الحمد ومال السيد إلى الأخير.
وقال الدواني كون الحمد في حقه سبحانه مجازا بعيد عن قاعدة أهل الحق من إثبات الكلام له حقيقة والقول مساوق للكلام فالأظهر أن الحصر في اللسان إضافي لمقابلة الجنان والأركان والمراد الأمر الذي مصدره اللسان غالبا أو هو قيد غالبي يسوغ الاستعمال فيه واللفظ قد يكون موضوعا في أصل اللغة لعام ويشتهر في بعض مخصوص بحيث يصير فيه حقيقة عرفية وسبب الاشتهار إما كثرة تداول ذلك الفرد كما في الدابة ، وإما عدم الاطلاع على فرد آخر فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد حتى إذا استمر ولم يطلع على إطلاقه على فرد آخر ظن أنه موضوع لخصوصه كما في الميزان فإنه في الأصل موضوع لآلة الوزن ، ثم من لم يطلع إلا على ما له لسان وعمود ربما يجزم بأنه موضوع له فقط ولا يدري أن وراء ذلك موازين «1» ومثل هذا يجري في كثير من الألفاظ والأمر في المشتقات لا يكاد يخفى على من له أدنى فطنة لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الاشتقاق وفي غيرها ربما يشتبه على الجماهير وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة وعلى ذلك فقس الحمد فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال ، ولما كان الإظهار القولي أظهر أفراده وأشهرها عند العامة شاع استعمال لفظ الحمد فيه حتى صار كأنه مجاز في غيره مع أنه بحسب الأصل أعم بل الإظهار الفعلي أقوى وأتم فهو بهذا الاسم أليق وأولى كما هو شأن القول بالتشكيك وفرقوا بين الحمد والمدح بأمور.
«أحدها» أن الحمد يختص بالثناء على الفعل الاختياري لذوي العلم والمدح يكون في الاختياري وغيره ولذوي العلم وغيرهم كما يقال مدحت اللؤلؤة على صفائها «وثانيها وثالثها» أن الحمد يشترط صدوره عن علم لا ظن وأن
___________
(1) لموازين المياه وغيرها من موازين الحكمة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 73
تكون الصفات المحمودة صفات كمال والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما.
«ورابعها» أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح وهو أخص بالعقلاء والعظماء وأكثر إطلاقا على اللّه تعالى. «وخامسها» أن الحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال والمدح إخبار عن المحاسن ولذا كان الحمد إخبارا يتضمن إنشاء والمدح خبرا محضا «وسادسها» أن الحمد مأمور به مطلقا ففي الأثر
«من لم يحمد الناس لم يحمد اللّه»
والمدح ليس كذلك «احثوا في وجوه المداحين التراب» ويشعر كلام الزمخشري في الكشاف والفائق بترادفهما ففي الأول أنهما أخوان وجعل فيه نقيض المدح أعني الذم نقيضا للحمد وفي الثاني الحمد المدح والوصف بالجميل فالمدح عنده مخصوص بالاختياري وتأول المدح بالجمال وصباحة الوجه واحتمال أن يراد من الأخوين ما يكون بينهما اشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب كجبذ وجذب وأن الأدباء يجوزون التعريف بالأعم والنقيض هناك بالمعنى اللغوي ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضا لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى لا ينفي ما قلناه بل إذا أنصفت تكاد تجزم بأن الزمخشري قائل بالترادف ولا تستفزك هذه الاحتمالات لأنها كسراب بقيعة نعم هذا القول بعيد منه وهو شيخ العربية وفتاها فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن المدح يكون على غير الاختياري وكأنه لذلك لم يقل عز شأنه المدح للّه كما قالوا إظهارا لأن اللّه تعالى فاعل مختار وفي ذلك من الترغيب والترهيب المناسبين لمقام البعثة والتبليغ ما لا يخفى «وأما الشكر» فهو أيضا مغاير للحمد إلا أن بعضهم خصه بالعمل والحمد بالقول ، وبعض جعله على النعم الظاهرة ، والآخر على النعم الباطنة وادعى آخرون اختصاصه بفعل اللسان كالحمد في المشهور إلا أنه على النعمة وإليه يشير كلام الراغب «1» ، والمعروف أنه ما كان في مقابلتها قولا باللسان وعملا وخدمة بالأركان واعتقادا ومحبة بالجنان ، وقول الطيبي إن هذا عرف أهل الأصول فإنهم يقولون شكر المنعم واجب ويريدون منه وجوب العبادة وهي لا تتم إلا بهذه الثلاثة وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان غير طيب فإن ظاهر الكتاب والسنة إطلاق الشكر على غير اللسان قال تعالى : اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ : 13] وروى الطبراني «2» عن النواس بن سمعان «أن ناقة رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم الجدعاء سرقت فقال لئن ردها اللّه تعالى عليّ لأشكرن ربي فلما ردت قال الحمد للّه فانتظروا هل يحدث صوما أو صلاة فظنوا أنه نسي فقالوا له : فقال ألم أقل الحمد للّه؟!»
فلو لم يفهموا رضي اللّه تعالى عنهم إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه ، وزاد بعضهم في أقسام الشكر رابعا وهو شكر اللّه تعالى باللّه فلا يشكره حق شكره إلا هو ذكره صاحب التجريد وأنشد :
وشكري ذوي الإحسان بالقلب تارة وبالقول أخرى ثم بالعمل الاثني
وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي ولا بلساني بل به شكرنا عنا
والذي أطبق عليه الناس التثليث وعلى كل حال بينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه والحمد أقوى شعبة لأن حقيقته إشاعة النعمة والكشف عنها كما أن كفرانها إخفاؤها وسترها وتلك بالقول أتم لأن الاعتقاد أمر خفي في نفسه وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به وكم فرق بين حمدت اللّه وشكرته ومجدته وعظمته وبين أفعال العبادة وهي كلها موافقة للعادة ولسان الحال أنطق من لسان المقال أمر ادعائي كما هو المعروف في أمثاله ، ولهذا
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم فيما رواه ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما «الحمد رأس الشكر ما شكر
___________
(1) قال : الشكر هو الثناء على المحسن ا ه منه.
(2) والحديث الآتي أيضا فيه دلالة على هذا فافهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 74
اللّه تعالى عبد لا يحمده»
وهو وإن كان فيه انقطاع إلا أن له شاهدا «1» يتقوى به وإن كان مثله فحيث كان النطق يجلي كل مشتبه وكان الحمد أظهر الأنواع وأشهرها حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم شبهه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالرأس الذي هو أظهر الأعضاء وأعلاها والأصل لها والعمدة في بقائها وكأنه لهذا أتى به الرب سبحانه ليكون الرأس للرئيس ويفتتح النفيس بالنفيس أو لأنه لو قال جل شأنه الشكر للّه كان ثناء عليه تعالى بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل والحمد للّه ليس كذلك فهو أعلى كعبا وأظهر عبودية ويمكن أن يقال : إن الشكر على الإعطاء وهو متناه والحمد يكون على المنع وهو غير متناه فالابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له على جانب من الحسن لا نهاية له ودفع الضر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى ، وأيضا مورد الحمد في المشهور خاص ومتعلقه عام والشكر بالعكس موردا ومتعلقا ففي إيراده دونه إشارة قدسية ونكتة على ذوي الكثرة خفية وإلى اللّه ترجع الأمور وكأنه لمراعاة هذه الإشارة لم يأت بالتسبيح مع أنه مقدم على التحميد إذ يقال سبحان اللّه والحمد للّه على أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس فإن الأول يدل على كونه سبحانه وتعالى مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والثاني يشير إلى كونه محسنا إلى العباد ولا يكون محسنا إليهم إلا إذا كان عالما قادرا غنيا ليعلم مواقع الحاجات فيقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ولا يشغله حاجة نفسه عن حاجة غيره ، وإن أبيت - ولا أظن - قلنا كل تسبيح حمد وليس كل حمد تسبيحا لأن التسبيح يكون بالصفات السلبية فحسب والحمد بها وبالثبوتية على ما سلف فهو أعم منه بذلك الاعتبار «2» فافتتح به لأنه لجمعيته وشموله أوفق بحال القرآن وتقديم التسبيح هناك لغرض آخر ولكل مقام مقال والتعريف هنا للجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو مثله في قول لبيد يصف العير وأتنه :
وأرسلها العراك ولم يذدها ولم يشفق على نفض «3» الدخال
وعليه جمع منهم الزمخشري حتى قال والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم وقد صار هذا معترك الافهام ومزدحم أفكار العلماء الأعلام ، فقيل : إنه مبني على مسألة خلق الأعمال فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة كانت المحامد عليها راجعة إليهم فلا يصح تخصيص المحامد كلها به تعالى ورد بأن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وصح هذا عندهم لأن الأفعال الحسنة التي يستحق بها الحمد إنما هي بأقدار اللّه تعالى وتمكينه فبهذا الاعتبار يرجع الأمر إليه كله وأما حمد غيره فاعتداد بأن النعمة جرت على يده ، وقيل إنه جعل الجنس في المقام الخطابي منصرفا إلى الكامل كأنه كل الحقيقة ورد بأنه يجوز في الاستغراق أيضا بأن يجعل ما عدا محامده كالعدم فلا فرق بين اختصاص الجنس والاستغراق في منافاتهما ظاهرا لمذهبه ودفعهما بالعناية ، وقيل مبناه على أن المصادر نائبة مناب الأفعال وهي لا تعد ودلالتها عن الحقيقة إلى الاستغراق ورد بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة القرائن ، وقيل إنما اختاره بناء على أنه المتبادر الشائع لا سيما في المصادر وعند خفاء القرائن ورد بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه
___________
(1)
فعن أنس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم «إن إبراهيم سأل ربه فقال يا رب ما جزاء من حمدك؟ قال الحمد مفتاح الشكر والشكر يعرج به إلى رب العرش رب العالمين قال فما جزاء من سبحك؟ قال لا يعلم تأويل التسبيح إلا رب العالمين»
ا ه منه.
(2)
فعن محمد بن النصر قال قال آدم عليه السلام : يا رب شغلتني بكسب يدي فعلمني شيئا فيه مجامع الحمد والتسبيح فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه إذا أصبحت فقل ثلاثا وإذا أمسيت فقل ثلاثا الحمد للّه رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده فذلك مجامع الحمد والتسبيح
ا ه.
(3) المعروف في كتب اللغة نغص.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 75
الاستغراق وهو الشائع هناك مطلقا وأي مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد به سبحانه تعظيما ، فقرينة الاستغراق كنار على علم فالحق أن سبب الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته ابتداء وفيه أن فهم اختصاص الجنس من جوهر الكلام يدل على سرعته وهو معنى التبادر وقد رده ، وأيضا إذا كان الاختصاص بطريق برهاني فلا شبهة في خفائه فأين النار وأين العلم؟ وقيل غير ذلك ولا يبعد إن يقال إن اختيار الزمخشري كون التعريف للجنس وكون القول بالاستغراق وهم لا يبعد أن يكون رعاية لنزغة اعتزالية وأن يكون لنكتة عربية لأنه جعل أصل المعنى نحمد اللّه حمدا وزعم أن إياك نعبد وإياك نستعين بيان لحمدهم كأنه قيل : كيف تحمدوني فقيل إياك نعبد ثم سئل وأجاب فقيل في توجيه ذلك إنه لما كان معناه نحمد اللّه حمدا كان إخبارا عن ثبوت حمد غير معين من المتكلم له تعالى على أن المصدر للعدد فاتجه أن يقال كيف تحمدونه أي بينوا كيفية حمدكم فإنها غير معلومة فبين بقوله تعالى إياك نعبد إلخ أي نقول هذه الكلمات ونحمده بهذا الحمد ورد السؤال عن التعريف لأن المناسب للإبهام ثم البيان التنكير وأجاب أنه لتعريف الجنس من حيث وجوده في فرد غير معين ولذا بين ، وقيل لما كان المعنى نحمد حمدا كان المصدر للتأكيد فيكون دالا على الحقيقة من غير دلالة على الفردية والسؤال المقدر عن كيفية صدور تلك الحقيقة والجواب أنا نحمد حمدا مقارنا لفعل الجوارح وفعل القلب ولا نقتصر على مجرد القول ثم أورد بأنه يكفي لإفادة هذا المصدر المنكر فما فائدة التعريف؟ فأجاب بأنه تعريف للجنس للإشارة إلى الماهية المعلومة للمخاطب
من حيث هي ، وعلى هذين التوجيهين يكون اختياره الجنس ومنعه الاستغراق لرعاية مذهبه والاختصاص على الأول اختصاص الفرد وعلى الثاني اختصاص الجنس باعتبار الكمال ولا يخفى سقوط اعتراض السعد حينئذ بأن الاختصاصين متلازمان وكل منهما مخالف لمذهبه ظاهرا موافق له تأويلا فلا يكون رعاية المذهب موجبا لاختيار الجنس دون الاستغراق ولا يرد ما أورد السيد على الثاني من أنه كما يجوز الحمل على الجنس باعتبار الكمال على مذهبه يجوز الحمل على الاستغراق باعتبار تنزيل محامد غيره منزلة العدم لأن فيه تطويل المسافة والالتجاء إلى معونة المقام من غير حاجة ، وقيل حاصل الجواب عن كيفية صدور تلك الحقيقة بتخصيص العبادة المشتملة على الحمد وغيره لأن انضمام غيره معه نوع بيان لكيفيته أي حال حمدنا أنا نجمعه بسائر عبادات الجوارح والاستعانة في المهمات ونخص مجموعها بك وتقدير السؤال والجواب بحاله وحينئذ لا يصح أن يكون الاختيار للرعاية لأن الاختصاصين متلازمان بل لأن الحمد مصدر ساد مسد الفعل وهو لا يدل إلا على الحقيقة فكذا ما ينوب منابه وإن كان معرفة ليصح بيانه بإياك نعبد والحمل على الاستغراق يبطل النيابة إذ يصير الكلام مسوقا لبيان العموم ولا يصح البيان ، وهذا الاختيار مستفاد من جعل إياك نعبد بيانا لحمدهم ولعل الذي دعاه إليه ترك العاطف فظن أنه لذلك لا يكون إلا بيانا وهو من التعكيس لأن جعل الصدر متبوعا للعجز أولى من العكس فالمحققون المحقون على تعميم الحمد وأن الفصل «1» لأن الكلام الأول جار على المدح للغائب بسبب استحقاقه كل الحمد والثاني جار على الحكاية عن نفس الحامد وبيان أحواله بين يدي الباطن الظاهر والأول الآخر فترك العطف للتفرقة بين الحالتين لا للبيان ، ويدل على ذلك أن أحسن الالتفات أن يكون النقل من إحدى الصيغتين إلى الأخرى في سياق واحد لمعلوم
___________
(1) وهو ترك العاطف ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 76
واحد ولا بيان له على البيان على أن جعل إياك نعبد بيانا ربما يناقض ما ادعاه من أن الشكر بالقلب والجوارح واللسان والحمد بالأخير لأن العبادة تكون بها كلها فيلزم أن يكون الحمد كذلك وأيضا الذهاب إلى فسحة الالتفات والقول بأن قوله الحمد إلخ وارد على الشكر اللساني وإياك نعبد مشعر بالشكر بالجوارح وإياك نستعين مؤذن بالشكر القلبي أولى من الفرار إلى مضيق القول بالبيان ، وأيضا في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعار بأن استحقاقه له لاتصافه بها وقد تقرر أن في اقتران الوصف المناسب بالحكم إشعارا بالعلية وهاهنا الصفات بأسرها تضمنت العموم فينبغي أن يكون العموم في الحمد أيضا لأن الشكر يقتضي المنعم والمنعم عليه والنعمة فالمنعم هو اللّه تعالى والاسم الأعظم جامع لمعاني الأسماء الحسنى ما علم منها وما لم يعلم والمنعم عليه العالمون وقد اشتمل على كل جنس مما سمي به وموجب النعم الرحمن الرحيم وقد استوعب ما استوعب فإذن لا يستدعي تخصيص الحكم بالبعض سوى التحكم أو التوهم ، هذا وأنا لو خليت وطبعي لا أمنع أن تكون أل للحقيقة من حيث هي كما في قولهم الرجل خير من المرأة أو لها من حيث وجودها في فرد غير معين كما في أدخل السوق أو لها في جميع الأفراد وهو الاستغراق كما في إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر : 2] والقول بأن هذا المقام آب عن الاستغراق لأن اختصاص حقيقة الحمد به تعالى أبلغ من اختصاص أفرادها جمعا وفرادى لاستلزام الأول الثاني وسلوك طريقة البرهان أقضى لحق البلاغة ، وأيضا أصل الكلام نحمد اللّه تعالى حمدا وحمدنا بعض لا كل وفي اختصاص الجنس إشعار بأن حمد كل حامد لكل محمود حمد للّه تعالى على الحقيقة لأنه إنما حمده على الصفات الكمالية المفاضة عليه من الفياض الحق جل وعلا فهو فعله على الحقيقة والحمد على الفعل الجميل والمعتزلي وإن قال بالاستقلال لا يمنع أن الاقدار والتمكين منه تعالى فيمكنه من هذا الوجه أن يعمم عند المقتضى له وقد صرح بهذا الزمخشري أول التغابن فقال في قوله تعالى : لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [التغابن : 1] قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد باللّه تعالى ثم قال وأما حمد غيره فاعتداد بأن نعمة اللّه تعالى جرت على يده وقد يقال أيضا على أصله إن الحمد المستغرق لا يجوز أن يختص بل الحمد الحقيقي الكامل الذي يقتضيه إجراء هذه الصفات فاللام للحقيقة ويراد أكمل أنواعها فهو من باب ذلك الكتاب وحاتم الجود لأنه الذي يحق أن يطلق عليه الحقيقة حتى كأنه كلها لا لأنها للاستغراق في المقام الخطابي وتنزيل غير ذلك منزلة العدم فإنه تطويل للمسافة مع قصرها كلام لا أقبله وإن جل قائله ويعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال كيف ومن سنة اللّه تعالى التي لا تبديل لها إجراء الكلام على سبيل الخطابة وإن كان برهانيا فهي أكثر تأثيرا في النفوس وأنفع لعوام الناس كما سيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى عند قوله تعالى : ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل : 125] فالتحرز عن الاستغراق احترازا عن المقام الخطابي ذهول عن مقرىء كلام اللّه تعالى ، ثم لما كان المقام مقتضيا لدقائق النعم وروادفها لم يكن تنزيل الحمد الغير الكامل منزلة العدم من مقتضيات المقام وتصريح الزمخشري في التغابن بالتعميم ممنوع للتفرقة بين استغراق أفراد الحمد الخارجية والذهنية الحقيقية والمجازية الكاملة وغير الكاملة وبين اختصاص حقيقة الحمد كما يشعر به قوله وذلك لأن الملك على الحقيقة له وكذلك الحمد فكما أنه لا ينفي الملك عن غيره مطلقا فكذلك لا ينفي الحمد عنه كذلك فإن من أصل المعتزلة أن نعمة اللّه تعالى جارية على يد العبد لكنه موجد لانعمامه فله حمد يليق بإيجاده وللّه تعالى حمد
يليق بتمكينه وإفاضته وهو الحمد الكامل المختص به عز شأنه لا ذاك وفي الكشاف ما يؤيد «1» ما قلناه لمن أمعن النظر ، وأما حديث إن
___________
(1) فإنه قال : وهذه الأوصاف التي أجريت على اللّه سبحانه وتعالى - إلى قوله - دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحق منه بالحمد ا ه. منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 77
اختصاص حقيقة الحمد أبلغ من اختصاص الأفراد لاستلزام الأول الثاني فيجاب عنه بأن اختصاص الأفراد الخارجية والذهنية كما قررنا مستلزم لاختصاص الحقيقة أيضا إذ لم يبق لها فرد غير مختص فأين توجد فالاستلزام متعاكس على أن حقيقة الحمد يصدق عليها الحمد فهي فرد من أفراده كما قال الدامغاني : فإذا خصص جميع أفراد الحمد به اختص حقيقته أيضا وكون الأصل نحمد اللّه تعالى حمدا ليس بقاطع احتمال الاستغراق الآن فقد تغير الحال ، وأنت إذا تأملت بعد يرتفع عنك سجاف الاشكال ولست أقول إن الحمد أينما وقع يفيد ذلك بل إذا دعا المقام إليه أجبناه ولهذا فرقوا بين هذا الحمد وحمد الانعام إذ عموم الربوبية وشمول الرحمة واستمرار الملك هنا تقتضي استغراق الأفراد توفية لحق هذه السورة وحرصا على التئام نظمها بخلاف ما في تلك السورة فإن العمومات مفقودة فيها «ومن الغريب» أن بعضهم جعلها للعهد ، قال الفاكهي : سمعت شيخنا أبا العباس المرسي يقول قلت لابن النحاس ما تقول في الألف واللام في الحمد أجنسية هي أم عهدية؟ فقال يا سيدي قالوا : إنها جنسية فقلت له الذي أقول إنها عهدية وذلك أن اللّه تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه قبل أن يحمده فقال أشهدك أنها للعهد واستأنس له بما صح عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من
قوله «اللهم لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
وأغرب من هذا ما ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم وليس بالغريب عندهم أن الحمد للّه على حد الكبرياء للّه وأَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف : 54] فهو الحامد والمحمود والجميع شؤونه ولهم كلام غير هذا والكل يسقى بماء واحد ، وعن إمامنا الماتريدي روح اللّه تعالى روحه أنه جعل هذا حمدا من اللّه تعالى لنفسه قال وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق ولا ضير في ذلك لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك إذ لا عيب يمسه ولا آفة تحل به «ثم إن الحمد» فيما تواتر مرفوع وهو مبتدأ خبره للّه وقرأ الحسن البصري وزيد بن علي الحمد للّه باتباع الدال اللام وإبراهيم بن عبلة وأهل البادية بالعكس وجاز ذلك استعمالا مع أن الإتباع إنما يكون في كلمة واحدة لتنزيلهما لكثرة استعمالهما مقترنين منزلة الكلمة الواحدة ، واختلف في الترجيح مع الإجماع على الشذوذ فقيل قراءة ابراهيم أسهل لأمرين أحدهما أن اتباع الثاني للأول أيسر من العكس وإن ورد كما في مد وشد وأقبل وأدخل لأنه جار مجرى السبب والمسبب وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب ، وثانيهما أن ضمة الدال إعراب وكسرة اللام بناء وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء والمطرد غلبة الأقوى الأضعف وقيل إن قراءة الحسن أحسن لأن الأكثر جعل الثاني متبوعا لأن ما مضى فات ولأن جعل غير اللازم تابعا للازم أولى والاستقامة عين الكرامة وكأنه لتعارض الترجيح قال الزمخشري : وأشف القراءتين قراءة إبراهيم فعبر بأشف وهو من الأضداد ، وقرأ هارون بن موسى الحمد للّه بالنصب وعامة بني تميم وكثير من العرب ينصبون المصادر بالألف واللام وهو بفعل محذوف قدروه نحمد بنون الجماعة لأنه مقول على ألسنة العباد ومناسب لنعبد ونستعين لا بنون العظمة لعدم مناسبته لمقام العبادة المقتضي لغاية التذلل والخضوع ويجوز أن يكون من باب.
وإن حدثوا عنها فكلي مسامع وكلي إذا حدثتهم ألسن تتلو
وحمل الغزالي قدس سره حديث صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة على ذلك وأرفع القراءات قراءة الرفع لدلالة الجملة الاسمية على الثبوت والدوام بقرينة المقام بخلاف الفعلية فإنها تدل على التجدد والحدوث وإن كان هناك ظرف فإن قدر متعلقه اسما فهو ظاهر وإلا فقد قيل الخبر الفعلي إنما يفيد الحدوث إذا كان مصرحا به على أنه قيل لا تقدير ، وما ذكره النحاة لأمر صناعي اقتضاه كقولهم الظرفية اختصار الفعلية ، وقيل إن الجملة الاسمية بمجردها لا تدل على ذلك بل مع انضمام العدول وإن أعجبك فالتزمه فقد قيل بالعدول هنا ولكن ليس

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 78
هذا في كلام الشيخ عبد القاهر «1» بل من تدبر كلامه في بحث الحال من الدلائل دفع بأقوى دليل الحال الذي عرض للناظرين ، وقولهم المضارع يفيد الاستمرار أرادوا به الاستمرار التجددي في المستقبل لا في جميع الأزمنة فلا ينافي ما قلنا ، واختار الجملة الاسمية هاهنا إجابة لداعي المقام ، وقد قال غير واحد إن أصل هذا المصدر النصب لأن المصادر أحداث متعلقة بمحالها فيقتضي أن تدل على نسبتها إليها والأصل في بيان النسبة في المتعلقات الأفعال فينبغي أن تلاحظ معها ويؤيد ذلك كثرة النصب في بعضها والتزامه في بعض آخر وقد تنزل منزلة أفعالها فتسد مسدها وتستوفي حقها لفظا ومعنى فيكون ذكرها معها كالشريعة المنسوخة يستنكرها المتدين بعقائد اللغة.
«وبقي هاهنا أمور» الأول اختلف في جملة الحمد هل هي إخبارية أم إنشائية فالذي عليه معظم العلماء أنها إخبارية كما يقتضيه الظاهر لما يلزم على الإنشاء من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود واللازم باطل فالملزوم مثله ولا يرد أن القصد إحداث الحمد لا الإخبار بثبوته لأن الإخبار بثبوت جميع المحامد للّه تعالى هو عين الحمد كما أن قولك اللّه واحد عين التوحيد ، وألف العلامة البخاري في الانتصار لذلك ورد من زعم أنها إنشائية وأطال فيه واهتم برده ابن الهمام وذكر أن ما ذكر باطل لأن اللازم من المقارنة انتفاء وصف الواصف لا الاتصاف إذ الحمد إظهار الصفات لا ثبوتها ، وأيضا المخبر بالحمد لا يقال له حامد إذ لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم فلو كان الحمد إخبارا محضا لم يقل لقائل الحمد للّه حامد وهو باطل نعم يتراءى لزوم أن يكون كل مخبر منشئا حيث كان واصفا للواقع ومظهرا له وهو توهم فإن الحمد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه التعظيم وهذا ليس جزء ماهية الخبر فاختلفت الحقيقتان فالجملة إنشائية لا محالة ، وقال الملا خسرو «2» هي وأمثالها إخبارية لغة ونقلها الشارع للإنشاء لمصلحة الأحكام واعترض على إنشائيتها بأن الاستغراق ينافيه ويستلزم كون الحامد منشئا لكل حمد ومن المحال إنشاء الحمد القائم بغيره ، وأجيب بأنه لا منافاة ولا استلزام ويكفي كونه منشئا للأخبار بأن كل حمد ثابت له ومحمود به والذي أرتضيه أنها إخبارية كما عليه المعظم ويد اللّه تعالى مع الجماعة والمراد الاخبار بأن اللّه تعالى مستحق الحمد كما قال سبحانه لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص : 70] والمتكلم بها عن اعتقاد واصف ربه سبحانه بالجميل ومعظم له جل شأنه فيقال له حامد لذلك لا لمحض الأخبار بما فيه لفظ الحمد بل إذا
غير الصيغة إلى ما ليس فيها ذلك اللفظ مما هو مشتمل على الوصف بالجميل بقصد التعظيم قيل له أيضا حامد فللحمد صيغ شتى وعبارات كثيرة حتى جعل منها الإقرار بالعجز عن الحمد ، وقد نقل أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك والشكر من آلائك؟
فقال : يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني ،
فما ذكره ابن الهمام أولا من أن المخبر بالحمد لا يقال له
___________
(1) فإنه قال في بحث الحال من الدلائل رق لطيف تمس الحاجة في علم البلاغة إليه ، بيانه أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا فشيئا ، وأما الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء فإذا قلت زيد منطلق فقد أثبت الانطلاق فعلا له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئا فشيئا بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك زيد طويل وعمرو قصير فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول والقصر يتجدد ويحدث بل توجبهما وتثبتهما فقط وتقضي بوجودهما على الإطلاق كذلك لا يتعرض في قولك زيد منطلق لأكثر من إثباته لزيد ، وأما الفعل فإنك تقصد فيه إلى ذلك ، فإن قلت زيد ينطلق فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءا فجزءا وجعلته يزاوله ويوجبه ا ه فليحفظ ا ه منه يقول مصححه محمد منير الدمشقي :
فتشت في كتاب الدلائل في بحث الحال فلم أجد هذا الكلام هناك ولعله سقط من النسخة المطبوعة.
(2) وقال الزمخشري إنه خبر عدل به عن الأمر كما في حواشي البيضاوي للإمام السيوطي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 79
حامد إن أراد أن المخبر من حيث إنه مخبر لا يقال له ذلك فمسلم والدليل تام لكنا بمعزل عن هذه الدعوى وإن أراد أن المخبر مطلقا ولو قصد التعظيم لا يقال له ذلك فممنوع ولا تقريب في الدليل كما لا يخفى ، وما ذكره ثانيا من قوله نعم إلخ يعلم دفعه من خبايا زوايا كلامنا وما ذكره الملا خسرو يرد عليه أن النقل في أمثال ما نحن فيه بلا ضرورة ممنوع ولا تظن من كلامي هذا أني أمنع أن يكون الحمد بجملة إنشائية رأسا معاذ اللّه ولكني أقول إن الجملة هنا إخبارية وإن الحمد يصح بها بناء على ما ذكرناه والبحث بعد محتاج إلى تحرير ولعل اللّه تعالى يوفقه لنا في مظانه والظن باللّه تعالى حسن.
«الثاني» أنه شاع السؤال عن معنى كون حمد العباد للّه تعالى مع أن حمدهم حادث وهو سبحانه القديم ولا يجوز قيام الحادث به وأجيب «1» بأن المراد تعلق الحمد به تعالى ولا يلزم من التعلق القيام كتعلق العلم بالمعلومات فلا يتوجه الاشكال أصلا ، وقيل إن الحمد مصدر بناء المجهول فيكون الثابت له عز شأنه هو المحمودية وصيغة المصدر تحتمل ذلك وغيره ولهذا جعل بعضهم في الحمد للّه أوائل الكتب اثنين وأربعين احتمالا «2» وقيل وهو من الغرابة بمكان أن اللام للتعليل أي الحمد ثابت لأجل اللّه تعالى «الثالث» أنه أتى باسم الذات في الحمدلة لئلا يتوهم لو اقتصر على الصفة اختصاص استحقاقه الحمد بوصف دون وصف وذلك لأن اللام على ما قيل للاستحقاق فإذا قيل الحمد للّه يفيد استحقاق الذات له وإذا علق بصفة أفاد استحقاق الذات الموصوفة بتلك الصفة له والاختصاص إفادة التعريف ولكون الاختصاص كذلك حكما باطلا في نفسه جعل متوهما لا لأن تعليق الحكم بالوصف يدل على العلية لا على الاختصاص لأنه مستفاد من تعريف المسند إليه ومعنى الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحث مستحقا له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مستندا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات وقد قسم بعض ساداتنا قدس اللّه تعالى أسرارهم الحمد باعتبار صدوره إلى قسمين فمصدره باعتبار الفرق من محلين ومنبعه من عينين فإن وجد من الحق وصدر من الوجود المطلق فتارة يكون على الذات بانفرادها ووحدتها وغيبتها في عماء هويتها وتارة بكمال إطلاقها في وجودها وتارة بتنزلاتها إلى حظيرات شهودها وتارة بكمال أوصافها ونعوتها وتارة بكمال آثارها وأفعالها وتارة يثني على أوصافها من حيث الجملة وتارة من حيث التفصيل فيثني على العلم
من حيث إحاطته بكل معلوم من حق وخلق وغيب وشهادة وملك وملكوت وبرزخ وجبروت واستقلاله بالوجود من غير مدة ولا مادة ولا معلم ولا مفيد وتقدسه عن النقص وتنزهه عما يخطر في الوهم وكذلك على سائر الصفات بما يليق بها ويجب لها ، وإن وجد من الخلق والوجود المقيد فتارة يكون على ذات الحق وتارة على صفاته وتارة على أسمائه ومرة على أفعاله وطورا على أسراره وكرة على لطيف صنعه وخفي حكمته في أفعاله وآثاره وذلك بحسب مبلغ الناس في العلم ومنتهاهم في العقل والفهم وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر : 67 ،
___________
(1) المجيب محيي الدين الكافيجي ا ه منه.
(2) فإن للحمد معنيين مشهورين لغوي وعرفي وعلى كلا التقديرين إما أن يراد المعنى المبني للفاعل أو المعنى المبني للمفعول أو الحاصل بالمصدر ويجوز أن يراد ما يطلق عليه لفظ الحمد ليعم الكل ولام التعريف يحتمل أن يكون للاستغراق وأن يكون للجنس وأن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى الفرد الكامل ولام للّه يحتمل أن يكون لاختصاص الصفة بالموصوف وأن يكون لاختصاص المتعلق بالمتعلق فهناك اثنان وأربعون احتمالا حاصلة من ضرب الثلاثة في اثنين أولا وضرب الثلاثة في سبعة ثانيا وضرب الاثنين في أحد وعشرين ثالثا فتأمل ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 80
الأنعام : 91] ولا يحيطون به علما وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وإذا اعتبر الجمع كان الكل منه وإليه وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم : 42] فلا حامد ولا محمود سواه.
أورى بسعدى والرباب وزينب وأنت الذي يعنى وأنت المؤمل
وهناك يرتفع كل إشكال وينقطع كل مقال وإنما قدم الحمد على الاسم الكريم لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به لكونه بصدد صدور مدلوله فهو نصب العين وإن كان ذكر اللّه تعالى أهم في نفسه والأهمية تقتضي التقديم إلا أن المقتضي العارض بحسب المقام أقوى عند المتكلم وتأخير ما قدم هنا في نحو قوله تعالى : وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ [الروم : 18] لغرض آخر سيأتيك مع أمور أخر في محله إن شاء اللّه تعالى ، والرب في الأصل مصدر بمعنى التربية «1» وهي تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزلي شيئا فشيئا وكأنها من ربا الصغير كعلا إذا نشأ فعدي بالتضعيف ووصف به للمبالغة الحقيقية والصورية فالتجوز فيه إما عقلي من قبيل فإنما هي إقبال وإدبار أو لغوي كاسأل القرية وقيل هو صفة مشبهة ، وفي شرح التسهيل أنه ممنوع والظاهر أنه من مبالغة اسم الفاعل أو هو اسم فاعل وأصله راب فحذفت ألفه كما قالوا رجل بار وبر قاله أبو حيان ، ويؤيده إضافته إلى المفعول وقد ذكروا أن الصفة المشبهة تضاف إلى الفاعل ويطلق أيضا على الخالق والسيد والملك والمنعم والمصلح والمعبود والصاحب إلا أن المشهور كونه بمعنى التربية فلهذا قال بعض المحققين إنه حقيقة فيه لأن التبادر أمارتها وفي البواقي إما مجاز أو مشترك والأول أرجح لأن في جميعها يوجد معنى التربية ووجود العلاقة أمارة المجاز ولأن اللفظ إذا دار بين المجاز والاشتراك يحمل على المجاز كما تقرر في مبادئ اللغة وحمله الزمخشري هنا على معنى المالك ولعل ما اخترناه خير منه لأنه بعد تسليم أنه حقيقة في ذلك يؤدي إلى أن يكون مالك يوم الدين تكرارا لدخوله في رب العالمين وإن قلنا بالتخصيص بعد التعميم يحتاج إلى بيان نكتة إدراج الرحمن الرحيم بينهما ولا تظهر لهذا العبد على أن مختارنا أنسب بالمقام لأن التربية أجل النعم بالنسبة إلى المنعم عليه وأدل على كمال فعله تعالى وقدرته وحكمته ،
تدلك على ذلك الآثار وما فيها من الأسرار ، واستطيب بعضهم ما اختاره الطيبي من وجوب حمل الرب على كلا مفهوميه والقدر المشترك المتصرف ألزم وسبيل أعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا اتفقا في أمر سبيل الكناية من أنها لا تنافي إرادة التصريح مع إرادة ما عبر عنه وإذا اختلف سبيل الحقيقة والمجاز وعلى كل حال «2» لا يطلق لغة على غيره تعالى إطلاقا مستفيضا إلا مقيدا بإضافة ونحوها مما يدل على ربوبية مخصوصة ، وقول ابن حلزة في المنذر بن ماء السماء :
وهو الرب والشهيد على يو م الخيارين «3» والبلاء بلاء
نادر واستظهر الإمام السيوطي أن المراد نفي إطلاقه على غيره تعالى شرعا والشعر جاهلي وفي كلام الجوهري ما يؤيده ، وقال الشهاب : لو كان بمعنى غير المالك جاز مع القرينة إطلاقه على غيره تعالى ، وجوز بعضهم إطلاقه منكرا كما في قول النابغة :
نحث إلى النعمان حتى نناله فدى لك من رب طريفي وتالدي
وكره بعضهم إطلاقه مقيدا بالإضافة إلى عاقل كرب العبد لإيهام الاشتراك ، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي
___________
(1) وقيل أصله رباه تربية فجعلت الباء ياء ا ه منه.
(2) ولا يضر إطلاق الجمع ففي التنزيل أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ إذ لا اشتباه ا ه منه.
(3) والخياران اسم بلدين ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 81
اللّه تعالى عنه «لا يقل أحدكم أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحد ربي وليقل سيدي ومولاي» «1» وأجابوا عن قول يوسف عليه السلام ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف : 50] وإِنَّهُ رَبِّي [يوسف : 23] ونحوه بأنه مثل وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [يوسف : 100] مخصوص جوازه بزمانه والعالمين في المشهور جمع عالم واعترض بأنه يعم العقلاء وغيرهم وعالمون خاص بالعقلاء وأجيب بكونه جمعا له بعد تخصيصه بهم وهو في حكم الصفات كما سيعلم بتوفيقه تعالى من تعريفه أو نقول بالتغليب وقيل نزل من ليس له العلم لكونه دالا على معنى العلم منزلة من له العلم فجمع بالواو والنون كما في أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت : 11] ورَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف : 4] وقيل هو اسم جمع على وزن السلامة ولا نظير له وفيه نظر لأن الاسم الدال على أكثر من اثنين إن كان موضوعا للآحاد المجتمعة دالا عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف فهو الجمع وإن كان موضوعا للحقيقة ملغى فيه اعتبار الفردية فهو اسم الجنس الجمعي كتمر وتمرة وإن كان موضوعا لمجموع الآحاد فهو اسم جمع سواء كان له واحد كركب أولا كرهط فانظر أي التعريفات صادقة عليه وفي الكشف لو قيل عالم وعالمون كعرفة وعرفات لم يبعد وفيه أنه أبعد بعيد لأنه قياس فيما يعرف بالسماع على أنه للعالمين آحادا يسمى كل منها عالما فلا مرية في كونه جمعا له بخلاف عرفات فإنه ليس لها آحاد كل منها عرفة والعالم كالخاتم اسم لما يعلم به وغلب فيما يعلم به الخالق تعالى شأنه وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ويطلق على مجموع الأجناس وهو الشائع كما يطلق على واحد منها فصاعدا فكأنه اسم للقدر المشترك وإلا يلزم الاشتراك أو الحقيقة والمجاز والأصل نفيهما ، ولا يطلق على فرد منها فلا يقال عالم زيد كما يقال عالم الإنسان ولعله ليس إلا باعتبار الغلبة والاصطلاح وأما باعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاق قطعا لتحقق المصداق
حتما فإنه كما يستدل على اللّه سبحانه وتعالى بمجموع ما سواه ، وبكل جنس من أجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من أجزاء ذلك المجموع وبكل فرد من أفراد تلك الأجناس لتحقق الحاجة إلى المؤثر الواجب لذاته في الكل فإن كل ما ظهر في المظاهر مما عز وهان وحضر في هذه المحاضر كائنا ما كان لإمكانه وافتقاره دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى عالم التوحيد.
فيا عجبا كيف يعصي الإل ه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وإنما أتى الرب سبحانه بالجمع المعرف لأنه لو أفرد وعرف بلام الاستغراق لم يكن نصا فيه لاحتمال العهد بأن يكون إشارة إلى هذا العالم المحسوس لأن العالم وإن كان موضوعا للقدر المشترك إلا أنه شاع استعماله بمعنى المجموع كالوجود في الوجود الخارجي وقد غلب استعماله في العرف بهذا المعنى في العالم المحسوس لألف النفس بالمحسوسات فجمع ليفيد الشمول قطعا لأنه حينئذ لا يكون مستعملا في المجموع حتى يتبادر منه هذا العالم المحسوس فيكون مستعملا في كل جنس إذ لا ثالث فيكون المعنى رب كل جنس سمي بالعالم والتربية للأجناس إنما تتعلق باعتبار أفرادها فيفيد شمول آحاد الأجناس المخلوقة كلها نظرا إلى الحكم ، وحديث أن استغراق المفرد «2»
___________
(1) قيل هذا الحديث منسوخ فافهم ا ه منه.
(2) قال الطيبي فإن قلت ليس هذا مخالفا لقولهم الاستغراق في المفرد أشمل قلت لا لأنهم يريدون أن الجمع قد يحتمل غير الشمول في بعض المقامات والمفرد وإن دل على الشمول والاستغراق لكن الغرض استغراق الأجناس المختلفة فلو أفرد وقيل رب العالم لاحتمل الاستغراق شمول أفراد كل ما يصح عليه اطلاق اسم العالم فلا يعلم نصوصية تعدد الإجناس وكثرتها كالجن والإنس والملائكة وغيرها كما يعلم من الجمعية فجمع ليشمل ذلك المعنى ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 82
أشمل على ما فيه أمر فرغ عنه ولا ضرر لنا منه كما لا يخفى على المتأمل ، وبعضهم خص العالمين بذوي العلم من الملائكة والثقلين ورب أشرف الموجودات رب غيرهم قال الإمام الأسيوطي : وعليه هو مشتق من العلم وعلى القول بالعموم من العلامة ، وفيه أن الكل في كل محتمل والتخصيص دعوى من غير دليل وقيل هم الجن والإنس لقوله تعالى : لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان : 1] وقيل هم الإنس لقوله تعالى : أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ [الشعراء :
165] وهو المنقول عن جعفر الصادق
والمأخوذ من بحر أهل البيت ورب البيت أدرى ولعل الوجه فيه الإشارة إلى أن الإنسان هو المقصود بالذات من التكليف بالحلال والحرام وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام ولأنه فذلكة جميع الموجودات ونسخة جميع الكائنات المنقولة من اللوح الرباني بالقلم الرحماني ، ومن هذا الباب ما نسب لباب مدينة العلم كرم اللّه وجهه.
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ومن تأمل في ذاته وتفكر في صفاته ظهرت له عظمة باريه وآيات مبديه وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات : 2 ، 21] بل
من عرف نفسه فقد عرف ربه
والمناسب للمقام هنا العموم والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان : 27] وروي في بعض الأخبار أن اللّه تعالى خلق مائة ألف قنديل وعلقها بالعرش والسماوات والأرض وما فيهن حتى الجنة والنار في قنديل واحد ولا يعلم ما في باقي القناديل إلا اللّه تعالى.
وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالمين إلا اللّه تعالى : وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل : 8] وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر : 31] وما من ذرة من ذرات العوالم إلا وهي في حيطة تربيته سبحانه بل ما من شيء مما أحاط به نطاق الإمكان والوجود من العلويات والسفليات والمجردات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حد ذاته بحيث لو فرض انقطاع آثار التربية عنه آنا واحدا لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من فنون الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وصفاته وكمالاته ما لا يحيط بذلك فلك التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير ضرورة أنه كما لا يستحق شيء من الممكنات بذاته الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وعلا فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلى لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارئ لما أن الدوام من خصائص الوجود الواجبي ، وظاهر أن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن كانت متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده وهي المعبر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على ارتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها ، فإبقاء تلك الموانع التي لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشيء من وجوه غير متناهية ، وبالجملة آثار تربيته تعالى واضحة المنار ساطعة الأنوار فسبحانه من رب لا يضاهى ومنان لا يحصى كرمه ولا يتناهى ونحن في تيار بحر جوده سابحون وعن إقامة مراسم شكره قاصرون ، وما أحسن قول بعض العارفين إنه
تعالى يملك عبادا غيرك وأنت ليس لك رب سواه ثم إنك تتساهل في خدمته والقيام في وظائف طاعته كأن لك ربا بل أربابا غيره وهو سبحانه يعتني بتربيتك حتى كأنه لا عبد له سواك فسبحانه ما أتم تربيته وأعظم رحمته ، وإنما كان الجمع بالواو والنون مع أنه في المشهور جمع قلة والظاهر مستدع لجمع الكثرة تنبيها على أن العوالم وإن كثرت

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 83
قليلة بل أقل من القليل في جنب عظمة اللّه تعالى وكبريائه وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر : 67] على أن جمع القلة كثيرا ما يوصله المقام إلى جمع الكثرة على أن بعض المحققين المحقين من أرباب العربية ذهب إلى أن الجمع المذكر السالم صالح للقلة والكثرة فاختر لنفسك ما يحلو.
وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله رَبِّ الْعالَمِينَ إلى حضرة الربوبية التي هي مقام العارفين وهي اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تطلب الموجودات فدخل تحتها العليم والسميع والبصير والقيوم والمريد والملك وما أشبه ذلك لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقع عليه فالعليم يقتضي معلوما والقادر مقدورا والمريد مرادا إلى غير ذلك والأسماء التي تحت اسم الرب هي الأسماء المشتركة بين الحق والخلق والأسماء المختصة بالخلق اختصاصا تأثيريا فمن القسم الأول العليم مثلا فإن له وجهين وجه يختص بالجناب الإلهي ومنه يقال يعلم نفسه ووجه ينظر إلى المخلوقات ومنه يقال يعلم غيره ومن القسم الثاني الخالق ونحوه من الأسماء الفعلية فله وجه واحد ومنه يقال خالق للموجودات ولا يقال خالق لنفسه تعالى عن ذلك وهذا القسم من الأسماء تحت اسمه الملك ومنه يظهر الفرق بينه وبين الرب ، وأما الفرق بين الرب ، والرحمن فهو أن الرحمن عندهم اسم لمرتبة اختصت بجميع الأوصاف العلية الإلهية سواء انفردت الذات به كالعظيم والفرد أو حصل الاشتراك أو الاختصاص بالخلق كالقسمين المتقدمين فهو أكثر شمولا من الرب ومن مرتبة الربوبية ينظر الرحمن إلى الموجودات «وأما اسمه تعالى اللّه» فهو اسم لمرتبة ذاتية جامعة وفلك محيط بالحقائق وهو مشير إلى الألوهية التي هي أعلى المراتب وهي التي تعطي كل ذي حق حقه وتحتها الأحدية وتحتها الواحدية وتحتها الرحمانية وتحتها الربوبية وتحتها الملكية ولهذا كان اسمه اللّه أعلى الأسماء وأعلى من اسمه الأحد فالأحدية أخص مظاهر الذات لنفسها والألوهية أفضل مظاهر الذات لنفسها أو لغيرها ومن ثم منع أهل اللّه تعالى تجلي الأحدية ولم يمنعوا تجلي الألوهية لأن الأحدية ذات محض لا ظهور لصفة فيها فضلا عن أن يظهر فيها مخلوق فما هي إلا للقديم القائم بذاته.
ومما قررنا يعلم سر كثرة افتتاح العبد دعاءه بيا رب يا رب مع أنه تعالى ما عين هذا الاسم الكريم في الدعاء ونفى ما سواه بل قال سبحانه قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء : 11] وقال وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف : 180] وقال أرباب الظاهر الداعي لا يطلب إلا ما يظنه صلاحا لحاله وتربية لنفسه فناسب أن يدعوه بهذا الاسم ونداء المربي في الشاهد بوصف التربية أقرب لدر ثدي الإجابة وأقوى لتحريك عرق الرحمة ، وعند ساداتنا الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم يختلف الكلام باختلاف المقام فرقا وجمعا وعندي وهو قبس من أنوارهم أن الأرواح أول ما شنفت آذانها وعطرت أردانها بسماع وصف الربوبية كما يشعر بذلك قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف : 172] فهم ينادونه سبحانه بأول اسم قررهم به فأقروا وأخذ به عليهم العهد فاستقاموا واستقروا فهو حبيبهم الأول ومفزعهم إذا أشكل الأمر وأعضل.
تركت هوى سعدى وليلى بمعزل وعدت إلى مصحوب أول منزل
ونادتني الأهواء مهلا فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل
وقريب من هذا ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره الأنور مما حاصله أن اللّه تعالى لما أوجد الكلمة المعبر عنها بالروح الكلي إيجاد إبداع وأعماه عن رؤية نفسه فبقي لا يعرف من أين صدر ولا كيف صدر فحرك همته لطلب ما عنده ولا يدري أنه عنده.
قد يرحل المرء لمطلوبه والسبب المطلوب في الراحل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 84
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق : 16] فأخذ في الرحلة بهمته فأشهده الحق ذاته فعلم ما أودع اللّه تعالى فيه من الأسرار والحكم وتحقق عنده حدوثه وعرف ذاته معرفة إحاطية فكانت تلك المعرفة غذاء معينا يتقوت به وتدوم حياته فقال له عند ذلك التجلي الأقدس ما اسمي عندك فقال أنت ربي فلم يعرفه إلا في حضرة الربوبية وتفرد القديم بالألوهية فإنه لا يعرفه إلا هو فقال له سبحانه أنت مربوبي وأنا ربك أعطيتك أسمائي وصفاتي ولا يحصل لك العلم إلا من حيث الوجود ولو أحطت علما بي لكنت أنت أبا ولكنت محاطا لك وأمدك بالأسرار الإلهية وأربيك بها فتجدها مجعولة فيك فتعرفها وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بها إذ لا طاقة لك أن تحمل مشاهدتها إذ لو عرفتها لاتحدت الآنية وأين المركب من البسيط ولا سبيل إلى قلب الحقائق إلى آخر ما قال ، ويعلم منه إشارة سر افتتاح الأوصاف في الفاتحة برب العالمين ، وفيه أيضا مناسبة لحال البعثة وإرساله صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى من أرسل إليه لأن ذلك أعظم تربية للعباد ورمز خفي إلى طلب الشفقة والرأفة بالخلق كيف كانوا لأن اللّه تعالى ربهم أجمعين.
داريت أهلك في هواك وهم عدا ولأجل عين ألف عين تكرم
وقد قرأ رب العالمين بالنصب ونسب ذلك إلى زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما ، وقد اختلف في توجيهه فقيل نصب على القطع ويقدر العامل هنا أمدح للمقام أو أذكر لا أعني لأن ذلك إذا لم يكن المنعوت متعينا كما في شرح العمدة وضعف بالاتباع بعد القطع في النعت وأجيب بأن الرحمن بدل لا نعت وروي أنه قرىء بنصب الرحمن الرحيم فلا ضعف حينئذ وقيل بفعل مقدر دل عليه الحمد وليس على التوهم كما توهم أبو حيان فضعفه بزعمه أنه من خصائص العطف وقيل بالحمد المذكور واعترض بأن فيه إعمال المصدر المحلى باللام وبأنه يلزم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر الأجنبي وأجيب عن الأول بأن سيبويه وهو هو جوز أعمال المحلى مطلقا والظرف تكفيه رائحة الفعل نعم منعه الكوفيون مطلقا وجوزه على قبح الفارسي وبعض البصريين وفصل البعض بين ما تعاقب أل فيه الضمير فيجوز وما لا فلا ، وعن الثاني بأن هذا الخبر كان معمولا لهذا المبتدأ في موضع المفعول كما تقول حمدا له فليس بأجنبي صرف على أن المبتدأ والخبر لاتحادهما معنى كشيء واحد فلا أجنبي.
وحكي عن بعض النحاة جواز الأعمال مطلقا وقيل بالنداء ولا يخفى ما فيه من اللبس والفصل والالتفات الذي لا يكاد لخلوه عما يأتي إن شاء اللّه تعالى يلتفت إليه وقيل رب فعل ماض وفيه أن أمره مضارع في البعد لما تقدم وأن الجملة لا تكون صفة والحالية غير حسنة الحال مع أنه قرىء بنصب ما بعد والمناسب المناسبة وأهون الأمور عندي أولها بل يكاد يقطع الظاهر بالقطع ، ثم إنه سبحانه وتعالى بعد ما ذكر عموم تربيته صرح بعظيم رحمته فقال عز شأنه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وقد تقدم الكلام عليهما والجمهور على خفضهما ، ونصبهما زيد وأبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو ، ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خثيم وأبو عمران الجولي «1» واستدل بعض ساداتنا بتكرارهما على أن البسملة ليست آية من الفاتحة وليس بالقوي لأن التكرار لفائدة ، فذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه عز شأنه ، وذكرهما هنا تعليل لاستحقاقه تعالى الحمد ، وقال الإمام الرازي قدس سره في بيان حكمة التكرار التقدير كأنه قيل له اذكر أني إله ورب مرة واحد واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر : 3]
___________
(1) كذا بخطه الجولي باللام وصوابه بالنون ا ه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 85
انتهى ، وفي القلب منه شيء فإن الألوهية مكررة أيضا كما ترى وعندي بمسلك صوفي أن ذكر الرحمن الرحيم تفصيل من وجه لما في رب العالمين من الإجمال وذلك أن التربية تنقسم ببعض الاعتبارات إلى قسمين ، أحدهما التربية بغير واسطة كالكلمة لأنه لا يتصور في حقه واسطة البتة ، وثانيهما التربية بواسطة كما فيمن دون الكلمة وهذا الثاني له قسمان أيضا ، قسم ممزوج بألم كما في تربية العبد بأمور مؤلمة له شاقة عليه ، وقسم لا مزج فيه كما في تربية كثير ممن شمله اللطف السبحاني.
غافل والسعادة احتضنته وهو عنها مستوحش نفار
فالرحمن يشير إلى التربية بالوسائط وغيرها في عالمه والرحيم يشير إلى التربية بلا واسطة في كلماته ورحمة الرحمن أيضا قد تمزج بالألم كشرب الدواء الكره الطعم والرائحة فإنه وإن كان رحمة بالمريض لكن فيه ما لا يلائم طبعه ورحمة الرحيم لا يمازجها شوب فهي محض النعمة ولا توجد إلا عند أهل السعادات الكاملة.
اللهم اجعلنا سعداء الدارين بحرمة سيد الثقلين صلى اللّه تعالى عليه وسلم مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قرأ مالك كفاعل مخفوضا عاصم والكسائي وخلف في اختياره ويعقوب وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير وقراءة كثير من الصحابة ، منهم أبيّ وابن مسعود ومعاذ وابن عباس ، والتابعين منهم قتادة والأعمش ، وقرأ ملك كفعل بالخفض أيضا باقي السبعة وزيد وأبو الدرداء وابن عمرو والمسور وكثير من الصحابة والتابعين ، وقرأ ملك على وزن سهل أبو هريرة وعاصم الجحدري ورواها الجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو وهي لغة بكر بن وائل ، وقرأ ملكي بإشباع كثرة الكاف أحمد بن صالح عن ورش عن نافع ، وقرأ ملك على وزن عجل أبو عثمان والشعبي وعطية ، وقرأ أنس بن مالك وأبو نوفل عمرو بن مسلم البصري ملك يوم الدين بنصب الكاف من غير ألف ، وقرأ كذلك إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص وعائشة ، وقرأ ملك فعلا ماضيا أبو حنيفة على ما قيل وأبو حيوة وجبير بن مطعم وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي وينصبون اليوم وذكر ابن عطية أن هذه قراءة علي بن أبي طالب كرم اللّه تعالى وجهه والحسن ويحيى بن يعمر ، وقرأ مالك بالنصب الأعمش أيضا وابن السميفع وعثمان بن أبي سليمان وعبد الملك قاضي الهند ، وذكر ابن عطية أنها قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي صالح السمان وروى ابن عاصم عن اليماني مالكا بالنصب والتنوين ، وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين ، ورويت عن خلف وابن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم فينصب اليوم ، وقرأ مالك يوم بالرفع والإضافة أبو هريرة وأبو حيوة وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنهم ونسبها صاحب اللوامع إلى ابن شداد العقيلي البصري وقرأ مليك كفعيل أبو هريرة في رواية وأبو رجاء العطاردي ، وقرأ مالك بالامالة البليغة يحيى بن يعمر وأيوب السختياني وببين بين قتيبة بن مهران عن الكسائي ولم يطلع على ذلك أبو علي الفارسي فقال لم يمل أحد وذكر أنه
قرأ ملاك بالألف وتشديد اللام وكسر الكاف فهذه عدة قراءات ذكرتها لغرابة وقوع مثلها في كلمة واحدة بعضها راجعة إلى الملك وبعضها إلى المالك ، قال بعض اللغويين : وهما راجعان إلى الملك وهو الشد والربط ومنه ملك العجين وأنشدوا قول قيس بن الحطيم :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائما من دونها ما وراءها
والمتواتر منها قراءة مالك وملك فهما نيرا سواريها وقطبا فلك دراريها ، واختلف في الأبلغ منهما قال الزمخشري : وملك هو الاختيار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ [غافر : 16] ولقوله تعالى مَلِكِ النَّاسِ [الناس : 2] ولأن الملك يعم والملك يخص ورجحه صاحب الكشف أيضا بأنه يلزم على قراءة مالك نوع

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 86
تكرار لأن الرب بمعناه أيضا وبأنه تعالى وصف ذاته المتعالية بالملكية عند المبالغة في قوله مالك الملك بالضم دون المالكية.
واعترض ذلك كله ، أما أولا فلأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان لأنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لا نسلم ذلك في عهد القراء المشهورين ألا ترى أن صحيح البخاري مقدم على موطأ مالك وهو عالم المدينة على أن القراءات المشهورة كلها متواترة وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة ، وقول الشهاب : لا يخفى أن أهل الحرمين قديما وحديثا أعلم بالقرآن والأحكام فمن وراء المنع أيضا ودون إثباته التعب الكثير كما لا يخفى على من لم ترعه القعاقع ، وأما ثانيا فلأن الاستدلال بقوله تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ يخدشه قوله : يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار : 19] فإنه سبحانه أراد باليوم يوم القيامة وهو يوم الدين ونفي المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له إذ السياق لبيان عظمته تعالى والأمر آخر الآية واحد الأمور لا الأوامر وإن كثر استعماله فيه.
«وأما ثالثا» فلأن ما في الناس مغاير لما هنا لأن مالك الناس لو كان هناك كما قرىء به شذوذا يتكرر مع رب الناس وأما هنا فلا تكرار لاختلاف المقام «وأما رابعا» فلأن ما ادعاه من أن الملك بضم الميم يعم والملك بالكسر يخص خلاف الظاهر والظاهر أن بين المالك والملك عموما وخصوصا من وجه لغة عرفا فيوسف الصديق عليه السلام بناء على أنه مالك رقاب المصريين في القحط بمقتضى شرعهم ملك ومالك والتاجر مالك غير ملك والسلطان على بلد لا ملك له فيها ملك غير مالك. وأما خامسا فبأن التكرار الذي زعمه صاحب الكشف قد كشف أمره على أنه مشترك الإلزام إذ الجوهري ذكر أن الرب كان يطلق على الملك.
«وأما سادسها» فلأن الدليل الأخير الذي ساقه لك أن تقلبه بأنه تعالى وصف ذاته بالمالكية دون الملكية وأيضا إضافة المالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من الملك لأن الملك بالضم قد جعل تحت حيطة المالكية فكأنه أحد مملوكاته كذا قالوه ولهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا ، وعندي لا ثمرة للخلاف والقراءتان فرسا رهان ولا فرق بين المالك والملك صفتين للّه تعالى كما قاله السمين ولا التفات إلى من قال إنهما كحاذر وحذر ومتى أردت ترجيح أحد الوصفين تعارضت لدي الأدلة وسدت على الباب الآثار وانقلب إليّ بصر البصيرة خاسئا وهو حسير إلا أني أقرأ كالكسائي مالك لأحظى بزيادة عشر حسنات ولأن فيه إشارة واضحة إلى الفضل الكبير والرحمة الواسعة والطمع بالمالك من حيث إنه مالك فوق الطمع بالملك من حيث إنه ملك فأقصى ما يرجى من الملك أن ينجو الإنسان منه رأسا برأس ومن المالك يرجى ما هو فوق ذلك فالقراءة به أرفق بالمذنبين مثلي وأنسب بما قبله وإضافته إلى يوم الدين بهذا المعنى ليكسر حرارته فإن سماع يوم الدين يقلقل أفئدة السامعين ويشبه ذلك من وجه قوله تعالى : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة : 43] والمدار على الرحمة لا سيما والأمر جدير والترغيب فيه أرغب على أنه لا يخلو الحال عن ترهيب وكأني بك تعارض هذه النكت وما عليّ فهذا الذي دعاني إليه حسن الظن «واليوم» في العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان وفي الشرع عند أهل السنة ما عدا الأعمش عبارة عما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس ويطلق على مطلق الوقت ويوم القيامة حقيقة شرعية في معناه المعروف وتركيبه غريب إذ فاء الكلمة فيه ياء وعينها واو ولم يأت من ذلك كما في البحر المحيط إلا يوم وتصاريفه «والدين» الجزاء ومنه
الحديث المرسل عن أبي قلابة رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان»
وقيل فرق بينهما فإن الدين ما كان بقدر فعل المجازي والجزاء أعم. وقيل الدين اسم للجزاء المحبوب المقدر بقدر ما يقتضيه الحساب إذا كان ممن معه وقع الأمر المجزي به فلا يقال لمن جازى عن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 87
غيره أو أعطى كثيرا في مقابلة قليل دين ويقال جزاء والأرجح عندي أن الدين والجزاء بمعنى فيوم الدين هو يوم الجزاء ويؤيده قوله تعالى : الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غافر : 17] والْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية :
28] وإضافة مالك إلى يوم على التوسع وقد قال النحاة الظرف إما متصرف وهو الذي لا يلزم الظرفية أو غير متصرف وهو مقابله والأول كيوم وليلة فلك أن تتوسع فيهما بأن ترفع أو تجر أو تنصب من غير أن تقدر فيه معنى «في» فيجري مجرى المفعول للتساوي في عدم التقدير فإذا قلت سرت اليوم كان منصوبا انتصاب «زيد» في ضربت زيدا ويجري سرت مجرى ضربت في التعدي مجازا لأن السير لا يؤثر في اليوم تأثير الضرب في زيد ولا يخرج بذلك عن معنى الظرفية ولذا يتعدى إليه الفعل اللازم ولا يظهر في الاسم الظاهر وإنما يظهر في الضمير كقوله :
ويوما شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن النهار نوافله
وإذا توسع في الظرف فإن كان فعله غير متعد تعدى وإن كان متعديا إلى واحد تعدى إلى اثنين وإن كان متعديا إلى اثنين تعدى إلى ثلاثة وهو قليل ومنعه البعض وإن كان متعديا إلى ثلاثة لم يتعد إلى رابع في المشهور إذ لا نظير له.
وحكى ابن السراج جوازه والتوسع هذا تجوّز حكمي في النسبة الظرفية الواقعة بعد نسبة المفعول به الحقيقي فالمتعدي قبله باق على حاله حتى إذا لم يذكر مفعوله قدر أو نزل منزلة اللازم والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز الحكمي ليس محل الخلاف ولذا قال الرضي : اتفقوا على أن معنى الظرف متوسعا فيه وغير متوسع فيه سواء والمعنى مالك الأمر كله في يوم الدين وهذا ثابت له سبحانه أولا وأبدا لأنه إما من الصفات الذاتية المتفق على ثبوتها له سبحانه كذلك أو من الصفات الفعلية وهي عند الماتريدية مثلها بل قال الزركشي من الأشاعرة في إطلاق الخالق والرازق ونحوهما في حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة وإن قلنا بحدوث صفات الأفعال أو المعنى ملك الأمور يوم الدين على حد وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الأعراف : 44] ففي الآية استعارة تبعية كما يفهمه كلام العلامة البيضاوي في تفسيره «1» وعلى التقديرين يصح وقوعه صفة للمعرفة لأن الإضافة حينئذ حقيقية ولا ينافي ذلك التوسع في الظرف لأنه مفعول من حيث المعنى لا من حيث الإعراب أي يتعلق المالك به تعلق المملوكية حتى لو كانت شرائط العمل حاصلة عمل فيه كما قاله الشريف وفيه تأمل والأولى باستمرار الاعتبار اعتبار الاستمرار والمستمر يصح أن تكون إضافته معنوية كما يصح أن لا تكون كذلك والتعيين مفوض للمقام وذلك لاشتماله على الأزمنة الثلاث ولا يرد أن يوم الدين وما فيه ليس مستمرا في جميع الأزمنة فكيف يتصور كونه تعالى مالكا على الاستمرار لأنا نقول ليس عند ربك صباح ولا مساء وهو سبحانه ليس بزماني والأزل والأبد عنده نقطة واحدة والفرق بينهما بالاعتبار والتعبيرات المختلفة في كلامه عز شأنه بالنظر إلى حال المخاطب فالاستمرار بالنظر إليه تعالى متحقق بلا شبهة ومن هنا يستنبط جواب للسؤال المشهور بأن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان موجودا ويوم الدين غير موجود
الآن ، وأجاب «2» غير واحد بأن يوم الدين لما كان محققا جعل كالقائم في الحال وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكأن القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال ، ولا يخفى أن السؤال باق على مذهب بعض المتكلمين القائلين بأن الزمان معدوم إذ يقال بعد
___________
(1) ونقل عنه أنه مجاز في الماضي المنقطع لا مطلقا وهو خلاف المشهور وبني عليه أن مالك يوم الدين حقيقة عنده وإن لم يعتبر استمراره ا ه منه.
(2) وقيل عليه إن اسم الفاعل ليس حقيقة في المستمر فيكون مجازا على المجاز ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 88
إن تملك المعدوم محال إلا أن يقال يجعل الكلام كناية عن كونه مالكا للأمر كله لأن تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه ولا يلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقي والاستلزام بمعنى الانتقال في الجملة لا بمعنى عدم الانفكاك فلا يرد المنع وأنت إذا قرأت ملك تسلم من هذا القيل والقال إن جعلته صفة مشبهة أو ألحقته بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان وأما إذا جعلته صيغة مبالغة كحذر - وهو ملحق باسم الفاعل - فيرد عليك ما ورد علينا وأنا من فضل اللّه تعالى لا تحركني العواصف بل ذلك يزيدني في المالك حبا ، وإنما قال مالك يوم الدين ولم يقل يوم القيامة مراعاة للفاصلة وترجيحا للعموم فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إل السرمد الدائم بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين ولا يخلو اعتباره عن لطف ، وأيضا للدين معان شاع «1» استعماله فيها كالطاعة والشريعة فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ وقد قال بكل من هذين المعنيين بعض والمعنى حينئذ على تقدير مضاف فعلى الأول يوم الجزاء الكائن للدين وعلى الثاني يوم الجزاء الثابت في الدين وإذا أريد بالطاعة في الأول الانقياد المطلق لظهوره ذلك اليوم ظاهرا وباطنا وجعل إضافة يوم للدين في الثاني لما بينهما من الملابسة باعتبار الجزاء لم يحتج إلى تقدير ، وتخصيص اليوم بالإضافة مع أنه تعالى مالك وملك جميع الأشياء في كل الأوقات والأيام إما للتعظيم وأما لأن الملك والملك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس بحسب الظاهر يزولان وينسلخ الخلق عنهما انسلاخا ظاهرا في الآخرة وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم :
95] وينفرد سبحانه في ذلك اليوم بهما انفرادا لا خفاء فيه ولذلك قال سبحانه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار : 19] ولِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر : 16] وأيضا هنالك يجتمع الأولون والآخرون ويقوم الروح والملائكة صفا وتجتمع العبيد في صعيد واحد وتظهر صفة الجمال والجلال أتم ظهور فتعلم صفة المالكية والملكية للمجموع في آن واحد فوق ما علمت لكل فرد فرد أو جمع جمع على توالي الأزمان وإنما ختم سبحانه هذه الأوصاف بهذا الوصف إشارة إلى الإعادة كما افتتح بما يشير إلى الإبداء وفي إجرائها عليه تعالى تعليل لإثبات ما سبق وتمهيد لما لحق وفيه إيماء إلى أن الحمد ليس مجرد الحمد للّه بل مع العلم بصفات الكمال ونعوت الجلال وهذه أمهاتها ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها وقد يقال في إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر اسم الذات الجامع لصفات الكمال إشارة إلى أن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمور أربعة : إما لكونه كاملا في ذاته وصفاته وإن لم يكن منه إحسان إليهم ، وإما لكونه محسنا إليهم ومتفضلا عليهم ، وإما لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال ، وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته فهذه هي الجهات الموجبة للحمد والتعظيم فكأنه سبحانه يقول يا عبادي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي فاحمدوني فإني أنا اللّه وإن كان للإحسان والتربية والانعام فإني أنا رب العالمين وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل فإني أنا الرحمن الرحيم وإن كان للخوف فإني أنا مالك يوم الدين.
ومن الناس من استدل كما قال الإمام على وجوب الشكر عقلا قبل مجيء الشرع بأنه تعالى أثبت الحمد هنا لذاته ووصفه بكونه ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمورهم في القيامة ، وترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون الحكم معللا به فدل ذلك على ثبوت الحمد له قبل الشرع وبعده وهو على ما فيه دليل عليه لا له لأنه بيان من اللّه تعالى لا يجابه فهو سمعي لا عقلي فالمستدل به كناطح صخرة ، هذا وفي ذكر هذه الأسماء الخمسة أيضا لطائف فالإنسان بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية
___________
(1) قال الراغب : الدين الطاعة والجزاء واستعير للشريعة فافهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 89
وجوهر ملكي عقلي فالتجلي باسمه تعالى اللّه للجوهر الملكي أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد : 28] وباسم الرب للنفس الشيطانية رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [المؤمنون : 97] وباسم الرحمن للنفس السبعية بناء على أنه مركب من لطف وقهر الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان : 26] وباسم الرحيم للنفس البهيمية أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة : 5] وبمالك يوم الدين للبدن الكثيف سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن : 31].
وآثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة وطاعة النفس الشيطانية بطلب الاستعانة والسبعية بطلب الهداية والبهيمية بطلب الاستقامة ، وتواضعت الروح القدسية فعرضت لطلب إيصالها إلى الأرواح العالية المطهرة وأيضا دعائم الإسلام خمس فالشهادة من أنوار تجلي اللّه والصلاة من أنوار تجلي الرب وإيتاء الزكاة من أنوار تجلي الرحمن وصيام رمضان من أنوار تجلي الرحيم والحج من أنوار تجلي مالك يوم الدين وكأنه لهذا طلبت الفاتحة في الصلاة التي هي العماد ولما بلغ الثناء الغاية القصوى قال سبحانه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ايا في المشهور ضمير نصب منفصل واللواحق حروف زيدت لبيان الحال ، وقيل أسماء أضيف هو إليها ، وقيل الضمير هي تلك اللواحق وايا عامة ، وقيل الضمير هو المجموع ، وقيل ايا مظهر مبهم مضاف إلى اللواحق وزعم أبو عبيدة اشتقاقه وهو جهل عجيب والبحث مستوفى في علم النحو ، وقد جاء وياك بقلب الهمزة واوا ولا أدري أهو عن القراء أم عن العرب وقرأ عمرو بن فائدة عن أبيّ إياك بكسر الهمزة وتخفيف الياء وعلي وأبو الفضل الرقاشي أياك بفتح الهمزة والتشديد وأبو السوار الغنوي هياك بابدال الهمزة مكسورة ومفتوحة هاء والجمهور إياك بالكسر والتشديد ، والعبادة أعلى مراتب الخضوع ولا يجوز شرعا ولا عقلا فعلها إلا للّه تعالى لأنه المستحق لذلك لكونه موليا لأعظم النعم من الحياة والوجود وتوابعهما ولذلك يحرم السجود لغيره سبحانه لأن وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء هو التراب وموطىء الأقدام والنعال غاية الخضوع وقيل : لا تستعمل إلا في الخضوع له سبحانه وما ورد من نحو قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء :
98] وارد على زعمهم تعريضا لهم ونداء على غباوتهم وتستعمل بمعنى الطاعة ومنه أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وبمعنى الدعاء منه إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي [غافر : 60] وبمعنى التوحيد ومنه وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56] وكلها متقاربة المعنى وذكر بعض المحققين أن لها ثلاث درجات «1» لأنه إما أن يعبد اللّه تعالى رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متابعة الدنيا وطيباتها طمعا فيما هو أدوم وأشرف وهذه مرتبة نازلة عند أهل اللّه تعالى وتسمى عبادة وإما أن يعبد اللّه تعالى تشرفا بعبادته أو لقبوله لتكاليفه أو بالانتساب إليه وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية «2» وإما أن يعبد اللّه تعالى لاستحقاقه الذاتي من غير نظر إلى نفسه بوجه من الوجوه ولا يقتضيه إلا الخضوع والذلة وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودة وإليه الإشارة بقول المصلى.
أصلي للّه تعالى فإنه لو قال أصلي لثوابه تعالى مثلا أو للتشرف بعبادته فسدت صلاته. والاستعانة طلب المعونة وياء فعله منقلبة عن واو وتمسكت الجبرية والقدرية بهذه الآية أما الجبرية فقالوا لو كان العبد مستقلا لما كان للاستعانة على الفعل فائدة ، وأما القدرية فقالوا : السؤال إنما يحسن لو كان العبد متمكنا في أصل الفعل فيطلب الإعانة من الغير أما إذا لم يقدر عليه لم يكن للاستعانة فائدة ، وقد أشار ناصر الملة والدين البيضاوي بيض اللّه تعالى وجه حجته ببيان المعونة إلى أنه لا تمسك لواحد من الفريقين في ذلك حيث قال : وهي إما ضرورية أو غيرها والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه
___________
(1) وبما ذكرنا سقط ما قيل إن العبادة إذا كانت أعلى مراتب الخضوع يلزم أن لا يكون أكثر المؤمنين عابدين ا ه منه.
(2) والإمام الرازي في التفسير لم يضع للثانية اسما وسمى الثالثة بالعبودية ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 90
كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يصح أن يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف انتهى.
وحاصله أن الاستعانة طلب ما يتمكن به العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه وشيء منهما لا يوجب الجبر ولا القدر وعندي أن الآية إن استدل بها على شيء من بحث خلق الأفعال فليستدل بها على أن للعباد قدرا مؤثرة بإذن اللّه تعالى لا بالاستقلال كما عقدت عليه خنصر عقيدتي لا أنهم ليس لهم قدرة أصلا بل جميع أفعالهم كحركة المرتعش كما يقوله الجبرية إذ الضرورة تكذبه ولا أن لهم قدرة غير مؤثرة أبدا كاليد المشلولة كما هو الشائع من مذهب الأشاعرة إذ هو في المآل كقول الجبرية وأي فرق بين قدرة لا أثر لها وبين عدم القدرة بالكلية إلا بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ولا أن لهم قدرة مستقلة بالأفعال يفعلون بها ما شاؤوا فاللّه تعالى يريد ما لا يفعله العبد ويفعل العبد ما لا يريده اللّه تعالى كما يقوله المعتزلة إذ يرد ذلك النصوص القواطع كما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى ، ووجه الاستدلال أن إياك نعبد مشير إلى صدور الفعل من العباد وذلك يستدعي قدرة يكون بها الإيجاد ومن لا قدرة له أو له قدرة لا مدخل لها في الإيجاد لا يقال له أوجد وصحة ذلك باعتبار الكسب كيفما فسر لا يرتضيه المنصف العاقل. وقوله وإياك نستعين يدل على نفي الاستقلال فيه وأنه بإذن اللّه تعالى وإعانته كما يشير إليه لا حول ولا قوة إلا باللّه وهذا هو اللبن السائغ الذي يخرج من بين فرث ودم فلا جبر ولا تفويض فاحفظه وانتظر تتمته.
ولو كان هذا موضع القول لاشتفى فؤادي ولكن للمقال مواضع
«وهاهنا أبحاث» الأول في سر تقديم الضمير على الفعلين وذكروا له وجوها الدلالة على الحصر والاختصاص كما يشعر به عدول البليغ عما هو الأصل من غير ضرورة ، ولذلك قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : معناه لا نعبد غيرك وهو حقيقي لا يستدعي رد خطأ المخاطب والمقصود منه التبرئة عن الشرك وتعريض بالمشركين وتقديم ما هو مقدم في الوجود فإنه تعالى مقدم على العابد والعبادة ذاتا فقدم وضعا ليوافق الوضع الطبع. وتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو اللّه تعالى الحق فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينا وشمالا والاهتمام فإن ذكره تعالى أهم للمؤمنين في كل حال لا سيما حال العبادة لأنها محل وساوس الشيطان من الغفلة والكسل والبطالة والتصريح من أول وهلة بأن العبادة له سبحانه فهو أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك فإنه لو أخر فقبل أن يذكر المفعول يحتمل أن تكون العبادة لغيره تعالى. والإشارة إلى حال العارف وأنه ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات وإلى العبادة من حيث إنها وصلة إليه وراحلة تغذ به عليه فيبقى مستغرقا في مشاهدة أنوار جلاله مستقرا في فردوس أنوار جماله وكم من فرق بين قوله تعالى للمحمديين فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة : 152] وبين قوله للإسرائيلين : اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة : 47] وبين ما حكي عن الحبيب من قوله : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة : 40] وبين ما حكاه عن الكليم من قوله : إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء : 62].
الثاني في سر قوله نعبد دون أعبد فقد قيل : هو الإشارة إلى حال العبد كأنه يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بالتقصير ولكن أخلطها بعبادة جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة وقيل النكتة في العدول إلى الأفراد التحرز عن الوقوع في الكذب فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حياة ولا موتا ولا نشورا ويا ليت الفحل يهضم نفسه فكيف يقول أحدنا إياك أعبد وإياك أستعين بالإفراد ويمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء والمقربين وقيل لو قال إياك أعبد لكان

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 91
ذلك بمعنى أنا العابد ولما قال إياك نعبد كان المعنى أني واحد من عبيدك وفرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات : 102] وقوله تعالى : حكاية عن موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الكهف : 69] فصبر الذبيح لتواضعه بعدّ نفسه واحدا من جمع ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلّا منهما عليهما السلام قال : إن شاء اللّه وقيل الضمير في الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري الجماعة وقيل هو من باب «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ» على ما ذكره الغزالي قدس سره وقد تقدم ، الثالث في سر تقديم فعل العبادة على فعل الاستعانة وله وجوه : الأول أن العبادة أمانة كما قال تعالى : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب : 73] فاهتم للأداء فقدم ، الثاني : أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما صدر عنه فعقبه بقوله : وإياك نستعين ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة وتوفيق وإذن منه سبحانه ، الثالث : أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى اللّه تعالى والاستعانة ليست كذلك فالأول أهم ، الرابع : أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه ادعى للإجابة.
الخامس : أنها مطلوبة للّه تعالى من العبادة ، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه ، السادس : أن العبادة واجبة حتما لا مناص للعباد عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم ، السابع : أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والاستعانة أقوى التئاما بطلب الهداية ، الثامن : أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ.
التاسع : أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رؤوس الآي ، العاشر : أن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي وأحسنت إلي فقضيت حقي.
الحادي عشر : أن مقام السالكين ينتهي عند قوله : إياك نعبدوا بعده يطلب التمكين وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم اللّه تعالى عليها سابغة وألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى رب العالمين فشاهدت ما سوى اللّه سبحانه على شرف الفناء مفتقرا إلى المبقى محتاجا إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي فنادت بلسان الاضطرار في مقام لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر : 16] أسلمت نفسي إليك وأقبلت بكليتي عليك وهناك خاضت لجة الوصول وانتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال إياك نعبد وهنا انتهاء مقام السالك ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء : 1] فطلب التمكين بقوله : وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ واستعاذ عن التلوين بقوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فصعد مستكملا ورجع مكملا وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين ، البحث الرابع في سر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وقد ازدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة وهي التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع فقيل لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميّز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ليكون أدل على الاختصاص والترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكأن المعلوم صار عيانا والمعقول
مشاهدا والغيب حضورا ، وقيل : لما شرح اللّه تعالى صدر عبده وأفاض على قلبه وقالبه نور الإيمان والإسلام من عنده ترقى بذريعة الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 92
رتبة الإحسان وهو
«أن تعبد اللّه تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
وأيضا حقيقة العبادة انقياد النفس الأمارة لأحكام اللّه تعالى وصورته وقالبه الإسلام ومعناه وروحه الإيمان ونوره ونوره الإحسان وفي نعبد والالتفات تتم الأمور الثلاثة وأيضا لما تبين أنه ملك في الأزل ما في أحايين الأبد علم أن الشاهد والغائب والماضي والمستقبل بالنسبة إليه على حد سواء فلذلك عدل عن الغيبة إلى الخطاب ويحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى واللّه تعالى حي كريم. وقيل إنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة وحضورا بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام : 76] لا جرم عبر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب وأيضا من تشبه بقوم فهو منهم ، فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر ومزج عبادته بعبادتهم وتكلم بلسانهم وساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوبا في عدادهم مندرجا في سياقهم.
إن لم تكونوا منهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح
وأيضا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب والانكسار ورأى نفسه بعيدا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية وتلحقه عناية أزلية تجذبه إلى حظائر القدس وتطلعه على سرائر الأنس فيصير واطئا على بساط الاقتراب فائزا بعز الحضور وسعادة الخطاب. وأيضا أنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإن خطبها عظيم ومن دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور والملال مقرونة بكمال النشاط موجبة لتمام الانبساط.
حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي فأنت بمرأى من سعاد ومسمع
وأيضا إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم ويخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديهم وأما إذا آل أمره بملازمة الأذكار إلى ارتفاع الحجب والأستار واضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق والجمال المطلق وانتهى إلى مقام الجمع وصار في مقعد فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة : 115] فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه ولا يمكن إظهار السر إلا لديه فينعطف عنان لسانه إلى جنابه ويصير كلامه منحصرا في خطابه ، وثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة وعندي وهو من نسائم الأسحار أن اللّه سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين وهو يوم القيامة التفت إلى الخطاب للإشارة إلى أنه إذا قامت القيامة على ساق وكان إلى ربك يومئذ المساق هنالك يفوز المؤمن بلذة الحضور ويتبلج جبينه بأنوار الفرح والسرور ويخلو به الديان وليس بينه وبينه ترجمان ويكشف الحجاب وتدور بين الأحباب كؤوس الخطاب ، فتأمل في عظيم الرحمة كيف قرن سبحانه هذا الترهيب برحمتين فصرح قبل يوم الدين بما صرح ورمز بعد ذكره بما رمز ولن يغلب عسر يسرين «ومن باب الإشارة» أن يوم الدين تلويح إلى مقام الفناء لأنه موت النفس عن شهواتها وخروجها عن جسد تعلقها بالأغيار والتفاتها ومن مات فقد قامت قيامته فعند ذلك يحصل البقاء في جنة الشهود ويتحقق الجمع في مقام صدق عند المليك المعبود وفوق هذا مقام آخر لا يفي بتقريره الكلام ولا تقدر على تحريره الأقلام بل لا يزيده البيان إلا خفاء ولا يكسبه التقريب إلا بعدا واعتلاء.
ولو أن ثوبا حيك من نسج تسعة وعشرين حرفا في علاه قصير
اللهم أغرقنا في بحار مشاهدتك ومنّ علينا بخندريس وحدتك حتى لا نحدث إلا عنك ولا نسمع إلا منك

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 93
ولا نرى إلا إياك ، هذا وقد ذكر الإمام السيوطي نقلا عن الشيخ بهاء الدين أنه قال اتفقوا على أن فيما نحن فيه التفاتا واحدا وفيه نظر لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا فإن كان التقدير قولوا الحمد للّه ففي الكلام المأمور به التفاتان ، أحدهما في لفظ الجلالة وأصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر ، والثاني في إياك لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله وإن لم يقدر كان في الحمد للّه التفات من التكلم للغيبة لأنه تعالى حمد نفسه ولا يكون في إياك التفات لتقدير قولوا معها قطعا فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي إما أن يكون في الآية التفاتان أو لا يكون التفات أصلا هذا إن قلنا برأي السكاكي كما يشعر به كلام الزمخشري في الكشاف لأنه جعل في الشعر الذي ذكره ثلاث التفاتات وإن قلنا برأي الجمهور ولم نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد للّه كان فيه التفات واحد وبطل قول الزمخشري إن في البيت ثلاث التفاتات انتهى. وهو كلام يغني النظر فيه عن شرح حاله فليفهم.
«البحث الخامس» في سر تكرار إياك فقيل للتنصيص على طلب العون منه تعالى فإنه لو قال سبحانه إياك نعبد ونستعين لاحتمل أن يكون إخبارا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب وقيل إنه لو اقتصر على واحد ربما توهم أنه لا يتقرب إلى اللّه تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه. وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال : الدار بين زيد وبين عمرو ، وفيه أن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن معمولا لفعل ثان وإياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيدا ، وقيل إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة ، وعندي أن التكرار للإشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه ولو قال إياك نعبد ونستعين لتوهم أن الحيثية واحدة والشأن ليس كذلك إذ لا بد في طلب الإعانة من توسط صفة ولا كذلك في العبادة فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه. «البحث السادس» في سر إطلاق الاستعانة فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلأن يعطي في الدلالة على العموم ورجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض وأيضا قرينة التقييد خفية وبأنه المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وبأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول والقوة عن نفسه والانقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى بمقام العبادة وإلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي ، وقال صاحب الكشاف : الأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله تعالى : اهْدِنَا بيانا للمطلوب من المعونة كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا اهدنا الصراط المستقيم وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض انتهى ، ووجه التخصيص حينئذ كمال احتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي والقرينة مقارنة العبادة ولا خفاء في وضوحها وكون عموم المفعول متضمنا لما ذكر معارض بنكتة التخصيص والرواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل : والإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولا أوليا أولى من مجرد التوفيق ويلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات والاعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العلى وكلها مفتقر إلى إعانة اللّه تعالى وفضله. وأيضا طرق الضلالات التي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالين لا نهاية لها وباستعانته يتخلص من مهالكها.
وأيضا لا يخفى أن المراد بالعبادة في إياك نعبد هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه فإذا توافق الاستعانة في العموم. وأيضا قوله أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مطلق شامل كل إنعام ، وأيضا لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه ، على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 94
الكتاب ولا أظن أحدا يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم وقد ثبت في الصحيح عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال لابن عباس : «إذا استعنت فاستعن باللّه» الحديث
وهو ظاهر فيه ولعل ابن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه وهو الظن الغالب فمن استعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم أفلا يستعان به وهو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير؟ وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا وراموا الثروة من سواه فافتقروا وحاولوا الارتفاع فاتضعوا فلا مستعان إلا به ولا عون إلا منه.
إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب
وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي وزيد بن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي نعبد - بكسر النون - وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وهذيل وكذلك حكم حروف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه كنستعين مما لم ينضم ما بعدها فيه سوى الياء لاستثقال الكسرة عليها على أن بعضهم قال يجل بكسر ياء المضارعة من وجل وقرأ بعضهم يعلمون وقرأ الحسن وابن المتوكل وأبو مخلف يعبد بالياء مبنيا للمفعول وهو غريب وعن بعض أهل مكة أنه قرأ نعبد بإسكان الدال وقرأ الجمهور نعبد - بفتح النون وضم الدال - وهي لغة أهل الحجاز وهي الفصحى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الهداية دلالة بلطف لدلالة اشتقاقه ومادته عليه ولذا أطلق على المشي برفق تهاد وسميت الهداية لطفا وقوله تعالى : فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات : 23] وارد على الصحيح مورد التهكم على حد فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران : 21 ، التوبة : 34 ، الانشقاق : 24] ويقال هداه لكذا وإلى كذا فتعديه باللام وإلى إذا لم يكن فيه وهداه كذا بدونهما محتمل للحالين حتى لا يجوز في وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت : 69] لسبلنا أو إلى سبلنا إلا بإرادة الإرادة في جاهدوا أو إرادة تحصيل المراتب العلية في سبلنا ومن ثم جمعها وقد ورد : من عمل بما علم ورثه اللّه تعالى علم ما لم يعلم ،
وقد يقال المراد بيان الاستعمال الحقيقي ، وأما باب التجوز فواسع وهل يعتبر في الدلالة الإيصال أم لا فيه اختلاف المتأخرين من أهل اللسان ففريق خصها بالدلالة الموصلة وآخرون بالدلالة على ما يوصل ، وقليل قال : إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال ولا تسند إلا إليه تعالى كما في الآية وإن تعدت باللام أو إلى كانت بمعنى إراءة الطريق فكما تسند إليه سبحانه تسند إلى القرآن كقوله تعالى : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء : 9] وإلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كقوله تعالى : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى : 52] والكل من هذه الآراء غير خال عن خلل ، أما الأول فيرد عليه قوله تعالى : وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت : 17] والجواب بجواز وقوعهم في الضلال بالارتداد بعد الوصول إلى الحق لا يساعده ما في التفاسير والتواريخ فإنها ناطقة بأن الجم الغفير من قوم ثمود لم يتصفوا بالإيمان قطعا وما آمن من قومه إلا قليل وقد بقوا على إيمانهم ولم يرتدوا على أن صاحب الذوق يدرك من نفس الآية خلاف الفرض كما لا يخفى ، وأما الثاني فيرد عليه قوله تعالى لحبيبه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص :
56] وما يقال إنه على حد قوله تعالى : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال : 17] أو أن المعنى أنك لا تتمكن من إراءة الطريق لكل من أحببت بل إنما يمكنك إراءته لمن أردنا لا يخلو عن تكلف ، وأما الثالث فإن كلام أهل اللغة لا يساعده بل ينادي بما ينافيه ومع ذلك فالقول بأن المتعدية لا تسند إلا إلى اللّه تعالى منتقض بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مريم : 43] وعن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 95
مؤمن آل فرعون يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر : 38] ولهذا الخلل قال طائفة بالاشتراك والبحث لغوي لا دخل للاعتزال فيه وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تتمته والصِّراطَ الطريق وأصله بالسين من السرط وهو اللقم ولذلك يسمى لقما كأن سالكه يبتلعه أو يبتلع سالكه ففي الأزهري أكلته المفازة إذا نهكته لسيره فيها وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة قال أبو تمام :
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة رعاها وماء المزن ينهلّ ساكبه
وبالسين على الأصل قرأ ابن كثير برواية قنبل ورويس اللؤلؤي عن يعقوب وقرأ الجمهور بالصاد وهي لغة قريش وقرأ حمزة بإشمام الصاد زايا والزاي الخالصة لغة لعذرة وكعب والصاد عندي أفصح وأوسع وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله وتذكيره هو الأكثر ويجمع في الكثرة على صراط ككتاب وكتب وفي القلة قياسه أصرطة هذا إذا كان الصراط مذكرا وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع والْمُسْتَقِيمَ المستوي الذي لا اعوجاج فيه واختلف في المراد منه فقيل الطريق الحق. وقيل ملة الإسلام.
وقيل القرآن وردهما الرازي قدس سره بأن قوله تعالى صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يدل على الصراط المستقيم وهم المتقدمون من الأمم وما كان لهم القرآن والإسلام وفيه ما لا يخفى والعجب كل العجب من هذا المولى أنه ذكر في أحد الوجوه المرضية عنده أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وأكد ذلك بقوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : 143] فيا ليت شعري ماذا يقول لو قيل له لم يكن هذا للمتقدمين من الأمم وتلونا عليه الآية التي ذكرها وسبحان من لا يرد عليه وقيل المراد به معرفة ما في كل شيء من كيفية دلالته على الذات والصفات وقيل المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة اللّه تعالى وقيل العبادة لقوله تعالى : وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس : 61] والقرآن يفسر بعضه بعضا وفيه نظر ، وقيل هو الاعراض عن السوي والإقبال بالكلية على المولى وقال الشيخ الأكبر قدس سره : هو ثبوت التوحيد في الجمع والتفرقة ، ولهم أقوال غير ذلك قريبة وبعيدة ، وعندي بعد الاطلاع على ما للعلماء وكل حزب بما لديهم فرحون أن الصراط المستقيم يتنوع إلى عام للناس وخاص بخواصهم والكل منهما صراط المنعم عليهم على اختلاف درجاتهم فالأول جسر بين العبد وبين اللّه سبحانه ممدود على متن جهنم الكفر والفسق والجهل والبدع والأهواء وهو الاستقامة على ما ورد به الشرع الشريف القويم علما وعملا وخلقا وحالا وهو الذي يظهر في الآخرة على متن جهنم الجزاء ممثلا مصورا بالتمثيل الرباني والتصوير الإلهي على حسب ما عليه العبد اليوم فمن وجد خيرا فليحمد اللّه ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه وللتذكير بذلك الصراط لم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحدا ، الثاني طريق الوصول إلى اللّه تعالى ومن شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز
ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل وتم سفره إلى اللّه تعالى ثم يتجدد له السفر فيه سبحانه وهو غير متناه لأن نعوت جماله وجلاله غير متناهية ولا يزال العبد يرقي من بعضها إلى بعض كما يشير إليه
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إنه ليغان على قلبي فأستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة»
وهناك يكون عز شأنه يده وسمعه وبصره فبه يبطش وبه يسمع وبه يبصر ووراء ذلك ما يحرم كشفه فمتى قال العامي اهدنا الصراط المستقيم أراد أرشدنا إلى الاستقامة على امتثال أوامرك واجتناب نواهيك ومتى قال ذلك أحد الخواص أراد ثبتنا على ما منحتنا به وهو المروي عن يعسوب المؤمنين كرم اللّه تعالى وجهه وأبيّ رضي اللّه تعالى عنه وذلك لأن طالب هداية الطريق المستقيم ليسلكه له في سلوكه مقامات وأحوال ولكل منها بداية ونهاية ولا يصل إلى النهاية ما لم يصحح البداية ولا ينتقل إلى مقام أو حال إلا بعد الرسوخ فيما تحته والثبات عليه فما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 96
دام هو في أثناء المقام أو الحال ولم يصل إلى نهاية يطلب الثبات على ما منح به ليرسخ له ذلك المقام ويصير ملكه فيرقى منه إلى ما فوقه وذلك هو الفضل الكبير والفوز العظيم ، وللمحققين في معنى اهدنا وجوه دفعوا بها ما يوشك أن يسأل عنه من أن المؤمن مهتد فالدعاء طلب لتحصيل الحاصل. أحدها أن معناه ثبتنا على الدين كيلا تزلزلنا الشبه وفي القرآن رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمران : 8] وفي الحديث «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك»
وثانيها أعطنا زيادة الهدى كما قال تعالى : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد : 17] وثالثها أن الهداية الثواب كقوله تعالى : يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس : 9] فالمعنى اهدنا طريق الجنة ثوابا لنا وأيد بقوله تعالى :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف : 43] ورابعها أن المراد دلنا على الحق في مستقبل عمرنا كما دللتنا عليه في ماضيه ولهم بعد أيضا كلمات متقاربة غير هذا ولعله يغنيك عن الكل ما ذكره الفقير فتدبره ولا تغفل.
بقي الكلام في ربط هذه الجملة بما قبلها وقد قيل ان عندنا احتمالات أربعة لأن طلب المعونة إما في المهمات كلها أو في أداء العبادة والصراط المستقيم إما أن يؤخذ بمعنى خاص كملة الإسلام أو بمعنى عام كطريق الحق خلاف الباطل فعلى تقديري عموم الاستعانة والصراط وخصوصهما يكون اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة كأنه قال كيف أعينكم في المهمات أو في العبادة فقالوا اهدنا طريق الحق في كل شيء أو ملة الإسلام فيكون الفصل لشبه كمال الاتصال وعلى تقدير عموم الاستعانة وخصوص الصراط يكون اهدنا إفرادا للمقصود الأعظم من جميع المهمات فيكون الفصل حينئذ لكمال الاتصال ، وأما على تقدير خصوص الاستعانة وعموم الصراط فلا ارتباط ، وما عندي غير خفي عليك إن أحطت خبرا بما قدمناه لديك ، وقد قرأ الحسن والضحاك وزيد بن علي صراطا مستقيما دون تعريف وقرأ جعفر الصادق صراط المستقيم
بالإضافة والمتواتر ما تلوناه صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من الصراط الأول بدل الكل من الكل وهو الذي يسميه ابن مالك البدل الموافق أو المطابق تحاشيا من إطلاق الكل على اللّه تعالى في مثل صراط العزيز الحميد اللّه. وفائدة الإبدال تأكيد النسبة بناء على أن البدل في حكم تكرير العامل والاشعار بأن الصراط المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين فيكون ذلك شهادة لاستقامة صراطهم على أبلغ وجه وآكده ، وقيل صفة له.
ومن غريب المنقول أن الصراط الثاني غير الأول وكأنه نوى فيه حرف العطف وفي تعيين ذلك اختلاف ، فعن جعفر بن محمد هو العلم باللّه والفهم عنه وقيل موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة وقيل التزام الفرائض والسنن ولا يخفى أن هذا القول خروج عن الصراط المستقيم فلا نتعب جواد القلم فيه. وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي صراط من أنعمت عليهم وهو المروي عن عمر وأهل البيت رضي اللّه تعالى عنهم. قال الشهاب : وفيه دليل على جواز إطلاق الأسماء المبهمة «كمن» على اللّه تعالى انتهى وهو خبط ظاهر إذ الإضافة إلى المفعول لا الفاعل. والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء كما قاله الراغب فلا يقال أنعم على فرسه ولذا قيل : إن النعمة نفع الإنسان من دونه لغير عوض ، واختلف في هؤلاء المنعم عليهم فقيل المؤمنون مطلقا وقيل الأنبياء وقيل أصحاب موسى وعيسى عليهما السلام قبل التحريف والنسخ ، وقيل أصحاب محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم. وقيل محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي اللّه تعالى عنهما. وقيل الأولى ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والشهداء والصديقون ومن أطاع اللّه تعالى وعبده وإليه يشير قوله تعالى :
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء : 69] فما في هاتيك الأقوال اقتصار على بعض الأفراد. ولم يقيد الإنعام ليعم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم :
34 ، النحل : 18] وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة. وقيل بأن نجاهم من الهلكة. وقيل بالهداية وفي بناء أنعمت

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 97
للفاعل استعطاف فكأن الداعي يقول أطلب منك الهداية إذ سبق إنعامك فاجعل من إنعامك إجابة دعائنا وإعطاء سؤلنا وسبحانه ما أكرمه كيف يعلمنا الطلب ليجود على كلّ بما طلب.
لو لم ترد نيل ما نرجو ونطلبه من فيض جودك ما علمتنا الطلبا
وحكى اللغويون في عَلَيْهِمْ عشر لغات ضم الهاء وإسكان الميم - وهي قراءة حمزة - وكسرها وإسكان الميم - وهي قراءة الجمهور - وكسر الهاء والميم وياء بعدها - وهي قراءة الحسن - قيل وعمر بن خالد وكذلك بغير ياء - وهي قراءة عمرو بن فائد - وكسر الهاء وضم الميم بواو بعدها - وهي قراءة ابن كثير وقالون - بخلاف عنه وضم الهاء والميم وواو بعدها - وهي قراءة الأعرج ومسلم بن جندب وجماعة - وضمهما بغير واو ونسبت لابن هرمز وكسر الهاء وضم الميم بغير واو ونسبت للأعرج والخفاف عن أبي عمرو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها وكذلك بغير ياء وقرىء بهما أيضا.
وحاصلها ضم الهاء مع سكون الميم أو ضمها بإشباع أو دونه أو كسرها بإشباع أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم أو كسرها بإشباع أو دونه أو ضمها بإشباع أو دونه. وحجج كل في كتب العربية غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ بدل من الذين بدل كل من كل. وقيل من ضمير عَلَيْهِمْ ولا يخلو من الركاكة بحسب المعنى وأما أنه يلزم عليه خلو الصلة عن الضمير فلا لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة والقول بأن غَيْرِ في الأصل صفة بمعنى مغاير والبدل بالوصف ضعيف ضعيف لأنها غلبت عليها الاسمية ولذا لم تجر على موصوف في الأكثر.
وعن سيبويه أنها صفة الذين مبينة أو مقيدة ولا يرد أن غَيْرِ من الأسماء المتوغلة في الإبهام فلا تتعرف بالإضافة فلا توصف بها المعرفة بل ولا تبدل منها على المشهور لأنا نقول الموصوف هنا معنى كالنكرة فيصح أن يوصف بها وذلك لأن الموصول بعد اعتبار تعريفه بالصلة يكون كالمعرف باللام في استعمالاته فإذا استعمل في بعض ما اتصف بالصلة كان كالمعرف باللام للعهد الذهني فكما أن المعرف المذكور لكون التعريف فيه للجنس يكون معرفة بالنظر إلى مدلوله وفي حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة ولذا يعامل به معاملتهما كذلك الموصول المذكور بالنظر إلى التعيين الجنسي المستفاد من مفهوم الصلة معرفة وبالنظر إلى البعضية المستفادة من خارج كالنكرة فيعامل به معاملتهما أيضا فالذين أنعمت عليهم إذا لم يقصد به معهود كذلك إذ لا صحة لإرادة جنس المنعم عليم من حيث هو إذ لا صراط له ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات أو المجموع من حيث المجموع فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأخروية أعني طائفة من المؤمنين لا بأعيانها فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كان كالنكرة وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أعني المنعم عليهم كان معرفة قاله العلامة الساليكوتي وغيره ولا يخلو عن دغدغة أو يقال وهو المعول عليه عند من يعول عليه أن غَيْرِ هنا معرفة لأن المحققين من علماء العربية قالوا إنها قد تتعرف بالإضافة وذلك إذا وقعت بين متضادين معرفتين نحو عليك بالحركة غير السكون ، وقال ابن السري وغيره إذا أضيفت غَيْرِ إلى معرف له ضد واحد فقط تعرفت لانحصار الغيرية وهنا المنعم عليهم ضد لما بعده ولا يرد على هذا قوله تعالى.
رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر : 37] لجواز أن يكون صالحا حالا قدمت على صاحبها وهو غير الذي أو غير الذي بدلا من صالحا ولو قيل ضد الصالح الطالح والذي كانوا يعملون فرد من أفراده فليس بضد لم يبعد ، وقرأ عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه غَيْرِ بالنصب وروي ذلك شاذا عن ابن كثير وهو حال من ضمير عليهم والعامل فيه أنعمت ويضعف أن يكون حالا من الذين لأنه مضاف إليه والصراط لا يصح بنفسه أن يعمل في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 98
الحال وقيل يجوز والعامل فيه معنى الإضافة ، وجوز الأخفش أن يكون النصب على الاستثناء المنقطع أو المتصل إن فسر الإنعام بما يعم ومنعه الفراء لأنه حينئذ بمعنى سوى فلا يجوز أن يعطف عليه «بلا» لأنها نفي وجحد ولا يعطف الجحد إلا على مثله ، وأجيب بزيادة لا مثلها في قوله تعالى : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف : 12] وفي قول الأحوص :
ويلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل
واعترض بأنه لم تسمع زيادتها بعد واو العطف والكلام فيه ، وحكى بعضهم عن الأخفش أن الاستثناء في معنى النفي فيجوز العطف عليه «بلا» حملا على المعنى فحينئذ لا يرد ما ورد ، وعند الخليل النصب بفعل محذوف أعني أعني وبه أقول لأن الاستثناء كما ترى والحالية تقتضي التنكير ولا يتحقق إلا بعدم تحقق التضاد أو يجعل غير بمعنى مغاير لتكون إضافته لفظية وكلاهما غير مرضيّ لما علمت وقال بعضهم في الآية حذف والتقدير غير صراط المغضوب عليهم وهو ممكن على هذه القراءة فيكون غير حينئذ إما صفة لقوله الصراط وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف إذا قلنا به والأصل العكس أو بدل أو صفة للبدل أو بدل منه أو حال من أحد الصراطين والصراط السوي عدم التقدير.
والغضب أصله الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وفسر تارة بحركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام كما في شرح المفتاح للسعد وتارة بإرادة الانتقام كما في شرح الكشاف له وأخرى بكيفية تعرض للنفس فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلبا للانتقام كما في شرح المقاصد. ويقرب منه ما قيل تغير يحدث عند غليان دم القلب ، وفي الحديث «اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه»
وفي الكشاف معنى غضب اللّه تعالى إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة للّه تعالى لائقة بجلال ذاته لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي والعجز عن درك الإدراك إدراك والكلام فيه كالكلام في الرحمة حذو القذة بالقذة فهما صفتان قديمتان له سبحانه وتعالى. وحديث «سبقت رحمتي غضبي»
محمول على الزيادة في الآثار أو تقدم ظهورها.
وأصل الضلال الهلاك ومنه قوله تعالى : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة : 10] أي هلكنا وقوله تعالى :
وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد : 8] أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق ، وقرأ أبو أيوب السختياني «ولا الضألين» بإبدال الألف همزة فرارا من التقاء الساكنين مع أنه في مثله جائز. وحكى أبو زيد دأبة وشأبة وعلى هذه اللغة قراءة عمرو بن عبيد فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن : 39] وقوله :
والأرض أما سودها فتجللت بياضا وأما بيضها فادهأمت
وهل يقاس عليه أم لا؟ قولان وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه وعبد اللّه بن الزبير أنهما كانا يقرآن وغير الضالين والمتواتر لا كما في الإمام وهو سيف خطيب أتى بها لتأكيد ما في غَيْرِ من معنى النفي والكوفيون يجعلونها هنا بمعناها والمراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى وقد روى ذلك أحمد في مسنده وحسنه ابن حبان في صحيحه مرفوعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم ،
وقال ابن أبي حاتم : لا أعلم فيه خلافا للمفسرين فمن زعم أن الحمل على ذلك ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى فكان الاحتراز منهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 99
والتقييد خلاف الأصل فقد ضل ضلالا بعيدا إن كان قد بلغه ما صح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإلا فقد تجاسر على تفسير كتاب اللّه تعالى مع الجهل بأحاديث رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وما قاله في منكري الصانع لا يعتد به لأن من لا دين له لا يعتد بذكره ، والعجب من الإمام الرازي أنه نقل هذا ولم يتعقبه بشيء سوى أنه زاد في الشطرنج بغلا فقال ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وعلله بما في أول البقرة من ذكر المؤمنين ثم الكفار ثم المنافقين فقاس ما هنا على ما هناك وهل بعد قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الصادق الأمين قول لقائل أو قياس لقائس هيهات هيهات دون ذلك أهوال ، واستدل بعضهم على أن المغضوب عليهم هم اليهود بقوله تعالى : مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة : 60] وعلى أن الضالين النصارى بقوله تعالى : وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا [المائدة : 77] والأولى الاستدلال بالحديث لأن الغضب والضلال وردا جميعا في القرآن لجميع الكفار على العموم فقد قال تعالى : وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ [النحل : 106] وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النساء : 167] ووردا لليهود والنصارى جميعا على الخصوص كما ذكره المستدل وإنما قدم سبحانه المغضوب عليهم على الضالين - مع أن الضلال في بادىء النظر سبب للغضب إذ يقال ضل فغضب عليه - لتقدم زمان المغضوب عليهم وهم اليهود على زمان الضالين وهم النصارى أو لأن الإنعام يقابل بالانتقام ولا يقابل بالضلال فبينهما تقابل معنوي بناء على أن الأول إيصال الخير إلى المنعم عليه والثاني إيصال الشر إلى المغضوب عليه أو لأن اليهود أشد في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد وأَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا [المائدة : 82] ولذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة. وورد في الحديث «من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود» رواه السلفي والديلمي وابن عدي
والنصارى دون ذلك وأقرب للإسلام منهم ولذا وصفوا بالضلال لأن الضال قد يهتدي ، ومما يدل على أن اليهود أسوأ حالا من النصارى أنهم كفروا بنبيين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعيسى عليه السلام والنصارى كفروا بنبي واحد وهو نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم وفضائحهم وفظائعهم أكثر مما عند النصارى كما ستقرؤه وتراه إن شاء اللّه تعالى ، وقول النصارى بالتثليث ليس أفظع من قول اليهود إن اللّه فقير ونحن أغنياء وقولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة : 64] وقولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ فمن زعم أن النصارى أسوأ حالا متوكئا على ما في دلائل الأسرار لم يعرف أسرار الدلائل وهي بعد العيوق عنه وليست المسألة من الفروع ليكتفي مثلنا فيها بالتقليد المحض لا سيما وفضل اللّه تعالى ليس بمقصور على البعض. وقال بعضهم : تأخير الضالين لموافقة رؤوس الآي ولا بأس بضمه إلى تلك الوجوه وإلا فالاقتصار عليه من ضيق العطن وإنما أسند النعمة إليه تعالى تقربا والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام اللّه تعالى عليه وتحقق ، ولذلك أتى بالفعل ماضيا وانحرف عن ذلك عند ذكر الغضب إلى الغيبة تأدبا ولأن من طلب منه الهداية ونسب الإنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام.
وقد عد ابن الأثير في كنز البلاغة والتنوخي في الأقصى القريب بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله نوعا غريبا من الالتفات فإن كان الالتفات كما في استعمال الأدباء والمتقدمين بمعنى الافتنان فلا غبار عليه وإن كان بالمعنى المتعارف فلك أن تقول على رأي السكاكي الذي لا يشترط تعدد التعبير بل مخالفة مقتضى الظاهر أن المخاطب إذا ترك خطابه وبني ما أسند إليه للمفعول والمحذوف كالغائب فلا مانع من أن يسمى التفاتا فكما يجري في الانتقال من مقدر إلى محقق يجري في عكسه وهو معنى بديع كما قاله الشهاب ، ويسن بعد الختام أن يقول القارئ «آمين»
فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في الدلائل عن أبي ميسرة «أن جبريل أقرأ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فاتحة الكتاب فلما قال

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 100
ولا الضالين قال له قل آمين» فقال آمين
ويقولها المأموم لقراءة إمامه
فقد أخرج مسلم وأبو : داود والنسائي وابن ماجة وابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعري قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إذا قرأ
- يعني الإمام -
غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يحبكم اللّه»
وإخفاؤها مذهب ساداتنا الحنفية وهو مذهب أمير المؤمنين علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وعبد اللّه بن مسعود ، وعند الشافعية يجهر بها. وعن الحسن لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبي حنيفة في رواية غير مشهورة مثله والمشهور أن يخفيها ، وروى الإخفاء عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عبد اللّه بن مغفل وأنس رضي اللّه تعالى عنهما كما في الكشاف ورواية الجمهور محمولة على التعليم ، والبحث فقهي وهذا القدر يكفي فيه وليست من القرآن إجماعا ولذا سن الفصل بينها وبين السورة بسكتة لطيفة وما قيل : إنها من السورة عند مجاهد فمما لا ينبغي أن يلتفت إليه إذ هو في غاية البطلان إذ لم يكتب في الإمام ولا في غيره من المصاحف أصلا حتى ذكر غير واحد أن من قال : إن آمين من القرآن كفر ، وهي اسم فعل مبني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين والبحث عن أسماء الأفعال مفروغ عنه في كتب النحو والصحيح أنها كلمة عربية ومعناها استجب وقيل موضوعة لما هو أعم منه ومن مرادفه ومن الغريب ما قيل : إنه عجمي معرب همين لما أن فاعيل كقابيل ليس من أوزان العرب ورد بأنه يكون وزنا لا نظير له وله نظائر ولذا قيل : إنه في الأصل مقصور ووزنه فعيل فأشبع ، ومن العجيب ما قيل إنه اسم اللّه تعالى والقول في توجيهه أنه لما كان مشتملا على الضمير المستتر الراجع إليه تعالى قيل إنه من أسمائه أعجب منه وقد تمد ألفه وتقصر وإلى أصالة كلّ ذهب طائفة ، وأما تشديد ميمه فذكر الواحدي أنه لغة فيه ، وقيل إنه جمع آم بمعنى قاصد منصوب باجعلنا ونحوه مقدرا ، وقيل إنه خطأ ولحن وحيث إنه ليس من القرآن بل دعاء ومعناه صحيح قال بعضهم لا تفسد به الصلاة وإن كان لحنا ، وفضل هذه السورة مما لا يخفى ويكفي في فضلها ما
روي بأسانيد صحيحة عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج على أبي بن كعب فقال : يا أبي وهو يصلي فالتفت أبيّ فلم يجبه فصلى أبيّ فخفف ثم انصرف إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : السلام عليك يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ فقال : يا رسول اللّه إني كنت في الصلاة ، قال : أفلم تجد فيما أوحى اللّه إليّ أن استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ قال بلى ولا أعود إن شاء اللّه تعالى ، قال : تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال نعم يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : كيف تقرأ في الصلاة فقرأ بأم القرآن فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها للسبع من المثاني - أو قال السبع المثاني - والقرآن العظيم الذي أعطيته»
والأحاديث في ذلك كثيرة ولا بدع فهي أم الكتاب والحاوية من دقائق الأسرار العجب العجاب حتى أن بعض الربانيين استخرج منها الحوادث الكونية وأسماء الملوك الإسلامية وشرح أحوالهم وبيان مآلهم ، وبالجملة هي كنز العرفان بل اللوح المحفوظ لما يلوح في عالم الإمكان «نسأل اللّه تعالى» أن يمن علينا بإشراق أنوارها والاطلاع على مخزونات أسرارها إنه ولي التوفيق والهادي إلى معالم التحقيق.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 101
سورة البقرة
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 إلى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
هذا هو الاسم المشهور وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهو معارض لما روي من منع ذلك وتعين أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة وكذا في سور القرآن كله ومن ثمة أجاز الجمهور ذلك من غير كراهة ويمكن أن يوفق بأنه كان مكروها في بدأ الإسلام لاستهزاء الكفار ثم بعد سطوع نوره نسخ النهي عنه فشاع من غير نكير وورد في الحديث بيانا لجوازه وقد تقدم بعض الكلام على هذا ، وكان خالد ابن معدان يسميها فسطاط القرآن وورد في حديث مرفوع في مسند الفردوس وذلك لعظمها ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها حتى قال بعض الأشياخ : إن فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر قيل وفيها خمسة عشر مثلا ولهذا أقام ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ثماني سنين على تعلمها وورد في حديث المستدرك تسميتها سنام القرآن وسنام كل شيء أعلاه وكأنه لذلك أيضا ، وروي أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «أي القرآن أفضل فقالوا اللّه ورسوله أعلم قال سورة البقرة ثم قال وأيها أفضل؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم قال آية الكرسي ،
وهي مدنية وآياتها مائتان وسبع وثمانون على المشهور وقيل ست وثمانون وفيها آخر آية نزلت وهي قوله تعالى : وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة : 281] وقد نزلت في حجة الوداع يوم النحر ولا تخرج بذلك عن كونها مدنية كما لا يخفى ، ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولا والعبودية ثانيا وطلب الهداية في المقاصد الدينية والمطالب اليقينية ثالثا ، وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولا كما في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة : 3] وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيا وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا وأيضا في آخر الفاتحة طلب الهداية وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة : 2] ولما افتتح سبحانه الفاتحة بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن افتتح هذه السورة بما بطن سره وخفي إلا على من شاء اللّه تعالى أمره فقال سبحانه وتعالى : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم هي وسائر الألفاظ التي يتهجى بها «كبا تا ثا» أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها الكلمة لصدق حد الاسم المتفق عليه واعتوار خواصه المجمع عليها

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 102
على كل منها ، ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه كيف تنطقون في الباء من ضرب والكاف من لك فقالوا - باء كاف - فقال : إنما جئتم بالاسم لا الحرف وأنا أقول - به كه - وما
روي عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه «قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول : من قرأ حرفا من كتاب اللّه تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول لم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»
فالمراد به غير المصطلح إذ هو عرف جديد بل المعنى اللغوي وهو واحد حروف المباني فمعنى ألف حرف إلخ مسمى ألف وهكذا ولعله صلى اللّه تعالى عليه وسلم سمى ذلك حرفا باسم مدلوله فهو معنى حقيقي له وما قيل : انه سماه حرفا مجازا لكونه اسم الحرف وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء فإن أريد من الم مفتتح سورة الفيل يكون المراد أيضا منه مسماه وتكون الحسنات ثلاثين وفائدة النفي دفع توهم أن يكون المراد بالحرف فيمن قرأ حرفا الكلمة وإن أريد نحو ما هنا فالمراد نفسه ويكون عدد الحسنات حينئذ تسعين وفائدة الاستئناف دفع أن يراد بالحرف الجملة المستقلة كما في الإبانة لأبي نصر عن ابن عباس قال : آخر حرف عارض به جبريل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والمعنى لا أقول إن مجموع الأسماء الثلاثة حرف بل مسمى كل منها حرف وإنما لم يذكر تلك الحروف من حيث إنها أجزاء بأن يقابل «1» ألف حرف ولام حرف تنبيها على أن المعتبر في عدد الحسنات الحروف المقروءة التي هي المسميات سواء كانت أجزاء لها أو لكلمات أخر لا من حيث إنها أجزاء لتلك الأسماء فيكون عدد الحسنات في نحو ضرب ثلاثين.
والحاصل أن الحروف المذكورة من حيث إنها مسميات تلك الأسماء أجزاء لجميع الكلم مفردة بقراءتها ومن حيث إنها أجزاء تلك الأسماء لا تكون مفردة إلا عند قراءة تلك الأسماء والمعتبر في عدد الحسنات الاعتبار الأول دون الثاني ذكر ذلك بعض المحققين ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة حيث جعلوا المسمى صدر كل اسم له كما قاله ابن جني وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ألا ترى أنك إذا قلت جيم فأول حروفه جيم وإذا قلت ألف فأول حروفه ألف التي نطقت بها همزة ولما لم يمكن للواضع أن يبتدىء بالألف التي هي مدة ساكنة دعمها باللام قبلها متحركة ليمكن الابتداء بها فقالوا لا كما - لا - كما يقوله المعلمون لام ألف فإنه خطأ «2» وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا إلى اللام بأختها في التعريف فكأنهم قصدوا ضربا من المعاوضة فالألف هي أول حرف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة ويضاهي هذا في إيداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحمدلة والحوقلة وتسميه النحاة نحتا وحكم أسماء الحروف سكون الإعجاز ما لم تكن معمولة وهل هي معربة أم مبنية أم لا ولا خلاف مبني على الاختلاف في تفسير المعرب والمبني فالخلاف لفظي. وللناس فيما يعشقون مذاهب.
والبحث مستوفى في كتبنا النحوية ، وقد كثر الكلام في شأن أوائل السور والذي أطبق عليه الأكثر وهو مذهب سيبويه وغيره من المتقدمين أنها أسماء لها وسميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من اللّه تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها وذلك كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وبصاد النحاس وبقاف الجبل واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة فأما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على
___________
(1) قوله بأن بقابل إلخ كذا بخطه وفيه ما يحتاج إلى التأمل ا ه مصححه.
(2) وما قاله بشار في وصف سكران يخط في الطريق لام ألف فأراد بخط معوجا كلام ومستقيما كألف فافهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 103
أنها ألقابها بناء على ذلك الإشعار أو غير ذلك والثاني باطل لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب وظاهر أنه ليس كذلك أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين فلا يحمل على ما ليس في لغتهم وعورض بوجوه ، الأول أنا نجد سورا كثيرة افتتحت «بالم - وحم» والمقصود رفع الاشتباه ، الثاني لو كانت أسماء لوردت ولاشتهرت بها والشهرة بخلافها كسورة البقرة وآل عمران ، الثالث أن العرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين كبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم ، الرابع أنه يؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى ، الخامس أن هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة واسم الشيء متأخر عنه فيلزم أن يكون متقدما متأخرا معا وهو محال ، وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد ، وعن الثاني بأنه
ورد عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم «يس قلب القرآن ومن قرأ حم حفظ إلى أن يصبح»
وفي السنن «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم سجد في «ص»
وإذا ثبت في البعض ثبت الجميع إذ لا فارق مع أن شهرة أحد العلمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف اسمه إلا بعد التنقير لاشتهاره بغيره كأبي هريرة وذي اليدين وعدم اشتهار بعضها لكونه مشتركا فترك لاحتياجه إلى ضميمة «كالم» هنا ، وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء مثلا إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسما واحدا فأما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى.
وقد وردت التسمية بثلاثة ألفاظ - كشاب قرناها ، وسر من رأى ، ودارابجرد - وسوى سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم ، وعن الرابع بأن هذه التسمية من تسمية مؤلف بمفرد والمفرد غير المؤلف فلا اتحاد ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفا منه ومن غيره «كصاد» فهما متغايران ذاتا وصفة ، وعن الخامس بأن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل والجزء مقدم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه وهو الاسمية فلا محذور ، وقال بعضهم : كونها أسماء الحروف المقطعة أقرب إلى التحقيق لظهوره وعدم التجوز فيه وسلامته مما يرد على غيره ولأنه الأمر المحقق وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز قصدا ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية وكلام سيبويه وغيره ليس نصا فيها لاحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها - كما يقولون - قرأت بانت سعاد وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص : 1] أي ما أوله ذلك فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الأعلام الغالبة فذكرت في باب العلم وأثبتت لها أحكامه على أن ما ذكر في الاعتراض الثالث مما لا محيص عنه إذ عدم وجود التسمية بثلاثة أسماء وأربعة وخمسة في كلام العرب مما لا شك فيه وما نقل عن سيبويه مجرد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد السند ، هذا ووراء هذين القولين أقوال أخشى من نقلها الملال والذي يغلب على الظن أن تحقيق ذلك علم مستور وسر محجوب عجزت العلماء - كما قال ابن عباس - عن إدراكه وقصرت خيول الخيال عن لحاقه ، ولهذا قال الصديق رضي اللّه تعالى عنه : لكل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور ، وقال الشعبي : سر اللّه تعالى فلا تطلبوه.
بين المحبين سر ليس يفشيه قول ولا قلم للخلق يحكيه
فلا يعرفه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلا الأولياء الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة وقد تنطق لهم الحروف عما فيها كما كانت تنطق لمن سبح بكفه الحصى وكلمه الضب والظبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما صح ذلك من رواية أجدادنا أهل البيت رضي اللّه تعالى عنهم بل متى جنى العبد ثمرة شجرة قرب النوافل علمها وغيرها بعلم اللّه تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وما ذكره المستدل سابقا من أنه لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 104
كالخطاب بالمهمل إلخ فمهمل من القول وإن جل قائله لأنه إن أراد إفهام جميع الناس فلا نسلم أنه موجود في العلمية وإن أراد إفهام المخاطب بها وهو هنا الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فهو مما لا يشك فيه مؤمن وإن أراد جملة من الناس فيا حيهلا إذ أرباب الذوق يعرفونها وهم كثيرون في المحمديين والحمد للّه.
نجوم سماء كلما انقض كوكب بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
وجهل أمثالنا بالمراد منها لا يضر فإن من الأفعال التي كلفنا بها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والرمل والاضطباع والطاعة في مثله أدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم فلم لا يجوز أن يأمرنا من لا يسأل عما يفعل جل شأنه بما لم نقف على معناه من الأقوال ويكون المقصود من ذلك ظهور كمال الانقياد من المأمور للآمر ونهاية التسليم والامتثال للحكيم القادر.
لو قال تيها قف على جمر الغضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
على أن فيه فائدة أخرى هي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود منه مع القطع بأن المتكلم به حكيم فإنه يبقى قلبه منقلبا إليه أبدا ومتلفتا نحوه سرمدا ومتفكرا فيه وطائرا إلى وكره بقدامى ذهنه وخوافيه وباب التكليف اشتغال السر بذكر المحبوب والتفكر فيه وفي كلامه فلا يبعد أن يعلم اللّه تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة عظيمة ومنة منه عليه جسيمة ربما يرقى بواسطتها إلى حظائر القدس ومعالم الأنس وأول العشق خيال وهذا لا ينافي كون القرآن عربيا مبينا مثلا لأنه بالنسبة إلى من علمت.
وأما التحدي فليس بجميع أجزائه وكون أول السورة مما ينبغي أن يكون مما يتحدى به غير مسلم ، ومن عجائب هذه الفواتح أنها نصف حروف المعجم على قول وهي موجودة في تسع وعشرين سورة عدد الحروف كلها على قول ، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة وقد تكلم الشيخ الأكبر قدس سره على سر عدد حروفها بالتكرار وعدد حروفها بغير تكرار وعلى جملتها في السور وعلى إفرادها في «ص» و«ق» و«ن» وتثنيتها في «يس» و«طه» وأخواتهما وجمعها من ثلاثة فصاعدا ولم بلغت خمسة حروف ولم وصل بعضها وقطع بعض؟ فقال قدس سره في فتوحاته أعاد اللّه تعالى علينا من طيب نفحاته ما حصله : اعلم أن مبادئ السور المجهولة لا يعلم حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة فجعلها تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة وهو كمال الصورة وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس : 39] والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجوده وهو سورة آل عمران الم اللَّهُ [آل عمران : 1] ولولا ذلك ما ثبتت الثمانية والعشرون وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا فالثمانية حقيقة البضع
قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «الإيمان بضع وسبعون»
وهذه الحروف ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه اللّه فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية فأرسلها في قرآنه أربعة عشر حرفا مفردة مبهمة فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع الصفات منا وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة فجاءت اثنتا عشرة موجودة وهذا هو الإنسان من هذا الفلك ومن فلك آخر متركب من أحد عشر ومن عشرة ومن تسعة ومن ثمانية حتى يصل إلى فلك الاثنين ولا يتحلل إلى الأحدية أبدا فإنها مما انفرد بها الحق سبحانه ثم إنه تعالى جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ وآخرها النون ، فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة ، والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك والنصف الآخر النون المعقولة عليها التي لو ظهرت

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 105
للحس وانتقلت إلى عالم الروح لكانت دائرة محيطة ولكن أخفى هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة فالشمس كاملة والقمر ناقص لأنه محو فصفة ضوئه معارة وهي الأمانة التي حملها وعلى قدر محوه وسراره إثباته وظهوره ثلاثة لثلاثة فثلاثة غروب القمر القلبي الإلهي في الحضرة الأحدية وثلاثة طلوع القمر القلبي الإلهي في الحضرة الربانية وما بينهما في الخروج والرجوع قدما بقدم لا يختل أبدا ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها مقطوع ومنها مفرد ومثنى ومجموع ثم نبه أن في كل وصل قطعا وليس في كل قطع وصل فكل وصل يدل على فصل وليس كل فصل يدل على وصل والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع والفصل وحده في عين الفرق فما أفرده من هذا فإشارة إلى فناء رسم العبد أولا أو ما أثبته فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا وما جمعه فإشارة إلى الأبد بالموارد التي لا تتناهى والإفراد للبحر الأزلي والجمع للبحر الأبدي والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني والألف فيما نحن فيه إشارة إلى التوحيد والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد واللام بينهما واسطة ليكون بينهما رابطة ، فانظر إلى السطر الذي يقع عليه الخط من اللام فتجد الألف إليه ينتهي أصلها وتجد الميم منه يبتدىء نشؤها ثم تنزل من أحسن تقويم وهو موضع السطر إلى أسفل سافلين منتهى تعريف الميم ونزول الألف إلى السطر مثل قوله «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» وهو أول عالم التركيب لأنه سماء آدم عليه السلام ويليه فلك النار فلذلك نزل إلى أول السطر فإنه سبحانه وتعالى نزل من مقام الأحدية إلى مقام إيجاد الخليفة نزول تقدس وتنزيه لا نزول تمثيل وتشبيه وكانت اللام واسطة وهي نائبة مناب المكون والكون فهي القدرة التي عنها وجد العالم فأشبهت الألف في النزول إلى أول السطر ولما
كانت ممتزجة من المكون والكون فإنه سبحانه وتعالى لا يتصف بالقدرة على نفسه وإنما هو قادر على خلقه فكان وجه القدرة مصروفا إلى الخلق فلا بد من تعلقها بهم ولما كانت حقيقتها لا تتم بالوصول إلى السطر فتكون هي والألف على مرتبة واحدة طلبت بحقيقتها النزول تحت السطر أو عليه كما نزل الميم فنزلت إلى إيجاده ولم تتمكن أن تنزل على صورته فكان لا يوجد عنها إلا الميم فنزلت نصف دائرة حتى بلغت إلى السطر من غير الجهة التي نزلت منها فصارت نصف فلك محسوس تطلب نصف فلك معقول فكان منهما فلك دائر فكان العالم كله في ستة أيام أجناسا من أول يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة وبقي يوم السبت للانتقال من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال فصار الم فلكا محيطا من ورائه علم الذات والصفات والأفعال والمفعولات فمن قرأها بهذه الحقيقة حضر بالكل للكل مع الكل إلى آخر ما قال ، وذكر في كتاب الإسراء إلى المقام الأسرى ما يشير إلى دقائق أفكار وخفايا أسرار مبنية على أعداد الحروف وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنين وثلاثين «1» وأول التفصيل من نوح إلى إشراق يوح ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة والروح فبعد عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحا وتضعه
يبدو لك تمام الشريعة حتى إلى انخرام الطبيعة ، ومما يستأنس به لذلك ما
رواه العز ابن عبد السلام أن عليا رضي اللّه تعالى عنه استخرج وقعة معاوية من «حمعسق»
واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره فتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى : الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم : 1] وذكر الشيخ قدس سره كيفية استخراج ذلك بغير الطريق الذي ذكره وهو أن تأخذ عدد «الم» بالجزم الصغير فيكون ثمانية وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية فتكون ستة عشر فتزيل الواحد الذي للألف للأس فتبقى خمسة عشر فتمسكها عندك ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير. وهو الجزم فتضرب ثمانية البضع في
___________
(1) قوله واثنين وثلاثين كذا بخط المؤلف ولعله سبق قلم منه إذ مقامه الرفع فيقال واثنان وثلاثون ا ه مصححه. [.....]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 106
أحد وسبعين واجعل ذلك كله سنين يخرج لك في الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة فتضيف إليها الخمسة عشر التي مسكتها عندك فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة سنة وهو زمان فتح بيت المقدس على قراءة غلبت بفتح الغين واللام وسيغلبون بضم الياء وفتح اللام انتهى وإذا علمت أن هذه الفواتح السر الأعظم والبحر الخضم والنور الأتم.
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ونور ولا نار وروح ولا جسم
«فاعلم» أن كل ما ذكر الناس فيها رشفة من بحار معانيها ومن ادعى قصرا فمن قصوره أو زعم أنه أتى بكثير فمن قلة نوره والعارف يقول باندماج جميع ما ذكروه في صدف فرائدها وامتزاج سائر ما سطروه في طمطام فوائدها فإن شئت فقل كما أنها مشتملة على هاتيك الأسرار يشير كل حرف منها إلى اسم من أسمائه تعالى وإن شئت فقل أتى بها هكذا لتكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن وإن شئت فقل جاءت كذلك ليكون مطلع ما يتلى عليهم مستقلا بضرب من الغرابة أنموذجا لما في الباقي من فنون الإعجاز فإن النطق بأنفس الحروف في تضاعيف الكلام وإن كان على طرف الثمام يتناوله الخواص والعوام لكن التلفظ بأسمائها إنما يتأتى ممن درس وخط. وأما من لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق ولا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبىء عن سر سرى مبني على نهج عبقري بحيث يحار فيه أرباب العقول ويعجز عن إدراكه ألباب الفحول وإن شئت فقل فيها جلب لإصغاء الأذهان وإلجام كل من يلغو من الكفار عند نزول القرآن لأنهم إذا سمعوا ما لم يفهموه من هذا النمط العجيب تركوا اللغط وتوفرت دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاءت مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل وفي ذلك رد شر كثير من عنادهم وعتوهم ولغوهم الذي كان إذ ذاك يظهر منهم وفي ذلك رحمة منه تعالى للمؤمنين ومنة للمستبصرين وإن شئت فقل :
إن بعض مركباتها بالمعنى الذي يفهمه أهل اللّه تعالى منها يصح إطلاقه عليه سبحانه فيجري ما
روي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : يا كهيعص ويا حمعسق
على ظاهره ، وإن أبيت فقل المراد يا منزلهما وإن شئت فقل غير ذلك حدث عن البحر ولا حرج.
وعندي فيما نحن فيه لطائف وسبحان من لا تتناهى أسرار كلامه فقد أشار سبحانه بمفتتح الفاتحة حيث أتى به واضحا إلى اسمه الظاهر وبمبدأ سورة البقرة إلى اسمه الباطن فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وأشار بتقديم الأول إلى أن الظاهر مقدم وبه عموم البعثة نحن نحكم بالظاهر واللّه تعالى يتولى السرائر ، وأيضا في الأول إشارة إلى مقام الجمع وفي الثاني رمز إلى الفرق بعد الجمع وأيضا افتتاح هذه السورة بالمبهم ثم تعقيبه بالواضح فيه أتم مناسبة لقصة البقرة التي سميت السورة بها وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة : 72] وأيضا في الحروف رمز إلى ثلاثة أشياء فالألف إلى الشريعة واللام إلى الطريقة والميم إلى الحقيقة فهناك يكون العبد كالدائرة نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في اللّه تعالى بالكلية وأيضا الألف من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو آخرها فيشير بها إلى أن أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا للّه عز وجل ، وأيضا في ذلك إشارة إلى سر التثليث فالألف مشير إلى اللّه تعالى واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقد قال جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه في الألف ست صفات من صفات اللّه تعالى الابتداء واللّه تعالى هو الأول والاستواء واللّه تعالى هو العدل الذي لا يجور والانفراد واللّه تعالى هو الفرد وعدم الاتصال بحرف وهو سبحانه بائن عن خلقه وحاجة الحروف إليها مع عدم حاجتها وأنتم الفقراء إلى اللّه واللّه هو الغني ومعناها الألفة وباللّه تعالى الائتلاف ،
وبقيت أسرار وأي أسرار يغار عليها العارف الغيور من الأغيار. ومن الظرف أن بعض الشيعة استأنس بهذه الحروف

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 107
لخلافة الأمير عليّ كرم اللّه تعالى وجهه فإنه إذا حذف منها المكرر يبقى ما يمكن أن يخرج منه «صراط على حق نمسكه» ولك أيها السني أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنه بعد الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه ما يكون خطابا للشيعي وتذكيرا له بما ورد في حق الأصحاب رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين وهو «طرق سمعك النصيحة» وهذا مثل ما ذكروه حرفا بحرف وإن شئت قلت «صح طرقك مع السنة» ولعله أولى وألطف ، وبالجملة عجائب هذه الفواتح لا تنفد ولا يحصرها العد.
وكل يدّعي وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
وقد اختلف الناس في إعرابها حسبما اختلفت أقوالهم فيها فإن جعلت أسماء للسور مثلا كان لها حظ من الإعراب رفعا ونصبا وجرا فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والنصب بتقدير فعل القسم أو فعل يناسب المقام وجاز النصب بتقدير فعل القسم فيما وقع بعده مجرور مع الواو ونحو ق وَالْقُرْآنِ [ق 1] مع أنه يلزم المخالفة بين المتعاطفين في الإعراب أن جعلت الواو للعطف واجتماع قسمين على شيء واحد إن جعلت للقسم وهو مستكره كما قاله الخليل وسيبويه لأن المعطوف عليه في محل يقع فيه المجرور فيكون العطف على المحل ويقدر الجواب من جنس ما بعد أن كانت للقسم أولا حاجة للتقدير ويكتفى بجواب واحد إذ لا مانع من أحد القسمين مؤكدا للآخر من غير عطف أو يقال هما لما كانا مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك ولا وجه وجيه للاستكراه وإن كان للضلالة أب فالتقليد أبوها والجر على إضمار حرف القسم. وقول ابن هشام أنه وهم لأن ذلك مختص عند البصريين باسم اللّه سبحانه وبأنه لا جواب للقسم في سورة البقرة ونحوها ولا يصح جعل ما بعد جوابا وحذفت اللام كحذفها في قوله :
ورب السماوات العلى وبروجها والأرض وما فيها المقدر كائن
لأن ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم وهم لا يخفى على الوليد إذ مذهبنا كوفي واتباع البصري ليس بفرض وكثيرا ما يستغنى عن الجواب بما يدل عليه والمقسم عليه مضمون ما بعده وهو قرينة قريبة وبهذا صرح في التسهيل وشروحه ، وحديث الاستطالة ليس بلازم بل هو الأغلب كما صرح به ابن مالك.
ثم ما كان من هذه الفواتح مفردا كص أو موازنا له كحم بزنة قابيل يتأتى فيه الإعراب لفظا أو محلا بأن يسكن حكاية لحاله قبل ويقدر إعرابه وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث وما خالفهما نحو كهيعص يحكى لا غير وجازت الحكاية في هذه الأسماء مع أنها مختصة بالأعلام التي نقلت من الجمل كتأبط شرا لرعاية صورها المنبئة عن نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت أعلاما لأنفسها كضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى في الإشعار بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية لأنها لكثرة استعمالها معدودة موقوفة صارت هذه الحالة كأنها أصل فلما جعلت أعلاما جازت حكايتها على تلك الهيئة الراسخة تنبيها على أن فيها سمة من ملاحظة الأصل وهو الحروف المبسوطة. والمقصد الإيقاظ وقرع العصا فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء أعلاما للسور وإلا فلم تجز الحكاية كذا في الحواشي الشريفة الشريفية وإطباق النحاة على أن المفردات تحكي بعد من وأي الاستفهاميتين وبدونهما كقولهم دعنا من تمرتان مخالف لدعوى الاختصاص التي حكاها كما لا يخفى وإن أبقيت على معانيها مسرودة على نمط التعديد لم تعرب لعدم المقتضي والعامل وكذا إذا جعلت أبعاضا على الصحيح «1» أو مزيدة للفصل
___________
(1) وقيل لها محل لتنزيلها منزلة ما هي أبعاض له وهو واه وإن ذهب إليه صاحب الدر المصون ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 108
مثلا نعم إن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كانت في حيز الرفع على ما مر وإن جعلت مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في اللّه لأفعلن وهل ذلك المجموع نحو «الم» و«حم» أو للألف والحاء مثلا على طريق الرمان حلو حامض؟ خلاف والظاهر الأول وجوز بعضهم الرفع بالابتداء والخبر قسمي محذوفا وتصريح الرضي باختصاص ذلك فيما إذا كان المبتدأ صريحا في القسمية يجعله غير مرتضى ، وجعل بعضهم النصب في البعض مخصوصا بما إذا لم يمنع مانع كما في ص وَالْقُرْآنِ [ص : 1] فيتعين الجر للزوم المخالفة بين المتعاطفين واجتماع القسمين حينئذ وفيه ما تقدم فلا تغفل ، وبقيت أقوال مبنية على أقوال لا أظنها تخفى عليك إن أحطت خبرا بما قدمناه لديك فتدبر ، وفي كون هذه الفواتح آية خلاف فقال الكوفيون : الم آية أينما وقعت وكذلك المص وطسم وأخواتهما وطه ويس وحم وأخواتها وكهيعص آية وحم عسق آيتان وأما المر وأخواتها الخمس فليست بآية وكذلك طس وص وق ون. وقال البصريون : ليس شيء من ذلك آية وفي المرشد أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة وليس بشيء كقول بعض أن الم في آل عمران ليست بآية ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ جملة مستأنفة وابتداء كلام أو متعلقة بما قبلها وفيه احتمالات أطالوا فيها وكتاب اللّه تعالى يحمل على أحسن المحامل وأبعدها من التكلف وأسوغها في لسان العرب وذلك إشارة إلى الكتاب الموعود به صلى اللّه تعالى عليه وسلم بقوله تعالى : إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا كما قال الواحدي أو على لسان موسى وعيسى عليهما السلام لقوله تعالى :
وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا الآية ويؤيده ما روي عن كعب عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب باللّه عهدا ، وقال في التوراة يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح بها «أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
كما قاله غير واحد أو إلى ما بين أيدينا والإشارة بذلك للتعظيم وتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي كما في قوله تعالى : فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف : 32] كما اختاره في المفتاح أو لأنه لما نزل عن حضرة الربوبية وصار بحضرتنا بعد ومن أعطى غيره شيئا أو أوصله إليه أو لاحظ وصوله عبر عنه بذلك لأنه بانفصاله عنه بعيد أو في حكمه ، وقد قيل : كل ما ليس في يديك بعيد.
ولما لم يتأت هذا المعنى في قوله تعالى : هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ [الإنعام : 92 ، 155] لأنه إشارة إلى ما عنده سبحانه لم يأت بذلك مع بعد الدرجة وهذا الذكر حروف التهجي في الأول وهي تقطع بها الحروف وهو لا يكون إلا في حقنا وعدم ذكرها في الثاني فلذا اختلف المقامان وافترقت الإشارتان كما قاله السهيلي ، وهو عند قوم تحقيق ويرشدك إلى ما فيه عندي نظر دقيق وأبعد بعضهم فوجه البعد بأن القرآن لفظ وهو من قبيل الأعراض السيالة الغير القارة فكل ما وجد منه اضمحل وتلاشى وصار منقضيا غائبا عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد ، وقيل لأن صيغة البعيد والقريب قد يتعاقبان كقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام : ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ [آل عمران : 58] ثم قال تعالى : إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران : 62] وله نظائر في الكتاب الكريم ونقله الجرجاني عن طائفة وأنشدوا :
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
وليس بنص لاحتمال أن يكون المراد إنني أنا ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به ، وقول الإمام الرازي : إن ذلك للبعيد عرفا لا وضعا فحمله هنا على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي مخالف لما نفهمه من كتب أرباب العربية وفوق كل ذي علم عليم والقول بأن الإشارة إلى التوراة والإنجيل - كما نقل عن عكرمة - إن كان قد ورد فيه حديث صحيح قبلناه وتكلفنا له وإلا ضربنا به الحائط وما كل احتمال يليق ، وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 109
الصراط المستقيم في الفاتحة كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد على أتم وجه وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره والذي تنفتح له الآذان أنه إشارة إلى القرآن. ووجه البعد ما ذكره صاحب المفتاح ونور القرب يلوح عليه ، والمعتبر في أسماء الإشارة هو الإشارة الحسية التي لا يتصور تعلقها إلا بمحسوس مشاهد فإن أشير بها إلى ما يستحيل إحساسه نحو ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غافر : 62 ، 64 ، الإنعام : 102 ، يونس : 3 ، فاطر : 13 ، الزمر : 6] أو إلى محسوس غير مشاهد نحو تِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم : 63] فلتصييره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية كما في الرضي فالإشارة هنا لا تخلو عن لطف ، وقول بعضهم إن اسم الإشارة إذا كان معه صفة له لم يلزم أن يكون محسوسا - وهم محسوس - والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس والكتب - كما قال الراغب - ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض والأصل في الكتابة النظم بالخط وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ ولذا يستعار كل واحد للآخر ولذا سمي كتاب اللّه وإن لم يكن كتابا والكتاب هنا إما باق على المصدرية وسمي به المفعول للمبالغة أو هو بمعنى المفعول وأطلق على المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية بما يؤول إليه مع المناسبة وقول الإمام - إن اشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم أو لأن اللّه تعالى ألزمك فيه التكاليف على الخلق - كلام ملفق لا يخفى ما فيه ، ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبي المرسل صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء ولا يحتاج هنا إلى
ما قيل في دفع المغالطة المعروفة بالجذر الأصم ولا أرى فيه بأسا إن احتجته واللام في الكتاب للحقيقة مثلها في أنت الرجل والمعنى ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس حتى كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه ، وقال ابن عصفور : كل لام وقعت بعد اسم الإشارة وأي في النداء وإذ الفجائية فهي للعهد الحضوري وقرىء تنزيل الكتاب ، والريب الشك وأصله مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس ومنه ريب الزمان لنوائبه فهو مما نقل من القلق إلى ما هو شبيه به ويستعمل أيضا لما يختلج في القلب من أسباب الغيظ ، وقول الإمام الرازي : إن هذين قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من الحوادث محتمل فهو كالمشكوك وكذلك ما اختلج في القلب فإنه غير مستيقن مستيقن رده ، فالمنون من الريب أو يشك فيه ويختلج في القلب من أسباب الغيظ على الكفار مثلا مما «لا ريب فيه» أو فيه ريب وفرق أبو زيد بين رابني وأرابني فيقال رابني من فلان أمر إذا كنت مستيقنا منه بالريب وإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه قلت أرابني وعليه قول بشار :
أخوك الذي إن ربته قال إنما أراب وإن عاتبته لان جانبه
وبعض فرق بين الريب والشك بأن الريب شك مع تهمة ، وقال الراغب : الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة ، والمرية التردد في المتقابلين وطلب الأمارة من مري الضرع أي مسحه للدر ، والريب أن يتوهم في الشيء ثم ينكشف عما توهم فيه ، وقال الجولي : يقال الشك لما استوى فيه الاعتقادان أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا لا رَيْبَ فِيهِ للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلا عن شك ونفى سبحانه الريب فيه مع كثرة المرتابين - لا كثرهم اللّه تعالى - على معنى أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 110
في كونه وحيا من اللّه تعالى لا أن لا يرتاب فيه حتى لا يصح ويحتاج إلى تنزيل وجود الريب عن البعض منزلة العدم لوجود ما يزيله ، وقيل : إنه على الحذف كأنه قال لا سبب ريب فيه لأن الأسباب التي توجبه في الكلام التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوى العارية عن البرهان وكل ذلك منتف عن كتاب اللّه تعالى ، وقيل معناه النهي وإن كان لفظه خبرا أي لا ترتابوا فيه على حد فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة : 197] وقيل معناه لا ريب فيه للمتقين فالظرف صفة وللمتقين خبر وهُدىً حال من الضمير المجرور أي لا ريب كائنا فيه للمتقين حال كونه هاديا وهي حال لازمة فيفيد انتفاء الريب في جمع الأزمنة والأحوال ويكون التقييد كالدليل على انتفاء الريب و«لا» لنفي اتصاف الاسم بالخبر لا لنفي قيد الاسم فلا تتوجه إليه ليختل المعنى نعم هو قول قليل الجدوى مع أن الغالب في الظرف الذي بعد لا هذه كونه خبرا وإنما لم يقل سبحانه لا فيه ريب على حد لا فِيها غَوْلٌ [الصافات : 47] لأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتابا غيره فيه الريب كما قصد في الآية تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها فليس فيها ما في غيرها من العيب قاله الزمخشري وبعضهم لم يفرق بين ليس في الدار رجل وليس رجل في الدار حتى أنكر أبو حيان إفادة تقديم الخبر هنا الحصر وهو مما لا يلتفت إليه ، وقرأ سليم أبو الشعثاء لا ريب فيه بالرفع وهو لكونه نقيضا لريب فيه وهو محتمل لأن يكون إثباتا لفرد ونفيه يفيد انتفاءه فلا يوجب الاستغراق كما في القراءة المشهورة ولهذا جاز لا رجل في الدار بل رجلان دون لا رجل فيها بل رجلان فلا لعموم النفي لا لنفي العموم والوقف على فِيهِ هو المشهور وعليه يكون الكتاب نفسه هدى وقد تكرر ذلك في التنزيل وعن نافع وعاصم الوقف على لا رَيْبَ ولا ريب في حذف الخبر ، وذهب الزجاج إلى جعل لا رَيْبَ بمعنى حقا
فالوقف عليه تام إلا أنه أيضا دون الأول ، وقرأ ابن كثير «فيهي» بوصل الهاء ياء في اللفظ وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في فِيهِ مُهاناً [الفرقان : 69] وملاقيه وسأصليه ، والباقون لا يشبعون وإذا تحرك ما قبل الهاء أشبعوه ، وقرأ الزهري وابن جندب بضم الهاء من الكنايات في جميع القرآن على الأصل «والهدى» في الأصل مصدر هدى أو عوض عن المصدر وكل في كلام سيبويه ولم يجئ من المصادر بهذه الزنة إلا قليل كالتقى ، والسرى ، والبكى بالقصر في لغة ولقى كما قال الشاطبي وأنشد :
وقد زعموا حلما لقاك فلم أزد بحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا
والمراد منه هنا اسم الفاعل بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله وهو لفظ مؤنث عند ابن عطية ومذكر عند اللحياني وبنو أسد يؤنثون كما قال الفراء فهو كالهداية وقد تقدم معناها. وفي الكشاف هي الدلالة الموصلة إلى البغية واستدل عليه بثلاثة وجوه ، الأول وقوع الضلال في مقابله كما في قوله تعالى : لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ [سبأ : 24] والضلال عبارة عن الخيبة وعدم الوصول إلى البغية فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لم يتقابلا لجواز الاجتماع بينهما ، والثاني أنه يقال مهدي في موضع المدح كمهتد ومن حصل له الدلالة من غير الاهتداء لا يقال له ذلك فعلم أن الإيصال معتبر في مفهومه ، والثالث أن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو كسره فانكسر وفيه بحث. أما أولا فلأن المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى اللازم بمعنى الاهتداء مجازا أو اشتراكا وكلامنا في المتعدي ومقابله الإضلال ولا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل ولا يجعله ضالا على أنه لو فسرت الهداية بمطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال أوصل أم لا ، وفسر الضلال المقابل لها - تقابل الإيجاب والسلب - بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأن سلب الدلالة المطلقة سلب للمقيدة إذ سلب الأعم يستلزم سلب الأخص فليس في هذا التقابل ما يرجح المدعى ، وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن الضلالة عبارة عن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 111
الخيبة إلخ بل هو العدول عن الطريق الموصل إلى البغية فيكون الهدى عبارة عن الدلالة على الطريق الموصل ، نعم إن عدم الوصول إلى البغية لازم للضلالة ويجوز أن يكون اللازم أعم ، وأما ثالثا فلأنه لا يلزم من عدم إطلاق المهدي إلا على المهتدي أن يكون الوصول معتبرا في مفهوم الهدى لجواز غلبة المشتق في فرد من مفهوم المشتق منه ، وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن اهتدى مطاوع هدى بل هو من قبيل أمره فأتمر من ترتب فعل يغاير الأول فإن معنى هداه فاهتدى دله على الطريق الموصل فسلكه بدليل أنه يقال هداه فلم يهتد على أن جمعا يعتد بهم قالوا : لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقا ففي المختار لا يجب أن يوافق المطاوع أصله ويجب في غيره ويؤيده قوله تعالى : وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء : 59] مع قوله سبحانه : وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً [الإسراء : 60] فقد وجد التخويف بدون الخوف ولا يقال كسرته فما انكسر والفرق بينهما مفصل في عروس الأفراح ، وأما خامسا فلأن ما ذكره معارض بما فيه الهداية وليس فيه وصول إلى البغية وقد مر بعضه ولهذا اختلفوا هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو بالعكس أو هي مشتركة بينهما أو موضوعة لقدر مشترك؟ وإلى كل ذهب طائفة ، قيل «1» والمذكور في كلام الأشاعرة أن المختار عندهم ما ذكر في الكشاف وعند المعتزلة ما ذكرناه والمشهور هو العكس - والتوفيق بأن كلام الأشاعرة في المعنى الشرعي والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي - يخدشه اختيار صاحب الكشاف مع تصلبه في الاعتزال ما اختاره مع أن الظاهر في القرآن المعنى الشرعي فالأظهر للموفق عكس هذا التوفيق ، والحق عند أهل الحق أن الهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الإهلاك وبه يندفع كثير من القال والقيل «والمتقين» جمع متق اسم فاعل من وقاه فاتقى ففاؤه واو لا تاء ، والوقاية لغة الصيانة
مطلقا وشرعا صيانة المرء نفسه عما يضر في الآخرة والمراتب متعددة لتعدد مراتب الضرر فأولاها التوقي عن الشرك والثانية التجنب عن الكبائر - ومنها الإصرار على الصغائر - والثالثة ما أشير إليه بما
رواه الترمذي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس»
وفي هذه المرتبة يعتبر ترك الصغائر ولذا قيل :
خل الذنوب كبيرها وصغيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وفي هذه المرتبة اختلفت عبارات الأكابر ، فقيل : التقوى أن لا يراك اللّه حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك ، وقيل : التبري عن الحول والقوة ، وقيل : التنزه عن كل ما يشغل السر عن الحق ، وفي هذا الميدان تراكضت أرواح العاشقين وتفانت أشباح السالكين حتى قال قائلهم :
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى فالمراد بهم المشارفون مجازا لاستحالة تحصيل الحاصل وإيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز ، وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم واعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى فلا ينافي حسن التعقيب ب الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ لأن ذلك كما قيل بالنظر إلى زمان إثبات تلك النسبة كما يقال قتل قتيلا «2»
___________
(1) قائله الجلال الدواني ا ه منه.
(2) قوله قتل قتيلا كذا بخطه ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 112
دفن في موضع كذا وربما جعل التقدير هم الذين في جواب من المتقون وحمل الكل على المشارفة يأباه السوق وقد يقال المتقين مجاز بالمشارفة والصفة ترشيح بلا مشارفة ولا تجوز كما هو المعهود في أمثاله أو نقول هو على حد نبينا محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم الشفيع يوم المحشر فلا إشكال وإن أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الأولى تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المرقية ، وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة فإن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز ، ولفظ الهداية حقيقة في جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ما هم عليه وإرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهوما داخلا في المعنى المستعمل فيه فهو مجاز لا محالة ولفظ المتقين حقيقة على كل حالة كذا حققه مولانا مفتي الديار الرومية ومنه يعلم اندفاع ما قيل إن الهداية إن فسرت بالدلالة الموصلة يقتضي أن يكون هُدىً لِلْمُتَّقِينَ دالا على تحصيل الحاصل كأنه قيل دلالة موصلة إلى المطلوب للواصلين إليه وإن فسرت بالدلالة على ما يوصل كان هناك محذور آخر فإن المهتدي إلى مقصوده يكون دلالته على ما يوصله إليه لغوا ، ووجه الاندفاع ظاهر لكن حقق بعض المحققين أن الأظهر أنه لا حاجة إلى التجوز هنا لأنه إذا قيل السلاح عصمة للمعتصم والمال غنى للغني على معنى سبب غناه وعصمته لم يلزم أن يكون السلاح والمال سببي عصمة وغنى حادثين غير ما هما فيه ، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز في شيء إذ المتقي مهتد بهذا الهدى حقيقة ، وقد اختلف أهل العربية والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال أو الاستقبال وهل
المراد زمان النسبة أو التكلم من غير واسطة بينهما؟ والذي عليه المحققون أنه زمان النسبة ، وقد ذهب السبكي والكرماني إلى أن من قتل قتيلا فله سلبه حقيقة وخطآ من قال إنه مجاز ولا يقال إنه لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به لأن قصد البليغ بمعونة القرينة العقلية أن القتل المتصف به صادر عن هذا القاتل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه فيه غيره فسلبه له دون غيره ، ومن هنا جعل المعنى فيما نحن فيه لا هدى للمتقين إلا بكتاب اللّه تعالى المتلالئ نور هدايته الساطع برهان دلالته وإذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف نحو عصرت هذا الخل مثلا فهناك تعليقان في الحقيقة تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه وتعليق الإشارة والمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق فإذا صح إطلاق الخل على المشار إليه واتصافه بالخلية مثلا في زمان الإشارة - مع قطع النظر - عن الحكم السابق كان حقيقة وإلا فمجاز فافهم وتدبر.
ثم لا يقدح في كونه هدى ما فيه من المجمل والمتشابه لأنه لا يستلزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه فيجوز أن يذكر فيه ما فيه ابتلاء لذوي الألباب من الفحول بما لا تصل إليه الأفهام والعقول أو لأن ذلك لا ينفك عن بيان المراد منه كما ذهب إليه الشافعية فهو بعد التبيين هدى وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها كما أنه على رأي متوقف على تقدم الإيمان باللّه تعالى ورسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقد نص الإمام علي أنه «1» كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدى فيه كمعرفة ذات اللّه وصفاته ومعرفة النبوات لئلا يلزم الدور إلا أن يكون هدى في تأكيد ما في العقول والاعتداد به ، وبعض صحح أن القرآن في نفسه هدى في كل شيء حتى معرفة اللّه تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
___________
(1) لعلها أن ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 113
هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة : 185] ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية مدحا لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى : إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات : 45] مع عموم إنذاره صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأما غيرهم فلا وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء : 45] ولا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء : 82] وأما القول بأن التقدير - هدى للمتقين والكافرين - فحذف لدلالة المتقين على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل : 81] فمما لا يلتفت إليه هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق ف الم أشارت إلى ما أشارت وذلِكَ الْكِتابُ قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابا في جنسه أي باب التحدي والهداية ولا رَيْبَ فِيهِ كالتأكيد لأحد الركنين وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ كالتأكيد للركن الآخر.
وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه ، وقيل : بالحمل على الاستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزا؟ فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا ومعنى وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى الاختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب ثم لما طولب بالدليل على ذلك استدل بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لظهور اشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعاند عقله وحسه ، وقد يقال الإعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المال كان الثاني مقررا للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لاستلزامه ما يليه وكونه في قوته يجعله منزلا منه منزلة بدل الاشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الاتصال بين هذه الجمل. وفيها أيضا من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة قدره على من مرّ ما ذكرناه على فكره.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ صفة للمتقين قبل ، فإن أريد بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها فمادحة وفي شرح المفتاح الشريفي إن حمل المتقي على معناه الشرعي - أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيئات - فإن كان المخاطب جاهلا بذلك المعنى كان الوصف كاشفا وإن كان عالما كان مادحا وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصا ، واستظهر كون الموصول مفصولا قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته لما قبله وإن فهم ضمنا فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في الارتباط ، والاستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى ، والوقف على المتقين تام على هذا الوجه حسن على الوجه الأول والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقا وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله تعالى : أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء : 111] وبالباء كما في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «الإيمان أن تؤمن باللّه» الحديث ،
قالوا : والأول باعتبار تضمينه معنى الإذعان والثاني باعتبار تضمينه معنى الاعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يعتبر ما لم يقترن به الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق صار ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية أيضا كما في الأساس ويفهم مجازيته - ظاهر كلام الكشاف - وأما في الشرع فهو التصديق بما علم مجيء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم اختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار؟ فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 114
باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمنا شرعا فيما بينه وبين اللّه تعالى ويكون مقره الجنة لكن ذكر ابن الهمام أن أهل هذا القول اتفقوا على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه الإقرار أتى به فإن طولب ولم يقر فهو كفر عناد ، وذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه اللّه وغالب من تبعه إلى أن الإقرار وما في حكمه كإشارة الأخرس لا بد منه فالمصدق المذكور لا يكون مؤمنا إيمانا يترتب عليه الأحكام الأخروية كالمصلي مع الرياء فإنه لا تنفعه صلاته ولعل هذا لأنه تعالى ذم المعاندين أكثر مما ذم الجاهلين المقصرين وللمانع أن يجعل الذم للإنكار اللساني ولا شك أنه علامة التكذيب أو للإنكار القلبي الذي هو التكذيب ، وحاصل ذلك منع حصول التصديق للمعاند فإنه ضد الإنكار وإنما الحاصل له المعرفة التي هي ضد النكارة والجهالة ، وقد اتفقوا على أن تلك المعرفة خارجة عن التصديق اللغوي وهو المعتبر في الإيمان نعم اختلفوا في أنها هل هي داخلة في التصور أم في التصديق المنطقي فالعلامة الثاني على الأول وأنه يجوز أن تكون الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصورا وأن التصديق المنطقي بعينه التصديق اللغوي ولذا فسره رئيسهم في الكتب الفارسية «بكرويدن» وفي العربية بما يخالف التكذيب والإنكار وهذا بعينه المعنى اللغوي.
ويؤيده ما أورده السيد السند في حاشية شرح التلخيص أن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة إلا أنه يرد أن المعنى المعبر عنه «بكرويدن» أمر قطعي وقد نص عليه العلامة في المقاصد ولذا يكفي في باب الإيمان التصديق البالغ حد الجزم والإذعان مع أن التصديق المنطقي يعم الظني بالاتفاق فإنهم يقسمون العلم بالمعنى الأعم تقسيما حاصرا إلى التصور والتصديق توسلا به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه التي منها القياس الجدلي المتألف من المشهورات ، والمسلمات ومنها القياس الخطابي المتألف من المقبولات والمظنونات ، والشعري المتألف من المخيلات فلو لم يكن التصديق المنطقي عاما لم يثبت الاحتياج إلى هذه الأجزاء وهو ظاهر وصدر الشريعة على الأخير فإن الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصديق قطعا فإن كان حاصلا بالقصد والاختيار بحيث يستلزم الإذعان والقبول فهو تصديق لغوي وإن لم يكن كذلك كمن وقع بصره على شيء فعلم أنه جدار مثلا فهو معرفة يقينية وليس بتصديق لغوي فالتصديق اللغوي عنده أخص من المنطقي.
وذهب الكرامية إلى أن الإيمان شرعا إقرار اللسان بالشهادتين لا غير ، والخوارج والعلاف وعبد الجبار من المعتزلة إلى أن كل طاعة إيمان فرضا كانت أو نفلا ، والجبائي وابنه وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل منها ، والقلانسي من أهل السنة والنجار من المعتزلة - وهو مذهب أكثر أهل الأثر - إلى أنه المعرفة بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، قيل : وسر هذا الاختلاف - الاختلاف - في أن المكلف هو الروح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما والحق أن منشأ كل مذهب دليل دعا صاحبه إلى السلوك فيه ، وأوضح المذاهب أنه التصديق ولذا
قال يعسوب المؤمنين علي كرم اللّه تعالى وجهه إن الإيمان معرفة والمعرفة تسليم والتسليم تصديق ،
ويؤيد هذا المذهب قوله تعالى : أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة : 22] وقوله تعالى : وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات : 14] وقوله تعالى : وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل : 106] وقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «اللهم ثبت قلبي على دينك»
حيث نسبه فيها وفي نظائرها الغير المحصورة إلى القلب فدل ذلك على أنه فعل القلب وليس سوى التصديق إذ لم يبين في الشرع بمعنى آخر فلا نقل وإلا لكان الخطاب بالإيمان خطابا بما لا يفهم ولأنه خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل واحتمال أن يراد بالنصوص الإيمان اللغوي فهو الذي محله القلب لا الإيمان الشرعي فيجوز أن يكون الإقرار أو غيره جزءا من معناه يدفعه أن الإيمان من المنقولات الشرعية بحسب خصوص المتعلق ولذا بين صلى اللّه تعالى عليه وسلم متعلقه دون معناه
فقال : «أن تؤمن باللّه وملائكته» الحديث
فهو في المعنى اللغوي مجاز في كلام

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 115
الشارع والأصل في الإطلاق الحقيقة ، وأيضا ورد عطف الأعمال على الإيمان كقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة : 277 وغيرها] والجزء لا يعطف على كله وتنزل الملائكة والروح على أحد الوجهين بتأويل الخروج لاعتبار خطابي وتخصيصها بالنوافل بناء على خروجها خلاف الظاهر وكفى بالظاهر حجة ، وأيضا جعل الإيمان شرط صحة الأعمال كقوله تعالى : وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ [النساء : 124 ، طه 112] وهو مؤمن مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لامتناع اشتراط الشيء لنفسه إذ جزء الشرط شرط ، وأيضا ورد إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى : وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات : 9] مع أنه لا يتحقق للشيء بدون ركنه ، وأيضا ما ذكرناه أقرب إلى الأصل إذ لا فرق بينهما إلا باعتبار خصوص المتعلق كما لا يخفى ، وقد أورد الخصم وجوها في الإلزام ، الأول أن الإيمان لو كان عبارة عن التصديق لما اختلف مع أن إيمان الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا يشبهه إيمان العوام بل ولا الخواص ، الثاني أن الفسوق يناقض الإيمان ولا يجامعه بنص وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ [الحجرات : 7] ولو كان بمعنى التصديق لما امتنع مجامعته ، الثالث أن فعل الكبيرة مما ينافيه لقوله تعالى : وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب : 43] مع قوله تعالى في المرتكب وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ [النور : 2] ولو كان بمعنى التصديق ما نافاه ، الرابع أن المؤمن غير مخزي لقوله تعالى : يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم : 8] وقال سبحانه في قطاع الطريق ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [المائدة : 33] فهم ليسوا
بمؤمنين مع أنهم مصدقون.
الخامس مستطيع الحج إذا تركه من غير عذر كافر لقوله تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران : 97] مع أنه مصدق ، السادس من لم يحكم بما أنزل اللّه مصدق مع أنه كافر بنص وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة : 44] السابع أن الزاني كذلك بنص
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم «لا يزني الزاني وهو مؤمن»
وكذا تارك الصلاة عمدا من غير عذر وأمثال ذلك ، الثامن أن المستخف بنبي مثلا مصدق مع أنه كافر بالإجماع. التاسع أن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البيّنة : 50] والدين هو الإسلام لقوله تعالى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران : 19] والإسلام هو الإيمان لأنه لو كان غيره لما قبل من مبتغيه لقوله سبحانه وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران : 85] العاشر أنه لو كان هو التصديق لما صح وصف المكلف به حقيقة إلا وقت صدوره منه كما في سائر الأفعال مع أن النائم والغافل يوصفان به إجماعا مع أن التصديق غير باق فيهما ، الحادي عشر أنه يلزم أن يقال لمن صدق بإلهية غير اللّه سبحانه مؤمن وهو خلاف الإجماع ، الثاني عشر أن اللّه تعالى وصف بعض المؤمنين به عز وجل بكونه مشركا فقال : وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف : 106] ولو كان هو التصديق - لامتنع مجامعته للشرك - سلمنا أنه هو ولكن ما المانع أن يكون هو التصديق باللسان كما قاله الكرامية كيف وأهل اللغة لا يفهمون من التصديق غير التصديق باللسان؟ وأجيب عن الأول بأن التصديق الواحد وإن سلمنا عدم الزيادة والنقصان فيه من النبي والواحد منا إلا أنه لا يمتنع التفاوت بين الإيمانين بسبب تخلل الفعلة والقوة بين أعداد الإيمان المتجددة وقلة تخللها أو بسبب عروض الشبه والتشكيكات وعدم عروضها ، وللنبي الأكمل الأكمل صلى اللّه تعالى عليه وسلم :
وللزنبور والبازي جميعا لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز وما يصطاده الزنبور فرق

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 116
وعن الثاني بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن الفسوق لا يجامع الإيمان فإنه لو قيل حبب إليكم العلم وكره إليكم الفسوق لم يدل على المناقضة بين العلم والفسوق وكون الكفر مقابلا للإيمان لم يستفد من الآية بل من خارج ولئن سلمنا دلالة الآية على ما ذكرتم إلا أن ذلك معارض بما يدل على عدمه كقوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الإنعام : 82] فإنه يدل على مقارنة الظلم للإيمان في بعض ، وعن الثالث بأنا لا نسلم أن فعل الكبيرة مناف للإيمان وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور : 2] على معنى لا تحملنكم الشفقة على إسقاط حدود اللّه تعالى بعد وجوبها ، وعن الرابع بأن ما ذكر من الآيتين ليس فيه دلالة لأن آية نفي الخزي إنما دلت على نفيه في الآخرة عن المؤمنين مطلقا أو أصحابه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وآية القاطع دالة على الخزي في الدنيا ولا يلزم من منافاة الخزي يوم القيامة للإيمان منافاته للإيمان في الدنيا ، وعن الخامس بأنا لا نسلم كفر من ترك الحج من غير عذر وَمَنْ كَفَرَ [البقرة : 126 ، آل عمران : 97 ، النور : 55 ، لقمان : 23] ابتداء كلام أو المراد من لم يصدق بمناسك الحج وجحدها ولا يتصور مع ذلك التصديق ، وعن السادس بأن معنى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ [المائدة : 44 ، 45 ، 47] الآية من لم يصدق أو من لم يحكم بشيء مما نزل اللّه أو المراد بذلك التوراة بقرينة السابق ، وعن السابع بأنه يمكن أن يقال معنى
«لا يزني الزاني وهو مؤمن»
أي آمن من عذاب اللّه أي إن زنى - والعياذ باللّه - فليخف عذابه سبحانه وتعالى ولا يأمن مكره أو المراد لا يزني مستحلا لزناه وهو مؤمن أو لا يزني وهو على صفات المؤمن من اجتناب المحظورات ، وهذا التأويل أولى من مخالفة الأوضاع اللغوية لكثرته دونها وكذا يقال في نظائر هذا ، وعن الثامن بأنا لا ننكر مجامعة الكبائر للإيمان عقلا غير أن الأمة مجمعة على إكفار المستخف فعلمنا انتفاء التصديق - عند وجود الاستخفاف مثلا سمعا - والجمع بين العمل بوضع اللغة وإجماع الإمة على الإكفار أولى من إبطال أحدهما ، وعن التاسع بأن الآية قد فرقت بين الدين وفعل الواجبات للعطف وهو ظاهرا دليل المغايرة ، سلمنا أن الدين فعل الواجبات وأن الدين هو الإسلام لكن لا نسلم أن الإسلام هو الإيمان وليس المراد بغير الإسلام في الآية ما هو مغاير له بحسب المفهوم وإلا يلزم أن لا تقبل الصلاة والزكاة مثلا بل المغاير له بحسب الصدق فحينئذ يحتمل أن يكون الإسلام أعم وهذا كما إذا قلت من يبتغ غير العلم الشرعي فقد سها فإنك لا تحكم بسهو من ابتغى الكلام ، وظاهر أن ذم غير الأعم لا يستلزم ذم الأخص فإن قولك غير الحيوان مذموم لا يستلزم أن يكون الإنسان مذموما ، وعن العاشر بأنه مشترك الإلزام فما هو جوابكم فهو جوابنا على أنا نقول التصديق في حالة النوم والغفلة باق في القلب والذهول إنما هو عن حصوله والنوم ضد لإدراك الأشياء ابتداء لا أنه مناف لبقاء الإدراك الحاصل حالة اليقظة ، سلمنا إلا أن الشارع جعل المحقق الذي لا يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي حتى كان المؤمن اسما لمن آمن في الحال أو في الماضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب ، وعن الحادي عشر بأن عدم تسمية من صدق بإلهية غير اللّه مؤمنا إنما هو لخصوصية متعلق الإيمان شرعا فتسميته مؤمنا يصح نظرا إلى الوضع اللغوي ولا يصح نظرا إلى الاستعمال الشرعي ، وعن الثاني عشر بأن الإيمان ضد الشرك
بالإجماع وما ذكروه لازم على كل مذهب ونحن نقول : إن الإيمان هناك لغوي إذ في الشرعي يعتبر التصديق بجميع ما علم مجيئه به صلّى اللّه عليه وسلّم كما تقدم فالمشرك المصدق ببعض لا يكون مؤمنا إلا بحسب اللغة دون الشرع لإخلاله بالتوحيد والآية إشارة إليه ، وقولهم أهل اللغة لا يفهمون إلخ مجرد دعوى لا يساعدها البرهان. نعم لا شك أن المقر باللسان وحده يسمى مؤمنا لغة لقيام دليل الإيمان الذي هو التصديق القلبي فيه كما يطلق الغضبان والفرحان على سبيل الحقيقة لقيام الدلائل الدالة عليها من الآثار اللازمة للغضب والفرح ويجري عليه أحكام الإيمان ظاهرا ولا نزاع في ذلك وإنما النزاع في كونه مؤمنا عند اللّه تعالى والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومن بعده كما كانوا يحكمون بإيمان من تكلم بالشهادتين كانوا يحكمون بكفر المنافق فدل على أنه لا يكفي في الإيمان فعل اللسان وهذا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وكأنه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 117
لهذا اشترط الرقاشي والقطان مواطأة القلب مع المعرفة عند الأول والتصديق المكتسب بالاختيار عند الثاني ، وقال الكرامية : من أضمر الإنكار وأظهر الإذعان وإن كان مؤمنا لغة وشرعا لتحقق اللفظ الدال الذي وضع لفظ الإيمان بإزائه إلا أنه يستحق ذلك الشخص الخلود في النار لعدم تحقق مدلول ذلك اللفظ الذي هو مقصود من اعتبار دلالته ، هذا وبعد سبر الأقوال في هذا المقام لم يظهر لي بأس فيما ذهب إليه السلف الصالح وهو أن لفظ الإيمان موضوع للقدر المشترك بين التصديق وبين الأعمال فيكون إطلاقه على التصديق فقط وعلى مجموع التصديق والأعمال حقيقة كما أن المعتبر في الشجرة المعينة - بحسب العرف - القدر المشترك بين ساقها ومجموع ساقها مع الشعب والأوراق فلا يطلق الانعدام عليها ما بقي الساق فالتصديق بمنزلة أصل الشجرة والأعمال بمنزلة فروعها وأغصانها فما دام الأصل باقيا يكون الإيمان باقيا وقد ورد في الصحيح «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»
وقريب من هذا قول من قال : إن الأعمال آثار خارجة عن الإيمان مسببة له ويطلق عليها لفظ الإيمان مجازا ولا مخالفة بين القولين إلا بأن إطلاق اللفظ عليها حقيقة على الأول مجاز على الثاني وهو بحث لفظي. والمتبادر من الإيمان هاهنا التصديق كما لا يخفى «والغيب» مصدر أقيم مقام الوصف وهو غائب للمبالغة بجعله كائن هو وجعله بمعنى المفعول يرده كما في البحر أن الغيب مصدر غاب وهو لازم لا يبنى منه اسم مفعول وجعله تفسيرا بالمعنى لأن الغائب يغيب بنفسه تكلف من غير داع أو فيعل خفف كقيل وميت - وفي البحر - لا ينبغي أن يدعى ذلك إلا فيما سمع مخففا ومثقلا ، وفسره جمع هنا بما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقل ، فمنه ما لم ينصب عليه دليل وتفرد بعلمه اللطيف الخبير سبحانه وتعالى كعلم القدر مثلا ، ومنه ما نصب عليه دليل كالحق تعالى وصفاته العلا فإنه غيب يعلمه من أعطاه اللّه تعالى نورا على حسب ذلك النور فلهذا تجد الناس متفاوتين فيه - وللأولياء نفعنا اللّه تعالى بهم الحظ الأوفر منه.
ومن هنا قيل : الغيب مشاهدة الكل بعين الحق فقد يمنح العبد قرب النوافل فيكون الحق سبحانه بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ويرقى من ذلك إلى قرب الفرائض فيكون نورا فهناك يكون الغيب له شهودا والمفقود لدينا عنده موجودا ومع هذا لا أسوغ لمن وصل إلى ذلك المقام أن يقال فيه إنه يعلم الغيب قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل : 65].
وقل لقتيل الحب وفيت حقه وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل
واختلف الناس في المراد به هنا على أقوال شتى حتى زعمت الشيعة أنه القائم وقعدوا عن إقامة الحجة على ذلك والذي يميل إليه القلب أنه - ما أخبر به - الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام وهو اللّه تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره لأن الإيمان المطلوب شرعا هو ذاك لا سيما وقد انضم إليه الوصفان بعده وكون ذلك مستلزما لإطلاق الغيب عليه سبحانه ضمنا والغيب والغائب ما يجوز عليه الحضور والغيبة مما لا يضر إذ ليس فيه إطلاقه عليه سبحانه بخصوصه فهذا ليس من قبيل التسمية على أنه لا نسلم أن الغيب لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور وبعض أهل العلم فرق بين الغيب والغائب فيقولون اللّه تعالى غيب وليس بغائب ويعنون بالغائب ما لا يراك ولا تراه وبالغيب ما لا تراه أنت ، ولا يبعد أن يقال بالتغليب ليدخل إيمان الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم به صلى اللّه تعالى عليه وسلم إذ ليس بغيب بالنسبة إليهم أو يقال الإيمان به عليه الصلاة والسلام راجع إلى الإيمان برسالته مثلا إذ لا معنى للإيمان به نفسه معرى عن الحيثيات. ورسالته غيب نصب عليها الدليل كما نصب لنا وإن افترقنا بالخبر والمعاينة أو أنه من إسناد ما للبعض إلى الكل مجازا كبنو فلان قتلوا فلانا أو المراد أنهم يؤمنون

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 118
بالغيب كما يؤمنون بالشهادة فاستوى عندهم المشاهد وغيره. واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد أن هؤلاء المتقين يؤمنون بالغيب أي حال الغيبة عنكم كما يؤمنون حال الحضور لا كالمنافقين الذين إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة : 14] فهو على حد قوله تعالى : ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف : 52] ويحتمل أن يقال حال غيبة المؤمن به ، ففي سنن الدارمي عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أن الحارث بن قيس قال له عند اللّه نحتسب ما سبقتمونا إليه من رؤية رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال ابن مسعود عند اللّه نحتسب إيمانكم بمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله إلا هو ما من أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إلى قوله : الْمُفْلِحُونَ ولا يلزم من تفضيل إيمان على آخر من حيثية تفضيله عليه من سائر الحيثيات ولا تفضيل المتصف بأحدهما على المتصف بالآخر فإن الأفضلية تختلف بحسب الإضافات والاعتبارات وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل ، ويا ليت ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه سكن لوعة الحارث بما
ورد عنه صلّى اللّه عليه وسلّم مرفوعا «نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني»
وما كان أغناه رضي اللّه تعالى عنه عما أجاب به إذ يخرج الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم عن هذا العموم الذي في هذه الآية كما يشعر به قراءته لها مستشهدا بها ، وبه قال بعض أهل العلم وأنا لا أميل إلى ذلك وقيل المراد بالغيب القلب أي يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والباء على الأول للتعدية وعلى الثاني والثالث للمصاحبة وعلى الرابع للآلة وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك الهمزة من يؤمنون وكذا كل همزة ساكنة قد يتركان كثيرا من المتحركة مثل لا يُؤاخِذُكُمُ [البقرة : 225] ويُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ [آل عمران : 13] وتفصيل مذهب أبي جعفر طويل وأما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل يُهَيِّئْ لَكُمْ [الكهف : 16] وَنَبِّئْهُمْ [الحجر : 51 ، القمر : 28] واقْرَأْ كِتابَكَ [الإسراء : 14] فإنه لا يترك الهمزة فيها وروي عنه أيضا الهمز في الساكنة وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاء الفعل نحو «يؤمنون» و«لا يؤاخذكم» واختلفت قراءة الكسائي وحمزة ولكل مذهب يطول ذكره وَيُقِيمُونَ من الإقامة يقال أقمت الشيء إقامة إذا وفيت حقه قال تعالى لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة : 68] أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ومعنى يقيمون الصلاة يعدلون أركانها بأن يوقعوها مستجمعة للفرائض والواجبات أولها مع الآداب والسنن من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ويداومون «1» من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة أو يتشمرون لأدائها بلا فترة عنها ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه أو يؤدونها ويفعلونها وعبر عن ذلك بالإقامة لأن القيام بعض أركانها فهذه أربعة أوجه ، وفي الكلام على الأولين منها استعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل ، وبيان ذلك في الأول أن يشبه تعديل
الأركان بتقويم العود بإزالة اعوجاجه فهو قويم تشبيها له بالقائم ثم استعير الإقامة من تسوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني كتعديل أركان الصلاة على ما هو حقها ، وقيل الإقامة بمعنى التسوية حقيقة في الأعيان والمعاني بل التقويم في المعاني كالدين والمذهب أكثر فلا حاجة إلى الاستعارة ولا يخفى ما فيه فإن المجازية ما لا شبهة فيها دراية ورواية وذاك الاستعمال مجاز مشهور أو حقيقة عرفية ، وفي الثاني بأن نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن
___________
(1) فإن قلت إذا كان بمعنى المداومة ينبغي أن يتعدى بعلى لأنها تتعدى بها كما في قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أجيب بأنه إذا تجوز بلفظ عن معنى آخر وكان عملهما في الحرف الذي تعديا به مختلفا يجوز فيه إعمال عمل لفظ الحقيقة وعمل لفظ المجاز ويكون ذلك كالترشيح والتجريد ألا ترى ان نطقت الحال يعني دلت وتعديه بعلى ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 119
الحال والظهور التام فاستعمل القيام فيه والإقامة في إنفاقها ثم استعيرت منه للمداومة فإن كلّا منهما يجعل متعلقه مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه وهذا معنى لطيف لا يقف عليه إلا الخواص إلا أن فيه تجوزا من المجاز وكأنه لهذا مال الطيبي إلى أن في هذا الوجه كناية تلويحية حيث عبر عن الدوام بالإقامة. فإن إقامة الصلاة بالمعنى الأول مشعرة بكونها مرغوبا فيها وإضاعتها تدل على ابتذالها كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها ونفاقها على توجه الرغبات إليها وهو يستدعي الاستدامة بخلافها إذا لم تكن قائمة ، وفي الثالث بأن القيام بالأمر يدل على الاعتناء بشأنه ويلزمه التشمر فأطلق القيام على لازمه ، وقد يقال بأن قام بالأمر معناه جد فيه وخرج عن عهدته بلا تأخير ولا تقصير فكأنه قام بنفسه لذلك وأقامه أي رفعه على كاهله بجملته فحينئذ يصح أن يكون فيه استعارة تمثيلية أو مكنية أو تصريحية ويجوز أن يكون أيضا مجازا مرسلا لأن من قام لأمر على أقدام الإقدام ورفعه على كاهل الجد فقد بذل فيه جهده ، وفي الرابع بأن الأداء المراد به فعل الصلاة والقيد خارج عبر عنه بالإقامة بعلاقة اللزوم إذ يلزم من تأدية الصلاة وإيجادها كلها فعل القيام وهو الإقامة لأن فعل الشيء فعل لأجزائه أو العلاقة الجزئية لأن الإقامة جزء أو جزئي لمطلق الفعل ويجوز أن يكون هناك استعارة لمشابهة الأداء للإقامة في أن كلّا منهما فعل متعلق بالصلاة.
وإلى ترجيح أول الأوجه مال جمع لأنه أظهر وأقرب إلى الحقيقة وأفيد وهو المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه ولعل ذلك منه عن توقيف من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو حمل لكلام اللّه سبحانه وتعالى على أحسن محامله حيث إنه المناسب لترتيب الهدى الكامل والفلاح التام الشامل وفيه المدح العظيم والثناء العميم ولا يبعد أن يقال باستلزامه لما في الأوجه الأخيرة وتعين الأخير كما قيل في
حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام»
لا يضر في أرجحية الأول في الكلام القديم إذ يرد أنه لو أريد ذلك قيل يصلون والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في كلام بليغ فضلا عن أبلغ الكلام ولكل مقام مقال فافهم والصَّلاةَ في الأصل عند بعض بمعنى الدعاء ومنه
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصل»
وهي عند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان لأنها دعاء بالألسنة الثلاثة الحال والفعل والمقال ، والمشهور في أصول الفقه أن المعتزلة على أن هذه وأمثالها حقائق مخترعة شرعية لأنها منقولة عن معان لغوية والقاضي أبو بكر منا على أنها مجازات لغوية مشهورة لم تصر حقائق وجماهير الأصحاب على أنها حقائق شرعية عن معان لغوية. وقال أبو علي ورجحه السهيلي الصلاة من الصلوين لعرقين في الظهر لأن أول ما يشاهد من أحوالها تحريكهما للركوع واستحسنه ابن جني وسمّي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد ، وقيل أخذت الصلاة من ذاك لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل للآتي مع صلوى السابق وأنكر الإمام الاشتقاق من الصلوين مستندا إلى أن الصلاة من أشهر الألفاظ فاشتقاقها من غير المشهور في غاية البعد وأكاد أوافقه وإن قيل : إن عدم الاستشهار لا يقدح في النقل وقيل من صليت العصا إذا قومتها بالصلي ، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل ظاهره وباطنه مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على النار وهي فعلة - بفتح العين - على المشهور وجوز بعضهم سكونها فتكون حركة العين منقولة من اللام وقد اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكوة ، ونجاة ، ومناة ، وصلاة ، وزكاة ، وحياة حيث كن موحدات مفردات محلات باللام وعلى رسم المضاف منها كصلاتي بالألف وحذفت من بعض المصاحف العثمانية ، واتفقوا على رسم المجموع منها بالواو على اللفظ قال الجعبري : ووجه كتابة الواو الدلالة على أن أصلها المنقلبة عنه واو وهو اتباع للتفخيم وهذا معنى قول ابن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 120
قتيبة بعض العرب يميلون الألف إلى الواو ولم أختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم وكلام الفصحاء والمراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة وهي الصلوات الخمس كما قاله مقاتل أو الفرائض والنوافل كما قاله الجمهور والأول هو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وادعى الإمام أنه هو المراد لأنه الذي يقع عليه الفلاح لأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة
قال «واللّه لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال عليه الصلاة والسلام أفلح الأعرابي إن صدق»
«والرزق» بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به. وقيل : إنه يعم غيره كالنبات وبالكسر اسم منه ومصدر أيضا على قول. وقيل أصل الرزق الحظ ويستعمل بمعنى المرزوق المنتفع به. وبمعنى الملك وبمعنى الشكر عند أزد - واختلف المتكلمون في معناه - شرعا فالمعول عليه عند الأشاعرة ما ساقه اللّه تعالى إلى الحيوان فانتفع به سواء كان حلالا أو حراما من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك والمشهور أنه اسم لما يسوقه اللّه تعالى إلى الحيوان ليتغذى به ويلزم على الأول أن تكون العواري رزقا لأنها مما ساقه اللّه تعالى للحيوان فانتفع به وفي جعلها رزقا بعد بحسب العرف كما لا يخفى ، ويلزم أيضا أن يأكل شخص رزق غيره لأنه يجوز أن ينتفع به الآخر بالأكل إلا أن الآية توافقه إذ يجوز أن يكون الانتفاع من جهة الإنفاق على الغير بخلاف التعريف الثاني إذ ما يتغذى به لا يمكن إنفاقه إلا أن يقال إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده والمعتزلة فسروه في المشهور تارة بما أعطاه اللّه تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه وتارة بما أعطاه اللّه لقوامه وبقائه خاصة ، وحيث إن الإضافة إلى اللّه تعالى معتبرة في معناه وأنه لا رازق إلا اللّه سبحانه وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام وما يستند إلى اللّه تعالى عز وجل عندهم لا يكون قبيحا ولا مرتكبه مستحقا ذما وعقابا قالوا : إن الرزق هو الحلال والحرام ليس برزق وإلى ذلك ذهب الجصاص منا في كتاب أحكام القرآن وعندنا الكل منه وبه وإليه قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء : 78] ولا حول ولا قوة إلا باللّه وإِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى : 53] والذم والعقاب لسوء مباشرة الأسباب بالاختيار نعم الأدب من خير رأس مال المؤمن فلا ينبغي أن ينسب إليه سبحانه إلا الأفضل فالأفضل كما قال إبراهيم عليه السلام : وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء : 80] وقال تعالى : أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة : 7] فالحرام رزق في نفس الأمر لكنا نتأدب في نسبته إليه سبحانه والدليل على شمول الرزق له ما
أخرجه ابن ماجة وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان بن أمية قال جاء عمرو بن قرة «فقال يا رسول اللّه إن اللّه قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغنى من غير فاحشة فقال صلّى اللّه عليه وسلّم لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو اللّه لقد رزقك اللّه تعالى رزقا حلالا طيبا فاخترت ما حرم اللّه تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل اللّه لك من حلاله»
وحمله على المشاكلة كالقول بأنه يحتمل
قوله عليه الصلاة والسلام فاخترت إلخ
كونه رزقا لمن أحل له فيسقط الاستدلال لقيام الاحتمال خلاف الظاهر جدا. ومثل هذا الاحتمال إن قدح في الاستدلال لا يبقى على وجه الأرض دليل والطعن في السند لا يقبل من غير مستند وهو مناط الثريا كما لا يخفى والاستدلال على هذا المطلب كما فعل البيضاوي وغيره بأنه لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا وليس كذلك لقوله تعالى : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود : 6] ليس بشيء لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء بل يكتفوا بمطلق الانتفاع دون الانتفاع بالفعل بل التمكن فيه فلا يتم الدليل إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته بشيء انتفاعا محللا لا رضعة من ثدي ولا شربة من ماء مباح ولا نظرة إلى محبوب ولا وصلة إلى مطلوب بل ولا تمكن من ذلك أصلا والعادة تقضي بعدم وجوده ومادة النقض لا بد من تحققها على أنه لو قدر وجوده لقالوا : إن ذلك ليس محرما بالنسبة إليه ، ومن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه - وأيضا لهم أن يعترضوا بمن عاش يوما مثلا ثم مات قبل أن يتناول حلالا ولا حراما وما يكون جوابنا لهم يكون جوابهم لنا على أن الآية

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 121
لم تدل على أن اللّه تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به فإذا حصل الإعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا ، وأيضا قد يقال : معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية فالاتصاف أن هذا لا يصلح دليلا ، والأحسن الاستدلال بالإجماع قبل ظهور المعتزلة على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر تشهد بانقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة والأصل الذي بني عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعا صفصفا «والإنفاق» الانفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول اعتناء بما خول اللّه تعالى العبد أو لأنه مقدم على الانفاق في الخارج ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي ولا مدح أيضا في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الانفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع استحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال ابن القيم في بدائع الفوائد فذهب ابن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله.
وقيل : إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح يؤجر به وإن لم يقصده ، ويفهم كلام البعض - وهو من الغرابة بمكان - أن الغاصب أيضا يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد واقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب ومرة على الفسق فإذا عمل به خيرا ينبغي أن يثاب عليه - ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره - ولا يرد على ذلك
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم «لا يقبل اللّه صدقة من غلول»
وقوله : «إن اللّه طيب لا يقبل إلا طيبا»
لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلا بالمال الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق. وقد اختلف في الإنفاق هاهنا فقيل - وهو الأولى - صرف المال في سبل الخيرات أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة وعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه. وعن ابن عباس الزكاة ، وعنه وعن ابن مسعود نفقة العيال ، وعن الضحاك التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في الجهاد. ولعل هذه الأقوال تمثيل للمنفق لا خلاف فيه ، وبعضهم جعلها خلافا ورجح كونها الزكاة المفروضة باقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن ومن التبعيضية حينئذ مما لا يسأل عن سرها إذ الزكاة المفروضة لا تكون بجميع المال وأما إذا كان المراد بالإنفاق مطلقه الأعم مثلا ففائدة إدخالها الإشارة إلى أن إنفاق بعض المال يكفي في اتصاف المنفق بالهداية والفلاح ولا يتوقف على إنفاق جميع المال وقول مولانا البيضاوي تبعا للزمخشري :
إنه للكف عن الإسراف المنهي عنه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة ويتجرع مرارة الإضافة وإلا فقد تصدق الصديق رضي اللّه تعالى عنه بجميع ماله ولم ينكره عليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لعلمه بصبره واطلاعه على ما وقر في صدره ، ومن هاهنا لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإسراف قال لا إسراف في الخير ، وقيل النكتة في إدخال من التبعيضية هي أن الرزق أعم من الحلال والحرام فأدخلت إيذانا بأن الإنفاق المعتد به ما يكون من الحلال وهو بعض من الرزق و«ما» في الآية إما موصولة أو مصدرية أو موصوفة والأول أولى فالعائد محذوف ، واستشكل بأنه إن قدر متصلا يلزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة والانفصال في مثله واجب وإن قدر منفصلا امتنع حذفه إذ قد أوجبوا ذكر المنفصل معللين بأنه لم ينفصل إلا لغرض وإذا حذف فاتت الدلالة عليه ، وأجيب على اختيار كل. أما الأول فبأنه لما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 122
اختلف الضميران جمعا وإفرادا جاز اتصالهما وإن اتحدا رتبة كقوله :
لوجهك في الإحسان بسط وبهجة أنا لهماه قفو أكرم والد
وأيضا لا يلزم من منع ذلك ملفوظا به منعه مقدرا لزوال القبح اللفظي ، وأما الثاني فبأن الذي يمنع حذفه ما كان منفصلا لغرض معنوي كالحصر لا مطلقا كما قال ابن هشام في الجامع الصغير ، وأشار إليه غير واحد وكتبت من متصلة بما محذوفة النون لأن الجار والمجرور كشيء واحد وقد حذفت النون لفظا فناسب حذفها في الخط قاله في البحر وجعل سبحانه صلات الَّذِينَ أفعالا مضارعة ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكره البعض مشعر بالتجدد والحدوث مع ما فيه هنا من الاستمرار التجددي وهذه الأوصاف متجددة في المتقين واسم الفاعل عندهم ليس كذلك ، ورتبت هذا النحو من الترتيب لأن الأعمال إما قلبية وأعظمها اعتقاد حقيقة التوحيد والنبوة والمعاد إذ لولاه كانت الأعمال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء أو قالبية وأصلها الصلاة لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام وهي عمود الدين ومعراج الموحدين والأم التي يتشعب منها سائر الخيرات والمبرات ولهذا
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم «وجعلت قرة عيني في الصلاة»
وقد أطلق اللّه تعالى عليها الإيمان كما قاله جمع من المفسرين في قوله تعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة : 143] أو مالية وهي الإنفاق لوجه اللّه تعالى وهي التي إذا وجدت علم الثبات على الإيمان وهذه الثلاثة متفاوتة الرتب فرتب سبحانه وتعالى ذلك مقدما الأهم فالأهم والألزم فالألزم لأن الإيمان لازم للمكلف في كل آن والصلاة في أكثر الأوقات والنفقة في بعض الحالات فافهم ذاك واللّه يتولى هداك.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ عطف على الموصول الأول مفصولا وموصولا والمروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم أنهم مؤمنو أهل الكتاب وحيث إن المتبادر من العطف أن الإيمان بكل من المنزلين على طريق الاستقلال اختص ذلك بهم لأن إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنما هو على طريق الإجمال والتبع للإيمان بالقرآن لا سيما في مقام المدح ، وقد دلت الآيات والأحاديث على أن لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك وبهذا غايروا من قبلهم وقيل التغاير باعتبار أن الإيمان الأول بالعقل وهذا بالنقل أو بأن ذاك بالغيب وهذا بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم فأولئك على هدى حينئذ إشارة إلى الطائفة الأولى لأن إيمانهم بمحض الهداية الربانية وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إشارة إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه أو بأن أولئك من حيث المجموع كان فيهم شرك وهؤلاء لم يشركوا ولم ينكروا ، وقيل التغاير بالعموم والخصوص مثله في قوله تعالى : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر : 4] والتخصيص هنا بعد التعميم للإشارة إلى الأفضلية من حيثية أنهم يعطون أجرهم مرتين وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وفي ذلك ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإسلام ، وقال بعضهم إن هؤلاء هم الأولون بأعيانهم وتوسيط العطف جار في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال والجمع المستفاد من الواو هنا واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين والإيمان الذي مع أولهما إجمالي وعقلي ومع ثانيها تفصيلي ونقلي وإعادة الموصول للتنبيه على تغاير القبيلين وتباين السبيلين وقد يعطف على المتقين والموصول غير مفصول لما يلزم على الوصل الفصل بأجنبي بين المبتدأ وخبره والمعطوف والمعطوف عليه والتغاير بين
المتعاطفين باعتبار أن المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن به صلى اللّه تعالى عليه وسلم من أهل الكتاب وقد رجح بعض المحققين احتمال أن يكون هؤلاء هم الأولون وتوسط الواو بين الصفات بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب والإفراد بالذكر لا يدل على أن الإيمان بكل بطريق الاستقلال فقد أفرد الكتب المنزلة من قبل في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 123
قوله تعالى : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ [البقرة : 136] ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل لأن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل ودينهم منسوخ به وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب فالتخصيص بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام.
وأجيب أما أولا فبأن المتبادر من السياق الإيمان بالاستقلال لا سيما في مقام المدح وإليه يشير ما جاء أنهم يؤتون أجرهم مرتين والخطاب في الآية للمسلمين بأن يقولوا دفعة ولم يعد فيها الإيمان والمؤمن فلا ترد نقضا ، وأما ثانيا فلأن إيمان أهل الكتاب بكل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة ، والنصارى اشتمل إيمانهم على الإنجيل أيضا ، ويكفي هذا في توجيه المروي عمن شاهدوا نزول الوحي ولا يرغب عنه إذا أمكن توجيهه وكون المفهوم المتبادر ثبوت الحكم لكل واحد إن سلم لا يرده ولا يرد أن اليهود الذين آمنوا على عهد نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم يؤمنوا قبل ذلك بالتوراة وإلا لتنصروا لأن فيها نبوة عيسى كما فيها نبوة رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إذ قد ورد فيها - إن اللّه جاء من طور سيناء وظهر بساعير وعلن بفاران - وساعير بيت المقدس الذي ظهر فيه عيسى ، وفاران جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأنا نقول إنهم آمنوا بالتوراة وتأولوا ما دل منها على نبوة المسيح عليه السلام فبعض أنكر نبوته رأسا ورموه بما رموه - وحاشاه وهم الكثيرون - وبعض كالعنانية قالوا : إنه من أولياء اللّه تعالى المخلصين العارفين بأحكام التوراة وليس بنبي وهؤلاء قليلون مخالفون لسائر اليهود في السبت والأعياد ويقتصرون على أكل الطير والظباء والسمك والجراد وهذا الإيمان وإن لم يكن نافعا في النجاة من النار إلا أنه يقلل الشر بالنسبة إلى الكفر بالتوراة وإنكارها بالكلية مع الكفر بعيسى عليه السلام وربما يمدحون بالنظر إلى أصل الإيمان بها وإن ذموا بحيثية أخرى وكأنه لهذا يكتفى منهم بالجزية ولم يكونوا طعمة للسيوف مطلقا والقول بأنهم مدحوا بعد إيمانهم بالقرآن بالإيمان بالتوراة نظرا إلى أسلافهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام فإنهم مؤمنون بها إيمانا
صحيحا على وجهها كما أنهم ذموا بما صنع آباؤهم على عهده على ما ينطق به كثير من الآيات ليس بشيء إذ لا معنى لإيتائهم أجرين حينئذ والفرق بين البابين واضح. ثم النسخ الذي ادعاه المرجح خلاف ما ذكره الشهرستاني وغيره من أن الإنجيل لم يبين أحكاما ولا استبطن حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ والأحكام محالة إلى التوراة وقد قال المسيح ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها وهذا خلاف ما تقتضيه الظواهر وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيقه ، وأما ثالثا فلأن ثبوت الصفات لمن آمن من أهل الكتاب لا يضرنا لأنها مذكورة في الأول صريحا وفي الثاني التزاما ، وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن ذلك العطف لا يلائم المقام فنكات عطف الخاص على العام لا تخفى كثرتها على ذوي الأفهام فدع ما مر وخذ ما حلا ، وعندي بعد هذا كله أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى لكن الرواية دعت إلى ذلك ولعل أهل مكة أدرى بشعابها وفوق كل ذي علم عليم على أن الدراية قد تساعده كما قيل بناء على أن إعادة الموصول وتوصيفه بالإيمان بالمنزلين مع اشتراكه بين جميع المؤمنين واشتمال الإيمان بما أنزل إليك على الإيمان بما أنزل من قبلك يستدعي أن يراد به من لهم نوع اختصاص بالصلة وهم مؤمنو أهل الكتاب حيث كانوا مطالبين بالإيمان بالقرآن خصوصا قال تعالى : وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [البقرة : 41] مؤمنين بالكتب استقلالا في الجملة بخلاف سائر المؤمنين ، ثم المتبادر من أهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل وحمله على أهل الإنجيل خاصة وقد آمن منهم أربعون واثنان وثلاثون جاؤوا مع جعفر من أرض الحبشة وثمانية من الشام لا تساعده رواية ولا دراية كما لا يخفى ، والإنزال الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من أعلى خلافا لمن ادعاه نحو

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 124
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ [الصافات : 177] أي وصل وحل وإنزال الكتب الإلهية قد مر في المقدمات ما يطلعك إلى معارجه ، وذكر أن معنى إنزال القرآن أن جبريل سمع كلام اللّه تعالى كيف شاء اللّه تعالى فنزل به أو أظهره في اللوح كتابة فحفظه الملك وأداه بأي نوع كان من الأداء.
وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه الذي نجزم به من غير بحث عن كيفيته. وقال الحكماء إن نفوس الأنبياء عليهم السلام قدسية فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوة المتخيلة والحس المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي وربما يعلو فيسمع كلاما منظوما ويشبه أن نزول الكتب من هذا وعندي أن هذا قد يكون لأرباب النفوس القدسية والأرواح الإنسية إلا أن أمر النبوة وراء ذلك وأين الثريا من يد المتناول.
وفعلا الإنزال مبنيان للمفعول وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنيين للفاعل وقرىء شاذا - بما أنزل إليك - بتشديد اللام ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى اللام فالتقى المثلان فأدغم.
وضمير الفاعل قيل اللّه وقيل جبريل عليه السلام وفي البحر أن فيه التفاتا لتقدم .. مِمَّا رَزَقْناهُمْ فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ولو جرى على الأول لجاء - بما أنزلنا إليك وما أنزلنا من قبلك - وأتى سبحانه بصلة ما الأولى فعلا ماضيا مع أن المراد بالمنزل جميعه لاقتضاء السياق ، والسباق له من ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولاقتضاء يؤمنون المنبئ عن الاستمرار والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية لأمرين : الأول أنه تغليب لما وجد نزوله على ما لا يوجد فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق الوقوع لأن بعضه نزل وبعضه سينزل قطعا فيصير إنزال مجموعه مشبها بإنزال ذلك الشيء الذي نزل فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع ، هذا ما حققه من يعقد عند ذكرهم الخناصر وفيه دغدغة كبرى. وأهون منه أن التعبير بالماضي هنا للمشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق ، وأهون من ذلك كله أن المراد به حقيقة الماضي ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص.
وما قيل من أن الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلا أن حمله على الجميع أكمل فلذا اقتصر عليه لا وجه له إذ لا شبهة في أنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما نزل وبأن كل ما سينزل حق وإن لم يجب تفصيله وتعيينه ، وقد ذكر العلماء أن الإيمان إجمالا بالكتب المنزلة مطلقا فرض عين وتفصيلا بالقرآن المتعبد بتفاصيله فرض كفاية إذ لو كان فرض عين أدى إلى الحرج والمشقة والدين يسر لا عسر ، وهذا مما لا شبهة فيه حتى قال الدواني : يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين ، وذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة ويسمى المنصوب للذب ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة وقيل لا بد من شخص كذلك في كل إقليم وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية ولعل هذا التنزل لنزول الأمر وقلة علماء الدين في الدنيا بهذا العصر.
أمست يبابا وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وإلى اللّه تعالى المشتكى وإليه الملتجى.
إلى اللّه أشكو إن في القلب حاجة تمر بها الأيام وهي كما هيا
«والآخرة» تأنيث الآخر اسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن لم يستعمل كما أن الآخر - بفتح الخاء - اسم تفضيل منه وهي صفة في الأصل كما في - الدار الآخرة. وينشىء النشأة الآخرة - ثم غلبت كالدنيا. والوصف الغالب قد يوصف به دون الاسم الغالب فلا يقال قيد أدهم للزوم التكرار في المفهوم وهو وإن كان من الدهمة إلا أنه يستعمله

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 125
من لا تخطر بباله أصلا فافهم. وقد تضاف الدار لها كقوله تعالى : وَلَدارُ الْآخِرَةِ [يوسف : 109] أي دار الحياة الآخرة وقد يقابل بالأولى كقوله سبحانه وتعالى : لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص : 70] والمعنى هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع ، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام «والإيقان» التحقق للشيء كسكونه ووضوحه يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته وهو واليقين بمعنى خلافا لمن وهم فيه قال الجوهري اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت بالكسر يقينا وأيقنت واستيقنت كلها بمعنى ، وذهب الواحدي وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال فلا يوصف به البديهي ولا علم اللّه تعالى. وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم الذي لا يحتمل النقيض ، وعدم وصف الحق سبحانه وتعالى به لعدم التوقيف ، وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه سواء كان ضروريا أو استدلاليا ، وذكر الراغب أن اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها يقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الحكم ، وفي الأحياء - والقلب إليه يميل - أن اليقين مشترك بين معنيين. الأول عدم الشك فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة عقل أو بتواتر أو دليل وهذا لا يتفاوت.
الثاني وهو ما صرح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء وهو ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت وقوي اليقين بإثبات الرزق فكل ما غلب على القلب واستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا ظاهر ، وقرأ الجمهور يُوقِنُونَ بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة منها لأنه من أيقن وقرأ النميري بهمزة ساكنة بدل الواو وشاع عندهم أن الواو إذا ضمت ضمة غير عارضة كما فصل في العربية يجوز إبدالها همزة كما قيل في وجوه جمع وجه أجوه فلعل الإبدال هنا لمجاورتها للمضموم فأعطيت حكمه وقد يؤخذ الجار بظلم الجار ، وغاير سبحانه بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة فلم يقل - وبالآخرة هم يؤمنون - دفعا لكلفة التكرار أو لكثرة غرائب متعلقات الآخرة وما أعد فيها من الثواب والعقاب وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ونشأة أصحابهما على خلاف النشأة الدنيوية مع إثبات المعاد الجسماني كيفما كان.
إلى غير ذلك مما هو أغرب من الإيمان بالكتاب المنزل حتى أنكره كثير من الناس وخلا عن تفاصيله على ما عندنا التوراة والإنجيل فليس في الأول - على ما في شرح الطوالع - ذكر المعاد الجسماني وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعياء والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فناسب أن يقرن هذا الأمر المهم الغريب الذي حارت عقول الكثيرين في إثباته وتهافتوا على إنكاره تهافت الفراش على النار بالإيقان وهو هو إظهارا لكمال المدح وإبداء لغاية الثناء ، وتقديم المجرور للإشارة إلى أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى خلاف حقيقتها مما يزعمه اليهود مثلا حيث قالوا : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة : 111] ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة : 80] وزعموا أنهم يتلذذون بالنسيم والأرواح إذ ليس ذلك من الآخرة في شيء وفي بناء يوقنون على «هم» إشارة إلى أن اعتقاد مقابليهم في الآخرة جهل محض وتخييل فارغ وليسوا من اليقين في ظل ولا فيء أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ الظاهر أنه جملة مرفوعة المحل على الخبرية فإن جعل الموصول الأول مفصولا على أكثر التقادير في الثاني ويتبعه فصله بحسب الظاهر إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف فالخبرية له وإن جعل موصولا وأريد بالثاني طائفة مما تقدمه وجعل هو مفصولا كان الإخبار عنه وذكر الخاص
بعد العام كما يجوز أن يكون بطريق التشريك بينهما في الحكم السابق - أعني هدى للمتقين - يجوز أن يكون بطريق إفراده بالحكم عن العام وحينئذ تكون الجملة المركبة من الموصول الثاني وجملة الخبر معطوفة على جملة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الموصوفين - بالذين يؤمنون بالغيب - والجملة الأولى وإن كانت مسوقة لمدح الكتاب والثانية لمدح الموصوفين بالإيمان بجميع الكتب إلا أن مدحهم ليس إلا باعتبار إيمانهم بذلك الكتاب فهما متناسبتان باعتبار إفادة مدحه وفائدة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 126
جعل المدح مقصودا بالذات ترغيب أمثالهم والتعريض على ما قيل بمن ليس على صفتهم والتخصيص المستفاد من المعطوف بالقياس إلى من لم يتصف بأوصافهم فلا ينافي ما استفيد من المعطوف عليه من ثبوت الهدى للمتقين مطلقا. نعم ليس هذا الوجه في البلاغة بمرتبة فصل الموصول الأول فهو أولى ، وعليه تكون الجملة مشيرة إلى جواب سؤال إما عن الحكم أي إن المتقين هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص بالهدى أو عن السبب كأنه قيل ما سبب اختصاصهم أو عن مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك؟ فأجيب بأن هؤلاء لأجل اتصافهم بالصفات المذكورة متمكنون على الهدى الكامل الذي منحهم إياه ربهم تعالى بكتابه. ومعلوم أن العلة مختصة بهم فيكونون مستحقين للاختصاص. فالجواب مشتمل على الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه وضم نتيجة الهدى تقوية للمبالغة التي ضمنها تنكير هدى أو تحقيقا للحكم بالبرهان الآتي أيضا ولذا استغنى عن تأكيد النسبة أو الجملة الاسمية مؤكدة ، وقد يقال : إنه بين الجواب مرتبا عليه مسببيه أعني الهدى والفلاح لأن ذلك أوصل إلى معرفة السبب ولا حاجة حينئذ إلى التأكيد ، والأمر على التقدير الثالث ظاهر وجعل الجملة مشيرة إلى الجواب على احتمال وصل الأول وفصل الثاني مما لا يخفى انفصاله عن ساحة القبول ، وإذا وصل الأول وعطف الثاني تكون هذه الجملة مستأنفة استئنافا نحويا ، والفصل لكمال الاتصال إذ هي كالنتيجة للصفات السابقة أو بيانيا والفصل لكونها كالمتصلة فكأن سائلا يقول ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأن سبب اختصاصهم أنه سبحانه قدر في الأزل سعادتهم وهدايتهم فجبلتهم مطبوعة على الهداية والسعيد سعيد في بطن أمه
لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب ، أو يقال : إن الجواب بشرح ما انطوى عليه اسمهم إجمالا من نعوت الكمال وبيان ما تستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شؤونهم أحقاء بما هو أعظم من ذلك ، وهذا المسلك يسلك تارة بإعادة من استؤنف عنه الحديث - كأحسنت إلى زيد - زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة صفته - كأحسنت إلى زيد صديقك القديم - أهل لذلك وهذا أبلغ لما فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد اسم الإشارة هنا بمنزلة إعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها وانتظامه لذاك في سلك الأمور المشاهدة مع الإيماء إلى بعد منزلته وعلو درجته ، هذا وجعل أولئك وحده خبرا وعَلى هُدىً حال بعيد كجعله بدلا من - الذين - والظرف خبرا. وإنما كتبوا واوا في أُولئِكَ للفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور كما قيل ، وقيل : إنه لما كان مشارا به لجمع المذكر وكان مبنيا ومباينا للشائع من صيغ الجموع جبر في الجملة بكتابة حرف يكون في الجمع في بعض الآنات. ومن المشهور - ردوا السائل ولو بظلف محرق - وفي قوله سبحانه عَلى هُدىً استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك - وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به - بحال من اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد ، وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفردا لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعهما من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه.
وأبدى قدس سره في الآية ثلاثة أوجه. الأول أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء. الثاني أن يشبه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة عَلى فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في «على» استعارة أصلا بل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 127
هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها. الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة عَلى قرينة لها على عكس الوجه الأول. وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل ، وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور - وكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي - فحكم - والظاهر أنه لأمر ما - للسيد السند والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرا إضافيا كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة فلجريانها في الحرف تكون تبعية ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور متعددة تمثيلية ، ولعل اختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب ، وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا - الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية - وفي هذا القدر هنا كفاية.
وفي تنكير هُدىً إشارة إلى عظمته فلا يعرف حقيقته ومقداره إلا اللطيف الخبير وإنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيدا لذلك بإسناده إليه جل شأنه ، وفيه مناسبة واضحة إذ حيث كان ربهم ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين ويمنّ عليهم بمصلحة الدارين وقد تكون ثم صفة محذوفة أي عَلى هُدىً أي هدى وحذف الصفة لفهم المعنى جائز وقيل يحتمل أن يكون التنوين للإفراد أي على هدى واحد إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لنسخه ما قبله. ومِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف أي من هدى ربهم ، ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه وإن توسطت هناك أسباب عادية ووسائط صورية على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين فيتبلج صبح العيان لذي عينين.
وقد قرأ ابن هرمز - من ربهم - بضم الهاء وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور وعليه العمل ، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة ورووه عن نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب ، وأظهر النون أبو عون عن قالون ، وأبو حاتم عن يعقوب ، وهذه الأوجه جارية أيضا في النون والتنوين إذا لاقت «1» لاما وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفلاح الفوز والظفر بإدراك البغية وأصله الشق والقطع ويشاركه في معنى الشق مشاركه في الفاء والعين نحو - فلى وفلق وفلذ - وفي تكرار اسم الإشارة إشارة إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح والاختصاص بكل منهما ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع فيوهم تحقق كل واحد منهما بالانفراد فيمن عداهم وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما واقعتين بين كمال الاتصال والانفصال لأنهما وإن تناسبا مختلفان مفهوما ووجودا فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة وإثبات كل منهما مقصود في نفسه وبهذا فارقا قوله تعالى : أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف : 179] فالثانية فيه مؤكدة للأولى إذ لا معنى للتشبيه إلا بالإنعام المبالغة في
الغفلة فلا مجال للعطف بينهما وهُمُ يحتمل أن يكون فصلا أو بدلا فيكون الْمُفْلِحُونَ خبرا عن أولئك أو مبتدأ - والمفلحون - خبره والجملة خبر .. أُولئِكَ وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة الحصر كما لا يخفى. وقد ذكر غير
___________
(1) قوله إذا لاقت كذا بخطه والأولى لاقتا كما هو ظاهر ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 128
واحد أن اللام في - المفلحون - حرف تعريف بناء على أن المراد الثبات على الفلاح فهو حينئذ مما غلبت عليه الاسمية أو ألحق بالصفة المشبهة فهي إما للعهد الخارجي للدلالة على أن المتقين هم الذين بلغك أنهم مفلحون في العقبى وضمير الفصل إما للقصر - أو لمجرد تأكيد النسبة ولا استبعاد في جريان القصر قلبا أو تعيينا بل إفرادا أيضا أو للجنس - فتشير إلى ما يعرفه كل أحد من هذا المفهوم فإن أريد القصر كان الفصل لتأكيد النسبة ولتأكيد الاختصاص أيضا وإن أريد الاتحاد كان لمجرد تأكيد النسبة. وتشبث المعتزلة والخوارج بهذه الآية لخلود تارك الواجب في العذاب لأن قصر جنس الفلاح على الموصوفين يقتضي انتفاء الفلاح عن تارك الصلاة والزكاة فيكون مخلدا في العذاب وهذا أوهن من بيت العنكبوت فلا يصلح للاستدلال لأن الفلاح عدم الدخول أو لأن انتفاء كمال الفلاح كما يقتضيه السياق ، والسباق لا يقتضي انتفاءه مطلقا ولا حاجة إلى حمل المتقين على المجتنبين للشرك ليدخل العاصي فيهم لأن الإشارة ليست إليه فقط فلا يجدي نفعا ككون الصفة مادحة كما لا يخفى ، وهاهنا سر دقيق وهو أنه سبحانه وتعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لباريه بسبب إحسانه إليه وترقى فيه ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد فسبحانه من إله ماجدكم أسدى جميلا ، وأعطى جزيلا ، وشكر قليلا ، فله الفضل بلا عد ، وله الحمد بلا حد.
[سورة البقرة (2) : الآيات 6 إلى 10]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كلام مستأنف يتميز به حال الكفرة الغواة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال والمآل ، ولم يعطف على سابقه عطف القصة على القصة لأن المقصود من ذلك بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريرا لكونه يقينا لا مجال للشك فيه ، ومن هذا بيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار ، والقول إنهما مسوقان لبيان حال الكتاب وإنه هدى لقوم وليس هدى لآخرين لا يجدي نفعا لأن عدم كونه هدى لهم مفهوم تبعا لا مقصود أصالة على أن الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه وإعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع. وقيل إن ترك العطف لكونه استئنافا آخر كأنه قيل ثانيا ما بال غيرهم لم يهتدوا به؟ فأجيب بأنهم لإعراضهم وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي المقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه ، وأغرب من هذا تخيل أن الترك لغاية الاتصال زعما أن شرح تمرد الكفار يؤكد كون الكتاب كاملا في الهداية نعم يمكن على بعد أن يوجه السؤال بأن يقال : لو كان الكتاب كاملا لكان هدى للكفار أيضا فيجاب بأن عدم هدايته إياهم لتمردهم وتعنتهم لا لقصور في الكتاب.
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
والعطف في قوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لاتحاد الجامع إذ الجملة الأولى مسوقة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 129
لبيان ثواب الأخيار ، والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيهما من الترصيع والتقابل وقد عد التضاد وشبهه جامعا يقتضي العطف لأن الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا : إن الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد من الأمثال. وصدرت الجملة بأن اعتناء بمضمونها وقد تصدر بها الأجوبة لأن السائل لكونه مترددا يناسبه التأكيد وتعريف الموصول إما للعهد «1» والمراد من شافههم صلّى اللّه عليه وسلّم بالإنذار في عهده وهم مصرون على كفرهم أو للجنس كما في قوله تعالى : كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ [البقرة : 171] وكقول الشاعر :
ويسعى إذا أبني ليهدم صالحي وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
فهو حينئذ عام خصه العقل بغير المصرين ، والإخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه وقد ذكر الأصوليون ثلاثة أقوال فيما إذا عاد ضمير خاص على العام فقيل يخصصه وقيل لا وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى : وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة : 228] فإن الضمير في بعولتهن للرجعيات فقط. وما ذكره بعض أجلة المفسرين أن المخصص هنا الخبر أورد عليه أن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبر ينافي ما تقرر من أن المخبر عنه لا بد أن يكون متعينا عند المخاطب قبل ورود الخبر فلو توقف تعين المخبر عنه على الخبر لزم الدور.
والكفر بالضم مقابل الإيمان وأصله المأخوذ منه الكفر - بالفتح - مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل ، وما في الصحاح من أنه من باب ضرب فالظاهر أنه غير صحيح «2» وإن لم ينبه عليه في القاموس وشاع استعماله في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأن فيه ستر الحق ونعم الفيض المطلق ، وقد صعب على المتكلمين تعريف الكفر الشرعي الغير التبعي واختلفوا في تعريفه على حسب اختلافهم في تعريف الإيمان إلا أن الذي عول عليه الشافعية رحمهم اللّه تعالى أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام فلا يكفر جاحد المجمع عليه على الإطلاق بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها سائر الناس كالصلاة وتحريم الخمر ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب فليس بكافر ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف ، وأما ساداتنا الحنفية رضي اللّه تعالى عنهم فلم يشترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة وهذا أمر عظيم وكأنه لذلك قال ابن الهمام : يجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف ولا يرد على أخذ الإنكار في التعريف أن أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكارا من فاعلها ظاهرا لأنهم صرحوا بأنها ليست كفرا وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين وصيانة لشريعة سيد المرسلين صلّى اللّه عليه وسلّم وليست بعض المنهيات التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك فلا يبطل الطرد بغير الكفر من الفسق فلبس شعار الكفار مثلا ليس في الحقيقة كفرا كما قاله مولانا الإمام الرازي وغيره إلا أنهم كفروا به لكونه علامة ظاهرة على أمر باطن وهو التكذيب لأن الظاهر أن من
يصدق الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا يأتي به فحيث أتى به دل على عدم التصديق وهذا إذا لم تقم قرينة على ما ينافي تلك الدلالة ولهذا قال بعض المحققين : إن لبس شعار الكفرة سخرية بهم وهزلا ليس بكفر. وقال مولانا الشهاب وليس ببعيد إذا
___________
(1) وهو الأولى دراية ورواية ا ه منه.
(2) مثل ذلك لابن الطيب في حاشية القاموس وفيه أن الذي قال الجوهري : انه من باب ضرب هو الكفر بمعنى الستر وهو صحيح باتفاق وهو غير الكفر الذي هو ضد الإيمان فإنّه من باب نصر أفاده شارح القاموس ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 130
قامت القرينة وأنا أقول إذا قامت القرينة على غرض آخر غير السخرية والهزل لا كفر به أيضا كما يظنه بعض من ادعى العلم اليوم وليس منه في قبيل ولا دبير ولا في العير ولا النفير ثم الإنكار هنا بمعنى الجحود ولا يرد أن من تشكك أو كان خاليا عن التصديق والتكذيب ليس بمصدق ولا جاحد وأنه قول بالمنزلة بين المنزلتين وهو باطل عند أهل السنة لأنه يجوز أن يكون كفر الشاك والخالي لأن تركهما الإقرار مع السعة والأعمال بالكلية دليل كما قاله السالكوتي على التكذيب كما أن التلفظ بكلمة الشهادة دليل على التصديق وقيل هو هاهنا من أنكرت الشيء جهلته فلا ورود أيضا ، وفيه أن الإنكار بمعنى الجهل يقابل المعرفة فيلزم أن يكون العارف الغير المصدق كأحبار اليهود واسطة فالمحذور باق بحاله. وعرف في المواقف الكفر بأنه عدم تصديق الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة ولعله أيضا يقول بإقامة بعض الأفعال والأقوال مقام عدم التصديق واعترض على أخذ الضرورة بأن ما ثبت بالإجماع قد يخرج من الضروريات وكذا براءة عائشة رضي اللّه تعالى عنها ثبتت بالقرآن ، وأدلته اللفظية غير موجبة للعلم فتخرج عن الضروريات أيضا.
وأجيب بأن خروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع والدلالة اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن وهي موجودة في براءة عائشة رضي اللّه تعالى عنها ولقد عد أصحابنا رضي اللّه تعالى عنهم في باب الاكفار أشياء كثيرة لا أراها توجب إكفارا والإخراج عن الملة أمر لا يشبهه شيء فينبغي الاتئاد في هذا الباب مهما أمكن ، وقول ابن الهمام :
ارفق بالناس وفي أبكار الأفكار - في هذا البحث - ما يقضي منه العجب ولا أرغب في طول بلا طول وفضول بلا فضل. واستدل المعتزلة بهذه الآية ونحوها على حدوث كلامه سبحانه وتعالى لاستدعاء صدق الإخبار بمثل هذا الماضي سابقه المخبر عنه أعني النسبة بالزمان وكل مسبوق بالزمان حادث ، وأجيب بأن سبق المخبر عنه يقتضي تعلق كلامه الأزلي بالمخبر عنه فاللازم سبق المخبر عنه على التعلق وحدوثه وهو لا يستلزم حدوث الكلام كما في علمه تعالى بوقوع الأشياء فإن له تعلقا حادثا مع عدم حدوثه أو يقال : إن ذاته تعالى وصفاته لما لم تكن زمانية يستوي إليها جميع الأزمنة استواء جميع الأمكنة فالأنواع كل منها حاضر عنده في مرتبته واختلاف التعبيرات بالنظر إلى المخاطب الزماني رعاية للحكمة في باب التفهيم ، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره ، وقد ذكرنا في الفائدة الرابعة ما يفيدك ذكره هنا فتذكر وسَواءٌ اسم مصدر بمعنى الاستواء وهو لا يثنى ولا يجمع وقد استغنوا عن تثنيته بتثنية «سي» إلا شذوذا وكأنه في الأصل مصدر كما قاله الرضي ورفع على أنه خبر أن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه - أو خبر مبتدأ محذوف - تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله سبحانه أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أو خبر لما بعده أي إنذارك وعدمه سيان وهو المشهور على ألسنة الطلبة في مثله وأورد عليه أمور : الأول أن الفعل لا يسند إليه. الثاني أنه مبطل لصدارة الاستفهام. الثالث أن الهمزة وأَمْ موضوعان لأحد الأمرين وكل ما يدل على الاستواء لا يسند إلا إلى متعدد فلذا يقال : استوى وجوده وعدمه ولا يقال أو عدمه. الرابع أنه على تقدير كونه خبرا يلزم أن لا يصح تقديمه لالتباس المبتدأ بالفاعل.
ويجاب أما عن الأول فبأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى ، والعرب تميل في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا ومن ذلك - لا تأكل السمك وتشرب اللبن - أي لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ولو أجري على ظاهره لزم عطف الاسم المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها. ودعوى البيضاوي - بيض اللّه تعالى غرة أحواله - أنه استعمل فيه اللفظ في جزء معناه وهو الحدث تجوزا فلذا صح الإخبار عنه كما يجوز الإخبار عما يراد به مجرد لفظه كضرب ماض مفتوح الباء على ما فيها لا تتأتى فيما إذا كان المعادلان - أو أحدهما بعد همزة التسوية - جملة اسمية كما في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 131
قوله تعالى : سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف : 193] ويدخل في الميل مع المعنى مع أنه لا يلزم عليه الخروج عن الحقيقة وقد نقل ابن جني عن أبي علي «1» أنه قال : الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا انتصب وانصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله تعالى : هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ [الروم : 28] وكقوله سبحانه وتعالى : أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى [النجم : 35] ألا ترى أن الفاء جواب الاستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة والفعل المنصوب مصدر لا محالة حتى كأنه قال أعنده علم الغيب فرؤيته وهل بينكم شركة فاستواء ، وأما عن الثاني والثالث فبأن الهمزة وأَمْ انسلخا عن معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولما كانا مستويين في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما ، ولهذا قيل تجوز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبة ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر ، ثم إن مثل هذا المعنى وإن كان مرادا إلا أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا يلاحظ معنى العاطف فلا يقال في الترجمة هنا إلا الإنذار وعدمه سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إذا كان تقدير المبتدأ المتساويان يلغو حمل سواء عليه فيدفع بما يدفع ، وقد قال الإمام الآقسراي : إن أنذرتهم إلخ انتقل عن أن يكون المقصود أحدهما إلى أن يكون المراد كليهما وهذا معنى الاستواء الموجود فيه ، وأما الحكم بالاستواء في عدم النفع فلم يحصل إلا من قوله سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ وذكر أنه ظفر بمثله عن أبي علي الفارسي ، وكلام المولى الفناري يحوم حول هذا الحمى ، وذهب بعض المحققين إلى
أنهما في الأصل للاستفهام عن أحد الأمرين وهما مستويان في علم المستفهم ، وقد ذهب ذلك الاستواء هنا إذ سلخ عنهما الاستفهام وبقي الاستواء في العلم وهو معنى قول من قال الهمزة وأَمْ مجردتان لمعنى الاستواء فيكون الحاصل فيما نحن فيه المتساويان في علمك مستويان في عدم الجدوى وهذا على ما فيه تكلف مستغنى عنه بما ذكرناه ومثله ما ذكر العاملي من أن تمام معناهما الاستواء والاستفهام معا فجردا عن معنى الاستفهام وصار المجرد الاستواء ولتكرر الحكم بالاستواء بمعنى واحد يحصل التأكيد كأنه قيل سواء الإنذار وعدمه سواء وهو بعيد عن ساحة التحقيق كما لا يخفى ويوهم قولهم بالتجريد أن هناك مجازا مرسلا استعمل فيه الكل في جزئه ، والتحقيق أنه إما استعارة أو مستعمل في لازم معناه ثم المشهور أنه لا يجوز العطف بعد سواء بأو إن كان هناك همزة التسوية حتى قال في المغني : إنه من لحن الفقهاء ، وفي شرح الكتاب للسيرافي سَواءٌ إذا دخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت أَمْ كسواء على أقمت أم قعدت فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو فإذا كان بعدها فعلان بغير استفهام عطف أحدهما على الآخر - بأو - كقولك سواء عليّ قمت أو قعدت فإن كان بعدها مصدران مثل سواء عليّ قيامك وقعودك فلك العطف بالواو وبأو. وإنما دخلت في الفعلين بغير استفهام لما في ذلك من معنى المجازاة ، فتقدير المثال إن قمت أو قعدت فهما عليّ سواء ، والظاهر من هذا بيان استعمالات العرب - لسواء - ولم يحك في شيء من ذلك شذوذا فقراءة ابن محيصن من طريق الزعفراني - سواء عليهم أنذرتهم أو لم تنذرهم - شاذة رواية فقط لا استعمالا كما يفهمه كلام ابن هشام فافهم هذا المقام فقد غلط فيه أقوام بعد أقوام.
وأما عن الرابع فبأن النحاة قد صرحوا بتخصيص ذلك بالخبر الفعلي دون الصفة نحو زيد قام فلا يقدم لالتباس المبتدأ بالفاعل حينئذ فإذا لم يمتنع في صريح الصفة فعدم امتناعه هنا أولى على ما قيل ، وإنما عدل سبحانه عن المصدر فلم يأت به على الأصل لوجهين :
___________
(1) أي في إعراب الحماسة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 132
لفظي وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنهما في الأصل للاستفهام وهو بالفعل أولى ، ومعنوي وهو إيهام التجدد نظرا لظاهر الصيغة ، وفيه إشارة إلى أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أحدث ذلك وأوجده فأدى الأمانة وبلغ الرسالة وإنما لم يؤمنوا لسبق الشقاء ودرك القضاء لا لتقصير منه وحاشاه فهو وإن أفاد اليأس فيه تسلية له صلى اللّه تعالى عليه وسلم.
وعلى هنا باعتبار أصل معناه لأن الاستواء يتعدى بعلى كقوله تعالى : اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف : 54 ، يونس :
3 ، الرعد : 2 ، الفرقان : 59 ، السجدة : 4 ، الحديد : 4] وقيل بمعنى عند - ففي المغني - على تجرد للظرفية ، وعلى ذلك أكثر المفسرين والقول بأنها هنا للمضرة كدعاء عليه ليس بشيء لأن سَواءٌ تستعمل مع على مطلقا فيقال - مودتي دائمة سواء علي أزرت أم لم تزر - «والإنذار» التخويف مطلقا أو الإبلاغ وأكثر ما يستعمل في تخويف عذاب اللّه تعالى ويتعدى إلى اثنين كقوله تعالى : نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النبأ : 40] فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت :
13] فالمفعول الثاني هنا محذوف أي العذاب ظاهرا ومضمرا واستحسن أن لا يقدر ليعم ، وفي البحر : الإنذار الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف فإن لم تسع فهو إشعار وإخبار لا إنذار ولم يذكر سبحانه البشارة لأنها تفهم بطريق دلالة النص لأن الإنذار أوقع في القلب وأشد تأثيرا فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى. وقيل لا محل للبشارة هنا لأن الكافر ليس أهلا لها. وقوله عز من قائل لا يُؤْمِنُونَ يحتمل أن تكون مفسرة لإجمال ما قبلها مما فيه الاستواء والكفر وعدم نفع الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الاستمرار ولا يُؤْمِنُونَ دال عليه ومبين له فلا حاجة إلى القول بأن هذا بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن المصرين وهي حينئذ لا محل لها من الإعراب كما هو شأن الجمل المفسرة ، وعند الشلوبين لها محل لأنها عطف بيان عنده ويحتمل أن تكون حالا مؤكدة لما قبلها وصاحب الحال ضمير عليهم أو أنذرتهم وليس هذا كزيد أبوك عطوفا لفقد ما يشترط «1» في هذا النوع هاهنا وأن تكون بدلا ، إما بدل اشتمال لاشتمال عدم نفع ما مر على عدم الإيمان ، أو بدل كل لأنه عينه بحسب المآل أو خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف - أي هم لا يؤمنون - أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض.
وفي التسهيل : الاعتراضية هي المفيدة تقوية وهي هنا كالعلة للحكم لدلالتها على قسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالإنذار وهو مقتض لعدم الإيمان ، وحيث إن الموضوع دال على عدم الإيمان في الماضي والمحمول على استمراره في المستقبل اندفع توهم عدم الفائدة في الإخبار وجعل الجملة دعائية بعيد ، وأبعد منه ما روي أن الوقف على - أم لم تنذر - والابتداء - بهم لا يؤمنون - على أنه مبتدأ وخبر بل ينبغي أن لا يلتفت إليه ، وقرأ الجحدري سَواءٌ بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز فيجوز أنه أخلص الواو ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو «2» وعن الخليل أنه قرأ : «سوء» عليهم بضم السين مع واو بعدها فهو عدول عن معنى المساواة إلى السب والقبح وعليه لا تعلق أعرابيا له بما بعده كما في البحر ، وقرأ الكوفيون وابن ذكوان - وهي لغة بني تميم - أَأَنْذَرْتَهُمْ بتحقيق الهمزتين وهو الأصل ، وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف فقرأ الحرميان وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية إلا أن أبا عمرو وقالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع وهشام يدخلون بينهما ألفا وابن كثير لا يدخل ، وروي تحقيقهما عن هشام مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس وابن أبي إسحاق. وروي عن ورش كابن كثير وكقالون إبدال الهمزة الثانية ألفا فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين ، وزعم الزمخشري أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين «أحدهما» الجمع بين ساكنين على غير حده «الثاني» أن طريق تخفيف الهمزة
___________
(1) فقد اشترط النحاة فيه الوقوع بعد جملة اسمية طرفاها معرفتان جامدان وعاملها محذوف أبدا ا ه منه
(2) ولامها على هذا واو لا ياء وفي المشهور همزتها منقلبة عن ياء فهو من باب طويت ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 133
المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفا لأنه طريق الهمزة الساكنة وما قالوه مذهب البصريين ، والكوفيون أجازوا الجمع على غير الحد الذي أجازه البصريون ، وهذه القراءة من قبيل الأداء ، ورواية المصريين عن ورش وأهل بغداد يروون التسهيل بين بين كما هو القياس فلا يكون الطعن فيها طعنا فيما هو من السبع المتواتر إلا أن المعتزلي أساء الأدب في التعبير ، وقد احتج بهذه الآية وأمثالها من قال بوقوع التكليف بالممتنع لذاته بناء على أن يراد بالموصول ناس بأعيانهم ، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه وتعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان وهو ممتنع إذ لو كان ممكنا لما لزم من فرض وقوعه محال لكنه لازم إذ لو آمنوا انقلب خبره كذبا وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون لكونه مما جاء به صلى اللّه تعالى عليه وسلم وإيمانهم بأنهم لا يؤمنون فرع اتصافهم بعدم الإيمان فيلزم اتصافهم بالإيمان وعدم الإيمان فيجتمع الضدان ، وكلا الأمرين من انقلاب خبره تعالى كذبا واجتماع الضدين محال وما يستلزم المحال محال «وأجيب» بأن إيمانهم ليس من المتنازع فيه لأنه أمر ممكن في نفسه وبإخباره سبحانه وتعالى بعدم الإيمان لا يخرج من الإمكان ، غايته أنه يصير ممتنعا بالغير واستلزام وقوعه الكذب أو اجتماع الضدين بالنظر إلى ذلك لأن إخباره تعالى بوقوع الشيء أو عدم وقوعه لا ينفي القدرة عليه ولا يخرجه من الإمكان الذاتي لامتناع الانقلاب وإنما ينفي عدم وقوعه أو وقوعه فيصير ممتنعا بالغير واللازم للمكن أن لا يلزم من فرض وقوعه نظرا إلى ذاته محال ، وأما بالنظر إلى امتناعه بالغير فقد يستلزم الممتنع بالذات كاستلزام عدم المعلول الأول عدم الواجب.
وقيل في بيان استحالة إيمانهم بأنهم لا يؤمنون أنه تكليف بالنقيضين لأن التصديق في الإخبار بأنهم لا يصدقونه في شيء يستلزم عدم تصديقهم في ذلك والتكليف بالشيء تكليف بلوازمه ، وقوبل بالمنع لا سيما اللوازم العدمية. وقيل لأن تصديقهم في أن لا يصدقوه يستلزم أن لا يصدقوه وما يستلزم وجوده عدمه محال ، ورد بأنه يجوز أن يكون ذلك الاستلزام لامتناعه بالغير كما فيما نحن فيه ، وقيل لأن إذعان الشخص بخلاف ما يجد في نفسه محال. واعترض بأنه يجوز أن لا يخلق اللّه تعالى العلم بتصديقه فيصدقه في أن لا يصدقه نعم إنه خلاف العادة لكنه ليس من الممتنع بالذات كذا قيل ، ولا يخلو المقام بعد عن شيء وأي شيء ، والبحث طويل واستيفاؤه هنا كالتكليف بما لا يطاق وسيأتيك إن شاء اللّه تعالى على أتم وجه.
ثم فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يثمر استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء في المكلفين لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء : 165] فإن اللّه تعالى لو أدخل ابتداء كلّا داره التي سبق العلم بأنها داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف اللّه تعالى بقوله : وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه : 134] فأرسل رسلا مبشرين ومنذرين ليستخرج ما في استعدادهم من الطوع والإباء - فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة - فإن الذكرى تنفع المؤمنين - وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والإباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضرّ من الثواب والعقاب وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما امتنع من الإتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان.
لو كان ممتنعا لذاته مطلقا لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشىء من استعداده الأزلي باختياره السيئ وإن كان إباؤه بخلق اللّه تعالى به فإن فعل اللّه تعالى تابع لمشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم والمعلوم من حيث ثبوته الأزلي غير مجعول فتعلق العلم به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي ثم الإرادة تعلقت بتخصيص ما سبق العلم به من مقتضى استعداده الأزلي فأبرزته القدرة على طبق الإرادة قال تعالى : أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه : 50] فلهذا قال : قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الإنعام : 149] لكنه لم يشأ إذ لم يسبق به العلم لكونه كاشفا للمعلوم وما في استعداده الأزلي فالمعلوم المستعد للهداية في نفسه كشفه عما هو

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 134
عليه من قبوله لها ، والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء اللّه تعالى فصح أن للّه الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن اللّه تعالى قد «أعطى كل شيء خلقه» وما يقتضيه استعداده وما نقص منه شيئا ولهذا
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «فمن وجد خيرا فليحمد اللّه»
فإن اللّه متفضل بالإيجاد لا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده فالحمد للّه على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال ، وإنما قال سبحانه سَواءٌ عَلَيْهِمْ ولم يقل عليك لأن الإنذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى اللّه تعالى عليه وسلم - لفضيلة الإنذار الواجب عليه - على تركه ، وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لإخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إشارة إلى برهان لميّ للحكم السابق كما أن سواء عليهم إلخ على تقدير كونه اعتراضا برهان إني ، فالختم والتغشية مسببان عن نفس الكفر ، واقتراف المعاصي سببان للاستمرار على عدم الإيمان أو لاستواء الإنذار وعدمه فالقطع لأنه سؤال عن سبب الحكم ، والختم الوسم بطابع ونحوه والأثر الحاصل ، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب ، وتارة في تحصيل أثر عن أثر اعتبارا بالنقش الحاصل ، وتارة يعتبر معه بلوغ الآخر ، ومنه ختمت القرآن والغشاوة - على ما عليه السبعة - بكسر الغين المجمعة من غشاه إذا غطاه ، قال أبو علي : ولم يسمع منه فعل إلا يائي فالواو مبدلة من الياء عنده أو يقال لعل له مادتين وفعالة عند الزجاج لما اشتمل على شيء كاللفافة ومنه أسماء الصناعات كالخياطة لاشتمالها على ما فيها وكذلك ما استولى على شيء كالخلافة ، وعند الراغب : هي لما يفعل به الفعل كاللف في اللفافة فإن استعملت في غيره فعلى التشبيه ، وبعضهم فرق بين ما فيه هاء التأنيث وبين ما ليس فيه ، فالأول اسم لما يفعل به الشيء كالآلة نحو حزام وإمام ، والثاني لما يشتمل
على الشيء ويحيط به «1» وحمل الظاهريون الختم والتغشية على حقيقتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا كيفية له سبحانه ، وروي عن مجاهد أنه قال : إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذا - وضم الخنصر - ثم إذا أذنب ضم هكذا - وضم البنصر - وهكذا إلى الإبهام ثم قال : وهذا هو الختم والطبع والرين ، وهو عندي غير معقول ، والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني لإحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتم - تلك الظروف - من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم اشتق من الختم ختم ، ففيه استعارة تصريحية تبعية ، وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلائها الآيات والجامع ما ذكر ، فهناك استعارة تصريحية أصلية أو تبعية إذا أولت الغشاوة بمشتق أو جعلت اسم آلة على ما قيل ، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الاستنفاع بها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبا والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك
___________
(1) وهذا في غير المصادر وأما فيها فعن أبي علي فعالة - بالكسر في المصادر - يجيء بما كان صنعة ومعنى متقلدا كالكتابة والخلافة وبالفتح في غيره فافهم. ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 135
العدة «1» ثم إن إسناد الختم إليه عز وجل باعتبار الخلق والذم والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى : بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء : 155] وإلا أشكل التشنيع والذم على ما ليس فعلهم كذا قاله مفسر وأهل السنة عن آخرهم فيما أعلم. والمعتزلة لما رأوا أن الآية يلزم منها أن يكون سبحانه مانعا عن قبول الحق وسماعه بالختم وهو قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على قاعدتهم التزموا. للآية تأويلات ذكر الزمخشري جملة منها حتى قال : الشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن اللّه سبحانه وتعالى لما كان هو الذي أقدره أو مكنه أسند الختم إليه كما يسند إلى السبب نحو - بنى الأمير المدينة ، وناقة حلوب - وأنا أقول :
إن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلا فهي متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا غير مجعول لتوقف العلم بها على ذلك التميز وإن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضا مختلفة الاقتضاءات والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الخير والشر تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد بمقتضى استعداده فيصير مراده بعد تعلق الإرادة الإلهية مرادا للّه تعالى فاختياره الأزلي بمقتضى استعداده متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة وأن اختياره فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختياره لما اختاره ، فالعباد منساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر وليسوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على تعلق العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فما من شيء يبرزه اللّه تعالى بمقتضى الحكمة ويفيضه على الممكنات إلا وهو مطلوبها بلسان استعدادها وما حرمها سبحانه شيئا من ذلك كما يشير إليه قوله تعالى : أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه : 50] أي الثابت له في الأزل مما يقتضيه استعداده الغير المجعول ، وإن كانت الصور الوجودية الحادثة مجعولة.
وقوله تعالى : فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس : 8] أي الثابتين لها في نفس الأمر والكل من حيث إنه خلقه حسن لكونه بارزا بمقتضى الحكمة من صانع مطلق لا حاكم عليه ولهذا قال عز شأنه أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة : 7] وما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك : 3] أي من حيث إنه مضاف إليه ومفاض منه وإن تفاوت من جهة أخرى وافترق عند إضافة بعضه إلى بعض ، فعلى هذا يكون الختم منه سبحانه وتعالى دليلا على سواء استعدادهم الثابت في علمه الأزلي الغير المجعول بل هذا الختم الذي هو من مقتضيات الاستعداد لم يكن من اللّه تعالى إلا إيجاده وإظهار يقينه طبق ما علمه فيهم أزلا حيث لا جعل ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
[آل عمران : 117] تعالى في إظهاره إذ من صفته سبحانه إفاضة الوجود على القوابل بحسب القابليات على ما تقتضيه الحكمة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل : 33] حيث كانت مستعدة بذاتها لذلك فحينئذ يظهر أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الإيجاد حقيقة ويحسن الذم لهم به من حيث دلالته على سوء الاستعداد وقبح ما انطوت عليه ذواتهم في ذلك الناد وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف : 58] وأما ما ذكره المفسرون من أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الخلق فمسلم لا كلام لنا فيه ، وأما أن
___________
(1) وليس للإسناد إلى الخاتم والغشي في هاتين مدخل في هذا التمثيل كما لا مدخل له في قولك أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، وهل هذا التمثيل يبقى في الفعل وحده أو في لفظ مركب ملحوظ بعضه ومنفك في الإرادة؟ ارتضى الشريف المرتضى الثاني وغيره الأول ، وعليه إنما صرح بالختم والتغشية لأنهما الأصل والعمدة في تلك الحالة المركبة فيلاحظ باقي الأجزاء بألفاظ متخيلة إذ لا بد في التركيب من ملاحظات قصدية متعلقة بتلك الأجزاء ولا سبيل إلى ذلك إلا بتخيل ألفاظ بإزائها تدبر وافهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 136
الذم باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار إلخ فنقول فيه : إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الأشاعرة من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلا وإنما المؤثر هو اللّه تعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور : 39] لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا إذ للخصم أن يقول أي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب ابن عباد في هذا الباب : كيف يأمر اللّه تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه ، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أَنَّى يُصْرَفُونَ [غافر : 69] ويخلق فيهم الإفك ثم يقول فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الإنعام : 85 ، يونس : 34 ، فاطر : 3 ، غافر : 62] وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول لِمَ تَكْفُرُونَ [آل عمران : 70 ، 98] وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ [آل عمران : 71] وصدهم عن السبيل ثم يقول لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران : 99] وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا [النساء : 39] وذهب بهم عن الرشد ثم قال فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير : 26] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر : 49]؟!! فإن أجابوا بأن اللّه أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء : 23] قلنا لهم : هذه كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه مطالبة العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه
ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال ، وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد عن النبيين عليهم الصلاة والسلام. وإن أرادوا بالكسب فعل العبد استقلالا ما يريده هو وإن لم يرده اللّه تعالى فهذا مذهب المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال وسلوك مهامه الوبال.
مسا ولو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق
وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب استعداده الأزلي المؤثرة لا مستقلا بل بإذن اللّه تعالى ما تعلقت به من الأفعال الاختيارية مشيئته التابعة لمشيئة اللّه تعالى على ما أشرنا إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن طريقها إلا أن أشاعرتنا اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون.
ما في الديار أخو وجد نطارحه حديث نجد ولا خل نجاريه
وأما ما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول عشواء خبطوها وفي مهواة من الأهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب ، والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة للّه تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة اللّه تعالى عليهم وهي أوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت ، وقد علمت جوابها مما قدمناه لك - وليكن على ذكر منك - على أنا نرجع فنقول إن أسندوا الملازمة - وكذلك يفعلون - إلى قاعدة التحسين والتقبيح ، وقالوا : معاقبة الإنسان مثلا بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبا ، قيل : ويقبح في الشاهد أيضا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الأول عنها وأنتم تقولون : إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة للّه تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 137
لنفسه ذلك فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبي به الحريم وذلك في الشاهد قبيح جزما «فإن قالوا» ثم حكمة استأثر اللّه تعالى بعلمها فرقت بين الغائب والشاهد فحسن من الغائب ذلك التمكين ولم يحسن في الشاهد «قلنا على سبيل التنزل والموافقة لبعض الناس» ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوقة للّه تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر بها كما فرغتم منه الآن حذو القذة بالقذة؟! على أن في كون الخاتم في الحقيقة هو الشيطان مما لا يقدم عليه حتى الشيطان ألا تسمعه كيف قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص : 82] فلا حول ولا قوة إلا باللّه وليكن هذا المقدار كافيا في هذا المقام ولشحرور القلم بعد إن شاء اللّه تعالى على كل بانة تغريد بأحسن مقام «والقلوب» - جمع قلب - وهو في الأصل مصدر سمي به الجسم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو مشرق اللطيفة الإنسانية ، ويطلق على نفس اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية الصمدانية وبها يكون الإنسان إنسانا وبها يستعد لاكتساب الأوامر واجتناب الزواجر وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني ويعبر عنها الحكيم بالنفس الناطقة ولكونها هدف سهام القهر واللطف ومظهر الجمال والجلال ومنشأ البسط والقبض ومبدأ المحو والصحو ومنبع الأخلاق المرضية والأحوال الردية ، وقلما تستقر على حال وتستمر على منوال - سميت قلبا - فهي متقلبة في أمره ومنقلبة بقضاء اللّه وقدره. وفي الحديث «إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح»
وقد قال الشاعر :
قد سمي القلب قلبا «1» من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وتسمية الجسم المعروف قلبا إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم حقيقته إلا اللّه تعالى وكأنه لهذا
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»
وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم ، وقيل : إنه في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبني ذلك على إثبات الحواس الباطنة والكلام فيها مشهور. ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجعة سرية لا ينكرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما هي متعذرة والإشارة إلى كنه ما هنالك على أرباب الحقائق وأصحاب الدقائق متعسرة ، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه ،
والعجز عن درك الإدراك إدراك. والسمع مصدر - سمع سمعا وسماعا - ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء : 212] ، والأبصار - جمع بصر - وهو في الأصل بمعنى إدراك العين وإحساسها ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إدراك الألوان والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله ، وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة ، وإنما قدم سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الإيمان فناسب تقديم القلوب لأنها محل الإيمان والسمع - والأبصار طرق وآلات له - وهذا بخلاف قوله تعالى : وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية : 23] فإنه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت الفاصلة أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يونس : 3 ، هود : 24 ، 30 ، النحل : 87 ، المؤمنون :
___________
(1) وقيل سمي قلبا لأنه لب كما سمي العقل لبا ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 138
85 ، الصافات : 155 ، الجاثية : 23] فكان المناسب هناك تقديم السمع ، وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدل على شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى في المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرتين ، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو : مرور واحد ، وفي مررت بزيد وبعمرو : مروران ، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس ظاهرا مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال. ووحد السمع مع أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق واللحاق أن يجري على نمطهما للاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة - هي أن مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة - وكثيرا ما يعتبر البلغاء مثل ذلك ، وقيل : إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماه - وهو الحاسة - ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادىء النظر فهناك دلالة التزام ويكفي مثل ما ذكر في اللزوم عرفا «1» ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جميعها على أن الأسماع قلما قرع السمع - ومنه قراءة ابن أبي عبلة في الشواذ - وعلى أسماعهم ، واستشهد له بقوله :
قالت ولم تقصد لقيل الخنا مهلا لقد أبلغت أسماعي
والقول بأنه وحدة للأمن عن اللبس كما في قوله :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
ولأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فروعي ذلك - ليس بشي ء - لأن ما ذكر مصحح لا مرجح وأدنى من هذا عندي تقدير مضاف مثل - وحواس سمعهم - وقد اتفق القراء على الوقف على سمعهم وظاهره دليل على أنه لا تعلق له بما بعده فهو معطوف على عَلى قُلُوبِهِمْ وهذا أولى من كونه هو وما عطف عليه خبرا مقدما لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع وإن احتملته الآية لتعين نظيره في قوله تعالى : وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية : 23] والقرآن يفسر بعضه بعضا ولأن السمع كالقلب يدرك ما يدركه من جميع الجهات فناسب أن يقرن معه بالختم الذي يمنع من جميعها وإن اختص وقوعه بجانب إلا أنه لا يتعين ، ولما كان إدراك البصر لا يكون عادة إلا بالمحاذاة والمقابلة جعل المانع ما يمنع منها وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج ، ومثل هذا يكفي في النكات ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالإزار ، وما في الكشف : من أن الوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه ، ويكشف عن حالة النظر في المعنى اللغوي ممن لا غشاوة على بصره.
ولعل سبب تقديم السمع على البصر مشاركته للقلب في التصرف في الجهات الست مثله دون البصر. ومن هنا قيل : إنه أفضل منه ، والحق أن كلّا من الحواس ضروري في موضعه ، ومن فقد حسا فقد علما ، وتفضيل البعض على البعض تطويل من غير طائل «2» وقد قرىء بإمالة : «أبصارهم» ووجه الإمالة - مع أن الصاد حرف مستعل وهو مناف لها لاقتضائها لتسفل الصوت - مناسبة الكسرة واعتبرت على الراء دون غيرها لمناسبة الإمالة الترقيق ، والمشهور عند أهل العربية أن ذلك لقوة الراء لتكرره على اللسان في النطق به فإنه يرتعد ويظهر ذلك إذا شدد أو وقف عليه فكسرته بمنزلة
___________
(1) وقيل في توجيه الافراد أن المراد سمع كل واحد وهذا وإن كان حقه الإفراد إلا أن حمل الجمع على كل فرد فرد جائز لا واجب كما قيل في قوله تعالى : نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا على وجه ا ه منه.
(2) ويحكى عن أبي يوسف عليه الرحمة أنه سئل عن - اللوزينج والفيلوذج - أيهما أحسن؟ فقال : لا أحكم من دون حضور الخصمين فأتي بهما وأكل منهما ثم قال : كلما أردت أن أحكم لأحدهما على الآخر أتى الآخر بشاهدين عدلين فيمنعني من الحكم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 139
كسرتين فقوي السبب حتى أزال المانع ، ولعل مرادهم أنه متكرر طبعا كما يدركه الوجدان إلا أنه يجب المحافظة لئلا يقع التقرير فإنه مضر في الأداء حتى سمعت من بعض الشافعية : أن من كرر الراء في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته والعهدة على الراوي ، والجمهور على أن عَلى أَبْصارِهِمْ خبر مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا كذلك ، ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية دالة على الثبوت حتى كأن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين دعائيتين ليس بشيء ، وفي تقديم الفعلية إشارة إلى أن ذلك قد وقع وفرغ منه ، ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم غِشاوَةٌ فقيل هو على تقدير جعل كما صرح به في قوله تعالى : وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية : 23] وقيل :
إنه على حذف الجار ، وقال أبو حيان : يحتمل أن يكون مصدرا من معنى ختم لأن معناه غشي وستر كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد فيكون حينئذ قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة ، وقيل يحتمل أن يكون مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والإزالة ، وفي كل ما لا يخفى ، فقراءة الرفع أولى ، وقرىء أيضا بضم الغين ورفعه ، وبفتح الغين ونصبه ، وقرىء «غشوة» - بكسر المعجمة - مرفوعا وبفتحها مرفوعا ومنصوبا ، و«غشية» بالفتح والرفع و«غشاوة» بفتح المهملة والرفع ، وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا بالفتح والقصر وهو الرؤية نهارا لا ليلا ، والمعنى أنهم يبصرون إبصار غفلة لا إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات اللّه تعالى في ظلمات كفرهم ولو زالت أبصروها ، وقال الراغب : العشا ظلمة تعرض للعين ، وعشي عن كذا عمي قال تعالى : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف : 36] فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للإشارة إلى نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة أي غشاوة ، وصرح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معا كما حمل على التكثير والتعظيم معا في قوله تعالى : فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ [فاطر : 4] واللام في لَهُمْ للاستحقاق كما في لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ [البقرة : 114 ، المائدة : 41] وفي المغني : لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحسانا لأن المبتدأ نكرة موصوفة ولو أخر جاز ك أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الإنعام : 2] ويجوز كما قيل أن يكون تقديمه للتخصيص - فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد - «1» وكون اللام للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لأنها إنما تقع له في مقابلة عَلى في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به هنا ولا يقال عليهم العذاب ، والظاهر أن الجملة مساقة لبيان إصرارهم أن
مشاعرهم ختمت وأن الشقوة عليهم ختمت ، وهي معطوفة على ما قبلها وليست استئنافا ولا حالا ، وقال السالكوتي : عطف - على الذين كفروا - والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما يستحقون ، أو على خبر إن والجامع الشركة في المسند إليه مع تناسب مفهوم السندين ، وجعل ذلك لدفع ما يتوهم عدم استحقاقهم العذاب على كفرهم لأنه بختم اللّه تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما لا يخفى.
والعذاب في الأصل الاستمرار ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم ، واشتقوا منه فقالوا : عذبته أي داومت عليه الألم قاله أبو حيان ، وعن الخليل - وإليه مال كثير - أن أصله المنع يقال عذب الفرس إذا امتنع عن العلف ، ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقا وإن لم يكن مانعا ورادعا ولهذا كان أعم من النكال لأنه ما كان رادعا كالعقاب ، وقيل : العقاب ما يجازى به كما في الآخرة ، وشمل البيان عذاب الأطفال والبهائم
___________
(1) قاله بهاء الدين الغافقي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 140
وغيرهما ، وخص السجاوندي العذاب بإيصال الألم إلى الحي مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب عنده ، وقيل : إن العذاب مأخوذ في الأصل من التعذيب ثم استعمل في الإيلام مطلقا ، وأصل التعذيب على ما قيل : إكثار الضرب بعذبة السوط ، وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا ، وحمله على التعظيم يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه ، والعظيم الكبير ، وقيل : فوق الكبير لأن الكبير يقابله الصغير والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير ، فالصغير والحقير خسيسان والحقير أخسهما ، والعظيم والكبير شريفان والعظيم أشرفهما. فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير كما ذكره الكثير ممن شاع فضله إذ العادة جارية بأن الأخس يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الأخص - أعم - مما لا يلتفت إليه هنا ، نعم يشكل على دعوى أن العظيم فوق الكبير
قوله عز شأنه في الحديث القدسي : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري»
حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الإزار ، ومعلوم أن الرداء أرفع من الأزار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة ، ويقال : إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا ، وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره ، فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس ، أو يقال : إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إلى العارفين بعنوان الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزارا ولكثرة هؤلاء كانت رداءا وسبحان الكبير العظيم ، وذكر الراغب : إن أصل عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأجري مجراه محسوسا كان أو معقولا معنى كان أو عينا ، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة ، وقد يقال فيها أيضا : عظيم وهو بمعنى كبير كجيش عظيم ، وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخلل يصح أن يتفاضل العذابان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد ، وقد ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من اللّه تعالى تعذيب الكفار ، وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك. وقال بعضهم : لا يحسن وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقليين فقالوا :
التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منزه عن أن ينتفع بشيء والعبد يتضرر به ولو سلم انتفاعه فاللّه تعالى قادر أن يوصل إليه النفع من غير عذاب ، والضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة ، وأيضا أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع قبيح ، فأما أن يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب ، وأيضا هو الخالق لداعية المعصية فيقبح أن يعاقب عليها ، وقالوا أيضا : هب أنا سلمنا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وأقسى الناس قلبا إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه - وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه - لامه كل أحد وقيل له : إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح هذا من إنسان يلتذ بالانتقام ، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام؟! وأيضا من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب اللّه تعالى عليه ، افترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر : 60] وفي الآخرة لا يجيب دعاءهم إلا ب اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون : 108].
بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا صريحا كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساق ، على أنه يحتمل أن تكون تلك الجمل دعائية أو أنها إخبارية لكن الأخبار عن استحقاق الوقوع لا عن الوقوع

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 141
نفسه ، وهذا خلاصة ما ذكر في هذا الباب ، وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما يشرح الفؤاد ويبرد الأكباد وتلك شنشنة أعرفها من أخزم ، ولعمري أنها شبه تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب فأقول : وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود : 88] نفي العذاب مطلقا مما لم يقله أحد ممن يؤمن باللّه تعالى واليوم الآخر حتى أن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم - والعقل بمراحل عنهم - زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة بمعزل عن سلطان اللّه تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان اللّه تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق اللّه تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه فبقي محبوسا يرمي بالآفات فمن أحياه اللّه تعالى أماته ومن أصحه أسقمه ومن أسره أحزنه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة وزالت قوته طرحه اللّه تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له ، نعم المشهور عنهم أن الآلام الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن الظلمة دون النور ، وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم ، ولئن سلمنا أن أحدا من الناس يقول ذلك فهو مردود ، وغالب الأدلة التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع ذلك في كتب الكلام يجعل نقله هنا من لغو الكلام على أنا نقول أن للّه تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك - لا سيما ملك الملوك - كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر ، وقد مدح في
الشاهد ذلك كما قيل :
يداك يد خيرها يرتجى وأخرى لأعدائها غائظه
فلما نظر اللّه سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية والأعيان الثابتة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان استعداده ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماما للنعمة وإظهارا للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لربما قال : لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه : 134] فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن ، وإن شئت فقل : إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعات ذاته التي هي في غاية الكمال ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعدادا غير مجعول. وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال. فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سببا حقيقيا وعلة تامة للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان لهما دعت إليهما الحكمة والرحمة. وهذا معنى ما
ورد في الصحيح «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»
أما من كان - أي في علم اللّه - من أهل السعادة المستعدة لها ذاته - فسييسر - بمقتضى الرحمة - لعمل أهل السعادة لأن شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات ، وأما من كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلا - فسييسر بمقتضى القهر - لعمل أهل الشقاوة ، وفي ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد قوله تعالى : فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل : 9] لأن نفي الهداية لنفي المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه : أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ [الرعد : 33] وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها. وحيث لا تعلق لا مشيئة ، فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها فيوؤل الأمر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 142
إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال : 23] فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك ، فنقول قولهم الضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس ومتى خلا عن القهر - كان عز شأنه عما يقوله الظالمون - كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا الانتظام. على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عاجلا ولا آجلا مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن هذه الآلام منه سبحانه في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة ، وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب إلخ : ففيه أن الكافر في علم اللّه تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نفور الظلمة عن النور وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فيها ، ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الإباء لإظهار الحجة والكفر مجرد علامة ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[النحل : 33] وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الاستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضر به ولا يلزم اللّه تعالى عقلا أن يترك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الاستعداد ، وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فمن أين الدوام إلخ : قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة ، وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة اللّه تعالى الذاتية وذواتهم - كما يرشدك إلى ذلك - قوله سبحانه : وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الإنعام : 28] ويدوم المعلول ما دامت علته أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من اللّه لازم للكفر والملزوم لا ينفك من اللازم ، وأيضا الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الاستعداد بمقتضى الحكمة ، ومثل ذلك يطلب عذابا أبديا وعقابا سرمديا وشبيه الشيء منجذب إليه ، ولا يقاس هذا بما ضربه من المثال إذ أين ذلة التراب من عزة رب الأرباب ، وليس مورد المسألتين منهلا واحدا ، وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب اللّه تعالى عليه ، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون إلخ : ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت ، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئا
مذكورا إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسبا على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها والأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفرة اللّه تعالى له جودا وكرما ورحمة اللّه تعالى - وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها - إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف : 156] فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة ، ألا تسمع قوله تعالى مرة : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة : 7] ، وتارة إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل : 128] وكرة إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة : 40] وطورا إِنَّ مَعِي رَبِّي [الشعراء : 62] ولا ينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه : 5] أن الكفار المعذبين أكثر من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 143
المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى : وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود : 17 ، الرعد : 1 ، غافر : 59] وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وهم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر : 31] وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل : 8] فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند اللّه تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم مختلفون في العذاب ، وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد الناس عذابا لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات. ومنهم غير ذلك ، نعم فيهم من عذابه محض لا لذة لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى : لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر : 10] ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى اللّه عنه بقوله : فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم : 22] ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب لها بمقتضى الحكمة الإلهية. وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتا مخصوصا إذا تعداه ربما يؤثر ضررا ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [المؤمنون : 99] ولما كان هذا طلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال اللّه تعالى في مقابلته كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون : 100] ولم يغلظ عليه كما أغلظ على من قال : رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ [المؤمنون :
107] حيث صدر عن جهل محض فأجابهم بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون : 108] فلما اختلف الطلب اختلف الجواب وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب ، وقولهم بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا إن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين :
فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظنا وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة ، والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات ، ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادا له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه ، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها - وكون قائلها صادقا - الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواترا مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم بمجردها ومدخلية القرينة فيه - مما لا يمكن الجزم بأحذ طرفيه - الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل نظر وتأمل «فإن قلت» إذا كان صدق القائل مجزوما به لزم منه الجزم بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما.
«قلت» أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتا وانتفاء ولا طريق إليها ، وبالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الاحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة ، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلا.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 144
هذا وقال الفاضل الرومي هاهنا بحث مشهور وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو قائم في العقليات أيضا وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتا أو انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضا ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزما. وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى. وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من الفتوحات :
على السمع عولنا فكنا أولي النهى ولا علم فيها لا يكون عن السمع
وقال قدس سره في الباب الثامن والخمسين والثلاثمائة :
كيف للعقل دليل والذي قد بناه العقل بالكشف انهدم
فنجاة النفس في الشرع فلا تك إنسانا رأى ثم حرم
واعتصم بالشرع في الكشف فقد فاز بالخير عبيد قد عصم
أهمل الفكر فلا تحفل به واتركنه مثل لحم في وضم
إن للفكر مقاما فاعتضد به فيه تك شخصا قد رحم
كل علم يشهد الشرع له هو علم فبه فلتعتصم
وإذا خالفه العقل فقل طورك الزم مالكم فيه قدم
ويؤيد هذا ما روي عن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا ينتهي إليه ، وقال الإمام الغزالي : ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا تستبعد أن يكون العقل طورا وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه عوالم وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على الخلود في النار ، وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها فتأويلها كلها بمجرد شبه أضعف من حبال القمر ، والعدول عنها إلى القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى ، على أن هذه التأويلات في غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء : 48 ، 116] أم كيف يقبل أن يكون الأخبار عن الاستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى : كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء : 97] كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء : 56]؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وأما ما ينقل عن بعض السلف الصالح - وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه من السادة الصوفية رضي اللّه تعالى عنهم - من القول بعدم الخلود فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا ، والكثير منهم قد بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية ، ولعل قول من قال بعدم الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة من أهل النار وهم العصاة مما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «من ترك الصلاة فقد كفر» ،
على أن الشيخ قدس سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في عقيدته الصغرى أول الفتوحات : والتأبيد لأهل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 145
النار في النار حق ، وفي الباب الرابع والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا خروج ما نصه : ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب النار غلقا لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علوا وسفلا كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً.
وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه المسمى بالإنسان الكبير ، وفي شرح لباب الأسرار من الفتوحات : أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار ، وقال : إياك أن تحمل كلام الشيخ محيي الدين أو غيره من الصوفية - في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة - على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجها صحيحا وجب المصير إليه انتهى ، نعم قال قدس سره في تفسير الفاتحة من الفتوحات فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيما وجهنم جنة ولا عذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان بمشاهدة العيان إلخ ، وهذا وأمثاله محمول على معنى صحيح يعرفه أهل الذوق لا ينافي ما وردت به القواطع ، وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على مسكن عصاة هذه الأمة من النار ، وفيه يضع الجبار قدمه ويتجلى بصفة القهر على النار فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل اللّه تعالى فسلمه لهم بالمعنى الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر واللّه وراء ذلك والأخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها لا يستلزم الخلود في العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد.
وإن سولت نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل لك بها وما النصر إلا من عند اللّه وكان حقا علينا نصر المؤمنين ، ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي التجليات فاللّه تعالى هو اللّه وكل يوم هو في شأن فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف : 144] ولا أظنك تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد للّه رب العالمين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشرة آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرما من سائر الكفار كما يشير إليه قوله تعالى : إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء : 145] والناس - أصله عند سيبويه ، والجمهور - أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان ، وقد حذفت فاؤه تخفيفا فوزنه فعال ، ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه ومن عرف خص بالبلاء ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله :
إن المنايا يطلع عن على الأناس الآمنينا
وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع ومن هنا قيل :
وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب
أو من آنس أي أبصر قال تعالى : آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً [القصص : 29] وجاء بمعنى سمع وعلم ، وسمي به لأنه ظاهر محسوس ، وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل. وفي الكشاف أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل ، وقيل : من نسي بالقلب لقوله تعالى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 146
في آدم عليه السلام : فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه : 115] وهذا مروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فوزنه حينئذ «فلع» ولا يستعمل في الغالب إلا في بني آدم ، وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب : أناس الجن ، قال أبو حيان : وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهرا لا سيما إذا قلنا : إن النوس تذبذب الشيء في الهواء ، وعن سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة وإن كان الثاني فهي موصولة مرادا بها عبد اللّه بن أبيّ وأشياعه ، وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلا وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء ، وقيل : إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد ، وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ [الأحزاب : 23] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التوبة : 61] لأنه أريد في الأول الجنس ، وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين ، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيرا للتفصيل اللفظي ، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق - تضمن الإخبار عمن يقول بأنه من الناس - فائدة ، ولك أن تحمله على معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أن الستر من الكرم فضحته فيكون مفيدا أيضا وملوحا إلى تهديد ما ، وقيل : المراد بكونهم من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية ، أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي
الإنسانية فيتعجب منها - أو مناط الفائدة - الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم ، أو المراد بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم ، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة ، واختار أبو حيان هنا أن تكون مِنَ موصلة مدعيا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر ، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه ، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم وإن وَمِنَ النَّاسِ الآية وقع عديلا لأن الذين كفروا بيانا للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة : 18] لا مطلق المنافقين ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والاستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين ، وبهذا الاعتبار صاروا قسما ثالثا فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالاعتبار ، وفي قوله تعالى يقول وآمنا مراعاة للفظ مِنَ ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعا حسن مراعاة اللفظ أولا إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو عكس جاز ، وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد ويرده قول الشاعر :
لست ممن يكع أو يستكينو ن إذا كافحته خيل الأعادي
واقتصر من متعلق الإيمان على اللّه واليوم الآخر مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن باللّه تعالى - على ما يليق بجلال ذاته - آمن بكتبه ورسله وشرائعه ، ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة ، وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للإيذان بأنهم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 147
يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودا وهم مخلصون في أصل الإيمان باللّه واليوم الآخر على ظنهم ، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلا كنبوة نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى اللّه تعالى عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم ، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار بما جاء به صلى اللّه تعالى عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟! وقيل : إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول ، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك ، وأيضا ترك الراسخ في القلب مما عليه الأباء بترك الإيمان به صلى اللّه تعالى عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم - وحمل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ على القسم منهم على الإيمان - سمج باللّه. وأسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي «1».
واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه اللّه تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعدله ، وسمي آخرا لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول سواء كان حقيقة أو مجازا ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس ، نعم المناسب للفظ اليوم - لغة - هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم - عرفا - من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب. واصطلاحا من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك ، وسيأتي لذلك تتمة ، وفي قوله سبحانه : وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم وقد بلغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامة المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا ، وأكد ذلك النفي بالباء «2» أيضا وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام ، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ على قصر الأفراد والذوق يبعده ، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء ، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد.
وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنا ، وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس بمؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن اللّه تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني كذا قيل ، ودقق بعضهم مدعيا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الإنكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت باللّه وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ أشهد ، والاسم الخاص به تعالى واسم
___________
(1) لأن إعادة العامل تقتضي أن متعلقه كالمعاد كما قال (س) في مررت بزيد وبعمرو فيفيد ما ذكر وهو ظاهر ا ه منه.
(2) فيه إشارة إلى أن النفي اعتبر أولا ثم أكد فالكلام من تأكيد النفي لا نفي التأكيد ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 148
محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر.
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام ، وقيل : بالكسر اسم مصدر ، ومنه المخدع «1» للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الأضرار بالغير أو التخلص منه كما قاله الإمام ، وقال السيد : هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به ، وفي الكشف التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلا يستهجن شرعا أو عقلا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون : الحرب خدعة «2» مجازا ولا تخفى غرابته.
والمخادعة مفاعلة ، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي هنا أن يصدر من كل واحد من اللّه ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر ، وظاهر هذا مشكل لأن اللّه سبحانه لا يخدع ولا يخدع ، أما على التحقيق فلأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضا متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه أجلّ عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الانفعال وخفاء معلوم ما عليه ، وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجلّ من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك ، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه ، وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق - كما في الانتصاف - ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة ، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به هو التخادع بمعنى إظهار التأثر دونه كرما كما يشير إليه
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «المؤمن غر كريم»
لا الانخداع الدال على البله ، ولذا قالت عائشة في عمر رضي اللّه تعالى عنهما : كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع ، ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع اللّه تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون ، وصورة صنيع اللّه تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل ، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر اللّه تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في يُخادِعُونَ وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحا وكون المفعول آتيا بمثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة - كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية - مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب - كما قيل - بأن المراد مخادعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأوقع الفعل على غير ما
___________
(1) المخدع مثلث ، والخزانة لا تفتح ا ه منه.
(2) يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال ، وبضمها مع فتح الدال ، فالأول معناه أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة من الخداع أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم يكن لها إقالة ، وهو أفصح الروايات وأصحها ، ومعنى الثاني هو الاسم من الخدع ، ومعنى الثالث أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم كما يقال رجل لعبة وضحكة للذي يكثر اللعب والضحك فليفهم وليحفظ ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 149
يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له ، وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا ، على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازا لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين. وقرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه وأبو حيوة - يخدعون - والجواب عما يلزم هو الجواب فيما لزم ، وقد تأتي فاعل بمعنى فعل كعافاني اللّه تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع يُخادِعُونَ إما بيان ليقول لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل : لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم؟ فقيل يخادعون إلخ ، وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى. وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلا من صلة من بدل اشتمال أو حالا من الضمير المستكن في يقول أي مخادعين ، وأبو البقاء أن يكون حالا من الضمير المستتر في مؤمنين ، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال - كما في ما جاءني زيد ، وقد طلع الفجر - وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال : 33] على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدا للنفي لا للمنفي كما قرروه في - لم أبالغ - في اختصاره تقريبا.
وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في بحره ، نعم التعجب من كون الجملة بيانا للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى. ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية ربما يؤدي تركها إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو : وما يخادعون ، وقرأ باقي السبعة : «وما يخدعون» وقرأ الجارود وأبو طالوت : «وما يخدعون» - بضم الياء - مبنيا للمفعول.
وقرأ بعضهم : «وما يخادعون» - بفتح الدال مبنيا للمفعول أيضا - وقرأ قتادة والعجلي : «وما يخدعون» من خدع مضاعفا مبنيا للفاعل ، وبعضهم - بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة - وما عدا القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب أنفسهم على المفعولية الصرفة أو مع الفاعلية معنى ، وأما على قراءة بناء الفعل للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلا ، ولا يشكل على قراءة يخادعون أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم ، وذلك يقتضي نفيه عن اللّه تعالى والمؤمنين ، وقد أثبت أولا ، وإن المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتبار أن ضرره عائد إلى أنفسهم فتكون العبارة الدالة عليه مجازا أو كناية عن انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في المرتبة الثانية ، وكونه مجازا باعتبار الأول كما قاله السعد غير ظاهر. وقد يقال : إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم حيث حدثتهم بالأماني الخالية ، فالمراد بالخداع غير الأول. والمخادع والمخادع متغايران بالاعتبار فالخداع على هذا مجاز عن إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق ، وحمله على حقيقته بعيد وكون ذلك من التجريد كقوله :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 150
لا خيل عندك ته ديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
لا يرتضيه الذوق السليم كالقول
بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم للّه تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع اللّه تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم بإعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم للّه تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن اللّه تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم ، وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من المشاكل والمشاكل مجازا وكل يعمل على شاكلته «والنفس» حقيقة الشيء وعينه ولا اختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى : كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الإنعام : 12] وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران : 28 ، 30] وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على المشهور ، ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو المستفيد منبتا لآلة الاستفادة ، وقيل : الدماغ لأنه المنبت ولم تقم دلالة قطعية على ذلك كما في شرح القانون للإمام الرازي وكثيرا ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة في
- من عرف نفسه فقد عرف ربه -
وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضا ولذلك الشرف قد يسمى نفسا ، وبعضهم يسمي الرأي بها ، والظاهر في الآية على ما قيل : المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعيّن كما لا يخفى ، وتطلق على معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء اللّه تعالى.
وجملة وَما يَشْعُرُونَ مستأنفة أو معطوفة على وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ومفعول يَشْعُرُونَ محذوف أي وَما يَشْعُرُونَ أنهم يخدعونها أو أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون أو إطلاع اللّه تعالى نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم على خداعهم وكذبهم - كما روي ذلك عن ابن عباس - أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روي عن زيد ، أو المراد لا يشعرون بشيء ، ويحتمل - كما في البحر - أن يكون وَما يَشْعُرُونَ جملة حالية أي وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا ، والشعور الإدراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون بمعنى العلم ، قال الراغب : شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر به عن اللمس ومنه استعمل المشاعر للحواس ، فإذا قيل : فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر ، وتارة يقال : شعرت كذا أي أدركت شيئا دقيقا من قولهم شعرته أي أصبت شعره نحو - أذنته ورأسته - وكان ذلك إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر ، ومنه أخذ الشاعر لإدراك دقائق المعاني انتهى. والآية تحتمل نفي الشعور بمعنى العلم فمعنى لا يَشْعُرُونَ لا يعلمون وكثيرا ما ورد بهذا المعنى ، وفي اللحاق نوع إشارة إليه ، ويحتمل نفيه بمعنى الإدراك بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد الحواس ، ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالإنعام بل هم أضل ، ولعل هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم بالطريق الأولى ، وهو أيضا أنسب بقوله تعالى : خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ كما لا يخفى.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ المرض بفتح الراء كما قرأ الجمهور ، وبسكونها كما قرأ الأصمعي عن أبي عمر - وعلى ما ذهب إليه أهل اللغة - حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل ، وعند الأطباء ما يقابل الصحة وهي الحالة التي تصدر عنها الأفعال سليمة ، والمراد من الأفعال ما هو متعارف

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 151
وهي إما طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس أو نفسانية كجودة الفكر ، فالحول والحدب مثلا مرض عندهم دون أهل اللغة وقد يطلق المرض لغة على أثره وهو الألم كما قاله جمع ممن يوثق بهم ، وعلى الظلمة كما في قوله :
في ليلة مرضت من كل ناحية فما يحس بها نجم ولا قمر
وعلى ضعف القلب وفتوره كما قاله غير واحد ويطلق مجازا على ما يعرض المرء مما يخل بكمال نفسه كالبغضاء والغفلة وسوء العقيدة والحسد وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ والمؤدية إلى الهلاك الروحاني الذي هو أعظم من الهلاك الجسماني ، والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي. ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث التي منعتهم مما منعتهم وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار. ولا مانع عند بعضهم أن يحمل المرض أيضا على حقيقته الذي هو الظلمة وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور : 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة : 257] وكذا على الألم فإن في قلوب أولئك ألما عظيما بواسطة شوكة الإسلام وانتظام أمورهم غاية الانتظام ، فالآية على هذا محتملة للمعنيين ونصب القرينة المانعة في المجاز إنما يشترط في تعيينه دون احتماله فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة فيمكن الحمل عليهما نظرا إلى الأصالة والنكتة إلا أنه يرد هنا أن الألم مطلقا ليس حقيقة المرض بل حقيقته الألم السوء المزاج وهو مفقود في المنافقين والقول بأن حالهم التي هم عليها تقضي إليه في غاية الركاكة على أن قلوب أولئك لو كانت مريضة لكانت أجسامهم كذلك أو لكان الحمام عاجلهم ويشهد لذلك الحديث النبوي والقانون الطبي ، أما الأول
فلقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن في الجسد مضغة» الحديث ،
وأما الثاني فلأن الحكماء بعد أن بينوا تشريح القلب قالوا إذا حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أو من أحدهما عاجلت المنية صاحبه وإن لم تتمكن تأخرت الحياة مدة يسيرة ولا سبيل إلى بقائها مع مرض القلب ، فالأولى دراية ورواية حمله على المعنى المجازي - ومنه الجبن والخور - وقد داخل ذلك قلوب المنافقين حين شاهدوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين ما شاهدوا. والتنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض ، ولم يجمع كما جمع القلوب لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلا فاكتفى بجمعها عن جمعه.
والجملة الأولى إما مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق أو مقررة لما يفيده وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ من استمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل : ما بالهم لا يؤمنون؟ فقال : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يمنعه أو مقررة لعدم الشعور وإن كان سبيل قوله : وَما يَشْعُرُونَ سبيل الاعتراض - على ما قيل - وجملة فزادهم اللّه مرضا إما دعائية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والمعترضة قد تقترن بالفاء كما في قوله :
واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كلّ ما قدرا
كما صرح به في التلويح وغيره نقلا عن النحاة أو إخبارية معطوفة على الأولى وعطف الماضي على الاسمية لنكتة إن أريد في الأولى أن ذلك لم يزل غضا طريا إلى زمن الأخبار ، وفي الثانية أن ذلك سبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس فطرتهم لازدادوا بما منّ اللّه تعالى به على المؤمنين شفاء ولا يتكرر هذا مع قوله تعالى : يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [البقرة : 15] للفرق بين زيادة المرض وزيادة الطغيان على أنه لا مانع من زيادة التوكيد مع بعد المسافة ، وأيضا الدعاء إن لم يكن جاريا على لسان العباد أو مرادا به مجرد السب والتنقيص يكون إيجابا منه سبحانه فيؤول إلى ما آل إليه الأخبار وزيادة اللّه تعالى مرضهم إما بتضعيف حسدهم بزيادة نعم اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنين أو ظلمة قلوبهم بتجدد كفرهم بما ينزله سبحانه شيئا فشيئا من الآيات والذكر الحكيم فهم في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 152
ظلمات بعضها فوق بعض أو بتكثير خوفهم ورعبهم المترتب عليه ترك مجاهرتهم بالكفر بسبب إمداد اللّه تعالى الإسلام ورفع أعلامه على أعلام الإعزاز والاحترام ، أو بإعظام الألم بزيادة الغموم وإيقاد نيران الهموم.
والغم يخترم النفوس نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ويكون ذلك بتكاليف اللّه تعالى لهم المتجددة وفعلهم لها مع كفرهم بها وبتكليف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لهم ببعض الأمور وتخلفهم عنه الجالب لما يكرهونه من لومهم وسوء الظن بهم فيغتمون إن فعلوا وإن تركوا ونسبة الزيادة إلى اللّه تعالى حقيقة ولو فسرت بالطبع فإنه سبحانه الفاعل الحقيقي بالأسباب وبغيرها ولا يقبح منه شيء ، وبعضهم جعل الإسناد مجازا في بعض الوجوه ولعله نزغة اعتزالية ، وأغرب بعضهم فقال. الإسناد مجازي كيفما كان المرض ، وحمل على أن المراد أنه ليس هنا من يزيدهم مرضا حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم في الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة مثل.
يزيدك وجهه حسنا إذا ما زدته نظرا
فتدبر ، وإنما عدى سبحانه الزيادة إليهم لا إلى القلوب فلم يقل فزادها إما ارتكابا لحذف المضاف - أي فزاد اللّه قلوبهم مرضا - أو إشارة إلى أن مرض القلب مرض لسائر الجسد أو رمزا إلى أن القلب هو النفس الناطقة ولولاها ما كان الإنسان إنسانا وإعادة مرض منكرا لكونه مغايرا للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه ، وتوهم من زعم أنه من وضع المظهر موضع المضمر ، والتنكير للتفخيم ، والأليم فعيل من الألم بمعنى مفعل كالسميع بمعنى مسمع ، وعلى ما ذهب إليه الزمخشري من ألم الثلاثي كوجيع من وجع ، وإسناده إلى العذاب مجاز على حد جد جده ، ولم يثبت عنده فعيل بمعنى مفعل وجعل بديع السماوات من باب الصفة المشبهة أي بديعة سماواته ، وسميع في قوله :
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
بمعنى سامع - أي أمن ريحانة داع من قلبي سامع لدعاء داعيها - بدليل ما بعده فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها فعلى هذا يكون تفسيره بمؤلم اسم فاعل بيان لحاصل المعنى ، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : كل شيء في القرآن أليم فهو موجع ، وقد جمع للمنافقين نوعان من العذاب عظيم ، وأليم ، وذلك للتخصيص بالذكر هنا والاندراج مع الكفار هناك ، قيل : وهذه الجملة معترضة لبيان وعيد النفاق والخداع والباء إما للسببية أو للبدلية وبِما إما مصدرية مؤولة بمصدر كان إن كان أو بمصدر متصيد من الخبر كالكذب وإما موصولة ، واستظهره أبو البقاء بأن الضمير المقدر عائد على ما أورده في البحر بأنه لا يلزم أن يكون ثم مقدر بل من قرأ يكذبون بالتخفيف وهم الكوفيون فالفعل غير متعد ومن قرأ بالتشديد كنافع وابن كثير وأبي عمر فالمفعول محذوف لفهم المعنى والتقدير بكونهم يكذبون النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فيما جاء به ، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف للمبالغة في الكيف كما قالوا في - بان الشيء وبين ، وصدق وصدق - وقد يكون التضعيف للزيادة في الكم - كموتت الإبل - ويحتمل أن يكون من كذب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه ، وتلك حال المتحير وهي حال المنافق ففي الكلام حينئذ استعارة تبعية تمثيلية أو تبعية أو تمثيلية ويشهد لهذا المعنى
قوله : صلّى اللّه عليه وسلّم «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة»
والجار والمجرور صفة لعذاب لا لأليم كما قاله أبو البقاء لأن الأصل في الصفة أن لا توصف والكذب هو الأخبار عن الشيء النسبة أو الموضوع على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر عندنا ، وفي الاعتقاد عند النظام ، وفيهما عند الجاحظ ، وكل مقصود محمود يمكن التواصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب فالكذب فيه مباح إن كان

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 153
تحصيل ذلك المقصود مباحا وواجب إن كان واجبا ، وصرح في الحديث بجوازه في ثلاث مواطن في الحرب ، وإصلاح ذات البين ، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها ولا حصر ولهذا جاز تلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار فينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا فله الكذب وإن كان عكسه أو شك حرم عليه ، فما قاله الإمام البيضاوي عفا اللّه تعالى عنه من أن الكذب حرام كله يوشك أن يكون مما سها فيه. وفي الآية تحريض للمؤمنين على ما هم عليه من الصدق والتصديق فإن المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو هو تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب وتصور سماجته فانزجر عنه أعظم انزجار ، وهذا ظاهر على قراءة التخفيف ويمكن في غيرها أيضا لأن نسبة الصادق إلى الكذب كذب ، وكذا كثرته وإن تكلف في المعنى الأخير ، وقيل : إنه مأخوذ من كذب المتعدي كأنه يكذب رأيه فيقف لينظر لكن لما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها أمكن - على بعد بعيد - ذلك التحريض ، ولا يرد على تحريم الكذب - في بعض وجوهه - ما
روي في حديث الشفاعة عن إبراهيم عليه السلام أنه يقول : «لست لها إني كذبت ثلاث كذبات»
- وعنى كما في رواية أحمد - إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات : 89] وبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء : 63] وقوله الملك في جواب سؤاله على امرأته سارة هي أختي حين أراد غضبها ، وكان من طريق السياسة التعرض لذات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن فإنها إن كانت من الكذب المحرم فأين العصمة وهو أبو الأنبياء؟! وإن لم تكن كذلك فقد أخبر يوم القيامة بخلاف الواقع وحاشاه حيث إن المفهوم من ذلك الكلام أني أذنبت فأستحيي أن أشفع ، وهي يستحي مما لا إثم فيه ولقوة هذه الشبهة قطع الرازي بكذب الرواية صيانة لساحة إبراهيم عليه السلام لأنا نقول إن ذلك من المعاريض ، وفيها مندوحة عن الكذب ، وقد صدرت من سيد أولى العصمة صلّى اللّه عليه وسلّم كقوله مما في حديث الهجرة ، وتسميته كذبا على سبيل الاستعارة للاشتراك في الصورة فهي من المعاريض الصادقة كما ستراه بأحسن وجه إن شاء اللّه تعالى في موضعه لكنها لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء ، ومثله ممن تكفل اللّه تعالى بحمايته يناسبه المبارزة - فلعدوله عن الأولى بمقامه - عد ذلك في ذلك المقام ذنبا وسماه كذبا لكونه على صور وما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحيي منه فلكل مقام مقال ، على أنا نقول : إنها لو كانت كذبا حقيقة لا ضرر فيها ولا استحياء منها ، كيف وقد قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ما منها كذبة إلا جادل بها عن دين اللّه تعالى فهي من الكذب المباح»
لكن لما كان مقام الشفاعة هو المقام المحمود المخبوء للحبيب لا الخليل أظهر الاستحياء للدفع عنه بما يظن أنه مما يوجب ذلك وهو لا يوجبه. وفي ذلك من التواضع وإظهار العجز والدفع بالتي هي أحسن مما لا يخفى فكأنه قال : أنا لا آمن من العتاب على كذب مباح فكيف لي بالشفاعة لكم في هذا المقام فليحفظ ، ثم إن الإتيان بالأفعال المضارعة في أخبار الأفعال الماضية الناقصة أمر مستفيض - كأصبح يقول كذا ، وكادت تزيغ قلوب فريق منهم - ومعناه أنه في الماضي كان مستمرا متجددا بتعاقب الأمثال والمضي والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم ، وقد عد الاستمرار من معاني «كان» فلا إشكال في بِما كانُوا يَكْذِبُونَ حيث دلت «كان» على انتساب الكذب إليهم في الماضي ويكذبون على انتسابه في الحال والاستقبال والزمان فيهما مختلف ودفعه بأن «كان» دالة على الاستمرار في جميع الأزمنة - ويكذبون - دل على الاستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة على علاته يغني اللّه تعالى عنه. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ووافقه ابن ذكوان في إمالة جاء وشاء وزاد هذه ، وعنه خلاف في زاد غيرها ، والإمالة لتميم والتفخيم للحجاز. وقد نظم أبو حيان تلك العشرة فقال :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 154
وعشرة أفعال تمال لحمزة فجاء وشاء ضاق ران وكملا
بزاد وخاب طاب خاف معا وحا ق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا
[سورة البقرة (2) : الآيات 11 إلى 20]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
[البقرة : 11 - 20] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ اختلف في هذه الجملة فقيل معطوفة على - يكذبون - لأنه أقرب وليفيد تسببه للعذاب أيضا وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن الكذب. ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة الموصول الواقع سببا إذ المعنى في قولهم : «إنما نحن مصلحون» إنكار لادعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح وهو عناد وإصرار على الفساد والإصرار على ذلك فساد وإثم ، وهذا الذي مال إليه الزمخشري - وهو مبني على عدم الاحتياج إلى ضمير في الجملة - يعود إلى «ما» فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا يكون التقدير - ولهم عذاب أليم - بالذي كانوا إذا قيل لهم إلخ وهو غير منتظم وكأن من يجعل «ما» مصدرية يجعل الوصل «بكان» حيث لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية نعم يرد أن قوله تعالى : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ كذب فيؤول المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب وعطف التفسير مما يأباه الذوق والاستعمال «1» ومن هنا قيل : بأن هذا العطف وجيه على قراءة يكذبون بالتشديد على أحد احتمالاته ليكون سببا للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب. وقول مولانا مفتي الديار الرومية في الاعتراض : أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق الذكر صريحا أو استلزاما ، ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة الانتساب بوجه - حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل - لا يخفى ما فيه على من أمعن النظر ، وقيل : معطوفة على يقول لسلامته مما في ذلك العطف من الدغدغة ولتكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا ودلالتها على لحوق
___________
(1) فقد قالوا عطف التفسير بالواو في الجمل خلاف الظاهر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 155
العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم فما ظنك بسائرها؟ ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن العطف ، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه فلا تغاير سابقها ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال ، وأيضا كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان والاستئناف وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن استهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما اختاره المدقق في الكشف ، وقريب منه كلام أبي حيان في البحر أنها معطوفة على قوله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لبيان حالهم في ادعاء الإيمان وكذبهم فيه أولا ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا ، ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح ، وما قيل عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أو في بتأدية هذه المعاني وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها إليهم - كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام - كلام خارج عن دائرة الإنصاف كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب والاعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم وسوق الكلام مناد عليه ، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف ، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها وما أخرجه ابن جرير عن سلمان رضي اللّه تعالى عنه - من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد - ليس المراد به أنها مخصوصة بقوم
آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم. ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تبليغا عن اللّه سبحانه المخبر له بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظا لهم قائلا لا تُفْسِدُوا ، والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة ونقيضه الصلاح ، والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد - وهو هنا الكفر كما قاله ابن عباس - أو المعاصي - كما قاله أبو العالية - أو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين فإن كل ذلك يؤدي - ولو بالوسائط - إلى خراب الأرض وقلة الخير ونزع البركة وتعطل المنافع ، وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة ومشغولية الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل. ولعل النهي عن ذلك لخور أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما تميل إليه الحذاق. على أن في أذهان كثير من الكفار إذ ذاك توقع ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة : 32] ، ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف والمراد من - الأرض - جنسها أو المدينة المنورة ، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد استيعاب الأفراد لا الأجزاء ، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا ، لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها.
وأقبح خلق اللّه من بات عاصيا لمن بات في نعمائه يتقلب
وإنما للحصر كما جرى عليه بعض النحويين وأهل الأصول ، واختار في البحر أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعا ، وجعل القول بكونها مركبة من «ما» النافية دخل عليها «أن» التي للإثبات فأفادت الحصر قولا ركيكا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 156
صادر عن غير عارف بالنحو. ومعنى إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يشبه شيء من وجوه الفساد وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه ، والقصر إما قصر إفراد أو قلب وهذا إما ناشىء عن جهل مركب فاعتقدوا الفساد صلاحا فأصروا واستكبروا استكبارا.
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، وقرأ هشام والكسائي «قيل» بإشمام الضم ليكون دالا على الواو المنقلبة ، وقول : بإخلاص الضم وسكون الواو لغة لهذيل ولم يقرأ بها.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ رد لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم وتحقيقه «بأن ، وألا» بناء على تركبها من همزة الاستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى «ولا» النافية فهو نفي نفي فيفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره - ولإفادتها التحقيق - كما قال ناصر الدين : لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم «كان ، واللام ، وحرف النفي» والذي ارتضاه الكثير أنها بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة ولا النافية لا تدخل عليها إذ قد يقال : انفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل البساطة ، ودعوى لا يكاد إلخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب وحبذا ويا النداء في - ألا رب يوم صالح لك منهما - و- ألا حبذا هند وأرض بها هند - و- ألا يا قيس والضحاك سيرا - وضم إلى ذلك تعريف الخبر وتوسيط الفصل وأشار ب لا يَشْعُرُونَ على وجه إلى أن كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم يدركوه ، وأتى سبحانه بالاستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهما يقتضي تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بادعاء أنهم على خلافه ، وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقين بالعلم به مع أنهم ليسوا كذلك فكان محلا للاستدراك.
وما يقال : من أنه لا ذمّ على من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم ، يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل ربما يقال : إنه أسوأ حالا من غيره ، وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول لا يَشْعُرُونَ محذوفا مقدرا بأنهم مفسدون ، ويحتمل أن يقدر أن وبال ذلك الفساد يرجع إليهم ، أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ لإفادة لازم فائدة الخبر بناء على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم المستمرة ، ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب ، ويحتمل أن لا ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم. وفيه مزيد تسلية له صلّى اللّه عليه وسلّم إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته ، وفي التأويلات - لعلم الهدى - إن هذه الآية حجة على المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن اللّه تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطا للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفسادا لأن الإفساد ارتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائما عليهم عن النفاق لم يكن فعلهم إفسادا فحيث كان إفسادا دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة عليهم.
وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل وعدمها ، وأنت تعلم أنه مع قيام الاحتمال يقعد على العجز الاستدلال وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة - كما أن لا تفسدوا إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمة - ولذا قدم ، وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته - كما قيل - لأن اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان و«الكاف» في موضع نصب ، وأكثر النحاة يجعلونها نعتا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 157
لمصدر محذوف - أي إيمانا كما آمن الناس - وسيبويه لا يجوّز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناء على أن الكاف لا تكون كذلك و«ما» إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف ، والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانا مشابها لإيمان الناس ، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقرونا بالإخلاص خالصا عن شوائب النفاق ، والمراد من الناس الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقا - كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وهم نصب عين أولى الغين ، وملتفت خواطرهم لتأملهم منهم ، وقد مر ذكرهم أيضا لدخولهم دخولا أوليا في الذين آمنوا فالعهد
خارجي ، أو خارجي ذكرى ، أو من آمن من أبناء جنسهم - كعبد اللّه بن سلام - كما قاله جماعة من وجوه الصحابة ، أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل ، فاللام إما للجنس أو للاستغراق.
واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد ، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب ، والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله ، ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق.
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها
نعم إن كان معروفا بالزندقة داعيا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين.
قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أرادوا لا يكون ذلك أصلا فالهمزة للإنكار الإبطالي - وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس «1» بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولا أوليا وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلّا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم اللّه أنى يؤفكون - والسفه - الخفة والتحرك والاضطراب ، وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلا منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرا من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم ، واليهود قوم بهت ، وقد استشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين - كما هو الظاهر - والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟ وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه اللّه تعالى عنهم ورده عليهم ، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير ، وقيل : «إذا» هنا بمعنى لو تحقيقا لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا - كما قيل مثله في قوله - وإذا ما لمته لمته وحدي ، وقيل : إنه كان بحضرة المسلمين لكن مسارّة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى ، وقيل : كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما ، وذكر مولانا مفتي الديار الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين
___________
(1) أي جنس السفيه على ما يريد به بعض الأصوليين من بطلان الجمعية أو جنس السفهاء بوصف الجمعية على ما هو قانون العربية ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 158
فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر - كما ذكره في تفسيره - وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى - أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا - ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك ، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول ، والشرع ينظر للظاهر وعند اللّه تعالى علم السرائر ، ولهذا سكت المؤمنون ورد اللّه سبحانه عليهم ما كانوا يسرون ، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم وليكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [النساء : 46] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه ، وجعل رحمه اللّه تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ من هذا القبيل أيضا ، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره ، وعندي أنه ليس بشيء لأن أَنُؤْمِنُ لإنكار الفعل في الحال وقولهم كَما آمَنَ السُّفَهاءُ بصيغة الماضي صريح في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق ، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا ، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح العطّار ما أفسد الدهر.
فالأهون بعض هاتيك الوجوه ، وقوله : إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام - فضلا عما هو في منصب الإعجاز لا يخفى ما فيه - على من اطلع على محاورات الناس قديما وحديثا وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب : 4] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما سلف ، وإنما قال سبحانه هنا : لا يَعْلَمُونَ وهناك لا يَشْعُرُونَ لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم ، والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم ، ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور - على ما قيل - فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم ، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر. ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء ، ألا ففي ذلك أوجه ، تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو ، وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو. وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوا ، وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون.
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاء فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضا لأن المعنى - ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقا للخداع - وذلك التفوّه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء ، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة ، والقول بأن المراد ب آمَنَّا أولا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام - ولا أقتدي به - وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبي - فيجب إرادته - يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه ، واللقاء استقبال الشخص قريبا منه وهو أحد أربعة عشر «1» مصدرا للقي ، وقرأ أبو
___________
(1) وهي لقيا ولقية ولقاء ولقاة ولقاء ولقي ولقي ولقيا ولقيا ولقيانا ولقيانة وتلقاء ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 159
حنيفة وابن السميقع لاقوا ، وجعله في البحر بمعنى الفعل المجرد ، وحذف المفعول في آمنا قيل اكتفاء بالتقييد قيل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وقيل : المراد آمنا بما آمنتم به ، وأبعد من قال أرادوا الإيمان بموسى عليه السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهاما : هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء ، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب ، وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب ، وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ من خلوت به ، وإليه إذا انفردت معه أو من قولهم في المثل : اطلب الأمر وخلاك ذم - أي عداك - ومضى عنك ومنه قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران : 137] وعلى الثاني المفعول الأول هاهنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا خلوهم ، وتعديته إلى المفعول الثاني إِلى لما في المضي عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت منه ، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلانا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحا - خلا - بمعنى سخر في كلام من يوثق به ، وقولهم : خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو بمعنى تمكن منه على ما قيل ، والدال على السخرية يعبث به ، وزعم النضر بن شميل أن إِلى هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف ، نعم إن الخلوة كما في التاج تستعمل ب «إلى ، والباء ، ومع» بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى المضي ، وإذا أريد به ذلك كان مجازا وظاهر كلام
غيره أنه حقيقة. وضعيفان يغلبان قويا. والمراد ب شَياطِينِهِمْ من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهود - كما قاله ابن عباس - أو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة - وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة - وكان على عهده صلى اللّه تعالى عليه وسلم كثير منهم - ككعب بن الأشرف من بني قريظة ، وأبي بردة من بني أسلم ، وعبد الدار في جهينة ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وابن السوداء في الشام.
وحمله على شياطين الجن - كما قاله الكلبي - مما لا يختلج بقلبي ، والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح - كما في بعض الشواذ - تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدا والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت ، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر ، وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضبا والأنثى شيطانة وأنشد في البحر :
هي البازل الكوماء لا شيء غيرها وشيطانة قد جن منها جنونها
وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب».
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث ، وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين ، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهاما منهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعا لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان ، وقيل : إلى التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 160
لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا ، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان وثباته ، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم ، وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكي عنهم : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون : 1] إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى ، والعوارض كثيرة ولهذا قيل : إنهم للتقية والخداع ، ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان - ليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربة - أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين : رسالته صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى ، وقرأ الجمهور مَعَكُمْ بتحريك العين وقرىء شاذا بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ.
الاستهزاء : الاستخفاف والسخرية ، واستفعل بمعنى فعل تقول هزأت به واستهزأت بمعنى كاستعجب وعجب ، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه ، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء ، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين. وأصل هذه المادة الخفة يقال : ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف - وقول الرازي إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية - غير موافق للغة والعرف. والجملة إما استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم - لما قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إن صح ذلك - فما بالكم توافقون المؤمنين - فأجابوا بذلك. أو بدل من إنا معكم ، وهل هو بدل اشتمال ، أو كل ، أو بعض؟ خلاف ، أما الأول فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزئ بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد ، لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال.
«وأما الثاني» وبه قال السعد : فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول ، وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك ، أو تأكيد لما قبله بأن يقال : إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما «نحن مستهزئون» لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررا للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع النقيضين ، أو يقال يلزم إِنَّا مَعَكُمْ إنا نوهم أصحاب محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيدا باعتبار ذلك اللازم ، وأولى الأوجه - عند المحققين - الاستئناف لولا ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز من أن موضوع إِنَّما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل ، وقرىء مُسْتَهْزِؤُنَ بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة ، ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته وإن لم يكن المستهزئ من أسمائه سبحانه ، وقالوا : إنه التحقير على وجهمن شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا استحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد ، وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به - جل وعلا - حقيقة لما فيه من تقرير بالمستهزأ به على الجهل الذي فيه ، ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفا بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى ، فالآية على هذا مؤولة إما بأن يراد بالاستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة هاهنا ، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل ، وإما بأن يراد به إنزال الحقارة ، والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى
التصور وبالعكس

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 161
نظرا إلى الوجود ، وإما بأن يجعل اللّه - تعالى وتقدس - كالمستهزىء بهم على سبيل الاستعارة المكنية وإثبات الاستهزاء له تخييلا ، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح قصدا وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيما للعباد.
وقد يقال إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزئ : إما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم من حيث لا يعلمون ، وإما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال : - هلم هلم - فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه ، ثم يفتح له باب آخر فيقال : هلم هلم - فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال : - هلم هلم - فما يأتيه ، وقد روي ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في المستهزئين بالناس ، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدرا الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم لأنهم ما استهزىء بهم إلا فيه ولا أحد أغير من اللّه سبحانه ، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد ، وقيل : ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابا عن السؤال عن معاملة اللّه تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين ، وقولهم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ إشعار بأن ما حكي من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة اللّه تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم ويشعر كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام - كهم مستهزئون - بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم فلا يفيد أن اللّه تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقا وأنه تولى مجازاتهم مطلقا بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة ، وأيضا لكون استهزاء اللّه تعالى - بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما - يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين ، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيا أنه لو عطف - ولو بحسب التوهم - على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤون بهم واللّه يستهزىء بهم لفاتت الفائدتان هذا ، ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر ، وعدل سبحانه عن - اللّه مستهزى ء
بهم المطابق لقولهم - إلى قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ مع الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل : «1»
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقد كانت نكايات اللّه تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا متجددا مستمرا أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة : 126] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة : 64] وهذا نوع من العذاب الأدنى «ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون» «2» وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصا وإنما تركه المنافقون فيما حكي عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل اللّه تعالى - كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا - وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
معطوف على قوله سبحانه وتعالى : يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ كالبيان له على رأي ، والمدّ من مد الجيش وأمده بمعنى
___________
(1) هو المتنبي.
(2) نص الآية 127 من سورة طه : وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى وفي الزمر والقلم : وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 162
أي ألحق به ما يقويه ويكثره ، وقيل : مد زاد من الجنس وأمد زاد من غير الجنس ، وقيل : مد في الشراء وأمد في الخير عكس وعد وأوعد ، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب فبشرهم بعذاب أليم ، وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين ، أحدهما ما ذكرنا ، وثانيهما الإمهال ، ومنه مد العمر ، والواقع هنا من الأول دون الثاني لوجهين ، الأول أنه روي عن ابن كثير من غير السبعة يَمُدُّهُمْ بالضم من المزيد وهو لم يسمع في الثاني ، والثاني أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع فمعنى يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يزيدهم ويقويهم فيه ، وإلى ذلك ذهب البيضاوي وغيره ، والحق أن الإمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وابن كيسان والوجهان مخدوشان ، فقد ورد - عند من يعول عليه من أهل اللغة - كل منهما ثلاثيا ومزيدا ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كما أو كيفا ، وفي الصحاح مد اللّه في عمره ومده في غيه أمهله وطول له ، وروي عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أن مد اللّه تعالى في طغيانهم التمكين من العصيان.
وعن ابن عباس الإملاء ونسبة المد إلى اللّه تعالى - بأي معنى كان عند أهل الحق - حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد للأشياء المنفرد باختراعها على حسب ما اقتضته الحكمة ورفعت له أكفها الاستعدادات ، ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه : وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف : 202] نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة : 11] مع قوله جل وعلا اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر : 42] وذهبت المعتزلة أن الزيادة في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة وحملوا الآية على محامل أخر ، وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم - فلنطوه هنا على ما فيه «والطغيان» بضم الطاء على المشهور ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما بكسرها وهما لغتان فيه ، وقد سمعا في مصدر اللقاء ، وقد أماله الكسائي ، وأصله تجاوز المكان الذي وقفت فيه ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فقد طغى ، ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه ، وإضافته إليهم لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن اللّه تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد فإنه اعتبار عليه غبار بل غبار ليس له اعتبار فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته ، ويحتمل أن يكون الاختصاص للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادعاء اختصاصهم به وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة «والعمه» التردد والتحير ، ويستعمل في الرأي خاصة - والعمى فيه وفيه البصر - فبينهما عموم وخصوص مطلق في الاستعمال وإن تغايرا في أصل الوضع ، واختص العمى بالبصر على ما قيل ، وأصله الأصيل عدم الإمارات في الطريق التي تنصب - لتدل من حجارة - وتراب ونحوهما
وهي المنار ويقال عمه يعمه - كتعب يتعب - عمها وعمهانا فهو عمه وعامه وعمهاء «1» فمعنى يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون ، وإلى ذلك ذهب جمع من المفسرين ، وقيل : العمه العمى عن الرشد ، وقال ابن قتيبة : هو أن يكب رأسه فلا يبصر ما يأتي ، فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون رؤوسهم فلا يبصرون وكأن هذا أقرب إلى الصواب لأن المنافقين لم يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه معتقدين أنه الحق وما سواه باطل إلا أن يقال التردد والتحير في أمر آخر لا في الكفر ، وجملة يَعْمَهُونَ في موضع نصب على الحال إما من الضمير في - يمدهم - وإما من الضمير في - طغيانهم - لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل ، وفي - طغيانهم - يحتمل أن يكون متعلقا - بيمدهم - وأن يكون متعلقا - بيعمهون - وجاز على خلاف «2» كون في طُغْيانِهِمْ ويَعْمَهُونَ
___________
(1) قوله وعمها. كذا بخط المؤلف ا ه.
(2) المخالف أبو البقاء قال : العامل لا يعمل في حالين ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 163
حالين من الضمير في يمدهم أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى إشارة إلى المنافقين الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الصلاح وهم المفسدون ، ونسبة السفه للمؤمنين - وهم السفهاء - والاستهزاء - وهم المستهزأ بهم - ولبعد منزلتهم في الشر وسوء الحال أشار إليهم بما يدل على البعد ، والكلام هنا يمكن أن يكون واقعا موقع أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة : 5] فإن السامع بعد سماع ذكرهم وإجراء تلك الأوصاف عليهم كأنه يسأل من أين دخل على هؤلاء هذه الهيئات؟ فيجاب بأن أولئك المستبعدين إنما جسروا عليها لأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى حتى خسرت صفقتهم وفقدوا الاهتداء للطريق المستقيم ووقعوا في تيه الحيرة والضلال ، وقيل : هو فذلكة وإجمال لجميع ما تقدم من حقيقة حالهم أو تعليل لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ والمد في الطغيان أو مقرر لقوله تعالى : وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وفيه حصر المسند على المسند إليه لكون تعريف الموصول للجنس بمنزلة تعريف اللام الجنسي وهو ادعائي باعتبار كمالهم في ذلك الاشتراء ، وإن كان الكفار الآخرون مشاركين لهم في ذلك لجمعهم هاتيك المساوئ الشنيعة والخلال الفظيعة ، فبذلك الاعتبار صح تخصيصهم بذلك ، والضلالة الجور عن القصد ، والهدى التوجه إليه ، ويطلقان على العدول عن الصواب في الدين والاستقامة عليه ، والاشتراء كالشراء استبدال السلعة بالثمن - أي أخذها به - وبعضهم يجعله من الأضداد لأن المتبايعين تبايعا الثمن والمثمن فكل من العوضين مشترى من جانب مبيع من جانب ، ويطلق مجازا على أخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما أو معنى ، وهذا يستدعي بظاهره أن يكون ما يجري مجرى الثمن - وهو الهدى - حاصلا لهؤلاء قبل ، ولا ريب أنهم بمعزل عنه فإما أن يقال : إن الاشتراء مجاز عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار له فكأنه تعالى قال :
اختاروا الضلالة على الهدى ولكون الاستبدال ملحوظا جيء بالباء على أنه قيل : إن التوافق معنى لا يقتضي التوافق متعلقا ، ولا يرد على هذا الحمل كونه مخلا بالترشيح الآتي كما زعمه مولانا مفتي الديار الرومية لأن الترشيح المذكور يكفي له وجود لفظ الاشتراء وإن كان المعنى المقصود غير مرشح - كما هو العادة في أمثاله - أو يقال ليس المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب وبأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ، ولا مرية في أن ذلك كان حاصلا لأولئك المنافقين بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة والإرشاد العظيم والنصح والتعليم لكنهم نبذوا ذلك فوقعوا في مهاوي المهالك ، أو يقال : المراد بالهدى الهدى الجبلي وقد كان حاصلا لهم حقيقة - فإن كل مولود يولد على الفطرة - وقول مولانا مفتي الديار الرومية : إن حمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء ، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات النقلية والعقلية على أن ذلك يفضي إلى كون - ما فصل من أول السورة إلى هنا ضائعا - كلام ناشىء عن الغفلة عن معنى الإشارة فإنها تقتضي ملاحظتهم بجميع ما مر من الصفات ، والمعنى أن الموصوفين بالنفاق المذكور ، هم الذين ضيعوا الفطرة أشد تضييع بتهويد الآباء ثم بعد ما ظفروا بها أضاعوها بالنفاق مع تحريضهم على المحافظة والنصح شفاها ونحو ذلك مما لا يوجد في غيرهم كما يشير إليه التعريف ، أو يقال : هذه ترجمة عن جناية أخرى من جناياتهم ، والمراد بالهدى ما كانوا عليه من التصديق ببعثته صلى اللّه تعالى عليه وسلم وحقية دينه بما وجدوه عندهم في التوراة ولهذا كانوا يستفتحون به ويدعون بحرمته ويهددون الكفار بخروجه
فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة : 89] وأما حمل الهدى على ما كان عندهم ظاهرا من التلفظ بالشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والغزو فمما لا يرتضيه من هدى إلى سواء السبيل ، وما ذكرناه من أن أُولئِكَ إشارة إلى المنافقين - هو الذي ذهب إليه أكثر المفسرين - والمروي عن مجاهد ، وهو الذي يقتضيه النظم الكريم-وبه أقول-=

2. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 164
وروي عن قتادة أنهم أهل الكتاب مطلقا ، وعن ابن عباس وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم أنهم الكفار مطلقا ، والكل عندي بعيد ، ولعل مراد من قال ذلك أن الآية بظاهر مفهومها تصدق على من أرادوا لا أن
الآية نزلت فيهم ، وقرأ يحيى ابن يعمر وابن إسحاق اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بالكسر لأنه الأصل في التقاء الساكنين ، وأبو السماك اشْتَرَوُا بالفتح اتباعا لما قبل ، وأمال حمزة والكسائي «الهدى» وهي لغة بني تميم وعدم الإمالة لغة قريش.
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على الصلة ، وأتى بالفاء للإشارة إلى تعقب نفي الربح للشراء وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح ، وزعم بعضهم أن الفاء دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء لمكان الموصول - فهو على حد الذي يدخل الدار فله درهم - وليس بشيء لأن الموصول هنا ليس بمبتدأ كما في المثال بل هو خبر عن أُولئِكَ وما بعد الفاء ليس بخبر بل هو معطوف على الصلة فهو صلة ولا يجوز أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ مبتدأ وفَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ خبر عن الثاني وهو وخبره خبر عن الأول لعدم الرابط في الجملة الثانية ولتحقق معنى الصلة ، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها ولا أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ بدلا منه والجملة خبرا لأن الفاء إنما تدخل الخبر لعموم الموصول والمبدل من المخصوص مخصوص فالحق ما ذكرناه ، ومعنى الآية عليه ليس غير كما في البحر. والتِّجارَةِ التصرف في رأس المال طلبا للربح ولا يكاد يوجد - تاء - أصلية بعدها جيم إلا نتج وتجر ورتج وارتج ، وأما تجاه ونحوه فأصلها الواو ، و«الربح» تحصيل الزيادة على رأس المال ، وشاع في الفضل عليه ، و«المهتدي» اسم فاعل من اهتدى مطاوع هدى ولا يكون افتعل المطاوع إلا من المتعدي ، وأما قوله :
حتى إذا اشتال سهيل في السحر كشعلة القابس ترمي بالشرر
فافتعل فيه بمعنى فعل تقول : شال يشول واشتال يشتال بمعنى ، وفي الآية ترشيح لما سمعت من المجاز فيما قبلها ، والمقصد الأصلي تصوير خسارهم بفوت الفوائد المترتبة على الهدى التي هي كالربح وإضاعة الهدى الذي هو - كرأس المال - بصورة خسارة التاجر الفائت للربح المضيع لرأس المال حتى كأنه هو على سبيل الاستعارة التمثيلية مبالغة في تخسيرهم ووقوعهم في أشنع الخسار الذي يتحاشى عنه أولو الأبصار ، وإسناد الربح إلى التجارة - وهو لأربابها - مجاز للملابسة ، وكني في مقام الذمّ بنفي الربح عن الخسران لأن فوت الربح يستلزمه في الجملة ولا أقل من قدر ما يصرف من القوة ، وفائدة الكناية التصريح بانتفاء مقصد التجارة مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل خسرت تجارتهم فلا يتوهم أن نفي أحد الضدين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة وهي موجودة هنا فإن التاجر قد لا يربح ولا يخسر ، وقيل : إن ذلك إنما يكون إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقية أما إذا كان لا يقبل إلا اثنين منها فنفي أحدهما يكون إثباتا للآخر ، والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما على أنه قد قامت القرينة هنا على الخسران لقوله تعالى : وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وقد جعله غير واحد كناية عن إضاعة رأس المال فإن من لم يهتد بطرق التجارة تكثر الآفات على أمواله ، واختير طريق الكناية نكاية لهم بتجهيلهم وتسفيههم ، ويحتمل على بعد أن يكون النفي هنا من باب قوله : على لاحب لا يهتدى بمناره ، أي لا منار فيهتدى به فكأنه قال لا تجارة ولا ربح.
والظاهر أن وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على ما ربحت للقرب مع التناسب والتفرع باعتبار المعنى الكنائي ، وبتقدير المتعلق لطرق الهداية يندفع توهم أن عدم الاهتداء قد فهم مما قبل فيكون تكرارا لما مضى وهو إما من باب التكميل والاحتراس كقوله :
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الغمام وديمة تهمي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 165
أو من باب التتميم كقوله :
كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وقال الشريف قدس سره : إن العطف على اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أولى لأن عطفه على فَما رَبِحَتْ يوجب ترتبه على ما قبله بالفاء فيلزم تأخره عنه ، والأمر بالعكس إلا أن يقال ترتيبه باعتبار الحكم والأخبار ، وفيه أنه لو كان معطوفا على اشْتَرَوُا كان الظاهر تقديمه لما في التأخير من الإيهام ، وحينئذ يكون الأحسن ترك العطف احتياطا كما ذكر في نحو قوله :
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
على أن بين معنى اشْتَرَوُا إلخ ومعنى وَما كانُوا إلخ تقاربا يمنع حسن العطف كما لا يخفى على من لم يضع فطرته السليمة ، وجوّز أن تكون الجملة حالا ، ولا يخفى سوء حاله على من حسن تمييزه. وقرأ ابن أبي عبلة - تجاراتهم - على الجمع ووجهه أن لكل واحد تجارة ، ووجه الإفراد في قراءة الجمهور فهم المعنى مع الإشارة أن تجاراتهم وإن تعددت فهي من سوق واحدة وهم شركاء فيها مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً جملة مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على ما قبلها ، ولما كان ذلك جاريا على ما فيه من استعارات وتجوزات مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل تتميما للبيان ، فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللثام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد ، وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة ، فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها ، وهناك تنجلي غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر : 21] وقيل : الأشبه أن تجعل موضحة لقوله تعالى :
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ ولا بعد فيه ، والحمل على الاستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان.
والمثل - بفتحتين - كالمثل - بكسر فسكون - والمثيل في الأصل النظير والشبيه ، والتفرقة لا أرتضيها ، وكأنه مأخوذ من المثول - وهو الانتصاب - ومنه
الحديث «من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار»
ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه بلا شبيه ، أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها ، أو حكمة وموعظة نافعة ، أو كناية بديعة ، أو نظم من جوامع الكلم الموجز ، ولا يشترط فيه أن يكون استعارة مركبة خلافا لمن وهم ، بل لا يشترط أن يكون مجازا ، وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها التصانيف وفيها الكثير مستعملا في معناه الحقيقي ولكونه فريدا في بابه ، وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال القرآن لأن اللّه تعالى ابتدأها وليس لها مورد من قبل ، اللهم إلا أن يقال : إن هذا اصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك ، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة. ومن ذلك وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل : 60] ومَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد : 35] وهو المراد هنا في المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف. والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا إلخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء اللّه تعالى ، فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ ، وزعم ابن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى :
أينتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا مذهب ابن الحسن ، وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول بالزيادة كما في قوله : فصيروا مثل كَعَصْفٍ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 166
مَأْكُولٍ
[الفيل : 5] زيادة في الجهل ، والذي وضع موضع - الذين - إن كان ضمير بِنُورِهِمْ راجعا إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع ، وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية اقتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه ، ولأنه مع صلته كشيء واحد ، وعلامة الجمع لا تقع حشوا فلذا لم يلحقوها به ووضعوه لما يعم - كمن ، وما ، والذين - ليس جمعا له بل هو اسم وضع مزيدا فيه لزيادة المعنى ، وقصد التصريح بها ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح ، ولأن استطال بالصلة فاستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن اقتصر على اللام في نحو اسم الفاعل ، قاله القاضي وغيره ، ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه الأخير ، وما روي عن بعض النحاة من جواز حذف نون - الذين - ليس بالمرضي عند المحققين ، ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه كما في قوله تعالى : وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة : 69] على وجه ، وقول الشاعر :
يا رب عيسى لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف كالملفوظ ، فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في - الذي - من معنى الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به - مستوقد - مخصوص ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه ما يجري فيه. واسم الجنس وإن كان لفظه مفردا قد يعامل معاملة الجمع ك :
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ [الإنسان : 21] وقولهم : الدينار الصفر ، والدرهم البيض ، أو يقال : إنه مقدر له موصوف مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فيحسن النظام ، ويلاحظ في ضمير - استوقد - لفظ الموصوف ، وفي ضمير بِنُورِهِمْ معناه ، «واستوقدوا» بمعنى أوقدوا ، فقد حكى أبو زيد أوقد واستوقد بمعنى - كأجاب واستجاب - وبه قال الأخفش - جعل الاستيقاد بمعنى طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي - محوج إلى حذف ، والمعنى حينئذ طلبوا نارا واستدعوها فأوقدوها فَلَمَّا أَضاءَتْ لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الإيقاد والنار جوهر لطيف مضيء محرق ، واشتقاقها من نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها - على ما تشاهد - حركة واضطرابا لطلب المركز ، وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس ، نعم أورد على التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة - لما ثبت في الكتب الحكمية - أن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون لها وكذا يقال في الإحراق ، والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان الأشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها ، وأما اعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها وذلك خارج عن وسع أكثر الناس ، والناس يدركون من النار التي عندهم الإضاءة والإحراق ويجعلونهما أخص أوصافها ، والتعريف للمتعارف وعدم الإحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ ، واحتراق الشهب شهاب على من ينكر الإحراق ، وأغرب من هذا نفي النار التي عند الأثير وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء الحار جدا ، وقرأ ابن السميقع - كمثل الذين - على الجمع وهي قراءة مشكلة جدا ، وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن - الذي - لها لفظا ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله :
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع
أو أنه اكتفى بالإفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه فهو كقوله :
وبالبدو منا أسرة يحفظونها سراع إلى الداعي عظام كراكره

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 167
أي كراكرهم ، أو أن الفاعل في استوقد عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى : ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ [يوسف : 35] على وجه ، والعائد حينئذ محذوف على خلاف القياس - أي لهم - أولا عائد في الجملة الأولى اكتفاء بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء ، وفي القلب من كل شيء فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «لما» حرف وجود لوجود ، أو وجوب لوجوب كما نص عليه سيبويه ، أو ظرف بمعنى حين. أو إذ ، والإضاءة جعل الشيء مضيئا نيّرا ، أو الإشراق وفرط الإنارة. وأضاء يكون متعديا ولازما ، فعلى الأول ما موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي المفعول والفاعل ضمير النار وعلى الثاني فما كذلك وهي الفاعل وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية ، ولا يجب التصريح بفي حينئذ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفا فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد - وهي الجهات الست - وهي مما ينصب على الظرفية قياسا مطردا فكذا ما عبر به عنها ، وأولى الوجوه أن تكون أَضاءَتْ متعدية وما موصولة إذ لا حاجة حينئذ إلى الحمل على المعنى ، ولا ارتكاب ما قل استعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا ، ولم يحفظ من كلام العرب جلست - ما - مجلسا حسنا ولا قمت - ما - يوم الجمعة.
ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه البيضاوي؟! وإذا جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضوءها فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل ، وهو مبني على أن الظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا من كون الإشراق والمشرق فيه ، وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل قاصر - كقام زيد في الدار - فإن زيدا والقيام فيها ذاتا وتبعا - وإلى ذلك مال الزمخشري - ومن الناس من اكتفى بوجود الأثر فيه وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول ، وحول ظرف مكان ملازم للظرفية والإضافة - ويثنى ويجمع - فيقال حوليه وأحواله وحوال مثله فيثنى على حوالي ، ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من الكتب اللغوية ولا تقل حواليه - بكسر اللام - كما في الصحاح. ولعل التثنية والجمع - مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة - ليسا حقيقين ، وقيل :
باعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم افندي في ترجمة القاموس بالرومية وفيه تأمل ، وأصل هذا التركيب موضوع للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى مثله ، ولما لزمه الانتقال والتغير استعمل فيه باعتباره كالاستحالة والحوالة وإن خفي في نحو - الحول - بمعنى القوة ، وقيل : أصله تغير الشيء وانفصاله وذَهَبَ إلخ جواب فَلَمَّا والسببية ادعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا مهلة جعل كأنه سبب له على أن يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو - إن كان لي مال حججت - والإذهاب متوقف على الإضاءة ، والضمير في بِنُورِهِمْ للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم. واختار النور على النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقا ولحاقا ، وقيل الجملة مستأنفة جوابا عما حالهم شبهت حالهم بذلك ، أو بدل من جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب «لما» محذوف أي خمدت نارهم فبقوا متحيرين ، ومثله فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ [يوسف : 15] وحذفه للإيجاز وأمن الإلباس ولا يخفى ما فيه على من له أدنى إنصاف وإن ارتضاه الجم الغفير ، ويحل عن مثل هذا الألغاز كلام اللّه تعالى اللطيف الخبير. وإسناد الفعل إليه تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في الأمور كلها بواسطة وبغير واسطة ، ولا يعترض على الحكيم بشيء ، وحمل النار على نار لا يرضي اللّه تعالى إيقادها إما مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقية أوقدها الغواة للفساد أو الإفساد ، فحينئذ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم يدع إليه إلا اعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال ، وعدي بالباء دون الهمزة لما في المثل السائر أن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 168
ذهب بالشيء يفهم منه أنه استصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن اشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين ، أعني الإزالة والمصاحبة والإلصاق. ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو اللّه تعالى القوي العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه ، وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته ، ولعله يقول : إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون اللّه تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجيء في ظاهر قوله تعالى : وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر : 22] والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن «1» الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما. والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه استعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل :
ويظهر في البلاد ضياء نور
وقال العباس رضي اللّه تعالى عنه :
وأنت لما ظهرت أشرقت الأر ض وضاءت بنورك الأفق
ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء ، وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع ، وهذا الذي ذكرنا هو الذي ارتضاه المحققون من أهل اللغة ، ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى : قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة : 15] والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء : 48] وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم :
وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم
وكذا وجه وصف الصلاة - الناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم - بالنور والصبر بالضياء ، ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل «2» واعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات فتدبر ، وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى : جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس : 5] وعلى هذا يكون التعبير بيذهب اللّه بنورهم دون ذهب اللّه بضوئهم دفعا لاحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا مع أن الغرض إزالة النور رأسا ، وذكر بعضهم أن كلا من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الاصطلاح لا من أصل الوضع واللغة ، ومن هنا قال الحكماء : إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته ، والنور ما يكون من غيره ، واستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس ، أو مجازا كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة ، ومنه
«الصبر ضياء»
ومعلوم أنه كاسمه : والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من الشريعة السهلة السمحة البيضاء ، ومنه
«الصلاة نور»
ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير
«وجعلت قرة عيني في الصلاة» «وأرحنا يا بلال»
واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما
ورد «كان الناس في ظلمة فرش اللّه تعالى عليهم من نوره»
وقول الشاعر :
___________
(1) قوله : إلى أن الباء هكذا بخط المؤلف ا ه مصححه.
(2) قوله : كذا قيل إلى قوله : فتدبر هذا ليس موجودا في خط المؤلف بل في المبيضة فقط التي ليست بخطه ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 169
بتنا وعمر الليل في غلوائه وله بنور البدر فرع أشمط
والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني أدنى ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في اختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة اعتبرها ومناسبة لاحظها ، وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع - فاللّه نور السماوات والأرض وللّه المثل الأعلى - وشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن انسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من انسياقها من النور إليه فقد انتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون ، والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون - أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضي ء - مما بين بطلانه في الكتب الحكمية وإن قال بكل بعض من الحكماء ، ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما انقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند اللّه مما سماه سبحانه نورا في قوله تعالى : قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ [المائدة : 15] فكأن اللّه عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الانتفاع به ، ولم يسمه سبحانه ضوءا لتتأتى هذه الإشارة - لو قال هنا ذهب اللّه بضوئهم - بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الأتم والرداء المعلم. هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم. وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة - فلما ضاءت - ثلاثيا وتخريجها يعلم مما تقدم وقرأ اليماني - أذهب اللّه نورهم - وفيها تأييد لمذهب سيبويه.
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ عطف على قوله تعالى : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها ، وإيراد لا يُبْصِرُونَ وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه ، وليس المعنى عليه - والترك - في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوسا كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه ، وقال الراغب : ترك الشيء رفضه قصدا واختيارا أو قهرا واضطرارا. ويفهم من المصباح أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني ، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف - والكل هنا محتمل - فعلى الأولى «هم» مفعوله الأول ، وفي ظلمات مفعوله الثاني ، ولا يُبْصِرُونَ صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر ، أو من «هم» ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالا ، ولا يُبْصِرُونَ مفعولا ثانيا لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا وإن جوزه بعضهم وعلى الثاني «هم» مفعوله ، وفِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان ، فالأول من المفعول. والثاني من الضمير فيه أو فِي ظُلُماتٍ متعلق ب تَرَكَهُمْ ولا يُبْصِرُونَ حال.
والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئا ، فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة ، واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى : وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الإنعام : 1] والمجعول لا يكون إلا موجودا ، وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا البتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة ، وعن الثاني بالمنع أيضا فإنّ الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف ، وقيل : كيفية مانعة من الأبصار فالتقابل تقابل التضاد ، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها فيندفع الاعتراض عنه ، وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل ، وقيل : التقابل بين النور والظلمة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 170
تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة ، وإن كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة - كما قيل رب واحد يعدل ألفا - أو لأنه لما كان لكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الاعتبار كذا قالوا «ومن اللطائف» أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفردا ، ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر ، وأيضا كثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا الاكتفاء بكثير من هذا ، وأيضا معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر : 14] ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين.
وهي كقلب رجل واحد ، وأيضا النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور : 35] وفي الظلمة لا يرى مثل هذا ، وأيضا الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم - ما ظلمك أن تفعل كذا - أي ما منعك ، وفي مثلثات ابن السيد - الظلم بفتح الظاء - شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم - أي أول شخص يسد بصري - وزرته والليل ظلم - أي مانع من الزيارة - فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية ، فباعتبار تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في أصل معنى النور فلم يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اختصارا للفظ واكتفاء بما دل عليه المعنى ، والظرفية مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء ، ولا يُبْصِرُونَ منزل منزلة اللازم - لطرح المفعول - نسيا منسيا ، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم ، وقرأ الجمهور فِي ظُلُماتٍ بضم اللام ، والحسن وأبو السماك بسكونها وقوم
بفتحها ، والكل جمع ظلمة.
وزعم قوم أن ظُلُماتٍ بالفتح جمع ظلم - جمع ظلمة - فهي جمع الجمع ، والعدول إلى الفتح تخفيفا مع سماعه في أمثاله أسهل من ادعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه ، وقرأ اليماني في ظلمة ، وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر - والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلك - مما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم ، وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للانتفاع بها أطفأها اللّه تعالى فهبت عليهم الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة ، ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها وطبع اللّه تعالى بها على قلوبهم بذهاب اللّه تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات ، والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - كما أخرجه ابن جرير عنه - أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لاجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للانتفاع والاستبصار ولذهاب أثره وانطماس نوره باهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء اللّه تعالى إياها وإذهاب نورها ، ويشتمل التشبيه وجوها أخر «ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا اللّه تعالى بهم» أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال ، أو مثل من استوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة المعنى فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول فأفشى اللّه تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر ولا يجد مناصا من الفضيحة يوم تبلى السرائر ، وقال أبو الحسن الوراق : هذا مثل ضربه اللّه تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها
فلما مزجها بالدعاوى أذهب اللّه تعالى عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها ، نسأل اللّه تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 171
بعد الكور صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ الأوصاف جموع كثرة على وزن فعل وهو قياس في جمع فعلاء ، وأفعل الوصفين سواء تقابلا - كأحمر وحمراء - أم انفردا لمانع في الخلقة - كغرل ورتق - فإن كان الوصف مشتركا ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء - كرجل أليّ ، وامرأة عجزاء - فالوزن فيه سماعي ، والصمم داء في الأذن يمنع السمع ، وقال الأطباء : هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمي عندهم طرشا ، وأصله من الصلابة أو السد ، ومنه بقولهم قناة صماء وصممت القارورة والبكم الخرس وزنا ومعنى - وهو داء في اللسان يمنع من الكلام - وقيل : الأبكم هو الذي يولد أخرس ، وقيل : الذي لا يفهم شيئا ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان ، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا ، وقيل : ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات ، ويطلق على عدم البصيرة مجازا عند بعض وحقيقة عند آخرين ، وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق - وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس - وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله :
أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
وأصمّ عما كان بينهما أذني وما في سمعها وقر
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما ، وذكرهما قصدا حكما أو حقيقة مانع عن الاستعارة عندهم ، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة ، وآخرون إلى جواز الأمرين ، وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى ، غير أنهم ذكروا هنا بحثا وهو أنه لا نزاع أن التقدير هم صُمٌّ إلخ لكن ليس المستعار له حينئذ مذكورا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم ، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم ، فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ ، وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة ، أو يقال - ولعله أولى - إن - هم - المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلا فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صُمٌّ على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر ، والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله صُمٌّ إلخ فقد انكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جدا ، والآية فذلكة ما تقدم ونتيجة إذ قد علم من قوله سبحانه لا يَشْعُرُونَ ولا يُبْصِرُونَ أنهم صُمٌّ عُمْيٌ ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم - كالبكم - ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يَرْجِعُونَ وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيا يستلزم البكم وأخر - العمى - لأنه كما قيل : شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة ، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط - حل بين العصا ولحائها ولو قدم - ولأهم تعلقه ب لا يُبْصِرُونَ أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر.
ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى : وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف : 142] وأخرى بدونها كما في قوله تعالى : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة : 196] لأن استلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج ، والفرع على أصله يقتضي الاقتران بالفاء وهو الشائع المعروف ، وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذ إلى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 172
التجوز ويكفي فيه الفرض وإن امتنع عادة كما في قوله :
أعلام ياقوت نشر ن على رماح من زبرجد
فيفرض هنا حصول الصمم ، والبكم ، والعمى لمن وقع في هاتيك الظلمة الشديدة المطبقة ، وقيل لا يبعد فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت فضلا عن ذلك ، ويؤيد كونها تتمته قراءة ابن مسعود حفصة أم المؤمنين رضي اللّه تعالى عنهم - «صما وبكما وعميا» - بالنصب فإن الأوصاف حينئذ تحتمل أن تكون مفعولا ثانيا لترك وفي ظلمات متعلقا به أو في موضع الحال ، ولا يُبْصِرُونَ حالا أو منصوبة على الحال من مفعول تركهم متعديا لاثنين أو لواحد أو منصوبة بفعل محذوف أعني أعني ، والقول بأنها منصوبة على الحال من ضمير لا يُبْصِرُونَ جهل بالحال ، وقريب منه في الذم من نصب على الذم إذ ذاك إنما يحسن حيث يذكر الاسم السابق ، وأما جعل هذه الجملة على القراءة المشهورة دعائية وفيها إشارة إلى ما يقع في الآخرة من قوله تعالى :
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء : 97] فنسأل اللّه تعالى العفو والعافية من ارتكاب مثله ونعوذ به من عمى قائله وجهله ، ومثله - بل أدهى وأمر - القول بأن جملة لا يَرْجِعُونَ كذلك ومتعلق - لا يرجعون - محذوف أي لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، وقد لا يقدر شيء ويترك على الإطلاق.
والوجهان الأولان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ والأخير على تقدير أن يكون من ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إلخ بأن يراد به أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة ، فالمراد هنا أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون ، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤوا منه ، والأعمى لا ينظر طريقا وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتا من صوب مرجعه فيهتدي به؟ والفاء للدلالة على أن اتصافهم بما تقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم كيف ما كانوا.
«ومن البطون» - صم «آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق إلهام القربة - بكم - عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب عجبا - عمي - عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه : وقال سيدي الجنيد قدس سره : صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة ما عرفوا وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ شروع في تمثيل لحالهم إثر تمثيل وبيان لكل دقيق منها وجليل فهم أئمة الكفر الذين تفننوا فيه وتفيؤوا ظلال الضلال بعد أن طاروا إليه بقدامى النفاق وخوافيه فحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال وتمد أطناب الاطناب في شرح أفعالهم ليكون أفعى لهم ونكالا بعد نكال وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا بد أن يوفى فيه حق كل من مقال الأطناب والإيجاز فماذا عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز. ولقد نعى سبحانه عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم العديمة المثيل وهو معطوف على الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ويكون النظم كمثل ذوي صيب «1» فيظهر مرجع ضمير الجمع فيما بعد وتحصل الملاءمة للمعطوف عليه والمشبه. وأو عند ذوي التحقيق لأحد الأمرين ويتولد منه في الخبر الشك والإبهام
___________
(1) ذكر مولانا الساليكوتي أن ذوي مقدر والكاف من كصيب زائدة لدخول مثل الأول عليها حكما ولا تقدير ، ونقل عن الرضى أن من مواقع زيادة الكاف دخول لفظ مثل عليه وزيادة حرف أهون من تقدير اسم لا سيما إذا رجحه قرب المعطوف عليه فتأمل وتدبر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 173
والتفصيل على حسب اعتبارات المتكلم ، وفي الإنشاء الإباحة والتخيير كذلك ، وحينئذ لا يلزم الاشتراك ولا الحقيقة والمجاز. وبعضهم يقول : إنها باعتبار الأصل موضوعة للتساوي في الشك وحمل على أنه فرد من أفراد المعنى الحقيقي ثم اتسع فيها فجاءت للتساوي من غير شك كما - فيما نحن فيه - على رأي إذا المعنى مثل بأي القصتين شئت فهما سواء في التمثيل ولا بأس لو مثلت بهما جميعا وإن كان التشبيه الثاني أبلغ لدلالته على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذا أخر ليتدرج من الأهون إلى الأهول ، وزعم بعضهم أن «أو» هنا بمعنى الواو وما في الآيتين تمثيل واحد ، وقيل : بمعنى بل ، وقيل : للإبهام ، والكل ليس بشيء ، نعم اختار أبو حيان أنها للتفصيل وكأن من نظر إلى حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد ، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب مدعيا أن الإباحة - وكذا التخيير - لا يكونان إلا في الأمر أو ما في معناه انتهى. ولا يخفى على من نظر في معناه وحقق ما معناه أن ما نحن فيه داخل في الشق الثاني على أن دعوى الاختصاص مما لم يجمع عليه الخواص ، فقد ذكر ابن مالك أن أكثر ورود أو للإباحة في التشبيه نحو فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة : 74] والتقدير نحو فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم : 9] - والصيب - في المشهور المطر من صاب يصوب إذا نزل وهو المروي هنا عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم رضي اللّه تعالى عنهم. ويطلق على السحاب أيضا كما في قوله :
حتى عفاها صيب ودقه داني النواحي مسبل هاطل
ووزنه فيعل - بكسر العين - عند البصريين وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل - بكسر القاف - علم لامرأة ، والبغداديون يفتحون العين ، وهو قول تسد الأذن عنه ، وقريب منه قول الكوفيين إن أصله فعيل كطويل فقلب ، وهل اسم جنس أو صفة ، بمعنى نازل أو منزل؟ قولان أشهرهما الأول ، وأكثر نظائره في الوزن من الثاني ، وقرى ء - أو كصائب - وصيب أبلغ منه ، والتنكير فيه للتنويع والتعظيم ، والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه والمعروفة عند خواص أهل الأرض والمرئية عند عوامهم ، وأصلها الواو من السمو وهي مؤنثة «1» وقد تذكر كما في قوله :
فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب
وتلحقها هاء التأنيث فتصح الواو حينئذ كما قاله أبو حيان لأنها بنيت عليها الكلمة فيقال سماوة وتجمع على سماوات وأسمية وسمائي ، والكل - كما في البحر - شاذ لأنها اسم جنس وقياسه أن لا يجمع ، وجمعه بالألف والتاء خال عن شرط ما يجمع بهما قياسا ، وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث ، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال.
والمراد بالسماء هنا الأفق والتعريف للاستغراق لا للعهد الذهني كما ينساق لبعض الأذهان فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها فيشعر بقوة المصيبة مع ما فيه من تمهيد الظلمة ولهذا القصد ذكرها ، وعندي أن الذكر يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعالى : يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج : 19] وكثيرا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك والعيان والوجدان أقوى شاهد على ما قلنا. ومِنَ لابتداء الغاية ، وقيل : يحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف أي من أمطار السماء وليس بشيء ، وزعم بعضهم أن الآية تبطل ما قيل : إن المطر من أبخرة متصاعدة من السفل - وهو من أبخرة الجهل - إذ ليس في الآية سوى أن المطر من هذه
___________
(1) والتأنيث لأهل الحجاز والتذكير للتميميين وأهل نجد ، وكذا شأنهم في الجنس الذي ميز واحده بتاء تؤنثه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 174
الجهة وهو غير مناف لما ذكر ، كيف والمشاهدة تقضي به فقد حدثني من بلغ مبلغ التواتر أنهم شاهدوا - وهم فوق الجبال الشامخة - سحابا يمطر أسفلهم وشاهدوا تارات أبخرة تتصاعد من نحو الجبال فتنعقد سحابا فيمطر ، فإياك أن تلتفت لبرق كلام خلب ولا تظن أن ذلك علم فالجهل منه أصوب ، ثم حمل - الصيب - هنا على السحاب وإن كان محتملا غير أنه بعيد بعد الغمام وكذا حمل السماء عليه فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أي معه ذلك كما في قوله تعالى : ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ [الأعراف : 38] وإذا حملت «في» على الظرفية - كما هو الشائع في كلام المفسرين - احتيج إلى حمل الملابسة التي تقتضيها الظرفية على مطلق الملابسة الشاملة للسببية والمجاورة وغيرهما ففيه بذلك المعنى ظلمات ثلاث. ظلمة تكاثفه بتتابعه. وظلمة غمامه مع ظلمة الليل التي يستشعرها الذوق من قوله تعالى :
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وكذا فيه رعد وبرق لأنهما في منشئه ومحل ينصب منه ، وقيل : فيه - وهو كما قال الشهاب - وهم نشأ من عدم التدبر ، وإن كان المراد - بالصيب - السحاب فأمر الظرفية أظهر ، والظلمات حينئذ ظلمة السحمة والتطبيق مع ظلمة الليل ، وجمع الظلمات على التقديرين مضيء ، ولم يجمع الرعد والبرق وإن كانا قد جمعا في لسان العرب ، وبه تزداد المبالغة وتحصل المطابقة مع الظلمات والصواعق لأنهما مصدران في الأصل ، وإن أريد بهما العينان هنا كما هو الظاهر ، والأصل في المصدر أن لا يجمع على أنه لو جمعا لدل ظاهرا على تعدد الأنواع كما في المعطوف عليه ، وكل من الرعد والبرق نوع واحد. وذكر الشهاب مدعيا أنه مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر نكتة سرية في إفرادهما هنا وهي أن الرعد - كما ورد في الحديث وجرت به العادة - يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد لم يكن السحاب مطبقا فتزول شدة ظلمته وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يشير إليه قوله تعالى : كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ فافرادهما متعين هنا. وعندي - وهو من أنوار العناية المشرقة على آفاق الأسرار - أن النور لما لم يجمع في آية من القرآن - لما تقدم - لم يجمع البرق إذ ليس هو بالبعيد عنه كما يرشدك إليه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ والرعد مصاحب له فانعكست أشعته عليه.
أوما ترى الجلد الحقير مقبلا بالثغر لما صار جار المصحف
وارتفاع ظلمات إما على الفاعلية للظرف المعتمد على الموصوف أو على الابتدائية والظرف خبره - وجعل الظرف حالا من النكرة المخصصة وظلمات فاعله - لا يخلو عن ظلمة البعد كما لا يخفى. وللناس في الرعد والبرق أقوال : والذي عول عليه أن الأول صوت زجر الملك الموكل بالسحاب ، والثاني لمعان مخاريقه التي هي من نار ، والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحار والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد ، وقد تشتعل منه - لشدة حركته ومحاكته - نار لامعة وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت ، وربما كان البرق سببا للرعد فإن الدخان المشتعل ينطفىء في السحاب فيسمع لانطفائه صوت كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا ، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال لأن الإبصار لا يحتاج إلا إلى المحاذاة من غير حجاب ، والرعد يسمع بعد لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة وذلك يستدعي زمانا كذا قالوه ، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسرى به ليلا - بلا رعد ولا برق - على ظهر البراق وعرج إلى ذي المعارج حيث لا زمان ولا مكان فرجع وهو أعلم خلق اللّه على الإطلاق صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأنا بحول من عز حوله وتوفيق من غمرني فضله أوفق لك بما يزيل الغين عن العين

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 175
ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد الكونين صلى اللّه تعالى عليه وسلم.
فأقول : قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة - مما شاهدوه في أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضتهم وكذا عند سائر المتألهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس وغيرهم - أن لكل نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها ربا هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لامتناع صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لا شعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها ، فجميع هذه الأفعال من الأرباب إلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى صلى اللّه تعالى عليه وسلم
بقوله : «وإن لكل شيء ملكا» حتى قال : «إن كل قطرة من القطرات ينزل معها ملك» وقال : «أتاني ملك الجبال وملك البحار»
وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات البدنية وشاهدها ، وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره في تفسيره الفاتحة أنه ما ثم صورة إلا ولها روح ، وأطال أهل اللّه تعالى الكلام في ذلك ، فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال : أراد صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب - في بيان الرعد - هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب استعداده وقابليته ، وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير ، وأراد بالمخاريق - في بيان البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان بعضهم بعضا - الآلة التي يحصل بواسطتها الشق ، ولا شك أنها كما قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكّة فظهرت كما ترى ، وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير ما ورد من هذا القبيل حتى قولهم : إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه ، وإن كان بحسب الظاهر مما يضحك منه ، ولم أر أحدا وفق فوفق وتحقق فحقق واللّه تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيرا ما يلتفت إليه كما في قوله تعالى : وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف : 4].
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقال : يَجْعَلُونَ إلخ ، وجوزوا وجوها أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي يكاد كونها صفة صيب بتأويل نحو - لا يطيقونه - أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه ، والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه ، والجعل في الأصل الوضع. والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك ، وحكوا عاشرة وهي أصبوع بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإبهام فبعض بني أسد يذكّرها والتأنيث أجود ، وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه «أحدها» نسبة الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل «وثانيها» من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبع كانت ولا يسلكون المسلك المعهود «ثالثها» في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه ، وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه أو للتجوز في الجعل؟ أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل فيه خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور. وابن مالك وجماعة على الأخير ظنا منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة ، وقيل : لا مجاز هنا أصلا لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه كما يقال : دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل فإن ذلك حقيقة مع أن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 176
الدخول والمجيء والمسح في بعض - البلد والليلة ، والمنديل - ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على إطلاقه ، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر ومِنَ تعليلية تغني غناء اللام في المفعول له وتدخل على الباعث المتقدم والغرض المتأخر وهي متعلقة ب يَجْعَلُونَ وتعلقها بالموت بعيد - أي يجعلون - من أجل الصواعق وهي جمع صاعقة ولا شذوذ ، والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث أو للمبالغة إن لم تقدر - كراوية - أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية - كحقيقة - وقيل : إنها مصدر كالعافية والعاقبة وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد ، والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، وقد يكون معه جرم حجري أو حديدي ، وسد الآذان إنما ينفع على المعنى الأول ، وقد يراد المعنى الثاني ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط دهشتهم حيث يظنون ما لا ينفع نافعا ، وقرأ الحسن من الصواقع وهي لغة بني تميم كما في قوله :
ألم تر أن المجرمين أصابهم صواقع لا بل هن فوق الصواقع
وليس من باب القلب على الأصح إذ علامته كون أحد البناءين فائقا للآخر ببعض وجوه التصريف والبناءان هنا مستويان في التصرف. وحَذَرَ الْمَوْتِ نصب على العلة ل يَجْعَلُونَ وإن كان من الصواعق في المعنى مفعولا له كان هناك نوعان منصوب ومجرور ، ولزوم العطف في مثله غير مسلم خلافا لمن زعمه ولا مانع من أن يكون علة له مع علته كما أن من الصواعق علة له نفسه ، وورد مجيء المفعول له معرفة وإن كان قليلا كما في قوله :
وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وجعله مفعولا مطلقا لمحذوف أي يحذرون - حذر الموت - بعيد. وقرأ قتادة والضحاك وابن أبي ليلى - حذار - وهو كحذر شدة الخوف. والموت في المشهور زوال الحياة عما يتصف بها بالفعل وإطلاقه على العدم السابق في قوله سبحانه : وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة : 28] مجاز ولا يرد قوله تعالى : خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك : 2] إذ الخلق فيه بمعنى التقدير وتعيين المقدار بوجه ما وهو مما يوصف به الموجود والمعدوم لأن العدم كالوجود له مدة ومقدار معين عنده تعالى ، وقيل : المراد بخلق الموت إحداث أسبابه ، وقيل : إنه العدم مطلقا وإن لم يكن مخلوقا إلا أن إعدام الملكات مخلوقة لما فيها من شائبة التحقق بمعنى أن استعداد الموضوع معتبر في مفهومها وهو أمر وجودي فيجوز أن يعتبر تعلق الخلق والإيجاد باعتبار ذلك ، وصحح محققو أهل السنة أن الموت صفة وجودية خلقت ضدا للحياة ، ولهذا يظهر كما
في الحديث «يوم تتجسد المعاني - كما قال أهل اللّه تعالى - بصورة كبش أملح»
ويصير عدما محضا إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط فإحاطته تعالى به مجاز تشبيها لحال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور أصلا بإحاطة المحيط بالمحاط بحيث لا يفوته فيكون في الإحاطة استعارة تبعية وإن شبه حاله تعالى - وله المثل الأعلى - معهم بحال المحيط مع المحاط بأن تشبه هيئة منتزعة من عدة أمور بمثلها كان هناك استعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها إلا أنه صرح بالعمدة منها وقدر الباقي فافهم. وجوز أبو علي في مُحِيطٌ أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى :
وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة : 81] أو عالم علم مجازاة كما في قوله تعالى : وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ [الجن : 28] وكل هذا من الظاهر ، ولأهل الشهود كلام - من ورائه محيط - والواو اعتراضية لا عاطفة ولا حالية والجملة معترضة بين جملتين من قصة واحدة وفيها تتميم للمقصود من التمثيل بما تفيده من المبالغة لأن - الكافرين - وضع موضع الضمير وعبر به إشعارا باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم فيكون الكلام على حد قوله تعالى : ثَلُ ما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 177
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
[آل عمران :
117] فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدفع الحذر القدر. وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر. وجعل الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد بِالْكافِرِينَ المنافقون ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لاظهار كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه الذوق السليم يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استئناف آخر بياني كأنه قيل : فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقال يَكادُ إلخ ، وفي البحر يحتمل أن يكون في موضع جر لذوي المحذوفة فيما تقدم - ويكاد - مضارع كاد من أفعال المقاربة وتدل على قرب وقوع الخبر وأنه لم يقع والأول لوجود أسبابه والثاني لمانع أو فقد شرط على ما تقضي العادة به ، والمشهور أنها إن نفيت أثبتت وإن أثبتت نفت وألغزوا بذلك ، ولم يرتض هذا أبو حيان وصحح أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات ، واللام - في البرق للعهد إشارة إلى ما تقدم - نكرة ، وقيل : إشارة إلى البرق الذي مع الصواعق أي برقها وهو كما ترى وإسناد الخطف وهو في الأصل الأخذ بسرعة أو الاستلاب إليه من باب إسناد الإحراق إلى النار وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيقه قريبا. والشائع في خبر - كاد - أن يكون فعلا مضارعا غير مقترن بأن المصدرية الاستقبالية أما المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب حتى كأنه لشدة قربه وقع وأما أنه غير مقترن - بأن - فلمنا فاتها لما قصدوا ونحو - وأبت إلى فهم وما كدت آئبا. وكاد الفقر أن يكون كفرا ، وقد كاد - من طول البلى أن يمحصا - قليل. وقرأ مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب «يخطف» بكسر الطاء والفتح أفصح.
وعن ابن مسعود «يختطف» - وعن الحسن «يخطف» - بضم الياء وفتح الخاء وأصله يختطف فأدغم التاء في الطاء.
وعن عاصم وقتادة والحسن أيضا - «يخطّف» - بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وعن الحسن أيضا والأعمش - «يخطّف» - بكسر الثلاثة والتشديد وعن زيد - «يخطّف» - بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة وهو تكثير مبالغة لا تعدية ، وكسر الطاء في الماضي لغة قريش ، وهي اللغة الجيدة.
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا استئناف ثالث كأنه لما قيل إنهم مبتلون باستمرار تجدد خطف الأبصار فهم منه أنهم مشغولون بفعل ما يحتاج إلى الأبصار ساعة فساعة وإلا لغطوها كما سدوا الآذان ، فسئل وقيل : ما يفعلون في حالتي وميض البرق وعدمه؟ فأجيب بأنهم حراص على المشي - كما أضاء لهم - اغتنموه - ومشوا وإذا أظلم عليهم - توقفوا مترصدين. وكُلَّما في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية وناصبها «ما» هو جواب معنى. و«ما» حرف مصدري أو اسم نكرة بمعنى وقت فالجملة بعدها صلة أو صفة وجعلت شرطا لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموما بدليا ولهذا أفادت - كما - التكرار كما صرح به الأصوليون وذهب إليه بعض النحاة واللغويين واستفادة التكرار من إِذا وغيرها من أدوات الشرط من القرائن الخارجية على الصحيح ، ومن ذلك قوله :
إذا وجدت أوار الحب من كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
وزعم أبو حيان أن التكرار الذي ذكره الأصوليون وغيرهم في كُلَّما إنما جاء من عموم كل لا من وضعها وهو مخالف للمنقول والمعقول ، وقد استعملت هنا في لازم معناها كناية أو مجازا وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه ولذا قال مع الإضاءة كُلَّما ومع الاظلام إِذا وقول أبي حيان : إن التكرار متى فهم من كُلَّما هنا لزم منه التكرار في «إذا» إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام ومتى وجد «ذا» فقد ذا فلزم من تكرار وجود «ذا» تكرار عدم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 178
ذا غفلة عما أرادوه من هذا المعنى الكنائي والمجازي. وأضاء إما متعد كما في قوله :
أعد نظرا يا عبد قيس لعلما أضاءت لك النار الحمار المقيدا
والمفعول محذوف أي كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ ممشي مَشَوْا فِيهِ وسلكوه ، وإما لازم ويقدر حينئذ مضافان - أي كلما لمع لهم - مشوا في مطرح ضوئه ولا بد من التقدير إذ ليس المشي في البرق بل في محله وموضع إشراق ضوئه وكون «في» للتعليل والمعنى مشوا الأجل الإضاءة فيه يتوقف فيه من له ذوق في العربية ، ويؤيد اللزوم قراءة ابن أبي عبلة ضاء ثلاثيا ، وفي مصحف ابن مسعود بدل - مشوا فيه - مضوا فيه ، وللإشارة إلى ضعف قواهم لمزيد خوفهم ودهشتهم لم يأت سبحانه بما يدل على السرعة ، ولما حذف مفعول أضاء وكانت النكرة أصلا أشار إلى أنهم لفرط الحيرة كانوا يخبطون خبط عشواء ويمشون كل ممشى ، ومعنى أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ اختفى عنهم ، والمشهور استعمال أظلم لازما ، وذكر الأزهري - وناهيك به - في التهذيب أن كل واحد من أوصاف الظلم يكون لازما ومتعديا ، وعلى احتمال التعدي هنا ويؤيده قراءة زيد بن قطيب والضحاك أَظْلَمَ بالبناء للمفعول مع اتفاق النحاة على أن المطرد بناء المجهول من المتعدي بنفسه يكون المفعول محذوفا أي - إذا أظلم - البرق بسبب خفائه معاينة الطريق قامُوا أي وقفوا عن المشي ويتجوز به عن الكساد ومنه قامت السوق ، وفي ضده يقال : مشت الحال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ عطف على مجموع الجمل الاستئنافية ولم يجعلوها معطوفة على الأقرب ومن تتمته لخروجها عن التمثيل وعدم صلاحيتها للجواب ، وعطف ما ليس بجواب على الجواب ليس بصواب وجوزه بعض المحققين إذ لا بأس بأن يزاد في الجواب ما يناسبه وإن لم يكن له دخل فيه بل قد يستحسن ذلك إذا اقتضاه المقام كما في وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه : 17] الآية وكونها اعتراضية أو حالية من ضمير قامُوا بتقدير المبتدأ أو
معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفواصل اللفظية ، والمقدرة فضول عند ذوي الفضل ، والقول بأنه أتى بها لتوبيخ المنافقين حيث لم ينتهوا لأن من قدر على إيجاد قصيف الرعد ووميضه وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم أفلا يرجعون عن ضلالهم محل للتوبيخ إذ لا يصح عطف الممثل له على حال الممثل به ، ومفعول شاء هنا محذوف وكثيرا ما يحذف «1» مفعولها إذا وقعت في حيز الشرط ولم يكن مستغربا ، والمعنى ولو أراد اللّه إذهاب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب ، ولتقدم ما يدل على التقييد من يَجْعَلُونَ ويَكادُ قوى دلالة السياق عليه وأخرجه من الغرابة ، ولك أن لا تقيد ذلك المفعول وتقيد الجواب كما صنعه الزمخشري أو لا تقيد أصلا ، ويكون المعنى لو أراد اللّه إذهاب هاتيك القوى أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم ما صنعوه ، والمشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء ، وقيل : أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته وإن استعمل عرفا في موضع الإرادة ، وقرأ ابن أبي عبلة - لأذهب اللّه بأسماعهم - وهي محمولة على زيادة الباء لتأكيد التعدية أو على أن - أذهب - لازم بمعنى ذهب كما قيل بنحوه في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون : 20] وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة : 195] إذ الجمع بين أداتي تعدية لا يجوز ، وبعضهم يقدر له مفعولا - أي لأذهبهم - فيهون الأمر «2» وكلمة لَوْ لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض هو الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضة الشرط دلالتها على انتفائه
___________
(1) ومثل شاء أراد ا ه منه.
(2) وقريب من هذا المعنى ما قيل في القراءة المشهور : إن معنى ذهب اللّه بسمعهم وأبصارهم - أهلكهم - لأن في إهلاكهم ذهاب ذلك وهو معنى قريب بعيد ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 179
قطعا والمنازع فيه مكابر ، وأما دلالتها على انتفاء الجزاء فقد قيل وقيل : والحق أنه إن كان ما بينهما من الدوران قد بنى الحكم على اعتباره فهي دالة عليه بواسطة مدلولها ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول. أما في الدوران الكلي كالذي في قوله تعالى : شأنه وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ [النحل : 9] وقولك لو جئتني لأكرمتك فظاهر ، ثم إنه قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في المثالين ، وهو الاستعمال الشائع في لَوْ ولذا قيل : إنها لامتناع الثاني لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهرا أو مسلما على انتفاء الأول لكونه بعكسه كما في قوله تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء : 22] ولَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف : 11] واللزوم في الأول حقيقي وفي الثاني ادعائي ، وكذا انتفاء الملزومين وليس هذا بطريق السببية الخارجية بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول. ومن لم يتنبه زعم أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثاني. وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك : لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط بالشرط ليس وجود أي ضوء بل وجود الضوء الخاص الناشئ من الطلوع ولا ريب في انتفائه بانتفائه هذا إذا بني الحكم على اعتبار الدوران وإن بني على عدمه فأما أن يعتبر تحقق مدار آخر له أو لا ، فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال ذلك المدار فإن كان بينه وبين الانتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت : لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء فإن وجود الضوء معلق في الحقيقة بسبب آخر هو المدار ووضع عدم الطلوع موضعه لكونه كاشفا عنه فكأنه قيل : لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بالقمر مثلا.
ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند انتفاء الشرط لاستحالة الضوء القمري عند طلوع الشمس ، وإن لم يكن بينهما منافاة تعين عدم الدلالة
كحديث «لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي «1» من الرضاعة»
فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط - أعني كونها ابنة الأخ - غير مناف لانتفائه الذي هو كونها ربيبته بل مجامع له ، ومن ضرورته مجامعة أثريهما أعني الحرمة الناشئة من هذا ، وهذا وإن لم يعتبر تحقق مدار آخر بل بني الحكم على اعتبار عدمه فلا دلالة لها على ذلك أصلا ، ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع ما لا ينافيه بالأولى كما في قوله تعالى : «2» قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ [الإسراء : 100] فإن الجزاء قد نيط بما ينافيه إيذانا بأنه في نفسه بحيث يجب ثبوته مع فرض انتفاء سببه أو تحقق سبب انتفائه فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لَوْ الوصلية
«ونعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه»
إن حمل على تعليق عدم العصيان في ضمن عدم الخوف بمدار آخر كالحياء مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث الربيبة ، وإن حمل على بيان استحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل ، والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائع مفيدة لفظاعة حالهم وهول ما دهمهم وأنه قد بلغ الأمر إلى حيث لو تعلقت مشيئة اللّه تعالى بإزالته قواهم لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاء تاما. وقيل : كلمة لَوْ فيها - لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر - بمنزلة أن ، ذكر جميع ذلك مولانا مفتي الديار الرومية وأظنه قد أصاب الغرض إلا أن كلام مولانا الساليكوتي يشعر باختيار أن لَوْ موضوعة لمجرد تعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فيه من غير دلالة على انتفاء
___________
(1) هي بنت أبي سلمة ا ه.
(2) ومثله
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من فارس» ،
وقول علي كرم اللّه تعالى وجهه : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا
أه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 180
الأول أو الثاني أو على استمرار الجزاء بل جميع هذه الأمور خارجة عن مفهومها مستفادة بمعونة القرائن كيلا يلزم القول بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز من غير ضرورة ، وبه قال بعضهم ، وما ذهب إليه ابن الحاجب من أنها للدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني من لوازم هذا المفهوم وكونه لازما لا يستلزم الإرادة في جميع الموارد فإن الدلالة غير الإرادة.
وذكر أن ما قالوه من أنها لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فرضا مع القطع بانتفائه فيلزم لأجل انتفائه انتفاء ما علق به فيفيد أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول فيه مع توقفه على كون انتفاء الأول مأخوذا في مدخولها ، وقد عرفت أنه يستلزم خلاف الأصل يرد عليه أن المستفاد من التعلق على أمر مفروض الحصول إبداء المانع من حصول المعلق في الماضي وأنه لم يخرج من العدم الأصلي إلى حد الوجود وبقي على حاله لارتباط وجوده بأمر معدوم ، وأما إن انتفاءه سبب لانتفائه في الخارج فكلا كيف والشرط النحوي قد يكون مسببا مضافا للجزاء؟ نعم إن هذا مقتضى الشرط الاصطلاحي ، وما استدل به العلامة التفتازاني على إفادتها السببية الخارجية من قول الحماسي :
ولو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر
لأن استثناء المقدم لا ينتج ، ففيه أن اللازم مما ذكر أن لا تكون مستعملة للاستدلال بانتفاء الأول على انتفاء الثاني ولا يلزم منه أن لا تكون مستعملة لمجرد التعليق لإفادة إبداء المانع مع قيام المقتضى كيف ولو كان معناها إفادة سببية الانتفاء للانتفاء كان الاستثناء تأكيدا وإعادة بخلاف ما إذا كان معناها مجرد التعليق فإنه يكون إفادة وتأسيسا ، وهذا محصل ما قالوه ردا وقبولا. وزبدة ما ذكروه إجمالا وتفصيلا. ومعظم مفتي أهل العربية أفتوا بما قاله مفتي الديار الرومية ، ولا أوجب عليك التقليد فالأقوال بين يديك فاختر منها ما تريد.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كالتعليل للشرطية والتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إذهاب ما ذكر لأن القادر على الكل قادر على البعض. والشيء لغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كما نص عليه سيبويه ، وهو شامل للمعدوم والموجود الواجب والممكن وتختلف إطلاقاته ، ويعلم المراد منه بالقرائن فيطلق تارة ، ويراد به جميع أفراده كقوله تعالى : وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة : 282 ، النساء : 176 ، النور : 18 ، 64 ، التغابن : 11] بقرينة إحاطة العلم الإلهي بالواجب والممكن المعدوم والموجود والمحال الملحوظ بعنوان ما ، ويطلق ويراد به الممكن مطلقا كما في الآية الكريمة بقرينة القدرة التي لا تتعلق إلا بالممكن ، وقد يطلق ويراد به الممكن الخارجي الموجود في الذهن كما في قوله تعالى : وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف : 23 ، 24] بقرينة كونه متصورا مشيئا فعله غدا ، وقد يطلق ويراد به الممكن المعدوم الثابت في نفس الأمر كما في قوله تعالى : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل : 40] بقرينة إرادة التكوين التي تختص بالمعدوم ، وقد يطلق ويراد به الموجود الخارجي كما في قوله تعالى : وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم : 9] أي موجودا خارجيا لامتناع أن يراد نفي كونه شيئا بالمعنى اللغوي الأعم الشامل للمعدوم الثابت في نفس الأمر لأن كل مخلوق فهو في الأزل شي ء - أي معدوم - ثابت في نفس الأمر وإطلاق الشيء عليه قد قرر ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يعدل عنه إلا لصارف ولا صارف.
وشيوع استعماله في الموجود لا ينتهض صارفا إذ ذاك إنما هو لكون تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاصه به لغة ، وما ذكره مولانا البيضاوي من اختصاصه بالموجود - لأنه في الأصل مصدر شاء - أطلق بمعنى شاء تارة وحينئذ يتناول الباري تعالى وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء وجوده إلخ ففيه - مع ما فيه - أنه يلزمه في قوله تعالى : وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ استعمال المشترك في معنييه لأنه إذا كان بمعنى الشائي لا يشمل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 181
نحو الجمادات عنده ، وإذا كان بمعنى المشيء وجوده لا يشمل الواجب تعالى شأنه ، وفي استعمال المشترك في معنييه خلاف «1» ولا خلاف في الاستدلال بالآية على إحاطة علمه تعالى. وأما ما ذكر في شرحي المواقف والمقاصد فجعجعة ولا أرى طحنا ، وقعقعة ولا أرى سلاحا تقنا. وقد كفانا مؤنة الإطالة في رده مولانا الكوراني قدس سره ، والنزاع في هذا وإن كان لفظيا والبحث فيه من وظيفة أصحاب اللغة إلا أنه يبتني على النزاع في أن المعدوم الممكن ثابت أولا ، وهذا بحث طالما تحيرت فيه أقوام وزلت فيه أقدام. والحق الذي عليه العارفون الأول لأن المعدوم الممكن - أي ما يصدق عليه هذا المفهوم - يتصور ويراد بعضه دون بعض ، وكل ما هو كذلك فهو متميز في نفسه من غير فرض الذهن ، وكل ما هو كذلك فهو ثابت ومتقرر في خارج أذهاننا منفكا عن الوجود الخارجي فما هو إلا في نفس الأمر. والمراد به علم الحق تعالى باعتبار عدم مغايرته للذات الأقدس فإن لعلم الحق تعالى اعتبارين «أحدهما» أنه ليس غيرا «والثاني» أنه ليس عينا ، ولا يقال بالاعتبار الأول - العلم تابع للمعلوم - لأن التبعية نسبة تقتضي متمايزين ولو اعتبارا ، ولا تمايز عند عدم المغايرة ، ويقال ذلك بالاعتبار الثاني للتمايز النسبي المصحح للتبعية ، والمعلوم الذي يتبعه العلم هو ذات الحق تعالى بجميع شؤونه ونسبه واعتباراته.
ومن هنا قالوا : علمه تعالى بالأشياء أزلا عين علمه بنفسه لأن كل شيء من نسب علمه بالاعتبار الأول فإذا علم الذات لجميع نسبها فقد علم كل شيء من عين علمه بنفسه ، وحيث لم يكن الشريك من نسب العلم بالاعتبار الأول إذ لا ثبوت له في نفسه من غير فرض إذ الثابت كذلك هو أنه تعالى لا شريك له فلا يتعلق به العلم بالاعتبار الثاني ابتداء ، ومتى كان تعلق العلم بالأشياء أزليا لم تكن أعداما صرفة إذ لا يصح حينئذ أن تكون طرفا إذ لا تمايز ، فإذا لها تحقق بوجه ما ، فهي أزلية بأزلية العلم ، فلذا لم تكن الماهيات بذواتها مجعولة لأن الجعل تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت ، فالثبوت متقدم على الجعل بمراتب فلا تكون من حيث الثبوت أثرا للجعل وإلا لدار ، وإنما هي مجعولة في وجودها ، لأن العالم حادث وكل حادث مجعول وليس الوجود حالا حتى لا تتعلق
به القدرة ، ويلزم أن لا يكون الباري تعالى موجدا للممكنات ولا قادرا عليها لأنه قد حقق أن الوجود بمعنى ما - بانضمامه إلى الماهيات الممكنة - يترتب عليها آثارها المختصة بها موجود ، أما أولا فلأن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجودا بأمر ينضم إليه وهو الوجود ، فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد وإلا لتسلسل ، وامتيازه عما عداه بأن وجوده ليس زائدا على ذاته ، وأما ثانيا فلأنه لو لم يكن موجودا لم يوجد شيء أصلا لأن الماهية الممكنة قبل انضمام الوجود متصفة بالعدم الخارجي فلو كان الوجود معدوما كان مثلها محتاجا لما تحتاجه فلا يترتب على الماهية بضمه آثارها لأنه على تقدير كونه معدوما ليس فيه بعد العدم إلا افتقاره إلى الوجود وهذا بعينه متحقق في الماهية قبل الضم فلا يحدث لها بالضم وصف لم تكن عليه ، فلو كان هذا الوجود المفتقر مفيدا - لترتب الآثار - لكانت الماهية مستغنية عن الوجود حال افتقارها إليه واللازم باطل لاستحالة اجتماع النقيضين فلا بد أن يكون الوجود موجودا بوجود هو نفسه وإلا لتسلسل أو انتهى إلى وجود موجود بنفسه. والأول باطل ، والثاني قاض بالمطلوب. نعم الوجود بمعنى الموجودية حال لأنه صفة اعتبارية ليست بعرض ولا سلب ، ومع هذا يتعلق به الجعل لكن لا ابتداء بل بضم حصة من الوجود الموجود إلى الماهية فيترتب على ذلك اتصاف الماهية بالموجودية وظاهر أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالوجود بمعنى الموجودية ابتداء أن لا تتعلق به بوجه آخر ، وإذا تبين أن الماهيات مجعولة في وجودها فلا بد أن يكون وجود كل شيء عين حقيقته ، بمعنى أن ما صدق عليه حقيقة الشيء من الأمور الخارجية
___________
(1) والإمام الغزالي لا يقول باستعمال المشترك في معنييه واستدل في قواعد العقائد بالآية على عموم علمه تعالى ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 182
هو بعينه ما صدق عليه وجوده ، وليس لهما هويتان متمايزتان في الخارج كالسواد والجسم إذ الوجود إن قام بالماهية معدومة لزم التناقض ، وموجودة لزم وجودان مع الدور أو التسلسل ، والقول بأن الوجود ينضم إلى الماهية من حيث هي لا تحقيق فيه ، إذ تحقق في محله أن الماهية قبل عروض الوجود متصفة في نفس الأمر بالعدم قطعا لاستحالة خلوها عن النقيضين فيه ، غاية الأمر أنا إذا لم نعتبر معها العدم لا يمكن أن نحكم عليها بأنها معدومة ، وعدم اعتبارنا العدم معها حين عروض الوجود لا يجعلها منفكة عنه في نفس الأمر وإنما يجعلها منفكة عنه باعتبارنا وضم الوجود أمر يحصل لها باعتبار نفس الأمر لا من حيث اعتبارنا ، فخلوها عن العدم باعتبارنا لا يصحح اتصافها بالوجود من حيث هي هي في نفس الأمر سالما عن المحذور فإذا ليس هناك هويتان تقوم إحداهما بالأخرى بل عين الشخص في الخارج عين تعين الماهية فيه وهو عين الماهية فيه أيضا إذ ليس التعين أمرا وجوديا مغايرا بالذات للشخص منضما للماهية في الخارج ممتازا عنهما فيه مركبا منها ومن الفرد بل لا وجود في الخارج إلا للأشخاص ، وهي عين تعيينات الماهية وعين الماهية في الخارج لاتحادهما فيه ، وعلى هذا فلا شك في مقدورية الممكن إذ جعله بجعل حصته من الوجود المطلق الموجود في الخارج مقترنة بأعراض وهيئات يقتضيها استعداد حصته من الماهية النوعية فيكون شخصا ، وإيجاد الشخص من الماهية - على الوجه المذكور - عين إيجاد الماهية لأنهما متحدان في الخارج جعلا ووجودا متمايزان في الذهن فقط ، وهذا تحقيق قولهم : المجعول هو الوجود الخاص ، ولا يستعد معدوم لعروضه إلا إذا كان له ثبوت في نفس الأمر إذ ما لا ثبوت له - وهو المنفي - لا اقتضاء فيه لعروض الوجود بوجه ، وإلا لكان المحال ممكنا واللازم باطل ، فالثبوت الأزلي لماهية الممكن هو المصحح لعروض الإمكان المصحح للمقدورية لا أنه المانع كما توهموه ، هذا والبحث طويل والمطلب جليل ، وقد أشبعنا الكلام عليه - في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية - على وجه رددنا فيه كلام المعترضين المخالفين لما تبعنا فيه ساداتنا الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم ، وهذه نبذة يسيرة تنفعك في تفسير الآية الكريمة فاحفظها فلا أظنك تجدها في تفسير ، وحيث كان الشيء عاما لغة واصطلاحا عند أهل اللّه تعالى ، وإن ذهب إليه المعتزلة أيضا فلا بد في مثل ما نحن فيه من تخصيصه بدليل العقل بالممكن.
والقدرة عند الأشاعرة صفة ذاتية ذات إضافة تقتضي التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء لا نفس التمكن لأنه أمر اعتباري ولا نفي العجز عنه تعالى لأنه من الصفات السلبية ، ولعل من اختار ذلك اختاره تقليلا للصفات الذاتية ، أو نفيا لها «والقادر» هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، ولكون المشيئة عندنا صفة مرجحة لأحد طرفي المقدور ، وعند الحكماء - العناية الأزلية - ساغ لنا أن نعرفه بما ذكر دونهم خلافا لمن وهم فيه - والقدير - هو الفعال لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة ، وقلما يوصف به غيره تعالى ، والمقتدر إن استعمل فيه - تعالى - فمعناه «القدير» أو في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة ، واشتقاق القدرة من القدر بمعنى التحديد والتعيين ، وفي الآية دليل على أن الممكن الحادث حال بقائه مقدور لأنه شيء وكل شيء مقدور له تعالى ، ومعنى كونه مقدورا أن الفاعل إن شاء أعدمه وإن شاء لم يعدمه واحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر مما أجمع عليه من قال : إن علة الحاجة هي الإمكان ضرورة أن الإمكان لازم له حال البقاء وأما من قال : إن علة الحاجة الحدوث وحده أو مع الإمكان قال باستغنائه إذ لا حدوث حينئذ وتمسك في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البناء ، ولما رأى بعضهم شناعة ذلك قالوا : إن الجواهر لا تخلو عن الأعراض وهي لا تبقى زمانين فلا يتصور الاستغناء عن القادر سبحانه بحال ، وهذا مما ذهب إليه الأشعري - ولما فيه من مكابرة الحس ظاهرا - أنكره أهل الظاهر ، نعم يسلمه العارفون من أهل الشهود - وناهيك بهم - حتى إنهم زادوا على ذلك فقالوا : إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضا والناس في لبس من خلق جديد ، وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى اللّه الذي لا يتقيد بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان ، ثم المراد من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 183
ولباس إيمانهم
المبطن بالكفر المطرز بالخداع حذر القتل بحال ذوي مطر شديد فيه ما فيه يرقعون خروق آذانهم بأصابعهم حذر الهلاك إلى آخر ما علم من أوصافهم ، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم ، وقيل :
شبه سبحانه المنافقين بأصحاب الصيب ، وإيمانهم المشوب بصيب فيه ما تلى من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد كذا عاد نفعه ضرا ، ونفاقهم حذرا عن النكاية يجعل الأصابع في الآذان مما دها حذر الموت من حيث إنه لا يرد من القدر شيئا وتحيرهم لشدة ما عني وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن يخطف أبصارهم فحطوا يسيرا ثم إذا خفي بقوا متقيدين لا حراك لهم ، وقيل : جعل الإسلام - الذي هو سبب المنافع في الدارين - كالصيب الذي هو سبب المنفعة وما في الإسلام من الشدائد والحدود بمنزلة الظلمات والرعد وما فيه من الغنيمة والمنافع بمنزلة البرق فهم قد جعلوا أصابعهم في آذانهم من سماع شدائده وإذا لمع لهم برق غنيمة مشوا فيه وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بالشدائد قامُوا متحيرين ، وقيل : غير ذلك ، وما تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل غير خفي عليك إذا لمعت بوارق العناية لديك «ومن البطون» تشبيه من ذكر في التشبيه الأول بذوي صيب فيكون قوله تعالى : كُلَّما أَضاءَ إلخ إشارة إلى أنهم كلما وجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا عاجلا مَشَوْا فِيهِ وإذا حبس عليهم طريق الكرامات تركوا الطاعات ، وقال الحسين : إذا أضاء له مرادهم من الدنيا في الدين أكثروا من تحصيله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا متحيرين.
[سورة البقرة (2) : الآيات 21 إلى 28]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ لما بين سبحانه فرق المكلفين وقسمهم إلى مؤمنين وكفار ومذبذبين ، وقال في الطائفة الأولى : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وفي الثانية سَواءٌ عَلَيْهِمْ وفي الثالثة يُخادِعُونَ اللَّهَ وشرح ما ترجع إليه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 184
أحوالهم دنيا وأخرى فقال سبحانه في الأولى : أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة : 7] وفي الثانية خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة : 10] وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة : 7] وفي الثالثة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة : 10] وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة : 10] أقبل عز شأنه عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذيذ المخاطبة ويكفي للنكتة الوجود في البعض ، و«يا» حرف لا اسم فعل على الصحيح وضع لنداء البعيد ، وقيل : لمطلق النداء أو مشتركة بين أقسامه ، وعلى الأول ينادي بها القريب لتنزيله منزلة غيره إما لعلو مرتبة المنادي أو المنادى ، وقد ينزل غفلة السامع وسوء فهمه منزلة بعده ، وقد يكون ذلك للاعتناء بأمر المدعو له والحث عليه لأن نداء البعيد وتكليفه الحضور لأمر يقتضي الاعتناء والحث ، فاستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو استعارة تبعية في الحرف أو مكنية وتخييلية - وهو مع المنادى المنصوب لفظا أو تقديرا به لنيابته عن نحو ناديت الإنشائي أو بناديت اللازم الإضمار لظهور معناه مع قصد الإنشاء - كلام يحسن السكوت عليه كما يحسن في نحو «لا ، ونعم» و- أي - لها معان - شهيرة والواقعة في النداء نكرة موضوعة لبعض من كل ، ثم تعرفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه - أل - لأن «يا» لا يدخل عليها في غير اللّه إلا شذوذا لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا فيما شذّ من نحو :
فلا واللّه لا يلفى لما بي ولا للما بهم أبدا دواء
وأعطيت حكم المنادى وجعل المقصود بالنداء وصفا لها والتزم فيه هذه الحركة الخاصة المسماة بالضمة خلافا للمازني فإنه أجاز نصبه وليس له في ذلك سلف ولا خلف لمخالفته للمسموع وإنما التزم ذلك إشعارا بأنه المقصود بالنداء ولا ينافي هذا كون الوصف تابعا غير مقصود بالنسبة لمتبوعه لأن ذلك بحسب الوضع الأصلي حيث لم يطرأ عليه ما يجعله مقصودا في حد ذاته ككونه مفسرا لمبهم ومن هنا لم يشترطوا في هذا الوصف الاشتقاق مع أن النحويين - إلا النذر - كابن الحاجب اشترطوا ذلك في النعوت على ما بين في محله ، و«ها» التنبيهية زائدة لازمة للتأكيد والتعويض عما تستحق من المضاف إليه أو ما في حكمه من التنوين كما في أَيًّا ما تَدْعُوا [الإسراء : 110] وإن لم يستعمل هنا مضافا أصلا وكثر النداء في الكتاب المجيد على هذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيرا ما يقتضيه المقام بتكرر الذكر والإيضاح بعد الإبهام والتأكيد بحرف التنبيه واجتماع التعريفين.
هذا ما ذهب إليه الجمهور ، وقطع الأخفش - لضعف نظره - بأن «أيا» الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوبا لمناسبة التخفيف للمنادى - وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم - موصولة ، وندرة وقوعها موصوفة ، واعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه إذا حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم ، فحرف النداء على هذا يكون داخلا على مبني على الضم ولم يغيره ، وإن كان مضارعا للمضاف ، ويؤيد الأول عدم الاحتياج إلى الحذف وصدق تعريف النعت والموافقة مع هذا وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور ، نعم أورد عليه إشكال استصعبه بعض من سلف من علماء العربية وقال : إنه لا جواب له - وهو أن ما ادعوا كونه تابعا - معرب بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل يقتضي الرفع هناك لأن متبوعه مبني لفظا ومنصوب محلا فلا وجه لرفعه ، وأقول : إن هذا من الأبحاث الواقعة بين أبي نزار وابن الشجري ، وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء وليست ضمة إعراب لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة ، وكتب الشيخ منصور موهوب بن أحمد أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء ، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب ، وذلك لأن الواقع عليه النداء أي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 185
المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والاسم الواقع بعد وإن كان مقصودا بالنداء إلا أنه صفة أي فمحال أن يبنى أيضا لأنه مرفوع رفعا صحيحا ، ولهذا أجاز فيه المازني النصب على الموضع كما يجوز في «يا» زيد الظريف. وعلة الرفع أنه لما استمر الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل فأجريت صفته على اللفظ فرفعت ، وأجاب ابن الشجري بما أجاب به الشيخ وكتب أنها ضمة إعراب لأن ضمة المنادى المفرد لها - باطرادها - منزلة بين منزلتين فليست كضمة حيث لأنها غير مطردة لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد في نحو - خرج زيد - لأنها حدثت بعامل لفظي ولما اطردت الضمة في نحو - يا زيد يا عمرو - وكذلك اطردت في نحو - يا رجل يا غلام - إلى ما لا يحصى نزل الاطراد فيها منزلة العامل المعنوي الواقع للمبتدأ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدئ به مجردا عن عامل لفظي وجيء له بخبر - كعمرو منطلق ، وزيد ذاهب - إلى غير ذلك فلما استمرت ضمة المنادى في معظم الأسماء كما استمرت في الأسماء المعربة الضمة - الحادثة عن الابتداء - شبهتها العرب بضمة المبتدأ فأتبعها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو «يا زيد الطويل» وجمع بينهما أيضا أن الاطراد معنى كما في الابتداء كذلك ، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى مناسبة بينهما حتى أنهم قد حملوا أشياء على نقائضها ، ألا ترى أنهم أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ الحمد للّه - بضم اللام وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في نحو - يا زيد بن عمرو - في قول من فتح الدال من زيد؟! انتهى ملخصا ، وقد ذكر ذلك ابن الشجري في أماليه وأكثر في الحط على ابن نزار وبين ما وقع بينه وبينه مشافهة ، ولولا مزيد الإطالة لذكرته بعجره وبجره ، وأنت تعلم ما في ذلك كله من الوهن ، ولهذا قال بعض المحققين : إن الحق أنها حركة اتباع ومناسبة لضمة المنادى - ككسر الميم من غلامي - وحينئذ يندفع الإشكال كما لا يخفى على ذوي الكمال. بقي الكلام في اللام الداخلة على هذا النعت هل هي للتعريف أم لا؟ والذي عليه الجمهور - وهو المشهور - أنها للتعريف كما تقدمت الإشارة إليه ، ولما سئل عن ذلك أبو نزار قال : إنها هناك ليست للتعريف لأن التعريف لا يكون إلا بين اثنين في ثالث واللام فيما نحن فيه داخلة في اسم المخاطب ، ثم قال : والصحيح أنها دخلت بدلا من - يا ، وأي - وإن كان منادي إلا أن نداءه لفظي ، والمنادى على الحقيقة هو المقرون - بأل - ولما قصدوا تأكيد التنبيه - وقدروا تكرير حرف النداء - كرهوا التكرير فعوضوا عن حرف النداء ثانيا - ها - وثالثا - أل - وتعقبه ابن الشجري قائلا : إن هذا قول فاسد بل اللام هناك لتعريف الحضور كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل مثلا ولكنها لما دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا يا أيها الرجل معناه يا رجل ، ولما كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب فاكتفى باثنين لأن أسماء الخطاب لا تفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث ، ألا ترى أن قولك خرجت يا هذا وانطلقت وأكرمتك لا حاجة به إلى ثالث؟ وليس كل وجوه التعريف يقتضي أن يكون بين إثنين في ثالث فإن ضمير المتكلم في - أنا خرجت - معرفة إجماعا ولا يتوقف تعريفه على حضور ثالث ، وأيضا ما قص من حديث التعويض يستدعي بظاهره أن يكون أصل يا أيها الرجل مثلا «يا أي يا يا رجل» وأنهم عوضوا من - يا - الثانية - ها - ومن الثالثة الألف واللام ، وأنت تعلم أن هذا مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجه السمع وينكره الطبع فليفهم.
والنَّاسُ اسم جمع على ما حققه جمع ، والجموع وأسماؤها المحلاة - بال - للعموم حيث لا عهد خارجي كما يدل عليه وقوع الاستثناء والأصل فيه الاتصال وهو يقتضي الدخول يقينا ولا يتصور إلا بالعموم ، ونحو - ضربت زيدا إلا رأسه وصمت رمضان إلا عشره الأخير - عام تأويلا ، وكذا التأكيد بما يفيد العموم إذ لو لم يكن هناك عموم كان التأكيد تأسيسا والاتفاق على خلافه ، وشيوع استدلال الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم بالعموم كما في حديث

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 186
السقيفة وهم أئمة الهدى. ثم هذا الخطاب في نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ يسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين قالوا :
وليس عاما لمن بعد الموجودين في زمن الوحي أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي ، والأول هو الوجه وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع ، وأما بمجرد الصيغة فلا ، وقالت الحنابلة : بل هو عام لمن بعدهم إلى يوم القيامة ، واستدل الأولون بأنا نعلم أنه لا يقال للمعدومين نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ قال العضد : وإنكاره مكابرة وبأنه امتنع خطاب الصبي والمجنون بنحوه وإذا لم نوجهه نحوهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أجدر أن يمنع لأن تناوله أبعد ، واستدل الآخرون بأنه لو لم يكن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم مخاطبا به لمن بعدهم لم يكن مرسلا إليهم واللازم منتف وبأنه لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل ذلك ، وهو إجماع على العموم لهم.
وأجيب : أما عن الأول فبأن الرسالة إنما تستدعي التبليغ في الجملة وهو لا يتوقف على المشافهة بل يكفي فيه حصوله للبعض شفاها وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم ، وأما عن الثاني فبأنه لا يتعين أن يكون ذلك لتناوله لهم بل قد يكون لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر قاله غير واحد.
وفي شرح العلامة الثاني للشرح العضدي أن القول بعموم الشفاهي وإن نسب إلى الحنابلة ليس ببعيد. وقال بعض أجلّة المحققين : إنه المشهور حتى قالوا إن الحق أن العموم معلوم بالضرورة من الدين المحمدي وهو الأقرب ، وقول العضد : إن إنكاره مكابرة حق لو كان الخطاب للمعدومين خاصة ، أما إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب فلا ، ومثله فصيح شائع وكل ما استدل به على خلافه ضعيف انتهى. وإلى العموم ذهب كثير من الشافعية على أنه عندهم عام بحاق لفظه ومنطوقه من غير احتياج إلى دليل آخر ، وقد قيل : إنه من قبيل الخطاب العام الذي أجري على غير ظاهره كما في قوله :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
هذا وعلى كل حال ما روي عن ابن مسعود وعلقمة من أن كل شي ء - نزل فيه «يا أيها الناس» مكي و«يا أيها الذين آمنوا» مدني إن صح ولم يؤول - لا يوجب تخصيص هذا العام بوجه بالكفار بل هم أيضا داخلون فيه ومأمورون بأداء العبادة كالاعتقاد ، والأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به وكون الإيمان أصل العبادات ، ولو وجب بوجوبها انقلب الأصل تبعا مردود بأن الأصالة بحسب الصحة لا تنافي التبعية في الوجوب على أنه واجب استقلالا أيضا ، والعجب كيف خفي على مشايخ سمرقند؟! وهذا ما ذهب إليه العراقيون والشافعية ، ويؤيده ظواهر الآيات كقوله تعالى : وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت : 6] وقوله سبحانه : ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر : 42 ، 44] وذهب البخاريون إلى أنهم مكلفون في حق الاعتقاد فقط ، وأبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه لم ينص ظاهرا على شيء في المسألة لكن في كلام صاحبه الثاني ما يدل عليها ، ولعل ذلك من الإمام لأنه لا ثمرة للخلاف في الدنيا للاتفاق على أنهم ما داموا كفارا يمتنع منهم الإقدام عليها ولا يؤمرون بها وإذا أسلموا لم يجب قضاؤها عليهم ، وإنما ثمرته في الآخرة وهو أنهم يعذبون على تركها كما يعذبون على ترك الإيمان عند من قال بوجوبها عليهم ، وعلى ترك الإيمان فقط عند من لم يقل ، وهذا في غير العقوبات والمعاملات ، أما هي فمتفق على خطابهم بها ، والأمر بالعبادة هنا للطوائف الثلاث باعتبار أن المراد بها الشامل لإيجاد أصلها والزيادة والثبات - فاعبدوا - يدل على طلب في الحال لعبادة مستقلة وهي من الكفار ابتداء عبادة ومن بعض المؤمنين زيادة ومن آخرين مواظبة ، وليس الابتداء والزيادة والمواظبة داخلا في المفهوم وضعا فلا محذور في شيء أصلا خلافا لمن توهمه فتكلف في

روح المعاني ، ج 1 ، ص :
187
دفعه وذكر - سبحانه - الرب ليشير إلى أن الموجب القريب للعبادة هي نعمة التربية ، وإن كانت عبادة الكاملين لذاته تعالى من غير واسطة أصلا سوى أنه هو هو فسبحانه من إله ما أعظمه ومن رب ما أكرمه الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الموصول صفة مادحة للرب ، وفيها أيضا تعليل العبادة أو الربوبية على ما قيل ، فإن كان الخطاب في ربكم شاملا للفرق الثلاث فذاك وإن خص بالمشركين وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى احتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس وموضحة إن حملت على العهد ، ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب إلا أن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه وتعريضا بما كانوا عليه ولأنه الأصل فلا يترك إلا بدليل ، والخلق الاختراع بلا مثال ويكون بمعنى التقدير وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه ، وعلى الثاني قد يتصف به غيره ومنه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون : 14] وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [المائدة : 110] وقول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
ومن العجب أن أبا عبد اللّه البصري - أستاذ القاضي عبد الجبار - قال : إطلاق الخالق عليه تعالى محال لأن التقدير يستدعي الفكر والحسبان وهي مسألة خلافية بينه وبين اللّه تعالى القائل : هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ [الحشر :
24] وبقول اللّه تعالى أقول ، والموصول الثاني عطف على المنصوب في خَلَقَكُمْ و- قبل - ظرف زمان بكثرة ومكان بقلة ويتجوز بها عن التقدم بالشرف والرتبة ، والخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد - بالذين قبلهم - من تقدمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم وفي هذا تذكير لكمال جلال اللّه تعالى وربوبيته وفيه من تأكيد أمر العبادة ما لا يخفى ، وقدم سبحانه التنبيه على - خلقهم - وإن كان متأخرا بالزمان لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أنفسهم آكد وأهم ، وأتى - بالخلق - صلة والصلات لا بد من كونها معلومة الانتساب عند المخاطب ، ولذا يعرف الموصول عنده بما فيها من العهد ، واشترطت خبريتها إشارة إلى أنه ليس في المخاطبين من ينكر كون الخالق هو اللّه تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف : 87] أو مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : 25 ، الزمر : 38] وانفهام ذلك من الوصف - بناء على ما قالوا - الأخبار بعد العلم بها أوصاف الأوصاف قبل العلم بها أخبار مما قاله بعض المحققين وإن كان هناك من لا يعلم أن اللّه تعالى خالقه وخالق من قبله احتيج إلى ادعاء التغليب أو تنزيل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين فتخرج الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر ، وقرأ ابن السميقع - وخلق من قبلكم - وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما - والذين من قبلكم - بفتح الميم ، واستشكل لتوالي موصولين والصلة واحدة وخرجت على جعل - من - تأكيدا للذين فلا يحتاج إلى صلة نحو قوله :
من النفر اللائي الذين إذا هم تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
واعترض بأن الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك إذ يكاد أن يكون تأكيده كتأكيد بعض الاسم - فمن - حينئذ موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر وما بعدها صلة أو صفة وهي مع المقدر صلة الموصول الأول ويكون على أحد الاحتمالين نظير. فقلت وأنكرت الوجوه هم هم. وتخريج البيت على نحو هذا ، وقيل : مِنْ زائدة ، وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء ، والكسائي زيادة مِنْ الموصولة ، و- جعل - من ذلك.
وكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 188
وبعضهم استشكل القراءة المشهورة أيضا بأن - الذين - أعيان ومِنْ قَبْلِكُمْ ناقص ليس في الأخبار به عنها فائدة ، فكذلك الوصل به إلا على تأويل وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف لفظا أو تقديرا مع القرينة صح الإخبار والوصل به تقول نحن : في يوم طيب ، و- ما - هنا في تقدير - والذين - كانوا من زمان قبل زمانكم ، وقدر أبو البقاء - والذين خلقهم - من قبل خلقكم فحذف الفعل الذي هو صلة وأقيم متعلقه مقامه فتدبر لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - لعل - في المشهورة موضوعة للترجي وهو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع والإشفاق وهو توقع مخوف ممكن ، والظاهر التقابل فتكون مشتركة ، وذكر الرضى أنها للترجي وهو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله فيدخل فيه الطمع والإشفاق ، والذي يميل إليه القلب ما ذكره بعض المحققين إنها لانشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول ، إما محبوب فيسمى رجاء أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم - وهو الشائع - لأن معاني الإنشاءات قائمة به ، وإما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما. ومنه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه : 44] وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع بالفعل من متوقع أصلا.
ففي الآية الكريمة - إن جعلت الجملة حالا من مفعول خلقكم وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة - امتنع حمل - لعل - على حقيقتها لا بالنظر إلى المتكلم لاستحالة الترجي على عالم الغيب والشهادة الفاعل لما يشاء ، ولا بالنظر إلى المخاطبين لأنهم حين الخلق لم يكونوا عالمين فيكف يتصور الرجاء منهم؟! ولا يجوز جعلها حالا مقدرة لأن المقدر حال الخلق التقوى لا رجاؤها فلا بد أن يحمل على المعنى المجازي بأن يشبه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابه ودواعيه بالترجي في أن متعلق كل واحد منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فيستعمل كلمة - لعل - الموضوع له فيه فيكون استعارة تبعية أو تشبه ضورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم على التقوى وتركها مع رجحانها منهم بحال المرتجى بالقياس إلى المرتجى منه القادر على المرتجى ، وتركه مع رجحان وجوده فيكون استعارة تمثيلية إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه أعني كلمة - لعل - أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه أعني الرجاء فيكون استعارة بالكناية ، وجعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل نزغة اعتزالية مؤسسة على القاعدة القائلة بجواز تخلق المراد عن إرادته تعالى شأنه وبعضهم «1» قال بالترجي هنا إلا أنه ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى : فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ [هود : 12] لأنه لما ولد كل مولود على الفطرة كان بحيث إن تأمله متأمل توقع منه رجاء أن يكون متقيا وليس بالبعيد ، وإن جعلت حالا من فاعل خَلَقَكُمْ امتنعت الحقيقة أيضا وتعينت بعض الوجوه ، وإن جعلت حالا من ضمير اعْبُدُوا جاز إبقاء الترجي على حقيقته مصروفا إلى المخاطبين - أي راجين التقوى - والمراد بها حينئذ منتهى درجات السالكين وهو طرح الهوى ونبذ السوي والفوز بالمحبوب
الأعلى وفي ذلك غاية المبتغي والعروج فوق سدرة المنتهى. وقد شاع ذلك عند الأقصى والأدنى وبذلك يصح الترغيب ويندفع ما قيل إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادتهم وما هو لذة لهم - أعني الثواب - لا ما يشق عليهم وهو التقوى وإن كان مفضيا إليه ووجه الدفع ظاهر ، وما قاله المولى التفتازاني - من أن تقييد العبادة بترجي التقوى ليس له كثير معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى أو اقترانها برجاء ثوابها - يدفعه أن في الترجي تنبيها على أن العابد ينبغي أن لا يفتر في
___________
(1) أي ابن عطية ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 189
عبادته ويكون ذا خوف ورجاء ، نعم قالوا : الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر ، فإن قلنا : إنه أعم من الوجوب فلا إشكال ، وإن قلنا : إنه حقيقة في الوجوب اقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه. وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها ، فإن الذي جعل لكم الأرض موصول بربكم صفة له - يجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك اتصال معنوي ، وإن جعل الَّذِي جَعَلَ مبتدأ - خبره لا تجعلوا - كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال ، ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته ، ثم لا يبعد أن يقال : إن المعنى في الآية على التعليل إما لأن - لعل - تجيء بمعنى كي كما ذهب إليه ابن الأنباري وغيره «2» واستشهدوا بقوله :
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم «3» لنا كل موثق
أو لأنها تجيء للإطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء ، ثم يتجوز به عن كل متحقق كتحقق العلة سواء كان معه أطماع أم لا على ما قيل. ولا يرد أن تعليل الخلق وهو فعله تعالى مما لم يجوزه أكثر الأشاعرة حيث منعوا تعليل أفعاله سبحانه بالأغراض لئلا يلزم استكماله - عز شأنه - بالغير وهو محال لأنا نقول الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح ، ومن أنكر تعليل بعض الأفعال - لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود - فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة ، والوقوف على ذلك في كل محل مما لا يلزم ، على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظيا لأن العلة إن فسرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل امتنع ذلك في حقه سبحانه ، وإن فسرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهرا مع الغنى الذاتي فلا شبهة في وقوعها ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند ، وإنما لم يقل سبحانه في النظم تعبدون لأجل - اعبدوا - أو اتقوا لأجل تتقون ليتجاوب طرفاه مع اشتماله على صنعة بديعة من رد العجز على الصدر لأن التقوى قصارى أمر العابد فيكون الكلام أبعث على العبادة وأشد إلزاما كذا قيل ، وفي القلب منه شيء ، وسبب حذف مفعول تَتَّقُونَ مما لا يخفى ، وابن عباس رضي اللّه تعالى عنه يقدره - الشرك - والضحاك - النار - وأظنك لا تقدر شيئا ، ولما أمر سبحانه المكلفين بعبادة الرب الواجد لهم - ووصفه بما وصفه ، ومعلوم أن الصفة آلة لتمييز الموصوف عما عداه وأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية - أشعرت الآية أن طريق معرفته تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه العبادة النظر في صنعه ، ولما كان التربية والخلق اللذان نيط بهما العبادة سابقين على طلبها فهم أن العبد لا يستحق ثوابا حيث أنعم عليه قبل العبادة بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته عشر عشره ، واستدل بالآية من زعم أن
التكليف بالمحال واقع حيث أمر سبحانه بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون ، وقد تقدم الكلام في ذلك فارجع إليه الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً الموصول إما منصوب على أنه نعت - ربكم - أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول تتقون - كما قاله أبو البقاء - إعراب غث ينزه القرآن عنه ، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة ، وفيه أيضا غير مجمع عليه ، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة فَلا تَجْعَلُوا والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج : 10] إلى
___________
(2) قطرب وابن كيسان ا ه منه.
(3) فإن قوله : وثقتم إلخ يقتضي عدم التردد في الوقوع كما في الترجي وبهذا يتعين أنها بمعنى كي فليفهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 190
قوله تعالى : فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج : 10] والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرا بالتأويل المشهور ، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من بخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره رِزْقاً لَكُمْ بتقدير يرزق ، وجَعَلَ بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه ، وقيل : بمعنى أوجدوا انتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك ، ومعنى تصييرها فِراشاً أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطا بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة ، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت - فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به ، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان ، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها فِراشاً لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى.
وعبر سبحانه هنا - يجعل - وفيما تقدم - بخلق - لاختلاف المقام أو تفننا في التعبير كما في قوله تعالى : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الإنعام : 1] وتقديم المفعول الغير الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الإشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن ، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف ، واختار سبحانه لفظ - السماء - على السماوات موافقة للفظ - الأرض - وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع ، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السماوات ، وكل طبقة وجهة منها ، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبنى بيتا كان «1» أو قبة أو خباء أو طرافا ، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا خباء جديدا ليدخلوا على العروس فيه ، والمراد بكون السَّماءَ بِناءً أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض ، ويقال لسقف البيت بناء ، وروي هذا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر ، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى ، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء - كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات - أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء ، وفي ذلك خلاف مشهور ، وقرأ يزيد الشامي : «بساطا» ، وطلحة «مهادا» وهي نظائر ، وأدغم أبو عمرو لام - جعل - في لام - لكم - وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ عطف على - جعل - ومِنَ الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد ، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول - وهو نكرة - صار الظرف صفة ، وذكر في البحر أن مِنَ على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى. والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء - على الظواهر - غير بعيدة نظرا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله ، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري يابسا ، فإذا صعد البخار إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف ، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر ، وإن كان قويا كان ثلجا وبردا ، وقد لا ينعقد ويسمى ضبابا.
___________
(1) في الكشف الأول من الشعر ، والثاني من لبن والثالث من وبر أو صوف ، والرابع من آدم ، وفي الثاني نظر وإن ذكره ابن السكيت فليراجع ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 191
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشوؤه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له ، على أن من انجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسبما تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر : 21] بل من علم أن اللّه سبحانه في السماء - على المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بجلال ذاته تعالى - صح له أن يقول : إن ما في العالمين من تلك السماء ، ونسبة نزوله إلى غيرها أحيانا لاعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة - والماء - معروف ، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو وهمزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية ، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويها بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته ، ومِنَ الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد - فرزقا - حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له - لأخرج - ولَكُمُ ظرف لغو مفعول به لرزق أي أخرج شيئا مِنَ الثَّمَراتِ أي بعضها لأجل أنه رزقكم ، وجوّز أن يكون بعض الثمرات مفعول أخرج ، ورزقا بمعنى مرزوقا حالا من المفعول أو نصبا على المصدر لأخرج ، وإما للتبيين - فرزق - بمعنى مرزوق مفعول لأخرج ولَكُمُ صفته ، وقد كان مِنَ الثَّمَراتِ صفته أيضا إلا أنه لما قدم صار حالا على القاعدة في أمثاله ، وفي تقديم البيان على المبين خلاف ، فجوزه الزمخشري والكثيرون ، ومنعه صاحب الدر المصون وغيره ، واحتمال جعلها ابتدائية - بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر - تعسف لا ثمرة فيه ، وأل في الثَّمَراتِ إما للجنس أو للاستغراق وجعلها له ، ومِنَ زائدة ليس بشيء لأن زيادة مِنَ في الإيجاب - وقبل - معرفة مما لم
يقل به إلا الأخفش ، ويلزم من ذلك أيضا أن يكون جميع الثَّمَراتِ التي أخرجت رزقا لنا ، وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقا «1» وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل أقل قليل بالنسبة لثمار الجنة ، ولما ادخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث إن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنة فقط ، المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة ، وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك : أدركت ثمرة بستانك ، وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الاعتبارية ، ويؤيده قراءة ابن السميقع من الثمرة أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان : 25] وثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة : 228] أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب ، وإذا قيل : بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشترك - والمقام يخصصه بها - اندفع السؤال وارتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل ، والباء من بِهِ للسببية ، والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلا في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو اللّه تعالى عند الأسباب لأنها لحديث الاستكمال بالغير ، قالوا : ومن اعتقد أن اللّه تعالى أودع قوة الري في الماء مثلا فهو
___________
(1) وقد نص على إفادة الجمع السالم المذكر والمؤنث القلة بن الدباح فقال :
بأفعل وبأفعال وأفعلة وفعلة يعرف الأدنى من العدد
وسالم الجمع أيضا داخل معها وذلك الحكم فاحفظها ولا تزد
ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 192
فاسق وفي كفره قولان ، وجمع على كفره كمن قال : إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية ، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول : إن اللّه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا ، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه ، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء ، فقد جعل اللّه - تعالى شأنه - مصالح العباد في معاشهم ومعادهم ، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه ، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب ، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة ، ويا للّه تعالى العجب إذا كان اللّه خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا ، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة ، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب عليه؟! نستغفر اللّه تعالى مما يقولون : فاللّه عز وجل يفعل بالأسباب التي اقتضتها الحكمة مع غناه عنها كما صح أن يفعل عندها لا بها ، وحديث الاستكمال يرده أن الاستكمال إنما يلزم لو توقف الفعل على ذلك السبب حقيقة واللازم باطل لقوله تعالى : إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس :
82] فالأسباب مؤثرة بقوى أودعها اللّه تعالى فيها ولكن بإذنه وإذا لم يأذن وحال بينها وبين التأثير لم تؤثر كما يرشدك إلى ذلك قوله تعالى : وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة : 102] ولو لم يكن في هذه الأسباب قوى أودعها العزيز الحكيم لما قال سبحانه : يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء : 69] إذ ما الفائدة في القول وهي ليس فيها قوة الإحراق وإنما الإحراق منه تعالى بلا واسطة ولو كان الأمر كما ذكروا لكان للنار أن تقول : إلهي ما أودعتني شيئا ولا منحتني قوة وما أنا إلا كيد شلّاء صحبتها يد صحيحة تعمل الأعمال وتصول وتجول في ميدان الأفعال أفيقال لليد الشلاء لا تفعلي وفي ذلك الميدان لا تنزلي ولا يقال ذلك لليد الفعالة وهي الحرية بتلك المقالة ، ولا أظن الأشاعرة يستطيعون لذلك جوابا ولا أراهم يبدون فيه خطابا ، وهذا الذي ذكرناه هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل اللّه تعالى بالقبول ، ولا يوقعنك في شك منه نسبته للمعتزلة فإنهم يقولون أيضا لا إله إلا اللّه أفتشكّ فيها لأنهم قالوها معاذ اللّه تعالى من التعصب فالحكمة صالة المؤمن والحق أحق بالاتباع واللّه تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً نهي معطوف على - اعبدوا - مترتب عليه فكأنه قيل : إذا وجب عليكم عبادة ربكم فلا تجعلوا للّه ندا وأفردوه بالعبادة إذ لا رب لكم سواه وإيقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات بعد تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التي عليها يدور أمر الوحدانية واستحالة الشركة والإيذان باستتباعها لسائر الصفات وقيل : لفظ الرب مستعمل في المفهوم الكلي. واللّه علم للجزئي الحقيقي الواجب الوجود تعالى شأنه فلا يكون من وضع المظهر موضع المضمر ، وحينئذ يظهر الفرق بين هذه الآية الكريمة - حيث علق العبادة بصفة الربوبية فالمناسب الفاء - وبين قوله تعالى : اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء : 36] حيث علق العبادة وعدم الشرك بذاته تعالى فالمناسب الواو ، فلا يرد أن المناسب على هذا الواو كما في الآية الثانية أو نفي منصوب بإضمار - أن - جواب للأمر كما قاله مولانا البيضاوي ، واعترض بأنه يأباه إن ذلك فيما يكون الأول سببا للثاني ، ولا ريب في أن العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو أصلها ومنشؤها ، وأجيب بأن عبادته تعالى أساسها التوحيد وعدم الإشراك به ، وأما عبادة الرب فليس أصلها عدم الإشراك بذاته تعالى بل من متفرعاته ، والحق أن الآية تضمنت عبادة رب موصوف بما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 193
يجعله كالمشاهد من خلقه لهم ولأصولهم وإبداع الكائنات العظيمة والتفضل بإفاضة النعم الجسيمة فدلت عليه دلالة عرفتهم به ، فمحصلها اعبدوا اللّه تعالى الذي عرفتموه معرفة لا مرية فيها ، ولا شك في أن العبادة والمعرفة سبب لعدم الإشراك إذ من عرف اللّه تعالى لا يسوي به سواه فالذي سول للمعترض النظر للعبادة وقطع النظر عن المعرفة ، ويحتمل أن يكون متعلقا بلعل فينصب الفعل نصب فَأَطَّلِعَ على قراءة جعفر من لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [غافر : 36] إلخ على رأي «1» إلحاقا بالأشياء الستة لأنها غير موجبة لحصول ما يتضمنها فتكون كالشرط في عدم التحقق ، والقول بالإلحاق لها بليت - تنزيلا للمرجو منزلة المتمنى في عدم الوقوع - يؤول إلى هذا إن أريد بعدم الوقوع عدمه في حال الحكم لا استحالته ، والمعنى خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه فافهم ، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي - بتأويل القول - خبر عن الذي على جعله مبتدأ ، وقيل : الجملة متعلقة بالذي ، والفاء جزاء شرط محذوف ، والمعنى هو الذي جَعَلَ لَكُمُ ما ذكر من النعم المتكاثرة ، وإذا كان كذلك فَلا تَجْعَلُوا إلخ ، والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو - صيرت الحديد سيفا ، ومنه ما تقدم على وجه - يكون بالقول والعقد - والأنداد - جمع ند - كعدل وأعدال أو نديد - كيتيم وأيتام - والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح ، وأصله من ند ندودا إذا نفر ، وقيل : الند المشارك في الجوهرية فقط ، والشكل المشارك في القدر والمساحة ، والشبه المشارك في الكيفية فقط ، والمساوي في الكمية فقط ، والمثل عام في جميع ذلك ، وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون اللّه أَنْداداً والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله.
وإنما عبدوها - لتقربهم إليه سبحانه زلفى - إشارة إلى استعارة تهكمية حيث استعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما استعير التبشير للإنذار والأسد للجبان ، وإن أريد بالند النظير مطلقا لم يكن هناك تضاد وإنما هو من استعارة أحد المتشابهين للآخر ، فإن المشركين جعلوا الأصنام - بحسب أفعالهم وأحوالهم - مماثلة له تعالى في العبادة ، وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم ، ولعل الأول أولى ، وفي الإتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا أَنْداداً لمن يستحيل أن يكون له ند واحد ، وللّه در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي اللّه تعالى عنه حيث يقول في ذلك :
أربّا واحدا أم ألف ربّ أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الرجل البصير
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حال من ضمير فَلا تَجْعَلُوا والمفعول مطروح - أي وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي - فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه ، أو مقدر حسبما يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم ، أي تَعْلَمُونَ أنه سبحانه لا يماثله شيء ، أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله ، والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الأهلية ، وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول ، ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ - باعتبار بعض أفراد المخاطبين بإلهي بناء على عموم الخطاب حسبما مر في الأمر - فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمرا ونهيا بل قيل : إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الانتظام إذ لا
___________
(1) فإنه قيل : يعطف أطلع على معنى (لعلى أبلغ) لأنه بمعنى أن أبلغ ، ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد. ولبس عباءة وتقر. ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 194
محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل.
وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما اقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف : 54] ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس ، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار ، وقد يقال : إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه - خلقهم والذين من قبلهم - ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل ، وهي أيضا تسمى فراشا ، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها ، وضرب الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلا للولد الذي يخرج من الأم ، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض ، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية :
تأمل في رياض الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن اللّه ليس له شريك
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة ، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة اللّه تعالى مستفادة من معرفة الرسول ، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار ، والعطف إما على قوله تعالى : اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أو على فَلا تَجْعَلُوا وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفى الشرك - بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه - أرشدهم بما يوجب هذا العلم ، ولذا لم يقل جل شأنه - وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا - غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعا ولو أريد ذلك لكفى - اعبدوا ، ولا تشركوا - من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية ، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن ، وقيل لليهود : لما أن سبب النزول - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا يشبه الوحي وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [هود : 110] وقيل : هو على نحو الخطاب في اعْبُدُوا وكلمة إِنْ إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله ، أو لتغليب - من لا - قطع بارتيابهم على من سواهم ، أو لأن البعض لما كان مرتابا والبعض غير مرتاب جعل الجميع - كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه - وجعلها بمعنى إذ كما ادعاه بعض المفسرين - خلاف مذهب المحققين - وإيراد كلمة - كان - لإبقاء معنى المضي فإنها لتمحضها للزمان لا تقلبها - إن - إلى معنى الاستقبال - كما ذهب إليه المبرد وموافقوه - والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 195
وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن ، أو تبين مثلا ولا يميل إليه الفؤاد ، وتنكير الريب للإشعار بأن حقه - إن كان - أن يكون ضعيفا قليلا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله ، وجعله ظرفا - بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم - لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته ، ومن ابتدائية صفة رَيْبٍ ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلا للريب وحاشاه ، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب ، وقيل : عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه.
ومعنى كونهم في - ريب منه - ارتيابهم في كونه وحيا من اللّه تعالى شأنه ، والتضعيف في نَزَّلْنا للنقل وهو المرادف للهمزة ، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب - أنزلنا - وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا : لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان : 32] وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير «1» ممن يعقد عند ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبا «2» في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو - فتحت وقطعت - و- نزلنا - لم يكن معتديا قبل ، وأيضا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديا فلا ، والفعل هنا كان لازما فكون التعدي مستفادا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير ، وأيضا لو كان نزل مفيدا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى : لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إلى تأويل لمنافاة العجز الصدر ، وكذا مثل لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [الأنعام : 37] ولَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء : 95] وقد قرىء بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلا قليلا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلا قليلا قالوا : ونظيره تدرج وتدخل ونحوه - رتبه - أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك ، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازا أو اشتراكا فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة ، وفي تعدي - نزل - بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل
عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول. وفي ذكره صلى اللّه تعالى عليه وسلم - بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة - تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره ، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى اللّه تعالى عليه وسلم :
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
وقرى ء - عبادنا - فيحتمل أنه أريد بذلك رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم ، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه ، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه ، وبعضهم «3» جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى اللّه تعالى عنهم بقوله : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الإنعام : 91] وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه - مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى - بنا - المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم
___________
(1) الزمخشري ، والبيضاوي ، وأبو السعود ، وغيرهم ا ه منه.
(2) قلنا ذلك لورود موتت الإبل.
(3) هو أبو حيان ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 196
الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام ، والفاء من فَأْتُوا جوابية وأمر السببية ظاهر ، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى : فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة : 258] وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان ، ويقال في الخير والشر والأعيان والأعراض ، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة : 54] وأصل فَأْتُوا فأتيوا فأعل الإعلال المشهور ، وأتى شذوذا حذف الفاء فقيل «ت» و«توا» والتنوين في سورة للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات ، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
ومِنْ مِثْلِهِ إما أن يكون ظرفا مستقرا صفة لسورة والضمير راجع إما - لما - التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين ، والأخفش يجوز زيادتها في مثله ، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر ، وإما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضا «1» كما قيل : في مثلك لا يجهل ، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ مِنْ التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي ، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي ، وعلى الثاني يتعين أن تكون مِنْ للابتداء مثلها في إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ [النمل : 30] ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول ، وإما أن تكون صلة فَأْتُوا.
والشائع أن يتعين حينئذ عود الضمير للعبد لأن مِنْ لا تكون بيانية إذ لا مبهم ، ولكونه مستقرا أبدا لا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في - أخذت من الدراهم - ولا معنى لاتيان البعض بل المقصد الإتيان بالبعض ، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود مِنْ ولأنه يلزم أن يكون بِسُورَةٍ ضائعا فتعين أن تكون ابتدائية ، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل ، وجعل المتكلم مبدأ عرفا - للإتيان بالكلام منه - معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للإتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة ، وأيضا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي ، أو المادي ، أو الغائي ، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك ، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة ، ومساق الكلام بمعونة المقام.
واعترض بأن معنى مِنْ لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة : 38] لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً [الزخرف : 60] وللمجاوزة كعذت منه ، فعلى هذا - لو علق مِنْ مِثْلِهِ ب فَأْتُوا وحمل مِنْ على البدل أو المجاوزة و- مثل - على المقحم ورجع الضمير إلى مِمَّا نَزَّلْنا على معنى فَأْتُوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة - لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز ، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن ، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض ، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه : وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو - قرأت من أول السورة إلى آخرها ، وأعطيتك من درهم إلى دينار - وأيضا فالإتيان ببعض الشيء تفريقه منه ، ولا
___________
(1) وبعضهم يقول على التبعيض المراد ائتوا بمقدار بعض ما من القرآن مماثل له في البلاغة ولا إشكال فيه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 197
يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه ، ويمكن أن يقال - وهو الذي اختاره مولانا الشهاب - أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه ، فمقتضى المقام أن يقال لهم : معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند اللّه ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه ، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير - لما - أو - للعبد - لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد ، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضا ، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضا - ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله - فيفيد ما ذكرنا ، ولو رجع على هذا لما كان معناه - ائتوا - من مثل هذا المنزل بسورة ، ولا شك أن مِنْ ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعليا بل ماديا ، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به ، فلا يخلو من أن يدعي وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتض أولا ولا يليق بالتنزيل ، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد ، ومِمَّا على تقديري اللغو والاستقرار أمر ممكن ، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم ، والذي يدركه ذوقي - ولا أزكّي نفسي - أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى ، والبحث في هذه الآية مشهور ، وقد جرى فيه بين
العضد والجاربردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل. وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد للّه ، ونقلت نبذة منها في - الأجوبة العراقية - ثم أولي الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل ومِنْ بيانية ، أما أولا فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس : 38] لأن المماثلة فيها صفة للمأتي به ، وأما ثانيا فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم ، وأما ثالثا فلأن أمر الجم الغفير - لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم - أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدا يأتي بمثل ما أتى به رجل آخر ، وأما رابعا فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا ، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى اللّه تعالى عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأن الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان ، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر - ما نزلنا - أن يكون الكلام مسوقا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش ، وأما إذا تحدى بسورة من أمي كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال ، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه ، وظاهر السباق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرا كما سنبينه بمنه تعالى ، قوله تعالى :
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الدعاء النداء والاستعانة ، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به ، ومنه أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الإنعام : 40] والشهداء جمع شهيد أو شاهد ، والشهيد كما قال الراغب : كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد ، ولذا سموا غيره مخلفا وجاء بمعنى الحاضر ، والقائم بالشهادة ، والناصر ، والإمام أيضا. ودُونِ ظرف مكان لا يتصرف ويستعمل - بمن - كثيرا - وبالياء - قليلا ، وخصه في البحر بمن «دونها» ورفعه في قوله :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 198
ألم تريا أني حميت حقيقتي وباشرت حد الموت والموت «دونها»
نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو - كعند - إلا أنها تنبىء عن دنو كثير وانحطاط يسير ، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافا للبيضاوي - كما قيل - لأنه من الديوان الدفتر ومحله ، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه. وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان ، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف - كدون زيد في القامة - ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب الحسية - كدون عمرو شرفا - ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط ، وهو بهذا المعنى قريب غير فكأنه أداة استثناء ، ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله :
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع «بالدون» من كان دونا
وما في القاموس من أنه يقال رجل من دون ، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية ، وليس عندي وجه وجيه في توجيهه ، والمشهور أنه ليس لهذا فعل ، وقيل يقال : دان يدين منه واستعماله بمعنى فضلا وعليه حمل قول أبي تمام :
الود للقربى ولكن عرفه للأبعد الأوطان «دون» الأقرب
لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا : يكون بمعنى وراء - كأمام - وبمعنى فوق ونقيضا له. ومِنْ لابتداء الغاية متعلقة بادعوا ، ودون تستعمل بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال ، والمعنى ادعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين اللّه تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه ، والأمر للتعجيز والإرشاد أو ادعوا من دون اللّه من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثلة فإنهم لا يشهدون ، ولا تدعوا اللّه تعالى للشهادة بأن تقولوا اللّه تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت - والشهيد - على الأول بمعنى الحاضر ، وعلى الثاني بمعنى الناصر ، وعلى الثالث بمعنى القائم بالشهادة ، قيل : ولا يجوز أن يكون بمعنى الإمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكما ، ولو قيل : ادعوا الأصنام ولا تدعوا اللّه تعالى ولا تستظهروا به لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان إذ لا دخل لإخراج اللّه تعالى عن الدعاء في التهكم ، وفيه أن أي تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد؟ ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون بمعنى القدام إذ لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي اللّه تعالى أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا ، وجوزوا أن تتعلق من ب «شهداءكم» وهي للابتداء أيضا ، ودُونِ بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافة - الشهداء - أعني الاتخاذ ، والمعنى ادعوا الذين اتخذتموهم أولياء مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى ، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون دُونِ بمعنى أمام حقيقة أو مستعارا من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول - لشهداء - ويكفيه رائحة الفعل فلا
حاجة إلى الاعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا ، ومِنْ للتبعيض كما قالوا في مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرعد : 11 ، الجن : 27] لأن الفعل يقع في بعض الجهتين ، وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل. أنها زائدة ، وهو مذهب ابن مالك ، والجمهور على أنها ابتدائية ، والمعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي اللّه عز وجل على زعمكم ، والأمر للتهكم ، وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما اعتقدوه من أنها من اللّه تعالى بمكان ، وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قيل : هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم - فلا عطر بعد عروس ، وما وراء عبادان قرية - ولم تجعل دُونِ بمعنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 199
وجه للإخراج ، وقيل يجوز أن تكون مِنْ للابتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف ، والمعنى - ادعوا شهداءكم - من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء اللّه ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله ، والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل : تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذنب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذارا من اللائمة وأنفة من الشهادة البتة البطلان ، كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل؟ وإخراج اللّه تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه ، والالتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه - والصدق - مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة ، والجواب إِنْ محذوف لدلالة الأول عليه وليس هو جوابا لهما ، وكذا متعلق الصدق أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بزعمكم في أنه كلام البشر أو في أنكم تقدرون على معارضته - فأتوا ، وادعوا - فقد بلغ السيل الزبى ، وهذا كالتكرير للتحدي والتأكيد له ، ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الارتياب لتقدمه مما لا ارتياب في تأخره لأن الارتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب ، والقول بأن المراد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في احتمال أنه كذا مع ما فيه من التكلف لا يجدي نفعا لأن الاحتمال شك أيضا
،
ومن التكلف بمكان قول الشهاب : إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة ، وتوضيح المحجة ، فالمعنى إن ارتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا هذا ، ووجه ملائمة الآية - لما قلناه في الآية السابقة - أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالاستعانة إما حقيقة أو تهكما بكل ما يعينهم بالإمداد في الإتيان في - المثل - أو بالشهادة على أن المأتي به - مثل - ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحدا منهم فإنهم باعثون له على الإتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له ، وإن صح نسبته إليهم - باعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة - ليس بشيء لأنه شهادة على المماثلة ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضا ، وقد أورد هاهنا أمور طويلة لا طائل تحتها.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود - وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الإتيان بمثله وما يداينه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم - فآمنوا واتقوا النار ، وأتى - بأن - والمقام - لإذا - لاستمرار العجز - وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير - تهكما بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك ، وتحميقا لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح ، ففي الآية استعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر ، وقد يقال عبر بذلك نظرا لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم ، وتَفْعَلُوا مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين إن ، وإن تخيل ، وقد صرح ابن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن ابن العلج أجازه استدلالا بهذه الآية ، ورد بأن إن تطلب مثبتا ، ولَمْ منفيا ، وشرط التنازع الاتحاد في المعنى - فإن هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال : فإن تركتم الفعل ، فيفيد الكلام استمرار عدم الإتيان المحقق

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 200
في الماضي وبهذا ساغ اجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الاستقبال والمضي تناف ، نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل : وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو - إن لم يقمن - وإن كان للجملة رد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلا مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى ، وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر - فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام - ظاهرا لإيجاز القصر ، وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة استحالته ، وإن مناط الجواب في الشرطية - أعني الأمر بالاتقاء - هو عجزهم عن إيقاعه لا فوت حصول المقصود ، وقيل : أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال ، أو على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرير ، والظاهر أن فيما عبر به إيجازا وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره ، وإن لم يكن مرادا وَلَنْ كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالاختصاص بالمضارع ، وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله :
«لن» يخب الآن من رجاك ومن حرك من دون بابك الحلقة
و: لا تقتضي النفي على التأبيد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولأطول مدة أو قلتها خلافا لبعضهم ، وليس أصلها - لا أن - كما روي عن الخليل : فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار «لن» تضرب كلاما تاما دون أن ومصحوبها ، وقيل : به لقوله :
يرجى المرء ما «لا أن» يلاقيه ويعرض دون أقربه الخطوب
واحتمال زيادة أن يوهن الاحتجاج ولا - كما عند الفراء - فأبدلت ألفه نونا إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل ، والجملة اعتراض بين جزئي الشرطية ظاهرا مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها ، وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك ، كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي؟ وما أتى به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لم يقصد به المعارضة وإنما ادعاه وحيا.
وقوله سبحانه : فَاتَّقُوا جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه وبهذا يندفع ما يتوهم من أن اتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق ، وأيضا الشرط سبب أو ملزوم للجزاء ، وليس عدم الفعل سببا للاتقاء ولا ملزوما له فكيف وقع جزاء له ، وبعضهم قدر لذلك جوابا ، والتزمه جملة خبرية لأن الانشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبرا إلا بتأويل ، والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضى له ، و- الوقود - بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار ، وكذا كل ما كان على فعول اسم لما يفعل به في المشهور ، وقد يكون مصدرا عند بعض ، وحكوا ولوعا ، وقبولا ، ووضوءا ، وطهورا ، ووزوعا ، ولغوبا. وقرأ عبيد بن عمير - وقيدها - وعيسى بن عمرو وغيره وَقُودُهَا بالضم ، فإن كان اسما لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدرا - كما قيل في سائر ما كان على فعول - فحمله على النار للمبالغة أو للتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولا كذو وقودها أو ثانيا - كاحتراق - وهو نفسه خارجا غيره مفهوما وذاك مصداق الحمل ، وحكي إن من العرب من يجعل المفتوح مصدرا والمضموم اسما فينعكس الحال فيما نحن فيه وَالْحِجارَةُ كحجار جمع كثرة لحجر ، وجمع القلة أحجار وجمع فعل - بفتحتين - على فعال شاذ ، وابن مالك في التسهيل يقول : إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر ، والمراد بها على ما صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم ، ولمثل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 201
ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت ، وفيها - من شدة الحر وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان ، وإعداد أهل النار أن يكونوا حطبا مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة «1» - ما نعوذ باللّه منه ، وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد ، وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم ، وقيل : المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة وزيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون ، وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني ، ويؤيد هذا قوله تعالى : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء : 98] وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجرا - كما في القاموس - دون هذين القولين ، الأصح أولهما عند المحدثين ، وثانيهما عند الزمخشري ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس سره.
وأل فيها - على كل - ليست للعموم ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له ، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق ، وذكر النَّاسُ وَالْحِجارَةُ تعظيما لشأن جهنم وتنبيها على شدة وقودها ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهو خلاف الظاهر والمتبادر من الآيات ، ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الاقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضا ، نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره : إنهم لهبها وأولئك جمرها ، وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقادا من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف ، وإنما عرف النار وجعل الجملة - صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولا فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهودا فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك - الخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون ، وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولا مقالا فتأمل أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ابتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة اعتناء بشأنه بجعله مقصودا بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد ، وجعله استئنافا بيانيا بأن يقدر لمن أعدت أو لم كان وقودها كذا وكذا ، فمع عدم مساعدة عطف - بشر - الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه
لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الاستئناف لا يجب أن يكون استئنافا يأبى عنه الذوق ، أما الأول فلأن السياق لا يقتضيه ، وأما الثاني فلأن المقصد من الصلة التهويل ، فالسؤال - بلم كان شأن النار كذا - مما لا معنى له ، والجواب غير واف به وجعله حالا من النار - بإضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير وَقُودُهَا للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجنبي حينئذ - ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة بمنزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة ، ولذا قيل : إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والأخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد ، أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به ابن مالك وجعله صلة. ووَقُودُهَا النَّاسُ إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل ، ومعنى أُعِدَّتْ هيئت ، وقرأ عبد اللّه - اعتدت - من العتاد بمعنى العدة ، وابن أبي عبلة - أعدها اللّه للكافرين - والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الإعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة
___________
(1) كما قال سبحانه : سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 202
إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار ، ثم ما يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الآن واللّه تعالى أعلم بمكانها في واسع ملكه ، وجعل المستقبل لتحققه ماضيا - كنفخ في الصور - والإعداد مثله في أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً [الأحزاب : 35] كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر ، والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرورها هواء محترق لا جمر لها البتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون اللّه تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الإنس والجن الذين يدخلونها ، ولذا يختلف عذاب داخليها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين ، فهذا كله يزاد إلى ما هو الآن.
ولذا كان يقول عبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنهما : إذا رأى البحر يا بحر متى تعود نارا ، وكان يكره الوضوء بمائة ويقول : التيمم أحب إليّ منه وقال تعالى : وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير : 6] أي أججت ، وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى : غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر : 46] وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم ، والإحساس والحيوانية ، ومعنوية وهي الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة : 7] وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى ، والمخالفة وهي عين الجهل بمن استكبر عليه أشد العذاب ، وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب ، وحقيقة الأمر عندي لا يعلمها إلا اللّه تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية - وماذا علي إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل اللّه تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار - وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والانذار - عقب بالمؤمنين وما لهم جريا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وينفعه اللطف ، ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة ، والتناسب بينهما باعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين ، وهل هو معطوف على وَإِنْ كُنْتُمْ إلى أُعِدَّتْ أو على فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا الآية قولان؟ اختار السيد أولهما ، وادعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة ، وأدعى لتلاؤم النظم لأن يا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا خطاب عام يشمل الفريقين وَإِنْ كُنْتُمْ إلخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار وَبَشِّرِ إلخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته ، ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق ، والسعد اختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم وقيل عطف على فَاتَّقُوا وتغاير المخاطبين لا يضر ك يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي [يوسف : 29] وترتبه على الشرط بحكم العطف باعتبار أن - اتقوا - إنذار وتخويف للكفار وَبَشِّرِ تبشير للمؤمنين ، وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم - استيجاب منكره - العقاب ، ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت ، واستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير ، فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه بلا فرق ، وقد يقال إن الجزاء فآمنوا محذوفا والمذكور قائم مقامه فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فآمنوا وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير ، وفيه حث لهم على الإيمان ، ولعله أقل مؤنة ، واختار صاحب الإيضاح عطفه على - أنذر - مقدرا بعد جملة أُعِدَّتْ وقيل : عطف على - قل - قبل فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وتقديره قبل يا أَيُّهَا النَّاسُ يحوج إلى إجراء مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا على طريقة كلام العظماء ، أو تقدير قال اللّه بعد قل ، والبشارة - بالكسر والضم - اسم من بشر بشرا وبشورا - وتفتح الباء - فتكون بمعنى الجمال ، وفي الفعل لغتان ، التشديد وهي العليا ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 203
والتخفيف وهي لغة أهل تهامة ، وقرىء بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول ، فإن واحدا كان فعل فيه مغنيا عن فعل ، وفسروها في المشهور ، وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المخبر علم به ، واشترط بعضهم أن يكون صدقا ، وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزنا أو سرورا وكثر استعماله في الخير ، وصححه في البحر فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران : 21 ، التوبة : 34 ، الانشقاق : 24] ظاهر عليه ، ومن باب التهكم على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقيل : كل من يتأتى منه ذلك كما في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم «بشر المشائين إلى المساجد» الحديث
ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعا لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله ، ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا تاما بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم ، وقيل : تغيير للأسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين ، وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم حلة عبوديته في قوله : مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم ، وفي ذلك من اللطف به صلى اللّه تعالى عليه وسلم وبهم ما لا يخفى.
وقرأ زيد بن علي وبشر مبنيا للمفعول وهو معطوف على أُعِدَّتْ كما اشتهر ، وقيل : إنه خبر بمعنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفا ، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده ، وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر ، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان ، ومتعلق آمَنُوا مما لا يخفى ، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند اللّه عز وجل ، والصَّالِحاتِ جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحا وصلاحا خلاف فسدت ، ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه ، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره ، وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك ، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسما و- أل - فيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الاثنان ، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد ، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلا أو عمل عملا واحدا غير داخل في الآية ، ومعرفة كونه مبشرا من مواقع أخر ، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلا كان أو كثيرا ، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد ، وليس هذا توزيعا في المشهور - كركب القوم دوابهم - إذ قد يطلق أيضا على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما
يخصه سواء الواحد الواحد - كالمثال - أو الجمع الواحد - كدخل الرجال مساجد محلاتهم - أو العكس - كلبس القوم ثيابهم - ومنه فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة : 6] والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أراد سبحانه ب أَنَّ لَهُمْ إلخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لاطراد حذف الجار مع - أنّ ، وأن - بغير عوض لطولهما بالصلة ، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور ، وفي المحل بعد الحذف قولان ، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله ، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 204
الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلا وكرما لكن بشرط الموت على الإيمان ، و- الجنة - في الأصل المرة من الجن - بالفتح - مصدر جنه إذا ستره ، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل فإن كرم ففردوس ، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى «1» بمعنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم «مالا ، ولا» مما هو مغيب الآن عنا ، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال ، وما نقل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفّاظ ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم ، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسرّ للسامع ، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة ك إِنَّ لَنا لَأَجْراً [الأعراف : 113] و- تحت - ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير مِنْ كما نص عليه أبو الحسن ، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل - من تحت أشجارها - أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخداما ونحوه ، وقيل : إن «تحت» بمعنى جانب - كداري تحت دار فلان - وضعف كالقول - من تحت أوامر أهلها - وقيل :
منازلها ، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية - كما قيل - بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لاطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود ، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس :
وتحدث الماء الزلال مع الحصى فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
والأنهار جمع نهر - بفتح الهاء وسكونها - والفتح أفصح ، وأصله الشق ، والتركيب للسعة ولو معنوية - كنهر السائل - بناء على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول ، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان : أشهرهما الأول ، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها ، وتأنيث تَجْرِي رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع ، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف «أولا ، ولا» والإسناد مجازي ، و- أل - للعهد الذهني قيل :
أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى : فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ [محمد : 15] الآية فإنها مكية على الأصح ، وذي مدنية نزلت بعدها ، واستبعده السيد والسعد ، وقيل : عوض عن المضاف إليه - أي أنهارها - وهو مذهب كوفي ، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطىء الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج ، ولا يخفى الكلام على جمع القلة.
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ صفة ثانية لجنات أخّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار - من تحتها - وصف لها باعتبار ذاتها ، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف - أي هم - والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة ، وكون الكلام مسوقا لبيان أحوال المؤمنين ، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لاسميتها ، ومعنى لكونها جواب سؤال - كأنه قيل : ما حالهم في تلك الجنات؟ - فأجيب بأن لهم فيها ثمارا لذيذة عجيبة وأزواجا نظيفة وَهُمْ فِيها خالِدُونَ وتقدير المبتدأ هو أو هي - للشأن أو القصة - ليس بشيء بناء على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير ، وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة اسمية ، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة - كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن
___________
(1) وهو قوله : كأن عيني في غربي.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 205
ثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد؟ - كان أصح وأوضح ، وأجاز أبو البقاء كونها حالا من الَّذِينَ أو من جَنَّاتٍ لوصفها وهي حينئذ حال مقدرة والأصل ... «1» الصاحبة ، والقول : بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لاحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة ، وكُلَّما نصب على الظرفية ب قالُوا ورِزْقاً مفعول ثان - لرزقوا - كرزقه مالا أي أعطاه ، وليس مفعولا مطلقا مؤكدا لعامله لأنه بمعنى المرزوق أعرف ، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له ، وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعا لذيذا غير ما تعرفونه ، ومِنْ الأولى والثانية للابتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعا انفصل عنه الشيء ، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو - إلى ، وهما ظرفان مستقران واقعان حالا على التداخل ، وصاحب الأولى رِزْقاً والثانية ضميره المستكن في الحال ، والمعنى كل حين رزقوا - مرزوقا - مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة ، والشائع كونهما لغوا ، والرزق قد ابتدأ من الجنات ، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وجعل بمنزلة أن تقول أعطاني فلان فيقال : من أين؟ فتقول : من بستانه ، فيقول : من أي ثمرة؟ فتقول : من الرمان ، وتحريره أن رُزِقُوا جعل مطلقا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدا بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة ، وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداء من غير تبعية.
وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع - كالتفاح والرمان - لا الفرد لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة منه لا جميعه وهو ركيك جدا ، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافا لمن وهم فيه وقع حالا من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديرا جاز تقديم المبين على المبهم ، والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنأة الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول ، ورِزْقاً مصدر مؤكد أو في موقع الحال من رِزْقاً لبعده مع أن الأصل التبيين والابتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزاء لمجرورها لا جزئيا فتأتي الركاكة هاهنا ، وجمع سبحانه بين مِنْها ومِنْ ثَمَرَةٍ ولم يقل - من ثمرها - بدل ذلك لأن تعلق مِنْها يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس ، وتعلق مِنْ ثَمَرَةٍ يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق ، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيرا إلى نهر جاء هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه ، والإخبار عنه ب الَّذِي إلخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا ، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته :
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع
وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات ، أو لتبيين المزية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة ، والتشابه في الصورة إما مع الاختلاف في الطعم - كما روي عن الحسن «إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك؟ فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم مختلف» أو مع التشابه في الطعم أيضا كما يشير إليه
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «والذي نفس
___________
(1) بياض فبي الأصل قدر كلمة.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 206
محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل اللّه تعالى مكانها مثلها»
فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك ، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم.
والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن كُلَّما تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم ، وقيل : كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم ، على أن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته - لمتشابها - بعد فإنه في رزق الجنة أظهر ، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه بمنه تعالى ، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة ، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى : ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت : 55] أي جزاءه - فالذي رزقناه - مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء - كمالا في - أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر ، وقيل : أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً تذييل للكلام السابق - وتأكيد له بما يشتمل على معناه - لا محل له من الإعراب ، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير «قد» وهو شائع ، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرا الخدم الولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي «وأتوا» على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه ، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى : وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إلى قوله سبحانه وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد - من قبل - في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان هذا - و- الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وهو المرزوق في الدارين - أي أوتوا بمرزوق الدارين متشابها بعضه
بالبعض - ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع إلى الملفوظ لقيل بهما ، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه ، وفي الكشف أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما ، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد.
قال أبو حيان : والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه - بالذي رزقوه من قبل - ولان هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة - أنه متشابه ليس من حديث الجنة - إلا بتكلف ، ولا يعكر - على دعوى متشابه ما في الدارين - ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : «ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء» لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم ، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة ، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد ، وهاتان بالاسمية لإفادة الدوام ، وترك العاطف في البعض - مع إيراده في البعض - قيل : للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات ، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى ، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان ، وجوز أن تكون الثانية حالا من ضمير الجمع في لَهُمْ والعامل فيها معنى الاستقرار - والأزواج - جمع قلة وجمع الكثرة زوجة - كعود وعودة - ولم يكثر استعماله في الكلام ، وقيل : ولهذا استغني عنه بجمع القلة توسعا ، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 207
الحور وغيرهن ، ويقال : الزوج للذكر والأنثى ، ويكون لأحد المزدوجين ولهما معا ، ويقال : للأنثى زوجة في لغة تميم ، وكثير من قيس ، والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره ، وليس في المفهوم اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد ، على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثارا في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام ، وذكر بعضهم
أن الأولاد روحانيون واللّه قادر على ما يشاء. ومعنى كونها مُطَهَّرَةٌ أن اللّه سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن ، فإن كن من الحور كما روي عن عبد اللّه - فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي ، وإن كن من بني آدم - كما روي عن الحسن - «من عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب» فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها. والتطهير - كما قال الراغب - يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعا ، فيكون عاما هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقا منصرفا إلى الكامل ، وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل : فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع ، وقرأ زيد بن علي - مطهرات - بناء على طهرن لا طهرت - كما في الأولى - ولعلها أولى استعمالا ، وإن كان الكل فصيحا لأنهم قالوا : جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة ، فإن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات ، وإن كان جمع قلة فالعكس ، وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء ك فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة : 234 ، الطلاق : 2] ويُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة : 233] ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة ، ومجيء هذه الصفة مبينة للمفعول ، ولم تأت طاهرة - وصف من طهر - بالفتح على الأفصح ، أو طهر بالضم ، وعلى الأول قياس ، وعلى الثاني شاذ للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهرا وليس سوى اللّه تعالى ، وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه؟! وقرأ عبيد بن عمير «مطهرة» وأصله متطهرة فأدغم ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل :
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة ، والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع ، وعندنا البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع ، واستعماله في المكث الدائم من حيث إن مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا ، وقد شهدت له الآيات والسنن ، والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها ، والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر ، والأولية تقدمه على جميع المخلوقات ، والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي ، ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال ، ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان جاهلا تعالى عن ذلك ، وإن علم لزم الانتهاء وهو بعد الفناء ، ولنا النصوص الدالة على التأييد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن. والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل :
البؤس خير من نعيم زائل ، والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص ، ومعنى «الأول والآخر» ليس كما في الشاهد بل بمعنى لا ابتداء ولا انتهاء له في ذاته من غير استناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم ، والخلق ليسوا كذلك ، فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى ، وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد؟! أفيقال : إن اللّه سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية. تبا للجهمية ما أجهلهم ، وأجهل منهم من قال : إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك فكيف يمكن التأبيد ، وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة ، وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 208
الكون والفساد؟! على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرا مختارا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلم لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل ، أو إن تحللت فلم لا يجوز أن يخلق بدل ما تحلل دائما أبدا؟ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وغيره : نزلت في اليهود لما ضرب اللّه تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت ، والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا : إن اللّه تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد اللّه تعالى عليهم بهذه الآية. ووجه ربطها بما تقدم على هذا - وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلا - أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب ، وقال مجاهد وغيره : نزلت في المنافقين ، قالوا - لما ضرب اللّه سبحانه المثل بالمستوقد ، والصيب - اللّه تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد اللّه تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه ، وقيل : إنها متصلة بقوله تعالى : فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا لهذه الأنداد ، وقيل : هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت ، كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤوا منها هلكوا ، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثوابا وعقابا ، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام ، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف واللّه سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه. وما انفكت الأمثال في الناس سائرة.
والحياء - كما قال الراغب - انقباض النفس عن القبائح ، وهو مركب من جبن وعفة ، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياة فهما متغايران وإن تلازما ، وقال بعضهم : الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله ، وما في القاموس خجل استحى تسامح ، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة ، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه ، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل ، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة - وللناس في ذلك مذهبان - فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه ، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض ، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناء على ما روي أنهم قالوا : ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب ، والعنكبوت ، وبعض - وأنا والحمد للّه منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله - مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث - على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة ، وقرأ الجمهور يستحيي بياءين والماضي استحيا ، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر ، وقرأ ابن كثير في رواية - وقليلون - بياء واحدة وهي لغة بني تميم ، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع. أو
العين فالوزن يستفل؟
قولان : أشهرهما الثاني ، وهذا الفعل مما يكون متعديا بنفسه وبالحرف فيقال : استحييته واستحيت منه ، والآية تحتملهما. والضرب إيقاع شيء على شيء ، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره ، فمعنى يضرب هنا يذكر ، وقيل : يبين. وقيل : يضع من ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [آل عمران : 112] وما اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد ، وقد يفيد التحقير أيضا - كاعطه شيئا ما - والتعظيم - كالأمر ما جدع قصير أنفه - والتنويع - كاضربه ضربا ما - وقد تجعل سيف خطيب ، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء ، وبعوضة إما صفة - لما - أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من مَثَلًا أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة ، أو مفعول ومَثَلًا حال وهي المقصودة ، أو منصوب على نزع الخافض أي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 209
ما من بعوضة فَما فَوْقَها كما نقل عن الفراء. والفاء بمعنى إلى ، أو مفعول ثان أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل ، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن اللّه لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء؟ فالمعنى لا يترك مَثَلًا ما استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده ، وقرأ ابن أبي عبلة ، وجماعة : بعوضة بالرفع والشائع على أنه خبر ، واختلفوا فيما يكون عنه خبرا فقيل مبتدأ محذوف - أي هي ، أو هو - بعوضة ، والجملة صلة ما على جعلها موصولة ، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول ، وقيل : ما بناء على أنها استفهامية مبتدأ ، واختار فى البحر أن تكون ما صلة أو صفة وهي بَعُوضَةً جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام ، وقيل : بَعُوضَةً مبتدأ ، وما نافية والخبر محذوف - أي متروكة - لدلالة لا يَسْتَحْيِي عليه.
«والبعوضة» واحد البعوض ، وهو طائر معروف ، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود. وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع ، ولذا سمي في لغة هذيل - خموش - فغلبت ، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع فَما فَوْقَها الفاء عاطفة ترتيبية ، وما عطف على بَعُوضَةً أو «ما» إن جعل اسما والتفصيل وما فيه غير خفي. والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترقّ من الصغير للكبير ، وبه قال ابن عباس ، أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر ، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا : إن جعلت «ما» موصولة ففيه الوجهان ، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك ، وقيل : أراد - ما فوقها - وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل : 81] فافهم.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي إلخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب ، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه ، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها. وكأنه قيل كما قيل فيضربه فَأَمَّا الَّذِينَ إلخ ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه ، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبا ، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحا ، أو دلالة ، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرا ، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى - من المحققين - أغلبيا ، وفسر سيبويه - أما زيد فذاهب - بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم ، والفعل إذ لا نظير له ، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك. ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق ، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه ، ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له ، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبا ، وقامت - أما ذلك المقام - لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم ، وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا ، وقد يقدم على الفاء - كما في الرضى - من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه ، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذم ما لا يخفى.
والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى ، والضمير في أَنَّهُ للمثل ، وهو أقرب ، أو لضربه المفهوم من أن يضرب ، وقيل : لترك الاستحياء المنقدح مما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 210
مر ، وقيل : للقرآن والْحَقُّ خلاف الباطل ، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت ، وقال الراغب : أصله المطابقة والموافقة ، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع ، وقيل : إنه الحكم المطابق ، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك ، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق ، والصدق في القول كذلك ، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم ، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال - هذا هو الحق - أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف ، ومِنْ رَبِّهِمْ إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق ، ومِنْ لابتداء الغاية المجازية ، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم اللّه تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فاللّه عز اسمه هو المناسب لحالهم وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران : 28 ، 30] وقيل : في ذلك - مع الإضافة إلى الضمير - تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم ، والجملة سادة مسد مفعولي - يعلمون - عند الجمهور ، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي فَيَعْلَمُونَ حقيته ثابتة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا لم يقل سبحانه - وأما الذين كفروا فلا يعلمون - ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة :
ومن قال للمسك أين الشذا يكذبه ريحه الطيب
قيل : ولم يقل سبحانه هناك - وأما الذين آمنوا فيقولون - إلخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كاخفاء الجمر في الحلفاء ، وقيل : إن - يقولون - لا يدل صريحا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند فَيَقُولُونَ إلخ أشمل وأجمع ، وما ذا لها ستة أوجه في استعمالهم. الأول أن تكون «ما» استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، و- ذا - بمعنى الذي خبره ، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناء على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام. وغيره يجعل النكرة خبرا عن الموصول. الثاني أن تكون ماذا كلها استفهاما مفعولا - لأراد - وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية ، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ [النور : 40] ، الثالث أن يجعل - ما - استفهامية ، و- ذا - صلة لا إشارة ولا موصولة ، الرابع أن يجعلا معا موصولا كقوله. دعي ماذا علمت سأتقيه. الخامس أن يجعلا نكرة موصوفة وقد جوز في المثال ، السادس أن تكون - ما - استفهامية ، و- ذا - اسم إشارة خبر له.
«والإرادة» كما قاله الراغب : منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل ، وجعل اسما لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل ، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي إلخ ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده ، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات ، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد. وللمتكلمين - أهل الحق وغيرهم - في تفسيرها مذاهب ، فالكلبي والنجار وغيرهما على أن إرادته

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 211
سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالما بها وبما فيها من المصلحة ، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها ، فالمعاصي إذا ليست بإرادته جل شأنه ، ونحو ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل ، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي ، ويسمون هذا العلم عناية وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية ، وموجودة لا في محل عند الأبوين ، والمذاهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة ، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع ، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال - كما قال البيضاوي عفا اللّه تعالى عنه - لم يذهب إليه أحد. وفي كلمة - هذا - استحقار للمشار إليه مثلها في أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان : 41] وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام ، ومَثَلًا نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه. وقد ذكر الرضى - والعهدة عليه - أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجيء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما ، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة ، ويحتمل أن يكون حالا من اسم اللّه تعالى أو من هذا أي ممثلا أو ممثلا به أو بضربه.
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جملتان جاريتان مجرى البيان ، والتفسير للجملتين المصدرتين - بأما - إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورا إلى نورهم ، والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطا في ظلمتهم ، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحا أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية ، وصرح بعضهم بأنهما جواب - لما ذا - ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيرا ، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان ، قيل : ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك ، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى : وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر : 21] وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار ، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب ، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشىء من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببا له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور ، فالاهتمام ببيانه أولى ، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل :
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت لدى المجد حتى عد ألف بواحد
لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية ، هذا وجوّز بعضهم أن يكون قوله تعالى : يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً إلخ في موضع الصفة - لمثل - فهو من كلام الكفار ، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل - يضل اللّه به كثيرا ويهدي به كثيرا - وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً من كلام الكفار وما بعده من كلام اللّه تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل ، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في الكشاف لأنه نزغة اعتزالية ، والضمير في بِهِ للمثل أو لضربه في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 212
الموضعين ، وقيل : في الأول للتكذيب ، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام ، ولا يخفى ضعفه ، وقرأ زيد بن علي يُضِلُّ هنا وفيما يأتي ، ويَهْدِي بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في - الثلاثة - بالبناء للفاعل ، ورفعا للفاسقين - خفضهم اللّه تعالى : وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناء على قول من جوزه ، وقيل :
حال ، ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلا لأنه لا يصح كونه جوابا وبيانا ، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه ، والْفاسِقِينَ جمع فاسق من الفسق ، وهو شرعا خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرا بقرينة ، وهو من قولهم : فسق الرطب إذا خرج من قشره ، قال ابن الأعرابي : ولم يسمع الفسق وصفا للإنسان في كلام العرب ، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري ، وإلا فقد قال رؤبة ، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه :
يذهبن في نجد وغور أغائرا «فواسقا» عن قصدها جوائرا
على أنه يمكن أن يقال : لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء ، وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل. والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق وما أجري عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا ، ونصب الْفاسِقِينَ على أنه مفعول يضل أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحدا ، ولا تفريغ كما في قوله :
نجا سالم والنفس منه بشدة ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ يحتمل النصب والرفع ، والأول إما على الاتباع أو القطع - أي أذم - والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الابتداء ، والخبر جملة أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد و- النقض - فسخ التركيب ، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه ، ونقيضه البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد - كما قال الزمخشري - من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك : عالم يغترف منه الناس ، وشجاع يفترس أقرانه.
والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية ، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم ، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل ، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد ، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية ، وتحقيق البحث يطلب من محله ، والعهد الموثق ، وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه ، واستعهد منه إذا اشترط عليه ، واستوثق منه. والمراد بالعهد هاهنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى اللّه تعالى عليهم وسلم ، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم لأنهم نقضوا ما أبرمه اللّه تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 213
والسلام وأنزل الكتب مؤكدا لها ، والناقضون على هذا جميع الكفار. وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره. وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه. والناقضون حينئذ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلا ، والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول ، وعكس بعض - ولكل وجهة - وقيل : الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السماوات والأرض عن أن يحملنها ، وقيل : هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول والظاهر العموم. ومِنْ للابتداء وكون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشيء وخرج ، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل ، وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد - فأثر ما استوثق اللّه تعالى منهم نقضوه - وقيل : صلة وهو بعيد ، والميثاق مفعال وهو في الصفات كثير - كمنحار - ويكون مصدرا عند أبي البقاء والزمخشري - كميعاد - بمعنى الوعد ، وأنكره جماعة وقالوا : هو اسم في موضع المصدر كما في قوله :
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد «عطائك» المائة الرتاعا
ويكون اسم آلة - كمحراث - ولم يشع هذا وليس بالبعيد ، والمراد به ما وثق اللّه تعالى به عهده من الآيات والكتب ، أو ما وثقوه به من القبول والالتزام ، والضمير للعهد لأنه المحدث عنه. ويجوز عوده إلى اللّه تعالى ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد فهو أهم من ذكر الفاعل ، ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل ، وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر بمعنى التوثقة ، وفي الضمير الاحتمالان فإن عاد إلى اسم اللّه تعالى كان المصدر مضافا إلى الفاعل ، وإن إلى العهد كان مضافا إلى المفعول ، وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية ، وأما فيها فمطرد كثير ، وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤول بمشتق فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم ، والوجه أنها في نية الانفصال وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ما المقطوعة موصولة ، أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء ، وفي المراد بها أقوال : «الأول» رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان - قاله الحسن - وفيه استعمال «ما» لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل «الثاني» القول فإنه تعالى أمر - أن يوصل - بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا ، وظاهر هذا أنها نزلت في المنافقين «الثالث» التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض «الرابع» الرحم والقرابة قاله قتادة ، وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم «الخامس» الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين اللّه تعالى وبين العبد - المقصودة بالذات من كل وصل وفصل ، ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ولا دليل واضح على الخصوص. ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر - أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه ، وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم - وليس بالقوي.
والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين ، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون :
فَما ذا تَأْمُرُونَ [الأعراف : 110 ، الشعراء : 35] ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها ، وفي موجبها خلاف ، وهذا هو الأمر الطلبي. وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمي الخطب والحال العظيمة شأنا. وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد. وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود : 97]. وأَنْ يُوصَلَ يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما أو من ضميره ، والثاني أولى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 214
للقرب ولأن - قطع ما أمر اللّه تعالى بوصله - أبلغ من قطع وصل ما أمر اللّه تعالى به نفسه ، واحتمال الرفع بتقدير هو - أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله - أي لأن - أو كراهية - أن ليس بشيء كما لا يخفى.
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم - أو بأنهم يرتكبون كل معصية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها - ولعل هذا أولى وذكر في الْأَرْضِ إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. وأُولئِكَ إشارة إلى الْفاسِقِينَ باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة ، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر - الخاسرين - عليهم باعتبار كما لهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية ، واشتروا النقض بالوفاء ، والفساد بالصلاح ، والقطعية بالصلة ، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان - رأس المال والربح - وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم. وفي الآية ترشيح «1» للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم.
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله. وكَيْفَ اسم ما ظرف - وعزي إلى سيبويه - فمحلها نصب دائما ، أو غير ظرف - وعزي إلى الأخفش - فمحلها رفع مع المبتدأ ونصب مع غيره ، وادعى ابن مالك أن أحدا لم يقل بظرفيتها إذ ليست زمانا ولا مكانا لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازا ، واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ. وأكثر ما تستعمل استفهاما والشرط بها قليل والجزم غير مسموع ، وأجازه قياسا - الكوفيون وقطرب ، والبدل منها أو الجواب إن كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخا. وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء ، وهي هنا للاستخبار منضما إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيد اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به ، ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال : كافر معاند وكافر جاهل؟ فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة؟ وهو يستلزم العلم بصانع موصوف بصفات الكمال منزه عن النقصان ، وهو صارف قوي عن الكفر ، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ ، وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم. وفيه من المبالغة أيضا ما ليس في «أتكفرون» لأن الإنكار الذي هو نفي قد توجه للحال التي لا تنفك. ويلزم من نفيها نفي صاحبها بطريق البرهان ، وإن شئت عممت الحال.
وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق ، ولا يرد أن الاستخبار محال على - اللطيف الخبير عز شأنه - لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه - وهما من المعاني المجازية للاستفهام - الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الاستخبار حقيقة للصيغة ، وبين معنيين مجازيين إن كان مجازا لأن الانفهام بطريق الاستتباع واللزوم لا من حلق الوسط ، أو أنه تجوّز على تجوّز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه ، وإما أن يكون بمعنى الاستفهام فنقول : لا قدح في صدوره ممن
___________
(1) لأن الخسران من لوازم التجارة ، والآيات تتضمن استبدال الأمور المذكورة بنقائضها المستعار له البيع والشراء ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 215
يعلم المستفهم عنه لأنه - كما في الإتقان - طلب الفهم. أما فهم المستفهم - وهو محال عليه تعالى - أو وقوع فهمه ممن لا يفهم كائنا من كان ولا استحالة فيه منه تعالى ، وكذا لا استحالة في وقوع التعجيب منه تعالى بل قالوا : إذا ورد التعجب من اللّه جل وعلا لم يلزم محذور إذ يصرف إلى المخاطب أو يراد غايته أو يرجع إلى مذهب السلف ، وأتى سبحانه - يتكفرون - ولم يأت بالماضي وإن كان الكفر قد وقع منهم - لأن الذي أنكر الدوام والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون في الكلام توبيخ لمن وقع منه الكفر ممن آمن كأكثر الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم.
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ما قبل ثُمَّ حال من ضمير تَكْفُرُونَ بتقدير قد لا محالة خلافا لمن وهم فيه. والمعنى كَيْفَ تَكْفُرُونَ وقد خلقكم ، فعبر عن الخلق بذلك ، ولما كان - مركوزا في الطباع ومخلوقا في العقول - أن لا خالق إلا اللّه كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر ، والجمل بعد مستأنفة لا تعلق لها بالحال ولذا غايرت ما قبلها بالحرف والصيغة ، ولك أن تجعل جميع الجمل مندرجة في الحال وهو في الحقيقة العلم بالقصة كأنه قيل : كَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها ، فلا يضر اشتمالها على ماض ومستقبل ، وكلاهما لا يصح أن يقع حالا ، ورجح هذا جمع محققون ، والحياة قوة تتبع الاعتدال النوعي ويفيض منها سائر القوى ، وقيل : القوة الحساسة والعضو المفلوج حي وإلا لتسارع إليه الفساد ، وعدم الاحساس بالفعل لا يدل على عدم القوة لجواز فقدان الأثر لمانع ، وكأنهم أرادوا من ذلك قوة اللمس لأن مغايرة الحياة لما عداه من الحواس ظاهرة فإنها مختصة بعضو دون عضو ، وأنها مفقودة في بعض أنواع الحيوانات ، وأنه يلزم تعدد الحياة بالنوع في شخص واحد إن قيل بكون الحياة كل واحد منها. وتركبها في الخارج إن أريد مجموعها ، وتطلق مجازا على القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها ، وعلى ما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها ، و- الموت - مقابل لها في كل مرتبة والكل «1» في كتاب اللّه تعالى وحياته سبحانه وتعالى صحة اتصافه جل شأنه بالعلم والقدرة أو معنى قائم بذاته تعالى يقتضي ذلك ، وأين التراب من رب الأرباب.
ثم إن للناس في المراد بما في الآية الكريمة أقوالا شتى ، والمروي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، ومجاهد رضي اللّه تعالى عنهم أن المراد بالموت الأول العدم السابق ، والإحياء الأول الخلق والموت الثاني المعهود في الدار الدنيا ، والحياة الثانية البعث للقيامة ، واختاره بعض المحققين وادعى أن قوله تعالى : وَكُنْتُمْ أَمْواتاً وإسناده آخر الإماتة إليه تعالى مما يقويه ، واختار آخرون أن كونهم أمواتا هو من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، وأن الحياة «2» الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار ، والإماتة - هي المعهودة - والإحياء بعدها - هو البعث - يوم ينفخ في الصور ولعله أقرب من الأول ، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فسر - الموت - بعدم الحياة عمن اتصف به ، وحقيقة إن فسر بعدم الحياة عما من شأنه ، قاله الساليكوتي ، ويفهم كلام بعضهم : أنه على معنى كالأموات على التفسير الثاني وإن فسر بعدم الحياة مطلقا كان حقيقة وهو المشهور وأبعد الأقوال عندي حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل ، والإحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر فيكون قد وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الوقوع ، ثم لا دليل في الآية على المختار لنفي عذاب القبر إذ نهاية ما فيها عدم ذكر الاحياء المصحح له ، ونحن لا نستدل لها
___________
(1) قال الشيخ : أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس فأنه كما أن للنبات قوة غاذية يجوز ان يفقد سائر القوى دونها.
كذلك حال اللامسة للإنسان ا ه.
(2) قال اللّه تعالى : قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وقال سبحانه : أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وقال عز شأنه : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ا ه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 216
بذلك الوجه عليه ولنا - والحمد للّه تعالى - في ذلك المطلب أدلة شتى ، وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ للّه ، ووراء هذا من المقال ما لا يخفى على العارفين ، وفي قوله تعالى : تُرْجَعُونَ على البناء للمفعول دون - يرجعكم - المناسب للسياق مراعاة لتناسب رؤوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسياق ، ولهذا قيل : إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد ، وجماعة «ترجعون» مبنيا للفاعل ، ولا يرد أن الآية إذا كانت خطابا للكفار - ومعنى العلم ملاحظ فيها - امتنع خطابهم بما بعد - ثم وثم - من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية - وسطوع أنوارها عقلية ونقلية - منزل منزل العلم في إزاحة العذر ، وبهذا يندفع أيضا ما قيل : هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به ، ويحتمل كما قيل : أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضا من قوله سبحانه : يا أَيُّهَا النَّاسُ إلى فَلا تَجْعَلُوا ودلائل النبوة من وَإِنْ كُنْتُمْ إلى إِنْ كُنْتُمْ وأوعد ب فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا الآية ، ووعد ب وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله وَكُنْتُمْ أَمْواتاً إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ والخاصة من يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة : 40] إلى ما نَنْسَخْ [البقرة : 106] واستقبح صدور الكفر - مع تلك النعم منهم - توبيخا للكافر وتقريرا للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب ، وقد يقال : إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها.
«ومن الإشارة» قول ابن عطاء وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بالظاهر فَأَحْياكُمْ بمكاشفة الأسرار ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن أوصاف العبودية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بأوصاف الربوبية ، وقال فارس : وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بشواهدكم فَأَحْياكُمْ بشواهده ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن شاهدكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بقيام الحق ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عن جميع ما لكم فتكونون له.
[سورة البقرة (2) : الآيات 29 إلى 38]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 217
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً معطوف على قوله تعالى : وَكُنْتُمْ وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده ، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى ، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها ، وهُوَ لغير المتكلم والمخاطب ، وفيه لغات : تخفيف الواو مفتوحة ، وحذفها في الشعر ، وتشديدها لهمدان ، وتسكينها لأسد وقيس ، وهُوَ عند أهل اللّه تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة ، وهُوَ اسم مركب من حرفين الهاء والواو ، و- الهاء - أصل ، و- الواو - زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه ، ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلّة مدارا لذكرهم وسراجا لسرهم ، وهو جار مع الأنفاس ، ومسماه غائب عن الحدس والقياس ، وفي «جعل» الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى ، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والانتفاع - أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض - لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالاستدلال والاعتبار ، واستدل كثير من أهل السنة - الحنفية ، والشافعية - بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع ، وعليه أكثر المعتزلة ، واختاره الإمام في المحصول ، والبيضاوي في المنهاج.
واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء : 7] وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع ، وبأن المراد النفع بالاستدلال ، وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره ، وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر ، وقال قوم بالوقف لتعارض الأدلة عندهم ، واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعا خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا ، ويرده أنها تدل على أن الكل للكل ، ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب ، فهناك شبه التوزيع ، والتعيين يستفاد من دليل منفصل ، ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي ، وما تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفا لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط ، أو تجعل الجهة اعتبارية ، نعم قيل : تعم كل جزء من أجزاء الأرض - فإنه من جملة ضروراتها - ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول : بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض - لا أرضى به ، وبعضهم لم يتكلف شيئا من ذلك ، واستغنى بتقدم الامتنان بالأرض في قوله تعالى : جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة : 22] وجَمِيعاً حال مؤكدة من كلمة «ما» ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معا ، وجعله حالا من ضمير لَكُمْ يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم ، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من الأرض أيضا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد - قاله الربيع - أو قصد إليها بإرادته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم : استوى إليه - كالسهم المرسل - إذا
قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شي ء - قاله الفراء - وقيل : استولى وملك كما في قوله :
فلما «علونا واستوينا عليهم» تركناهم صرعى لنسر وكاسر

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 218
وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون إِلَى بمعنى على ، وأيضا الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولى عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الأجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل : للتراخي في الوقت ، وقيل : لتفاوت ما بين الخلقين ، وفضل خلق السماء على خلق الأرض ، والناس مختلفون في خلق السماء وما فيها ، والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر لتعارض الظواهر في ذلك ، فذهب بعض إلى تقدم خلق السماوات لقوله تعالى : أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات : 27 - 32] وذهب آخرون إلى تقدم خلق الأرض لقوله تعالى : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت : 9] إلى قوله سبحانه :
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت : 10 - 12] وجمع بعضهم فقال : إن أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بدل أو عطف بيان «لدحاها» أي بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر - خلق ما فيها - وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير. وقيده المذكور كما لو قلت : بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني ، وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر فجعل نفسه متأخرا وما رواه الحاكم والبيهقي - بسند صحيح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في التوفيق بين الآيتين - يشير إلى هذا ، ولا يعارضه ما
رواه ابن جرير وغيره وصححوه عنه أيضا - «إن اليهود أتت النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال : خلق اللّه تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب ، فهذه أربعة فقال تعالى : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إلى سَواءً لِلسَّائِلِينَ وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة» -
لجواز أن يحمل على أنه خلق مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور المدائن والعمران والخراب قبل ، فعطفه عليه قرينة لذلك ، واستشكال الإمام الرازي تأخر التدحية عن خلق السماء بأن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية فإذا كانت التدحية متأخرة كان خلقها أيضا متأخرا مبني كما قيل : على الغفلة لأن من يقول بتأخر دحوها عن خلقها لا يقول بعظمها ابتداء بل يقول.
إنها في أول الخلق كانت كهيئة الفهر ثم دحيت ، فيتحقق الانفكاك ويصح تأخر دحوها عن خلقها ، وقوله قدس سره : إن خلق الأشياء في الأرض - لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة - لا يخفى دفعه بناء على أن المراد بذلك خلق المواد والأصول لا خلق الأشياء فيها كما هو اليوم وقال بعض المحققين : اختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول - واختاره المحققون - ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السماوات السبع بل اتفقوا عليه ، فحينئذ يجعل - الخلق - في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد أو بمعناه ويقدر الإرادة - ويكون المعنى أراد خلق ما في الأرض جميعا - لكم على حد إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة : 6] وفَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [الإسراء : 45] ولا يخالفه وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها ، أو إرادة إيجادها والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها فلا إشكال ، وأما قوله سبحانه وتعالى : خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت : 9] فعلى تقدير الإرادة ، والمعنى أراد خلق الأرض ، وكذا وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ [الرعد : 3 ، فصلت : 10] ينبغي أن يكون بمعنى أراد أن يجعل ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت : 11] فإن الظاهر أن المراد ائتيا في الوجود ، ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه سبحانه قال : أئنكم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 219
لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا بأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام.
«بقي هاهنا» بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر هاهنا وفي «حم» السجدة خلق الأرض وما فيها على خلق السماوات وعكس في - النازعات - ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظرا إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى : هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء ثم خلق السماء ، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها ، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس اللّه تعالى أسرارهم أن المحدد - ويقال له سماء أيضا - مخلوق قبل الأرض وما فيها ، وأن الأرض نفسها خلقت بعد ، ثم بعد خلقها خلقت السماوات السبع ، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات ، ثم ظهر عالم الحيوان ، ثم عالم الإنسان ، فمعنى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواده ، ومعنى وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إلخ في الآية الأخرى على نحو هذا ، «وخلق الأرض فيها» على ظاهرة ولا يأباه قوله سبحانه : فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا إلخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة ، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة ، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم إلى الآن ، ولنا فيه إن شاء اللّه تعالى عودة بعد عودة ، ونسأل اللّه تعالى التوفيق فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام ، وجاز أن يرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤولة به ، وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد - نعم رجلا - وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى ، وفي نصب سَبْعَ خمسة أوجه : البدل من المبهم ، أو العائد إلى السماء ، أو مفعول به أي سوى منهن ، أو حال
مقدرة ، أو تمييز ، أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صير - ولم يثبت - والبدلية أرجح لعدم الاشتقاق وبعدها الحالية - كما في البحر - وأريد «بسواهن» أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم : ضيق فم البئر ووسع الدار ، وفي مقارنة التسوية والاستواء حسن لا يخفى «لا يقال» إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك ، وهل هي إلا سماوات؟ لأنا نقول هم شاكّون إلى الآن في النقصان والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد ، وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي ، وقال بعض محققيهم : لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض ، وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد ، على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما اختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة ، وكلام البيضاوي في تفسيره يشير إليه خلافا لما في منهاجه الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في المنخول ، وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد - والخلاف في ذلك مشهور - وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام.
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل مقرر لما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك : 3 ، 4] وفي عَلِيمٌ من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعا إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثّر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة - والشي ء - هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 220
لمن ضل عن سواء السبيل ، والجار والمجرور متعلق ب عَلِيمٌ وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه ، والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة كما قالوا : خالفت أفعالها لأنها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية وهو أنه إن كان فعله متعديا فإن أفهم علما أو جهلا تعدى بالباء - كأعلم به وأجهل به ، وعليم به وجهول به - وأعلم من يضل على التأويل وإلا تعدى باللام - كالضرب لزيد فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود :
107] - وإلا تعدى بما يتعدى به فعله - كما صبر على النار ، وصبور على كذا - ولعل ذلك أغلبي إذ يقال رحيم به فافهم وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً لما امتنّ سبحانه على من تقدم بما تقدم أتبع ذلك بنعمة عامة وكرامة تامة والإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع والولد سر أبيه وَإِذْ ظرف زمان للماضي مبني لشبهه بالحرف وضعا وافتقارا ويكون ما بعدها جملة فعلية أو اسمية ، ويستفاد الزمان منها بأن يكون ثاني جزأيها فعلا أو يكون مضمونها مشهورا بالوقوع في الزمان المعين ، وإذا دخلت على المضارع قلبته إلى الماضي ، وهي ملازمة للظرفية إلا أن يضاف إليها زمان ، وفي وقوعها مفعولا به أو حرف تعليل أو مفاجأة أو ظرف مكان أو زائدة خلاف ، وفي البحر أنها لا تقع ، وإذا استفيد شيء من ذلك فمن المقام ، واختلف المعربون فيها هنا فقيل : زائدة وبمعنى قد ، وفي موضع رفع أي ابتداء خلقكم إذ وفي موضع نصب بمقدر - أي ابتدأ خلقكم أو أحياكم إذ - ويعتبر وقتا ممتدا لا حين القول ، ويقال : بعدها ومعمول - لخلقكم - المتقدم والواو زائدة والفصل بما يكاد أن يكون سورة ، ومتعلق - باذكر - ويكفي في صحة الظرفية ظرفية المفعول - كرميت الصيد في الحرم - وهذه عدة أقوال بعضها غير صحيح والبعض فيه تكلف ، فاللائق أن تجعل منصوبة - بقالوا - الآتي وبينهما تناسب ظاهر والجملة بما فيها عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة كذا قيل ، وأنت تعلم أن المشهور القول الأخير ولعله الأولى فتدبر ، ولا يخفى لطف الرب هنا مضافا إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم بطريق الخطاب وكان في تنويعه والخروج من عامه إلى خاصه رمزا إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها فهو صلى اللّه تعالى عليه وسلم على الحقيقة الخليفة الأعظم في الخليقة والإمام المقدم في الأرض والسماوات العلى ، ولولاه ما خلق آدم بل «ولا ، ولا» وللّه تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول عن لسان الحقيقة المحمدية :
وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
واللام الجارة للتبليغ ، و«الملائكة» جمع ملأك على وزن شمائل وشمأل وهو مقلوب مالك صفة مشبهة عند الكسائي ، وهو مختار الجمهور من الألوكة وهي الرسالة ، فهم رسل إلى الناس وكالرسل إليهم ، وقيل : لا قلب فابن كيسان إلى أنه فعال من الملك بزيادة الهمزة لأنه مالك ما جعله اللّه تعالى إليه أو لقوته فإن «م ل ك» يدور مع القوة والشدة يقال : ملكت العجين شددت عجنه ، وهو اشتقاق بعيد ، وفعال قليل ، وأبو عبيدة إلى أنه مفعل من لاك إذا أرسل مصدر ميمي بمعنى المفعول أو اسم مكان على المبالغة ، وهو اشتقاق بعيد أيضا ، ولم يشتهر لاك ، وكثر في الاستعمال الكني إليه - أي كن لي رسولا - ولم يجىء سوى هذه الصيغة فاعتبره مهموز العين ، وإن أصله ألا كنى ، وبعض جعله أجوف من لاك يلوك ، والتاء لتأنيث الجمع ، وقيل : للمبالغة ولم يجعل لتأنيث اللفظ كالظلمة لاعتبارهم التأنيث المعنوي في كل جمع حيث قالوا : كل جمع مؤنث بتأويل الجماعة وقد ورد بغير تاء في قوله :
أبا خالد صلت عليك الملائك
واختلف الناس في حقيقتها بعد اتفاقهم على أنها موجودة سمعا أو عقلا ، فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام نورانية ، وقيل : هوائية قادرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن اللّه تعالى ، وقالت النصارى : إنها الأنفس

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 221
الناطقة المفارقة لأبدانها الصافية الخيرة ، والخبيثة عندهم شياطين ، وقال عبدة الأوثان : إنها هذه الكواكب السعد منها ملائكة الرحمة ، والنحس ملائكة العذاب. والفلاسفة يقولون : إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، وصرح بعضهم بأنها العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك ، وهي عندنا منقسمة إلى قسمين. قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم : 6] وهم فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات : 5] فمنهم سماوية ومنهم أرضية ، ولا يعلم عددهم إلا اللّه. وفي الخبر «أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع»
وهم مختلفون في الهيئات متفاوتون في العظم ، لا يراهم على ما هم عليه إلا أرباب النفوس القدسية. وقد يظهرون بأبدان يشترك في رؤيتها الخاص والعام وهم على ما هم عليه ، حتى قيل : إن جبريل عليه السلام في وقت ظهوره في صورة دحية الكلبي بين يدي المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى ، ومثله يقع للكمل من الأولياء ، وهذا ما وراء طور العقل - وأنا به من المؤمنين - وقد ذكر أهل اللّه - قدس اللّه تعالى أسرارهم - أن أول مظهر للحق جل شأنه العما ، ولما انصبغ بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجساد الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم. فلما أوجدهم تجلى لهم باسمه الجميل فهاموا في جلال جماله ، فهم لا يفيقون ، فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحدا من هؤلاء - وهو أول ملك ظهر عن ملائكة ذلك النور - سماه العقل والقلم ، وتجلى له في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لا إلى غاية ، فقبل بذاته علم ما يكون ، وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي ، فاشتق من هذا العقل ما سماه اللوح ، وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه ما يكون إلى يوم القيامة لا غير.
فجعل لهذا العلم ثلاثمائة وستين سنا من كونه قلما ، ومن كونه عقلا ثلاثمائة وستين تجليا أو رقيقة كل سن أو رقيقة تفترق من ثلاثمائة وستين صنفا من العلوم الإجمالية فيفصلها في اللوح ، وأول علم حصل فيه علم الطبيعة فكانت دون النفس ، وهذا كله في عالم النور الخالص ، ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فأفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة ، فلأم شعثها ذلك النور فظهر العرش ، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق ، وخلق من ذلك النور فظهر العرش ، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق ، وخلق من ذلك النور الممتزج الملائكة الحافين ، وليس لهم شغل إلا كونهم - حافين من حول العرش يسبحون بحمده - ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش ، وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته ، فكل فلك أصل لما خلق فيه من عماره ، كالعناصر فيما خلق فيها من عمارها ، وقسم في هذا الكرسي الكلمة إلى خبر وحكم ، وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر. ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك ، فلكا في جوف فلك ، وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه ، وزينها بالكواكب وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت : 12] إلى أن خلق صور المولدات ، وتجلى لكل صنف منها بحسب ما هي عليه ، فتكون من ذلك أرواح الصور وأمرها بتدبيرها وجعلها غير منقسمة بل ذاتا واحدة ، وميز بعضها عن بعض فتميزت وكان تمييزها بحسب قبول الصور من ذلك التجلي ، وهذه الصور في الحقيقة كالمظاهر لتلك الأرواح ، ثم أحدث سبحانه الصور الجسدية الخيالية بتجلّ آخر ، وجعل لكل من الأرواح والصور غذاء يناسبه ، ولا يزال الحق سبحانه يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين ، وسبحان من يقول للشيء كن فيكون.
إذا علمت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في الملائكة المقول لهم ، فقيل : كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 222
فشمل المهيمين وغيرهم ، وقيل : ملائكة الأرض بقرينة أن الكلام في خلافة الأرض ، وقيل : إبليس ومن كان معه في محاربة الجن الذين أسكنوا الأرض دهرا طويلا ففسدوا فبعث اللّه تعالى عليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن أيضا وهم خزان الجنة - اشتق لهم اسم منها - فطردوهم إلى شعوب الجبال والجزائر. والذي عليه السادة الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم ، أنهم ما عدا العالمين ممن كان مودعا شيئا من أسماء اللّه تعالى وصفاته ، وأن العالمين غير داخلين في الخطاب ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات ، وقوله تعالى : أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص : 75] يشير إلى ذلك عندهم ، وجعلوا من أولئك الملك المسمى بالروح وبالقلم الأعلى وبالعقل الأول وهو المرآة لذاته تعالى ، فلا يظهر بذاته إلا في هذا الملك ، وظهوره في جميع المخلوقات إنما هو بصفاته فهو قطب العالم الدنيوي والأخروي وقطب أهل الجنة والنار وأهل الكثيب والأعراف ، وما من شيء إلا ولهذا الملك فيه وجه يدور ذلك المخلوق على وجهه فهو قطبه ، وهو قد كان عالما بخلق آدم ورتبته ، فإنه الذي سطر في اللوح ما كان وما يكون ، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه ، وقد ظهر هذا الملك بكماله في الحقيقة المحمدية كما يشير إليه قوله تعالى : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى : 52] ولهذا كان صلى اللّه تعالى عليه وسلم أفضل خلق اللّه تعالى على الإطلاق ، بل هو الخليفة على الحقيقة في السبع الطباق ، وليس هذا بالبعيد فليفهم.
وجاعِلٌ اسم فاعل من الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين ، والأول هنا خليفة ، والثاني فِي الْأَرْضِ أو بمعنى الخلق فيتعدى لواحد ، ف فِي الْأَرْضِ متعلق بخليفة ، وقدم للتشويق وعمل الوصف لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه ، ورجح في البحر كونه بمعنى الخلق لما في المقابل ، ويلزم - على كونه بمعنى التصيير - ذكر خليفة أو تقديره فيه.
والمراد من الأرض إما كلها وهو الظاهر ، وبه قال الجمهور ، أو أرض مكة ، وروي هذا مرفوعا والظاهر أنه لم يصح ، وإلا لم يعدل عنه ، وخص سبحانه الأرض لأنها من عالم التغيير والاستحالات ، فيظهر بحكم الخلافة فيها حكم جميع الأسماء الإلهية التي طلب الحق ظهوره بها بخلاف العالم الأعلى و- الخليفة - من يخلف غيره وينوب عنه ، والهاء للمبالغة ، ولهذا يطلق على المذكر ، والمشهور أن المراد به آدم عليه السلام وهو الموافق للرواية ولإفراد اللفظ ولما في السياق ، ونسبة سفك الدم والفساد إليه حينئذ بطريق التسبب أو المراد - بمن يفسد - إلخ من فيه قوة ذلك ، ومعنى كونه خَلِيفَةً أنه خليفة اللّه تعالى في أرضه ، وكذا كل نبي استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى ، ولكن لقصور المستخلف عليه لما أنه في غاية الكدورة والظلمة الجسمانية ، وذاته تعالى في غاية التقدس ، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية فلا بد من متوسط ذي جهتي تجرد وتعلق ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى ، وقيل : هو وذريته عليه السلام ، ويؤيده ظاهر قول الملائكة ، فإلزامهم حينئذ بإظهار فضل آدم عليهم لكونه الأصل المستتبع من عداه ، وهذا كما يستغني بذكر أبي القبيلة عنهم ، إلا أن ذكر الأب بالعلم وما هنا بالوصف ، ومعنى كونهم خلفاء أنهم يخلفون من قبلهم من الجن بني الجان أو من إبليس ومن معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك على ما نطقت به الآثار ، أو أنه يخلف بعضهم بعضا ، وعند أهل اللّه تعالى المراد بالخليفة آدم وهو عليه السلام خليفة اللّه تعالى وأبو الخلفاء والمجلى له سبحانه وتعالى ، والجامع لصفتي جماله وجلاله ، ولهذا جمعت له اليدان وكلتاهما يمين ، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه ، ومن هنا
قال الخليفة الأعظم صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إن اللّه تعالى خلق آدم على صورته أو - على - صورة الرحمن»
وبه جمعت الأضداد وكملت النشأة وظهر الحق ، ولم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام ، بل متى فارق هذا الإنسان العالم مات العالم لأنه الروح الذي به قوامه ، فهو العماد المعنوي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 223
للسماء ، والدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه. ولما كان هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته صحت له الخلافة وتدبير العالم واللّه سبحانه الفعال لما يريد ، ولا فاعل على الحقيقة سواه وفي المقام ضيق ، والمنكرون كثيرون ولا مستعان إلا باللّه عز وجل. وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة لأن هذه المعاملة تشبهها أو تعظيم شأن المجعول وإظهار فضله ويحتمل أنه سبحانه أراد بذلك تعريف آدم عليه السلام لهم ليعرفوا قدره لأنه باطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم ، وكان هذا القول على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في دولة السنبلة بعد مضي سبعة عشر ألف سنة من عمر الدنيا ومن عمر الآخرة التي «1» لا نهاية له في الدوام ثمانية آلاف سنة ، ومن عمر العالم الطبيعي المفيد بالزمان المحصور بالمكان إحدى وسبعون ألف سنة من السنين المعروفة الحاصلة أيامها من دورة الفلك الأول وهو يوم وخمسا يوم من أيام ذي المعارج وللّه تعالى الأمر من قبل ومن بعد ، وقرأ زيد بن علي - خليقة - بالقاف والمعنى واضح قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ استكشاف عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة وليس استفهاما عن نفس الجعل والاستخلاف لأنهم قد علموه قبل ، فالمسؤول عنه هو الجعل ولكن لا باعتبار ذاته بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته ، أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، أو يستخلف مكان أهل الفساد مثلهم أو مكان أهل الطاعة أهل المعصية ، وقيل : استفهام محض حذف فيه المعادل - أي أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ أم تجعل من لا يفسد - وجعله بعضهم من الجملة الحالية - أي أَتَجْعَلُ فِيها - كذا - وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أم نتغير - واختار ذلك شيخنا علاء الدين الموصلي روح اللّه تعالى روحه ، والأدب
يسكتني عنه ، وعلى كل تقدير ليست الهمزة للإنكار كما زعمته الحشوية مستدلين بالآية على عدم عصمة الملائكة لاعتراضهم على اللّه تعالى وطعنهم في بني آدم ، ومن العجيب أن مولانا الشعرائي - وهو من أكابر أهل السنة بل من مشايخ أهل اللّه تعالى - نقل عن شيخه الخواص أنه خص العصمة بملائكة السماء معللا له بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة ، وقال : إن الملائكة الأرضية غير معصومين ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من ملائكة الأرض الساكنين بجبل الياقوت بالمشرق عند خط الاستواء فعليه لا يبعد الاعتراض ممن كان في الأرض والعياذ باللّه تعالى ، ويستأنس له بما ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف نزلت عليهم نار فأحرقتهم ، وعندي أن ذلك غير صحيح ، وقيل : إن القائل إبليس وقد كان إذ ذاك معدودا في عداد الملائكة ويكون نسبة القول إليهم على حد - بنو فلان قتلوا فلانا - والقاتل واحد منهم ، والوجه ما قررنا وتكرار الظرف للدلالة على الإفراط في الفساد ولم يكرره بعد للاكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى و«السفك» الصب والإراقة ولا يستعمل إلا في الدم أو فيه وفي الدمع والعطف من عطف الخاص على العام للإشارة إلى عظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية ، والدِّماءَ جمع دم لامه ياء أو واو وقصره وتضعيفه مسموعان ، وأصله فعل أو فعل ، والمراد بها المحرمة بقرينة المقام ، وقيل : الاستغراق فيتضمن جميع أنواعها من المحظور وغيره والمقصود عدم تمييزه بينها ، وقرأ ابن أبي عبلة «يسفك» - بضم الفاء ، ويسفك من أسفك وبالتضعيف من سفك ، وقرأ ابن هرمز بنصب الكاف وخرج على النصب في جواب الاستفهام ، وقرىء على البناء للمجهول ، والراجع إلى من حينئذ سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوف - أي فيهم - وحكم الملائكة بالإفساد والسفك على الإنسان بناء على بعض هاتيك الوجوه ليس من ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين ولكن
___________
(1) قوله التي إلخ كذا بخط المؤلف ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 224
بأخبار من اللّه تعالى ولم يقص علينا فيما حكي عنهم اكتفاء بدلالة الجواب عليه للإيجاز كما هو عادة القرآن ، ويؤيد ذلك ما روي في بعض الآثار أنه لما قال اللّه تعالى ذلك قالوا : وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال : تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا : ربنا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وقيل :
عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب ، ويحتاج الجواب إلى تكلف ، وقيل : عرفوه استنباطا عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره ، وذلك يفضي إلى الفساد وسفك الدماء ، وقيل : قياسا لأحد الثقلين على الآخر بجامع اشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين ، ويحتمل أنه علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك أو لأنها مجلى الجلال كما أنها مجلى الجمال ، ولكل آثار ، و- الإفساد والسفك - من آثار الجلال وسكتوا عن آثار الجمال إذ لا غرابة فيها وهم على كل تقدير ما قدروا اللّه تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ حال من ضمير الفاعل في أَتَجْعَلُ وفيها تقرير لجهة الإشكال ، والمعنى تستخلف من ذكر ونحن المعصومون وليس المقصود إلا الاستفسار عن المرجح لا العجب والتفاخر حتى يضر بعصمتهم كما زعمت الحشوية ، ولزوم الضمير ، وترك الواو في الجملة الاسمية إذا وقعت حالا مؤكدة غير مسلم كما في شرح التسهيل وصيغة المضارع للاستمرار ، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاختصاص ، ومن الغريب جعل الجملة استفهامية حذف منها الأداة ، وكذا المعادل والتسبيح في الأصل مطلق التبعيد ، والمراد به تبعيد اللّه تعالى عن السوء وهو متعد بنفسه ويعدى باللام إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل اللّه تعالى وخالصا لوجهه سبحانه فالمفعول المقدر هاهنا يمكن أن يكون باللام على وفق قرينه ، وأن يكون بدونه كما هو أصله ، و«بحمدك» في موضع الحال والباء لاستدامة الصحبة والمعية ، وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازا من التوفيق والهداية ، أو إلى المفعول أي
متلبسين بحمدنا لك على ما وفقتنا لتسبيحك ، وفي ذلك نفي ما يوهمه الإسناد من العجب ، وقيل : المراد به تسبيح خاص وهو - سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العظمة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت - ويعرف هذا بتسبيح الملائكة ، أو - سبحان اللّه وبحمده - وفي حديث عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال ما اصطفى اللّه تعالى لملائكته أو لعباده سبحان اللّه وبحمده»
أي وبحمده نسبح ، و- التقديس - في المشهور كالتسبيح معنى ، واحتاجوا لدفع التكرار إلى أن أحدهما باعتبار الطاعات والآخر باعتبار الاعتقادات ، وقيل : التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به ، والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع بينهما أخر نحو - سبوح قدوس - ويحتمل أن يكون بمعنى التطهير ، والمراد نسبحك ونطهر أنفسنا من الأدناس أو أفعالنا من المعاصي فلا نفعل فعلهم من الإفساد والسفك أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك ، ولام «لك» إما للعلة متعلق - بنقدس - والحمل على التنازع مما فيه تنازع أو معدية للفعل كما في - سجدت للّه تعالى - أو للبيان كما في - سفها لك «1» - فمتعلقها حينئذ خبر مبتدأ محذوف أو زائدة والمفعول هو المجرور ، ثم الظاهر أن قائل هذه الجملة هو قائل الجملة الأولى ، وأغرب الشيخ صفي الدين الخزرجي في كتابه - فك الأزرار - فجعل القائل مختلفا ، وبين ذلك بأن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين وكان إبليس مندرجا في
___________
(1) قوله سفها لك كذا بخطه ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 225
جملتهم فورد الجواب منهم مجملا ، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه انفصل الجواب إلى نوعين ، فنوع الاعتراض منه ، ونوع التسبيح والتقديس ممن عداه ، فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى جنسين ، وناسب كل جواب من ظهر عنه ، فالكلام شبيه بقوله تعالى : وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة : 135] وهو تأويل لا تفسير قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي أعلم من الحكم في ذلك ما أنتم بمعزل عنه ، وقيل : أراد بذلك علمه بمعصية إبليس وطاعة آدم ، وقيل : بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون ، وقيل : الأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله سبحانه : إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويفهم من كلام القوم قدس اللّه تعالى أسرارهم ، أن المراد من الآية بيان الحكمة في الخلافة على أدق وجه وأكمله ، فكأنه قال جل شأنه - أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم - فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور استعدادكم ونقصان قابليتكم ، فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم ، فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي ، فلا بد من إظهار من تم استعداده ، وكملت قابليته ليكون مجلى لي ومرآة لأسمائي وصفاتي ومظهرا للمتقابلات فيّ ، ومظهرا لما خفي عندي ، وبي يسمع وبي يبصر وبي وبي ، وبعد ذاك يرق الزجاج والخمر ، وإلى اللّه عز شأنه يرجع الأمر.
وأَعْلَمُ فعل مضارع ، واحتمال أنه أفعل تفضيل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب اللّه سبحانه كما لا يخفى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها عطف على «قال» ، وفيه تحقيق لمضمون ما تقدم ، وظاهر الابتداء بحكاية التعليم يدل على أن ما مر من المقاولة إنما جرت بعد خلقه عليه السلام بمحضر منه بأن قيل أثر نفخ الروح فيه : إني جاعل إياه خليفة ، فقيل ما قيل ، وقيل : إنه معطوف على محذوف ، أي فخلق وعلم ، أو فخلقه وسواه ونفخ فيه الروح وعلم ، أو فجعل في الأرض خليفة وعلم ، وإبراز اسمه عليه السلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره. وآدَمَ صرح الجواليقي وكثيرون أنه عربي ووزنه أفعل من الأدمة - بضم فسكون - السمرة وياما أحيلاها في بعض ، وفسرها أناس بالبياض أو الأدمة - بفتحتين - الأسوة والقدوة أو من أديم الأرض ما ظهر منها. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه غير واحد ، أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها ، فخلق منها آدم ، فلذلك تأتي بنوه أخيافا «1» ، أو من الأدم أو الأدمة ، الموافقة والألفه ، وأصله أآدم - بهمزتين - فأبدلت الثانية ألفا لسكونها بعد فتحة ، ومنع صرفه للعلمية ووزن الفعل ، وقيل : أعجمي ووزنه فاعل - بفتح العين - ويكثر هذا في الأسماء - كشالخ وآزر - ويشهد له جمعه على أوادم - بالواو - لا - أآدم - بالهمزة ، وكذا تصغيره على - أويدم - لا - أؤيدم - واعتذر عنه الجوهري بأنه ليس للهمزة أصل في البناء معروف ، فجعل الغالب عليها - الواو - ولم يسلموه له ، وحينئذ لا يجري الاشتقاق فيه لأنه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصح ، والتوافق بين اللغات بعيد ، وإن ذكر فيه فذاك للإشارة إلى أنه بعد التعريب ملحق بكلامهم ، وهو اشتقاق تقديري اعتبروه لمعرفة الوزن والزائد فيه من غيره ، ومن أجراه فيه حقيقة كمن جمع بين الضب والنون ، ولعل هذا أقرب إلى الصواب.
والْأَسْماءَ جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال ، واستعمل عرفا في الموضوع لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما ، وكلا المعنيين محتمل. والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيبا خبريا أو إنشائيا يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية. وإرادة المعنى المصطلح مما لا يصلح لحدوثه بعد القرآن. وقال الإمام : المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها ، لأنها علامات دالة على ماهياتها ، فجاز أن يعبر عنها بالأسماء ، وفيه كما قال الشهاب نظر إذ
___________
(1) أي مختلفين ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 226
لم يعهد إطلاق الاسم على مثله حتى يفسر به النظم ، وقيل : المراد بها أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعزي إلى ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقيل : اللغات ، وقيل : أسماء الملائكة ، وقيل : أسماء النجوم ، وقال الحكيم الترمذي : أسماؤه تعالى ، وقيل وقيل وقيل. والحق عندي ما عليه أهل اللّه تعالى ، وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت ، وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو عرضية ، ويقال لها أسماء اللّه تعالى عندهم باعتبار دلالتها عليه ، وظهوره فيها غير متقيد بها ، ولهذا قالوا : إن أسماء اللّه تعالى غير متناهية ، إذ ما من شيء يبرز للوجود من خبايا الجود ، إلا وهو اسم من أسمائه تعالى وشأن من شؤونه عز شأنه ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن ، ومن هنا قال قدس سره :
إن الوجود وإن تعدد ظاهرا وحياتكم ما فيه إلا أنتم
لكن للفرق مقام وللجمع مقام ولكل مقام مقال ، ولولا المراتب لتعطلت الأسماء والصفات ، وتعليمها له عليه السلام على هذا ظهور الحق جل وعلا فيه منزها عن الحلول والاتحاد والتشبيه بجميع أسمائه وصفاته المتقابلة حسب استعداده الجامع بحيث علم وجه الحق في تلك الأشياء ، وعلم ما انطوت عليه وفهم ما أشارت إليه ، فلم يخف عليه منها خافية ولم يبق من أسرارها باقية ، فيا للّه هذا الجرم الصغير كيف حوى هذا العلم الغزير. واختلف الرسميون بينهم في كيفية التعليم بعد أن فسر بأنه فعل يترتب عليه العلم غالبا ، وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم لا تخلف فقيل : بأن خلق فيه - عليه السلام - بموجب استعداده - علما ضروريا تفصيليا بتلك الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها ، وقيل : بأن خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات ، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام والقول : بأن التعليم على ظاهره - وكان بواسطة ملك غير داخل في عموم الخطاب ب أَنْبِئُونِي - مما لا أرتضيه ، اللهم إلا إن صح خبر في ذلك ، ومع هذا أقول : للخبر محمل غير ما يتبادر مما لا يخفى على من له ذوق ، وقيل : غير ذلك. ثم إن هذا التعليم لا يقتضي تقدم لغة اصطلاحية كما زعمه أبو هاشم واحتج عليه بوجوه ردت في التفسير الكبير ، إذ لو افتقر لتسلسل الأمر أو دار ، والإمام الأشعري يستدل بهذه الآية على أن الواضع للغات كلها هو اللّه تعالى ابتداء ويجوز حدوث بعض الأوضاع من البشر كما يضع الرجل علم ابنه. والمعتزلة يقولون : الواضع من البشر آدم أو غيره ويسمى مذهب الاصطلاح.
وقيل : وضع اللّه تعالى بعضها ووضع الباقي البشر وهو مذهب التوزيع وبه قال الأستاذ ، والمسألة مفصلة بأدلتها وما لها وما عليها في أصول الفقه. وقرأ اليماني «علّم» مبنيا للمفعول ، وفي البحر أن التضعيف للتعدية وهي به سماعية ، وقيل : قياسية ، والحريري - في شرح لمحته - يزعم أن - علم - المتعدي لاثنين يتعدى به إلى ثلاثة ، وقد وهم في ذلك ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ أي المسميات المفهومة من الكلام وتذكير الضمير على بعض الوجوه لتغليب ما اشتملت عليه من العقلاء ، وللتعظيم بتنزيلها منزلتهم في رأي على البعض الآخر ، وقيل : الضمير للأسماء باعتبار أنها المسميات مجازا على طريق الاستخدام. ومن قال : الاسم عين المسمى قال : الأسماء هي المسميات والضمير لها بلا تكلف - وإليه ذهب مكي والمهدوي - ويرد عليه أن أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات - لا عن نفسها - وإلا لقيل : أنبئوني بهؤلاء ، فلا بد أن يكون المعروض غير المسئول عنه فلا يكون نفس الأسماء ، ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة ، أو إظهارها لهم كالذر ، أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالا ، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 227
ومعادهم إجمالا أيضا ، وإلا فالتفصيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير ، فكأنه سبحانه قال : سأوجد كذا وكذا فأخبروني بما لهم وما عليهم ، وما أسماء تلك الأنواع من قولهم : عرضت أمري على فلان فقال لي كذا ، فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان ، وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم ، وعندي أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد اللّه تعالى المجردين ، أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني - وهذا غير ممتنع على اللّه تعالى - بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت بحيث يراها من يراها ، ومن أحاط خبرا بعالم المثال لم يستبعد ذلك ، وقيل : إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام ، وهو المراد بعرضها.
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وقرأ أبيّ «ثم عرضها» وعبد اللّه «عرضهن» والمعنى عرض مسمياتها أو مسمياتهن ، وقيل : لا تقدير.
فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ تعجيز لهم ، وليس من التكليف بما لا يطاق - على ما وهم - وفيه إشارة إلى أن أمر الخلافة والتصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن ، فكيف يروم الخلافة من لا يعرف ذلك ، أو من لا يعرف الألفاظ أنفسها؟! هيهات - ذلك أبعد من العيوق ، وأعز من بيض الأنوق - وعندي أن المراد إظهار عجزهم وقصور استعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن بأمرهم بالإنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها ، والعاجز عن نفس الإنباء أعجز عن التحلي المطلوب في ذلك المنصب المحبوب.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال ودونهن حتوف
الرجل حافية ومالي مركب والكف صفر والطريق مخوف
و- الإنباء - في الأصل مطلق الاخبار - وهو الظاهر هنا - ويطلق على الاخبار بما فيه فائدة عظيمة ويحصل به علم أو غلبة ظن ، وقال بعضهم : إنه إخبار فيه إعلام ، ولذلك يجري مجرى كل منهما ، واختاره هنا - على ما قيل - للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها وهذا مبني على أن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم ، وفي استعمال - ثم - فيما تقدم - والفاء - هنا ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام وعدمه في شأنهم.
وقرأ الأعمش «أنبوني» بغير همز إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما اختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقا إلا أنتم أعلم منه وأفضل - وهذا هو التفسير المأثور - فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن الملائكة قالوا :
لن يخلق اللّه تعالى خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم ، وفي الكلام دلالة عليه ، فإن وَنَحْنُ نُسَبِّحُ إلخ يدل على أفضليتهم ، وتنزيه اللّه تعالى وتقديسه - أو تقديسهم أنفسهم - يدل على كمال العلم أيضا. وقيل : إن المعنى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم أنكم أحق بالاستخلاف أو في أن استخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة - وليس هذا من المعصية في شي ء - لأنه شبهة اختلجت ، وسألوا عما يزيحها وليس باختياري ، ولا يرد أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبر - وهم استخبروا ولم يخبروا - لأنا نقول : هما يتطرقان إلى الإنشاءات بالقصد الثاني ، ومن حيث ما يلزم مدلولها ، وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول ومن حيث منطوقها ، وجواب إِنْ في مثل هذا الموضع محذوف عند سيبويه وجمهور البصريين يدل عليه السابق ، وهو هنا أَنْبِئُونِي وعند الكوفيين وأبي زيد والمبرد أن الجواب هو المتقدم ، وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة ، ووهم البعض فعكس الأمر ، ومن زعم أن إِنْ هنا بمعنى إذا الظرفية - فلا تحتاج إلى جواب - فقد وهم ، وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 228
ولم يجد لها محملا مع إبقاء إِنْ على ظاهرها افتقر إلى ذلك ، والحمد للّه تعالى على ما أغنانا من فضله ولم يحوجنا إلى هذا ولا إلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز ، فحاصل المعنى حينئذ أخبروني ولا تقولوا إلا حقا - كما قال الإمام - .
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل : فماذا؟ قالُوا إذ ذاك :
هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أو لا؟ فقيل : قالُوا : إلخ. وذكر غير واحد أن الجمل المفتتحة بالقول - إذا كانت مرتبا بعضها على بعض في المعنى - فالأفصح أن لا يؤتى فيها بحرف اكتفاء بالترتيب المعنوي ، وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك كثير ، بل القرآن مملوء منه ، و«سبحان» قيل : إنه مصدر ، وفعله - سبح - مخففا بمعنى نزه ، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا ، إما للمفعول أو الفاعل منصوبا بإضمار فعل وجوبا ، وقوله :
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجوديّ والجمد
شاذ كقوله :
سبحانك اللهم ذا السبحان
ومجيئه منادى مما زعمه الكسائي - ولا حجة له - وذهب جماعة إلى أنه علم للتسبيح - بمعنى التنزيه - لا مصدر سبح - بمعنى قال : سبحان اللّه - لئلا يلزم الدور «1» ولأن مدلول ذلك لفظ - ومدلول هذا معنى - واستدل على ذلك بقوله :
قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
إذ لولا أنه علم لوجب صرفه. لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية ، وأجيب بأن - سبحان - فيه على حذف المضاف إليه أي - سبحان اللّه - وهو مراد للعلم به ، وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله - وهو التجرد عن التنوين - وقيل : «من» زائدة والإضافة لما بعدها على التهكم والاستهزاء به ، ومن الغريب قول بعض : إن معنى سُبْحانَكَ تنزيه لك بعد تنزيه ، كما قالوا في - لبيك - إجابة بعد إجابة ، ويلزم على هذا ظاهرا أن يكون مثنى ومفرده - سبحا - وأن لا يكون منصوبا - بل مرفوع - وأنه لم تسقط النون للإضافة وإنما التزم فتحها ، ويا سبحان اللّه تعالى لمن يقول ذلك ، والغرض من هذا الجواب الاعتراف بالعجز عن أمر الخلافة ، والقصور عن معرفة الأسماء على أبلغ وجه كأنهم قالوا : لا علم لنا إلا ما علمتنا - ولم تعلمنا الأسماء - فكيف نعلمها؟ وفيه إشعار بأن سؤالهم لم يكن إلا استفسارا ، إذ لا علم لهم إلا من طريق التعليم ، ومن جملته علمهم بحكمة الاستخلاف مما تقدم - فهو بطريق التعليم أيضا - فالسؤال المترتب هو عليه سؤال مستفسر لا معترض وثناء عليه تعالى بما أفاض عليهم مع غاية التواضع ومراعاة الأدب وترك الدعوى ، ولهذا كله لم يقولوا - لا علم لنا بالأسماء - مع أنه كان مقتضى الظاهر ذلك ، ومن زعم عدم العصمة جعل هذا توبة ، والإنصاف أنه يشبهها ولكن لا عن ذنب مخل بالعصمة بل عن ترك أولى بالنسبة إلى علو شأنهم ورفعة مقامهم إذ اللائق بحالهم على العلات أن يتركوا الاستفسار ويقفوا مترصدين لأن يظهر حقيقة الحال وما عند الجمهور موصولة حذف عائدها وهى إما في موضع رفع على البدل أو نصب على الاستثناء.
وحكى ابن عطية عن الزهراوي أنها في موضع نصب ب عَلَّمْتَنا ويتكلف لتوجيهه بأن الاستثناء منقطع ، ف إِلَّا بمعنى لكن وما شرطية والجواب محذوف كأنهم نفوا أولا سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل أي شيء علمهم علموه ويكون ذلك أبلغ في ترك الدعوى كما لا يخفى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ تذييل يؤكد مضمون الجملة السابقة ، ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه للّه تعالى على أكمل أوصافه وأردفوه بالوصف بالحكمة لما تبين لهم ما تبين - وأصل
___________
(1) لأن التسبيح بمعنى أن يقال : سبحان اللّه فرع على سبحان اللّه فيكون فرعا له - والعلم بعد الجنس - وهل هذا إلا دور؟ ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 229
الحكمة - المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها عن الاعوجاج ، وتقال للعلم لأنه يمنع عن ارتكاب الباطل ، ولإتقان الفعل لمنعه عن طرق الفساد والاعتراض - وهو المراد هاهنا - لئلا يلزم التكرار ، فمعنى الحكيم ذو الحكمة ، وقيل : المحكم لمبدعاته ، قال في البحر : وهو على الأول صفة ذات ، وعلى الثاني صفة فعل ، والمشهور أنه إن أريد به الْعَلِيمُ - كان من صفات الذات أو الفاعل لما - لا اعتراض عليه كان من صفات الفعل فافهم.
وقدم سبحانه الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة لمناسبة ما تقدم من أَنْبِئُونِي ولا عِلْمَ لَنا ولأن الحكمة لا تبعد عن العلم وليكون آخر مقالتهم مخالفا لما يتوهم من أولها ، وأَنْتَ يحتمل أن يكون فصلا - لا محل له على المشهور - يفيد تأكيد الحكم ، والقصر المستفاد من تعريف المسند ، وقيل : هو تأكيد لتقرير المسند إليه ، ويسوغ في التابع ما لا يسوغ في المتبوع. وقيل : مبتدأ خبره ما بعد ، والْحَكِيمُ إما خبر بعد خبر أو نعت له وحذف متعلقهما لإفادة العموم ، وقد خصهما بعض فقال : الْعَلِيمُ بما أمرت ونهيت الْحَكِيمُ فيما قضيت وقدرت والعموم أولى.
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ نادى سبحانه آدم باسمه العلم كما هو عادته جل شأنه مع أنبيائه ما عدا نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم حيث ناداه ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال : 64 ، 65 ، 70 وغيرها] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة : 41 ، 67] لعلو مقامه ورفعة شأنه إذ هو الخليفة الأعظم ، والسر في إيجاد آدم. ولم يقل سبحانه أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضا ، وهو ظهور فضل آدم إبانة لما بين الرتبتين من التفاوت ، وإنباء للملائكة بأن علمه عليه السلام واضح لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الامتحان وأنه حقيق أن يعلم غيره أو لتكون له عليه السلام منة التعليم كاملة حيث أقيم مقام المفيد وأقيموا مقام المستفيدين منه ، أو لئلا تستولي عليه الهيبة فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره.
والمراد بالإنباء هنا الإعلام لا مجرد الاخبار كما تقدم.
وفيه دليل لمن قال إن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة ، ومنع قوم ذلك في الطبقة العليا منهم ، وحمل عليه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات : 164] ، وأفهم كلام البعض منع حصول العلم المرقي لهم فلعل ما يحصل علم قال : لا حال والفرق ظاهر لمن له ذوق ، وقرأ ابن عباس «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء - «وأنبيهم» - بقلب الهمزة ياء ، وقرأ الحسن - «أنبهم» - كأعطهم ، والمراد بالأسماء ما عجزوا عن علمها واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها ، والضمير عائد على المعروضين على ما تقدم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ عطف على جملة محذوفة والتقدير - فانبأهم بها - فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ إلخ ، وحذفت لفهم المعنى ، وإظهار الأسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها مع الإشارة إلى أنه عليه السلام - أنبأهم بها - على وجه التفصيل دون الإجمال. وعلمهم بصدقه من القرائن الموجبة له والأمر أظهر من أن يخفى ، ولا يبعد أن عرفهم سبحانه الدليل على ذلك واحتمال أن يكون لكل صنف منهم لغة أو معرفة بشيء ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة أو ذلك الشيء بعيد.
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
جواب ل «ما» وتقرير لما مر من الجواب الإجمالي واستحضار له على وجه أبسط من ذلك وأشرح. ولا يخفى ما في الآية من الإيجاز ، إذ كان الظاهر أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وشهادتهما وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وما ستبدون وتكتمون ، إلا أنه سبحانه اقتصر على غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه يعلم منه شهادتهما بالأولى ، واقتصر من الماضي على المكتوم لأنه يعلم منه البادي كذلك - وعلى المبدأ من المستقبل - لأنه قبل الوقوع خفي ، فلا فرق بينه وبين غيره من خفياته - وتغيير الأسلوب حيث لم يقل : وتكتمون - لعله لإفادة استمرار

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 230
الكتمان - فالمعنى - أعلم ما تبدون قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه ، وذكر الساليكوتي أن كلمة - كان - صلة غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد المناسب للكتمان ، ثم الظاهر من الآية العموم ومع ذلك ما لا تَعْلَمُونَ أعم مفهوما لشموله - غيب الغيب - الشامل لذات اللّه تعالى وصفاته - وخصها قوم - فمن قائل : غَيْبَ السَّماواتِ أكل آدم وحواء من الشجرة ، وغيب الْأَرْضِ قتل قابيل هابيل ، ومن قائل : «الأول» ما قضاه من أمور خلقه «والثاني» ما فعلوه فيها بعد القضاء ، ومن قائل : «الأول» ما غاب عن المقربين مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى «والثاني» ما غاب عن أصفيائه من أسرار الملك الأدنى وأمور الآخرة ، والأولى - وما أبدوه - قبل قولهم أَتَجْعَلُ فِيها وما كتموه ، قولهم : لن يخلق اللّه تعالى أكرم عليه منا ، وقيل : ما أظهروه بعد من الامتثال. وقيل : ما أسره إبليس من الكبر ، وإسناد الكتم إلى الجميع حينئذ من باب - بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم - ومعنى الكتم على كل حال عدم إظهار ما في النفس لأحد ممن كان في الجمع ، وليس المراد أنهم كتموا اللّه تعالى شيئا بزعمهم - فإن ذلك لا يكون حتى من إبليس - وأبدى سبحانه العامل في ما تُبْدُونَ إلخ اهتماما بالإخبار بذلك المرهب لهم - والظاهر عطفه على الأول - فهو داخل معه تحت ذلك القول ، ويحتمل أن يكون عطفا على جملة أَلَمْ أَقُلْ فلا يدخل حينئذ تحته.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام - كانقادوا وأطاعوا - والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة - مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا اعتراف به - ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناء على اللائق الذي قدمناه لاختلاف الوقتين ، وجوز على أن نصب السابق بمقدر ، والسجود في الأصل تذلل مع انخفاض بانحناء وغيره ، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة - وفي المعنى المأمور به هنا خلاف - فقيل : المعنى الشرعي ، والمسجود له في الحقيقة هو اللّه تعالى - وآدم إما قبلة أو سبب - واعترض بأن لو كان كذلك ما امتنع إبليس ، وبأنه لا يدل على تفضيله عليه السلام عليهم. وقوله تعالى : أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء : 62] يدل عليه - ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها - وأجيب بالتباس الأمر على إبليس ، وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم ، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن - كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن - ومن الناس من جوّز كون المسجود له آدم عليه السلام حقيقة مدعيا أن السجود للمخلوق - إنما منع في شرعنا - وفيه أن السجود الشرعي عبادة ، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان - ولا أراها حلت في عصر من الأعصار. وقيل : المعنى اللغوي - ولم يكن فيه وضع الجباه - بل كان مجرد تذلل وانقياد ، فاللام إما باقية على ظاهرها ، وإما بمعنى - إلى - مثلها في قول حسان رضي اللّه عنه :
أليس أول من صلى «لقبلتكم» وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو للسببية ، مثلها في قوله تعالى : أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء : 78] وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام ، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم ، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولا : وَإِذْ قالَ رَبُّكَ وهنا وَإِذْ قُلْنا - بضمير العظمة - لأن في الأول خلق آدم واستخلافه. فناسب ذكر الربوبية مضافا إلى أحب خلفائه إليه - وهنا المقام مقام إيراد أمر يناسب العظمة - وأيضا في السجود تعظيم ، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم. وقرأ أبو جعفر بضم تاء «الملائكة» اتباعا لضم الجيم ، وهي لغة أزد شنوءة وهي لغة غريبة عربية - وليست بخطأ كما ظن الفارسي - فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل ، فقالت - أفي السوأ نتنه - تريد أفي السوأة أنتنه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 231
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه ، وإِبْلِيسَ اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ، ووزنه - فعليل - قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة وغيره : إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الإبعاد من الخير أو اليأس من رحمة اللّه تعالى ، ووزنه على هذا مفعيل ، ومنعه من الصرف حينئذ لكونه لا نظير له في الأسماء.
واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر - كإحليل وإكليل - وفيه نظر ، وقيل : لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب ، وليس بشيء ، واختلف الناس فيه ، هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى : إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف : 5] وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر ، وبأن الملائكة - كما روى مسلم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها - خلقوا من النور ، وخلق الجن مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن : 15] وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف : 12] وعد تركه السجود - إباء واستكبارا حينئذ - إما لأنه كان ناشئا بين الملائكة مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل ، أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة ، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن ، أو لأنه - عليه اللعنة - كان مأمورا صريحا لا ضمنا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى : إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف : 12] وضمير فَسَجَدُوا راجع للمأمورين بالسجود وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الاستثناء - وتصحيحه بما ذكر تكلف - لأنه وإن كان واحدا منهم لكن كان رئيسهم ورأسهم - كما نطقت به الآثار - فلم يكن مغمورا بينهم ، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت ، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس ، وكونه مأمورا صريحا الآية غير صريحة فيه - ودون إثباته خرط القتاد - واقتضاء ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلا ، وقوله تعالى : فَفَسَقَ كالبيان له ، ويجوز أيضا أن يكون كانَ بمعنى صار - كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية - فصار جنيا - كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير - سلمنا ، لكن لا منافاة بين كونه جنا وكونه ملكا ، فإن الجن - كما يطلق على ما يقابل الملك - يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم. وقيل : صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا ، أو أنه يقال للملائكة جن أيضا - كما قاله ابن إسحاق - لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس ، وبذلك فسر بعضهم قوله تعالى : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات : 158] وورد مثله في كلام العرب ، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام :
وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر
وكون الملائكة لا يستكبرون - وهو قد استكبر - لا يضر ، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم - وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا - وفي عقيدة أبي المعين النسفي ما يؤيد ذلك ، وإما لأن إبليس سلبه اللّه تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية - فعصى عند ذلك - والملك ما دام ملكا لا يعصى.
ومن ذا الذي يا ميّ لا يتغير
وكونه مخلوقا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضا - ولا قادح في ملكيته - لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض ، على أن ما في أثر عائشة رضي اللّه تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب - وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار - إذ فيها أن اللّه تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه ، وورد أن تحت العرش نهرا إذا غتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك ،
وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات - وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات - كالبررة والفسقة من الإنس - والجن يشملهما - وكان إبليس من هذا الصنف ، فعده ما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 232
شئت من - ملك ، وجن ، وشيطان - وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة ، ومنقطع إن لم يكن منهم ، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني ، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه ، والمتصل هو المستثنى من جنسه ، قال القرافي في العقد المنظوم : وهو غلط فيهما ، فإن قوله تعالى : لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء : 29] لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان : 56] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء : 92] الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان ، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أو لا بنقيض ما حكمت به - ولا بد من هذين القيدين - فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس - سواء حكم عليه بنقيضه أو لا - نحو رأيت القوم إلا فرسا ، فالمنقطع نوعان ، والمتصل نوع واحد ، ويكون المنقطع كنقيض المتصل ، فإن نقيض المركب بعدم اجزائه ، فقوله تعالى : لا يَذُوقُونَ إلخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض ، لأن نقيضه ذاقوه فيها - وليس كذلك - وكذلك إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً لأنها لا تؤكل بالباطل - بل بحق - وكذلك إِلَّا خَطَأً لأنه ليس له القتل مطلقا - وإلا لكان مباحا - فتنوع المنقطع حينئذ إلى ثلاثة ، الحكم على الجنس بغير النقيض ، والحكم على غيره به أو بغيره ، والمتصل نوع واحد - فهذا هو الضابط - وقيل : العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه ، فتأمل ترشد.
وأفهم كلام القوم - نفعنا اللّه تعالى بهم - أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعا ما يرد على الظاهر :
طه النبي تكونت من نوره كل الخليقة ثم لو ترك القطا
وفي الآثار ما يؤيد ذلك ، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال ، وإبليس من حيث الجلال ، ويؤول هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال اللّه سبحانه وتعالى ، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن اللّه تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي تقتضيه الحقائق ، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها ، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس - ولم يكن اسمه من قبل - بل كان اسمه عزازيل ، أو الحارث ، وكنيته أبا مرة - ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه - واللّه تعالى يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب :
4] وفي قوله تعالى : أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ نوع إشارة إلى بعض ما ذكر ، والجملة استئناف جواب لمن قال ما فعل ، وقيل : إن الفعلين الأولين في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبرا وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ مستأنف أو في موضع الحال ، وقيل : الجمل الثلاث تذييل بعد تذييل ، والإباء الامتناع مع الأنفة والتمكن من الفعل ، ولهذا كان قولك - أبى زيد الظلم أبلغ من لم يظلم - ولإفادة الفعل النفي صح بعده الاستثناء المفرغ ك يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة : 32] وقوله :
أبى اللّه إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
والفعل منه - أبى - بالفتح ، وعليه لا يكون يأبى قياسيا. وقد سمع - أبي - كرضي فالمضارع حينئذ قياسي والمفعول هنا محذوف أي السجود ، و- الاستكبار - التكبر وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل ، وقيل : التكبر أن يرى الشخص نفسه أكبر من غيره وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع ، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع ، وقدم الإباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الرتبة لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفساني أو لأن المقصود الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء أو بإنشاء الاخبار عنه بالمخالفة فبدأ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 233
بذلك على أبلغ وجه - وكان على بابها - والمعنى كان في علم اللّه تعالى من الكافرين أو كان من القوم الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم ، وقيل : بمعنى صار وهو مما أثبته بعض النحاة قال ابن فورك : وترده الأصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء ثم إن كفره ليس لترك الواجب كما زعم الخوارج متمسكين بهذه الآية لأنه لا يوجب ذلك في ملتنا على ما دلت عليه القواطع ، وإيجابه قبل ذلك غير مقطوع به بل باستقباحه أمر اللّه تعالى بالسجود لمن يعتقد أنه خير منه وأفضل - كما يدل عليه الإباء والاستكبار - وقال أبو العالية : معنى مِنَ الْكافِرِينَ من العاصين ثم الظاهر أن كفره كان عن جهل بأن استرد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذي كان مرتديا به حين كان طاووس الملائكة - وأظافير القضاء إذا حكت أدمت ، وقسى القدر إذا رمت أصمت.
وكان سراج الوصل أزهر بيننا فهبت به ريح من البين فانطفى
وقيل : عن عناد حمله عليه حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من النفاسة ولم يدر المسكين إنه لو امتثل ارتفع قدره وسما بين الملأ الأسمى فخره ولكن.
إذا لم يكن عون من اللّه للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
وكم أرقت هذه القصة جفونا ، وأراقت من العيون عيونا فإن إبليس كان مدة في دلال طاعته يختال في رداء مرافقته ثم صار إلى ما ترى وجرى ما به القلم جرى.
وكنا وليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت وزلّت
ومن هنا قال الشافعية والأشعرية - وبقولهم أقول - في هذه المسألة : إن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه ويأتي متصفا به في آخر حياته وأول منازل آخرته ، ولذا يصح أنا مؤمن إن شاء اللّه تعالى بالشك ، ولكن ليس في الإيمان الناجز بل في الإيمان الحقيقي المعتبر عند الموت وختم الأعمال. وقد صح عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه - كما أورده الزرقاني - إن من تمام إيمان العبد أن يستثني إذ عواقب المؤمنين مغيبة عندهم وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الإنعام :
18 ، 61] وفي الصحيح عن جابر «كان صلّى اللّه عليه وسلّم يكثر من قوله يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك»
وخبر «من قال أنا مؤمن إن شاء اللّه تعالى فليس له من الإسلام نصيب»
موضوع باتفاق المحدثين ، وأنا مؤمن بغيره إن شاء اللّه تعالى ، هذا واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة ، وكذا التي في الأعراف ، وبني إسرائيل ، والكهف ، وطه أن سجود الملائكة ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه ، ونفخ الروح فيه ، وهو الذي يشهد له النقل والعقل إلا أن ما في - الحجر - من قوله تعالى : وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر : 28 ، 30] وكذا ما في - ص - تستدعي ظاهرا ترتبه على ما فيها من الأمر التعليقي من غير أن يتوسط بينهما شيء غير الخلق وتوابعه ، وبه قال بعضهم ، وحمل ما في تلك الآيات من الأمر على حكاية الأمر التعليقي بعد تحقق المعلق به إجمالا فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز ، و«ثم» في آية - الأعراف - للتراخي الرتبي ، أو التراخي في الأخبار ، أو يقال : إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه ، فحكي على صورة التنجيز ، ولما رأى بعضهم أن هذا مؤد إلى أن ما جرى في شأن الخلافة - وما قالوا : وما سمعوا - إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة قدره عليه السلام ، وخروج إبليس من البين باللعن ، وبعد مشاهدتهم لكل ذلك وهو خرق لقضية النقل بل خرق في العقل اضطر إلى القول بأن السجود كان مرتين ، وهيهات لا يصلح العطار ما أفسد الدهر ، فالحق الحقيق ما دلت عليه هاتيك الآيات ، وما استدل به المخالف لا ينتهض دليلا لأن الشرط إن كان قيدا للجزاء كان معناه على تقدير

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 234
صدق - إذا سويته - أطلب بناء على أن الشرط قيد للطلب على ما صرح به العلامة التفتازاني من أن معنى قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، أي على تقدير صدق إن جاءك زيد أطلب منك إكرامه ، وإن كان الحكم بين الشرط والجزاء فالجزاء الطلبي لا بد من تأويله بالخبر أي يستحق أن يقال في حقه أكرمه ، وعلى التقديرين كان مدلول فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر : 29] طلبا استقباليا لا حاليا فلا يلزم تحقق الأمر بالسجود قبل التسوية ، نعم لو كان الشرط قيدا للمطلوب لا للطلب يكون المعنى الطلب في الحال للسجود وقت التسوية فيفيد تقدم الأمر على التسوية ، وقول مولانا الرازي قدس سره : إن الآية كما تدل على تقدم الأمر بالسجود على التسوية تفيد أن التعليم والإنباء كان بعد السجود لأنها تدل على أن آدم عليه السلام كما صار حيا صار مسجودا للملائكة لأن الفاء في فَقَعُوا للتعقيب لا يخفى ما فيه لأن الفاء للسببية لا للعطف ، وهو لا يقتضي التعقيب كما في قوله تعالى : إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا [الجمعة : 9] ، وقوله سبحانه : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ، ومن الناس من حمل نفخ الروح في الآية على التعليم لما اشتهر أن العلم حياة والجهل موت ، وأنت في غنى عنه ، واللّه الموفق.
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ عطف على - إذ قلنا - بتقدير إذ أو بدونه أو على - قلنا - والزمان ممتد واسع للقولين ، وتصدير الكلام بالنداء لتنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر وتحريكه لما يخاطب به إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يتوجه إليها ، واسْكُنْ أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن لا من السكون ترك الحركة إذ ينافيه ظاهرا حَيْثُ شِئْتُما وذكر متعلقه بدون في وليس بمكان مبهم وأَنْتَ توكيد للمستكن في اسْكُنْ ، والمقصد منه بالذات صحة العطف إذ لولاه لزم العطف على الضمير المتصل بلا فصل وهو ممتنع في الفصيح على الصحيح ، وإفادة تقرير المتبوع مقصودة تبعا ، وصح العطف مع أن المعطوف لا يباشره فعل الأمر لأنه وقع تابعا ، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في المتبوع ، وقيل : هناك تغليبان تغليب المخاطب على الغائب والمذكر على المؤنث ، ولكون التغليب مجازا ومعنى السكون والأمر موجودا فيهما حقيقة خفي الأمر ، فإما أن يلتزم أن التغليب قد يكون مجازا غير لغوي بأن يكون التجوز في الإسناد ، أو يقال : إنه لغوي لأن صيغة الأمر هنا للمخاطب وقد استعملت في الأعم ، وللتخلص عن ذلك قيل : إنه معطوف بتقدير فليسكن ، وفيه أنه حينئذ يكون من عطف الجملة على الجملة فلا وجه للتأكيد ، والأمر يحتمل أن يكون للإباحة - كاصطادوا - وأن يكون للوجوب كما أن النهي فيما بعد للتحريم وإيثاره على - اسكنا - للتنبيه على أنه عليه السلام المقصد بالحكم في جميع الأوامر وهي تبع له كما أنها في الخلقة كذلك ، ولهذا قال بعض المحققين : لا يصح إيراد - زوجك - بدون العطف بأن يكون منصوبا على أنه مفعول معه ، و- الجنة - في المشهور دار الثواب للمؤمنين يوم القيامة لأنها المتبادرة عند الإطلاق ولسبق ذكرها في السورة وفي ظواهر الآثار ما يدل عليه ، ومنها ما في الصحيح من محاجة آدم وموسى عليهما السلام فهي إذن في السماء حيث شاء اللّه تعالى منها ، وذهب
المعتزلة وأبو مسلم الأصفهاني وأناس إلى أنها جنة أخرى خلقها اللّه تعالى امتحانا لآدم عليه السلام وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان ، وقيل : بأرض عدن ، وقيل : بفلسطين كورة بالشام ولم تكن الجنة المعروفة ، وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة : 61] أو على ظاهره ، ويجوز أن تكون في مكان مرتفع قالوا : لأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان نقله إليها لكان أولى بالذكر ولأنه سبحانه قال في شأن تلك الجنة وأهلها لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة : 25] ولا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور : 23] وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر : 48] وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحواء مع إدخالهما فيها على وجه السكنى لا كإدخال النبي صلى اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 235
عليه وسلم ليلة المعراج ولأن جنة الخلد دار للنعيم وراحة وليست بدار تكليف ، وقد كلف آدم أن لا يأكل من الشجرة ولأن إبليس كان من الكافرين وقد دخلها للوسوسة ولو كانت دار الخلد ما دخلها ولا كاد لأن الأكابر صرحوا بأنه لو جيء بالكافر إلى باب الجنة لتمزق ولم يدخلها لأنه ظلمة وهي نور ودخوله مستترا - في الجنة على ما فيه - لا يفيد ، ولأنها محل تطهير فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين ولأن أول حمل حواء كان في الجنة على ما في بعض الآثار ولم يرد أن ذلك الطعام اللطيف يتولد منه نطفة هذا الجسد الكثيف ، والتزام الجواب عن ذلك كله لا يخلو عن تكلف ، والتزام ما لا يلزم - وما في حيز المحاجة يمكن حمله على هذه الجنة وكون حملها على ما ذكر يجري مجرى الملاعبة بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين - غير مسلم ، وقيل : كانت في السماء وليست دار الثواب بل هي جنة الخلد ، وقيل : كانت غيرهما ويرد ذلك أنه لم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة المعروفة ، واحتمال أنها خلقت إذ ذاك ثم اضمحلت مما لا يقدم عليه منصف ، وقيل : الكل ممكن واللّه تعالى على ما يشاء قدير. والأدلة متعارضة ، فالأحوط والأسلم هو الكف عن تعيينها والقطع به ، وإليه مال صاحب
التأويلات ، والذي ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم أنها في الأرض عند جبل الياقوت تحت خط الاستواء - ويسمونها جنة البرزخ - وهي الآن موجودة وإن العارفين يدخلونها اليوم بأرواحهم لا بأجسامهم ولو قالوا : إنها جنة المأوى - ظهرت حيث شاء اللّه تعالى وكيف شاء كما ظهر لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم على ما ورد في الصحيح في عرض حائط المسجد - لم يبعد على مشربهم ولو أن قائلا قال بهذا لقلت به لكن للتفرد في مثل هذه المطالب آفات. وكما اختلف في هذه الجنة اختلف في وقت خلق زوجه عليه السلام ، فذكر السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس وناس من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم أن اللّه تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكنها آدم بقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى اللّه تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعا من جانبه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة فسألها من أنت؟ قالت : امرأة قال ولم خلقت؟ قالت : لتسكن إليّ فقالت الملائكة تجربه لعلمه : من هذه؟
قال : امرأة قالوا : لم سميت امرأة؟ قال : لأنها خلقت من المراء فقالوا : ما اسمها؟ قال : حواء قالوا : لم سميت حواء؟
قال : لأنها خلقت من شيء حي. وقال كثيرون - ولعلي أقول بقولهم - إنها خلقت قبل الدخول ودخلا معا ، وظاهر الآية الكريمة يشير إليه وإلا توجه الأمر إلى معدوم وإن كان في علمه تعالى موجودا ، وأيضا في تقديم زَوْجُكَ على الْجَنَّةَ نوع إشارة إليه وفي المثل ، الرفيق قبل الطريق. وأيضا هي مسكن القلب ، والجنة مسكن البدن ، ومن الحكمة تقديم الأول على الثاني ، وأثر السدي - على ما فيه مما لا يخفى عليك - معارض بما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : بعث اللّه جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور حتى أدخلوهما الجنة فإنه كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما الضمير المجرور للجنة على حذف مضاف أي من مطاعمها من ثمار وغيرها فلم يحظر عليهما شيئا إلا ما سيأتي ، وأصل كُلا أأكلا بهمزتين الأولى للوصل ، والثانية فاء الكلمة فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ وأتبعت بالأولى لفوات الغرض ، وقيل : حذفا معا لكثرة الاستعمال - والرغد بفتح الغين - وقرأ النخعي - بسكونها - الهنيّ الذي لا عناء فيه أو الواسع ، يقال : رغد عيش القوم ، ورغد - بكسر الغين وضمها - كانوا في رزق واسع كثير ، وأرغد القوم أخصبوا وصاروا في رغد من العيش ، ونصبه على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي أكلا رغدا. وقال ابن كيسان : إنه حال بتأويل راغدين مرفهين ، وحَيْثُ ظرف مكان مبهم لازم للظرفية ، وإعرابها لغة بني فقعس ولا تكون ظرف زمان خلافا للأخفش ، ولا يجزم بها دون «ما» خلافا للفراء ، ولا تضاف للمفرد خلافا للكسائي ولا يقال : زيد حيث عمرو - خلافا للكوفيين - ويعتقب على آخرها الحركات الثلاث - مع الياء والواو والألف - ويقال : حايث على قلة - وهي هنا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 236
متعلقة بكلا ، والمراد بها العموم لقرينة المقام وعدم المرجح أي أي مكان من الجنة شِئْتُما وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول مما حظر. ولم تجعل متعلقة ب اسْكُنْ ، لأن عموم الأمكنة مستفاد من جعل - الجنة - مفعولا به له ، مع أن التكريم في الأكل من كل ما يريد منها لا في عدم تعيين السكنى ولأن قوله تعالى في آية أخرى :
فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما [الأعراف : 19] يستدعي ما ذكرنا ، وكذا قوله سبحانه :
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ظاهر هذا النهي التحريم ، والمنهي عنه الأكل من الشجرة ، إلا أنه سبحانه نهى عن قربانها مبالغة ، ولهذا جعل جل شأنه العصيان المرتب على الأكل مرتبا عليه ، وعدل عن فتأثما إلى التعبير بالظلم الذي يطلق على الكبائر ، ولم يكتف بأن يقول : ظالمين ، بل قال : مِنَ الظَّالِمِينَ بناء على ما ذكروا أن قولك : زيد من العالمين ، أبلغ من زيد عالم لجعله غريقا في العلم أبا عن جد ، وإن قلنا بأن فَتَكُونا دالة على الدوام ازدادت المبالغة ، ومن الناس من قال : لا تقرب - بفتح الراء - نهي عن التلبس بالشي ء - وبضمها - بمعنى لا تدن منه ، وقال الجوهري : قرب - بالضم - يقرب قربا دنا وقربته - بالكسر - قربانا دنوت منه. والتاء في الشَّجَرَةَ للوحدة الشخصية - وهو اللائق بمقام الإزاحة - وجاز أن يراد النوع ، وعلى التقديرين - اللام - للجنس - كما في الكشف - ووقع خلاف في هذه الشجرة ، فقيل : الحنطة ، وقيل : النخلة ، وقيل : شجرة الكافور - ونسب إلى علي كرم اللّه تعالى وجهه -
وقيل : التين ، وقيل : الحنظل ، وقيل : شجرة المحبة ، وقيل : شجرة الطبيعة والهوى «وقيل ، وقيل ...» والأولى عدم القطع والتعيين - كما أن اللّه تعالى لم يعينها باسمها في الآية - ولا أرى ثمرة في تعيين هذه الشجرة - ويقال : فيها شجرة - بكسر الشين - وشيرة - بإبدال الجيم ياء مفتوحة مع فتح الشين وكسرها - وبكل قرأ بعض ، وعن أبي عمرو أنه كره - شيرة - قائلا : إن برابر مكة وسودانها يقرؤون بها - ولا يخفى ما فيه ، والشجر ما له ساق أو كل ما تفرع له أغصان وعيدان ، أو أعم من ذلك لقوله تعالى : شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات : 146] وقوله تعالى : فَتَكُونا إما مجزوم - بحذف النون - معطوفا على تَقْرَبا فيكون منهيا عنه وكان على أصل معناها ، أو منصوب على أنه جواب للنهي كقوله سبحانه : وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ [طه : 81] والنصب بإضمار «أن» عند البصريين - وبالفاء نفسها - عند الجرمي ، وبالخلاف عند الكوفيين - وكان - حينئذ بمعنى صار ، وأيّا ما كان من تفهم سببية ما تقدم لكونها مِنَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود اللّه تعالى ، ولعل القربان المنهي عنه الذي يكون سببا للظلم المخل بالعصمة هو ما لا يكون مصحوبا بعذر - كالنسيان هنا مثلا - المشار إليه بقوله تعالى : فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه : 115] فلا يستدعي حمل النهي على التحريم ، و- الظلم - المقول بالتشكيك على ارتكاب المعصية عدم عصمة آدم عليه السلام - بالأكل المقرون بالنسيان - وإن ترتب عليه ما ترتب - نظرا إلى أن حسنات الأبرار سيئات المقربين - وللسيد أن يخاطب عبده بما شاء ، نعم لو كان ذلك غير مقرون بعذر كان ارتكابه حينئذ مخلا - ودون إثبات هذا خرط القتاد - فإذا لا دليل في هذه القصة على عدم العصمة ، ولا حاجة إلى القول إن ما وقع كان قبل النبوة لا بعدها - كما يدعيه المعتزلة - القائلون
بأن ظهوره مع علمه بالأسماء معجزة على نبوته إذ ذاك. وصدور الذنب قبلها جائز عند أكثر الأصحاب - وهو قول أبي هذيل وأبي علي من المعتزلة - ولا إلى حمل النهي على التنزيه والظلم على نقص الحظ مثلا - والتزمه غير واحد - وقرىء تَقْرَبا - بكسر التاء - وهي لغة الحجازيين ، وقرأ ابن محيصن «هذي» بالياء فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي حملهما على الزلة بسببها ، وتحقيقه أصدر زلتهما عنها وعن هذه مثلها في قوله تعالى : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة : 114] والضمير على هذا للشجرة ، وقيل : أزلهما أي أذهبهما ، ويعضده قراءة حمزة فأزالهما وهما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 237
متقاربان في المعنى غير أن أزلّ يقتضي عثرة مع الزوال - والضمير حينئذ للجنة وعوده إلى الشجرة بتجوز ، أو تقدير مضاف - أي محلها - أو إلى الطاعة المفهومة من الكلام - بعيد ، وإزلاله - عليه اللعنة - إياهما - عليهما السلام - كان بكذبه عليهما ومقاسمته على ما قص اللّه تعالى في كتابه ، وفي كيفية توسله إلى ذلك أقوال ، فقيل : دخل الجنة ابتلاء لآدم وحواء ، وقيل : قام عند الباب فناداهما وأفسد حالهما ، وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم يعرفه الخزنة ، وقيل :
أرسل بعض أتباعه إليهما. وقيل : بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة فدنت حواء منه ، وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار ، وقيل : توسل بحية تسورت الجنة - ومشهور حكاية الحية - وهذان الأخيران يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة ، وثانيهما إلى توسله بالغضب ، وتسور جدار الجنة عندهم إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة ، وقيل : توسله إلى ما توسل إليه إذ ذاك مثل توسله اليوم إلى إذلال من شاء اللّه تعالى وإضلاله ، ولا نعرف من ذلك إلا الهواجس والخواطر التي تفضي إلى ما تفضي ، ولا جزم عند كثير في دخول الشيطان في القلب بل لا يعقلونه ، ولهذا قالوا : خبر إن الشيطان - يجري من بني آدم مجرى الدم - محمول على الكناية عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له ، وكأني بك تختار هذا القول ، وقال أبو منصور : ليس لنا البحث عن كيفية ذلك ، ولا نقطع القول بلا دليل ، وهذا من الإنصاف بمكان ، وقرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه «فوسوس لهما الشيطان عنها» «1» والضمير في هذه القراءة - للشجرة - لا غير ، وعوده إلى - الجنة - بتضمين الإذهاب ونحوه بعيد فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من النعيم والكرامة أو من الجنة. «الأول» جار على تقدير رجوع ضمير عَنْها إلى - الشجرة - أو - الجنة - «الثاني» مخصوص بالتقدير الأول - لئلا يسقط الكلام.
وقيل : أخرجهما من لباسهما الذي كانا فِيهِ لأنهما لما أكلا تهافت عنهما ، وفي الكلام من التفخيم ما لا يخفى وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ - الهبوط - النزول ، وعين المضارع تكسر وتضم ، وقال المفضل : هو الخروج من البلد ، والدخول فيها من الأضداد - ويقال في انحطاط المنزلة - والبعض في الأصل مصدر بمعنى القطع ويطلق على الجزء ، وهو ككل ملازم للإضافة - لفظا أو نية - ولا تدخل عليه اللام ، ويعود عليه الضمير مفردا ومجموعا - إذا أريد به جمع - والعدو - من - العداوة - مجاوزة الحد أو التباعد أو الظلم ، ويطلق على الواحد المذكر ومن عداه بلفظ واحد ، وقد يقال : - أعداء وعدوة - والخطاب لآدم وحواء ، لقوله تعالى : قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه : 123] والقصة واحدة ، وجمع الضمير لتنزيلهما منزلة البشر كلهم ، ولما كان في الأمر بالهبوط انحطاط رتبة المأمور لم يفتتحه بالنداء - كما افتتح الأمر بالسكنى - واختار الفراء أن المخاطب - هما وذريتهما - وفيه خطاب المعدوم ، والمأثور عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ومجاهد وكثير من السلف - أنه هما وإبليس - واعترض بخروجه قبلهما. وأجيب بأن الاخبار عما قال لهم مفرقا - على أنه لا مانع من المعية - وقيل : هم والحية ، واعترض بعدم تكليفها ، وأجيب بأن الأمر تكويني ، والجملة الاسمية منصوبة المحل على الحال المقدرة ، والحكم باعتبار الذرية. وإذا دخل إبليس والحية - كان الأمر أظهر ، ولا يرد أنه كيف يقيد الأمر بالتعادي - وهو منهي عنه - لأنا نقول بصرف توجه النظر عن القيد كون العداوة طبيعية - والأمور الطبيعية غير مكلف بها - وإن كلف فبالنظر إلى أسبابها ، وإذا جعل الأمر تكوينيا زال الإشكال - إلا أن فيه بعدا - وبعضهم يجعل الجملة مستأنفة على تقدير السؤال فرارا عن هذا السؤال - مع ما في الاكتفاء بالضمير دون الواو في الجملة الاسمية الحالية من - المقال ، حتى ذهب الفراء إلى
___________
(1) سورة الأعراف الآية : 20

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 238
شذوذه ، وإن كان التحقيق ما ذكره بعض المحققين أن الجملة الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية - فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو - كجاء زيد ، وأبوه منطلق - إلا ما شذ من نحو كلمته - فوه - إلى - في - وإن أجنبية لزمتها - الواو - نائبة عن العائد ، وقد يجمع بينهما - كقدم بشر وعمرو قادم إليه - وقد جاءت - بلا ولا - كقوله :
ثم انتصبنا جبال الصغد معرضة عن اليسار وعن أيماننا جدد
وقد تكون صفة ذي الحال ك تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة : 83] وهذه يجوز فيها الوجهان باطراد ، وما نحن فيه من هذا القبيل فتدبر وإفراد العدو إما للنظر إلى لفظ البعض ، وإما لأن وزانه وزان المصدر كالقبول ، وبه تعلق ما قبله واللام - كما في البحر - مقوية ، وقرأ أبو حيوة اهْبِطُوا - بضم الباء - وهو لغة فيه ، وبهذا الأمر نسخ الأمر والنهي السابقان وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أراد بالأرض محل الإهباط ، وليس المراد شخصه الذي هو لآدم عليه السلام - موضع بجبل سرنديب - ولحواء موضع بجدة ، ولإبليس موضع بالأبلة ، ولصاحبته موضع بنصيبين أو أصبهان أو سجستان - والمستقر - اسم مكان أو مصدر ميمي ، ويحتمل - على بعد - كونه اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وتصرفكم فيه - وأبعد منه - احتمال كونه اسم زمان وهو مبتدأ خبره لَكُمْ وفيه متعلق بما تعلق به - والمتاع - البلغة ، مأخوذ من متع النهار - إذا ارتفع - ويطلق على الانتفاع الممتد وقته - ولا يختص بالحقير - والحين مقدار من الزمان - قصيرا أو طويلا - والمراد هنا إلى وقت الموت - وهو القيامة الصغرى - وقيل : إلى يوم القيامة الكبرى ، وعليه تجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض ، أو يجعل الخطاب شاملا لإبليس - ويراد الكل المجموعي - والجار متعلق بمتاع ، قيل : أو به ، وبمستقر على التنازع - أو بمقدار صفة لمتاع - وهذه الجملة كالتي قبلها استئنافا وحالية.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ المراد - بتلقي - الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها ، فهو مستعار من استقبال الناس بعض الأحبة - إذا قدم بعد طول الغيبة - لأنهم لا يدعون شيئا من الإكرام إلا فعلوه ، وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الأخذ والقبول والعمل بها ، وفي التعبير - بالتلقي - إيماء إلى أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت في مقام البعد ومِنْ رَبِّهِ حال من كَلِماتٍ مقدم عليها ، وقيل : متعلق ب فَتَلَقَّى وهي من تلقاه منه بمعنى تلقنه ، ولولا خلوّه عما في الأول من اللطافة لتلقيناه بالقبول ، وقرأ ابن كثير بنصب آدَمُ ورفع كَلِماتٍ على معنى - استقبلته - فكأنها مكرمة له لكونها سبب العفو عنه ، وقد يجعل الاستقبال مجازا عن البلوغ بعلاقة السببية ، والمروي في المشهور عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أن هذه الكلمات هي رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا [الأعراف : 23] الآية ، وعن ابن مسعود أنها ، سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وقيل : رأى مكتوبا على ساق العرش ، محمد رسول اللّه فتشفع به ، وإذا أطلقت الكلمة على عيسى عليه السلام ، فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم ، والحبيب الأكرم صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، فما عيسى ، بل وما موسى ، بل «وما ، وما ..
» إلا بعض من ظهور أنواره ، وزهرة من رياض أنواره ، وروي غير ذلك فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة أصلها الرجوع وإذا أسندت إلى العبد كانت - كما في الاحياء - عبارة عن مجموع أمور ثلاثة - علم - وهو معرفة ضرر الذنب ، وكونه حجابا عن كل محبوب ، وحال يثمره ذلك العلم ، وهو تألم القلب بسبب فوات المحبوب ، ونسميه ندما ، وعمل يثمره الحال - وهو الترك والتدارك - والعزم على عدم العود ، وكثيرا ما تطلق على الندم وحده لكونه لازما للعلم مستلزما للعمل. وفي الحديث «الندم توبة»
وطريق

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 239
تحصيلها تكميل الإيمان بأحوال الآخرة وضرر المعاصي فيها ، وإذا أسندت إليه سبحانه كانت عبارة عن قبول التوبة والعفو عن الذنب ونحوه ، أو التوفيق لها والتيسير لأسبابها بما يظهر للتائبين من آياته ، ويطلعهم عليه من تخويفاته ، حتى يستشعروا الخوف فيرجعوا إليه ، وترجع في الآخرة إلى معنى التفضل والعطف ، ولهذا عديت - بعلى - وأتى سبحانه بالفاء لأن تلقي الكلمات عين التوبة ، أو مستلزم لها ، ولا شك أن القبول مترتب عليه ، فهي إذا لمجرد السببية ، وقد يقال : إن التوبة لما دام عليها صح التعقيب - باعتبار آخرها إذ لا فاصل حينئذ - وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أنهما بكيا مائتي سنة على ما فاتهما ، ولم يقل جل شأنه - فتاب عليهما - لأن النساء تبع يغني عنهن ذكر المتبوع ، ولذا طوى ذكرهن في كثير من الكتاب والسنة ، وفي الجملة الاسمية ما يقوي رجاء المذنبين ، ويجبر كسر قلوب الخاطئين حيث افتتحها ب «أن» وأتى بضمير الفصل وعرف المسند وأتى به من صيغ المبالغة إشارة إلى قبوله التوبة كلما تاب العبد ، ويحتمل أن ذلك لكثرة من يتوب عليهم ، وجمع بين وصفي كونه توابا وكونه رحيما إشارة إلى مزيد الفضل ، وقدم التَّوَّابُ لظهور مناسبته لما قبله ، وقيل في ذكر الرَّحِيمُ بعده.
إشارة إلى أن قبول التوبة ليس على سبيل الوجوب - كما زعمت المعتزلة - بل على سبيل الترحم والتفضل ، وأنه الذي سبقت رحمته غضبه ، فيرحم عبده في عين غضبه - كما جعل هبوط آدم سبب ارتفاعه ، وبعده سبب قربه - فسبحانه من تواب ما أكرمه ، ومن رحيم ما أعظمه ، وإذا فسر التواب بالرجاع إلى المغفرة - كان الكلام تذييلا - لقوله تعالى :
فَتابَ عَلَيْهِ أو بالذي يكثر الإعانة على التوبة - كان تذييلا - لقوله تعالى : فَتَلَقَّى آدَمُ إلخ ، وقرأ نوفل إِنَّهُ بفتح الهمزة على تقدير - لأنه - قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً كرر للتأكيد ، فالفصل لكمال الاتصال - والفاء - في فَتَلَقَّى للاعتراض ، إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد ، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها - ولا يمهل - فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله ، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام ، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له ، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول ، إذ ذكر إهباطهم «أولا» للتعادي وعدم الخلود ، والأمر فيه تكويني «وثانيا» ليهتدي من يهتدي ، ويضل من يضل ، والأمر فيه تكليفي ، ويسمى هذا الأسلوب في البديع - الترديد - فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين ، وقيل :
إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين ، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم ، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى ، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟؟ فلو لم يعد الأمر لعطف فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ على «الأول» فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور ، ويحتمل - على بعد - أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك ، ولولا إرادته لما كان ما كان ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان ، فهو قريب من قوله عز شأنه : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال : 17] وقال الجبائي : إن «الأول» من الجنة إلى السماء «والثاني» منها إلى الأرض ، ويضعفه ذكر وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عقيب الأول وجَمِيعاً حال من فاعل اهْبِطُوا أي مجتمعين ، سواء كان في زمان واحد أو لا ، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام ، كما قيل به في فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر : 30] وأبعد ابن عطية فجعله تأكيدا لمصدر محذوف أي هبوطا جميعا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
لا يدخل في الخطاب غير المكلف ، وأدرج الكثيرون إِبْلِيسَ لأنه مخاطب بالإيمان - والفاء - لترتيب ما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 240
بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر وإما مركبة من إن الشرطية و«ما» الزائدة للتأكيد ، وكثر تأكيد الفعل بعدها بالنون ، ولم يجب كما يدل عليه قول سيبويه : إن شئت لم تقحم النون ، كما أنك إن شئت لم تجئ «بما» وقد ورد ذلك في قوله :
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي
وقوله :
إما أقمت وإما كنت مرتحلا فاللّه يحفظ ما تبقي وما تذر
وحمل ذلك من قال بالوجوب على الضرورة وهو مما لا ضرورة إليه ، والقول بأنه يلزم حينئذ مزية التابع الذي هو حرف الشرط على المتبوع وهو الفعل - يدفعه أن التابع ومؤكده تابع فلا مزية ، أو أن «ما» لتأكيد الفعل في أوله كما أن النون إذا كانت تأكيدا له في آخره وجيء بحرف الشك إذ لا قطع بالوقوع فإنّه تعالى لا يجب عليه شيء بل إن شاء هدى وإن شاء ترك ، وقيل : بالقطع واستعمال «إن» في مقامه لا يخلو عن نكتة كتنزيل العالم منزلة غيره بعدم جريه على موجب العلم ، ويحسنه سبق ما سيق وقوعه من آدم ، وقيل : إن زيادة «ما» والتوكيد بالثقيلة لا يتقاعد في إفادة القطع عن إذا ، نعم لا ينظر فيه إلى الزمان بل إلى أنه محقق الوقوع أبهم وقته ، وأنت تعلم أن ما اخترناه أسلم وأبعد عن التكلف مما ذكر - وإن جل قائله فتدبر - و«مني» متعلق بما قبله ، وفيه شبه الالتفات - كما في البحر - وأتى بالضمير الخاص هنا للرمز إلى أن اللائق - بمن - هدى التوحيد الصرف وعدم الالتفات إلى الكثرة ، ونكر - الهدى - لأن المقصود هو المطلق ولم يسبق فيه عهد فيعرف ، وفي المراد به هنا أقوال ، فقيل الكتب المنزلة ، وقيل : الرسل ، وقيل : محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم.
ولعل المراد هديه الذي جاء به نوابه عليهم الصلاة والسلام ، والفاء في «فمن» للربط و«ما» بعد جملة شرطية وقعت جوابا للشرط الأول على حدّ - إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك - وقال السجاوندي : جوابه محذوف أي فاتبعوه ، واختار أبو حيان كون «من» هذه موصولة لما في المقابل من الموصول ، ودخلت الفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط ، ووضع المظهر موضع المضمر في هداي إشارة للعلية لأن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع ، وبالنظر إلى أنه أضيف إليه تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع ، وقيل : لم يأت به ضميرا لأنه أعم من الأول لشموله لما يحصل بالاستدلال والعقل ، ولم يقل الهدى لئلا تتبادر العينية أيضا لأن النكرة في الغالب إذا أعيدت معرفة كانت عين الأول مع ما في الإضافة إلى نفسه تعالى من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرفا باللام ، والخوف الفزع في المستقبل ، والحزن ضد السرور مأخوذ من الحزن - وهو ما غلظ من الأرض - فكأنه ما غلظ من الهمّ ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي على المشهور ، ويؤول حينئذ نحو إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف : 13] بعلم ذلك الواقع ، وقيل : إنه والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف استشعارهم لفقد مطلوب ، والحزن استشعار غم لفوت محبوب ، وجعل هنا نفي الخوف كناية عن نفي العقاب ، ونفي الحزن كناية عن نفي الثواب وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة ، والمعنى - لا خوف عليهم - فضلا عن أن يحل بهم مكروه ، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه ، فالمنفي عن الأولياء خوف حلول المكروه والحزن في الآخرة ، وفيه إشارة إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن لا خوف فيها ولا حزن ، وحينئذ يظهر التقابل بين الصنفين في الآيتين ، وقال بعض الكبراء : خوف المكروه منفي عنهم مطلقا.
وأما خوف الجلال ففي غاية الكمال والمخلصون على خطر عظيم ، وقيل : المعنى - لا خوف عليهم - من الضلالة في الدنيا ، ولا حزن من الشقاوة في العقبى ، وقدم انتفاء الخوف لأن انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن على ما فات. ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي ، وقدم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 241
الضمير إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وأن غيرهم يحزن. والمراد بيان دوام الانتفاء لا بيان انتفاء الدوام كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما تقرر في محله أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام ، وذكر بعض الناس أن العدول عن لا خوف لهم أو عندهم إلى - لا خوف عليهم - للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم. وفي البحر أنه سبحانه كني بعليهم عن الاستيلاء والإحاطة إشارة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ألا ترى انصراف النفي على كونية الخوف عليهم ، ولا يلزم من نفي كونية استيلاء الخوف انتفاؤه في كل حال ، فلا دليل
في الآية على نفي أهوال القيامة وخوفها عن المطيعين ، وأنت تعلم أن فيما أشرنا إليه كناية غنية عن مثله وكذا عما قيل إن نفي الاستيلاء للتعريض بالكفار ، والإشارة إلى أن الخوف مستول عليهم. هذا وقرأ الأعرج «هداي» بسكون الياء ، وفيه الجمع بين ساكنين وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الجحدري وغيره «هدي» بقلب الألف ياء وإدغامها في الياء على لغة هذيل. وقرأ الزهري وغيره «فلا خوف» بالفتح ، وابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين ، وكأنه حذف لنية الإضافة ، أو لكثرة الاستعمال ، أو لملاحظة اللام في الاسم - على ما في البحر - ليحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلا الجملتين وهو على قراءة الجمهور مبتدأ ، وعَلَيْهِمْ خبره أو أن لا عاملة عمل ليس كما قال ابن عطية والأول أولى.
[سورة البقرة (2) : الآيات 39 إلى 59]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 242
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ عطف على فَمَنْ تَبِعَ قسيم له كأنه قال : ومن لم يتبعه ، وإنما أوثر عليه ما ذكر تعظيما لحال الضلالة وإظهارا لكمال قبحها أو لأن من لم يتبع شامل لمن لم تبلغه الدعوة ولم يكن من المكلفين فعدل عن ذلك لإخراجهم ، ولأنه شامل للفاسق بناء على أن المراد بالمتابعة المتابعة الكاملة ليترتب عليه عدم الخوف والحزن فلو قال سبحانه ذلك لزم منه خلوده في النار ولما قال ما قال لم يلزم ذلك بل خرج الفاسق من الصنفين ، ويعلم بالفحوى أن عليه خوفا وحزنا على قدر عدم المتابعة - ولو جعل قوله تعالى :
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حينئذ لنفي استمرار الخوف والحزن ، وأريد بمتابعة الهدى الإيمان به تعالى - كان داخلا في فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ إلا أن أولياء كتاب اللّه تعالى لا يرضون ذلك ولا يقبلون - وأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - وإيراد الموصول بصيغة الجمع للإشارة إلى كثرة الكفرة ، والمتبادر من الكفر الكفر باللّه تعالى ، ويحتمل أن يكون كفروا وكذبوا متوجهين إلى الجار والمجرور فيراد بالكفر بالآيات إنكارها بالقلب ، وبالتكذيب إنكارها باللسان. والآية في الأصل العلامة الظاهرة بالقياس إلى ذي العلامة ، ومنه آية القرآن لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها والذي قبلها ، أو لأنها علامة على معناها وأحكامها ، وقيل : سميت آية لأن الآية تطلق على الجماعة أيضا ، كما قال أبو عمرو يقال : خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم ، وهي جماعة من القرآن وطائفة من الحروف ، وذكر بعضهم أنها سميت بذلك لأنها عجب يتعجب من إعجازه ، كما يقال : فلان آية من الآيات ، وفي أصلها ووزنها أقوال : فمذهب سيبويه والخليل أن أصلها أيية - بفتحات - قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها على خلاف القياس - كغاية وراية - إذ المطرد عند اجتماع حرفي علة إعلال الآخر لأنه محل التغيير ، ومذهب الكسائي أن أصلها آيية - كفاعلة - وكان القياس أن تدغم كدابة ، إلا أنه ترك ذلك تخفيفا فحذفوا عينها ، ومذهب الفراء أن وزنها فعلة - بسكون العين - من تأيّ القوم إذا اجتمعوا ، وقالوا في الجمع : آياء كأفعال ، فظهرت الياء ، والهمزة الأخيرة بدل ياء والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة ، ولو كان عينها واوا لقالوا في الجمع : آواء ، ثم إنهم قلبوا الياء الساكنة ألفا على غير القياس لعدم تحركها وانفتاح ما قبلها.
ومذهب الكوفيين أن وزنها - أيية - كنبقة فأعلت وهو في الشذوذ كالأول ، وقيل : وزنها فعلة بضم العين ، وقيل : أصلها أياة فقدمت اللام وأخرت العين - وهو ضعيف - وكل الأقوال فيها لا تخلو عن شذوذ ، ولا بدع فهي آية ، والمراد بالآيات هنا الكتب المنزلة أو الأنبياء ، أو القرآن ، أو الدوال عليه سبحانه من كتبه ومصنوعاته ، وينزل المعقول منزلة الملفوظ ليتأتى التكذيب ، وأتى سبحانه بنون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة ، وأضاف تعالى الآيات إليها لإظهار كمال قبح التكذيب بها ، وأشار ب أُولئِكَ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة للإشعار بتميز أُولئِكَ بذلك الوصف تميزا مصححا للإشارة الحسية مع الإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ خبره

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 243
أصحاب وهو جمع صاحب ، وجمع فاعل على أفعال شاذ «1» كما في البحر ، ومعنى الصحبة الاقتران بالشيء ، والغالب في العرف أن تطلق على الملازمة ، وهذه الجملة خبر عن الذين ، ويحتمل أن يكون اسم الإشارة بدلا منه أو عطف بيان ، والأصحاب خبره ، والجملة الاسمية بعد في حيز النصب على الحالية لورود التصريح في قوله تعالى : أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها [التغابن : 10] وجوّز كونها حالا من النار لاشتمالها على ضميرها ، والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة ، أو في حيز الرفع على أنها خبر آخر - لأولئك - على رأي من يرى ذلك ، قال أبو حيان : ويحتمل أن تكون مفسرة لما أبهم في أَصْحابُ النَّارِ مبينة أن هذه الصحبة لا يراد منها مطلق الاقتران بل الخلود ، فلا يكون لها إذ ذاك محل من الإعراب ، والخلود هنا الدوام على ما انعقد عليه الإجماع ، ومن البديع ما ذكره بعضهم أن في الآيتين نوعا منه ، يقال له الاحتباك ، ويا حبذاه لولا الكناية المغنية عما هناك.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعد الخطاب العام ، وإقامة دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والتذكير بصنوف الإنعام ، وجعله سبحانه بعد قصة آدم ، لأن هؤلاء بعد ما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح ، وأمروا ونهوا وحرضوا على اتباع - النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم - ظهر منهم ضد ذلك ، فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة ، وهبطوا إلى أرض الطبيعة ، وتعرضت لهم الكلمات - إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول - ففات منهم ما فات ، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي. وبَنِي جمع ابن شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده ، ولذا ألحق في فعله تاء التأنيث - كقالت بنو عامر - وهو مختص بالأولاد الذكور ، وإذا أضيف عم في العرف - الذكور والإناث - فيكون بمعنى الأولاد - وهو المراد هنا - وذكر الساليكوتي أنه حقيقة في الأبناء الصلبية - كما بين في الأصول - واستعماله في العام مجاز ، وهو محذوف اللام ، وفي كونها - ياء أو واوا - خلاف ، فذهب إلى الأول ابن درستويه وجعله من البناء ، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه ، ولهذا ينسب المصنوع إلى صانعه ، فيقال للقصيدة مثلا : بنت الفكر ، وقد أطلق في شريعة من قبلنا على بعض المخلوقين - أبناء اللّه تعالى - بهذا المعنى ، لكن لما تصوّر من هذا الجهلة الأغبياء - معنى الولادة - حظر ذلك حتى صار التفوه به كفرا ، وذهب إلى الثاني الأخفش ، وأيده بأنهم قالوا : البنوّة ، وبأن حذف - الواو - أكثر ، وقد حذفت في - أب وأخ - وبه قال الجوهري : ولعل الأول أصح ، ولا دلالة في البنوة.
لأنهم قالوا أيضا : الفتوة ، ولا خلاف في أنها من ذوات - الياء - وأمر الأكثرية سهل ، وعلى التقديرين في وزن - ابن - هل هو فعل أو فعل؟ خلاف و«إسرائيل» اسم أعجمي ، وقد ذكروا أنه مركب من - إيل - اسم من أسمائه تعالى ، و«إسرا» وهو العبد ، أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر - وهو لقب سيدنا يعقوب عليه السلام - وللعرب فيه تصرفات ، فقد قالوا : إِسْرائِيلَ بهمزة بعد الألف وياء بعدها - وبه قرأ الجمهور - «وإسراييل» - بياءين بعد الألف - وبه قرأ أبو جعفر وغيره - «وإسرائيل» - بهمزة ولام ، وهو مروي عن ورش - «وإسرأل» - بهمزة مفتوحة ومكسورة بعد الراء ، ولام - «وإسرأل» - بألف ممالة - بعدها لام خفيفة - وبها ولا إمالة - وهي رواية عن نافع - وقراءة الحسن وغيره «وإسرائين» بنون بدل اللام ، كما في قوله : «2»
___________
(1) والصحبة والصحابة - أسماء جموع وكذا صحب على الأصح خلافا للأخفش ا ه منه.
(2) كذا بخط المؤلف والمشهور.
قالت وكنت رجلا فطينا هذا لعمر اللّه إسرائينا
ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 244
تقول أهل السوء لما جينا هذا ورب البيت «إسرائينا»
وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب - تأكيدا لتحريكهم إلى طاعته - فإن في إِسْرائِيلَ ما ليس في اسمه الكريم - يعقوب - وقولك : يا ابن الصالح أطع اللّه تعالى ، أحث للمأمور من قولك : يا ابن زيد - مثلا - أطع ، لأن الطبائع تميل إلى اقتفاء أثر الآباء - وإن لم يكن محمودا - فكيف إذا كان؟ ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب - بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة - وهي من بيت النبوّة أحسن - والسيئة في نفسها سيئة - وهي من بيت النبوّة أسوأ ، واذْكُرُوا أمر من الذكر - بكسر الذال وضمها - بمعنى واحد ، ويكونان باللسان والجنان ، وقال الكسائي : هو بالكسر - للسان - وبالضم - للقلب - وضد الأول الصمت ، وضد الثاني النسيان.
«وعلى العموم» فإما أن يكون مشتركا بينهما ، أو موضوعا لمعنى عام شامل لهما «والظاهر» هو الأول ، والمقصود من الأمر بذلك - الشكر على النعمة والقيام بحقوقها - لا مجرد الاخطار بالجنان ، أو التفوه باللسان ، وإضافة النعمة إلى ضميره تعالى لتشريفها ، وإيجاب تخصيص شكرها به سبحانه ، وقد قال بعض المحققين : إنها تفيد الاستغراق - إذ لا عهد - ولمناسبته بمقام الدعوة إلى الإيمان ، فهي شاملة للنعم العامة والخاصة بالمخاطبين ، وفائدة التقييد بكونها عليهم أنها - من هذه الحيثية أدعى للشكر - فإن الإنسان حسود غيور ، وقال قتادة : أريد بها ما أنعم به على آبائهم - مما قصه سبحانه في كتابه - وعليهم من فنون النعمة التي أجلها - إدراك زمن أشرف الأنبياء - وجعلهم من جملة أمة الدعوة له ، ويحتاج تصحيح الخطاب حينئذ إلى اعتبار التغليب ، أو جعل نعم الآباء نعمهم ، فلا جمع بين الحقيقة والمجاز - كما وهم - ويجوز في الياء من نِعْمَتِيَ الإسكان والفتح ، والقراء السبعة متفقون على الفتح ، وأَنْعَمْتُ صلة الَّتِي والعائد محذوف ، والتقدير - أنعمتها - وقرى ء - اذكروا - بالدال المهملة المشددة على وزن افتعلوا وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يقال : أوفى ووفى - مخففا ومشددا - بمعنى ، وقال ابن قتيبة : يقال : أوفيت بالعهد ووفيت به ، وأوفيت الكيل لا غير ، وجاء - أوفى - بمعنى ارتفع كقوله :
ربما «أوفيت» في علم ترفعن ثوبي شمالات
«والعهد» يضاف إلى كل ممن يتولى أحد طرفيه ، والظاهر هنا أن الأول مضاف إلى الفاعل ، والثاني إلى المفعول ، فإنه تعالى أمرهم بالإيمان والعمل وعهد إليهم بما نصب من الحجج العقلية والنقلية الآمرة بذلك ، ووعدهم بحسن الثواب على حسناتهم والمعنى أَوْفُوا بِعَهْدِي بالإيمان والطاعة أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بحسن الإثابة ، ولتوسط الأمر صح طلب الوفاء منهم. واندفع ما قال العلامة التفتازاني على ما فيه أنه لا معنى لوفاء غير الفاعل بالعهد ، وقيل : - وهو المفهوم من كلام قتادة ومجاهد - أن كليهما مضاف إلى المفعول والمعنى - أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان «1» والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة ، وتفصيل العهدين قوله تعالى : وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله سبحانه : وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ [المائدة : 12] إلخ ، ويحوج هذا إلى اعتبار أن عهد الآباء عهد الأبناء لتناسبهم في الدين ، وإلا فالمخاطبون ب أَوْفُوا ما عوهدوا بالعهد المذكور في الآية ، وقيل : إن فسر - الإيفاء - بإتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين ، وإن فسر بمراعاته تكون الإضافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول وفيه تأمل ، ولا يخفى أن للوفاء عرضا عريضا ، فأول المراتب الظاهرة منا الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومنه تعالى حقن الدماء والمال وآخرها منا الفناء حتى عن الفناء ، ومنه تعالى التحلية بأنوار الصفات والأسماء - فما روي من الآثار على اختلاف
___________
(1) ذكر الالتزام لأنه قد يعوق عن الفعل عائق ، ويعد وافيا ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 245
أسانيدها صحة وضعفا في بيان الوفاء بالعهدين ، فبالنظر إلى المراتب المتوسطة ، وهي لعمري كثيرة - ولك أن تقول :
«أول» المراتب منا توحيد الأفعال ، «وأوسطها» توحيد الصفات.
«وآخرها» توحيد الذات ، ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق ، وقرأ الزهري «أوّف» بالتشديد ، فإن كان موافقا للمجرد فذاك وإن أريد به التكثير - والقلب إليه يميل - فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه ، ومزيد امتنانه ، حيث أخبر وهو الصادق ، أنه يعطي الكثير في مقابلة القليل ، وهو صرح بذلك في قوله سبحانه : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الإنعام : 160] وانجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر ، والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر وهو اختيار الفارسي ونص سيبويه.
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة الخوف مطلقا ، وقيل : مع تحرز ، وبه فارق الاتقاء لأنه مع حزم ولهذا كان الأول للعامة ، والثاني للأئمة ، والأشبه بمواقع الاستعمال أن الاتقاء التحفظ عن المخوف ، وأن يجعل نفسه في وقاية منه ، والرهبة نفس الخوف ، وفي الأمر بها وعيد بالغ ، وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت :
40] كما وهم لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى وَإِيَّايَ ضمير منفصل منصوب المحل بمحذوف يفسره المذكور ، والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلا على تقدير الشرط ، ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء ، ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع ، ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان ، واختار صاحب المفتاح أنها للعطف على الفعل المحذوف ، فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب استمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبي كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك اجتماعها مع واو العطف مثلا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون فارهبون مفسرا للمحذوف لا يقتضي اتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لا يصح جعلها عاطفة واستحسن هذا بعض المتأخرين لاشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية ، وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة : إنها عاطفة بحسب الأصل ، وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة : 5] وعد من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي ارهبوا فَارْهَبُونِ وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة ، وحذف متعلق الرهبة للعموم أي ارهبوني في جميع ما تأتون وتذرون ، وقيل : ارهبون في نقض العهد ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان ، خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب.
وما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - أن المعنى ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره - ظاهر في قسم أهل الظاهر وهو المناسب بحال هؤلاء المخاطبين - الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون - وحذفت ياء الضمير من ارهبون لأنها فاصلة ، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ عطف على ما قبله ، وظاهره أنه أمر لبني إسرائيل ، وقيل : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم ، وأفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في أَوْفُوا بِعَهْدِي بمجموع الأمر به والحث عليه المستفاد من قوله تعالى : مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ للإشارة إلى أنه المقصود ، والعمدة للوفاء بالعهود ، وبِما موصولة ، وأَنْزَلْتُ صلته والعائد محذوف أي أنزلته ومصدقا حال إما من الموصول أو من ضميره المحذوف. واللام في لِما مقوية ،

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 246
والمراد بما أنزلت القرآن ، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه والمراد بما معكم التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرار المراجعة إليها والوقوف على تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقا لها ، ومعنى تصديقه لها أنه نازل حسبما نعت فيها ، أو مطابق لها في أصل الدين والملة أو لما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرمات - كالكذب ، والزنا ، والربا - أو لجميع ما فيها والمخالفة في بعض جزئيات الأحكام التي هي للأمراض القلبية كالأدوية الطبية للأمراض البدنية المختلفة بحسب الأزمان والأشخاص ليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كلّا منها حق في عصره متضمن للحكمة التي يدور عليها فلك التشريع ، وليس في التوراة ما يدل على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها بل إن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها وانتهاء وقتها الذي شرعت للمصلحة فيه وليس هذا من البداء في شيء كما يتوهمون ، فإذن المخالفة في تلك الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتقدم ، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم ، وإلى ذلك يشير ما أخرجه الإمام أحمد وغيره
عن جابر أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال حين قرأ بين يديه عمر رضي اللّه تعالى عنه شيئا من التوراة : «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية الدارمي «والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني»
وتقييد المنزل بكونه - مصدقا لما معهم - لتأكيد وجوب الامتثال فإن إيمانهم بما معهم يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا ، ومن الناس من فسر المنزل بالكتاب - والرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم - وما معهم بالتوراة والإنجيل ، وليس فيه كثير بعد إلا أن البعيد من وجه جعل - مصدقا - حالا من الضمير المرفوع والأبعد جعل ما مصدرية ، ومصدقا حال من - ما - الثانية ، وأبعد منه جعله حالا من المصدر المقدر.
وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون حقيقة الأمر وحقيته. وقد كنتم من قبل تقولون إنا نكون أول من يتبعه فلا تضعوا موضع ما يتوقع فيكم ، ويجب منكم ما يبعد صدوره عنكم ويحرم عليكم من كونكم أول كافر به. وأَوَّلَ في المشهور أفعل لقولهم : هذا أول منك ولا فعل له لأن فاءه وعينه واو. وقد دل الاستقراء على انتفاء الفعل لما هو كذلك وإن وجد فنادر. وما في الشافية من أنه من وول بيان للفعل المقدر. وقيل : أصله - أو أل - من وأل وأولا إذا لجأ ثم خفف بإبدال الهمزة واوا ثم الإدغام وهو تخفيف غير قياسي ، والمناسبة الاشتقاقية أن الأول الحقيقي - أعني ذاته تعالى - ملجأ للكل وإن قلنا وأل بمعنى تبادر فالمناسبة أن التبادر سبب الأولية ، وقيل أوأل من آل بمعنى رجع ، والمناسبة الاشتقاقية على قياس ما ذكر سابقا ، وإنما لم يجمع على أو أول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع ، وقال الدريدي : هو فوعل فقلبت الواو الأولى همزة ، وأدغمت واو فوعل في عين الفعل ، ويبطله ظاهرا منع الصرف وهو خبر عن ضمير الجمع ، ولا بد هنا عند الجمهور من تأويل المفضل عليه بجعله مفردا للفظ جمع المعنى أي أَوَّلَ فريق مثلا أو تأويل المفضل أي لا يكن كل واحد منكم ، والمراد عموم السلب كما في لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ [القلم : 10] وبعض الناس - لا يوجب في مثل هذا - المطابقة بين النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل وما جرى هو عليه بل يجوز الوجهان عنده كما في قوله :
وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع
ومن أوجب أول البيت كالآية ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد التعريض - فأول - الكافرين غيرهم أو وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ من أهل الكتاب والخطاب للموجودين في زمانه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بل للعلماء منهم ، وقد يقال الضمير راجع إلى ما معكم والمراد من - لا تكونوا أول كافر - بما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 247
معكم - لا تكونوا أول كافر - ممن كفر بما معه - ومشركو مكة - وإن سبقوهم في الكفر بما يصدق القرآن حيث سبقوا بالكفر به وهو مستلزم لذلك لكن ليسوا ممن كفر بما معه ، والفرق بين لزوم الكفر والتزامه غير بين إلا أنه يخدش هذا الوجه ، إن هذا واقع في مقابلة آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ فيقتضي اتحاد متعلق الكفر بالأعيان إما باستعمال المقيد في المطلق - كالمرسن في الأنف - أو تشبيه الاستبدال المذكور في كونه مرغوبا فيه بالاشتراء الحقيقي ، والكلام على الحذف - أي لا تستبدلوا بالإيمان بآياتي ، والاتباع لها - حظوظ الدنيا الفانية القليلة المسترذلة بالنسبة إلى حظوظ الآخرة وما أعد اللّه تعالى للمؤمنين من النعيم العظيم الأبدي ، والتعبير عن ذلك - بالثمن - مع كونه مشتري لا مشترى به للدلالة على كونه كالثمن في الاسترذال والامتهان ، ففيه تقريع وتجهيل قوي حيث إنهم قلبوا القضية وجعلوا المقصود آلة والآلة مقصودة وإغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنا بإطلاق الثمن عليه ، ثم جعل الثمن مشترى بإيقاعه بدلا لما جعله ثمنا بإدخال الباء عليه «فإن قيل» : الاشتراء بمعنى الاستبدال بالإيمان بالآيات إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك للحظوظ الدنيوية وهم بمعزل عن الإيمان ، أجيب بأن مبنى ذلك على أن الإيمان بالتوراة الذي يزعمونه إيمان بالآيات كما أن الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الاستبدال ، ومن الناس من جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي التي وقفوا عليها في أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من التوراة والكتب الإلهية أو ما علموه من نعته الجليل وخلقه العظيم عليه الصلاة والسلام ، وقد كانوا يأخذون كل عام شيئا معلوما من زروع أتباعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا ذلك لهم وتابعوه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يفوتهم ذلك فضلوا وأضلوا ، وقيل : كان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا ، وقيل : غير ذلك ، وقد استدل بعض أهل
العلم بالآية على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب اللّه تعالى والعلم ، وروي في ذلك أيضا أحاديث لا تصح. وقد صح
أنهم قالوا : «يا رسول اللّه أنأخذ على التعليم أجرا؟ فقال : إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللّه تعالى»
وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز ذلك وإن نقل عن بعضهم الكراهة ، ولا دليل في الآية على ما ادعاه هذا الذاهب كما لا يخفى والمسألة مبينة في الفروع.
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الاشتراء بآيات اللّه تعالى الثمن القليل والعرض الزائل ، وإنما ذكر في الآية الأولى فَارْهَبُونِ وهنا فَاتَّقُونِ لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها أمرهم بالرهبة التي تورث التقوى ويقع فيها الاشتراك ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله ، وحيثما أراد بالخطاب فيما بعد - العلماء منهم ، وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات - أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات ، وليس وراء عبادان قرية.
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ هذا النهي مع ما بعده معطوف على مجموع الآية التي قبله وهي قوله تعالى :
وَآمِنُوا إلخ ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد : 3] إن مجموع الوصفين الأخيرين بعد اعتبار التعاطف معطوف على مجموع الأولين كذلك ، ويجوز العطف على جملة واحدة من الجمل السابقة إلا أن المناسبة على الأول أشد والملاءمة أتم. واللبس «1» بفتح اللام الخلط ، وفعله لبس من باب ضرب
___________
(1) وأما - اللبس - بضم اللام وفعله من باب علم فمعناه پوشيدن جامه كما في التاج ، ويفهم ذلك من الصحاح ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 248
ويكون بمعنى الاشتباه إما بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز : والباء إما للتعدية أو للاستعانة واللام في - الحق والباطل - للعهد أي لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الذي اخترعتموه وكتبتموه أو لا تجعلوا ذلك ملتبسا مشتبها غير واضح لا يدركه الناس بسبب الباطل وذكره ، ولعل الأول أرجح لأنه أظهر وأكثر لا لأن جعل وجود الباطل سببا لالتباس الحق ليس أولى من العكس لما أنه لما كان المذموم هو التباس الحق بالباطل - وإن لزمه العكس وكان هذا طارئا على ذلك - استحق الأولوية التي نفيت وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ مجزوم بالعطف على تَلْبِسُوا فالنهي عن كل واحد من الفعلين ، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار - أن - وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم.
وروى الجرمي إن النصب بنفس الواو - وهي عندهم بمعنى مع - وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف ، والمراد لا يكن منكم لبس الحق على من سمعه وكتمان الحق وإخفاؤه عمن لم يسمعه ، والقصد أن ينعى عليهم سوء فعلهم الذي هو الجمع بين أمرين كل منهما مستقل بالقبح ، ووجوب الانتهاء وطريق واسع إلى الإضلال والإغواء ، وحيث كان التلبيس بالنسبة إلى من سمع ، والكتمان إلى من لم يسمع اندفع السؤال بأن النهي عن الجمع بين شيئين إنما يتحقق إذا أمكن افتراقهما في الجملة وليس - لبس الحق بالباطل مع كتمان الحق كذلك - ضرورة أن لبس الحق بالباطل كتمان له ، وكرر الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة وإما لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح باسم الحق ما ليس في ضميره ، وقرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه - وتكتمون - وخرجت على أن الجملة في موضع الحال - أي وأنتم تكتمون أو كاتمين - وفي جواز اقتران الحال المصدرة بالمضارع بالواو قولان ، وليس للمانع دليل يعتمد عليه ، وهذه الحال عند بعض المحققين لازمة والتقييد لإفادة التعليل كما في - لا تضرب زيدا وهو أخوك - وعليه يكون المراد بكتمان الحق ما يلزم من لبس الحق بالباطل لا إخفائه عمن لا يسمع ، وجوز أن تكون معطوفة على جملة النهي على مذهب من يرى جواز ذلك - وهو سيبويه وجماعة - ولا يشترط التناسب في عطف الجمل وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية ومفعول تَعْلَمُونَ محذوف اقتصارا - أي وأنتم من ذوي العلم - ولا يناسب من كان عالما أن يتصف بالحال الذي أنتم عليه ، ولا يبعد أن يكون الحذف للاختصار - أي وأنتم تعلمون أنكم لابسون كاتمون - أو تعلمون صفته صلّى اللّه عليه وسلّم أو البعث والجزاء ، والمقصود من تقييد النهي بالعلم زيادة تقبيح حالهم لأن الإقدام على هاتيك الأشياء القبيحة مع العلم بما ذكر أفحش من الإقدام عليها
مع الجهل - وليس من يعلم كمن لا يعلم - وجوز ابن عطية أن تكون هذه الجملة معطوفة وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي ، وإن لم تكن مناسبة في الاخبار ، وهي عنده شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وليست شاهدة بالعلم على الإطلاق إذ هم بمراحل عنه ، واستدل بالآية على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه بالشروط المعروفة لدى العلماء وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ المراد بهما - سواء كانت اللام للعهد أو للجنس - صلاة المسلمين وزكاتهم لأن غيرهما مما نسخه القرآن ملتحق بالعدم ، والزكاة في الأصل النماء والطهارة ، ونقلت شرعا لإخراج معروف فإن نقلت من الأول فلأنها تزيد بركة المال وتفيد النفس فضيلة الكرم ، أو لأنها تكون في المال النامي وإن نقلت من الثاني فلأنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل. واستدل بالآية حيث كانت خطابا لليهود من قال : إن الكفار مخاطبون بالفروع واحتمال أن يكون الأمر فيها بقبول الصلاة المعروفة والزكاة والإيمان بهما ، أو أن يكون أمرا للمسلمين - كما قاله الشيخ أبو منصور - خلاف الظاهر فلا ينافي الاستدلال بالظاهر ، وقدم الأمر بالصلاة لشمول وجوبها ولما فيها من الإخلاص والتضرع للحضرة ، وهي أفضل العبادات البدنية وقرنها بالزكاة لأنها أفضل العبادات المالية ، ثم من قال : لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قال إنما جاء هذا بعد أن بين صلّى اللّه عليه وسلّم أركان ذلك وشرائطه ، ومن قال بجوازه قال
بجواز أن يكون الأمر لقصد أن يوطن السامع نفسه - كما يقول السيد لعبده

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 249
إني أريد أن آمرك بشيء فلا بد أن تفعله وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أي صلوا مع المصلين وعبر بالركوع عن الصلاة احترازا عن صلاة اليهود فإنها لا ركوع فيها وإنما قيد ذلك بكونه مع الراكعين لأن اليهود كانوا يصلون وحدانا فأمروا بالصلاة جماعة لما فيها من الفوائد ما فيها ، واستدل به بعضهم على وجوبها ومن لم يقل به حمل الأمر على الندب أو المعية على الموافقة وإن لم يكونوا معهم وقيل : الركوع - الخضوع والانقياد لما يلزمهم من الشرع قال الأضبط السعدي :
لا تذل الفقير علّك أن «تركع» يوما والدهر قد رفعه
ولعل الأمر به حينئذ بعد الأمر بالزكاة لما أنها مظنة ترفع فأمروا بالخضوع لينتهوا عن ذلك إلا أن الأصل في إطلاق الشرع المعاني الشرعية : وفي المراد بالراكعين قولان : فقيل ، النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه ، وقيل : الجنس وهو الظاهر «ومن باب الإشارة» في قوله تعالى : وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ إلخ أي لا تقطعوا على أنفسكم طريق الوصول إلى الحق بالباطل الذي هو تعلق القلب بالسوي - فإن أصدق كلمة قالها شاعر - لكمة لبيد.
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل ولا تَكْتُمُوا الْحَقَّ بالتفاتكم إلى غيره سبحانه وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه ليس لغيره وجود حقيقي أو لا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة الحقة بالباطل الذي هو صفات نفوسكم ولا تكتموها بحجاب صفات النفس وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفته لغيره وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بمراقبة القلوب وَآتُوا الزَّكاةَ أي بالغوا في تزكية النفس عن الصفات الذميمة لتحصل لكم التحلية بعد التخلية. أو أدوا زكاة الهمم فإن لها زكاة كزكاة النعم بل إن لكل شيء زكاة كما قيل :
كل شيء له «زكاة» تؤدى و- زكاة - الجمال رحمة مثلي
وَارْكَعُوا أي اخضعوا لما يفعل بكم المحبوب ، فالخضوع علامة الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات العلى ، وحاصله ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي فإن لي أحبابا لسان حال كل منهم يقول :
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل
ثم إنه تعالى لما أمرهم بفعل الخير شكرا لما خصهم به من النعم حرضهم على ذلك من مأخذ آخر بقوله سبحانه : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ والهمزة فيه للتقرير مع توبيخ وتعجيب و- البر - سعة المعروف والخير ، ومنه البر ، والبرية للسعة ، ويتناول كل خير ، والنسيان - كما في البحر - السهو الحادث بعد العلم.
والمراد به هنا الترك لأن أحدا لا ينسى نفسه بل يحرمها ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة في عدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله ، وقد نزلت هذه الآية - على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولا يتبعونه وقيل : إنهم كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون فالمراد بالبر هنا إما الإيمان أو الإحسان ، وتركه بعضهم على ظاهره متناولا كل خير على ما قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة اللّه تعالى وينهونهم عن معصيته وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية ، والتوبيخ ليس على أمر الناس بِالْبِرِّ نفسه بل لمقارنته بالنسيان المذكور وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أي التوراة ، والجملة حال من فاعل أَتَأْمُرُونَ ، والمراد التبكيت وزيادة التقبيح أَفَلا تَعْقِلُونَ أصل هذا الكلام ونحوه عند الجمهور كان بتقديم حرف العطف على الهمزة لكن لما كان للهمزة صدر الكلام قدمت على حرف العطف ، وبعضهم ذهب إلى أنه لا تقديم ولا تأخير ويقدر بين الهمزة وحرف العطف ما يصح العطف عليه ، و- العقل - في الأصل المنع والإمساك ، ومنه - عقال البعير - سمي به النور الروحاني الذي به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 250
على ما يحسن ، والفعل يحتمل أن يكون مطلقا أجري مجرى اللازم ، ويحتمل أن يكون متعديا مقدرا لمفعول ، والمعنى - أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون سوء خاتمته ووخامة عاقبته - أو أَفَلا تَعْقِلُونَ قبح صنيعكم شرعا لمخالفة ما تتلونه في التوراة. وعقلا لكونه جمعا بين المتنافيين ، فإن المقصود من الأمر بِالْبِرِّ الإحسان والامتثال ، والزجر عن المعصية ، ونسيانهم أنفسهم ينافي كل هذه الأغراض ، ولا نزاع في كون قبح الجمع بين ذلك عقلا بمعنى كونه باطلا فعلى هذا لا حجة للمعتزلة في الآية على القبح العقلي الذي يزعمونه بل قد ادعى بعض المحققين أنها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه لأنه سبحانه رتب التوبيخ على ما صدر منهم بعد تلاوة الكتاب وكذا لا حجة فيها لمن زعم أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن التوبيخ على جمع الأمرين بالنظر للثاني فقط لا منع الفاسق عن الوعظ فإن النهي عن المنكر لازم ولو لمرتكبه فإن ترك النهي ذنب وارتكابه ذنب آخر ، وإخلاله بأحدهما لا يلزم منه الإخلال بالآخر ، ثم إن هذا التوبيخ والتقريع - وإن كان خطابا لبني إسرائيل - إلا أنه عام - من حيث المعنى - لكل واعظ يأمر ولا يأتمر ، ويزجر ولا ينزجر ، ينادي الناس البدار البدار ، ويرضى لنفسه التخلف والبوار ، ويدعو الخلق إلى الحق ، وينفر عنه ، ويطالب العوام بالحقائق ولا يشم ريحها منه. وهذا هو الذي يبدأ بعذابه قبل عبدة الأوثان ، ويعظم ما يلقى لوفور تقصيره يوم لا حاكم إلا الملك الديان.
وعن محمد بن واسع قال : بلغني أن أناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار ، فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة ، قالوا : كنا نأمركم بها ، ونخالف إلى غيرها ، هذا ومن الناس من جعل هذا الخطاب للمؤمنين ، وحمل الكتاب على القرآن ، فيكون ذلك من تلوين الخطاب - كما في - يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي [يوسف : 29] والظاهر يبعده وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ لما أمرهم سبحانه بترك الضلال والإضلال والتزام الشرائع ، وكان ذلك شاقا عليهم - لما فيه من فوات محبوبهم وذهاب مطلوبهم - عالج مرضهم بهذا الخطاب ، و«الصبر» حبس النفس على ما تكره ، وقدمه على الصلاة - لأنها لا تكمل إلا به - أو لمناسبته لحال المخاطبين ، أو لأن تأثيره - كما قيل - في إزالة ما لا ينبغي ، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح - واللام - فيه للجنس ، ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه - وهو الصوم - بقرينة ذكره مع الصلاة - والاستعانة بالصبر - على المعنى الأول لما يلزمه من انتظار الفرج والنجح - توكلا على من لا يخيب المتوكلين عليه - ولذا قيل :
الصبر مفتاح الفرج ، وبه - على المعنى الثاني - لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس الموجبين للانقطاع إلى اللّه تعالى - الموجب لإجابة الدعاء - وأما الاستعانة ب الصَّلاةِ فلما فيها من أنواع العبادة ، مما يقرب إلى اللّه تعالى قربا يقتضي الفوز بالمطلوب والعروج إلى المحبوب ، وناهيك من عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات يناجي فيها العبد علام الغيوب ، ويغسل بها العاصي درن العيوب ، وقد روى حذيفة أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إذا حزنه أمر صلى ،
وروى أحمد أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة ،
وحمل الصلاة على الدعاء في الآية وكذا في الحديث لا يخلو عن بعد ، وأبعد منه كون المراد بالصبر الصبر على الصلاة.
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الضمير للصلاة - كما يقتضيه الظاهر ، وتخصيصها - برد الضمير إليها - لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر ، ومعنى - كبرها - ثقلها وصعوبتها على من يفعلها ، على حد قوله تعالى :
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى : 13] والاستثناء مفرغ أي لَكَبِيرَةٌ على كل أحد إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ وهم المتواضعون المستكينون ، وأصل - الخشوع - الإخبات ، ومنه الخشعة - بفتحات - الرمل المتطامن ، وإنما لم تثقل عليهم ، لأنهم عارفون بما يحصل لهم فيها متوقعون ما ادخر من ثوابها فتهون عليهم ، ولذلك قيل : من

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 251
عرف ما يطلب ، هان عليه ما يبذل ، ومن أيقن بالخلف ، جاد بالعطية ، وجوّز رجوع الضمير إلى - الاستعانة - على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة : 8] ورجح بالشمول ، وما يقال : إن الاستعانة ليست ب لَكَبِيرَةٌ لا طائل تحته ، فإن الاستعانة ب الصَّلاةِ أخص من فعل الصلاة لأنها أداؤها - على وجه الاستعانة بها على الحوائج - أو على سائر الطاعات لاستجرارها ذلك ، وقيل : يجوز أن يكون من أسلوب وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة : 8] وقوله :
إن شرخ الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونا
والتأنيث مثله في قوله تعالى على رأي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة : 34] أو المراد كل خصلة منها ، وقيل : الضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهي عنها ، ومشقتها عليهم ظاهرة ، وهو أقرب مما قاله الأخفش من رجوعه إلى إجابة الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والبعيد بل الأبعد عوده إلى الكعبة المفهومة من ذكر الصلاة الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ الظن في الأصل الحسبان - واللقاء - وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه ، والمراد من ملاقاة الرب سبحانه ، إما ملاقاة ثوابه أو الرؤية عند من يجوزها ، وكل منهما مظنون متوقع لأنه وإن علم الخاشع أنه لا بد من ثواب للعمل الصالح ، وتحقق أن المؤمن يرى ربه يوم المآب - لكن من أين يعلم ما يختم به عمله - ففي وصف أولئك بالظن إشارة إلى خوفهم ، وعدم أمنهم مكر ربهم فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف : 99]. وفي تعقيب الخاشعين به حينئذ لطف لا يخفى ، إلا أن عطف ...
أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ على ما قبله - يمنع حمل الظن على ما ذكر - لأن الرجوع إليه تعالى - المفسر بالنشور - أو المصير إلى الجزاء مطلقا ، مما لا يكفي فيه الظن والتوقع - بل يجب القطع به - اللهم إلا أن يقدر له عامل - أي ويعلمون - أو يقال : إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع ، وهو كذلك غير مقطوع به - وإن كان أحد جزئيه مقطوعا - أو يقال : إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص ، أعني الثواب بدار السلام ، والحلول بجواره جل شأنه - والكل خلاف الظاهر - ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازا ، ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه ، ولقاء اللّه تعالى بمعنى الحشر إليه ، والرجوع بمعنى المجازاة - ثوابا أو عقابا - فكأنه عز شأنه قال : يعلمون أنهم يحشرون إليه فيجازيهم متوقعين لذلك ، وكأن النكتة في استعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم - فكيف من تيقنه - والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية - والمالكية للحكم - وجعل خبر «أن» في الموضعين اسما للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده ، وقرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه يعلمون وهي تؤيد هذا التفسير.
«ومن باب الإشارة» أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد أَفَلا تَعْقِلُونَ فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة ، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية بِالصَّبْرِ على ما يفعل بكم ، لكي تصلوا إلى مقام الرضا وَالصَّلاةِ التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقي تجليات الرب ، وإن المراقبة لشاقة - إلا على - المنكسرة قلوبهم ، اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة ، واستيلاء سطواتها القهرية ، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته فلا يجدون في الدار إلا شؤون الملك اللطيف القهار يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة ، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب ، فكأنه قال سبحانه : إن لم تطيعوني لأجل سوابق

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 252
نعمتي ، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي ، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم ، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هو فرد من أفرادها وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عطف على نعمتي من عطف الخاص على العام ، وهو مما انفردت به - الواو - كما في البحر ، ويسمى هذا النحو من العطف - بالتجريد - كأنه جرد المعطوف من الجملة ، وأفرد بالذكر اعتناء به ، والكلام على حذف مضاف ، أي فضلت آباءكم - وهم الذين كانوا قبل التغيير ، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم ، قال الزجاج : والدليل على ذلك قوله تعالى :
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ إلخ ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله ، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم ، والمراد ب الْعالَمِينَ سائر الموجودين في وقت التفضيل ، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى : وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة : 20] فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولا على أمته ، الذين هم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران :
110] وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه - ولو صح ذلك - يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة ، ولا قائل به.
«ومن اللطائف» أن اللّه سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال : وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ إلخ ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقل : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس : 58] فشتان من مشهوده فضل ربه ، ومن مشهوده فضل نفسه «فالأول» يقتضي الفناء «والثاني» يقتضي الإعجاب ، والحمد للّه الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً اليوم الوقت ، وانتصابه إما على الظرف والمتقى محذوف - أي واتقوا العذاب يَوْماً - وإما مفعول به - واتقاؤه - بمعنى - اتقاء ما فيه - إما مجازا بجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له ، وإلا - فالاتقاء - من نفس - اليوم - مما لا يمكن ، لأنه آت لا محالة ، ولا بد أن يراه أهل الجنة والنار جميعا ، والممكن المقدور - اتقاء - ما فيه بالعمل الصالح ، وتَجْزِي من جزى بمعنى قضى ، وهو متعد بنفسه لمفعوله الأول ، وبعن للثاني - وقد ينزل منزلة اللازم للمبالغة - والمعنى لا تقضي يوم القيامة نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً مما وجب عليها ، ولا تنوب عنها ، ولا تحتمل مما أصابها ، أو لا تقضي عنها شيئا من الجزاء ، فنصب شَيْئاً إما على أنه - مفعول به - أو على أنه - مفعول مطلق - قائم مقام المصدر ، أي جزاء ما.
وقرأ أبو السماك «ولا تجزى ء» من أجزأ عنه إذا أغنى ، فهو لازم ، وشَيْئاً مفعول مطلق لا غير ، والمعنى لا تغني نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً من الإغناء - ولا تجديها نفعا - وتنكير الأسماء للتعميم في الشفيع والمشفوع ، وما فيه الشفاعة ، وفيه من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى ، كما يشير إليه قوله تعالى : يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس : 34 - 37] والجملة في المشهور صفة يوم والرابط محذوف ، أي «لا تجزي فيه» ولم يجوز الكسائي حذف المجرور إذا لم يتعين ، فلا تقول : رأيت رجلا أرغب ، وأنت تريد أرغب فيه ، ومذهبه في هذا التدريج ، وهو أن يحذف حرف الجر أولا حتى يتصل الضمير بالفعل - فيصير منصوبا - فيصح حذفه كما في قوله :
فما أدرى أغيّرهم تناء وطول العهد أو مال أصابوا
يريد أصابوه ، وقد يجوز - على رأي الكوفيين - أن لا تكون الجملة صفة ، بل مضاف إليها «يوم» محذوف - لدلالة ما قبله عليه - فلا تحتاج إلى ضمير ، ويكون ذلك المحذوف - بدلا من المذكور - ومن ذلك ما حكاه الكسائي - أطعمونا لحما سمينا ، شاة ذبحوها - بجر شاة - على تقدير - لحم شاة - وحكى الفراء مثل ذلك ، ومنه قوله :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 253
رحم اللّه أعظما دفنوها بسجستان طلحة الطلحات
في رواية من خفض طلحة ، والبصريون لا يجوّزون حذف المضاف ، وترك المضاف إليه على خفضه ، ويقولون بشذوذ ما ورد من ذلك ، وقرأ أبو سرار «لا تجزي نسمة عن نسمة» وهي بمعنى النفس.
وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ الشفاعة - كما في البحر - ضم غيره إلى وسيلته - وهي من الشفع ضد الوتر - لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب - فيصير شفعا بعد أن كان فردا - و«العدل» الفدية ، قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وروي عنه أيضا - البدل - أي رجل مكان رجل ، وأصل «العدل» - بفتح العين - ما يساوي الشي ء - قيمة وقدرا - وإن لم يكن من جنسه - وبكسرها - المساوي في الجنس والجرم ، ومن العرب من يكسر - العين - من معنى الفدية ، وذكر الواحدي أن عَدْلٌ الشي ء - بالفتح والكسر - مثله ، وأنشد قول كعب بن مالك :
صبرنا لا نرى للّه «عدلا» على ما نابنا متوكلينا
وقال ثعلب : العدل الكفيل والرشوة - ولم يؤثر في الآية - والضميران المجروران - بمن - إما راجعان إلى النفس الثانية لأنها أقرب مذكور ولموافقته لقوله تعالى : وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ولأنه المتبادر من قوله : وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ ومعنى عدم قبول الشفاعة حينئذ أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها وإما إلى الأولى لأنها المحدث عنها ، والثانية فضلة ولأن المتبادر من نفي قبول الشفاعة أنها لو شفعت لم تقبل شفاعتها ، وحينئذ معنى عدم - أخذ العدل - من الأولى أنه لو أعطى عدلا من الثانية لم يؤخذ ، وكأن في الآية على هذا نوعا من الترقي ارتكب هنا وإن لم يرتكب في مقام آخر كأنه قيل : إن النفس الأولى لا تقدر على استخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات لأنها مشغولة عنها بشأنها ، ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها ، وإن زادت عليه بأن ضمت الفداء فلا يؤخذ منها ، وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة - وأنى لها ذلك - فلا تتمكن منه ، واختار الكواشي جعل الضمير الأول للنفس الأولى ، والثاني للثانية على اللف والنشر لما فيه من إجراء الجملتين على المعنى الظاهر منهما ، ويهوّن أمر التفكيك الاتضاح ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو - ولا تقبل - بالتاء ، وسفيان يُقْبَلُ بفتح الياء ، ونصب شَفاعَةٌ على البناء للفاعل ، وفيه التفات من ضمير المتكلم في نِعْمَتِيَ إلخ إلى ضمير الغائب وبناؤه للمفعول أبلغ.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ النصر في الأصل المعونة ، ومنه أرض منصورة ممدودة بالمطر ، والمراد به هنا ما يكون بدفع الضرر - أي ولا هم يمنعون من عذاب اللّه عز وجل - والضمير راجع إلى ما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة فيكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر ، وإما إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل في قوله تعالى : فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة :
47] وأتى به مذكرا لتأويل النفوس بالعباد والأناسي ، وفيه تنبيه على أن تلك النفوس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى ، وأنهم ناس كسائر الناس في هذا الأمر ، وعوده إلى النفسين بناء على أن التثنية جمع ليس بشيء ، وجعل النفي - منسحبا على جملة اسمية للتقوى ، ورفع هُمْ على الابتداء والجملة بعده خبره ، وجعله مفعولا لما لم يسم فاعله والفعل بعده مفسّر فتوافق الجمل - لا أوافق على اختياره - وإن ذهب إليه بعض الأجلة - وتمسك المعتزلة بعموم الآية ، على نفي الشفاعة لأهل الكبائر - وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم - لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ ، وأجيب بالتخصيص من وجهين ، الأول بحسب المكان والزمان فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول ، ولعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدته ثم يأذن بالشفاعة ، وقد قيل : مثل ذلك في الجمع بين قوله تعالى : فَلا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 254
أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ
[المؤمنون : 101] وقوله تعالى : وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات :
27] وكون مقام الوعيد يأبى عنه غير مسلم ، والثاني بحسب الأشخاص إذ لا بد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات فليس العام باقيا على عمومه عندهم وإلا اقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به ، ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر ، وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضا ذلك النفي مخصص بما قبل الإذن ، لقوله تعالى : لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ [سبأ : 23] وهو تخصيص له دليل ، وتخصيصهم لا يظهر له دليل على أن الشفاعة بزيادة المنافع يكاد أن لا تكون شفاعة وإلا لكنا شفعاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم عند الصلاة عليه مع أن الإجماع وقع منا ومنهم على أنه هو الشفيع ، وأيضا في قوله تعالى : وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [محمد : 19] ما يشير إلى الشفاعة التي ندعيها - ويحث على التخصيص الذي نذهب إليه - رزقنا اللّه تعالى الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة ، ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فقال : وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وهو على الشائع عطف على نِعْمَتِيَ بتقدير اذْكُرُوا كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي وهو اتَّقُوا وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا ، وقرى ء - أنجيناكم ، وأنجيتكم - ونسبت الأولى للنخعي ، والآل قيل : بمعنى الأهل وإن ألفه بدل عن هاء ، وإن تصغيره أهيل ، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة وتلك الهمزة بدل من هاء ، وقيل : ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب ، فألفه بدل من واو ، ولذلك قال يونس في تصغيره : أويل ، ونقله الكسائي نصا عن العرب ، وروي عن أبي عمر - غلام ثعلب - أن الأهل القرابة كان لها تابع أو لا ، والآل القرابة بتابعها فهو أخص من الأهل ، وقد خصوه أيضا بالإضافة إلى أولي الخطر
فلا يضاف إلى غير العقلاء ولا إلى من لا خطر له منهم ، فلا يقال - آل الكوفة ، ولا - آل الحجام - وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال - آل فاطمة - ولعل كل ذلك أكثريّ وإلا فقد ورد على خلاف ذلك - كآل اعوج - اسم فرس وآل المدينة وآل نعم ، وآل الصليب. وآلك - ويستعمل غير مضاف - كهم خير آل - ويجمع - كأهل - فيقال آلون : وفرعون لقب لمن ملك العمالقة - ككسرى لملك الفرس ، وقيصر لملك الروم ، وخاقان لملك الترك ، وتبع لملك اليمن ، والنجاشي لملك الحبشة - وقال السهيلي : هو اسم لكل من ملك القبط ومصر ، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة ، وقد اشتق منه باعتبار ما يلزمه فقيل : تفر عن الرجل إذا تجبر وعتا.
واسم فرعون هذا الوليد بن مصعب - قاله ابن إسحاق ، وأكثر المفسرين - وقيل : أبوه مصعب بن ريان حكاه ابن جرير ، وقيل : قنطوس حكاه مقاتل ، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا : إن اسمه قابوس ، وكنيته أبو مرة وكان من القبط ، وقيل : من بني عمليق أو عملاق بن لاوز بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام ، وهم أمم تفرقوا في البلاد ، وروي أنه من أهل إصطخر ورد إلى مصر فصار بها ملكا ، وقيل : كان عطارا بأصفهان ركبته الديون فدخل مصر وآل أمره إلى ما آل - وحكاية البطيخ شهيرة - وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في تفسيره ، والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه السلام ، وكان اسمه - على المشهور - الريان بن الوليد ، وقد آمن بيوسف ومات في حياته وهو من أجداد فرعون المذكور على قول ، ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما السلام أكثر من أربعمائة سنة ، والمراد ب آلِ فِرْعَوْنَ هنا أهل مصر أو أهل بيته خاصة أو أتباعه على دينه ، وب نَجَّيْناكُمْ أنجينا آباءكم ، وكذا نظائره فلا حجة فيها لتناسخي ، وهذا في كلام العرب شائع كقول حسان :
ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت عساكركم في الهالكين «تجول»
ويَسُومُونَكُمْ من السوم ، وأصله الذهاب للطلب ، ويستعمل للذهاب وحده تارة ، ومنه السائمة ، وللطلب

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 255
أخرى ، ومنه السوم في البيع ، ويقال : سامه كلفه العمل الشاق ، و- السوء - مصدر ساء يسوء ، ويراد به السيئ ، ويستعمل في كل ما يقبح - كأعوذ باللّه تعالى من سوء الخلق وسُوءَ الْعَذابِ أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره ، وهو منصوب على المفعولية ل يَسُومُونَكُمْ بإسقاط حرف الجر أو بدونه ، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة ، وهي حكاية حال ماضية ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير نَجَّيْناكُمْ أو مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ، وهو الأقرب ، والمعنى يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة ، والأمور الفظيعة أو يرسلونكم إليها ويصرفونكم فيها أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده.
وقد حكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا ، وصنفهم في الأعمال - فصنف يبنون ، وصنف يحرثون ، وصنف يخدمون - ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم ، ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا ، وجعل النساء يغزلن الكتان ، وينسجن يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ جملة حالية أو استئنافية كأنه قيل : ما الذي ساموهم إياه ، فقال : يُذَبِّحُونَ إلخ ، ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى : يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ [الفرقان : 68 ، 69] ، وقيل : بالعطف وحذف حرفه لآية إبراهيم ، والمحققون على الفرق ، وحملوا سُوءَ الْعَذابِ فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح ، وعطف للتغاير ، واعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم : 5] ، وهو يقتضي التعداد ، وليس هنا ما يقتضيه ، والأبناء الأطفال الذكور ، وقيل : إنهم الرجال هذا وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل ، وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي ، وحكي أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج والتجمع لإفساد أمره ، والمشهور حمل الأبناء على الأول ، وهو المناسب المتبادر ، وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل ففعل ما فعل وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب : 38] وقرأ الزهري وابن محيض «يذبحون» مخففا ، وعبد اللّه «يقتّلون» مشددا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ عطف على يُذَبِّحُونَ أي يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات ، وقيل : يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل - والحياء الفرج - لأنه يستحى من كشفه ، والنساء جمع المرأة ، وفي البحر إنه تكسير لنسوة على وزن فعلة جمع قلة ، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع ، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه ، وهي في الأصل البالغات دون الصغائر ، فهي على الوجه الأول مجاز
باعتبار الأول للإشارة إلى أن استبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساء لخدمتهم ، وعلى الثاني في تغليب البالغات على الصغائر ، وعلى الثالث حقيقة ، وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور وأشقها عند الناس وإن كان ذلك الاستحياء أعظم من القتل لدى الغيور.
وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إشارة إلى التذبيح والاستحياء أو إلى الإنجاء ، وجمع الضمير للمخاطبين ، ويجوز أن يشار ب ذلِكُمْ إلى الجملة وأصل البلاء الاختبار ، وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور ، وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا ، وتارة بالمضار ليصبروا ، وتارة بهما ليرغبوا ويرهبوا - فإن حملت الإشارة على المعنى الأول - فالمراد بالبلاء المحنة ، وإن على الثاني فالمراد به النعمة ، وإن على الثالث فالمراد به القدر المشترك كالامتحان الشائع بينهما ، ويرجح الأول التبادر ، والثاني أنه في معرض الامتنان ، والثالث لطف جمع الترغيب والترهيب ومعنى مِنْ رَبِّكُمْ من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما جميعا ، وعَظِيمٌ صفة بلاء وتنكيرهما للتفخيم ، والعظم بالنسبة للمخاطب ، والسامع لا بالنسبة إليه تعالى لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئا «ومن باب الإشارة» والتأويل وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ من قوى فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها. والنظر إلى نفسها المستعلية على إهلاك الوجود ، ومصر مدينة البدن المستعبدة ، وهي وقواها من الوهم ، والخيال والغضب ، والشهوة القوى الروحانية التي هي أبناء صفوة اللّه تعالى يعقوب الروح ، والقوى الطبيعية

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 256
البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة ، والأعمال الشاقة من جمع المال ، والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك ، ويستعبدونكم بالتفكر فيها والاهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار ، والتمتع بدار القرار يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب ، والعملية التي هي العين اليسرى له ، والفهم الذي هو سمعه ، والسر الذي هو قلبه وَيَسْتَحْيُونَ قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها ، وفي ذلك - الإنجاء - نعمة عظيمة من ربكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه ، أو في مجموع ذلك امتحان لكم وظهور آثار الأسماء المختلفة عليكم فاشكروا واصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب.
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ عطف على ما قبل ، و- الفرق - الفصل بين الشيئين ، وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق ، أي فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم ، وبسبب إنجائكم. والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللام - إذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى - وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل ، وكونه مقصودا منه - إن لم نقل به - وإنما قال سبحانه :
بِكُمُ دون لكم ، لأن العرب - على ما نقله الدامغاني - تقول : غضبت لزيد - إذا غضبت من أجله وهو حي - وغضبت بزيد - إذا غضبت من أجله وهو ميت - ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين ، ويحتمل أن تكون للاستعانة على معنى - بسلوككم - ويكون هناك استعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من اللّه تعالى ، ويستعمل الباء. وقول الإمام الرازي قدس سره : - إنهم كانوا يسلكون ، ويتفرق الماء عند سلوكهم ، فكأنه فرق بهم - يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقا على سلوكهم على ما تدل عليه القصة ، وقوله تعالى :
أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء : 63] وما قيل : إن الآلة هي العصا - كما تفهمه الآية - غير مسلم. والمفهوم كونها آلة الضرب - لا الفرق - ولو سلم يجوز كون المجموع آلة ، على أن آلية السلوك على التجوز ، وقد يقال : إن الباء للملابسة ، والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل ، وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية ، وهو كونه ناصرا وحافظا لهم ، وهي ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله تعالى : كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء : 62] ومن الناس من جعله حالا من الْبَحْرَ مقدما - وليس بشي ء - لأن الفرق مقدم على ملابستهم الْبَحْرَ اللهم إلا على التوسع ، واختلفوا في هذا البحر ، فقيل : القلزم - وكان بين طرفيه أربعة فراسخ - وقيل النيل ، والعرب تسمي الماء الملح ، والعذب بحرا - إذا كثر ، ومنه مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرحمن : 19] وأصله السعة ، وقيل : الشق ، ومن الأول البحرة البلدة ، ومن الثاني البحيرة التي شقت أذنها ، وفي كيفية الانفلاق قولان «فالمشهور» كونه خطيا ، وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسيا ، إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه ، واحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا لأن الأعداء في أثرهم ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث.
فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ في الكلام حذف يدل عليه المعنى والتقدير وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فَأَنْجَيْناكُمْ أي من الغرق ، أو من إدراك فرعون وآله لكم ، أو مما تكرهون ، وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله كما يقال : بني هاشم ، وقوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء : 70] يعني هذا الجنس الشامل لآدم ، أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد ورأس الضلال أولى بذلك ، وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً [الإسراء :

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 257
103] فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [القصص : 40 والذاريات : 40] وحمل الآل - على الشخص حيث إنه ثبت لغة كما في الصحاح - ركيك غير مناسب للمقام ، وإنما المناسب له التعميم ، وناسب نجاتهم - بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين - نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر وخروجه منه سالما ، ولكل أمة نصيب من نبيها وناسب هلاك فرعون - وقومه بالغرق - هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم ، والغرق فيه إبطاء الموت ولا دم خارج وكان ما به الحياة وهو الماء كما يشير إليه قوله تعالى : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء : 30] سببا لإعدامهم من الوجود ، وفيه إشارة إلى تقنيطهم وانعكاس آمالهم كما قيل :
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة «إلى أين» يسعى من يغص بماء
ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة - ولهذا كان الغريق المسلم شهيدا - جعله اللّه تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية وقال أنا ربكم الأعلى وعلى قدر الذنب يكون العقاب. ويناسب دعوى الربوبية ، والاعتلاء انحطاط المدعى وتغيبيه في قعر الماء ، ولك أن تقول لما افتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه : أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف : 51] جعل اللّه تعالى هلاكه بالماء وللتابع حظ وافر من المتبوع - وكان ذلك الغرق ، والإنجاء ، والإغراق يوم عاشوراء - والكلام فيه مشهور وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جملة حالية وفيها تجوز أي وآباؤكم ينظرون ، والمفعول محذوف أي جميع ما مر فإن أريد الاحكام فالنظر بمعنى العلم - وعليه ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه - وإن نفس الأفعال من الغرق ، والإنجاء ، والإغراق فهو بمعنى المشاهدة - وعليه الجمهور - والحال على هذا من الفاعل وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع ، وفائدته تقرير النعمة عليهم وكأنه قيل : وأنتم لا تشكون فيها ، وجوز أن يقدر المفعول خاصا أي غرقهم ، وإطباق البحر عليهم فالحال متعلق بالقريب ، وهو أَغْرَقْنا وفائدته تتميم النعمة فإن هلاك العدو نعمة ومشاهدتة نعمة ، أخرى ، وفي قصص الكسائي أن بني إسرائيل حين عبروا البحر وقفوا ينظرون إلى البحر وجنود فرعون ، ويتأملون كيف يفعلون ، أو انفلاق البحر فيكون الحال متعلقا بالأصل في الذكر ، وهو فَرَقْنا وفائدته إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها ، ويتعرفوا إعجازها ، وذلك الآل الغريق فالحال من مفعول أَغْرَقْنا متعلق به والفائدة تحقيق الإغراق وتثبيته ، وقيل : المراد ينظر بعضكم بعضا وأنتم سائرون في البحر ، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له : أين أصحابنا؟ فقال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم قالوا : لا نرضى حتى نراهم فأوحى اللّه تعالى أن قل بعصاك
هكذا فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فتراءوا وسمعوا كلام بعضهم بعضا فالحال متعلق ب فَرَقْنا وفائدته تتميم النعمة فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم - حال بعض آخر - نعمة أخرى ، وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلا منزلة اللازم وليس بالبعيد نعم البعيد جعل النظر هنا مجازا عن القرب أي وأنتم بالقرب منهم أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم - أنت مني بمرأى ومسمع - أي قريب مني بحيث أراك وأسمعك ، وكذا جعله بمعنى الاعتبار أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم وهم في البحر ، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده ، وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها واللّه تعالى أعلم بشأنها «والإشارة» في الآية أن البحر هو الدنيا وماءه شهواتها ولذاتها ، وموسى هو القلب ، وقومه صفات القلب ، وفرعون هو النفس الأمارة وقومه صفات النفس ، وهم أعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم ، وهم سائرون إلى اللّه تعالى ، والعدو من خلفهم ، وبحر الدنيا أمامهم ولا بد لهم في السير إلى اللّه تعالى من عبوره ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا اللّه بيد موسى -

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 258
القلب فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن - لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق فكما أن يد موسى القلب شرط في الانفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه ، فإذا حصل الشرطان وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن اللّه بحر الدنيا بالنفي وينشبك ماء الشهوات يمينا وشمالا ، ويرسل اللّه تعالى ريح العناية ، وشمس الهداية على قعر ذلك البحر فيصير يابسا من ماء الشهوات فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد إلى ساحل النجاة وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم : 42] ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا نارا ألا : بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود : 44].
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لما جاوز بنو إسرائيل البحر سألوا موسى عليه السلام أن يأتيهم بكتاب من عند اللّه فوعده سبحانه أن يعطيه التوراة وقبل موسى ذلك ، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة أو ذا الحجة وعشر المحرم فالمفاعلة على بابها ، وهي من طرف فعل ، ومن آخر قبوله مثل - عالجت المريض - وإنكار جواز ذلك لا يسمع مع وروده في كلام العرب وتصريح الأئمة به وارتضائهم له ، ويجوز أن يكون واعَدْنا من باب الموافاة وليس من الوعد في شيء وإنما هو من قولك موعدك يوم كذا وموضع كذا ، ويحتمل أن يكون بمعنى وعدنا وبه قرأ أبو عمرو أو يقدر الملاقاة أو يقال بالتفكيك إلى فعلين فيقدر الوحي في أحدهما ، والمجيء في الآخر ولا محذور في شيء كما حققه الدامغاني ، وقول أبي عبيدة : المواعدة لا تكون إلا من البشر غير مسلم ، وقول أبي حاتم : أكثر ما تكون من المخلوقين المتكافئين على تقدير تسليمه لا يضرنا ، وأَرْبَعِينَ مفعول به بحذف المضاف بأدنى ملابسة أي إعطاء أربعين أي عند انقضائها ، أو في العشر الأخير منها ، أو في كلها أو في أولها على اختلاف الروايات ، أو ظرف مستقر وقع صفة لمفعول محذوف - لواعدنا - أي واعدنا موسى أمرا كائنا في أربعين ، وقيل : مفعول مطلق أي واعدنا موسى مواعدة أربعين ليلة.
ومن الناس من ذهب إلى أن الأولى أن لا يقدر مفعول لأن المقصود بيان من وعد لا ما وعد - وينصب الأربعين على الإجراء مجرى المفعول به توسعا ، وفيه مبالغة بجعل ميقات الوعد موعودا وجعل الأربعين ظرفا لواعدنا على حد جاء زيد يوم الخميس - ليس بشيء كما لا يخفى ، ومُوسى اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة ، ويقال :
هو مركب من «مو» وهو الماء «وشي» وهو الشجر وغيّر إلى «سي» بالمهملة وكأن من سماه به أراد ماء البحر والتابوت الذي قذف فيه - وخاض بعضهم في وزنه - فعن سيبويه إن وزنه مفعل «1» وقيل : إنه فعلى وهو مشتق من ماس يميس فأبدلت الياء واوا لضم ما قبلها كما قالوا طوبي ، وهي من ذوات الياء لأنها من طاب يطيب ، ويبعده أن الإجماع على صرفه نكرة ولو كان فعلى لم ينصرف لأن ألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة على أن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا ، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك الوقت بالليالي دون الأيام لأن افتتاح الميقات كان من الليل ، والليالي غرر شهور العرب لأنها وضعت على سير القمر ، والهلال إنما يهل بالليل ، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس : 37] أو إشارة إلى مواصلة الصوم ليلا ونهارا ولو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي فهم من قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها ، والقول بأن ذكر الليلة - كان للإشعار بأن وعد موسى عليه السلام كان بقيام الليل - ليس بشيء لأن المروي أن المأمور به كان
___________
(1) وموسى : الحديدة المعلومة مذكر لا غير عند الآمدي. وقال الفراء : هي فعلى ويؤنث ، وفي البحر إنه مؤنث عربي مشتق من آسوت الشيء أصلحته ووزنه مفعل وأصله الهمز ، وقيل : اشتقاقه من أوسيت حلقت ولا أصل للواو في الهمز ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 259
الصيام لا القيام ، وقد يقال من طريق الإشارة : إن ذكر الليلة للرمز إلى أن هذه المواعدة كانت بعد تمام السير إلى اللّه تعالى ومجاوزة بحر العوائق والعلائق ، وهناك يكون السير في اللّه تعالى الذي لا تدرك حقيقته ، ولا تعلم هويته ، ولا يرى في بيداء جبروته إلا الدهشة والحيرة ، وهذا السير متفاوت باعتبار الأشخاص والأزمان ولي مع اللّه تعالى وقت يشير إلى ذلك ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ والاتخاذ يجيء بمعنى ابتداء صنعة فيتعدى لواحد نحو - اتخذت سيفا - أي صنعته. وبمعنى اتخاذ وصف فيجري مجرى الجعل ويتعدى لاثنين نحو - اتخذت زيدا صديقا - والأمران محتملان في الآية ، والمفعول الثاني على الاحتمال الثاني محذوف لشناعته أي اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الذي صنعه السامري إلها ، والذم فيه ظاهر لأنهم كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا ، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام ، وعلى الاحتمال الأول لا حاجة إلى المفعول الثاني ويؤيده عدم التصريح به في موضع من آيات هذه القصة ، والذم حينئذ لما ترتب على الاتخاذ من العبادة أو على نفس الاتخاذ لذلك ، والعرب تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها ، والْعِجْلَ ولد البقرة الصغير وجعله الصوفية إشارة إلى عجل النفس الناقصة وشهواتها وكون ما اتخذوه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه فيما يأتي حقيقة أيضا وهو الذي ذهب إليه الحسن ، وقيل : أراد سبحانه بالعجل ما يشبهه في الصورة والشكل ونسبة الخوار إليه مجاز وهو الذي ذهب إليه الجمهور ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام على ذلك.
ومن الغريب أن هذا إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى فاتخذوه إلها ، أو لقصر مدته حيث إن موسى عليه السلام بعد الرجوع من الميقات حرقه ونسفه في اليم نسفا ، والضمير في بعده راجع إلى موسى ، أي بَعْدِهِ ما رأيتم منه من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه ، وذكر الظرف للإيذان بمزيد شناعة فعلهم ، ولا يقتضي أن يكون مُوسى متخذا إلها - كما وهم - لأن مفهوم الكلام أن يكون الاتخاذ - بعد - موسى ومن أين يفهم اتخاذ موسى سيما في هذا المقام؟ ويجوز أن يكون في الكلام حذف ، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه واعَدْنا أي من بعد مواعدته ، وقيل : المحذوف الذهاب المدلول عليه - بالمواعدة - لأنها تقتضيه. والجملة الاسمية في موضع الحال ، ومتعلق الظلم الإشراك ، ووضع العبادة في غير موضعها ، وقيل : الكف عن الاعتراض على ما فعل السامري وعدم الإنكار عليه - وفائدة التقييد بالحال - الإشعار بكون الاتخاذ - ظلما - بزعمهم أيضا لو راجعوا عقولهم بأدنى تأمل ، وقيل : الجملة غير حال بل مجرد إخبار أن سجيتهم الظلم وإنما راج فعل السامري عندهم لغاية حمقهم وتسلط الشيطان عليهم - كما يدل على ذلك سائر أفعالهم - واتخاذ السامري لهم الْعِجْلَ دون سائر الحيوانات ، قيل : لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم على صور البقر فقالوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف : 138] فهجس في نفس السامري أن فتنتهم من هذه الجهة ، فاتخذ لهم ذلك ، وقيل : إنه كان هو من قوم يعبدون البقر - وكان منافقا - فاتخذ عجلا من جنس ما يعبده.
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ثُمَّ لتفاوت ما بين فعلهم القبيح ، ولطفه تعالى في شأنهم ، فلا يكون مِنْ بَعْدِ ذلِكَ تكرارا. و«عفا» بمعنى درس يتعدى ولا يتعدى - كعفت الدار ، وعفاها الريح - والمراد بالعفو هنا - محو الجريمة بالتوبة - وذلك موضوع موضع «ذلكم» والإشارة - للاتخاذ - كما هو الظاهر ، وإثبارها لكمال العناية بتمييزه - كأنه يجعل ظلمهم مشاهدا لهم - وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر «العفو» والمراد بالترجي ما علمت ، والمشهور هنا كونه مجازا عن طلب الشكر على «العفو» ومن قدر الإرادة من أهل السنة - أراد مطلق الطلب - وليس ذلك من الاعتزال ، إذ لا نزاع في أن اللّه تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 260
«والشكر» عند الجنيد هو العجز عن الشكر ، وعند الشبلي - التواضع تحت رؤية المنة - وقال ذو النون : «الشكر» لمن فوقك بالطاعة ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان.
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الْكِتابَ التوراة - بإجماع المفسرين - وفي الفرقان أقوال «الأول» أنه هو التوراة أيضا ، والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى استقلال كل منها ، فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك ، كونها كتابا جامعا لما لم يجمعه منزل سوى القرآن ، وكونها فرقانا أي حجة تفرق بين الحق والباطل - قاله الزجاج - ويؤيد هذا قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً [الأنبياء : 48] «الثاني» أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، فالعطف مثله في تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر : 4] قاله ابن بحر «الثالث» أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل - من العصا واليد وغيرهما - قاله مجاهد.
«الرابع» أنه النصر الذي فرق بين العدو والولي ، وكان آية لموسى عليه السلام ، ومنه قيل ليوم بدر : يوم الفرقان ، قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقيل : إنه القرآن ، ومعنى إتيانه لموسى عليه السلام نزول ذكره له حتى آمن به ، حكاه ابن الأنباري - وهو بعيد - وأبعد منه ، ما حكي عن الفراء وقطرب - أنه القرآن - والكلام على حذف مفعول - أي ومحمدا الفرقان - وناسب ذكر الاهتداء إثر ذكر إتيان مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق : 37].
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء ، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين ، وإنما فصل بينهما بقوله : وَإِذْ آتَيْنا إلخ ، لأن المقصود تعداد النعم - فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة - وقيل : هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم - وليس بشي ء - واللام في لِقَوْمِهِ للتبليغ ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب مُوسى لِقَوْمِهِ كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه - كالخطابات المذكورة سابقا لبني إسرائيل - والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وإنما واحده امرئ - وقياسه أن لا يجمع - وشذ جمعه على - أقاويم - والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى : لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات : 11] مع قوله : وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات : 11] وقال زهير :
فما أدري وسوف إخال أدري أ«قوم» آل حصن أم «نساء»
وقيل : لا اختصاص له بهم ، بل يطلق على النساء أيضا لقوله تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح : 1] والأول أصوب ، واندراج النساء على سبيل الاستتباع ، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك ، وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء ، وفي إقبال مُوسى عليهم بالنداء ، ونداؤه لهم ب يا قَوْمِ إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه ، وهز لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم «ظلموا أنفسهم» والباء في بِاتِّخاذِكُمُ سببية وفي - الاتخاذ - هنا الاحتمالان السابقان هناك فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ الفاء للسببية - لأن الظلم سبب للتوبة - وقد عطفت ما بعدها على إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف - بالواو - وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف ، والتحقيق أنها لهما معا ، و«البارئ» هو الذي خلق الخلق بريا - من التفاوت - وعدم تناسب الأعضاء وتلاؤم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة ، والأخرى بخلافه ، ومتميزا بعضه عن بعض بالخواص والأشكال والحسن والقبح - فهو أخص من الخالق - وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي - كبرء المريض - أو الإنشاء - كبر اللّه تعالى آدم - أي خلقه ابتداء متميزا عن لوث الطين ، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته حتى عرضوا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 261
أنفسهم لسخط اللّه تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم ، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها - وهو مثل في الغباوة والبلادة - وقرأ أبو عمرو بارِئِكُمْ بالاختلاس ، وروي عنه - السكون - أيضا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة ، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ.
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الفاء للتعقيب ، والمتبادر من «القتل» القتل المعروف من إرهاق الروح - وعليه جمع من المفسرين - والفعل معطوف على سابقه ، فإن كانت توبتهم هو «القتل» إما في حقهم خاصة ، أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى عليه السلام ، فالمراد بقوله تعالى : فَتُوبُوا اعزموا على التوبة - ليصح العطف - وإن كانت هي الندم و«القتل» من متمماتها - كالخروج عن المظالم في شريعتنا - فهو على معناه ولا إشكال ، وقد يقال : إن التوبة جعلت لهؤلاء عين «القتل» ولا حاجة إلى تأويل «توبوا» باعزموا ، بل تجعل - الفاء - للتفسير - كما تجعل الواو له - وقد قيل به في قوله تعالى : فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ [الأعراف : 36] وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه ، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا ، فمعنى «اقتلوا أنفسكم» حينئذ ، ليقتل بعضكم بعضا ، كما في قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء : 29] وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات : 11] والمؤمنون كنفس واحدة ، وروي أنه أمر من لم يعبد الْعِجْلَ أن يقتل من عبده ، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل ، وسمي الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز ، والقاتل إما غير معين ، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه السلام ، والذين كانوا مع موسى عليه السلام ، وفي كيفية (القتل) أخبار لا نطيل بذكرها ، وجملة القتلى سبعون ألفا ، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم ، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون اللّه تعالى أمر بني إسرائيل - بقتل أنفسهم - وقال : لا يجوز ذلك عقلا - إذ الأمر لمصلحة المكلف - وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة ، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقا - بأمره نستبقيها ، وبأمره نفنيها - وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو ، حياة سرمدية وبهجة أبدية.
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها ، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا - كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه ، ووال في بلد يسوسه - وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه ، أو يأمر غيره بإخراجه - وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة ، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما ، ومن الناس من جوز ذلك - إلا أنه استبعد وقوعه - فقال : معنى «اقتلوا أنفسكم» ذللوا ، ومن ذلك قوله :
إن التي عاطيتني فرددتها «قتلت قتلت» فهاتها لم تقتل
ولو لا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرا. ونقل عن قتادة أنه قرأ «فأقيلوا أنفسكم» والمعنى أن أَنْفُسَكُمْ قد تورطت في عذاب اللّه تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه ، وقد هلكت - فأقيلوها - بالتوبة والتزام الطاعة ، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات.
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة ، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم ، وخَيْرٌ أفعل تفضيل حذفت همزته ، ونطقوا بها في الشعر قال الراجز :
بلال خير الناس وابن الأخير
وقد تأتي - ولا تفضيل - والمعنى أن ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من العصيان والإصرار على الذنب - أو خير من ثمرة العصيان ، وهو الهلاك الدائم ، والكلام - على حد العسل - أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم. والعندية هنا مجاز ، وكرر البارئ بلفظ الظاهر اعتناء بالحث على التسليم له في كل حال ، وتلقي ما يرد من قبله والقبول والامتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحا فأنشأ رأى الإعدام راجحا ، فأمر به وهو العليم الحكيم.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 262
فَتابَ عَلَيْكُمْ جواب شرط محذوف بتقدير - قد - إن كان من كلام موسى عليه السلام لهم ، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد «تاب عليكم» ومعطوف على محذوف - إن كان خطابا من اللّه تعالى لهم ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم فَتابَ عَلَيْكُمْ بارئكم وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه السلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة ، أو من التكلم إلى الغيبة في فَتابَ حيث لم يقل : فتبنا ، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب ، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال ، وظاهر الآية كونها إخبارا عن المأمورين بالقتل الممثلين ذلك وقال ابن عطية : جعل اللّه تعالى - القتل - لمن - قتل - شهادة و«تاب» عن الباقين و«عفا» عنهم ، فمعنى عَلَيْكُمْ عنده ، على باقيكم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تذييل لقوله تعالى : فَتُوبُوا فإن التوبة بالقتل - لما كانت شاقة على النفس هونها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها ، أو تذييل لقوله تعالى : فَتابَ عَلَيْكُمْ وتفسر «التوبة» منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين - والتأكيد لسبق الملوح - أو للاعتناء بمضمون الجملة ، والضمير المنصوب إن كان ضمير لشأن - فالضمير المرفوع مبتدأ - وهو الأنسب لدلالته على كمال الاعتناء بمضمون الجملة ، وإن كان راجعا إلى البارئ سبحانه فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل - فلا يتخذه إلها - أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأن اللّه سبحانه قد خلق نفسه في أصل لفطرة مستعدة لقبول فيض اللّه تعالى والدين القويم ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم ، والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس ، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب ، والفرقان الذي يهتدي بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب ، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض واتبعت هواها ، وآثرت شهواتها على مولاها ، أمرت بقتلها
بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء ، والصحو بعد المحو ، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية ، وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر.
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق ، ورجال الصدق ، وإليه الإشارة ، ب (موتوا) قبل أن تموتوا. وقيل : أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات ، وقطعها عن الملاذ ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين - هيهات هيهات - ذاك بمعزل عنا ، ومناط الثريا منا
تعالوا نقم مأتما للهموم فإن الحزين يواسي الحزينا
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات التوراة ، قيل :
قالوه بعد الرجوع ، وقتل عبدة العجل ، وتحريق عجلهم ، ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه اللّه تعالى للاعتذار عن عبدة العجل - وكانوا سبعين أيضا ، وقيل : القائل عشرة آلاف من قومه ، وقيل : الضمير لسائر بني إسرائيل - إلا من عصمه اللّه تعالى - وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا - واللام - من (لك) إما - لام الأجل - أو للتعدية بتضمين معنى الإقرار على أن مُوسى مقرّ له والمقر به محذوف ، وهو أن اللّه تعالى أعطاه التوراة ، أو أن اللّه تعالى كلمه فأمره ونهاه ، وقد كان هؤلاء مؤمنين - من قبل - بموسى عليه السلام ، إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص. وقيل : أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك ، كما قيل في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه»
والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلا لم نره لأحد من أئمة التفسير.
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً حَتَّى هنا حرف غاية ، و(الجهرة) في الأصل مصدر جهرت بالقراءة - إذا رفعت

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 263
صوتك بها - واستعيرت للمعاينة بجامع الظهور التام. وقال الراغب : - الجهر - يقال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع «أما البصر» فنحو رأيته جهارا «وأما السمع» فنحو وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه : 7] وانتصابها - على أنها مصدر - مؤكد مزيل لاحتمال أن تكون الرؤية مناما أو علما بالقلب ، وقيل : على أنها حال على تقدير ذوي - جهرة - أو مجاهرين ، فعلى الأول - الجهرة - من صفات الرؤية ، وعلى الثاني من صفات الرائين ، وثم قول ثالث ، وهو أن تكون راجعة لمعنى القول أو القائلين - فيكون المعنى - (و إذ قلتم) كذا قولا جَهْرَةً أو جاهرين بذلك القول غير مكترثين ولا مبالين ، وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وأبي عبيدة ، وقرأ سهل بن شعيب وغيره «جهرة» بفتح الهاء ، وهي إما مصدر - كالغلبة - ومعناها معنى (المسكنة) وإعرابها إعرابها ، أو جمع - جاهر - كفاسق وفسقة ، وانتصابها على الحال.
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أي استولت عليكم وأحاطت بكم ، وأصل - الأخذ - القبض باليد ، والصَّاعِقَةُ هنا نار من السماء أحرقتهم ، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا ، أو صيحة سماوية خروا لها صعقين ميتين يوما وليلة ، واختلف في مُوسى هل أصابه ما أصابهم؟ والصحيح - لا - وأنه صعق ولم يمت لظاهر ثم أفاق في حقه ، وثُمَّ بَعَثْناكُمْ إلخ في حقهم ، وقرأ عمر وعلي رضي اللّه تعالى عنهما «الصعقة»
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جملة حالية ومتعلق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرها الباقي في أجسامهم بعد البعث ، أو إحياء كل منهم - كما وقع في قصة العزير ، قالوا :
أحيا عضوا بعد عضو : والمعنى وَأَنْتُمْ تعلمون أنها تأخذكم ، أو وأَنْتُمْ يقابل بعضكم بعضا ، قال في البحر : ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إجابة السؤال في حصول الرؤية لكم كان وجها من قولهم : نظرت الرجل - أي انتظرته - كما قال :
فإنكما إن (تنظراني) ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لكن هذا الوجه غير منقول فلا أجسر على القول به ، وإن كان اللفظ يحتمله ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ بسبب الصاعقة ، وكان ذلك بدعاء موسى عليه السلام ومناشدته ربه بعد أن أفاق ، ففي بعض الآثار أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول : يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم اللّه تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحييون ، والموت هنا ظاهر في مفارقة الروح الجسد ، وقيد البعث به لأنه قد يكون عن نوم كما هو في شأن أصحاب الكهف ، وقد يكون بمعنى إرسال الشخص - وهو في القرآن كثير - ومن الناس من قال : كان هذا الموت غشيانا وهمودا لا موتا حقيقة كما في قوله تعالى : وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم : 17] ومنهم من حمل الموت على الجهل مجازا كما في قوله تعالى : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام : 122]. وقد شاع ذلك نثرا ونظما ، ومنه قوله :
أخو (العلم حي) خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى يظن من الأحياء وهو عديم
ومعنى البعث على هذا التعليم أي ثم علمناكم بعد جهلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نعمة اللّه تعالى عليكم بالإحياء بعد الموت أو نعمته سبحانه بعد ما كفرتموها إذ رأيتم بأس اللّه تعالى في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت وتكليف من أعيد بعد الموت مما ذهب إليه جماعة لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد في هذه الدار بعد بعثة المرسلين ، ومن جعل البعث بعد الموت مجازا عن التعليم بعد الجهل جعل متعلق الشكر ذلك ، وفي بعض الآثار أنه لما أحياهم اللّه تعالى سألوا أن يبعثهم أنبياء ففعل ، فمتعلق الشكر حينئذ على ما قيل : هذا البعث وهو بعيد ، وأبعد منه جعل متعلقه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 264
إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد إن لم يكن لهم شرائع وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية البارئ سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها ، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها ، ويجوز أيضا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء اللّه تعالى التوراة لموسى عليه السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم ، وقد يقال : إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلما فعوقبوا بما عوقبوا ، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقا في الدنيا والآخرة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ عطف على بعثناكم ، وقيل : على قلتم ، والأول أظهر للقرب والاشتراك في المسند إليه مع التناسب في المسندين في كون كل منهما نعمة بخلاف قُلْتُمْ فإنه تمهيد لها ، وإفادته تأخير التظليل والإنزال عن واقعة طلبهم الرؤية ، وعلى التقديرين لا بد لترك كلمة إذ هاهنا من نكتة ، ولعلها الاكتفاء بالدلالة العقلية على كون كل منهما نعمة مستقلة مع التحرز عن تكرارها في ظَلَّلْنا وأَنْزَلْنا والْغَمامَ اسم جنس كحمامة وحمام ، وهو السحاب ، وقيل : ما ابيض منه ، وقال مجاهد : هو أبرد من السحاب وأرق ، وسمي غماما لأنه يغم وجه السماء ويستره. ومنه الغم والغمم ، وهل كان غماما حقيقة أو شيئا يشبه وسمي به؟ قولان ، والمشهور الأول وهو مفعول ظَلَّلْنا على إسقاط حرف الجر كما تقول : ظللت على فلان بالرداء أو بلا إسقاط ، والمعنى جعلنا الغمام عليكم ظلة ، والظاهر أن الخطاب لجميعهم.
فقد روي أنهم لما أمروا بقتال الجبارين وامتنعوا وقالوا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة : 24] ابتلاهم اللّه تعالى بالتيه بين الشام ومصر أربعين سنة وشكوا حر الشمس فلطف اللّه تعالى بهم بإظلال الغمام - وإنزال المنّ والسلوى - وقيل : لما خرجوا من البحر وقعوا بأرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل فشكوا الحر فوقوا به ، وقيل : الذين ظللوا بالغمام بعض بني إسرائيل وكان اللّه تعالى قد أجرى العادة فيهم أن من عبد ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته الغمامة وكان فيهم جماعة يسمون أصحاب غمائم فامتن اللّه تعالى عليهم لكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة والنعمة الباهرة وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى المنّ اسم جنس لا واحد له من لفظه والمشهور أنه الترنجبين وهو شيء يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحموضة كان ينزل عليهم كالطل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم إلا يوم السبت وكان كل شخص مأمورا بأن يأخذ قدر صاع كل يوم أو ما يكفيه يوما وليلة ولا يدخر إلا يوم الجمعة فإن ادخار حصة السبت كان مباحا فيه. وعن وهب أنه الخبز الرقاق ، وقيل :
المراد به جميع ما من اللّه تعالى به عليهم في التيه وجاءهم عفوا بلا تعب ، وإليه ذهب الزجاج ويؤيده
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «الكمأة من المنّ الذي منّ اللّه تعالى به على بني إسرائيل»
والسَّلْوى اسم جنس أيضا واحدها سلواة كما قاله الخليل وليست الألف فيها للتأنيث وإلا لما أنثت بالهاء في قوله. كما انتفض السلوات من بلل القطر وقال الكسائي : السَّلْوى واحدة وجمعها سلاوى ، وعند الأخفش الجمع والواحد بلفظ واحد ، وقيل : جمع لا واحد له من لفظه وهو طائر يشبه السماني أو هو السماني بعينها وكانت تأتيهم من جهة السماء بكرة وعشيا أو متى أحبوا فيختارون منها السمين ويتركون منها الهزيل ، وقيل : إن ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي ، وفي رواية كانت تنزل عليهم مطبوخة ومشوية - وسبحان من يقول للشيء كن فيكون - وذكر السدوسي أن السلوى هو العسل بلغة كنانة ويؤيده ، قول الهذلي :
وقاسمتها باللّه جهرا لأنتم ألذ من (السلوى) إذا ما نشورها
وقول ابن عطية - إنه غلط - غلط ، واشتقاقها من السلوة لأنها لطيبها تسلي عن غيرها وعطفها على بعض وجوه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 265
المنّ من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أمر «1» إباحة على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين ، و- الطيبات - المستلذات وذكرها للمنة عليهم أو الحلالات فهو للنهي عن الادخار ، ومِنْ للتبعيض ، وأبعد من جعلها للجنس أو للبدل ، ومثله من زعم أن هذا على حذف مضاف أي من عوض طيبات قائلا : إن اللّه سبحانه عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة من قبل - بالمنّ والسلوى - فكانا بدلا من الطيبات ، وما موصولة والعائد محذوف - أي رزقناكموه - أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول ، واستنبط بعضهم من الآية أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك «2» وهو أحد أقوال في المسألة وَما ظَلَمُونا عطف على محذوف أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر أو فظلموا بأن كفروا هذه النعم وَما ظَلَمُونا بذلك ، ويجوز - كما في البحر - أن لا يقدر محذوف لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها ، وسؤال رؤيته تعالى ظلما وغير ذلك فجاء قوله تعالى : وَما ظَلَمُونا بجملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا منها نقص ولا ضرر ، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه لأن ظلم الإنسان للّه تعالى لا يمكن وقوعه البتة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفران أو بما فعلوا إذ لا يتخطاهم ضرره ، وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق ، وفيه ضرب تهكم بهم ، والجمع بين صيغتي الماضي ، والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم عليه ، وفي ذكر أَنْفُسَهُمْ بجمع القلة تحقير لهم وتقليل ، والنفس العاصية أقل من كل قليل وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ منصوبة على الظرفية عند سيبويه ، والمفعولية عند الأخفش ، والظاهر أن الأمر بالدخول على لسان موسى عليه السلام كالأوامر
السابقة واللاحقة. - والقرية - بفتح القاف - والكسر لغة أهل اليمن - المدينة من قريت إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس على طريقة المساكنة ، وقيل : إن قلوا قيل لها : قرية ، وإن كثروا قيل لها مدينة ، وأنهى بعضهم حدّ القلة إلى ثلاثة ، والجمع القرى على غير قياس ، وقياس أمثاله فعال كظبية وظباء وفي المراد بها هنا خلاف جمّ والمشهور عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والسدي والربيع وغيرهم - وإليه ذهب الجمهور - أنها بيت المقدس ، وقد كان هذا الأمر بعد التيه والتحير وهو أمر إباحة يدل عليه عطف (فكلوا) إلخ وهو غير الأمر المذكور بقوله تعالى : يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة : 21] لأنه كان قبل ذلك وهو أمر تكليف كما يدل عليه عطف النهي ، ومنهم من زعم اتحادهما.
وجعل هذا الأمر أيضا للتكليف وحمل تبديل الأمر على عدم امتثاله بناء على أنهم لم يدخلوا القدس في حياة موسى عليه السلام ، ومنهم من ادّعى اختلافهما لكنه زعم أن ما هنا كان بعد التيه على لسان يوشع لا على لسان موسى عليهما السلام لأنه وأخاه هارون ماتا في التيه وفتح يوشع مع بني إسرائيل أرض الشام بعد موته عليه السلام بثلاثة أشهر ومنهم من قال الأمر في التيه بالدخول بعد الخروج عنه ولا يخفى ما في كل ، فالأظهر ما ذكرنا وقد روي أن موسى عليه السلام سار بعد الخروج من التيه بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا - وهي بأرض القدس - وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء اللّه تعالى ثم قبض وكأنهم أمروا بعد الفتح بالدخول على وجه الإقامة والسكنى كما يشير إليه قوله تعالى : (فكلوا) إلخ ، وقوله تعالى في الأعراف : اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف : 161] ويؤيد كونه بعد الفتح الإشارة بلفظ القريب ، والقول - بأنها نزلت منزلة القريب ترويجا للأمر - بعيد ، ولا ينافي هذا ما مر من أنه مات في التيه لأن المراد به المفازة لا التيه مصدر تاه يتيه تيها بالكسر والفتح
___________
(1) وفي البحر أن من ذهب إلى الأصل في الأشياء الإباحة قال : المراد داوموا وا فتدبر ا ه منه.
(2) ثانيها أنه يملك بالوضع فقط وثالثها بالأخذ والتناول ، رابعها لا يملك بحال بل ينتفع به وهو على ملك المالك ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 266
وتيهانا إذا ذهب متحيرا فليفهم فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين ، وفي الكلام إشارة إلى حلّ جميع مواضعها لهم ، أو الإذن بنقل حاصلها إلى أي موضع شاؤوا مع دلالة رَغَداً على أنهم مرخصون بالأكل منها - واسعا - وليس عليهم القناعة لسد الجوعة ، ويحتمل أن يكون وعدا لهم بكثرة المحصولات وعدم الغلاء ، وأخر هذا المنصوب هنا مع تقديمه في آية آدم عليه السلام قبل لمناسبة الفاصلة في قوله تعالى : وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً والخلاف في نصب الْبابَ كالخلاف في نصب هذِهِ الْقَرْيَةَ والمراد بها على المشهور أحد أبواب بيت القدس ، وتدعى الآن باب حطة قاله ابن عباس ، وقيل : الباب الثامن من أبوابه ، ويدعى الآن باب التوبة - وعليه مجاهد - وزعم بعضهم أنها باب القبة التي كانت لموسى وهارون عليهما السلام يتعبدان فيها ، وجعلت قبلة لبني إسرائيل في التيه ، وفي وصفها أمور غريبة في القصص لا يعلمها إلا اللّه تعالى وسُجَّداً حال من ضمير ادْخُلُوا والمراد خضعا متواضعين لأن اللائق بحال المذنب التائب والمطيع الموافق الخشوع والمسكنة ، ويجوز حمل السجود على المعنى الشرعي ، والحال مقارنة أو مقدرة ، ويؤيد الثاني ما روي عن وهب في معنى الآية - إذا دخلتموه فاسجدوا شكرا للّه أي على ما أنعم عليكم حيث أخرجكم من التيه ونصركم على من كنتم منه تخافون وأعادكم إلى ما تحبون - وقول الزمخشري - أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا للّه تعالى وتواضعا - لم نقف على ما يدل عليه من كتاب وسنة ، وفسر ابن عباس السجود هنا بالركوع ، وبعضهم بالتطامن والانحناء قالوا : وأمروا بذلك لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى انحناء ، وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، قيل لبني إسرائيل : ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فدخلوا يزحفون على أستاههم»
وَقُولُوا حِطَّةٌ أي مسألتنا ، أو شأنك يا ربنا أن تحط عنا ذنوبنا ، وهي فعلة من - الحط - كالجلسة ، وذكر أبان أنها بمعنى التوبة وأنشد :
فاز (بالحطة) التي جعل الل ه بها ذنب عبده مغفورا
والحق أن تفسيرها بذلك تفسير باللازم ، ومن البعيد قول أبي مسلم : إن المعنى أمرنا - حطة - أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه إلا أن يقال كانوا مأمورين بهذا القول عند الحط في القرية لمجرد التعبد ، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه ، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حِطَّةٌ أو نسألك ذلك ، ويجوز أن يكون النصب على المفعولية - لقولوا - أي قولوا هذه الكلمة بعينها - وهو المروي عن ابن عباس - ومفعول القول عند أهل اللغة يكون مفردا إذا أريد به لفظه ولا عبرة بما في البحر من المنع إلا أنه يبعد هذا أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها ، ولأن الظاهر أنهم أمروا أن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم حتى لو قالوا اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا ولا تتوقف التوبة على ذكر لفظة بعينها ، ولهذا قيل : الأوجه في كونها مفعولا - لقولوا - أن يراد قولوا أمرا حاطا لذنوبكم من الاستغفار ، وحينئذ يزول عن هذا الوجه الغبار ، ثم هذه اللفظة على جميع التقادير عربية معلومة الاشتقاق ، والمعنى وهو الظاهر المسموع ، وقال الأصم : هي من ألفاظ أهل الكتاب لا نعرف معناها في العربية وذكر عكرمة أن معناها لا إله إلا اللّه وهو من الغرابة بمكان نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ بدخولكم الباب سجدا وقولكم حطة.
والخطايا أصلها خطايىء بياء بعد ألف ثم همزة فأبدلت الياء - عند سيبويه - الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا ، وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء ، وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر ، وقرأ نافع «يغفر» - بالياء - وابن عامر - بالتاء - على البناء للمجهول ، والباقون - بالنون - والبناء للمعلوم - وهو الجاري على نظام ما قبله وما بعده - ولم يقرأ أحد من السبعة إلا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 267
بلفظ خَطاياكُمْ وأمالها الكسائي ، وقرأ الجحدري وقتادة «تغفر» بضم التاء ، وأفرد - «الخطيئة» - وقرأ الجمهور بإظهار - الراء - من «يغفر» عند - اللام - وأدغمها قوم ، قالوا : وهو ضعيف وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ معطوف على جملة قُولُوا حِطَّةٌ وذكر أنه عطف على الجواب ، ولم ينجزم لأن - السين - تمنع الجزاء عن قبول الجزم ، وفي إبرازه في تلك الصورة دون تردد دليل على أن المحسن يفعل ذلك البتة ، وفي الكلام صفة الجمع مع التفريق ، فإن قُولُوا حِطَّةٌ جمع ، ونَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ تفريق ، والمفعول محذوف ، أي ثوابا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي بدل الَّذِينَ ظَلَمُوا بالقول الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قولا غيره فَبَدَّلَ يتعدى لمفعولين «أحدهما» بنفسه «والآخر» بالياء ويدخل على المتروك - فالذم متوجه - وجوزّ أبو البقاء أن يكون - بدل - محمولا على المعنى ، أي فقال الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا إلخ ، والقول بأن غَيْرَ منصوب بنزع الخافض ، كأنه قيل : فغيروا قولا بغيره غير مرضي من القول ، وصرح سبحانه - بالمغايرة - مع استحالة تحقق - التبديل - بدونها تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على - المغايرة - من كل وجه ، وظاهر الآية انقسام من هناك إلى - ظالمين - وغير ظالمين - وأن - الظالمين - هم - الذين بدلوا - وإن كان - المبدل - الكل كان وضع ذلك من وضع الظاهر موضع الضمير - للإشعار بالعلة - واختلف في - القول الذي بدلوه - ففي الصحيحين أنهم قالوا : حبة في شعيرة ، وروى الحاكم «حنطة» بدل حِطَّةٌ وفي المعالم أنهم قالوا بلسانهم - حطا سمقاثا - أي حنطة حمراء ، قالوا ذلك استهزاء منهم بما قيل لهم ، والروايات في ذلك كثيرة ، وإذا صحت يحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين ، والقول بأنه لم يكن منهم - تبديل - ومعنى - فبدلوا لم يفعلوا ما أمروا به ، لا أنهم أتوا ببدل له - غير مسلم - وإن قاله أبو مسلم - وظاهر الآية ، والأحاديث تكذبه فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم ، وإشعارا بكون ظلمهم وإضرارهم أنفسهم بترك ما يوجب نجاتها ، أو وضعهم غير المأمور به موضعه سببا لإنزال - الرجز - وهو العذاب - وتكسر راؤه وتضم - والضم لغة بني الصعدات - وبه قرأ ابن محيصن - والمراد به هنا - كما روي عن ابن عباس - ظلمة وموت ، يروى أنه مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا ، وقال وهب : طاعون غدوا به أربعين ليلة ثم
ماتوا بعد ذلك ، وقال ابن جبير : ثلج هلك به منهم سبعون ألفا - فإن فسر بالثلج - كان كونه مِنَ السَّماءِ ظاهرا - وإن بغيره - فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء ، وذكر بعض المحققين أن الجار والمجرور ظرف مستقر وقع صفة ل رِجْزاً وبِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق به لنيابته عن العامل علة له ، وكلمة (ما) مصدرية ، والمعنى فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا لظلمهم عذابا مقدرا بسبب كونهم مستمرين على - الفسق - في الزمان الماضي ، وهذا أولى من جعل الجار والمجرور ظرفا لغوا متعلقا ب فَأَنْزَلْنا لظهوره على سائر الأقوال ، ولئلا يحتاج في تعليل - الإنزال بالفسق - بعد التعليل المستفاد من التعليق بالظلم إلى القول بأن الفسق - عين - الظلم - وكرر للتأكيد ، أو أن - الظلم أعم - والفسق - لا بد أن يكون من الكبائر ، فبعد وصفهم بالظلم - وصفوا - بالفسق - للإيذان بكونه من الكبائر ، فإن «الأول» «1» بضاعة العاجز «والثاني» لا يدفع ركاكة التعليل ، وما قيل : إنه تعليل - للظلم - فيكون إنزال العذاب مسببا عن - الظلم - المسبب عن - الفسق - ليس بشيء ، إذ - ظلمهم - المذكور سابقا ، الذي هو سبب الإنزال لا يحتاج إلى العلة ، وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى : فَبَدَّلَ إلخ ، وترتب العذاب عن التبديل ، على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر ، وقال قوم : يجوز ذكر إذا كانت
___________
(1) الأول لأبي مسلم ، والثاني للرازي ، والثالث للجيلي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 268
الكلمة الثانية تسد الأولى «1» ، وعلى هذا جرى الخلاف - كما في البحر - في قراءة بالمعنى وروي الحديث به ، وجرى في تكبيرة الإحرام ، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك ، والبحث مفصل في محله هذا. وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه اللّه تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات. «الأول» قال هنا :
(و إذ قلنا) لما قدم ذكر النعم ، فلا بد من ذكر المنعم ، وهناك (و إذا قيل) إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به. «الثاني» قال هنا : ادْخُلُوا وهناك اسْكُنُوا [الأعراف : 161] لأن الدخول مقدم ، ولذا قدم وضعا المقدم طبعا. «الثالث» قال هنا : خَطاياكُمْ - بجمع الكثرة - لما أضاف ذلك القول إلى نفسه ، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك خَطِيئاتِكُمْ [الأعراف : 161] - بجمع القلة - إذ لم يصرح بالفاعل «الرابع» قال هنا : (رغدا) دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا ، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك.
«الخامس» قال هنا : ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وهناك بالعكس ، لأن - الواو - لمطلق الجمع ، وأيضا المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين ، والبعض الآخر ما كانوا كذلك ، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدما على اشتغاله بالعبادة ، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا : حِطَّةٌ ثم - يدخلوا - وأما الذي لا يكون مذنبا ، فالأولى به أن يشتغل «أولا» بالعبادة ثم يذكر التوبة «ثانيا» للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن - يدخلوا ثم يقولوا - فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين ، لا جرم ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى «السادس» قال هنا : وَسَنَزِيدُ - بالواو - وهناك بدونه ، إذ جعل هنا - المغفرة - مع الزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين ، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول حِطَّةٌ والزيادة جزاء الدخول فترك - الواو - يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين «السابع» قال هناك : الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [الأعراف : 162] وهنا لم يذكر (منهم) لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص ب (من) حيث قال : وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الأعراف :
159] فخص في آخر الكلام ليطابق أوله ، ولما لم يذكر في الآيات التي قبل فَبَدَّلَ هنا تمييزا وتخصيصا لم يذكر في آخر القصة ذلك. «الثامن» قال هنا : فَأَنْزَلْنا وهناك فَأَرْسَلْنا [الأعراف : 162] لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم ، وذلك يكون بالآخرة. «التاسع» قال هنا : فَكُلُوا - بالفاء - وهناك - بالواو - لما مر في وَكُلا مِنْها رَغَداً [البقرة : 35] وهو أن كل فعل عطف عليه شي ء - وكان الفعل بمنزلة الشرط ، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء - عطف الثاني على الأول - بالفاء - دون - الواو - فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة فَكُلُوا ولما لم يتعلق - الأكل بالسكون - في الأعراف ، قيل : وَكُلُوا [الأعراف : 31 ، 161] «العاشر» قال هنا : يَفْسُقُونَ وهناك يظلمون لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلما اكتفى بلفظ - الظلم - هناك انتهى ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر ، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولا - كما أنها متقدمة عليها ترتيبا - وليس كذلك ، فإن سورة البقرة كلها مدنية ، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى (و اسألهم عن القرية) إلى قوله تعالى : وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف :
163 - 171] وقوله تعالى : اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف : 161] داخل في الآيات المكية ، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة. وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق - الأكل بالسكون - لأنهم إذا سكنوا القرية ، تتسبب سكناهم - للأكل - منها كما ذكر الزمخشري ، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها ، فحينئذ لا فرق بين
___________
(1) قوله : تسد الأولى كذا بخط مؤلفه ، ولعل فيه سقطا من قلمه ، والأصل تسد مسد الأولى ا ه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 269
كُلُوا وفَكُلُوا فلا يتم الجواب وأما الثالث فلأنه تعالى - وإن قال في الأعراف : وَإِذْ قِيلَ - لكنه قال في السورتين : نَغْفِرْ لَكُمْ وأضاف - الغفران - إلى نفسه ، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين - جمع الكثرة - بل لا شك أن رعاية نَغْفِرْ لَكُمْ أولى من رعاية وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لتعلق - الغفران بالخطايا - كما لا يخفى على العارف بالمزايا. وأما الرابع فلأنه تعالى - وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى - لكنه مسند إليه في نفس الأمر ، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين.
وأما الخامس فلأن القصة واحدة ، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق - فعلى مقتضى ما ذكر - ينبغي أن يذكر وَقُولُوا حِطَّةٌ مقدما في السورتين وأما السادس فلأن القصة واحدة ، وأن - الواو - لمطلق الجمع ، وقوله تعالى نَغْفِرْ في مقابلة قُولُوا سواء قدم أو أخر ، وقوله تعالى : وَسَنَزِيدُ في مقابلة وَادْخُلُوا سواء ذكر - الواو - أو ترك ، وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل فَبَدَّلَ ما يدل على التخصيص والتمييز ، حيث قال سبحانه : وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ إلخ بكافات الخطاب وصيغته - فاللائق حينئذ - أن يذكر لفظ مِنْهُمْ أيضا ، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حاكاها - ما ذكره الزمخشري - من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض ، ولا تناقض بين قوله تعالى : اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وقوله : وَكُلُوا لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها ، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها ، وسواء قدموا «الحطة» على - دخول الباب - أو أخروها ، فهم جامعون في الإيجاد بينهما ، وترك ذكر - الرغد - لا يناقض إثباته ، وقوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف : 161] موعد بشيئين - بالغفران والزيادة ، وطرح - الواو - لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل :
ماذا بعد الغفران؟ فقيل له سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وكذلك زيادة (منهم) زيادة بيان وَأَرْسَلْنا وأَنْزَلْنا ويَظْلِمُونَ ويَفْسُقُونَ من دار واحد ، انتهى.
وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء ، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى ، والقرآن الكريم مملوء من ذلك ، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني ، واللّه يؤتي فضله من يشاء ، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو.
ومن باب الإشارة في الآيات وإذ قلتم لموسى - القلب لَنْ نُؤْمِنَ الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان - فأخذتكم صاعقة الموت - الذي هو الفناء في التجلي الذاتي - وأنتم تراقبون أو تشاهدون - ثم بعثناكم بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في اللّه عز وجل ، - وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات - لكونها حجب شمس الذات المحرقة سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس ، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمة ، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها ، فتسلون بذلك السَّلْوى وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهى كُلُوا أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب استعدادكم ، وأعطيتموها على ما وعد لكم وَما ظَلَمُونا أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات أنفسهم ، ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها ، وهذا هو الخسران المبين وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ أي المحل المقدس الذي هو مقام المشاهدة وَادْخُلُوا الْبابَ الذي هو الرضا بالقضاء ، فهو باب اللّه تعالى الأعظم سُجَّداً منحنين خاضعين لما يرد عليكم من التجليات ، واطلبوا أن يحط اللّه تعالى عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم ، فإن فعلتم ذلك نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ
«فمن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إليّ ذراعا ، تقربت إليه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»
وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ أي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 270
المشاهدين «ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» وهل ذلك إلا الكشف التام عن الذات الأقدس.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم وأضاعوها ووضعوها في غير موضعها اللائق بها قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ابتغاء للحظوظ الفانية والشهوات الدنية. فَأَنْزَلْنا على الظالمين خاصة ، عذابا وظلمة وضيقا في سجن الطبيعة واسرا في وثاق التمني وقيد الهوى وحرمانا ، وذلا بمحبة الماديات السفلية ، والاعراض عن هاتيك التجليات العلية ، وذلك من جهة قهر سماء الروح ، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة القلب الذي لا يأمر إلا بالهدى كما ورد في الأثر استفت قلبك وإن أفتاك المفتون إلى طاعة النفس الأمارة بالسوء. وهذا هو البلاء العظيم ، والخطب الجسيم.
من كان يرغب في السلامة فليكن أبدا من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنك بالفتور فإنه نظر يضر بقلبك استلذاذه
إياك من طمع المنى فعزيزه كذليله ، وغنيه وشحاذه
[سورة البقرة (2) : الآيات 60 إلى 74]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 271
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها - وكان ذلك في التيه لما عطشوا - ففي بعض الآثار أنهم قالوا فيه : من لنا بحر الشمس - فظلل عليهم الغمام - وقالوا : من لنا بالطعام - فأنزل اللّه تعالى عليهم المن والسلوى - وقالوا : من لنا بالماء - فأمر موسى بضرب الحجر - وتغيير الترتيب لقصد إبراز كل من الأمور المعدود في معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر ، ولو روعي الترتيب الوقوعي لفهم أن الكل أمر واحد - أمر بذكره - والاستسقاء - طلب - السقيا - عند عدم الماء أو قلته. قيل : ومفعول - استسقى - محذوف أي - ربه - أو - ماء - وقد تعدى هذا الفعل في الفصيح إلى - المستسقى منه تارة - وإلى - المستسقي أخرى - كما في قوله تعالى : إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ [الأعراف : 160] وقوله :
وأبيض - يستسقى - الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وتعديته إليهما مثل أن تقول : - استسقى زيد ربه الماء - لم نجدها في شيء من كلام العرب - واللام - متعلقة بالفعل ، وهي سببية أي لأجل قومه فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ أي فأجبناه فَقُلْنَا إلخ - والعصا - مؤنث - والألف منقلبة عن - واو - بدليل عصوان وعصوته - أي ضربته بالعصا - ويجمع على أفعل شذوذا وعلى فعول قياسا ، فيقال : أعص وعصي ، وتتبع حركة - العين - حركة - الصاد - والْحَجَرَ هو هذا الجسم المعروف ، وجمعه أحجار وحجار ، وقالوا : حجارة ، واشتقوا منه فقالوا : استحجر الطين ، والاشتقاق من الأعيان قليل جدا. والمراد بهذه - العصا - المسئول عنها في قوله تعالى : وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه : 17] والمشهور أنها من آس الجنة - طولها عشرة أذرع طول موسى عليه السلام - لها شعبتان تتقدان في الظلمة ، توارثها صاغر عن كابر حتى وصلت إلى شعيب ومنه إلى موسى عليهما السلام ، وقيل : رفعها له ملك في طريق مدين ، وفي المراد من الْحَجَرَ خلاف ، فقال الحسن :
لم يكن حجرا معينا ، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء ، وهذا أبلغ في الإعجاز وأبين في القدرة ، وقال وهب : كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر ، وعلى هذا - اللام - فيه للجنس ، وقيل : للعهد ، وهو حجر معين حمله معه من الطور مكعب له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم ، وكانوا ستمائة ألف ما عدا دوابهم ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا ، وقيل : حجر كان عند آدم وصل مع العصا إلى شعيب فدفع إلى موسى ، وقيل : هو الحجر الذي فر بثوبه ، والقصة معروفة. وقيل : حجر أخذ من قعر البحر خفيف يشبه رأس الآدمي كان يضعه في مخلاته ، فإذا احتاج للماء ضربه. والروايات في ذلك كثيرة ، وظاهر أكثرها التعارض ، ولا ينبني على تعيين هذا الحجر أمر ديني ، والأسلم تفويض علمه إلى اللّه تعالى.
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً عطف على مقدر ، أي فضرب فانفلق ، ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار ، ولو كان ينفجر دون ضرب لما كان للأمر فائدة ، وبعضهم يسمي هذه - الفاء - الفصيحة ويقدر شرطا أي فإن ضربت فقد «انفجرت» وفي المغني أن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب ، إلا أن يقال : المراد فقد حكمنا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 272
بترتب الانفجار على ضربك ، وقال بعض المتأخرين «1» : لا حذف ، بل - الفاء - للعطف وإن مقدرة بعد - الفاء - كما هو القياس ، بعد الأمر عند قصد السببية ، والتركيب من قبيل - زرني فأكرمك - أي اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فإن انفجرت فليكن منك الضرب فالانفجار - ولا يخفى ما في كل حتى قال مولانا مفتي الديار الرومية في الأول إنه غير لائق بجلالة شأن النظم الكريم - والثاني أدهى وأمرّ - والانفجار انصداع شيء من شيء ، ومنه الفجر والفجور ، وجاء هنا «انفجرت» وفي الأعراف [160] «انبجست» فقيل : هما سواء وقيل : بينهما فرق وهو أن الانبجاس أول خروج الماء ، والانفجار اتساعه وكثرته ، أو الانبجاس خروجه من الصلب ، والآخر خروجه من اللين ، والظاهر استعمالهما بمعنى واحد - وعلى فرض المغايرة - لا تعارض لاختلاف الأحوال ، و(من) لابتداء الغاية ، والضمير عائد على - الحجر المضروب - وعوده إلى الضرب ، و(من) سببية مما لا ينبغي الإقدام عليه ، والتاء في - اثنتا - للتأنيث ، ويقال : ثنتا إلا أن التاء فيها على ما في البحر للإلحاق ، وهذا نظير أنبت ، ونبت ولامها محذوفة ، وهي ياء لأنها من ثنيت ، وقرأ مجاهد وجماعة - ورواه السعدي عن أبي عمرو - عشرة بكسر الشين وهي لغة بني تميم ، وقرأ الفضل الأنصاري بفتحها قال ابن عطية :
وهي لغة ضعيفة ، ونص بعض النحاة على الشذوذ ، ويفهم من بعض المتأخرين أن هذه اللغات في المركب لا في عشرة وحدها ، وعبارات القوم لا تساعده ، و- العين - منبع الماء وجمع على أعين شذوذا وعيون قياسا ، وقالوا في أشراف الناس : أعيان ، وجاء ذلك في الباصرة قليلا كما في قوله أعيانا لها ومآقيا وهو منصوب على التمييز ، وإفراده في مثل هذا الموضع لازم ، وأجاز الفراء أن يكون جمعا ، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطا وكان بينهم تضاغن وتنافس فأجرى اللّه تعالى لكل سبط عينا يردها لا يشركه فيها أحد من السبط الآخر دفعا لإثارة الشحناء ، ويشير إلى حكمة الانقسام ، قوله تعالى : قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وهي جملة مستأنفة مفهمة على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدى لمشرب غيره ، وأُناسٍ جمع لا واحد له من لفظه ، وما ذكر من شذوذ إثبات همزته إنما هو مع الألف واللام ، وأما بدونها فشائع صحيح ، وعَلِمَ هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف - ووجد ذلك بكثرة - و- المشرب - إما اسم مكان أي محل الشرب ، أو مصدر ميمي بمعنى الشرب ، وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء ، وحمله على المكان أولى عند أبي حيان ، وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كُلُّ ولا يجوز أن يعود على لفظها لأن - كلّا - متى أضيف إلى نكرة وجب مراعاة المعنى كما في قوله تعالى : يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء : 71] وقوله :
وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفرّ منها الأنامل
ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة وإن كان سرد الكلام يقتضي - قد علم كل أناس عينهم - وفي الكلام حذف أي منها لأن قَدْ عَلِمَ صفة - لاثنتا عشرة عينا - فلا بد من رابط ، وإنما وصفها به لأنه معجزة أخرى حيث يحدث مع حدوث الماء جداول يتميز بها مشرب كل من مشرب آخر ، ويحتمل أن تكون الجملة حالية لا صفة لقوله تعالى : اثْنَتا عَشْرَةَ لئلا يحتاج إلى تقدير العائد وليفيد مقارنة العلم بالمشارب للانفجار ، والمشرب حينئذ العين كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ على إرادة القول ، وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به ، والاحتياج إلى الشرب حاصل عنه ، ومِنْ لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون للتبعيض ، وفي ذكر الرزق مضافا تعظيم
___________
(1) هو عصام الدين ا ه منه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 273
للمنة ، وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف ، وفي هذا التفات إذ تقدم فَقُلْنَا اضْرِبْ ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا ، ولو جعل الإضمار قبل كُلُوا مسندا إلى موسى - أي وقال موسى كلوا واشربوا - لا يكون فيه ذلك ، و- الرزق - هنا بمعنى المرزوق وهو الطعام المتقدم من المنّ والسلوى ، وبالمشروب من ماء العيون ، وقيل : المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى : يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ولَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ويلزم عليه أيضا الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤول إلى - كلوا واشربوا - من الماء ، ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته ، والأكل بإرادة ما هو سبب عنه ، أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق اللّه واشربوا من رزق اللّه ، وقول بعض المتأخرين إن رزق اللّه - عبارة عن الماء ، وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يروي العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب - بعيد غاية البعد ، وأقرب منه أن لا يكون كُلُوا وَاشْرَبُوا بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمرا مرتبا على ذكرهم ما وقع وقت الاستسقاء على وجه الشكر والتذكير بقدرة اللّه تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم اللّه تعالى ، وعدم الإفساد بإضلال الخلق ، وجمع عرض الدنيا ويكون فضله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور «واحتجت المعتزلة» بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فاقتضى أن يكون الرزق مباحا فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما ، وأنه غير جائز ، والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المنّ والسلوى والماء المنفجر من الحجر ، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم
التبعيض وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ لما أمروا بالأكل والشرب من رزق اللّه تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم ، واستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران ، و- العثى - عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقا فسادا كان أو لا فهو كالاعتداء ، ثم غلب في الفساد ومفسدين على هذا حال غير مؤكدة هو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها وذكر أبو البقاء أن العثي الفساد والحال مؤكدة ، وفيه أن مجيء الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم ، والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران : 130] وإلا فالفساد أيضا منكر منهي عنه ، وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا ، والمراد من الْأَرْضِ عند الجمهور أرض التيه. ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم ، وجوز أن يريد الأرضين كلها ، و(أل) لاستغراق الجنس ، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات ، وذلك انتقام يعم الأرضين ، هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الاستسقاء ولا الضرب ولا الانفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكررا ، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة. والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له ، وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة.
وقال كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير ، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة اللّه تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه ، وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض ، ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه السلام على ما ورد أنه كان بعد
ذلك يأمره ، فينفجر ولا ينافيه انفصاله عن الأرض كما وهم ، ويحتمل أيضا أن يقلب اللّه تعالى - بواسطة قوة أودعها في الحجر - الهواء ماء

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 274
بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها. واللّه تعالى على كل شيء قدير ، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا - لا إله إلا اللّه - ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس ، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً من مياه الحكمة لأن كلمة - لا إله إلا اللّه - اثنا عشرة حرفا فانفجر من كل حرف عين قد علم كل سبط من أسباط صفات الإنسان وهي اثنا عشر سبطا من الحواس «1» الظاهرة والباطنة ، واثنان من القلب والنفس ، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة ، وقَدْ عَلِمَ مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات ، ومشرب ملح أجاج ، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات. والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات ، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الإنسان : 21] للاضمحلال في حقيقة الذات كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ بأمره ورضاه وَلا تَعْثَوْا في هذا القالب مُفْسِدِينَ بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى :
اهْبِطُوا إلخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كدّ وتعب حيث سألوا ب لَنْ نَصْبِرَ فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق ، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى : أَتَسْتَبْدِلُونَ إلخ ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا ، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة ، قال مولانا الساليكوتي - ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي - لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم ، لأن الإجابة إلى المعصية معصية - وهي غير جائزة على الأنبياء - وإن قوله تعالى : كُلُوا وَاشْرَبُوا أمر إباحة لا إيجاب ، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية ، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين الْمَنَّ وَالسَّلْوى اللذين رزقوهما في التيه ، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال : طعام مائدة الأمير واحد - ولو كان ألوانا شتى - بمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات ، أو باعتبار كونه ضربا واحدا لأن الْمَنَّ وَالسَّلْوى من طعام أهل التلذذ والسرف ، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه ، وقيل : إنهم كانوا يطبخونهما معا فيصير طعاما واحدا ، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول السَّلْوى نازل من القول ، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد السَّلْوى لأن الْمَنَّ كان شرابا ، أو شيئا يتحلون به ، فلم يعدوه طعاما آخر ، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن : 22] وإنما يخرج من أحدهما - وهو الملح دون العذب - فَادْعُ لَنا رَبَّكَ أي سله لأجلنا - بدعائك إياه - بأن يخرج لنا كذا وكذا - والفاء - لسببية عدم الصبر للدعاء ، ولغة بني عامر «فادع» - بكسر العين - جعلوا - دعا من ذوات الياء - كرمى ، وإنما سألوا من موسى أن
يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم ، على أن دعاء الغير للغير مطلقا أقرب إليها - فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم؟ - ولهذا
قال صلّى اللّه عليه وسلم لعمر رضي اللّه تعالى عنه : «أشركنا في دعائك» وفي الأثر «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها»
وحملت على ألسنة الغير ، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادئ الإجابة ، وقالوا : رَبَّكَ ولم يقولوا : ربنا ، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم
___________
(1) قوله : من الحواس إلخ كذا بخط ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 275
من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة ، فكأنهم قالوا : ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا ، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك.
يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها المراد - بالإخراج - المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي ، وهو الإظهار بطريق الإيجاد - لا بطريق إزالة الخفاء - والحمل على المعنى الحقيقي يقتضي مخرجا عنه ، وما يصلح له هاهنا هو الْأَرْضُ وبتقديره يصير الكلام سخيفا ، ويُخْرِجْ مجزوم لأنه جواب الأمر ، وجزمه - بلام الطلب - محذوفة لا يجوز عند البصريين ، ومِنْ الأولى تبعيضية أي مأكولا بعض ما تُنْبِتُ وادعى الأخفش زيادتها - وليس بشي ء - وما موصولة والعائد محذوف ، أي تنبته ، وجعلها مصدرية لم يجوزه أبو البقاء - لأن المقدر جوهر - ونسبة - الإنبات - إلى الْأَرْضُ مجاز من باب النسبة إلى القابل. وقد أودع اللّه تعالى في الطبقة الطينية من الأرض - أو فيها - قوة قابلة لذلك ، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع ، ومِنْ الثانية بيانية ، فالظرف مستقر واقع موقع الحال ، أي كائنا من بَقْلِها.
وقال أبو حيان : تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ما فالظرف لغو متعلق يُخْرِجْ وعلى التقديرين - كما قال الساليكوتي - يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء ، ولو جعل بيانا لما أفاده مِنْ التبعيضية - كما قاله المولى عصام الدين - لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة ، وأوهم أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد - والبقل - جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والإنعام ، والمراد به هنا أطايب البقول التي يأكلها الناس - والقثاء - هو هذا المعروف ، وقال الخليل : هو الخيار ، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره - بضم القاف - وهو لغة - والفوم - الحنطة - وعليه أكثر الناس - حتى قال الزجاج : لا خلاف عند أهل اللغة أن - الفوم - الحنطة ، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم - الفوم - وقال الكسائي وجماعة : هو الثوم ، وقد أبدلت - ثاؤه فاء - كما في - جدث وجدف - وهو بالبصل والعدس أوفق - وبه قرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه - ونفس شيخنا - عليه الرحمة - إليه تميل ، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من الْأَرْضُ وذكره مع البقل وغيره وما في المعالم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما من أن - الفوم - الخبز يمكن توجيهه بأن معناه أنه يقال عليه ، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولا ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة - وهو البقل - إذ منه ما هو بارد رطب - كالهندبا - ومنه ما هو حار يابس - كالكرفس والسذاب - ومنه ما هو حار وفيه رطوبة ، كالنعناع «وثانيا» ما هو بارد رطب - وهو القثاء - «وثالثا» ما هو حار يابس - وهو الثوم - «ورابعا» ما هو بارد يابس - وهو العدس - «وخامسا» ما هو حار رطب - وهو البصل - وإذا طبخ صار باردا رطبا عند بعضهم ، أو يقال : إنه ذكر أولا ما يؤكل من غير علاج نار ، وقالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : فما
«فإن قلت»م جعلوا مبدلين ، وكان المعنى أتسألون

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 276
تبديل الذي إلخ ، والَّذِي مفعول تَسْتَبْدِلُونَ وهو الحاصل ، والَّذِي دخلت عليه الباء هو الزائل ، وهو أَدْنى صلة الَّذِي وهو هنا واجب الإثبات - عند البصريين - إذ لا طول ، وأَدْنى إما من الدنو أو مقلوب من الدون ، وهو على الثاني ظاهر ، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف ، فقيل : بعيد المحل بعيد الهمة ، ويحتمل أن يكون مهموزا من الدناءة ، وأبدلت فيه - الهمزة ألفا - ويؤيده قراءة زهير والكسائي «أدنأ» بالهمزة ، وأريد بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته ، والنفع الجليل في تناوله ، وعدم الكلفة في تحصيله ، وخلوه عن الشبهة في حله اهْبِطُوا مِصْراً جملة محكية بالقول كالأولى ، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى ، وهذه ليست كذلك ، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال ، هذا إذا جعل الجملتان من كلام اللّه تعالى أو كلام موسى ، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من اللّه تعالى ، فوجه الفصل ظاهر ، والوقف على خير كاف «على الأول» وتام «على الثاني» والهبوط يجوز أن يكون مكانيا بأن يكون التيه أرفع من المصر ، وأن يكون رتبيا ، وهو الأنسب بالمقام ، وقرىء اهْبِطُوا بضم الهمزة والباء - والمصر - البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين ، قال :
وجاعل الشمس (مصرا) لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود ، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها - إذا حلبت كل شيء في ضرعها - بعيد ، وحكي عن أشهب أنه قال : قال لي مالك : هي مصر قرتيك مسكن فرعون - فهو إذا علم - وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذكر ، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث ، فهو - إن جعل علما - فإما باعتبار كونه بلدة ، فالصرف مع العلمية ، والتأنيث لسكون الوسط ، وإما باعتبار كونه - بلدا - فالصرف على بابه ، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه ، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي اللّه تعالى عنه أنه في مصحف ابن مسعود «مصر» بلا - ألف بعد الراء - ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير ، وأن قوله تعالى : ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة : 21] يعني الشام التي كتب اللّه تعالى لكم للوجوب - كما يدل عليه عطف النهي - وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى ، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورا على بلاد التيه - وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين - ومن الناس من جعل مصر معرب - مصرائيم - كاسرائيل اسم لأحد أولاد نوح عليه السلام - وهو أول من اختطها - فسميت باسمه ، وإنما جاز الصرف حينئذ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ تعليل للأمر بالهبوط ، وفي البحر أنها جواب للأمر - وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة - وفي ذلك محذوفان ما يربط الجملة بما قبلها ، والضمير العائد على ما والتقدير ، فإن لكم فيها ما سألتموه ، والتعبير عن الأشياء المسئولة ب ما للاستهجان بذكرها ، وقرأ النخعي ويحيى سَأَلْتُمْ بكسر السين.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي جعل ذلك محيطا بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين ، وضُرِبَتْ استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم ، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين ، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون ، وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم ، وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم ، وهذا الضرب مجازاة لهم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 277
على كفران تلك النعمة ، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها ، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود ، وشامل للمخاطبين ، بقوله تعالى : فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا ، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما - أو رجعوا بغضب - أي صار عليهم ، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه ، أو صاروا أحقاء به ، أو استحقوا العذاب بسببه - وهو بعيد - وأصل - البواء - بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال : هو بواء فلان أي كفؤه ، ومنه بؤ - لشسع نعل كليب - وحديث «فليتبوأ مقعده من النار»
وفي وصف الغضب بكونه من اللّه تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم ، وإنما بعّده لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد ، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب. أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة ، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤول ولم يعبر به ، وعبر بما عبر تنبيها على تجدد الكفر والقتل منهم حينا بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى ، أو لاستحضار قبيح صنعهم و«الآيات» إما المعجزات مطلقا أو التسع التي أتى بها موسى عليه السلام أو ما جاء به من التسع وغيرها ، أو آيات الكتب المتلوة مطلقا ، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم.
أو التي فيها الرجم أو القرآن ، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم ، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم ، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له ، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما (أل) فيتساويان - كما في البحر - فلا يرد أنهم قتلوا ثلاثمائة نبي في أول النهار ، وأقاموا سوقهم في آخره ، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقدا حقية قتل أحد منهم عليهم السلام ، وإنما حملهم عليه حب الدنيا ، واتباع الهوى ، والغلو في العصيان ، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد ، وقيل : الأظهر أنها للجنس ، والمراد بغير حق أصلا إذ لام الجنس المبهم كالنكرة ، ويؤيده ما في آل عمران [21] (بغير حق) فيفيد أنه لم يكن حقا باعتقادهم أيضا ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق ، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر سواء كان حقا عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل ، والقول : بأنه يمكن أن يقال - لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحدا بغير حق لا يقتص ، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيدا لما هو الحكم الشرعي - بعيد كما لا يخفى ، قال بعض المتأخرين : هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي - أي بلا حق ، أما إذا كان بمعناه - أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل - فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته ، وقريب من هذا ما قاله القفال : من أنهم كانوا يقولون : إنهم كاذبون وإن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم ، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا
فشعياء ، ويحيى ، وزكريا عليهم السلام لم يقتلوا لذلك ، وإنما قتل شعياء لأن ملكا من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل ، وتنافسوا الملك ، وقتل بعضهم بعضا فنهاهم عليه السلام فبغوا عليه وقتلوه ، ويحيى عليه السلام إنما قتل لقصة تلك الامرأة لعنها اللّه تعالى ، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هاربا فأرسل الملك في طلبه غضبا لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولا بمنشار ، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 278
تنازع فيه الكفر ، والقتل ، وفي البحر أنه متعلق بما عنده ، وزعم بعض الملحدين - أن بين هذه الآية - وما أشبهها ، وقوله تعالى : إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر : 51] تناقضا - وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى : أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ [البقرة : 87] إلى قوله سبحانه : فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة : 87] يدل على أن المقتول رسل أيضا ، وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبة الحجة أو الأخذ بالثأر كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن اللّه تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفا ، وبكل خليفة خمسا وثلاثين ألفا ولا يخفى ما فيه ، فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال - كما أجاب به المحققين - لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم ، وقرأ علي رضي اللّه تعالى عنه : يقتلون
بالتشديد ، والحسن في رواية عنه وتقتلون بالتاء فيكون ذلك من الالتفات ، وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي ، والنبوة ، واستشكل بما
روي أن رجلا قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم «يا نبيء اللّه بالهمز فقال لست بنبيء اللّه
- يعني مهموزا -
ولكن نبي اللّه»
بغير همزة فأنكر عليه ذلك. ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة والسلام على أنه استشكل أيضا جمع النبي على نبيين وهو فعيل بمعنى مفعول ، وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم. وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها فمنع لوهم أن معناه يا طريد اللّه تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه ، ولا يلزم من صحة استعمال اللّه تعالى له في حق نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم - الذي برأه من كل نقص - جوازه من البشر ، وقيل إن النهي كان خاصا في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول راعِنا إلى قول انْظُرْنا [البقرة : 104] وعن الثاني بأنه ليس بمتفق عليه إذ قيل : إنه بمعنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصلي ، ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك ، فصح جمعه باعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر.
ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سببا لما تقدم ، وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور ، ونحوه مما هو مفرد لفظا متعدد معنى ، وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملا عليه ، والباء للسببية ، وما بعدها سبب للسبب ، والمعنى أن الذي حملهم على الكفر بآيات اللّه تعالى ، وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم الحدود ، والذنب يجر الذنب ، وأكد الأول لأنه مظنة الاستبعاد بخلاف مطلق العصيان ، وقيل : الباء بمعنى مع ، وقيل : الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول ، وترك العاطف للدلالة على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذ - لإيراد كلمة ذلك - فائدة إذ الظاهر بِما عَصَوْا إلخ ويفوت أيضا ما يفوت ، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان ، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا.
«ومن باب الإشارة» الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة ، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها ، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات اللّه تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب وقطع وريدها بقطع واردها ، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب ، والاعتياض بالاغيار عن ذلك المطلوب نسأل اللّه تعالى لنا ولكم العافية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لما انجر الكلام إلى ذكر وعيد أهل الكتاب قرن به

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 279
ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب والترهيب وبهذا يتضح وجه توسيط هذه الآية وما قبلها بين تعداد النعم ، وفي المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا هنا أقوال ، والمروي عن سفيان الثوري أنهم المؤمنون بألسنتهم ، وهم المنافقون بدليل انتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا ، وعن السدي أنهم الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم - كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل - ومن لحقه - كأبي ذر وبحيرى - ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون البعثة ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهم المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وروى السدي عن أشياخه أنهم المؤمنون بموسى إلى أن جاء عيسى عليهما السلام فآمنوا به ، وقيل : إنهم أصحاب سلمان الذين قصّ حديثهم على رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم
فقال له : «هم في النار»
فأظلمت الأرض عليه كما روى مجاهد عنه فنزلت عند ذلك الآية إلى يَحْزَنُونَ قال سلمان : فكأنما كشف عني جبل ، وقيل : إنهم المتدينون بدين محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم مخلصين أو منافقين - واختاره القاضي - وكأن سبب الاختلاف قوله تعالى فيما بعد : مَنْ آمَنَ إلخ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر وأقل الأقوال مؤنة أولها وَالَّذِينَ هادُوا أي تهودوا يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ، و- يهود - إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل ، ووجه التخصيص كون توبتهم أشق الأعمال كما مر ، وإما معرب يهوذا بذال معجمة وألف مقصورة كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب عليه السلام ، وقرىء هادُوا بفتح الدال أي مال بعضهم إلى بعض وَالنَّصارى جمع نصران بمعنى نصراني ، وورد ذلك في كلام العرب وإن أنكره البعض كقوله :
تراه إذا دار العشيّ محنفا ويضحى لديه وهو (نصران) شامس
ويقال في المؤنث نصران كندمان وندمانة قاله سيبويه - وأنشد. كما سجدت نصرانة لم تحنف. والياء في نصراني عنده للمبالغة كما يقال للأحمر أحمري إشارة إلى أنه عريق في وصفه ، وقيل : إنها للفرق بين الواحد والجمع كزنج وزنجي ، وروم ورومي ، وقيل : النصارى جمع نصري كمهري ومهارى حذفت إحدى ياءيه وقلبت الكسرة فتحة للتخفيف فقلبت الياء ألفا. وإلى ذلك ذهب الخليل ، وهو اسم لاصحاب عيسى عليه السلام ، وسموا بذلك لأنهم نصروه ، أو لنصر بعضهم لبعض ، وقيل : إن عيسى عليه السلام ولد في بيت لحم بالقدس ثم سارت به أمه إلى مصر ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام وأقامت بقرية ناصرة ، وقيل : نصرايا ، وقيل : نصري ، وقيل : نصرانة ، وقيل :
نصران - وعليه الجوهري - فسمي من معه باسمها ، أو أخذ لهم اسم منها وَالصَّابِئِينَ هم قوم مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين واتخاذهم وسائط ولما لم يتيسر لهم التقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فرعت جماعة منهم إلى هياكلها ، فصابئة الروم مفزعها السيارات ، وصابئة الهند مفزعها الثوابت ، وجماعة نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن أحد شيئا. فالفرقة الأولى هم عبدة الكواكب ، والثانية هم عبدة الأصنام وكل من هاتين الفرقتين أصناف شتى مختلفون في الاعتقادات والتعبدات ، والإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه يقول : إنهم ليسوا بعبدة أوثان وإنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة ، وقيل : هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء كيحيى عليه السلام ، وقيل : إنهم يقرون باللّه تعالى ويقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة ، وقيل : إلى مهب الجنوب ، وقد أخذوا من كل دين شيئا ، وفي جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم كلام للفقهاء يطلب في محله ، واختلف في اللفظ فقيل غير عربي ، وقيل عربي من صبأ - بالهمز - إذا خرج أو من صبا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 280
معتلا بمعنى مال لخروجهم عن الدين الحق وميلهم إلى الباطل ، وقرأ نافع وحده بالياء وذلك إما على الأصل أو الإبدال للتخفيف.
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً أي أحدث من هذه الطوائف إيمانا باللّه تعالى وصفاته وأفعاله والنبوات ، وبالنشأة الثانية على الوجه اللائق ، وأتى - بعمل صالح - حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر ، وهذا مبني على أول الأقوال ، والقائلون بآخرها منهم من فسر الآية بمن اتصف من أولئك بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات ، والدوام عليه كإيمان المخلصين ، أو بطريق إحداثه ، وإنشائه كإيمان من عداهم من المنافقين ، وسائر الطوائف ، وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين ، ومنهم من فسرها بمن كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه ، فيعم الحكم المخلصين من أمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والمنافقين الذين تابوا ، واليهود والنصارى الذين ماتوا قبل التحريف والنسخ وَالصَّابِئِينَ الذين ماتوا زمن استقامة أمرهم إن قيل : إن لهم دينا ، وكذا يعم اليهود والصائبين الذين آمنوا بعيسى عليه السلام وماتوا في زمنه ، وكذا من آمن من هؤلاء الفرق بمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم. وفائدة ذكر الَّذِينَ آمَنُوا على هذا مع أن الوعيد السابق كان في اليهود لتسكين حمية اليهود بتسوية المؤمنين بهم في أن كون كل في دينه «قبل النسخ» يوجب الأجر «وبعده» يوجب الحرمان ، كما أن ذكر الصَّابِئِينَ للتنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا يتاب عليهم إذا صح منهم الإيمان والعمل الصالح ، فغيرهم بالطريق الأولى وانفهام قبل النسخ من وَعَمِلَ صالِحاً إذ لا صلاح في العمل بعده ، وهذا هو الموافق لسبب النزول لا سيما
على رواية أن سلمان رضي اللّه تعالى عنه ذكر للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم حسن حال الرهبان الذين صحبهم ، فقال : «ماتوا وهم في النار» فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، فقال عليه الصلاة والسلام : «من مات على دين عيسى عليه السلام قبل أن يسمع بي فهو على خير ، ومن سمع ولم يؤمن بي فقد هلك».
والمناسب لعموم اللفظ وعدم صرفه إلى تخصيص الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى بالكفرة منهم وتخصيص مَنْ آمَنَ إلخ بالدخول في ملة الإسلام ، إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصابئين دين ، وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات «ففي الملل والنحل» أن الصورة في مقابلة الحنيفية ، ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة ، ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه ، فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصَّابِئِينَ فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين اسم إِنَّ وخبرها إليهم - على القول المشهور - وارتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصدا إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من الصَّابِئِينَ مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه؟! على أن فيه بعد ما لا يخفى فتدبر. ومَنْ مبتدأ ، وجوزوا فيها أن تكون موصولة والخبر جملة قوله تعالى :
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ودخلت - الفاء - لتضمن المبتدأ معنى الشرط كما في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج : 10] الآية ، وأن تكون شرطية - وفي خبرها خلاف - هل الشرط ، أو الجزاء ، أو هما؟ وجملة مَنْ آمَنَ إلخ خبر إِنَّ فإن كانت مَنْ موصولة - وهو الشائع هنا - احتيج إلى تقدير - منهم - عائدا ، وإن كانت شرطية لم يحتج إلى تقديره - إذ العموم يغني عنه - كأنه قيل : هؤلاء وغيرهم إذا آمنوا فَلَهُمْ إلخ على ما قالوا في قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف : 30] وجوز بعضهم أن تكون مَنْ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 281
بدلا من اسم إِنَّ وخبرها فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ واختار أبو حيان أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إِنَّ فيصح إذ ذاك المعنى ، وكأنه قيل : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا من غير الأصناف الثلاثة ، ومن آمن من الأصناف الثلاثة فَلَهُمْ إلخ. وقد حملت الضمائر الثلاثة باعتبار معنى الموصول ، كما أن إفراد ما في الصلة باعتبار لفظه ، وفي البحر إن هذين الحملين لا يتمان إلا بإعراب مَنْ مبتدأ ، وأما على إعرابها بدلا فليس فيها إلا حمل على اللفظ فقط فافهم. ثم المراد من - الأجر - الثواب الذي وعدوه على الإيمان والعمل الصالح ، فإضافته إليهم واختصاصه بهم بمجرد الوعد لا بالاستيجاب - كما زعمه الزمخشري رعاية للاعتزال - لكن تسميته - أجرا - لعدم التخلف ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : عِنْدَ رَبِّهِمْ المشير إلى أنه لا يضيع لأنه عند لطيف حفيظ ، وهو متعلق بما تعلق به فَلَهُمْ ، ويحتمل أن يكون حالا من أَجْرُهُمْ.
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عطف على جملة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ وقد تقدم الكلام على مثلها في آخر قصة آدم عليه السلام فأغنى عن الإعادة هنا وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ تذكير بنعمة أخرى ، لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم ، والظاهر من الميثاق هنا العهد ، ولم يقل : مواثيقكم ، لأن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره - فكان ميثاقا واحدا - ولعله كان بالانقياد لموسى عليه السلام ، واختلف في أنه متى كان؟ فقيل : قبل رفع الطور ، ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى : وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ [النساء : 154] إلخ ، وقيل : كان معه وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ - الواو - للعطف ، وقيل : للحال ، والطُّورَ قيل : جبل من الجبال ، وهو سرياني معرب ، وقيل :
الجبل المعين. وعن أبي حاتم عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا ، وكان على قدر عسكرهم - فرسخا في فرسخ - ورفع فوقهم قدر قامة الرجل ، واستشكل بأن هذا يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان فينافي التكليف ، وأجاب الإمام بأنه لا إلجاء لأن الأكثر فيه خوف السقوط عليهم ، فإذا استمر في مكانه مدة - وقد شاهدوا السماوات مرفوعة بلا عماد - جاز أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف ، وقال العلامة : كأنه حصل لهم بعد هذا الإلجاء قبول اختياري ، أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان - وفيه كما قال الساليكوتي - إن الكلام في أنه كيف يصح التكليف ب خُذُوا إلخ مع القسر ، وقد تقرر أن مبناه على الاختيار - فالحق أنه إكراه - لأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختاره - لو خلي ونفسه - فيكون معدما للرضا لا للاختيار إذ الفعل يصدر باختياره كما فصل في الأصول ، وهذا كالمحاربة مع الكفار ، وأما قوله : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة : 256] وقوله سبحانه : أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس : 99] فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ هو على إضمار القول أي قلنا أو قائلين خُذُوا وقال بعض الكوفيين. لا يحتاج إلى إضماره لأن أخذ الميثاق قول ، والمعنى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ بأن تأخذوا ما آتيناكم.
- وليس بشي ء - والمراد هنا - بالقوة - الجد والاجتهاد - كما قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، ويؤول إلى عدم التكاسل والتغافل ، فحينئذ لا تصلح الآية دليلا لمن ادعى أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لا يقال : خذ هذا بقوة ، إلا والقوة حاصلة فيه لأن القوة بهذا المعنى لا تنكر صحة تقدمها على الفعل وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي ادرسوه واحفظوه ولا تنسوه ، أو تدبروا معناه ، أو اعملوا بما فيه من الأحكام ، فالذكر يحتمل أن يراد به الذكر اللساني والقلبي والأعم منهما وما يكون كاللازم لهما ، والمقصود منهما أعني العمل لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قد تقدم الكلام على الترجي في كلامه تعالى ، وقد ذكر هاهنا أن كلمة - لعل - متعلقة - بخذوا ، واذكروا - إما مجاز يؤول معناه بعد الاستعارة إلى تعليل ذي الغاية بغايته أو حقيقة لرجاء المخاطب ، والمعنى خُذُوا واذكروا راجين أن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 282
تكونوا متقين ويرجح المعنى المجازي أنه لا معنى لرجائهم فيما يشق عليهم أعني التقوى ، اللهم إلا باعتبار تكلف أنهم سمعوا مناقب المتقين ودرجاتهم فلذا كانوا راجين للانخراط في سلكهم ، وجوز المعتزلة كونها متعلقة - بقلنا - المقدر وأولوا الترجي بالإرادة أي (قلنا) و- اذكروا - إرادة أن تتقوا ، وهو مبني على أصلهم الفاسد من أن إرادة اللّه تعالى لأفعال العباد غير موجبة للصدور لكونها عبارة عن العلم بالمصلحة ، وجوز العلامة تعلقها إذا أول الترجي بالإرادة - بخذوا - أيضا على أن يكون قيدا للطلب لا للمطلوب ، وجوز الشهاب أن يتعلق بالقول على تأويله بالطلب والتخلف فيه جائز ، وفيه أن القول المذكور وهو خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بعينه طلب التقوى فلا يصح أن يقال - خذوا ما آتيناكم - طالبا منكم التقوى إلا بنوع تكلف فافهم ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه وخالفتم ، وأصل التولي الإعراض المحسوس ثم استعمل في الإعراض المعنوي كعدم القبول ، ويفهم من الآية أنهم امتثلوا الأمر ثم تركوه.
فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها ، أو الفضل والرحمة بعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإدراكهم لمدته ، فالخطاب على الأول جار على سنن الخطابات السابقة مجازا باعتبار الإسلاف وعلى الثاني جار على الحقيقة ، والخسران ذهاب رأس المال أو نقصه ، والمراد لكنتم مغبونين هالكين بالانهماك في المعاصي ، أو بالخبط في مهاوي الضلال عند الفترة ، وكلمة - لولا - إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وتقدم الكلام عليها ، وحرف النفي - والاسم الواقع بعدها عند سيبويه - مبتدأ خبره محذوف وجوبا لدلالة الحال عليه وسد الجواب مسده ، والتقدير - ولولا فضل اللّه ورحمته - حاصلان ، ولا يجوز أن يكون الجواب خبرا لكونه في الأغلب خاليا عن العائد إلى المبتدأ ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أي لولا ثبت فضل اللّه تعالى إلخ ، ولَكُنْتُمْ جواب - لولا - ويكثر دخول اللام على الجواب إذا كان موجبا ، وقيل : إنه لازم إلا في الضرورة كقوله :
لو لا الحياء ولولا الدين (عبتكما) ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وجاء في كلامهم بعد اللام قد ، كقوله :
لو لا الأمير ولولا خوف طاعته (لقد) شربت وما أحلى من العسل
وقد جاء أيضا حذف اللام وإبقاء قد نحو - لولا زيد قد أكرمتك - ولم يجىء في القرآن مثبتا إلا باللام إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى : وَهَمَّ بِها [يوسف : 24] جواب لولا قدم عليها هذا (من باب الإشارة والتأويل في الآية) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال - والصفات ورفعنا فوقكم طور - الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها ، أو أشار سبحانه - بالطور - إلى موسى القلب ، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد وقلنا خُذُوا أي اقبلوا ما آتَيْناكُمْ من كتاب العقل الفرقاني بجد ، وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة اللّه تعالى بإمهاله وحكمه بإفضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة
إلى اللّه يدعى بالبراهين من أبى فإن لم يجب بادته بيض الصوارم
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللام واقعة في جواب قسم مقدر ، و- علم - هنا كعرف فلذلك تعدت إلى واحد ، وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين ، وقدر بعضهم مضافا أي اعتداء الذين ، وقيل :
أحكامهم ، ومِنْكُمْ في موضع الحال ، والسَّبْتِ اسم لليوم المعروف وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع لأنه سبت فيه خلق كل شيء وعمله ، وقيل : من السبوت وهو الراحة والدعة. والمراد به هنا اليوم ، والكلام على حذف

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 283
مضاف أي في حكم السبت لأن الاعتداء والتجاوز لم يقع في اليوم بل وقع في حكمه بناء على ما
حكي أن موسى عليه السلام أراد أن يجعل يوما خالصا للطاعة وهو يوم الجمعة فخالفوه وقالوا : نجعله يوم السبت لأن اللّه تعالى لم يخلق فيه شيئا فأوحى اللّه تعالى إليه أن دعهم وما اختاروا ثم امتحنهم فيه فأمرهم بترك العمل وحرم عليهم فيه صيد الحيتان فلما كان زمن داود عليه السلام - اعتدوا - وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها أيلة. وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حظر هناك وأخرج خرطومه وإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء فيصطادونها يوم الأحد ، وروي أنهم فعلوا ذلك زمانا فلم ينزل عليهم عقوبة فاستبشروا وقالوا : قد أحل لنا العمل في السبت فاصطادوا فيه علانية وباعوا في الأسواق ،
وعلى هذا يصح جعل اليوم ظرفا للاعتداء ، ولا يحتاج إلى تقدير مضاف ، وقيل : المراد بالسبت هنا مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وليس بمعنى اليوم فحينئذ لا حاجة إلى تقدير مضاف إذ يؤول المعنى إلى أنهم اعتدوا في التعظيم وهتكوا الحرمة الواجبة عليهم. وقد ذكر بعضهم أن تسمية العرب للأيام بهذه الأسماء المشهورة حدثت بعد عيسى عليه السلام وأن أسماءها قبل غير ذلك وهي التي في قوله :
أؤمل أن أعيش وأن يومي بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته فمونس أو عروبة أو شبار
واستدل بهذه الآية على تحريم الحيل في الأمور التي لم تشرع كالربا - وإلى ذلك ذهب الإمام مالك - فلا تجوز عنده بحال قال الكواشي : وجوزها أكثرهم ما لم يكن فيها إبطال حق أو إحقاق باطل ، وأجابوا عن التمسك بالآية فإنها ليست حيلة وإنما هي عين المنهي عنه لأنهم إنما نهوا عن أخذها ولا يخفى ما في هذا الجواب ، وتحقيقه في كتب الفقه فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ القردة جمع قرد وهو معروف ويجمع فعل الاسم قياسا على فعول ، وقليلا على فعلة ، و- الخسو - الصغار والذلة ويكون متعديا ولازما. ومنه قولهم للكلب : اخسأ وقيل : الخسوء والخساء مصدر خسأ الكلب بعد ، وبعضهم ذكر الطرد عند تفسير الخسوء كالإبعاد ، فقيل : هو لاستيفاء معناه لا لبيان المراد ، وإلا لكان الخاسئ بمعنى الطارد ، والتحقيق أنه معتبر في المفهوم إلا أنه بالمعنى المبني للمفعول ، وكذلك الإبعاد فالخاسئ الصاغر المبعد المطرود ، وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة ، وعلى ذلك جمهور المفسرين - وهو الصحيح - وذكر غير واحد منهم أنهم بعد أن مسخوا لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ولم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام ، وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام وماتوا في اليوم الثامن ، واختار أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا - وأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم - ويرده ما
رواه مسلم عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير : أهي مما مسخ؟ «إن اللّه تعالى لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك»
وروى ابن جرير عن مجاهد «أنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظا ولا تعي زجرا» فيكون المقصود من الآية تشبيههم بالقردة كقوله :
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن (حجرا) من يابس الصخر جلمدا
وكُونُوا «على الأول» ليس بأمر حقيقة ، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم ، بل المراد منه سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراد من غير امتناع ولا لبث.
«وعلى الثاني» يكون الأمر مجازا عن التخلية والترك والخذلان - كما في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «اصنع ما شئت»
وقد قرره العلامة في تفسير قوله تعالى : لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا [العنكبوت : 66]

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 284
والمنصوبان خبران للفعل الناقص ، ويجوز أن يكون خاسِئِينَ حالا من الاسم ، ويجوز أن يكون صفة ل قِرَدَةً والمراد وصفهم بالصغار عند اللّه تعالى دفعا لتوهم أن يجعل مسخهم وتعجيل عذابهم في الدنيا لدفع ذنوبهم ورفع درجاتهم.
واعترض أنه لو كان صفة لها لوجب أن يقول : خاسئة لامتناع الجمع - بالواو - والنون في غير ذوي العلم ، وأجيب بأن ذلك على تشبيههم بالعقلاء كما في السَّاجِدِينَ أو باعتبار أنهم كانوا عقلاء ، أو بأن المسخ إنما كان بتبدل الصورة فقط ، وحقيقتهم سالمة على ما روي أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم ، فيقول له : ألم أنهك؟ فيقول : بلى ثم تسيل دموعه على خده - ولم يتعرض في الآية بمسخ شيء منهم خنازير - وروي عن قتادة أن الشباب صاروا قِرَدَةً والشيوخ صاروا - خنازير - وما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم ، وقرىء قِرَدَةً بفتح القاف وكسر الراء وخاسِئِينَ بغير همز فَجَعَلْناها نَكالًا أي كينونتهم وصيرورتهم قِرَدَةً أو المسخة ، أو العقوبة ، أو الآية المدلول عليها بقوله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ وقيل : الضمير للقرية ، وقيل : للحيتان - والنكال - واحد - الأنكال - وهي القيود - ونكل به - فعل به ما يعتبر به غيره ، فيمتنع عن مثله لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أي لمعاصريهم ومن خلفهم - وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه وغيره - وروي عنه أيضا لِما بحضرتها من القرى - أي أهلها وما تباعد عنها - أو للآتين والماضين - وهو المختار عند جماعة - فكل من ظرفي المكان مستعار للزمان ، و(ما) أقيمت مقام - من - إما تحقيرا لهم في مقام العظمة والكبرياء - أو لاعتبار الوصف - فإن ما يعبر بها عن العقلاء تعظيما - إذا أريد الوصف - كقوله : «سبحان ما سخر كن» وصحح كونها نَكالًا للماضين أنها ذكرت في زبر الأولين - فاعتبروا بها - وصحت - الفاء - لأن جعل ذلك نَكالًا للفريقين إنما يتحقق بعد القول والمسخ ، أو لأن - الفاء - إنما تدل على ترتب جعل العقوبة نَكالًا على القول وتسببه عنه - سواء كان على نفسه أو على الإخبار به - فلا ينافي حصول الاعتبار قبل وقوع هذه الواقعة بسبب سماع هذه القصة ، وقيل : - اللام - لام الأجل و(ما) على
حقيقتها - والنكال - بمعنى العقوبة لا - العبرة - والمراد بما بَيْنَ يَدَيْها ما تقدم من سائر الذنوب قبل أخذ السمك ، وب ما خَلْفَها ما بعدها ، والقول بأن المراد جعلنا المسخ عقوبة لأجل ذنوبهم المتقدمة على المسخة والمتأخرة عنها يستدعي بقاءهم مكلفين بعد المسخ ولا يظهر ذلك إلا على قول مجاهد ، وحمل الذنوب التي بعد المسخة - على السيئات الباقية آثارها - ليس بشيء كما لا يخفى ، وقول أبي العالية - إن المراد ب لِما بَيْنَ يَدَيْها ما مضى من الذنوب ، وب ما خَلْفَها من يأتي بعد ، والمعنى فجعلناها عقوبة لما مضى من ذنوبهم ، وعبرة لمن بعدهم - منحط من القول جدا لمزيد ما فيه من تفكيك النظم والتكلف وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الموعظة ما يذكر مما يلين القلب - ثوابا كان أو عقابا - والمراد بالمتقين ما يعم كل متق من كل أمة - وإليه ذهب ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وقيل : من أمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقيل : منهم ، ويحتمل أنهم اتعظوا بذلك وخافوا عن ارتكاب خلاف ما أمروا به ، ويحتمل أنهم وعظ بعضهم بعضا بهذه الواقعة ، وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وجعلهم بحيث لو أهملوا وتركوا وخلوا بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية والغواشي الظلمانية لضروراتهم لها واعتيادهم من الطفولية عليها
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فوضع اللّه تعالى العبادات ، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة ليزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة ارتكاب الشهوات ، وجعل يوما من أيام الأسبوع مخصوصا للاجتماع

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 285
على العبادة وإزالة وحشة التفرقة ودفع ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية ، فوضع السَّبْتِ لليهود لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم والسَّبْتِ آخر الأسبوع ، والأحد للنصارى لأن عالم العقل الذي إليه دعوتهم أول العوالم ، ويوم الأحد أول الأسبوع ، والجمعة للمسلمين لأنه يوم الجمع ، - والختم - فهو أوفق بهم وأليق بحالهم - فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلا - زال نور استعداده ، وطفىء مصباح فؤاده ، ومسخ كما مسخ أصحاب السبت ، ومن غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده ، وتمكن في طباعه ، وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا أطلق عليه اسم ذلك الحيوان حتى
كأن صار طباعه طباعه ، ونفسه نفسه ، فليجهد المرء على حفظ إنسانيته ، وتدبير صحته بشراب الأدوية الشرعية والمعاجين الحكمية ، وليحث نفسه بالمواعظ الوعدية والوعيدية
هي النفس إن تهمل تلازم خساسة وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً بيان نوع من مساوئهم من غير تعديد النعم وصح العطف لأن ذكر النعم سابقا كان مشتملا على ذكر المساويء أيضا من المخالفة للأنبياء والتكذيب لهم وغير ذلك ، وقد يقال : هو على نمط ما تقدم ، لأن الذبح نعمة دنيوية لرفعة التشاجر بين الفريقين ، وأخروية لكونه معجزة لموسى عليه السلام. وكأن مولانا الإمام الرازي خفي عليه ذلك فقال : إنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات ، وجعل النوع الثاني ما أشارت إليه هذه الآية - وليس بالبعيد.
«وأول القصة» قوله تعالى : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [البقرة : 72] إلخ ، وكان الظاهر أن يقال - قال موسى إذ قتل قتيل تنوزع في قاتله - إن اللّه يأمر بذبح بقرة هي كذا وكذا ، وأن يضرب ببعضها ذلك القتيل ويخبر بقاتله فيكون كيت وكيت إلا أنه فك بعضها وقدم لاستقلاله بنوع من مساوئهم التي قصد نعيها عليهم ، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال ، وترك المصارعة إلى الامتثال ، ولو أجرى على النظم لكانت قصة واحدة ، ولذهبت تثنية التقريع ، وقد وقع في النظم من فك التركيب والترتيب ما يضاهيه في بعض القصص ، وهو من المقلوب المقبول لتضمنه نكتا وفوائد ، وقيل : إنه يجوز أن يكون ترتيب نزولها على موسى عليه السلام على حسب تلاوتها بأن يأمرهم اللّه تعالى - بذبح البقرة - ثم يقع القتل فيؤمروا بضرب بعضها - لكن المشهور خلافه - والقصة أنه عمد اخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما - أخي أبيهما - فقتلاه ليرثا ماله وطرحاه على باب محلهم ثم جاءا يطلبان بدمه فأمر اللّه تعالى بذبح بقرة وضربه ببعضها ليحيا ، ويخبر بقاتله ، وقيل : كان القاتل أخا القتيل ، وقيل : ابن أخيه ولا وارث له غيره فلما طال عليه عمره قتله ليرثه ، وقيل : إنه كان - تحت رجل يقال له عاميل - بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال فقتله ذو قرابة له لينكحها فكان ما كان ، وقرأ الجمهور - يأمركم - بضم الراء ، وعن أبي عمرو ، السكون ، والاختلاس - وإبدال الهمزة ألفا ، و(أن) تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر ، وهو على إسقاط حرف الجر - أي بأن تذبحوا قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل : فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أم لا؟ فأجيب بذلك ، والاتخاذ كالتصيير ، والجعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، وهُزُواً مفعوله الثاني ولكونه مصدرا لا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا لأنه خبر المبتدأ
في الحقيقة وهو اسم ذات هنا فيقدر مضاف - كمكان ، أو أهل - أو يجعل بمعنى المهزوء به كقوله تعالى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة : 96] أي مصيده أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة كرجل عدل ، وقد قالوا ذلك إما بعد أن أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة دون ذكر الاحياء بضربها ، وإما

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 286
بعد أن أمرهم وذكر لهم استبعادا لما قاله واستخفافا به كما يدل عليه الاستفهام إذ المعنى أتسخر بنا فإن جوابك لا يطابق سؤالنا ولا يليق ، وأين ما نحن فيه مما أنت آمر به ، ولا يأبى ذلك انقيادهم له لأنه بعد العلم بأنه جد وعزيمة ، ومن هنا قال بعضهم : إن إجابتهم نبيهم - حين أخبرهم عن أمر اللّه تعالى بأن يذبحوا بقرة بذلك دليل على سوء اعتقادهم بنبيهم وتكذيبهم له إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن اللّه تعالى لما استفهموا هذا الاستفهام ، ولا كانوا أجابوا هذا الجواب ، فهم قد كفروا بموسى عليه السلام. ومن الناس من قال : كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليه السلام داعبهم ، أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء ، فأجابوا بما أجابوا ، وقيل : استفهموا على سبيل الاسترشاد - لا على وجه الإنكار والعناد - وقرأ عاصم وابن محيصن «يتخذنا» - بالياء - على أن الضمير للّه تعالى. وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع «هزأ» بالإسكان ، وحفص عن عاصم - بالضم وقلب الهمزة واوا ، والباقون - بالضم والهمزة - والكل لغات فيه.
قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من أن أعد في عدادهم ، و- الجهل - كما قال الراغب - له معان ، عدم العلم ، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه ، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل - سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا - وهذا الأخير هو المراد هنا ، وقد نفاه عليه السلام عن نفسه قصدا إلى نفي ملزومه الذي رمى به - وهو الاستهزاء على طريق الكناية - وأخرج ذلك في صورة الاستعارة استفظاعا له ، إذ - الهزء - في مقام الإرشاد كاد يكون كفرا وما يجري مجراه ، ووقوعه في مقام الاحتقار والتهكم مثل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران : 21 - التوبة : 34 - الانشقاق : 24] سائغ شائع - وفرق بين المقامين - وذكر بعضهم أن الاستعاذة باللّه تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى : وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [المؤمنون : 97] لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك ، والأول أولى - وهو المعروف من إيراد الاستعاذة في أثناء الكلام - والفرق بين - الهزء والمزح - ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانا كما لا يخفى.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي سل لأجلنا رَبُّكَ الذي عوّدك ما عوّدك - يظهر لَنا ما حالها وصفتها ، فالسؤال في الحقيقة عن الصفة ، لأن الماهية ومسمى الاسم معلومان - ولا ثالث لهما - لتستعمل ما فيه ، أما إذا أريد بقرة معينة فظاهر لأنه استفسار لبيان المجمل - وإلا فلمكان التعجب - وتوهم أن مثل هذه البقرة لا تكون إلا معينة ، والجواب «على الأول» بيان «وعلى الثاني» نسخ وتشديد ، وهكذا الحال فيما سيأتي من السؤال والجواب.
وكان مقتضى الظاهر «على الأول» أي لأنها للسؤال عن المميز وصفا كان أو ذاتيا. «وعلى الثاني» كيف؟ لأنها موضوعة للسؤال عن الحال ، وما وإن سئل بها عن الوصف لكنه على سبيل الندور ، وهو إما مجاز أو اشتراك - كما صرح به في المفتاح - والغالب السؤال بها عن الجنس ، فإن أجريت هنا على الاستعمال الغالب نزل مجهول الصفة لكونه على صفة لم يوجد عليها جنسه - وهو إحياء الميت بضرب بعضه - منزلة مجهول الحقيقة فيكون سؤالا عن الجنس تنزيلا ، وعن الصفة حقيقة. وإن أجريت على النادر لم يحتج إلى التنزيل المذكور ، والقول إنه يمكن أن يجعل ما هِيَ على حذف مضاف - أي ما حالها؟ - فيكون سؤالا عن نوع حال تفرع عليه هذه الخاصية - على بعده - خال عن اللطافة اللائقة بشأن الكتاب العزيز. وما استفهامية خبر مقدم ل هِيَ والجملة في موضع نصب ب يُبَيِّنْ لأنه معلق عنها ، وجاز فيه ذلك لشبهه بأفعال القلوب ، والمعنى يُبَيِّنْ لَنا جواب هذا السؤال قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ الفارض اسم للمسنة التي انقطعت ولادتها من الكبر ، والفعل - فرضت - بفتح الراء

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 287
وضمها - ويقال لكل ما قدم وطال أمره فارِضٌ ومنه قوله :
يا رب ذي ضغن على (فارض) له قروء كقروء الحائض
وكأن المسنة سميت - فارضا - لأنها - فرضت - سنها أي قطعتها وبلغت آخرها ، و- البكر - اسم للصغيرة ، وزاد بعضهم - التي لم تلد من الصغر - وقال ابن قتيبة : هي التي ولدت ولدا واحدا ، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجال ، وقيل : «1» هي التي لم تحمل ، والبكر من الأولاد الأول ، ومن الحاجات الأولى - والبكر - بفتح الباء - الفتي من الإبل ، والأنثى - بكرة - وأصله من التقدم في الزمان ، ومنه - البكرة والباكورة - والاسمان صفة (بقرة) ولم يؤت - بالتاء - لأنهما اسمان لما ذكر ، واعترضت لا بين الصفة والموصوف وكررت لوجوب تكريرها مع الخبر والنعت والحال إلا في الضرورة خلافا للمبرد وابن كيسان كقوله :
قهرت العدا (لا مستعينا) بعصبة ولكن بأنواع الخدائع والمكر
ومن جعل ذلك من الوصف بالجمل فقدر مبتدأ أي لا هي (فارض ولا بكر) فقد أبعد ، إذ الأصل الوصف بالمفرد ، والأصل أيضا أن لا حذف ، وذكر يَقُولُ للإشارة إلى أنه من عند اللّه تعالى لا من عند نفسه.
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أي متوسطة السن ، وقيل : هي التي ولدت بطنا أو بطنين ، وقيل : مرة بعد مرة ويجمع على فعل كقوله :
طوال مثل أعناق الهوادي نواعم بين أبكار (و عون)
ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر ، وفائدة هذا بعد لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ نفى أن تكون عجلا أو جنينا ، وأراد من ذلك ما ذكر من الوصفين السابقين وبهذا صح الإفراد وإضافة بَيْنَ إليه فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد وكون الكلام مما حذف منه المعطوف لدلالة المعنى عليه والتقدير عوان بين ذلك وهذا أي - الفارض والبكر - فيكون نظير قوله :
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر (إلا ليال) قلائل
حيث أراد بين الخير وباعثه تكلف مستغنى عنه بما ذكر «2». واختار السجاوندي أن المراد في وسط زمان الصلاح للعوان واعتداله تقول : سافرت إلى الروم وطفت بين ذلك ، فالمشار إليه عوان وارتضاه بعض المحققين مدعيا أنه أولى لئلا يفوت معنى بين ذلك لأن أهل اللغة قالوا : بقرة عوان لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ وعلى الشائع ربما يحتاج الأمر إلى تجريدكما لا يخفى ، ثم إن عود الضمائر المذكورة في السؤال والجواب وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة لأن الأول يدل على أن الكلام في البقرة المأمور بذبحها ، والثاني يفيد أن المقصد تعيينها وإزالة إبهامها بتلك الصفات كما هو شأن الصفة لا أنها تكاليف متغايرة بخلاف ما إذا ذكر تلك الصفات بدون الإجراء ، وقيل : إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ فإنه يحتمل أن يكون المقصود منه تبديل الحكم السابق ، والقول : - بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجة عما عليه الجنس فسألوا عن حالها وصفتها فوقعت الضمائر لمعينة باعتقادهم فعينت تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد منها أول الأمر معينة - ليس بشيء لأنه حينئذ لم تكن الضمائر عائدة إلى ما أمروا بذبحها بل ما اعتقدوها ، والظاهر خلافه واللازم على هذا تأخير البيان عن
___________
(1) القائل ابن قتيبة ا ه منه. [.....]
(2) فيه لطاعة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 288
وقت الخطاب وليس بممتنع والممتنع تأخيره عن وقت الحاجة إلا عند من «1» يجوز التكليف بالمحال وليس بلازم إذ لا دليل على أن الأمر هنا للفور حتى يتوهم ذلك ومن الناس من أنكروا ذلك وادعوا أن المراد بها بقرة من نوع البقر بلا تعيين وكان يحصل الامتثال لو ذبحوا أي بقرة كانت إلا أنها انقلبت مخصوصة بسؤالهم - وإليه ذهب جماعة من أهل التفسير - وتمسكوا بظاهر اللفظ فإنه مطلق فيترك على إطلاقه مع ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما موقوفا لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد اللّه تعالى عليهم ، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا مرسلا وبأنه لو كانت معينة لما عنفهم على التمادي وزجرهم عن المراجعة إلى السؤال ، واللازم حينئذ النسخ قبل الفعل بناء على مذهب من يقول الزيادة على الكتاب نسخ كجماهير الحنفية القائلين بأن الأمر المطلق يتضمن التخيير وهو حكم شرعي والتقييد يرفعه وهو جائز بل واقع كما في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج ، والممتنع النسخ قبل التمكن من الاعتقاد بالاتفاق لأنه بداء وقبل التمكن من الفعل عند المعتزلة وليس بلازم - على ما قيل - على أنه قيل : يمكن أن يقال : ليس ذلك بنسخ لأن البقرة المطلقة متناولة للبقرة المخصوصة وذبح البقرة المخصوصة ذبح للبقرة مطلقا فهو امتثال للأمر الأولى فلا يكون نسخا واعترض على كون التخيير حكما شرعيا إلخ بالمنع مستندا بأن الأمر المطلق إنما يدل على إيجاب ماهية من حيث هي بلا شرط لكن لما لم تتحقق إلا في ضمن فرد معين جاء التخيير عقلا من غير دلالة النص عليه وإيجاب الشيء لا يقتضي إيجاب مقدمته العقلية إذ المراد بالوجوب الوجوب الشرعي ، ومن الجائز أن يعاقب المكلف على ترك ما يشمله مقدمة عقلية ولا يعاقب على ترك المقدمة ، ونسب هذا الاعتراض لمولانا القاضي في منهياته - وفيه تأمل - وذكر بعض المحققين أن تحقيق هذا
المقام أنه إن كان المراد بالبقرة المأمور بذبحها مطلق البقرة أي بقرة كانت فالنسخ جائز لأن شرط النسخ التمكن من الاعتقاد وهو حاصل بلا ريب ، وإن كان البقرة المعينة فلا يجوز النسخ لعدم التمكن من الاعتقاد حينئذ لأنه إنما حصل بعد الاستفسار فاختلاف العلماء في جواز النسخ وعدمه في هذا المقام من باب النزاع اللفظي فتدبر فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي من ذبح البقرة ولا تكرروا السؤال ولا تتعنتوا ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من قول اللّه تعالى لهم ، ويحتمل أن تكون من قول موسى عليه السلام حرضهم على امتثال ما أمروا به شفقة منه عليهم ، و(ما) موصولة والعائد محذوف أي ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به ، وقد شاع حذف الجار في هذا الفعل حتى لحق بالمتعدي إلى مفعولين فالمحذوف من أول الأمر هو المنصوب ، وأجاز بعضهم أن تكون (ما) مصدرية أي - فافعلوا أمركم - ويكون المصدر بمعنى المفعول كما في قوله تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات : 96] على أحد الوجهين ، وفيه بعد لأن ذلك في الحاصل بالسبك قليل وإنما كثر في صيغة المصدر.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إسناد البيان في كل مرة إلى اللّه عز وجل لإظهار كمال المساعدة في إجابة مسؤولهم وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة - والفقوع - أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه والوصف به للتأكيد - كأمس الدابر - وكذا في قولهم أبيض ناصع ، وأسود حالك ، وأحمر قان ، وأخضر ناضر ، ولَوْنُها مرفوع ب فاقِعٌ ولم يكتف بقوله صفراء فاقعة لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة فحكم عليها أنها صفراء ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة فابتدأ أولا بوصف البقرة بالصفرة ثم أكد ذلك بوصف اللون بها فكأنه قال : هي صفراء ولونها شديد الصفرة ، وعن الحسن سوداء شديدة السواد ولا يخفى أنه خلاف الظاهر
___________
(1) وإليه ذهب أكثر الحنفية وبعض الشافعية ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 289
لأن الصفرة - وإن استعملها العرب بهذا المعنى - نادرا كما أطلقوا الأسود على الأخضر لكنه في الإبل خاصة على ما قيل في قوله تعالى : جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات : 33] لأن سواد الإبل تشوبه صفرة وتأكيده بالفقوع ينافيه لأنه من وصف الصفرة في المشهور ، نعم ذكر في اللمع أنه يقال : أصفر فاقع ، وأحمر فاقع ، ويقال في الألوان : كلها فاقع وناصع إذا أخلصت فعليه لا يرد ما ذكر ، ومن الناس من قال : إن الصفرة استعيرت هنا للسواد ، وكذا فاقع لشديد السواد وهو ترشيح ويجعل سواده من جهة البريق واللمعان - وليس بشيء ، وجوز بعضهم أن يكون لَوْنُها مبتدأ وخبره إما فاقِعٌ أو الجملة بعده ، والتأنيث على أحد معنيين ، أحدهما لكونه أضيف إلى مؤنث كما قالوا : ذهبت بعض أصابعه ، والثاني أنه يراد به المؤنث إذ هو الصفرة فكأنه قال : صفرتها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ولا يخفى بعد ذلك. و- السرور - أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق ، وأما نفسه فانشراح مستبطن فيه - وبين السرور ، والحبور ، والفرح - تقارب لكن السرور هو الخالص المنكتم سمي بذلك اعتبارا بالإسرار ، والحبور ما يرى حبره - أي أثره - في ظاهر البشرة وهما يستعملان في المحمود. وأما الفرح فما يحصل بطرا وأشرا ولذلك كثيرا ما يذم كما قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص : 76] والمراد به هنا عند بعض الإعجاب مجازا للزومه له غالبا ، والجملة صفة البقرة أي تعجب الناظرين إليها. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ولهذا
كان علي كرم اللّه تعالى وجهه يرغب في النعال الصفر ويقول من لبس نعلا أصفر قل همه ،
ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود لأنها تغم ، وقرى ء - يسر - بالياء فيحتمل أن يكون لَوْنُها مبتدأ - ويسر - خبره ويكون فاقِعٌ صفة تابعة لصفراء على حد قوله :
وإني لأسقي الشرب (صفراء فاقعا) كأن ذكي المسك فيها يفتق
إلا أنه قليل حتى قيل : بابه الشعر ، ويحتمل أن يكون لونها فاعلا ب فاقِعٌ و- يسر - إخبار مستأنف.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إعادة للسؤال عن الحال والصفة لا لرد الجواب الأول - بأنه غير مطابق وأن السؤال باق على حاله - بل لطلب الكشف الزائد على ما حصل وإظهار أنه لم يحصل البيان التام.
إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا تعليل لقوله تعالى : ادْعُ كما في قوله تعالى : صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة : 103] وهو اعتذار لتكرير السؤال أي إن البقر الموصوف بما ذكر كثير فاشتبه علينا ، والتشابه مشهور في البقر ، وفي الحديث «فتن كوجوه البقر»
أي يشبه بعضها بعضا وقرأ يحيى وعكرمة - والباقر ان الباقر - وهو اسم لجماعة البقر ، والبقر اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء ومثله يجوز تذكيره وتأنيثه ، - كنخل منقعر ، والنخل باسقات - وجمعه أباقر ، ويقال فيه : بيقور وجمعه بواقر ، وفي البحر إنما سمي هذا الحيوان بذلك لأنه يبقر الأرض أي يشقها للحرث ، وقرأ الحسن «تشابه» بضم الهاء جعله مضارعا محذوف التاء وماضيه «تشابه» - وفيه ضمير يعود على البقر على أنه مؤنث ، والأعرج كذلك إلا أنه شدد الشين ، والأصل - تتشابه - فأدغم ، وقرىء تشبه - بتشديد الشين - على صيغة المؤنث من المضارع المعلوم ، «ويشبه» بالياء والتشديد على صيغة المضارع المعلوم أيضا ، وابن مسعود - «يشّابه» - بالياء والتشديد جعله مضارعا من تفاعل لكنه أدغم التاء في الشين ، وقرىء «مشتبه» ، و«متشبه» ، و«يتشابه» - والأعمش - «متشابه» و«متشابهة» - وقرى ء - «تشابهت» - بالتخفيف ، وفي مصحف أبيّ بالتشديد ، واستشكل بأن التاء لا تدغم إلا في المضارع ، وليس في زنة الأفعال فعل ماض على تفاعل بتشديد الفاء ووجه بأن أصله - إن البقرة تشابهت - فالتاء الأولى من البقرة ، والثانية من الفعل فلما اجتمع مثلان أدغم نحو - الشجرة تمايلت - إلا أن جعل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 290
التشابه في بقرة ركيك ، والأهون القول بعدم ثبوت هذه القراءة فإن دون تصحيحها على وجه وجيه خرط القتاد ، ويشكل أيضا - تشابه - من غير تأنيث لأنه كان يجب ثبوت علامته إلا أن يقال : إنه على حد قوله :
ولا أرض أبقل إبقالها وابن كيسان يجوزه في السعة وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أي إلى عين البقرة المأمور بذبحها ، أو لما خفي من أمر القاتل ، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا ، وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس - مرفوعا معضلا - وسعيد عن عكرمة - مرفوعا مرسلا - وابن أبي حاتم عن أبي هريرة - مرفوعا موصولا - أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «لو لم يستثنوا لما تبينت لهم آخر الأبد»
واحتج بالآية على أن الحوادث بإرادة اللّه حيث علق فيما حكاه وجود الاهتداء الذي هو من جملة الحوادث بتعلق المشيئة وهي نفس الإرادة وما قصه اللّه تعالى في كتابه من غير نكير فهو حجة على ما عرف في محله ، وهذا مبني على القول بترادف المشيئة والإرادة ، وفيه خلاف وأن كون ما ذكر بالإرادة مستلزم لكون جميع الحوادث بها - وفيه نظر - واحتج أيضا بها على أن الأمر قد ينفك عن الإرادة وليس هو الإرادة كما يقوله المعتزلة لأنه تعالى لما أمرهم بالذبح فقد أراد اهتداءهم في هذه الواقعة فلا يكون لقوله : إن شاء اللّه الدال على الشك وعدم تحقق الاهتداء فائدة بخلاف ما إذا قلنا : إنه تعالى قد يأمر بما لا يريد ، والقول بأنه يجوز أن يكون أولئك معتقدين على خلاف الواقع للانفكاك ، أو يكون مبنيا على ترددهم في كون الأمر منه تعالى يدفعه التقرير إلا أنه يرد أن الاحتجاج إنما يتم لو كان معنى لَمُهْتَدُونَ الاهتداء إلى المراد بالأمر أما لو كان المراد إن شاء اللّه اهتداءنا في أمر ما لكنا مهتدين فلا إلا أنه خلاف الظاهر كالقول بأن اللازم أن يكون المأمور به وهو الذبح مرادا ولا يلزمه الاهتداء إذ يجوز أن يكون لتلك الإرادة حكمة أخرى بل هذا أبعد بعيد ، والمعتزلة والكرامية يحتجون بالآية على حدوث إرادته تعالى بناء على أنها والمشيئة سواء لأن كلمة إِنَّ دالة على حصول الشرط في الاستقبال وقد تعلق الاهتداء الحادث بها ، ويجاب بأن التعليق باعتبار التعلق فاللازم حدوث التعلق ولا يلزمه حدوث نفس الصفة وتوسط الشرط بين اسم إِنَّ وخبرها لتتوافق رؤوس الآي ، وجاء خبر إِنَّ اسما لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم وللاعتناء بذلك
أكد الكلام.
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ صفة بَقَرَةٌ وهو من الوصف بالمفرد ، ومن قال : هو من الوصف بالجملة ، وان التقدير لا هي ذلول فقد أبعد عن الصواب ، ولا بمعنى غير ، وهو اسم على ما صرح به السخاوي وغيره لكن لكونها في صورة الحرف ظهر إعرابها فيما بعدها ، ويحتمل أن تكون حرفا - كالا - التي بمعنى غير في مثل قوله تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء : 22] و- الذلول - الريض الذي زالت صعوبته يقال دابة ذلول بينة الذل بالكسر ، ورجل ذلول بين الذل بالضم تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ (لا) صلة لازمة لوجوب التكرار في هذه الصورة وهي مفيدة للتصريح بعموم النفي إذ بدونها يحتمل أن يكون لنفي الاجتماع ، ولذا تسمى المذكرة و- الإثارة - قلب الأرض للزراعة من أثرته إذا هيجته ، والْحَرْثَ الأرض المهيأة للزرع أو هو شق الأرض ليبذر فيها ويطلق على ما حرث وزرع ، وعلى نفس الزرع أيضا ، والفعلان صفتا ذَلُولٌ والصفة يجوز وصفها على ما ارتضاه بعض النحاة وصرح به السمين والفعل الأول داخل في حيز النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض - أي لا تثير الأرض - فتذل فهو من باب على لا حب لا يهتدي بمناره ففيه نفي للأصل والفرع معا ، وانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم ، قال الحسن : كانت هذه البقرة وحشية ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض إلخ ، وذهب قوم إلى أن تثير مثبت لفظا ومعنى ، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ونفى عنها سقي الحرث ، ورد بأن ما كان يحرث لا ينتفي عنه كونه

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 291
ذلولا ، وقال بعض : المراد أنها تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا ، ومن عادة البقر إذا بطرت تضرب بقرونها وأظلافها فتثير تراب الأرض. فيكون هذا من تمام قوله لا ذَلُولٌ لأن وصفها بالمرح ، والبطر دليل على ذلك - وليس عندي بالبعيد - وذهب بعضهم كما في الكواشي إلى أن جملة تُثِيرُ في محل نصب على الحال ، قال ابن عطية : ولا يجوز ذلك لأنها من نكرة ، واعترض بأنه إن أراد بالنكرة بقرة فقد وصفت ، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا وإن أراد بها لا ذَلُولٌ فمذهب سيبويه جواز مجيء الحال من النكرة وإن لم توصف ، وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه اللهم إلا أن يقال : إنه تبع الجمهور في ذلك - وهم على المنع - وجعل الجملة حالا من الضمير المستكن في ذلول أي لا ذَلُولٌ في حال إثارتها ليس بشيء ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : لا ذَلُولٌ بالفتح ف لا للتبرئة ، والخبر محذوف أي هناك ، والمراد مكان جدت هي فيه ، والجملة صفة ذلول ، وهو نفي لأن توصف بالذل ، ويقال : هي ذلول بطريق الكناية لأنه لو كان في مكان البقرة لكانت موصوفة به ضرورة اقتضاء الصفة للموصوف ، فلما لم يكن في مكانها لم تكن موصوفة به فهذا كقولهم محل - فلان - مظنة الجود والكرم ، وهذا أولى مما قيل : إن تُثِيرُ خبر لا والجملة معترضة بين الصفة والموصوف لأنه أبلغ كما لا يخفى ، وبعضهم خرج القراءة على البناء نظرا إلى صورة لا كما - في كنت بلا مال - بالفتح ، وليس بشيء لأن ذلك مقصور على مورد السماع ، وليس بقياسي على ما يشعر به كلام الرضي «1» وقرىء «تسقى» بضم حرف المضارعة من أسقى بمعنى سقى ، وبعض فرق بينهما بأن سقى لنفسه ، وأسقى لغيره كماشيته وأرضه.
مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها أي سلمها اللّه تعالى من العيوب قاله ابن عباس ، أو أعفاها أهلها من سائر أنواع الاستعمال قاله الحسن ، أو مطهرة من الحرام لا غصب فيها ولا سرقة قاله عطاء ، أو أخلص لونها من الشيات قاله مجاهد ، والأولى ما ذهب إليه ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لأن المطلق ينصرف إلى الكامل ولكونه تأسيسا ، وعلى آخر الأقوال يكون لا شِيَةَ فِيها أي لا لون فيها يخالف لونها تأكيدا والتضعيف هنا للنقل والتعدية ، ووهم غير واحد فزعم أنه للمبالغة ، و- الشية - مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا إذا زينته بخطوط مختلفة الألوان فحذف فاؤه - كعدة وزنة - ومنه الواشي للنمام ، قيل : ولا يقال له : واش حتى يغير كلامه ويزينه ، ويقال : ثور أشيه ، وفرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وغراب أبقع - كل ذلك بمعنى البلقة - وفي البحر ليس الأشيه في قولهم : ثور أشيه للذي فيه بلق مأخوذا من الشية لاختلاف المادتين ، و- شية - اسم لا وفِيها خبره.
قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي أظهرت حقيقة ما أمرنا به فالحق هنا بمعنى الحقيقة ، وقيل : بمعنى الأمر المقضي أو اللازم ، وقيل : بمعنى القول المطابق للواقع ولم يريدوا أن ما سبق لم يكن حقا بل أرادوا أنه لم يظهر الحق به كمال الظهور فلم يجىء بالحق بل أومأ إليه فعلى هذه الأقوال لم يكفروا بهذا القول ، وأجراه قتادة على ظاهرة وجعله - متضمنا أن ما جئت به من قبل - كان باطلا فقال : إنهم كفروا بهذا القول ، والأولى عدم الإكفار ، والْآنَ ظرف زمان لازم البناء على الفتح ولا يجوز تجريده من - أل - واستعماله على خلافه لحن ، وهي تقتضي الحال وتخلص المضارع له غالبا ، وقد جاءت حيث لا يمكن أن تكون له نحو فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة : 187] إذ الأمر نص في الاستقبال وادعى بعضهم إعرابها لقوله
كأنهما ملآن لم يتغيرا
يريد من الآن فجره وهو يحتمل البناء على الكسر ، و___________
(1) فإنه قال : ربما فتح نظرا إلى لفظة (لا) فقيل : كنت بلا مال ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 292
(أل) فيها للحضور عند بعض ، وزائدة عند آخرين ، وبنيت لتضمنها معنى الإشارة أو لتضمنها معنى - أل - التعريفية - كسحر - وقرىء لان بالمد على الاستفهام التقريري إشارة إلى استبطائه وانتظارهم له.
وقرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وعنه روايتان حذف واو «قالوا» وإثباتها فَذَبَحُوها أي فطلبوا هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها فَذَبَحُوها فالفاء فصيحة عاطفة على محذوف إذ لا يترتب الذبح على مجرد الأمر بالذبح ، وبيان صفتها وحذف لدلالة الذبح عليه ، وتحصيلها كان باشترائها من الشاب البار بأبويه كما تظافرت عليه أقوال أكثر المفسرين والقصة مشهورة ، وقيل : - كانت وحشية فأخذوها ، وقيل : لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها اللّه تعالى من السماء - وهو قول هابط إلى تخوم الأرض ، قيل : ووجه الحكمة في جعل البقرة آلة دون غيرها من البهائم أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل وحبب ذلك في قلوبهم ، لقوله تعالى : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة : 93] ثم بعد ما تابوا أراد اللّه تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم ليكون حقيقة لتوبتهم ، وقيل :
ولعله ألطف وأولى إن الحكمة في هذا الأمر إظهار توبيخهم في عبادة العجل بأنكم كيف عبدتم ما هو في صورة البقرة مع أن الطبع لا يقبل أن يخلق اللّه تعالى فيه خاصية يحيا بها ميت بمعجزة نبي؟! وكيف قبلتم قول السامري إنه إلهكم وها أنتم لا تقبلون قول اللّه سبحانه : إنه يحيا بضرب لحمة منه الميت سبحان اللّه تعالى؟ هذا الخرق العظيم وَما كادُوا يَفْعَلُونَ كنى على الذبح بالفعل أي - وما كادوا يذبحون - واحتمال أن يكون المراد وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ما أمروا به بعد الذبح من ضرب بعضها على الميت بعيد ، و- كاد - موضوعة لدنو الخبر حصولا ولا يكون خبرها في المشهور إلا مضارعا دالا على الحال لتأكيد القرب ، واختلف فيها فقيل : هي في الإثبات نفي وفي النفي إثبات ، فمعنى - كاد زيد يخرج - قارب ولم يخرج وهو فاسد لأن معناها مقاربة الخروج ، وأما عدمه فأمر عقلي خارج عن المدلول ولو صح ما قاله لكان قارب ونحوه كذلك ولم يقل به أحد ، وقيل : هي في الإثبات إثبات وفي النفي الماضي إثبات وفي المستقبل على قياس الأفعال.
وتمسك القائل بهذه الآية لأنه لو كان معنى وَما كادُوا هنا نفيا للفعل عنهم لناقض قوله تعالى : فَذَبَحُوها حيث دل على ثبوت الفعل لهم والحق إنها في الإثبات والنفي كسائر الأفعال ، فمثبتها لإثبات القرب ، ومنفيها لنفيه ، والنفي والإثبات في الآية محمولان على اختلاف الوقتين أو الاعتبارين فلا تناقض إذ من شرطه اتحاد الزمان والاعتبار ، والمعنى أنهم ما قاربوا ذبحها حتى انقطعت تعللاتهم فذبحوا كالملجأ أو فذبحوها ائتمارا وَما كادُوا من الذبح خوفا من الفضيحة أو استثقالا لعلو ثمنها حيث روي أنهم اشتروها بملء جلدها ذهبا ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، واستشكل القول باختلاف الوقتين بأن الجملة حال من فاعل فَذَبَحُوها فيجب مقارنة مضمونها لمضمون العامل ، والجواب بأنهم صرحوا بأنه قد يقيد بالماضي فإن كان مثبتا قرن - بقد - لتقربه من الحال وإن كان منفيا - كما هنا - لم يقرن بها لأن الأصل استمرار النفي فيفيد المقاربة لا يجدي نفعا لأن عدم مقاربة الفعل لا يتصور مقارنتها له ، ولهذا عول بعض المتأخرين في الجواب على أن وَما كادُوا يَفْعَلُونَ كناية عن تعسر الفعل وثقله عليهم وهو مستمر باق ، وقد صرح في شرح التسهيل أنه قد يقول القائل - لم يكد زيد يفعل - ومراده أنه فعل بعسر لا بسهولة وهو خلاف الظاهر الذي وضع له اللفظ فافهم وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً أي شخصا أو ذا نفس ، ونسبة القتل إلى المخاطبين لوجوده فيهم على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح ، وقول بعضهم : - إنه لا يحسن إسناد فعل أو قول صدر عن البعض إلى الكل إلا إذا صدر عنه بمظاهرتهم أو رضا منهم - غير مسلم ، نعم لا بد لإسناده إلى الكل من نكتة ما ، ولعلها هنا الإشارة إلى أن الكل بحيث لا يبعد صدور القتل منهم لمزيد حرصهم وكثرة طمعهم وعظم جرأتهم.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 293
فهم كأصابع الكفين طبعا وكل منهم طمع جسور
وقيل : إن القاتل جمع وهم ورثة المقتول ، وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله ، ولهذا نسب القتل إلى الجمع فَادَّارَأْتُمْ فِيها أصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع فاجتمعت التاء والدال مع تقارب مخرجيهما وأريد الإدغام فقلبت التاء دالا وسكنت للإدغام فاجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بها ، وهذا مطرد في كل فعل على تفاعل أو تفعل فاؤه - تاء أو طاء أو ظاء ، أو صاد أو ضاد - والتدارؤ هنا إما مجاز عن الاختلاف والاختصام ، أو كناية عنه إذ المتخاصمان يدفع كل منهما الآخر أو مستعمل في حقيقته أعني التدافع بأن طرح قتلها كل عن نفسه إلى صاحبه فكل منهما من حيث إنه مطروح عليه يدفع الآخر من حيث إنه طارح ، وقيل : إن طرح القتل في نفسه نفس دفع الصاحب - وكل من الطارحين دافع فتطارحهما - تدافع ، وقيل : إن كلّا منهما يدفع الآخر عن البراءة إلى التهمة فإذا قال أحدهما :
أنا بريء وأنت متهم يقول الآخر : بل أنت المتهم وأنا البريء ولا يخفى أن ما ذكر على ما فيه بالمجاز أليق ، ولهذا عد ذلك أبو حيان من المجاز ، والضمير في فِيها عائد على النفس ، وقيل : على القتلة المفهومة من الفعل ، وقيل : على التهمة الدال عليها معنى الكلام ، وقرأ أبو حيوة - «فتدارأتم» - على الأصل ، وقيل : قرأ هو وأبو السوار - «فادرأتم» - بغير ألف قبل الراء ، وإن طائفة أخرى قرؤوا - «فتدارأتم» - وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر لا محالة ما كنتم تكتمونه من أمر القتيل ، والقاتل كما يشير إليه بناء الجملة الاسمية وبناء اسم الفاعل على المبتدأ المفيد لتأكيد الحكم وتقويه - وذلك بطريق التفضل عندنا - والوجوب عند المعتزلة وتقدير المتعلق خاصا هو ما عليه الجمهور ، وقيل : يجوز أن يكون عاما في القتيل وغيره ، ويكون القتيل من جملة أفراده ، وفيه نظر إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره اللّه تعالى ، وأعمل مُخْرِجٌ لأنه مستقبل بالنسبة للحكم الذي قبله ، وهو التدارؤ ومضيه الآن لا يضر والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار. وفي البحر - إن كان - للدلالة على تقدم الكتمان.
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
عطف على قوله تعالى : فَادَّارَأْتُمْ وما بينهما اعتراض يفيد أن كتمان القاتل لا ينفعه ، وقيل : حال أي والحال أنكم تعلمون ذلك ، والهاء في اضْرِبُوهُ
عائد على النفس بناء على تذكيرها إذ فيها التأنيث - وهو الأشهر - والتذكير ، أو على تأويل الشخص أو القتيل ، أو على أن الكلام على حذف مضاف أي ذا نفس ، وبعد الحذف أقيم المضاف إليه مقامه ، وقيل : الأظهر أن التذكير لتذكير المعنى ، وإذا كان اللفظ مذكرا والمعنى مؤنثا أو بالعكس فوجهان ، وذكر هذا الضمير - مع سبق التأنيث - تفننا أو تمييزا بين هذا الضمير والضمير الذي بعده توضيحا ، والظاهر أن المراد بالبعض أي بعض كان إذ لا فائدة في تعينه - ولم يرد به نقل صحيح - واختلف بم ضربوه فقيل : بلسانها أو بأصغريها أو بفخذها اليمنى أو بذنبها أو بالغضروف «1» أو بالعظم الذي يلين أو بالبضعة التي بين الكتفين أو بالعجب أو بعظم من عظامها ، ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل ، وذلك قبل دفنه ، ومن قال : إنهم مكثوا في تطلبها أربعين سنة أو أنهم أمروا بطلبها ولم تكن في صلب ولا رحم قال : إن الضرب على القبر بعد الدفن ، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر ، وفي بعض الآثار أنه قام وأوداجه تشخب دما ، فقال : قتلني ابن أخي ، وفي رواية فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا وما ورث قاتل بعد ذلك ، وفي بعض القصص أن القاتل حلف باللّه تعالى ما قتلته فكذب بالحق بعد معاينته قال الماوردي : وإنما كان الضرب بميت لا حياة فيه لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به فلإزالة الشبهة وتأكد الحجة كان ذلك كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
جملة
___________
(1) هو أصل الأذن ا ه منه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 294
اعتراضية تفيد تحقق المشبه وتيقنه بتشبيه الموعود بالموجود ، والمماثلة في مطلق الإحياء ، وفي الكلام حذف دلت عليه الجملة أي فضربوه فحيي ، والتكلم من اللّه تعالى مع من حضر وقت الحياة - والكاف - خطاب لكل من يصح أن يخاطب ويسمع هذا الكلام لأن أمر الإحياء عظيم يقتضي الاعتناء بشأنه أن يخاطب به كل من يصح منه الاستماع فيدخل فيه أولئك دخولا أوليا - ويدل على ذلك قوله تعالى : وَيُرِيكُمْ
إلخ ولا بد على هذا من تقدير القول أي قلنا أو وقلنا لهم كذلك ليرتبط الكلام بما قبله ، وقيل : حرف الخطاب مصروف إليهم ، وكان الظاهر كذلكم على وفق ما بعده إلا أنه أفرده بإرادة كل واحد أو بتأويل فريق ونحوه قصدا للتخفيف ، ويحتمل أن يكون التكلم مع من حضر نزول الآية ، وعليه لا تقدير إذ ينتظم بدونه بل ربما يخرج معه من الانتظام ، وأبعد الماوردي فجعله خطابا من موسى نفسه عليه السلام وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
مستأنف أو معطوف على ما قبله ، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى ، والمراد بها الدلائل الدالة على أن اللّه تعالى على كل شيء قدير ، ويجوز أن يراد بها هذا الإحياء ، والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت ، وإخبار الميت بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادات ، وفي المنتخب أن التعبير عن الآية الواحدة بالآيات لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه السلام ، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا ، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر القتل لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
أي لكي تعقلوا الحياة بعد الموت والبعث والحشر فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان : 28] أو لكي يكمل عقلكم أو لعلكم تمتنعون من عصيانه وتعملون على قضية عقولكم ، وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتيل ولا يظهر ذلك من الآية ولا أرى لذكر ذلك طائلا سوى الطول هذا.
«ومن باب الإشارة» إن البقرة هي النفس الحيوانية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة النظر لا تثير أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة ولا تسقي حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة بمياه التوجه إلى حضرة القدس والسير إلى رياض الأنس ، وقد سلمت لترعى أزهار الشهوات ولم تقيد بقيود الآداب والطاعات فلم يرسخ فيها مذهب واعتقاد ، ولم يظهر عليها ما أودع فيها من أنوار الاستعداد ، وذبحها قمع هواها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة فمن أراد أن يحيا قلبه حياة طيبة ويتحلى بالمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وينكشف له حال الملك والملكوت وتظهر له أسرار اللاهوت والجبروت ويرتفع ما بين عقله ووهمه من التدارؤ والنزاع الحاصل بسبب الإلف للمحسوسات فليذبحها وليوصل أثره إلى قلبه الميت فهناك يخرج المكتوم وتفيض بحار العلوم وهذا الذبح هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر وعقباه الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية
ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
وقد أشير بالشيخ والعجوز والطفل والشاب المقتول على ما في بعض الآثار في هذه القصة إلى الروح والطبيعة الجسمانية والعقل والقلب وتطبيق سائر ما في القصة بعد هذا إليك هذا وسلام اللّه تعالى عليك.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ القسوة في الأصل اليبس والصلابة وقد شبهت هنا حال قلوبهم وهي نبوها عن الاعتبار بحال قسوة الحجارة في أنها لا يجري فيها لطف العمل ففي قَسَتْ استعارة تبعية أو تمثيلية ، وثُمَّ لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها ، وقيل : إنها للتراخي في الزمان لأنهم قست قلوبهم بعد مدة حين قالوا : إن الميت كذب عليهم أو أنه عبارة عن قسوة عقبهم ، والضمير في قُلُوبُكُمْ لورثة القتيل عند ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وعند

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 295
أبي العالية وغيره لبني إسرائيل مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي إحياء القتيل ، وقيل : كلامه ، وقيل : ما سبق من الآيات التي علموها - كمسخهم قردة وخنازير ، ورفع الجبل ، وانبجاس الماء والإحياء - وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وعليه تكون ثُمَّ قَسَتْ إلخ عطفا على مضمون جميع القصص السابقة والآيات المذكورة ، وعلى سابقه تكون عطفا على قصة وَإِذْ قَتَلْتُمْ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أي في القسوة وعدم التأثر والجمع لجمع القلوب وللإشارة إلى أنها متفاوتة في القسوة كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة - والكاف - للتشبيه وهي حرف عند سيبويه ، وجمهور النحويين والأخفش يدعي اسميتها وهي متعلقة هنا بمحذوف أي كائنة كالحجارة خلافا لابن عصفور إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أي من الحجارة فهي كالحديد مثلا أو كشيء لا يتأثر أصلا ولو وهما ، وأَوْ لتخيير المبالغ ويكون في التشبيه كما يكون بعد الأمر أو للتنويع أي بعض كَالْحِجارَةِ وبعض أَشَدُّ أو للترديد بمعنى تجويز الأمرين مع قطع النظر عن الغير على ما قيل ، أو بمعنى بل ويحتاج إلى تقدير مبتدأ إذا قلنا باختصاص ذلك بالجمل ، أو بمعنى الواو أو للشك وهو لاستحالته عليه تعالى يصرف إلى الغير والعلامة لا يرتضي ذلك لما أنه يؤدي إلى تجويز أن يكون معاني الحروف بالقياس إلى السامع ، وفيه إخراج للألفاظ عن أوضاعها فإنها إنما وضعت ليعبر بها المتكلم عما في ضميره ، والحق جواز اعتبار السامع في معاني الألفاظ عند امتناع جريها على الأصل بالنظر إلى المتكلم فلا بأس بأن يسلك ب أَوْ في الشك مسلك لعل في الترجي الواقع في كلامه تعالى فتلك جادة مسلوكة لأهل السنة وقد مرت الإشارة إلى ذلك فتذكر ، وأَشَدُّ عطف على كَالْحِجارَةِ من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول :
زيد على سفر أو مقيم ، وقدر بعضهم أو هي أَشَدُّ فيصير من عطف الجمل ، ومن الناس من يقدر مضافا محذوفا أي مثل ما هو أشد ، ويجعله معطوفا على الكاف إن كان اسما أو مجموع الجار والمجرور إذا كان حرفا ، ثم لما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه ، ولا يخفى أن اعتبار التشبيه في جانب المعطوف بدون عطفه على المجرور بالكاف مستبعد جدا ، وقرأ الأعمش أَوْ أَشَدُّ مجرورا بالفتحة لكونه غير منصرف للوصف ووزن الفعل وهو عطف على الحجارة واعتبار التشبيه حينئذ ظاهر وإنما لم يقل سبحانه وتعالى - أقسى - مع أن فعل القسوة مما يصاغ منه أفعل وهو أخصر ووارد في الفصيح كقوله :
كل خمصانة أرق من الخم ر بقلب (أقسى) من الجلمود
لما في أشد من المبالغة لأنه يدل على الزيادة بجوهره وهيئته بخلاف أقسى فإن دلالته بالهيئة فقط ، وفيه دلالة على اشتداد القسوتين ولو كان أقسى لكان دالا على اشتراك القلوب والحجارة في القسوة ، واشتمال القلوب على زيادة القسوة لا في شدة القسوة وليس هذا مثل قولك زيد أشد إكراما من عمرو حيث ذكروا أن ليس معناه إلا أنهما مشتركان في الإكرام وإكرام زيد زيد على إكرام عمرو لا أنهما مشتركان في شدة الإكرام ، وشدة إكرام زيد زائدة على شدة إكرام عمرو للفرق بين ما بني للتوصل وما بني لغيره وما نحن فيه من الثاني وإن كان الأول أكثر. والاعتراض - بأن أشد محمول على القلوب دون القسوة - ليس بشيء لأنه محمول عليها بحسب المعنى لكونها تمييزا محولا عن الفاعل أو منقولا عن المبتدأ كما في البحر ، ويمكن أن يقال : إن اللّه تعالى أبرز القساوة في معرض العيوب الظاهرة تنبيها على أنها من العيوب بل العيب كل العيب ما صد عن عالم الغيب فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج : 46].
وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تذييل لبيان تفضيل قلوبهم على الحجارة أو اعتراض بين قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ وبين الحال

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 296
عنها وهو وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ لبيان سبب ذلك فإنه لغرابته يحتاج إلى بيان السبب كما في قوله :
فلا هجرة يبدو وفي اليأس راحة ولا وصفه يصفو لنا (فنكارمه)
وجعله جملة حالية مشعرة بالتعليل يأباه الذوق إذ لا معنى للتقييد ، وكونه بيانا وتقريرا من جهة المعنى لما تقدم - مع كونه بحسب اللفظ معطوفا على جملة - هي كالحجارة أو أشد - كما قاله العلامة - مما لا يظهر وجهه لأنه إذا كان بيانا في المعنى كيف يصح عطفه ويترك جعله بيانا ، والمعنى أن الحجارة تتأثر وتنفعل ، وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمر اللّه تعالى أصلا ، وقد ترقى سبحانه في بيان التفضيل كأنه بين أو لا تفضيل قلوبهم في القساوة على الحجارة التي تتأثر تأثرا يترتب عليه منفعة عظيمة من تفجر الأنهار ، ثم على الحجارة التي تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة من خروج الماء ثم على الحجارة التي تتأثر من غير منفعة فكأنه قال سبحانه : قلوب هؤلاء أشد قسوة من الحجارة لأنها لا تتأثر بحيث يترتب عليه المنفعة العظيمة بل الحقيرة بل لا تتأثر أصلا ، وبما ذكر يظهر نكتة ذكر تفجر الأنهار وخروج الماء ، وترك فائدة الهبوط ، وذكر غير واحد أن الآية واردة على نهج التتميم دون الترقي - كالرحمن الرحيم - إذ لو أريد الترقي لقيل - وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يتفجر منه الأنهار - وفائدته استيعاب جميع الانفعالات التي على خلاف طبيعة هذا الجوهر ، وهو أبلغ من الترقي ، ويكون وَإِنَّ مِنْها الأخير تتميما للتتميم ، ولا يخفى أنه يرد عليه منع إفادته لاستيعاب جميع الانفعالات وخلوه عن لطافة ما ذكرناه ، و- التفجر - التفتح بسعة وكثرة كما يدل عليه جوهر الكلمة وبناء التفعل ، والمراد من الأنهار الماء الكثير الذي يجري في الأنهار ، والكلام إما على حذف المضاف ، أو ذكر المحل وإرادة الحال أو الإسناد مجازي ، قال بعض المحققين : وحملها على المعنى الحقيقي وهم إذ التفتح لا يمكن إسناده إلى الأنهار اللهم إلا بتضمين معنى الحصول بأن يقال : يتفجر ويحصل منه الأنهار على أن تفجير الحجارة بحيث تصير نهرا غير معتاد فضلا عن
كونها أنهارا ، والتشقق التصدع بطول أو بعرض ، والخشية الخوف ، واختلف في المراد منها فذهب قوم - وهو المروي عن مجاهد وغيره - أنها هنا حقيقة ، وهي مضافة إلى الاسم الكريم من إضافة المصدر إلى مفعوله - أي من خشية الحجارة اللّه - ويجوز أن يخلق اللّه تعالى العقل والحياة في الحجر ، واعتدال المزاج والبنية ليسا شرطا في ذلك خلافا للمعتزلة ، وظواهر الآيات ناطقة بذلك ، وفي الصحيح «إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث»
وأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه ، وورد في - الحجر الأسود - أنه يشهد لمن استلمه ، وحديث تسبيح الحصى بكفه الشريف صلّى اللّه عليه وسلّم مشهور ، وقيل : هي حقيقة ، والإضافة هي الإضافة إلا أن الفاعل محذوف هو العباد ، والمعنى أن مِنَ الْحِجارَةِ ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزال من خشية عباد اللّه تعالى إياه ، وتحقيقه أنه لما كان المقصود منها خشية اللّه تعالى صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط فيؤول المعنى أنه يهبط من أجل أن يحصل خشية العباد اللّه تعالى.
وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة ، وأن الضمير في مِنْها لَما يَهْبِطُ عائد على القلوب ، والمعنى أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن وترجع إلى اللّه تعالى ، وهي قلوب المخلصين ، فكني عن ذلك بالهبوط ، وقيل : إنها حقيقة إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل ، والمراد بالحجر البرد ، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله وهذا القول أبرد من الثلج وما قبله أكثف من الحجر وما قبلهما بين بين وقال قوم : إن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر اللّه تعالى إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم ، ولا ينبغي أن تحمل على حقيقتها ، أما على القول بأن اعتدال المزاج والبنية شرط وما ورد مما يقتضي خلافه محمول على أن اللّه تعالى قرن ملائكته بتلك الجمادات ، ومنها هاتيك الأفعال ونحو «هذا جبل يحبنا ونحبه» على حذف مضاف أي يحبنا أهله ونحب أهله فظاهر.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 297
وأما على القول بعدم الاشتراط فلأن الهبوط والخشية على تقدير خلق العقل والحياة لا يصح أن يكون بيانا لكون الحجارة في نفسها أقل قسوة - وهو المناسب للمقام - والاعتراض بأن قلوبهم إنما تمتنع عن الانقياد لأمر التكليف بطريق القصد والاختيار ولا تمتنع عما يراد بها على طريق القسر والإلجاء كما في الحجارة وعلى هذا لا يتم ما ذكر ، فالأولى الحمل على الحقيقة أجيب عنه بأن المراد أن قلوبهم أقسى من الحجارة لقبولها التأثر الذي يليق بها وخلقت لأجله بخلاف قلوبهم فإنها تنبو عن التأثر الذي يليق بها وخلقت له ، والجواب بأن ما رأوه من الآيات مما يقسر القلب ويلجئه فلما لم تتأثر قلوبهم عن القاسرات الكثيرة ويتأثر الحجر من قاسر واحد تكون قلوبهم أَشَدُّ قَسْوَةً لا يخلو عن نظر لأنه إن أريد بذلك المبالغة في الدلالة على الصدق فلا ينفع ، وإن أريد به حقيقة الإلجاء فممنوع ، وإلا لما تخلف عنها التأثر ولما استحق من آمنبعد رؤيتها الثواب لكونه إيمانا اضطراريا - ولم يقل به أحد - ثم الظاهر على هذا تعلق خشية اللّه بالأفعال الثلاثة السابقة وقرىء وَإِنَّ على أنها المخففة من الثقيلة ويلزمها - اللام - الفارقة بينها وبين النافية ، والفراء يقول : أنها النافية - واللام - بمعنى إلا ، وزعم الكسائي أن إِنَّ إن وليها اسم كانت المخففة ، وإن فعل كانت النافية ، وقطرب إنها إن وليها فعل كانت بمعنى - قد - وقرأ مالك بن دينار «ينفجر» مضارع انفجر والأعمش «يتشقق» و«يهبط» - بالضم ..
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد على ما ذكر كأنه قيل : إن اللّه تعالى لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم حافظ لأعمالهم محص لها ، فهو مجازيهم بها في الدنيا والآخرة ، وقرأ ابن كثير «يعملون» - بالياء التحتانية - ضما إلى ما بعده من قوله سبحانه أَنْ يُؤْمِنُوا ويَسْمَعُونَ وفريق منهم ، وقرأ الباقون - بالتاء الفوقانية - لمناسبة وَإِذْ قَتَلْتُمْ فَادَّارَأْتُمْ وتكتمون إلخ وقيل : ضما إلى قوله تعالى : أَفَتَطْمَعُونَ بأن يكون الخطاب فيه للمؤمنين وعدلهم ، ويبعده أنه لا وجه لذكر وعد المؤمنين تذييلا لبيان قبائح اليهود.
[سورة البقرة (2) : الآيات 75 إلى 90]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 298
أَفَتَطْمَعُونَ الاستفهام للاستبعاد أو للإنكار التوبيخي ، والجملة قيل : معطوفة على قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ أو على مقدر بين - الهمزة والفاء - عند غير سيبويه ، أي تحسبون أن قلوبكم صالحة للإيمان فتطمعون - والطمع - تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقا قويا - وهو أشد من الرجاء لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدة إرادة - والخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : والمؤمنين - أو للمؤمنين - قاله أبو العالية وقتادة ، أو للأنصار - قاله النقاش - والمروي عن ابن عباس ومقاتل أنه لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم خاصة ، والجمع للتعظيم أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أي يصدقوا مستجيبين لكم ، فالإيمان بالمعنى اللغوي والتعدية - باللام - للتضمين كما في قوله تعالى : فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت : 26] ويؤمنوا لأجل دعوتكم لهم فالفعل - منزل منزلة اللازم - والمراد بالإيمان المعنى الشرعي - واللام لام الأجل - وعلى التقديرين أَنْ يُؤْمِنُوا معمول لتطمعون على إسقاط حرف الجر وهو في موضع نصب عند سيبويه ، وجر عند الخليل والكسائي ، وضمير الغيبة لليهود المعاصرين له صلّى اللّه عليه وسلّم : لأنهم المطموع في إيمانهم ، وقيل : المراد جنس اليهود ليصح جعل طائفة منهم مطموع الإيمان وطائفة محرفين وفيه ما لا يخفى.
وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي طائفة من أسلافهم وهم الأحبار يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أي يسمعون التوراة ويؤولونها تأويلا فاسدا حسب أغراضهم ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما والجمهور على أن تحريفها بتبديل كلام من تلقائهم - كما فعلوا ذلك في نعته صلى اللّه تعالى عليه وسلم - فإنه روي أن من صفاته فيها

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 299
أنه أبيض ربعة فغيروه بأسمر طويل وغيروا آية الرجم بالتسخيم وتسويد الوجه - كما في البخاري - وقيل : المراد بكلام اللّه تعالى ما سمعوه على الطور ، فيكون المراد من الفريق طائفة من أولئك السبعين ، وقد روى الكلبي أنهم سألوا موسى عليه السلام أن يسمعهم كلامه تعالى ، فقال لهم : اغتسلوا والبسوا الثياب النظيفة ففعلوا فأسمعهم اللّه تعالى كلامه ، ثم قالوا : سمعنا يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا. والتحريف على هذا الزيادة. ثم لا يخفى أن فيما افتروا شاهدا على فساده حيث علقوا الأمر بالاستطاعة والنهي بالمشيئة - وهما لا يتقابلان - وكأنهم أرادوا بالأمر غير الموجب على معنى افعلوا إن شئتم وإن شئتم فلا تفعلوا كذا أفاده العلامة ومقصوده بيان منشأ تحريفهم الفاسد ، فلا ينافي كون عدم التقابل شاهدا على فساده ، ومقتضى هذه الرواية أن هؤلاء سمعوا كلامه تعالى بلا واسطة كما سمعه موسى عليه السلام ، والمصحح أنهم لم يسمعوا بغير واسطة ، وأن ذلك مخصوص به عليه السلام ، وقيل : المراد به الوحي المنزل على نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، كان جماعة من اليهود يسمعونه فيحرفونه قصدا أن يدخلوا في الدين ما ليس منه ، ويحصل التضاد في أحكامه وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة :
32] وقرأ الأعمش «كلم اللّه».
مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي ضبطوه وفهموه - ولم يشتبه عليهم صحته - وما مصدرية أي من بعد عقلهم إياه ، والضمير في عَقَلُوهُ عائد على كلام اللّه ، وقيل : ما موصولة والضمير عائد عليها ، وهو بعيد.
وَهُمْ يَعْلَمُونَ متعلق العلم محذوف ، أي إنهم مبطلون كاذبون ، أو ما في تحريفه من العقاب ، وفي ذلك كمال مذمتهم ، وبهذا التقرير يندفع توهم تكرار ما ذكر - بعد ما عقلوه - وحاصل الآية استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء السفلة إيمان ، وقد كان أحبارهم ومقدموهم على هذه الحالة الشنعاء ، ولا شك أن هؤلاء أسوأ خلقا وأقل تمييزا من أسلافهم أو استبعادا لطمع في إيمان هؤلاء الكفرة المحرفين ، وأسلافهم الذين كانوا زمن نبيهم فعلوا ذلك فلهم فيه سابقة وبهذا يندفع ما عسى أن يختلج في الصدر من أنه كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان باقيهم وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا جملة مستأنفة إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم ، ويحتمل أن تكون معطوفة على وقد كان فريق منهم إلخ ، وقيل : معطوفة على يَسْمَعُونَ وقيل : على قوله تعالى : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً عطف القصة على القصة وضمير لَقُوا لليهود على طبق أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وضمير قالُوا للاقين لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة ، بل بمباشرة منافقيهم وسكوت الباقين ، فهو من إسناد ما للبعض للكل - ومثله أكثر من أن يحصى - وهذا أدخل ، كما قال مولانا - مفتي الديار الرومية - في تقبيح حال الساكتين «أولا» العاتبين «ثانيا» لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف ، أي قال منافقوهم - كما فعله البعض - وقيل : الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم ويؤيده ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة في تفسير وَإِذا لَقُوا يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلّص قالوا : إلا أن السباق واللحاق - كما رأيت وسترى - يبعدان ذلك ، وقرأ ابن السميفع «لاقوا».
وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي إذا انفرد بعض المذكورين - وهم الساكتون منهم - بعد فراغهم عن الاشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم وهم من نافق ، وهذا كالنص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين ، إذ - الخلو - إنما يكون بعد الاشتغال ولأن عتابهم معلق بمحض - الخلو ولولا إنهم حاضرون عند المقاولة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 300
لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط ، ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت ثم العتاب قالُوا أي أولئك البعض الخالي موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم.
أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي تخبرون المؤمنين بما بينه اللّه تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ونصرته ، والتعبير عنه - بالفتح - للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق ، وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم : آمَنَّا بل عللوه بما ذكر ، وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ ، ومن الناس من حوّز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا ، وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل خَلا عبارة عن المنافقين ، وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيرا للمعنى - والاستفهام إنكار - ونهى عن التحديث في الزمان المستقبل وليس بشي ء - وإن جل قائله - اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة ، ودون ذلك خرط القتاد.
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ متعلق بالتحديث دون الفتح خلافا لمن تكلف له ، والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ ، فإن التحديث - وإن كان منكرا في نفسه - لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل ، والمفاعلة هنا غير مرادة ، والمراد ليحتجوا به عليكم ، إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة ، وذكر ابن تمجيد أنه لو ذهب أحد إلى المشاركة بين المحتج والمحتج عليه بأن يكون من جانب احتجاج ومن جانب آخر سماع لكان له وجه - كما في بايعت زيدا - وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر.
واللام - هذه لام كي - والنصب بأن مضمرة بعدها أو بها ، وهي مفيدة للتعليل - ولعله هنا مجاز - لأن المحدثين لم يحوموا حول ذلك الغرض ، لكن فعلهم ذلك - لما كان مستتبعا له البتة - جعلوا كأنهم فاعلون له إظهارا لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم ، وضمير بِهِ راجع إلى بِما فَتَحَ اللَّهُ على ما يقتضيه الظاهر عِنْدَ رَبِّكُمْ أي في كتابه وحكمه - وهو عند عصابة - بدل من بِهِ ، ومعنى كونه بدلا منه أن عامله الذي هو نائب عنه بدل منه إما بدل الكل إن قدر صيغة اسم الفاعل أو بدل اشتمال إن قدر مصدرا ، وفائدته بيان جهة الاحتجاج بما فتح اللّه تعالى ، فإن الاحتجاج به يتصور على وجوه شتى ، كأنه قيل : لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ بكونه في كتابه ، أي يقولوا : إنه مذكور في كتابه الذي آمنتم به ، وبما ذكر يظهر وجه الجمع بين قوله تعالى : بِهِ أي بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وقوله تعالى : عِنْدَ رَبِّكُمْ واندفع ما قيل لا يصح جعله بدلا لوجوب اتحاد البدل والمبدل منه في الإعراب ، وهاهنا ليس كذلك لكون الثاني ظرفا والأول مفعولا به بالواسطة ، وقيل : المعنى بما عند ربكم فيكون الظرف حالا من ضمير بِهِ وفائدته التصريح بكون الاحتجاج بأمر ثابت عنده تعالى وإن كان ذلك مستفادا من كونه بما فتح اللّه تعالى ، وقيل : عند ذكر ربكم ، فالكلام على حذف مضاف ، والمراد من الذكر «الكتاب» وجعل المحاجة بما فتح اللّه تعالى باعتبار أنه في الكتاب محاجة عنده توسعا وهذه الأقوال مبنية على أن المراد بالمحاجة في الدنيا وهو ظاهر لأنها دار المحاجة والتأويل في قوله تعالى : عِنْدَ رَبِّكُمْ وقيل : عند ربكم على ظاهره - والمحاجة يوم القيامة - واعترض بأن الإخفاء لا يدفع هذه المحاجة لأنه إما لأجل أن لا يطلع المؤمنون على ما يحتجون به - وهو حاصل لهم بالوحي - أو ليكون للمحتج عليهم طريق إلى الإنكار ، وذا لا يمكن عنده تعالى يوم القيامة ولا يظن بأهل الكتاب أنهم
يعتقدون أن إخفاء ما في الكتاب في الدنيا يدفع المحاجة بكونه فيه في العقبى لأنه اعتقاد منهم بأنه تعالى لا يعلم ما أنزل في كتابه وهم برآء منه ، والقول بأن المراد لِيُحَاجُّوكُمْ يوم القيامة وعند المسائل ، فيكون زائدا في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رؤوس الأشهاد في الموقف العظيم ، فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك في الدنيا يزيد ذلك في الآخرة للفرق بين من اعترف وكتم ، وبين من ثبت على الإنكار ، أو بأن المحاجة بأنكم بلغتم وخالفتم - تندفع بالإخفاء - يرد عليه أن

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 301
الإخفاء حينئذ إنما يدفع الاحتجاج بإقرارهم - لا بما فتح اللّه عليهم على أن المدفوع في الوجه الأول زيادة التوبيخ والفضيحة - لا المحاجة - وقيل : عِنْدَ رَبِّكُمْ بتقدير - من عند ربكم - وهو معمول لقوله تعالى : بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وهو مما لا ينبغي أن يرتكب في فصيح الكلام ، وجوز الدامغاني أن يكون عِنْدَ للزلفى أي لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ متقربين إلى اللّه تعالى - وهو بعيد أيضا - كقول بعض المتأخرين : إنه يمكن أن تجعل المحاجة به عند الرب عبارة عن المباهلة في تحقق ما يحدثونه ، وعليه تكون المحاجة على مقتضى المفاعلة - وعندي - أن رجوع ضمير بِهِ لما فتح اللّه من حيث إنه محدث بِهِ وجعل القيد هو المقصود ، أو للتحديث المفهوم من أَتُحَدِّثُونَهُمْ وحمل عِنْدَ رَبِّكُمْ على يوم القيامة ، والتزام أن الإخفاء يدفع هذا الاحتجاج ليس بالبعيد - إلا أن أحدا لم يصرح به - ولعله أولى من بعض الوجوه فتدبر أَفَلا تَعْقِلُونَ عطف إما على أَتُحَدِّثُونَهُمْ - والفاء - لإفادة ترتب عدم عقلهم على تحديثهم ، وإما على مقدر أي ألا تتأملون فلا تعقلون ، والجملة مؤكدة لإنكار التحديث ، وهو من تمام كلام اللائمين ، ومفعوله إما ما ذكر أولا ، أولا مفعول له - وهو أبلغ - وقيل : هو خطاب من اللّه تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى
:
أَفَتَطْمَعُونَ والمعنى أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود وأن لا مطمع في إيمانهم ، وهم على هذه الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة ، ويبعده قوله تعالى : أَوَلا يَعْلَمُونَ فإنه تجهيل لهم منه تعالى فيما حكي عنهم فيكون توسيط خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيل الفصل بين الشجرة ولحائها على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين تعسفا ما ، وفي تعميمه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم سوء أدب - كما لا يخفى - والاستفهام فيه للإنكار مع التقريع لأن أهل الكتاب كانوا عالمين بإحاطة علمه تعالى والمقصود بيان شناعة فعلهم بأنهم يفعلون ما ذكر مع علمهم.
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وفيه إشارة إلى أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية أعظم وزرا - والواو - للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن - والضمير للموبخين - أي أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون ما ذكر ، وقيل : الضمير للمنافقين فقط ، أو لهم وللموبخين ، أو لآبائهم المحرفين ، والظاهر حمل ما في الموضعين على العموم ويدخل فيه الكفر الذي أسروه ، والإيمان الذي أعلنوه ، واقتصر بعض المفسرين عليهما ، وقيل : العداوة والصداقة ، وقيل : صفته صلى اللّه تعالى عليه وسلم التي في التوراة المنزلة والصفة التي أظهروها افتراء على اللّه تعالى ، وقدم سبحانه الإسرار على الإعلان ، إما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالبا ، فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية ، وإما للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر ، وإما للمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع الأشياء كان علمه بما يسرون أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما - في الحقيقة - على السوية ، فإن علمه تعالى ليس بطريق حصول الصورة ، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى ، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة ولا الكامنة ، وعكس الأمر في قوله تعالى : إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة :
284] لأن الأصل فيما تتعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية ، وقرأ ابن محيصن «أو لا تعلمون» - بالتاء - فيحتمل أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين أو خطابا لهم ، ثم إنه تعالى أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالا لهم ، ويكون ذلك من باب الالتفات.
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود أثر بيان شنائع الطوائف السالفة ، وقيل : عطف على قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وعليه الجمع ، وقيل : على وَإِذا لَقُوا واختار بعض المتأخرين أنه وهذا الذي عطف عليه اعتراض وقع في البين لبيان أصناف اليهود استطرادا لأولئك المحرفين ، و«الأميون» جمع - أمي -

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 302
وهو - كما في المغرب - من لا يكتب ولا يقرأ منسوب إلى أمة العرب الذين كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون ، أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه ، أو إلى أم القرى لأن أهلها لا يكتبون غالبا ، والمراد أنهم جهلة ، والْكِتابَ التوراة - كما يقتضيه سباق النظم وسياقه - فاللام - فيه إما للعهد أو أنه من الأعلام الغالبة ، وجعله مصدر كتب كتابا - واللام - للجنس بعيد ، وقرأ ابن أبي عبلة أُمِّيُّونَ بالتخفيف إِلَّا أَمانِيَّ جمع - أمنية - وأصلها - أمنونة أفعولة وهو في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من - منى - إذا قدر ، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ ، والمروي عن ابن عباس ومجاهد رضي اللّه عنهم أن - الأماني - هنا - الأكاذيب - أي إلا أكاذيب أخذوها تقليدا من شياطينهم المحرفين ، وقيل : إلا ما هم عليه من أمانيهم أن اللّه تعالى يعفو عنهم ويرحمهم ، ولا يؤاخذهم بخطاياهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وقيل إلا مواعيد مجردة سمعوها من أحبارهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة - واختاره أبو مسلم - والاستثناء على ذلك منقطع لأن ما هم عليه من الأباطيل ، أو سمعوه من الأكاذيب ليس من الكتاب ، وقيل : إلا ما يقرؤون قراءة عادية عن معرفة المعنى وتدبره ، فالاستثناء حينئذ متصل بحسب الظاهر ، وقيل : منقطع أيضا إذ ليس ما يتلى من جنس علم الكتاب ، واعترض هذا الوجه بأنه لا يناسب تفسير الآتي بما في المغرب ، وأجيب بأن معناه أنه لا يقرأ من الْكِتابَ ولا يعلم الخط ، واما على سبيل الأخذ من الغير فكثيرا ما يقرؤون من غير علم بالمعاني ، ولا بصور الحروف ، وفيه تكلف إذ لا يقال للحافظ الأعمى : إنه أمي ، نعم إذا فسر الأمي بمن لا يحسن الكتابة والقراءة على ما ذهب إليه جمع لا ينافي أن يكتب ويقرأ في الجملة واستدل على ذلك بما
روى البخاري ومسلم أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يوم صلح الحديبية أخذ الكتاب - وليس يحسن الكتب - فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه» إلخ ،
ومن فسر الأمي بما تقدم أول الحديث بأن كتب فيه بمعنى أمر بالكتابة ، وأطال بعض شراح الحديث الكلام في هذا المقام - وليس هذا محله.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وابن جماز عن نافع ، وهارون عن أبي عمرو و«أماني» بالتخفيف وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الاستثناء مفرغ والمستثنى محذوف أقيمت صفته مقامه ، أي ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم - فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين - وقد يطلق الظن على ما يقابل العلم اليقيني عن دليل قاطع سواء قطع بغير دليل ، أو بدليل غير صحيح أو لم يقطع ، فلا ينافي نسبة الظن إليهم إن كانوا جازمين.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ - الويل - مصدر لا فعل له من لفظه ، وما ذكر من قولهم : وال مصنوع - كما في البحر - ومثله ويح وويب وويس وويه وعول ، ولا يثنى ولا يجمع ويقال ويلة ويجمع على ويلات وإذا أضيف فالأحسن فيه النصب - ولا يجوز غيره عند بعض - وإذا أفردته اختير - الرفع - ومعناه الفضيحة والحسرة وقال الخليل :
شدة الشر ، وابن المفضل - الحزن - وغيرهما - الهلكة - وقال الأصمعي : هي كلمة تفجع وقد تكون ترحما ومنه - ويل أمه مسعر حرب - وورد من طرق صححها الحفاظ عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال : «الويل واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» وفي بعض الروايات «إنه جبل فيها»
وإطلاقه على ذلك إما حقيقة شرعية ، وإما مجاز لغوي من إطلاق لفظ الحل على المحل ولا يمكن أن يكون حقيقة لغوية لأن العرب تكلمت به في نظمها ونثرها قبل أن يجيء القرآن ولم تطلقه على ذلك وعلى كل حال هو هنا مبتدأ خبره لِلَّذِينَ فإن كان علما لما في الخبر فظاهر ، وإلا فالذي سوغ الابتداء به كونه دعاء ، وقد حول عن المصدر المنصوب للدلالة على الدوام والثبات ، ومثله يجوز فيه ذلك لأنه غير مخبر عنه ، وقيل : لتخصص النكرة فيه بالداعي كما تخصص سلام في - سلام عليك - بالمسلم فإن المعنى سلامي عليك وكذلك المعنى هاهنا دعائي عليهم بالهلك ثابت لهم - والكتابة معروفة.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 303
وذكر الأيدي تأكيدا لدفع توهم المجاز ، ويقال : أول من كتب بالقلم إدريس ، وقيل : آدم عليهما السلام ، والمراد ب الْكِتابَ المحرف ، وقد روي أنهم كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صورة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وبثوها في سفهائهم وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل وصاروا إذا سئلوا عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقولون : ما هذا هو الموصوف عندنا في التوراة ويخرجون التوراة المبدلة ويقرؤونها ويقولون : هذه التوراة التي أنزلت من عند اللّه ، ويحتمل أن يكون المراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة وروّجوه على العامة ، وقد قال بعض العلماء : ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولكن بإشارة لا يعرفها إلا العالمون ، ولو كان متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه ، ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان ، وقد وجد في ا
لِيذ الأجرة على كتابة المصاحف ، ولا على كراهية بيعها ، والأعمش تأول الآية واستدل بها على الكراهة - وطرف المنصف أعمى عن ذلك - نعم ذهب إلى الكراهة جمع «منهم» ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما - وبه قال بعض الأئمة - لكن لا أظنهم يستدلون بهذه الآية ، وتمام البحث في محله.
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ - الفاء - لتفصيل ما أجمل في قوله تعالى : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ إلخ ، حيث يدل على ثبوت الويل للموصوفين بما ذكر لأجل اتصافهم به بناء على التعليق بالوصف من غير دلالة على أن ثبوته لأجل مجموع ما ذكر أولا - بل كل واحد - فبين ذلك بقوله : (ويل لهم) إلخ مع ما فيه من التنصيص بالعلة ، ولا يخفى ما في هذا الإجمال والتفصيل من المبالغة في الوعيد الزجر والتهويل.
و(من) تعليلية متعلقة ب وَيْلٌ أو بالاستقرار في الخبر ، وما قيل : موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، أي «كتبته» وقيل : مصدرية «والأول» أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف «والثاني» في الزجر عن التحريف و(ما) الثانية مثلها ، ورجح بعضهم المصدرية في الموضعين - لفظا ومعنى - لعدم تقدير العائد ، ولأن مكسوب العبد حقيقة فعله الذي يعاقب عليه ويثاب ، وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن العبد كما يعاقب على نفس فعله ، يعاقب على أثر فعله لإفضائه إلى حرام آخر - وهو هنا يفضي إلى إضلال الغير وأكل الحرام - وغاير بين الآيتين بأنه بين «في الأولى» استحقاقهم العقاب بنفس الفعل «وفي الثانية» استحقاقهم له بأثره ، ولذا جاء - بالفاء - ولا يخفى أنه كلام خال عن التحقيق - كما لا يخفى على أرباب التدقيق - ومما ذكرنا ظهر فائدة ذكر - الويل - ثلاث مرات ، وقيل : فائدته أن اليهود جنوا ثلاث جنايات. تغيير صفة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والافتراء على اللّه تعالى ، وأخذ الرشوة.
فهددوا بكل جناية - بالويل - وكأنه جعل محط الفائدة في قوله تعالى : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ إلى آخر المعطوف كما
في خبر «لا يؤمّن الرجل قوما فيخص نفسه بالدعاء»
وهو - على بعده - لا يظهر عليه وجه إيراد - الفاء - في الثاني ، ثم الظاهر أن مفعول الكسب خاص - وهو ما دل عليه سياق الآية - وقيل : المراد ب مِمَّا يَكْسِبُونَ جميع الأعمال السيئة ليشمل القول - ولا يخفى بعده - وعدم التعرض للقول لما أنه من مبادئ ترويج مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ والآية نزلت في

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 304
أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رئاستهم بإبقاء صفة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم على حالها فغيروها ، وقيل :
خاف ملوكهم على ملكهم - إذا آمن الناس - فرشوهم فحرفوا ، والقول بأنها نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ولم يتبعوا كتابا ، بل كتبوا بأيديهم كتابا وحللوا فيه ما اختاروا ، وحرّموا ما اختاروا ، وقالوا : هذا من عند اللّه غير مرضي ، كالقول بأنها نزلت في عبد اللّه بن أبي سرح كاتب النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يغير القرآن فارتد وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً جملة حالية معطوفة على قوله تعالى : وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ عند فريق منهم ، وعند آخرين على وَإِذْ قَتَلْتُمْ عطف قصة على قصة ، واختار بعض المحققين أنها اعتراض لرد ما قالوا حين أوعدوا - على ما تقدم - بالويل - بل جميع الجمل عنده من قوله تعالى : أَفَتَطْمَعُونَ إلى قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ إلخ ، ذكر استطرادا بين القصتين المعطوفتين ، فالضمير في قالُوا عائد على لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ - والمس - اتصال أحد الشيئين بآخر - على وجه الإحساس والإصابة - وذكر الراغب أنه كاللمس ، لكن اللمس قد يقال لطلب الشي ء - وإن لم يوجد - كقوله :
وألمسه فلا أجده
والمراد من النَّارُ نار الآخرة ، ومن «المعدودة» المحصورة القليلة ، وكني - بالمعدودة - عن القليلة لما أن الأعراب لعدم علمهم بالحساب وقوانينه تصور القليل متيسر العدد والكثير متعسره ، فقالوا : شيء معدود - أي قليل - وغير معدود - أي كثير - والقول بأن - القلة - تستفاد من أن الزمان - إذا كثر - لا يعد بالأيام ، بل بالشهور والسنة والقرن يشكل بقوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ إلى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [البقرة : 184] وبقوله سبحانه : واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [البقرة : 51] وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوما عدد عبادتهم العجل ، ثم ينادى أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل ، وفي رواية أنهم يعذبون سبعة أيام لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم ، وهي سبعة آلاف سنة. وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أنهم زعموا أنهم وجدوا مكتوبا في التوراة إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ، وأنهم يقطعون في كل يوم مسيرة سنة فيكملونها ، وقد قالوا ذلك حين دخل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم المدينة وسمعه المسلمون فنزلت هذه الآية.
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً تبكيت لهم وتوبيخ - والعهد - مجاز عن خبره تعالى ، أو وعده بعدم مساس النار لهم سوى - الأيام المعدودة - وسمي ذلك عَهْداً لأنه أوكد من العهود المؤكدة بالقسم والنذر ، وفسره قتادة هنا بالوعد مستشهدا بقوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ [التوبة : 75] إلى قوله سبحانه : بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ [التوبة : 77].
«واعترض» بأنه لا وجه للتخصيص ، فإن لَنْ تَمَسَّنَا إلخ فرع الوعد والوعيد لأن مساس النار وعيد ، وأجيب بأنه إنما لم يتعرض للوعيد ، لأن المقصود بالاستفهام الوعد - لا الوعيد - فإنه ثابت في حقهم. وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن معنى الآية هل قلتم لا إله إلا اللّه وآمنتم وأطعتم فتستدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟
ويؤول إلى هل أسلفتم عند اللّه أعمالا توجب ما تدعون؟ والمعنى الأول أظهر. وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار - الذال - والباقون بإدغامه ، وحذفت من اتخذ - همزة الوصل - لوقوعها في الدرج.
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ جواب شرط مقدر ، أي إن اتخذتم عند اللّه عهدا فلن يخلف وقدره العلامة إن كنتم اتخذتم - إذ ليس المعنى على الاستقبال - وهو مبني على أن حرف الشرط لا يغير معنى - كان - وفيه خلاف معروف «فإن قلت» لا يصح جعل فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ جزاء لامتناع السببية والترتب لكون «لن» لمحض الاستقبال «قلت» ذلك ليس بلازم في - الفاء الفصيحة - كقوله :
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 305
- ولو سلم - فقد ترتب على اتخاذ العهد الحكم بأنه لا يخلف العهد فيما يستقبل من الزمان فقط ، كما في قوله تعالى : وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل : 53] كذا أفاده العلامة ، والجواب الأول مبني على أن - الفاء الفصيحة - لا تنافي تقدير الشرط ، وأنها تفيد كون مدخولها سببا عن المحذوف سواء ترتب عليه أو تأخر لتوقفه على أمر آخر بدليل أن قوله : فقد جئنا خراسانا علم عندهم في - الفصيحة - مع كونه بتقدير الشرط وعدم الترتب - كما في شرح المفتاح الشريفي - ومبنى الثاني على أن المراد حكمهم لا حكمه تعالى حين النزول ، ولخفاء ذلك قال المولى عصام : - الأظهر - أنه دليل الجزاء وضع موضعه ، أي إن كنتم اتخذتم عند اللّه عهدا فقد نجوتم لأنه لن يخلف اللّه عهده فافهم.
ومن الناس من لا يقدر محذوفا ويجعل - الفاء - سببية ليكون اتخاذ العهد مترتبا عليه عدم اخلاف اللّه تعالى عهده ويكون المنكر حينئذ المجموع فتفطن. وهذه الجملة - كما قال ابن عطية - اعتراضية بين أَتَّخَذْتُمْ والمعادل فلا موضع لها من الإعراب ، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن عدم الاختلاف من قضية الألوهية والعهد مضاف إلى ضميره تعالى لذلك أيضا ، أو لأن المراد به جميع عهوده لعمومه بالإضافة ، فيدخل العهد المعهود مع التجافي عن التصريح بتحقق مضمون كلامهم ، وإن كان معلقا على الاتخاذ المعلق بحبال العدم واستدل بالآية من ذهب إلى نفي الخلف في الوعد والوعيد بحمل العهد على الخبر الشامل لهما ، وادعى بعضهم أن العهد ظاهر في الوعد بل حقيقة عرفية فيه فلا دليل فيها على نفي الخلف في الوعيد.
أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أَمْ يحتمل أن تكون متصلة للمعادلة بين شيئين بمعنى أي هذين واقع اتخاذكم العهد - أم قولكم على اللّه ما لا تعلمون - وخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير لأولئك المخاطبين لعلم المستفهم - وهو النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم - بوقوع أحدهما ، وهو قولهم بما لا يعلمون على التعيين فلا يكون الاستفهام على حقيقته ، ويعلم من هذا أن الواقع بعد أَمْ المتصلة قد يكون جملة لأن التسوية قد تكون بين الحكمين - وبهذا صرح ابن الحاجب في الإيضاح ، ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى - بل - والتقدير بل أتقولون ، ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من التوبيخ بالإنكار على الاتخاذ إلى ما تفيد همزتها من التوبيخ على القول ، وظاهر كلام صاحب المفتاح تعين الانقطاع حيث جعل علامة المنقطعة كون ما بعدها جملة ، وإنما علق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه وتعالى ما لا يعلمون وقوعه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدم وقوعه المبالغة في التوبيخ فإن التوبيخ على الأدنى يستلزم التوبيخ على الأعلى بطريق الأولى ، وقولهم المحكي - وإن لم يكن صريحا بالافتراء عليه جل شأنه - لكنه مستلزم له لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى.
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جواب عن قولهم المحكي وإبطال له على وجه أعم شامل لهم ولسائر الكفرة ، كأنه قال : بل تمسكم وغيركم دهرا طويلا وزمانا مديدا - لا كما تزعمون - ويكون ثبوت الكلية كالبرهان على إبطال ذلك بجعله كبرى لصغرى سهلة الحصول فبلى داخلة على ما ذكر بعدها وإيجاز الاختصار أبلغ من إيجاز الحذف ، وزعم بعضهم أنها داخلة على محذوف وأن المعنى على تمسكم أياما معدودة - وليس بشي ء - وهي حرف جواب - كجير ونعم - إلا أنها لا تقع جوابا إلا لنفي متقدم سواء دخله استفهام أم لا ، فتكون إيجابا له وهي بسيطة. وقيل : أصلها - بل - فزيدت عليها - الألف - والكسب جلب النفع - والسيئة - الفاحشة الموجبة للنار ، قاله السدي ، وعليه تفسير من فسرها بالكبيرة لأنها التي توجب النار - أي يستحق فاعلها النار إن لم يغفر له - وذهب كثير من السلف إلى أنها هنا - الكفر .. وتعليق - الكسب بالسيئة - على طريقة

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 306
التهكم ، وقيل : إنهم بتحصيل السيئة استجلبوا نفعا قليلا فانيا ، فبهذا الاعتبار أوقع عليه الكسب ، والمراد - بالإحاطة - الاستيلاء والشمول وعموم الظاهر والباطن - والخطيئة - السيئة ، وغلبت فيما يقصد بالعرض أي لا يكون مقصودا في نفسه بل يكون القصد إلى شيء آخر ، لكن تولد منه ذلك الفعل كمن رمى صيدا فأصاب إنسانا ، وشرب مسكرا فجنى جناية ، قال بعض المحققين : ولذلك أضاف الإحاطة إليها إشارة إلى أن السيئات باعتبار وصف الإحاطة داخلة تحت القصد بالعرض لأنها بسبب نسيان التوبة ، ولكونها راسخة فيه متمكنة حال الإحاطة أضافها إليه بخلاف حال الكسب فإنها متعلق القصد بالذات وغير حاصلة فيه فضلا عن الرسوخ ، فلذا أضاف الكسب إلى سيئة ونكرها ، وإضافة الأصحاب إلى النار على معنى الملازمة ، لأن الصحبة وإن شملت القليل والكثير لكنها في العرف تخص بالكثرة والملازمة ولذا قالوا : لو حلف من لاقى زيدا أنه لم يصحبه لم يحنث ، والمراد - بالخلود - الدوام ، ولا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة لأن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط خطيئته به لكون قلبه ولسانه منزها عن الخطيئة ، وهذا لا يتوقف على كون التصديق والإقرار حسنتين ، بل على أن لا يكونا سيئتين فلا يرد البحث بأن الخصم يجعل العمل شرطا لكونهما حسنتين كما يجعل الاعتقاد شرطا لكون الأعمال حسنات فلا يتم عنده أن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر ، ولا يحتاج إلى الدفع بأن المقصود أنه لا حجة له في الآية ، وهذا يتم بمجرد كون الإحاطة ممنوعة في غير الكافر ، فلو ثبت أن العمل داخل في الإيمان صارت الآية حجة - ودون إثباته خرط القتاد - ثم إن نفي الحجية بحمل الإحاطة على ما ذكر إنما يحتاج إليه إذا كانت السيئة والخطيئة بمعنى واحد - وهو مطلق الفاحشة - أما إذا فسرت السيئة بالكفر أو - الخطيئة - به حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي
اللّه تعالى عنهما وأبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه وابن جرير عن أبي وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع ، فنفي الحجية أظهر من نار على علم. ومن الناس من نفاها بحمل - الخلود - على أصل الوضع وهو اللبث الطويل - ليس بشي ء - لأن فيه تهوين الخطب في مقام التهويل مع عدم ملائمته حمل الخلود في الجنة على الدوام ، وكذا لا حجة في قوله تعالى : وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلخ بناء على ما زعمه الجبائي حيث قال : دلت الآية على أنه تعالى ما وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده بإخراج أهل الكبائر والمعاصي من النار بعد التعذيب ، وإلا لما أنكر على اليهود بقوله تعالى : قُلْ أَتَّخَذْتُمْ إلخ وقد ثبت أنه تعالى أوعد العصاة بالعذاب زجرا لهم عن المعاصي فقد ثبت أن يكون عذابهم دائما وإذا ثبت في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة إذ الوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذا كان قدر المعصية واحدا لأن ما أنكر اللّه عليهم جزمهم بقلة العذاب لانقطاعه مطلقا - على أن ذلك في حق الكفار لا العصاة كما لا يخفى - ومَنْ تحتمل أن تكون شرطية ، وتحتمل أن تكون موصولة ، والمسوغات لجواز دخول - الفاء - في الخبر إذا كان المبتدأ موصولا موجودة ، ويحسن الموصولية مجيء الموصول في قسيمه وإيراد اسم الإشارة المنبئ عن استحضار المشار إليه بما له من الأوصاف للإشعار
بعليتها لصاحبية النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد متزلتهم في الكفر والخطايا ، وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة الجانب المعنى في كلمة مَنْ بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم في تينك الحالتين ، فإن كسب السيئة وإحاطة الخطيئة به في حالة الإفراد - وصاحبية النار في حالة الاجتماع - قاله بعض المحققين - ولا يخلو عن حسن - وقرأ نافع «خطيئاته» وبعض «خطياه» و«خطيته» و«خطياته» بالقلب والإدغام ، واستحسنوا قراءة الجمع بأن الإحاطة لا تكون بشيء واحد ، ووجهت قراءة الإفراد بأن - الخطيئة - وإن كانت مفردة لكنها لإضافتها متعددة ، مع أن الشيء الواحد قد يحيط كالحلقة فلا تغفل.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 307
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لما ذكر سبحانه أهل النار وما أعد لهم من الهلاك أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان وما أعد لهم من الخلود في الجنان ، وقد جرت عادته جل شأنه على أن يشفع وعده بوعيده مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى ، وقيل : إن في الجمع تربية الوعيد بذكر ما فات أهله من الثواب ، وتربية الوعد بذكر ما نجا منه أهله من العقاب ، وعطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه - إذ لا يعطف الجزء على الكل - ولا يدل على عدم اشتراطه به حتى يدل على أن صاحب الكبيرة غير خارج عن الإيمان ، وتكون الآية حجة على الوعيدية - كما قاله المولى عصام - فإن قلت :
للمخالف أن يقول : العطف للتشريف لكون العمل أشق وأحمز من التصديق وأفضل الأعمال أحمزها ،
أجيب بأن الإيمان أشرف من العمل لكونه أساس جميع الحسنات إذ الأعمال ساقطة عن درجة الاعتبار عند عدمه ويخطر في البال أنه يمكن أن يكون لذكر العمل الصالح هنا مع الإيمان نكتة ، وهو أن يكون الإيمان في مقابلة السيئة المفسرة بالكفر - عند بعض - والعمل الصالح في مقابلة الخطيئة المفسرة بما عداه والمراد من الَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ومؤمنو الأمم قبلهم ، قاله ابن عباس وغيره - وهو الظاهر - وقال ابن زيد : المراد بهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأمته خاصة وذكر - الفاء - فيما سبق وتركها هنا إما لأن الوعيد من الكريم مظنة الخلف دون الوعد فكان الأول حريا بالتأكيد دون الثاني ، وإما للإشارة إلى سبق الرحمة فإن النحاة قالوا : من دخل داري فأكرمه - يقتضي إكرام كل داخل لكن على خطر أن لا يكرم - وبدون - الفاء - يقتضي إكرامه البتة ، وإما للإشارة إلى أن خلودهم من النار بسبب أفعالهم السيئة وعصيانهم وخلودهم في الجنة بمحض لطفه تعالى وكرمه ، وإلا فالإيمان والعمل الصالح لا يفي بشكر ما حصل للعبد من النعم العاجلة - وإلى كل ذهب بعض - والقول بأن ترك - الفاء - هنا لمزيد الرغبة في ذكر ما لهم ليس بشيء وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ شروع في تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادي باستبعاد إيمان أخلافهم ، وقيل : إنه نوع آخر من النعم التي خصهم اللّه تعالى بها ، وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم - وهو الجنة - والموصل إلى النعمة نعمة ، وهذا - الميثاق - ما أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام ، أو ميثاق أخذ عليهم في التوراة ، وقول مكي : إنه ميثاق أخذه اللّه تعالى عليهم وهم في أصلاب آبائهم كالذر لا يظهرهم وجهه هنا.
لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ على إرادة القول أي قلنا أو قائلين ليرتبط بما قبله وهو إخبار في معنى النهي كقوله تعالى :
لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة : 282] وكما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت ، وإلى ذلك ذهب الفراء ، ويرجحه أنه أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي كأنه سارع إلى ذلك فوقع منه حتى أخبر عنه بالحال أو الماضي أي ينبغي أن يكون كذلك فلا يرد أن حال المخبر عنه على خلافه وأنه قرأ ابن مسعود «لا تعبدوا» على النهي وأن قُولُوا عطف عليه فيحصل التناسب المعنوي بينهما في كونهما إنشاء ، وإن كان يجوز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب ، وقيل : تقديره أن لا تعبدوا ، فلما حذف الناصب ارتفع الفعل ، ولا يجب الرفع بعد الحذف في مثل ذلك خلافا لبعضهم - وإلى هذا ذهب الأخفش - ونظيره من نثر العرب مره يحفرها ومن نظمها.
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
ويؤيد هذا قراءة «أن لا تعبدوا» ويضعفه أن أن لا تحذف قياسا في مواضع ليس هذا منها ، فلا ينبغي تخريج الآية عليه ، وعلى تخريجها عليه فهو مصدر مؤول بدل من الميثاق أو مفعول به بحذف حرف الجر أي بأن لا أو على

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 308
أن لا ، وقيل : إنه جواب قسم دل عليه الكلام ، أي حلفناهم لا تعبدون ، أو جواب الميثاق نفسه لأن له حكم القسم ، وعليه يخلو الكلام عما مر في وجه رجحان الأول ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وعاصم ، ويعقوب - بالتاء - حكاية لما خوطبوا به والباقون - بالياء - لأنهم غيب ، وفي الآية حينئذ التفاتان في - لفظ الجلالة - ويعبدون.
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً متعلق بمضمر تقديره وتحسنون ، أو أحسنوا ، والجملة معطوفة على تعبدون وجوّز تعلقه ب إِحْساناً وهو يتعدى بالباء ، وإلى أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف : 100] وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص : 77] ومنع تقدم معمول المصدر عليه مطلقا ممنوع ، ومن المعربين من قدر استوصوا ف «بالوالدين» متعلق به و«إحسانا» مفعوله ، ومنهم من قدر ووصيناهم فإحسانا مفعول لأجله ، والوالدان تثنية والد لأنه يطلق على الأب والأم أو تغليب بناء على أنه لا يقال إلا للأب كما ذهب إليه الحلبي ، وقد دلت الآية على الحث ببر الوالدين وإكرامهما ، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة ، وناهيك احتفالا بهما أن اللّه عز اسمه قرن ذلك بعبادته.
وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ عطف على «الوالدين» والْقُرْبى مصدر كالرجعى - والألف - فيه للتأنيث وهي قرابة الرحم والصلب. وَالْيَتامى وزنه فعالى - وألفه - للتأنيث ، وهو جمع يتيم كنديم وندامى ، ولا ينقاس ، ويجمع على أيتام. واليتم أصل معناه الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة ، وقال ثعلب : الغفلة ، وسمي اليتيم يتيما لأنه يتغافل عن بره ، وقال أبو عمرو : الإبطاء لإبطاء البر عنه ، وهو في الآدميين من قبل الآباء - ولا يتم بعد بلوغ - وفي البهائم من قبل الأمهات ، وفي الطيور من جهتهما. وحكى الماوردي أنه يقال في الآدميين لمن فقدت أمه أيضا - والأول هو المعروف وَالْمَساكِينِ جمع مسكين على وزن مفعيل مشتق من السكون ، كأن الحاجة أسكنته - فالميم - زائدة كمحضر من الحضور ، وروي تمسكن فلان - والأصح تسكن أي صار مسكينا - والفرق بينه وبين الفقير معروف - وسيأتي إن شاء اللّه تعالى - وقد جاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد فالأوكد ، فبدأ ب بِالْوالِدَيْنِ إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما ، ثم ب ذِي الْقُرْبى لأن صلة الأرحام مؤكدة ، ولمشاركة بِالْوالِدَيْنِ في القرابة وكونهما منشأ لها وقد ورد في الأثر أن اللّه تعالى خاطب الرحم فقال : أنت الرحم وأنا الرحمن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ثم باليتامى لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب ، وقد جاء «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين»
وأشار صلّى اللّه عليه وسلّم إلى السبابة والوسطى وتأخرت درجة الْمَساكِينِ لأن المسكين يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام ويصلح معيشته مهما أمكن بخلاف اليتيم - فإنه لصغره لا ينتفع به - ويحتاج إلى من ينفعه ، وأفرد ذِي الْقُرْبى - كما في البحر - لأنه أريد به الجنس ، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة ، وكأن فيه إشارة إلى أن ذوي القربى - وإن كثروا - كشيء واحد لا ينبغي أن يضجر من الإحسان إليهم وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي قولا حسنا - سماه به للمبالغة - وقيل : هو لغة في الحسن كالبخل والبخل والرشد والرشد ، والعرب والعرب ، والمراد قولوا لهم القول الطيب وجاوبوهم بأحسن ما يحبون - قاله أبو العالية - وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ، وقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : قولوا لهم لا إله إلا اللّه مروهم بها ، وقال ابن جريج : أعلموهم بما في كتابكم من صفة رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم - وقول أبي العالية في المرتبة العالية - والظاهر أن هذا الأمر من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل : ومن قال : إن المخاطب به الأمة وهو محكم أو منسوخ بآية السيف أو إن لناس مخصوص بصالحي المؤمنين إذ لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق لأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم فقد أبعد - وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب «حسنا» - بفتحتين - وعطاء وعيسى - بضمتين - وهي لغة الحجاز وأبو

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 309
طلحة بن مصرف «حسنى» على وزن فعلى ، واختلف في وجهه فقيل : هو مصدر كرجعى ، واعترضه أبو حيان بأنه غير مقيس لم يسمع فيه ، وقيل : هو صفة كحبلى أي مقالة أو كلمة «حسنى» وفي الوصف بها وجهان «أحدهما» أن تكون باقية على أنها للتفضيل واستعمالها بغير الألف واللام والإضافة للمعرفة نادر وقد جاء ذلك في الشعر كقوله :
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة يوما كرام سراة الناس فادعينا
«وثانيهما» أن تجرد عن التفضيل فتكون بمعنى - حسنة - كما قالوا ذلك في «يوسف أحسن إخوته» وقرأ الجحدري «إحسانا» على أنه مصدر أحسن الذي همزته للصيرورة كما تقول : أعشبت الأرض إعشابا أي صارت ذا عشب وحينئذ نعت لمصدر محذوف أي قولا ذا حسن وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أراد سبحانه بهما افرض عليهم في ملتهم لأنه حكاية لما وقع في زمان موسى عليه السلام وكانت زكاة أموالهم - كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قربانا تهبط إليها نار فتحملها - وكان ذلك علامة القبول - وما لا تفعل النار به كذلك كان غير متقبل ، والقول بأن المراد بهما هذه الصلاة وهذه الزكاة المفروضتان علينا ، والخطاب لمن بحضرة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم من أبناء اليهود لا غير ، والأمر بهما كناية عن الأمر بالإسلام ، أو للإيذان بأن الكفار مخاطبون بالفروع أيضا ليس بشيء كما لا يخفى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه.
وثُمَّ للاستبعاد أو لحقيقة التراخي فيكون توبيخا لهم بالارتداد بعد الانقياد مدة مديدة وهو أشنع من العصيان من الأول ، وقد ذكر بعض المحققين أنه إذا جعل ناصب الظرف خطابا له صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بني إسرائيل جميعا بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكرهم كلهم حينئذ على نهج الغيبة ، فإن الخطابات السابقة للأسلاف محكية بالقول المقدر قبل لا تعبدون كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت عليهم - وإن جعل خطابا لليهود المعاصرين - فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولي بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ ، وقيل : الالتفات إنما يجيء على قراءة لا يعبدون بالغيبة ، وأما على قراءة الخطاب - فلا التفات - ومن الناس من جعل هذا الخطاب خاصا بالحاضرين في زمنه عليه الصلاة والسلام وما تقدم خاصا بمن تقدم ، وجعل الالتفات على القراءتين لكنه بالمعنى الغير المصطلح عليه أن «1» كون الالتفات بين خطابين لاختلافهما لم يقل به أهل المعاني - لكنه وقع مثله في كلام بعض الأدباء - وما ذكرناه من التغليب أولى وأحرى خلافا لمن التفت عنه.
إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ، ومن الأخلاف من أسلم كعبد اللّه بن سلام وأضرابه فالقلة في عدد الأشخاص ، وقول ابن عطية : إنه يحتمل أن تكون في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم لا يقدم عليهم إلا القليل ممن لم يعط فهما في الألفاظ العربية ، وروي عن أبي عمرو وغيره رفع قليل والكثير المشهور في أمثال ذلك النصب لأن ما قبله موجب ، واختلفوا في تخريج الرفع فقيل : إن المرفوع تأكيد للضمير أو بدل منه ، وجاز لأن تَوَلَّيْتُمْ في معنى النفي أي لم يفوا ، وقد خرج غير واحد قوله : صلّى اللّه عليه وسلّم فيما صح على الصحيح : «العالمون هلكى إلا العالمون ، والعالمون هلكى إلا العاملون ، والعاملون هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر»
وقول الشاعر :
وبالصريمة منهم منزل خلق عاف تغير إلا النوء والوتد
___________
(1) والظاهر أنه تعليل لغير المصطلح عليه ، وعليه المناسب الإتيان باللام أي لأن ، ادارة.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 310
على ذلك ، وقول أبي حيان إنه ليس بشيء إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بنفي فيلزم جواز قام القوم إلا زيد بالرفع على التأويل والإبدال - ولم يجوزه النحويون - ليس بشيء كما لا يخفى ، وقيل : إن إِلَّا صفة بمعنى غير ظهر إعرابها فيما بعدها ، وقد عقد سيبويه لذلك بابا في كتابه فقال : هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعدها وصفا بمنزلة غير ومثل ، وذكر من أمثلة هذا الباب لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء : 22] وقوله :
أينخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها
وخرج جمع جميع ما سلف على هذا ، وفيه أن ذلك فيما نحن فيه لا يستقيم إلا على مذهب ابن عصفور حيث ذهب إلى أن الوصف ب إِلَّا يخالف الوصف بغيرها من حيث إنه يوصف بها النكرة والمعرفة ، والظاهر والمضمر وأما على مذهب غيره - وهو ابن شاهين - بالنسبة إليه من أنه لا يوصف بها إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة - بلام الجنس - فلا ، والمبرد يشترط في الوصف بها صلاحية البدل في موضعه وقيل : إنه مبتدأ خبره محذوف أي لم يقولوا - ولا يرد عليه شيء مما تقدم - إلا أن فيه كلاما سنذكره إن شاء اللّه تعالى عند قوله تعالى : إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف : 11] وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ جملة معترضة أي وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولي عن المواثيق ، ويؤخذ كونه عادتهم من الاسمية الدالة على الثبوت ، وقيل : حال مؤكدة - والتولي والإعراض شيء واحد - ويجوز فصل الحال المؤكدة - بالواو - عند المحققين وفرق بعضهم بين التولي والإعراض بأن الأول قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب ، وقيل : إن التولي أن يرجع عوده إلى بدئه ، والإعراض أن يترك المنهج ويأخذ في عرض الطريق والمتولي أقرب أمرا من المعرض لأنه متى عزم سهل عليه العود إلى سلوك المنهج والمعرض حيث ترك المنهج واحد في عرض الطريق يحتاج إلى طلب منهجه فيعسر عليه العود إليه. ومن الناس من جوز أن يكون معرضون على ظاهره ، والجملة حال مقيدة أي لم يتول القليل وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عنهم ساخطون لهم فيكون وفي ذلك مزيد توبيخ لهم ومدحا للقليل - فهو بعيد - كالقول بأنها مقيدة ومتعلق التولي والإعراض مختلف أي توليتم على المضي في الميثاق وأعرضتم عن اتباع هذا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على نحو ما سبق في لا تَعْبُدُونَ والمراد أن لا يتعرض بعضكم بعضا بالقتل والإجلاء وجعل قتل الرجل غيره قتل نفسه لاتصاله نسبا أو دينا ، أو لأنه يوجبه قصاصا ، ففي الآية مجاز ، إما في ضمير - كم - حيث عبر به عمن يتصل به أو في تَسْفِكُونَ حيث أريد به ما هو سبب السفك. وقيل : معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم ، أو لا تفعلون ما يرديكم ويصرفكم عن لذات الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم ، وليس النفي في الحقيقة جلاء الأوطان بل البعد من رياض الجنان ولعل ما يساعده سياق النظم الكريم هو الأول. و«الدماء» جمع دم معروف وهو محذوف - اللام - وهي - ياء - عند بعض لقوله :
جرى الدميان بالخبر اليقين
وواو - عند آخرين لقولهم دموان ووزنه فعل أو فعل ، وقد سمع مقصورا وكذا مشددا ، وقرأ طلحة وشعيب «تسفكون» - بضم الفاء - وأبو نهيك - بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء مشددة - وابن أبي إسحاق كذلك إلا أنه سكن السين وخفف الفاء ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أي بالميثاق واعترفتم بلزومه خلفا بعد سلف فالإقرار ضد الجحد ويتعدى - بالباء - قيل ويحتمل أنه بمعنى إبقاء الشيء على حاله من غير اعتراف به - وليس بشي ء - إذ لا يلائمه حينئذ وَأَنْتُمْ

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 311
تَشْهَدُونَ
حال مؤكدة رافعة احتمال أن يكون الإقرار ذكر أمر آخر لكنه يقتضيه ، ولا يجوز العطف لكمال الاتصال ولا الاعتراض إذ ليس المعنى وأنتم عادتكم الشهادة بل المعنى على التقييد «1» وقيل : وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا ، وضعف بأن يكون حينئذ استبعاد القتل والإجلاء منهم مع أن أخذ الميثاق والإقرار كان من أسلافهم لاتصالهم بهم نسبا ودينا بخلاف ما إذا اعتبر نسبة الإقرار إليهم على الحقيقة فإنه يكون بسبب إقرارهم وشهادتهم - وهو أبلغ في بيان قبيح صنيعهم - وادعى بعضهم أن «الأظهر» أن المراد أقررتم حال كونكم شاهدين على إقراركم بأن شهد كل أحد على إقرار غيره كما هو طريق الشهادة ولا يخفى انحطاط المبالغة حينئذ.
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ نزلت - كما في البحر - في بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير من اليهود ، كان بنو قينقاع أعداء بني قريظة ، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع ، والخزرج حلفاء بني قريظة ، والنضير والأوس والخزرج إخوان ، وبنو قريظة والنضير إخوان - ثم افترقوا - فصارت بنو النضير حلفاء الخزرج ، وبنو قريظة حلفاء الأوس ، فكانوا يقتتلون ويقع منهم ما قص اللّه تعالى ، فعيرهم اللّه تعالى بذلك. وثُمَّ للاستبعاد في الوقوع - لا للتراخي في الزمان - لأنه الواقع في نفس الأمر - كما قيل به - وأَنْتُمْ مبتدأ ، وهؤُلاءِ خبره على معنى أَنْتُمْ بعد ذلك المذكور من الميثاق والإقرار والشهادة هؤُلاءِ الناقضون ، كقولك : أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا ، وكان مقتضى الظاهر ، ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ذلك التوكيد في الميثاق نقضتم العهد ف تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ إلخ أي صفتكم الآن غير الصفة التي كنتم عليها ، لكن أدخل هؤُلاءِ وأوقع خبرا ليفيد أن الذي تغير هو الذات نفسها نعيا عليهم لشدة «2» وكادت الميثاق ثم تساهلهم فيه وتغيير الذات فهم من وضع اسم الإشارة الموضوع للذات موضع الصفة لا من جعل ذات واحد في خطاب واحد مخاطبا وغائبا ، وإلا لفهم ذلك من نحو بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل : 55] أيضا.
وصح الحمل مع اعتبار التغير لأنه ادعائي - وفي الحقيقة واحد - وعدوا حضورا مشاهدين باعتبار تعلق العلم بما أسند إليهم من الأفعال المذكورة سابقا وغيبا باعتبار عدم تعلق العلم بهم لما سيحكى عنهم من الأفعال بعد ، لا لأن المعاصي توجب الغيبة عن غير الحضور إذ المناسب حينئذ الغيبة في تَقْتُلُونَ وَتُخْرِجُونَ قاله الساليكوتي ، وتَقْتُلُونَ إما حال والعامل فيه معنى الإشارة أو بيان كأنه لما قيل ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ قالوا كيف نحن فجيء ب تَقْتُلُونَ تفسيرا له ، ويحتمل أن تجعل مفسرة لها من غير تقدير سؤال ، وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أَنْتُمْ مبتدأ وتَقْتُلُونَ الخبر وهؤُلاءِ تخصيص للمخاطبين لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون فيكون إذ ذاك منصوبا بأعني وفيه أن النحاة نصوا على أن التخصيص لا يكون بأسماء الإشارة ولا بالنكرة والمستقر من لسان العرب أنه يكون بأيتها كاللهم اغفر لنا أيتها العصابة وبالمعرف - باللام - كنحن العرب أقرى الناس للضيف - أو الإضافة كنحن معاشر الأنبياء لا نورث - وقد يكون بالعلم - كبنا تميما نكشف الضبابا. وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم - وقد يجيء بعد ضمير المخاطب - كبك اللّه نرجو الفضل ، وقيل : هؤُلاءِ تأكيد لغوي «لأنتم» فهو إما بدل منه أو عطف بيان عليه وجعله من التأكيد اللفظي بالمرادف توهم ، والكلام على هذا خال عن تلك النكتة ، وقيل : هؤلاء بمعنى الذين والجملة صلته
___________
(1) والفرق بين الوجهين أن صرف الخطاب من المجاز إلى الحقيقة مبتدأ من قوله ثم أقررتم على الأول ومن ثم أنتم تشهدون على الثاني فافهم ا ه منه.
(2) هكذا الأصل ، وعبارة الشهاب هكذا ليفيد أن الذي تغير هو الذات بعينها نعيا عليهم بشدة وكأنه أخذ الميثاق ثم تساهلهم فيه ا ه ولعل في النسخة تحريفا ، إدارة.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 312
والمجموع هو الخبر ، وهذا مبني على مذهب الكوفيين حيث جوزوا كون جميع أسماء الإشارة موصولة سواء كانت بعد «ما» أو لا والبصريون يخصونه إذا وقعت بعد «ما» الاستفهامية - وهو المصحح - على أن الكلام يصير حينئذ من قبيل :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة وهو ضعيف - كما قاله الشهاب - وقرأ الحسن «تقتّلون» على التكثير وفي تفسير المهدوي أنها قراءة أبي نهيك وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ عطف على ما قبله وضمير ديارهم للفريق وإيثار الغيبة مع جواز دياركم كما في الأول للاحتراز عن توهم كون المراد إخراجهم من ديار المخاطبين من حيث ديارهم لا ديار المخرجين تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ حال من فاعل تُخْرِجُونَ أو من مفعوله قيل : أو من كليهما لأنه لاشتماله على ضميرهما يبين هيئتهما ، والمعنى على الأول تخرجون متظاهرين عليهم وعلى الثاني تخرجون فريقا متظاهرا عليهم ، وعلى الثالث تخرجون واقعا التظاهر منهم عليهم و- التظاهر - التعاون وأصله من - الظهر - كأن المتعاونين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه «والإثم» الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم ، وقيل : ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب ، وفي الحديث «الإثم ما حاك في صدرك»
وهو متعلق بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم ، وكونه هنا مجازا عما يوجبه من إطلاق المسبب على سببه كما سميت الخمر إثما في قوله :
شربت «الإثم» حتى ضل عقلي كذاك «الإثم» تذهب بالعقول
مما لا يدعو إليه داع ، والعدوان تجاوز الحد في الظلم ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تظاهرون» بتخفيف الظاء وأصله - بتاءين - حذفت ثانيتهما عند أبي حيان وأولاهما عند هاشم وقرأ باقي السبعة بالتشديد على ادغام - التاء في الظاء - وأبو حيوة «تظاهرون» - بضم التاء وكسر الهاء - ومجاهد وقتادة باختلاف عنهما «تظهّرون» - بفتح التاء والظاء والهاء مشددتين دون ألف - ورويت عن أبي عمرو أيضا وبعضهم «تتظاهرون» على الأصل.
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ أي تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر تفدوهم وعليه بعض قراءة الباقين إذ لا مفاعلة ، وفرق جمع بين فادى وفدى بأن معنى الأول بادل أسيرا بأسير والثاني جمع الفداء ويعكر عليه قول العباس رضي اللّه تعالى عنه فاديت نفسي وفاديت عقيلا إذ من المعلوم أنه ما بادل أسيرا بأسير ، وقيل : تُفادُوهُمْ بالعنف و«تفدوهم» بالصلح وقيل : تُفادُوهُمْ تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ومنه قوله :
قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك لا أرى لهم احتفالا
وقال أبو علي : معناه لغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا منهم شيئا ، وأراه هنا كسابقة في غاية البعد ، والقول بأن - معنى الآية وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى في أيدي الشياطين تتصدون لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم إلى البطون - أقرب كما لا يخفى ، و- الأسارى - قيل : جمع أسير بمعنى مأسور وكأنهم حملوا أسيرا على كسلان فجمعوه جمعه كما حملوا كسلان عليه فقالوا كسلى كذا قال سيبويه ، ووجه الشبه أن الأسير محبوس عن كثير من تصرفه للأسر والكسلان محبوس عن ذلك لعادته ، وقيل : إنه مجموع كذا ابتداء من غير حمل كما قالوا في قديم قدامى ، وسمع بفتح الهمزة وليست بالعالية خلافا لبعضهم حيث زعم أن الفتح هو الأصل والضم ليزداد قوة ، وقيل : جمع

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 313
أسرى - وبه قرأ حمزة. وهو جمع أسير كجريح وجرحى فيكون أسارى جمع الجمع قاله المفضل ، وقال أبو عمرو :
الأسرى من في اليد ، والأسارى من في الوثاق - ولا أرى فرقا - بل المأخوذون على سبيل القهر والغلبة مطلقا أسرى وأسارى.
وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ حال من فاعل تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ أو مفعوله بعد اعتبار التقييد بالحال السابقة ، وقوله تعالى : وَإِنْ يَأْتُوكُمْ اعتراض بينهما لا معطوف على تَظاهَرُونَ لأن الإتيان لم يكن مقارنا للإخراج وقيد الإخراج بهذه الحال لإفادة أنه لم يكن عن استحقاق ومعصية موجبة له ، وتخصيصه بالتقييد دون القتل للاهتمام بشأنه لكونه أشد منه وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة : 191] وقيل : لا بل لكونه أقل خطرا بالنسبة إلى القتل فكان مظنة التساهل ، ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم وذلك مختص بصورة الإخراج إذ لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص وهو السر في تخصيص التظاهر فيما سبق ، وقيل :
النكتة في إعادة تحريم الإخراج وقد أفاده - لا تخرجون أنفسكم - بأبلغ وجه ، وفي تخصيص تحريم الإخراج بالإعادة دون القتل أنهم امتثلوا حكما في باب المخرج وهو الفداء وخالفوا حكما وهو الإخراج فجمع مع الفداء حرمة الإخراج ليتصل به «أفتؤمنون» إلخ أشد اتصال ويتضح كفرهم بالبعض وإيمانهم بالبعض كمال اتضاح حيث وقع في حق شخص واحد ، والضمير للشأن والجملة بعده خبره وقيل : خبره مُحَرَّمٌ وإِخْراجُهُمْ نائب فاعل وهو مذهب الكوفيين وتبعهم المهدوي ، وإنما ارتكبوه لأن الخبر المتحمل ضميرا مرفوعا لا يجوز تقديمه على المبتدأ فلا يجيزون قائم زيد على أن يكون قائم خبرا مقدما ، والبصريون يجوزون ذلك ولا يجيزون هذا الوجه لأن ضمير الشأن لا يخبر عنه عندهم إلا بجملة مصرح بجزأيها ، وقيل : إنه ضمير مبهم مبتدأ أيضا ومُحَرَّمٌ خبره وإِخْراجُهُمْ بدل منه مفسر له ، وهذا بناء على جواز إبدال الظاهر من الضمير الذي لم يسبق ما يعود إليه ، ومنهم من منعه وأجازه الكسائي ، وقيل :
راجع إلى الإخراج المفهوم من تُخْرِجُونَ وإِخْراجُهُمْ عطف بيان له أو بدل منه أو من ضمير محرم ، وضعف بأنه بعد عوده إلى الإخراج لا وجه لإبداله منه. ومن الغريب ما نقل عن الكوفيين أنه يحتمل أن يكون هو ضمير فصل ، وقد تقدم مع الخبر والتقدير - وإخراجهم هو محرم عليكم - فلما قدم خبر المبتدأ عليه قدم هو معه ولا يجوزه البصريون - لأن وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة - لا يجوز عندهم وتوسطه بين المبتدأ والخبر أو بين ما هما أصله شرط عندهم أيضا ولابن عطية في هذا الضمير كلام يجب إضماره أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ عطف على تَقْتُلُونَ أو على محذوف أي أتفعلون ما ذكر فَتُؤْمِنُونَ إلخ والاستفهام للتهديد والتوبيخ على التفريق بين أحكام اللّه تعالى إذ العهد كان بثلاثة أشياء ترك القتل وترك الإخراج ومفاداة الأسارى فقتلوا وأخرجوا على خلاف العهد وفدوا بمقتضاه ، وقيل : المواثيق أربعة فزيد ترك المظاهرة ، وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن عبد اللّه بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء ما لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه العرب فقال له عبد اللّه بن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن ، وروى محيي السنة عن السدي أن اللّه تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه فأعتقوه ، ولعل كفرهم بما ارتكبوا لاعتقادهم عدم الحرمة مع دلالة صريح التوراة عليها لكن ما في الكشاف من أنه قيل لهم : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟! فقالوا : أمرنا بالفداء وحرم علينا القتال لكنا نستحي من حلفائنا يدل على أنهم لا ينكرون حرمة القتال فإطلاق الكفر حينئذ على فعل ما حرم إما لأنه كان في شرعهم كفرا أو أنه للتغليظ كما أطلق على ترك الصلاة ونحوه
ذلك في شرعنا ، والقول بأن المعنى

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 314
أتستعملون البعض وتتركون البعض فالكلام محمول على المجاز بهذا الاعتبار لا اعتبار به كالقول بأن المراد بالبعض المؤمن به نبوة موسى عليه السلام ، والبعض الآخر نبوة نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم.
فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض ، أو إلى ما فعلوه من القتل والاجلاء مع مفاداة - الأسارى - والجزاء المقابلة ويطلق في الخير والشر - والخزي - الهوان ، والماضي - خزي - بالكسر ، وقال ابن السكيت : معنى - خزي - وقع في بلية - وخزي - الرجل - خزاية - إذا استحى وهو - خزيان - وقوم - خزايا - وامرأة - خزيا - والمراد به هنا الفضيحة والعقوبة أو ضرب الجزية غابر الدهر أو غلبة العدو أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا وأذرعات.
وقد روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : كان عادت بني قريظة القتل وعادة بني النضير الإخراج فلما غلب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أجلى بني النضير وقتل رجال قريظة وأسر نساءهم وأطفالهم وتنكير - الخزي - للإيذان بفظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغا لا يكنه كنهه ، ومن هنا لم يخصه بعضهم ببعض الوجوه ، وادعى أن الأظهر ذلك وجعل الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض أي بعض كان ولذلك أفردها ، وحينئذ يتناول الكفرة بنبوة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ونظيره منيفعل جميع ذلك ، والدُّنْيا مأخوذة من دنا يدنو وياؤها منقلبة عن - واو - ولا يحذف منها - الألف واللام - إلا قليلا ، وخصه أبو حيان في الشعر ، وما نافية ومِنْ إن جعلت موصولة فلا محل ليفعل من الإعراب ، وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتها ، ومِنْكُمْ حال من فاعل - يفعل - وإِلَّا خِزْيٌ استثناء مفرغ وقع خبرا للمبتدأ ولا يجوز النصب في مثل ذلك على المشهور. ونقل عن يونس إجازته في الخبر بعد إِلَّا كائنا ما كان ، وقال بعضهم : إن كان مَا بعد إلا هو الأول في المعنى أو منزل منزلته لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور ، وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلا منزلة الأول ، وإن كان وصفا أجاز فيه الفراء النصب - ومنعه البصريون - وحكي عنهم أنهم لا يجوزون النصب في غير المصادر إلا أن يعرف المعنى فيضمر ناصب حينئذ وتحقيقه في محله.
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ أي يصيرون إليه فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشد العذاب ، وقد يراد بالرد الرجوع إلى ما كانوا فيه كما في قوله تعالى : فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ [القصص : 13] وكأنهم كانوا في الدنيا ، أو في القبور في أشد العذاب أيضا فردوا إليه ، والمراد به الخلود في النار وأشديته من حيث إنه لا انقضاء له ، أو المراد أشد جميع أنواع العذاب ولكن بالنسبة إلى عذاب من لم يفعل هذا العصيان لأن عصيانهم أشد من عصيان هؤلاء وجزاء سيئة سيئة مثلها ويدل على ما قررناه قوله تعالى : مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ فلا يرد ما أورده الإمام الرازي أنه كيف يكون عذاب اليهود أشد من الدهرية المنكرين للصانع ولا يفيد ما قيل لأنهم كفروا بعد معرفتهم أنه كتاب اللّه تعالى وإقرارهم وشهادتهم إذ الكافر الموحد كيف يقال إنه أشد عذابا من المشرك؟! أو النافي للصانع وإن كان كفره عن علم ومعرفة. وضمير يُرَدُّونَ راجع إلى مِنْ وأوثر صيغة الجمع نظرا إلى معناها بعد ما أوثر الإفراد نظرا إلى لفظها لما أن الرد إنما يكون بالاجتماع وغير السبك حيث لم يقل مثلا - وأشد العذاب يوم القيامة - للإيذان بكمال التنافي بين جزاءي النشأتين ، وتقديم - اليوم - على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال من أول الأمر ، وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما ، وعاصم في رواية المفضل - تردون - على الخطاب ، والجمهور على الغيبة ، ووجه ذلك أن يُرَدُّونَ راجع إلى من يفعل فمن قرأ بصيغة الغيبة نظر إلى صيغة مِنْ ومن قرأ بصيغة الخطاب نظر إلى دخوله في مِنْكُمْ لا أن الضمير حينئذ راجع إلى «كم» كما وهم وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ اعتراض وتذييل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 315
لتأكيد الوعيد المستفاد مما قبله أي - إنه بالمرصاد لا يغفل عما تعملون من القبائح - التي من جملتها هذا المنكر والمخاطب به من كان مخاطبا بالآية قبل ، وروي عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم تعنون بهذا يا أمة محمد وبما يجري مجراه ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر - «يعملون» - بالياء على أن الضمير لمن والباقون بالتاء من فوق أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ الموعودون «1» به يوم القيامة أو مطلق الْعَذابُ دنيويا كان أو أخرويا.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بدفع الخزي إلى آخر الدنيا أو بدفع الجزية في الدنيا ، والتعذيب في العقبى ، وعلى الاحتمال الأول في الأمرين يستفاد نفي دفع العذاب من نفي تخفيفه بأبلغ وجه وآكده ، ورجحه بعضهم بأن المقام على الثاني يستدعي تقديم نفي الدفع على نفي التخفيف ، وتقديم المسند إليه لرعاية الفاصلة والتقوى لا للحصر إذ ليس المقام مقامه ، ولذا لم يقل فلا عنهم يخفف العذاب ، والجملة معطوفة على الصلة.
ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانا ، وجوز أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ خبره ، وهذه الجملة خبر بعد خبر ، والفاء لما أن الموصول إذا كانت صلته فعلا كان فيها معنى الشرط ، وفيه أن معنى الشرطية لا يسري إلى المبتدأ الواقعة خبرا عنه ، وجوز أيضا أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ مبتدأ ثان ، وهذه الجملة خبر الثاني ، والمجموع خبر الأول ، ولا يحتاج إلى رابط لأن الذين هم أولئك ، ولا يخفى ما فيه هذا «ومن باب الإشارة» في هذه الآيات وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ بميلكم إلى هوى النفس وطباعها ومتاركتكم حياتكم الحقيقية لأجل تحصيل لذاتكم الدنية ومآربكم الدنيوية وَلا تُخْرِجُونَ ذواتكم من مقارّكم الروحانية ، ورياضتكم القدسية ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بقبولكم لذلك وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عليه باستعداداتكم الأولية وعقولكم الفطرية ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ الساقطون عن الفطرة المحتجبون عن نور الاستعداد تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وتهلكونها بغوايتكم ومتابعتكم الهوى وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ من أوطانهم القديمة بإغوائهم وإضلالهم وتحريضهم في ارتكاب المعاصي تتعاونون عليهم بارتكاب الفواحش ليروكم فيتبعوكم فيها وبإلزامكم إياهم رذائل القوتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى في قيد ما ارتكبوه ووثاق شين ما فعلوه قد أخذتهم الندامة وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار تفادوهم بكلمات الحكمة والموعظة الدالة على أن اللذات المستعلية هي العقلية والروحية وأن اتباع النفس مذموم رديء فيتعظوا بذلك ويتخلصوا من هاتيك القيود سويعة أَفَتُؤْمِنُونَ ببعض كتاب العقل والشرع قولا وإقرارا وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فعلا وعملا فلا تنتهون عما نهاكم عنه فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا ذلة وافتضاح في
الحياة الدنيا ويوم مفارقة الروح البدن يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وهو تعذيبهم بالهيئات المظلمة الراسخة في نفوسهم واحترافهم بنيرانها وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عن أفعالكم أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم ، وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به ، و- الإيتاء - الإعطاء ، والْكِتابَ التوراة في قول الجمهور وهو مفعول ثان - لآتينا - وعند السهيلي مفعول أول ، والمراد بإتيانها له إنزالها عليه. وقد روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن التوراة نزلت جملة واحدة فأمر اللّه تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق فبعث بكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها فخففها اللّه
___________
(1) قوله : الموعودون به كذا بخط مؤلفه وتأمل ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 316
تعالى لموسى عليه السلام فحملها ،
وقيل ، يحتمل أن يكون - آتينا - إلخ أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه ، والكلام على حذف مضاف أي علم - الكتاب - أو فهمه وليس بالظاهر وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يقال - قفاه - إذا اتبعه - وقفاه - به إذا أتبعه إياه من - القفا - وأصل هذه الياء واو لأنها متى وقعت رابعة أبدلت كما تقول عريت من العرو أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى : ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [المؤمنون : 44] وكانوا إلى زمن عيسى عليه السلام أربعة آلاف ، وقيل : سبعين ألفا وكلهم على شريعته عليه السلام منهم يوشع.
وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير وخزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام وقرأ الحسن. ويحيى بن يعمر - بالرسل - بتسكين السين ، وهو لغة أهل الحجاز والتحريك لغة تميم وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الحجج الواضحة الدالة على نبوته فتشمل كل معجزة - أوتيها - عليه السلام وهو الظاهر ، وقيل : الإنجيل ، وعيسى أصله بالعبرانية أيشوع بهمزة ممالة بين بين ، أو مكسورة - ومعناه السيد - وقيل : المبارك فعرب ، والنسبة إليه عيسى وعيسوي وجمعه عيسون بفتح السين - وقد تضم - وأفرده عن الرسل عليه السلام لتميزه عنهم لكونه من أولي العزم وصاحب كتاب ، وقيل : لأنه ليس متبعا لشريعة موسى عليه السلام حيث نسخ كثيرا من شريعته.
وأضافه إلى أمه ردا على اليهود إذ زعموا أن له أبا ، ومريم بالعبرية الخادم وسميت أم عيسى به لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس ، وقيل : العابدة ، وبالعربية من النساء من تحب محادثة الرجال فهي كالزير من الرجال ، وهو الذي يحب محادثة النساء ، قيل : ولا يناسب مريم أن يكون عربيا لأنها كانت برية عن محبة محادثة الرجال اللهم إلا أن يقال سميت بذلك تمليحا كما يسمى الأسود كافورا ، وقال بعض المحققين : لا مانع من تسميتها بذلك بناء على أن شأن من تخدم من النساء ذلك ، وفي القاموس هي التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر - وعليه لا بأس بالتسمية كما ذكره المولى عصام - والأولى عندي أن التسمية وقعت بالعبري لا بالعربي بل يكاد يتعين ذلك كما لا يخفى على المنصف وعن الأزهري المريم المرأة التي لا تحب مجالسة الرجال وكأنه قيل لها ذلك تشبيها لها بمريم البتول ووزنه عربيا مفعل لا فعيلا «1» لأنه لم يثبت في الأبنية على المشهور ، وأثبته الصاغاني في الذيل ، وقال : إنه مما فات سيبويه ، ومنه عثير للغبار ، وضهيد - بالمهملة والمعجمة - للصلب واسم موضع ، ومدين على القول بأصالة ميمه ، وضهيا بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض أو لا ثدي لها من المضاهاة كأنها أطلق عليها ذلك لمشابهتها الرجل وابن جني يقول : إن ضهيد وعثير مصنوعان فلا دلالة فيهما على إثبات فعيل ، وذكر الساليكوتي أن عثير بمعنى الغبار - بكسر العين - وإذا كان مفعلا فهو أيضا على خلاف القياس إذ القياس إعلاله بنقل حركة الياء إلى الراء وقلبها ألفا نحو مباع لكنه شذ كما شذ مدين ، ومزيد ، وإذا كان من رام يريم إذا فارق وبرح فالقياس كسر يائه أيضا وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي قويناه بجبريل عليه السلام وإطلاق بِرُوحِ الْقُدُسِ عليه شائع فقد قال سبحانه : قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل : 102] وقال صلّى اللّه عليه وسلّم لحسان رضي اللّه تعالى عنه «اهجهم وروح القدس معك» ومرة قال له : «وجبريل معك» وقال حسان :
وجبريل وروح القدس فينا «وروح القدس» ليس له كفاء
والْقُدُسِ الطهارة والبركة ، أو - التقديس - ومعناه التطهير. والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص. وهي معنوية بمعنى - اللام - فإذا أضيف العلم كذلك يكون مؤولا بواحد من المسمين به.
___________
(1) قوله : لا فعيلا كذا بخطه ا ه مصححه.

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 317
وقال مجاهد والربيع : الْقُدُسِ من أسماء اللّه تعالى - كالقدوس - وزعم بعضهم أن إطلاق الروح على جبريل مجاز لأنه الريح المتردد في مخارق الإنسان - ومعلوم أن جبريل ليس كذلك - لكنه أطلق عليه على سبيل التشبيه من حيث إن - الروح - سبب الحياة الجسمانية ، وجبريل سبب الحياة المعنوية بالعلوم ، وكأن هذا الزعم نشأ من كثافة روح الزاعم وعدم تغذيها بشيء من العلوم ، وخص عيسى عليه السلام بذكر التأييد بِرُوحِ الْقُدُسِ لأنه تعالى خصه به من وقت صباه إلى حال كبره ، كما قال تعالى : إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [المائدة :
110] ولأنه حفظه حتى لم يدن منه الشيطان ، ولأنه بالغ اثنا عشر ألف يهودي لقتله ، فدخل عيسى بيتا فرفعه عليه السلام مكانا عليا. وقيل : - الروح - هنا اسم اللّه تعالى الأعظم الذي كان يحيي به الموتى - وروي ذلك كالأول عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - وقال ابن زيد : الإنجيل - كما جاء في شأن القرآن - قوله تعالى : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى : 52] وذلك لأنه سبب للحياة الأبدية والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش الذي هو سبب الحياة الدنيوية ، وقيل : روح عيسى عليه السلام نفسه ، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان ، أو لكرامته عليه تعالى - ولذلك أضافها إلى نفسه - أو لأنه لم يضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث ، بل حصل من نفخ جبريل عليه السلام في درع أمه فدخلت النفخة في جوفها ، وقرأ ابن كثير «القدس» - بسكون الدال - حيث وقع ، وأبو حيوة «القدوس» بواو.
أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ مسبب عن قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء ، وقد أدخلت - الهمزة - بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا ، والتعجيب من شأنهم على معنى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول - فعكستم بأن كذبتم - ويحتمل أن يكون ابتداء كلام - والفاء - للعطف على مقدر كأنه قيل : أفعلتم ما فعلتم - فكلما جاءكم - ثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد - الفاء - فيكون العطف للتفسير ، وأن يكون غيره مثل «أكفرتم النعمة واتبعتم الهوى» فيكون لحقيقة التعقيب ، وضعف هذا الاحتمال بما ذكره الرضي أنه لو كان كذلك لجاز وقوع - الهمزة - في الكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفا عليه - ولم تجئ إلا مبنية على كلام متقدم ، وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة - بالواو أو الفاء ، أو ثم - في محلها الأصلي ، أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية ، وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع - على هذا - وفي البعض - على ذلك - بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام - والقلب يميل إليه - قيل : ولا يلزم بطلان صدارة - الهمزة - إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه ، وتعلق معناها بمضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول ، أو لوقوعه بعده متراخيا أو غير متراخ ، وهذا مراد من قال : إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير ، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد اعتبار عطفه ، ولم يرد أنها صلة وتَهْوى من - هوي - بالكسر إذا أحب ، ومصدره - هوى - بالقصر ، وأما - هوى - بالفتح فبمعنى سقط ، ومصدره - هوي - بالضم وأصله فعول فأعل وقال المرزوقي : هوى - انقض انقضاض النجم والطائر ، والأصمعي يقول : هوت العقاب إذا انقضت لغير الصيد.
وأهوت إذا انقضت للصيد ، وحكى بعضهم أنه يقال : هوى يهوي هويا - بفتح الهاء - إذا كان القصد من أعلى إلى أسفل ، وهوى يهوي هويا بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى - وما ذكرناه أولا هو المشهور - والهوي - يكون في الحق وغيره ، وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر ، ومنه هذه الآية. وعبر عن المحبة بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر ، ومتعلق اسْتَكْبَرْتُمْ محذوف أي

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 318
عن الإيمان بما جاء به مثلا ، واستفعل هنا بمعنى تفعل.
فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ الظاهر أنه عطف على اسْتَكْبَرْتُمْ والفاء للسببية إن كان التكذيب والقتل مرتبين على الاستكبار ، وللتفصيل إن كانا نوعين منه ، وجوز الراغب أن يكون عطفا على وَأَيَّدْناهُ ويكون أَفَكُلَّما مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار ، وقدم فَرِيقاً في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر ، وثم محذوف أي فَرِيقاً منهم ، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول ، ونسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم ، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية واستحضارا لصورتها لفظاعتها واستعظامها ، أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل ، أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة ، فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض. والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة سواء ترتب عليه أولا ، وقيل : لا حاجة إلى التعميم لأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع
في الصحيح بلفظ «وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم»
وفيه أنه لم يتحقق منهم القتل زمان نزول الآية بل مباشرة الأسباب فلا بد من التعميم.
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ عطف على اسْتَكْبَرْتُمْ أو على كَذَّبْتُمْ فتكون تفسيرا للاستكبار ، وعلى التقديرين فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عن مخاطبتهم وإبعادا لهم عن عز الحضور ، والقائلون هم الموجودون في عصر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، و- الغلف - جمع أغلف كأحمر وحمر وهو الذي لا يفقه ، قيل وأصله ذو الغلفة الذي لم يختن ، أو جمع غلاف ويجمع على غلف بضمتين أيضا. وبه قرأ ابن عباس وغيره ، وأرادوا على الأول قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن نفوذ ما جئت به فيها ، وهذا كقولهم : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت : 5] قصدوا به إقناط النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن الإجابة وقطع طمعه عنهم بالكلية ، وقيل : مغشاة بعلوم من التوراة نحفظها أن يصل إليها ما تأتي به ، أو بسلامة من الفطرة كذلك ، وعلى الثاني أنها أوعية العلم فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعته - قاله ابن عباس. وقتادة والسدي - أو مملوءة علما فلا تسع بعد شيئا فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره ، روي ذلك عن ابن عباس أيضا ، وقيل : أرادوا أنها أوعية العلم فكيف يحل لنا اتباع الأمي ولا يخفى بعده.
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ رد لما قالوه ، وتكذيب لهم فيما زعموه ، والمعنى أنها خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الموصل إلى الحق لكن اللّه تعالى أبعدهم ، وأبطل استعدادهم الخلقي للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم ، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقا وصدقا بل لأنه سبحانه طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم. أو أن اللّه تعالى أقصاهم عن رحمته فأنى لهم ادعاء العلم الذي هو أجل آثارها ، ويعلم من هذه الوجوه كيفية الرد على ما قيل قبل من الوجوه فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ الفاء لسببية اللعن لعدم الايمان ، و- قليلا - نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا قليلا ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب «ما» مزيدة لتأكيد معنى القلة لا نافية لأن ما في حيزها لا يتقدمها ولأنه وإن كان بمعنى - لا يؤمنون قليلا فضلا عن الكثير - لكن ربما يتوهم لا سيما مع التقديم أنهم لا يؤمنون قليلا بل كثيرا ، ولا مصدرية لاقتضائها رفع القليل بأن يكون خبرا ، والمصدر المعرف بالإضافة مبتدأ ، والتقدير فإيمانهم قليل ، وجوز بعضهم - كونها نافية بناء على مذهب الكوفيين من جواز تقدم ما في حيزها عليها ولم يبال بالتوهم وآخرون كونها مصدرية ، والمصدر فاعل «قليلا» وكانوا مقدرة في نظم الكلام

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 319
فتكون على طرز كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [الذاريات : 17] ، ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وجوز أيضا انتصاب قليلا على الحال إما من ضمير الإيمان أو من فاعل يُؤْمِنُونَ والتقدير فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلته ، وهو المروي عن سيبويه أو «فيؤمنون» حال كونهم جمعا قليلا أي المؤمن منهم قليل ، وهو المروي عن ابن عباس وطلحة وقتادة ، ولذا جوز كونه نعتا للزمان أي زمانا قليلا وهو زمان الاستفتاح أو بلوغ الروح التراقي ، أو ما قالوا آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران : 72] وأولى الوجوه أولها ، والظاهر أن المراد بالإيمان المعنى اللغوي ، والقلة مقابل الكثرة ، وقال الزمخشري : يجوز أن تكون بمعنى العدم ، وكأنه أخذه من كلام الواقدي لا قليلا ولا كثيرا واعترضه في البحر بأن القلة بمعنى النفي ، وإن صحت لكن في غير هذا التركيب لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت ، فصار نظير قمت قليلا أي قياما قليلا ، ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت ، وجعلت قليلا صفة لمصدره يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا ، وعدم وقوعه بالكلية ، وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم - أقل رجل يقول ذلك ، وقلما يقوم زيد - فحملها هنا على ذلك ليس بصحيح ، وليت شعري أي معنى لقولنا يُؤْمِنُونَ إيمانا معدوما ، وما نقل الكسائي عن العرب أنهم يقولون : مررنا بأرض قليلا ما تنبت ويريدون لا تنبت شيئا فإنما ذلك لأن قليلا حال من الأرض ، وإن كان نكرة ، وما مصدرية والتقدير قليلا إنباتها فلا مانع فيه من حمل القلة على العدم - وأين ما نحن فيه - من ذاك اللهم إلا على بعض الوجوه المرجوحة لكن الزمخشري غير قائل به ، ويمكن أن يقال : إن ذلك على طريق الكناية فإن قلة الشيء تستتبع عدمه في أكثر الأوقات لا على أن لفظ القلة
مستعمل بمعنى العدم فإنه هنا قول بارد جدا ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة.
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو القرآن وتنكيره للتعظيم ووصفه بما عنده للتشريف والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه ويتبع لأنه من خالقهم وإلههم الناظر في مصالحهم ، والجملة عطف على قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أي وكذبوا لما جاءهم إلخ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من كتابهم أي نازل حسبما نعت أو مطابق له ، ومُصَدِّقٌ صفة ثانية لكتاب وقدمت الأولى عليها لأن الوصف بكينونته من عنده تعالى آكد ووصفه بالتصديق ناشىء عنها وجعله مصدقا ل «كتابهم» لا مصدقا به إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم لكونه مشتملا على الإخبار عنه محتاجا في صدقه إليه وإلى أنه بإعجازه مستغن عن تصديق الغير ، وفي مصحف أبيّ «مصدقا» بالنصب ، وبه قرأ ابن أبي عبلة ، وهو حينئذ حال من الضمير المستقر في الظرف ، أو من كتاب لتخصيصه بالوصف المقرب له من المعرفة ، واحتمال أن الظرف لغو متعلق ب جاءَهُمْ بعيد - فلا يضر - على أن سيبويه جوّز مجيء الحال من النكرة بلا شرط وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قبل مبعثه - قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وقتادة - والمعنى يطلبون من اللّه تعالى أن ينصرهم به على المشركين ، كما روى السدي أنهم كانوا إذا اشتد الحرب بينهم وبين المشركين أخرجوا التوراة ووضعوا أيديهم على موضع ذكر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقالوا : اللهم إنا نسألك بحق نبيك الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان أن تنصرنا اليوم على عدونا فينصرون - فالسين - للطلب - والفتح - متضمن معنى النصر بواسطة عَلَى أو يفتحون عليهم من قولهم : فتح عليه إذا علمه ووقفه كما في قوله تعالى : أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة : 76] أي يعرفون المشركين أن نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه - فالسين - زائدة للمبالغة ، كأنهم فتحوا بعد طلبه من أنفسهم - والشيء بعد الطلب أبلغ - وهو من باب التجريد ، جرّدوا من أنفسهم أشخاصا وسألوهم

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 320
الفتح كقولهم : استعجل كأنه طلب العجلة من نفسه ، ويؤول المعنى إلى يا نفس عرّفي المشركين أن نبيا يبعث منهم ، وقيل : يَسْتَفْتِحُونَ بمعنى يستخبرون عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، هل ولد مولود صفته كذا وكذا؟ نقله الراغب وغيره ، وما قيل : إنه لا يتعدى ب عَلَى لا يسمع بمجرد التشهي.
فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ كنى عن الكتاب المتقدم ب ما عَرَفُوا لأن معرفة من أنزل عليه معرفة له ، والاستفتاح به استفتاح به ، وإيراد الموصول دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم ، ويحتمل أن يراد به النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وما قد يعبر بها عن صفات من يعقل ، وبعضهم فسره بالحق إشارة إلى وجه التعبير عنه عليه الصلاة والسلام ب ما وهو أن المراد به الحق - لا خصوصية ذاته المطهرة - وعرفانهم ذلك حصل بدلالة المعجزات والموافقة لما نعت في كتابهم - فإنه كالصريح عند الراسخين - فلا يرد أن نعت الرسول في التوراة إن كان مذكورا على التعيين فكيف ينكرونه فإنه مذكور بالتواتر - وإلا فلا عرفان للاشتباه - على أن الإيراد في غاية السقوط ، لأن الآية مساقة على حد قوله تعالى : وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل : 14] أي جحدوه مع علمهم به - وهذا أبلغ في ذمهم - وكَفَرُوا جواب ل «ما» الأولى ول «ما» الثانية تكرير لها لطول العهد كما في قوله تعالى : لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران : 188] وإلى ذلك ذهب المبرد ، وقال الفراء : ل «ما» الثانية مع جوابها جواب الأولى كقوله تعالى : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ [البقرة : 38] إلخ ، وعلى الوجهين يكون قوله سبحانه : وَكانُوا مِنْ قَبْلُ جملة حالية بتقدير - قد - مقررة ، واختار الزجاج والأخفش أن جواب الأولى محذوف - أي كذبوا به مثلا - وعليه يكون وَكانُوا مِنْ قَبْلُ إلخ مع ما عطف عليه من قوله تعالى : فَلَمَّا جاءَهُمْ من الشرط ، والجزاء جملة معطوفة على «لما جاءهم» بعد تمامها ، تدل الأولى على معاملتهم مع الكتاب المصدق ، والثانية مع الرسول المستفتح به ، وارتضاه بعض المحققين - لما - في
الأول من لزوم التأكيد - والتأسيس أولى منه - واستعمال الفاء للتراخي الرتبي فإن مرتبة المؤكد بعد مرتبة المؤكد ، و- لما - في الثاني من دخول الفاء في جواب «لما» مع أنه ماض وهو قليل جدا حتى لم يجوزه البصريون ولو جوز وقوعها زائدة فَلَمَّا لا تجاب بمثلها لا يقال - لما جاء زيد ، لما قعد عمرو أكرمتك - بل هو كما ترى تركيب معقود في لسانهم مع خلو الوجهين عن فائدة عظيمة وهو بيان سوء معاملتهم مع الرسول واستلزامهما جعل وَكانُوا حالا ، واختار أبو البقاء أن كَفَرُوا جواب - لما - الأولى ، والثانية ولا حذف لأن مقتضاهما واحد وليس بشيء كجعل فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ جوابا للأولى وما بينهما اعتراض واللام في الكافرين للعهد أي عليهم ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه ، وجوز كونها للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا ، واعترض بأن دلالة العام متساوية فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء ، والجواب أن المراد دخولا قصديا لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم ويكون ذلك من الكناية الإيمائية ويصار إليها إذا كان الموصوف مبالغا في ذلك الوصف ومنهمكا فيه حتى إذا ذكر خطر ذلك الوصف بالبال كقولهم لمن يقتني رذيلة ويصر عليها - أنا إذا نظرتك خطر ببالي سبابك وسباب كل من هو من أبناء جنسك - فاليهود لما بالغوا في الكفر والعناد وكتمان أمر الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ونعى اللّه تعالى عليهم ذلك صار الكفر كأنه صفة غير مفارقة لذكرهم وكان هذا الكلام لازما لذكرهم ورديفه وأنهم أولى الناس دخولا فيه لكونهم تسببوا استجلاب هذا القول في غيرهم وجعل السكاكي من هذا القبيل قوله :
إذا اللّه لم يسق إلا الكراما فيسقي وجوه بني حنبل

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 321
فإنه في إفادة كرم بني حنبل كما ترى لا خفاء فيه بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي باعوا ، فالأنفس بمنزلة المثمن ، والكفر بمنزلة الثمن لأن أنفسهم الخبيثة لا تشترى بل تباع وهو على الاستعارة أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه ، وقيل : هو بمعناه المشهور لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه فكأنه اشترى نفسه بها فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم وخلصوها فذمهم اللّه تعالى عليه ، واعترض بأنه كيف يدعي أنهم ظنوا ذلك مع قوله تعالى :
فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فإذا علموا مخالفة الحق كيف يظنون نجاتهم بما فعلوا وإرادة العقاب الدنيوي كترك الرياسة غير صحيح لأن لا يشترى به الأنفس؟ ويمكن الجواب بأن المراد أنهم ظنوا على ما هو ظاهر حالهم من التصلب في اليهودية والخوف فيما يأتون ويذرون وادعاء الحقية فيه فلا ينافي عدم ظنهم في الواقع على ما تدل عليه الآية ، والمراد بما أنزل اللّه الكتاب المصدق ، وفي تبديل المجيء بالإنزال المشعر بأنه من العالم العلوي مع الإسناد إليه تعالى إيذان بعلو شأنه وعظمه الموجب للإيمان به ، وقيل : يحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل وأن يراد الجميع ، والكفر ببعضها كفر بكلها ، واختلف في ما الواقعة بعد بئس ألها محل من الإعراب أم لا فذهب الفراء إلى أنها لا محل لها وأنها مع بئس شيء واحد كحبذا ، وذهب الجمهور إلى أن لها محلا ، واختلف أهو نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى الأول على أنها تمييز ، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة ، وفاعل بئس مضمر مفسر بها ، والتقدير بئس هو شيئا اشتروا به ، وأَنْ يَكْفُرُوا هو المخصوص بالذمّ والتعبير بصيغة المضارع لإفادة الاستمرار على الكفر فإنه الموجب للعذاب المهين ، ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص محذوفا ، واشْتَرَوْا صفة له ، والتقدير بئس شيء اشتروا به ، وأَنْ يَكْفُرُوا بدل من المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف ، وذهب الكسائي إلى النصب على التمييز أيضا إلا أنه قدر بعدها ما أخرى موصولة هي المخصوص بالذم ، واشْتَرَوْا صلتها ، والتقدير بئس شيئا الذي اشتروا ، وذهب سيبويه إلى الثاني على أنها فاعل بئس وهي معرفة تامة ، والمخصوص محذوف أي شيء اشْتَرَوْا ، وعزى هذا إلى الكسائي أيضا ، وقيل : موصولة وهو أحد قولي الفارسي وعزاه ابن عطية إلى سيبويه وهو وهم ، ونقل المهدوي عن الكسائي أن ما مصدرية والمتحصل فاعل بئس واعترض بأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف
بالإضافة إلى الضمير ، ولك على هذا التقدير أن لا تجعل ذلك فاعلا بل تجعله المخصوص والفاعل مضمر والتمييز محذوف لفهم المعنى ، والتقدير - بئس اشتراء اشتراؤهم - فلا يلزم الاعتراض ، نعم يرد عود ضمير به على ما والمصدرية لا يعود عليها الضمير لأنها حرف عند غير الأخفش فافهم بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ - البغي - في الأصل الظلم والفساد من قولهم - بغى - الجرح فسد قاله الأصمعي ، وقيل أصله الطلب ، وتختلف أنواعه ففي طلب زوال النعمة حسد ، والتجاوز على الغير ظلم ، والزنا فجور ، والمراد به هنا بمعونة المقام طلب ما ليس لهم فيؤول إلى الحسد ، وإلى ذلك ذهب قتادة وأبو العالية والسدي ، وقيل : الظلم وانتصابه على أنه مفعول له ليكفرون فيفيد أن كفرهم كان لمجرد العناد الذي هو نتيجة الحسد لا للجهل وهو أبلغ في الذم لأن الجاهل قد يعذر ، وذهب الزمخشري إلى أنه علة اشْتَرَوْا ورد بأنه يستلزم الفصل بالأجنبي وهو المخصوص بالذم وهو وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعله لكن لا خفاء في أنه أجنبي بالنسبة إلى الفعل الذي وصف به تمييز الفاعل ، والقول بأن المعنى - على ذم ما باعوا به أنفسهم حسدا وهو الكفر لا على ذم ما باعوا به أنفسهم وهو الكفر حسدا - تحكم ، نعم قد يقال : إنما يلزم الفصل بأجنبي إذا كان المخصوص مبتدأ خبره بئسما أما لو كان خبر مبتدأ محذوف - وهو المختار - فلا لأن الجملة حينئذ جواب للسؤال عن فاعل «بئس» فيكون الفصل بين المعلول وعلته بما هو بيان للمعلول ولا امتناع فيه ، وجعله بعضهم علة ل اشْتَرَوْا محذوفا فرارا من الفصل ، ومنهم من أعربه حالا ومفعولا

روح المعاني ، ج 1 ، ص : 322
مطلقا لمقدر أي بغوا بغيا ، وأَنْ يُنَزِّلَ إما مفعول من أجله للبغي أي حسدا لأجل تنزيل اللّه ، وإما على إسقاط الخافض المتعلق بالبغي أي حسدا على أَنْ يُنَزِّلَ والقول بأنه في موضع خفض على أنه بدل اشتمال من ما في قوله : بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بعيدا جدا ، وربما يقرب منه ما قيل : إنه في موضع المفعول الثاني ، والبغي بمعنى طلب الشخص ما ليس له يتعدى إليه بنفسه تارة ، وباللام أخرى ، والمفعول الأول هاهنا أعني محمدا عليه الصلاة والسلام محذوف لتعينه وللدلالة على أن الحسد مذموم في نفسه كائنا ما كان المحسود - كما لا يخفى - وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ينزل» بالتخفيف مِنْ فَضْلِهِ أراد به الوحي ، ومِنْ لابتداء الغاية صفة لموصوف محذوف أي شيئا كائنا مِنْ فَضْلِهِ وجوّز أبو البقاء أن تكون زائدة على مذهب الأخفش عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي على من يختاره للرسالة ، وفي البحر أن المراد به محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم ، وكان من العرب ومن ولد إسماعيل - ولم يكن من ولده نبي سواه عليه الصلاة والسلام وإضافة - العباد - إلى ضميره تعالى للتشريف ، ومِنْ إما موصولة أو موصوفة.
فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ تفريع على ما تقدم ، أي فرجعوا متلبسين بِغَضَبٍ كائن عَلى غَضَبٍ مستحقين له حسبما اقترفوا من الكفر والحسد. وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الغضب «الأول» لعبادة العجل «والثاني» لكفرهم به صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقال قتادة : «الأول» كفرهم بالإنجيل «والثاني» كفرهم بالقرآن ، وقيل : هما الكفر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، أو قولهم : عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة : 30] ويَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة : 64] وغير ذلك من أنواع كفرهم ، وكفرهم الأخير بالنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولا يخفى أن - فاء العطف - يقتضي صيرورتهم أحقاء بترادف الغضب لأجل ما تقدم ، وقولهم : عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مثلا غير مذكور فيما سبق ، ويحتمل أن يراد بقوله سبحانه : بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ الترادف والتكاثر لا غضبان فقط ، وفيه إيذان بتشديد الحال عليهم جدا كما في قوله :
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ولكنه رمح «وثان وثالث»
ومن الناس من زعم أن - الفاء فصيحة - والمعنى فإذا كفروا وحسدوا على ما ذكر فَباؤُ إلخ ، وليس بشيء.
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ - اللام - في «الكافرين» للعهد ، والإظهار في موضع الإضمار للإيذان بعلية كفرهم لما حاق بهم ويحتمل أن تكون للعموم فيدخل المعهودون فيه على طرز ما مر. و- المهين - المذل ، وأصله مهون فأعل ، وإسناده إلى العذاب مجاز من الإسناد إلى السبب - والوصف به للتقييد - والاختصاص الذي يفهمه تقديم الخبر بالنسبة إليه ، فغير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير - لا للإهانة والإذلال - ولذا لم يوصف عذاب غيرهم به في القرآن فلا تمسك للخوارج بأنه خص العذاب ب «الكافرين» فيكون الفاسق كافرا لأنه معذب ولا للمرجئة أيضا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 91 إلى 102]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...