الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج35.وج36.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

35. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 273
صلّى اللّه عليه وسلّم وقد تقدم إنذارهم لولا ما سلبوا من التوفيق ، وفيه ما فيه سواء رجح ضمير أَلْزَمَهُمْ إلى كفار مكة أيضا أم لا ، وأظن في قائله نزغة رافضية دعته إلى ذلك لكنه لا يتم به غرضه ، وقيل : ضمير كانُوا للمؤمنين إلا أن ضميري بِها وَأَهْلَها للسكينة ، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع ، وقيل : هما لمكة أي وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها وأهلها ، وأشعر بذكر مكة ذكر المسجد الحرام في قوله تعالى : وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وكذا محل الهدي في قوله سبحانه : وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وفيه ما لا يخفى وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيعلم سبحانه حق كل شيء واستئهاله لما يستأهله فيسوق عز وجل الحق إلى مستحقه والمستأهل إلى مستأهله أو فيعلم هذا ويعلم ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إنزال السكينة والرضا بالصلح فيكون تذييلا للجميع ما تقدم.
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه عليه الصلاة والسلام رأى وهو في الحديبية ، والأول أصح ، أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا : إن رؤيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حق فلما تأخر ذلك قال على طريق الاعتراض عبد اللّه بن أبي وعبد اللّه بن نفيل ورفاعة بن الحرث : واللّه ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت. وقد روي عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه ، وفي رواية أن رؤياه صلّى اللّه عليه وسلّم إنما كانت أن ملكا جاءه فقال له : لَتَدْخُلُنَّ إلخ ، والمعنى لقد صدقه سبحانه في رؤياه على أنه من باب الحذف والإيصال كما في قولهم : صدقني سن بكره ، وتحقيقه أنه تعالى أراه الرؤيا الصادقة.
وقال الراغب : الصدق يكون بالقول ويكون بالفعل وما في الآية صدق بالفعل وهو التحقيق أي حقق سبحانه رؤيته. وفي شرح الكرماني كذب يعتدي إلى مفعولين يقال : كذبني الحديث وكذا صدق كما في الآية ، وهو غريب لتعدي المثقل لواحد والمخفف لمفعولين انتهى. وفي البحر صدق يتعدى إلى اثنين الثاني منهما بنفسه وبحرف الجر تقول صدقت زيدا الحديث وصدقته في الحديث ، وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر والمشهور ما أشرنا إليه أولا بِالْحَقِّ صفة لمصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق أي بالفرض الصحيح والحكمة البالغة وهو ظهور حال المتزلزل في الإيمان والراسخ فيه ، ولأجل ذلك أخر وقوع الرؤيا إلى العام القابل أو حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام ، وجوز كونه حالا من الاسم الجليل وكونه حالا من رَسُولَهُ وكونه ظرفا لغوا.
لصدق. وكونه قسما بالحق الذي هو من أسمائه عز وجل أو بنقيض الباطل ، وقوله تعالى : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ عليه جواب القسم والوقف على الرُّؤْيا وهو على جميع ما تقدم جواب قسم مقدر والوقف على بِالْحَقِّ أي واللّه لتدخلن إلخ ، وقوله سبحانه : إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد ، وبه ينحل ما يقال :
إنه تعالى خالق للأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق منه سبحانه بالمشيئة ، وفي معنى ما ذكر قول ثعلب : استثنى سبحانه وتعالى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون.
وفيه تعريض بأن وقوع الدخول من مشيئته تعالى لا من جلادتهم وتدبيرهم ، وذكر الخفاجي أنه قد وضع فيه الظاهر موضع الضمير وأصله لتدخلنه لا محالة إلا إن شاء عدم الدخول فهو وعد لهم عدل به عن ظاهره لأجل التعريض بهم والإنكار على المعترضين على الرؤيا فيكون من باب الكناية انتهى. وقد أجيب عن السؤال بغير ذلك فقيل : الشك راجع إلى المخاطبين ، وفيه شيء ستعلمه قريبا إن شاء اللّه تعالى وقال الحسين بن الفضل : إن التعليق راجع إلى دخولهم جميعا وحكي ذلك عن الجبائي ، وقيل : إنه ناظر إلى الأمن فهو مقدم من تأخير أي لتدخلنه حال كونكم

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 274
آمِنِينَ من العدو إن شاء اللّه. وردهما في الكشف فقال : أما جعله قيد دخولهم بالأسر أو الأمن ففيه أن السؤال بعد باق لأن الدخول المخصوص أيضا خبر من اللّه تعالى وهو ينافي الشك ، وليس نظير قول يوسف عليه السلام : ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف : 99] إذ لا يبعد أن لا يعرف عليه السلام مستقر الأمر من الأمن أو الخوف فإما أن يؤول بأن الشك راجع إلى المخاطبين أو بأنه تعليم ، والثاني أولى لأن تغليب الشاكين لا يناسب هذا المساق بل الأمر بالعكس. ودفع وروده على الحسين بأن المراد أنه في معنى ليدخلنه من شاء اللّه دخوله منكم فيكون كناية عن أن منهم من لا يدخله لأن أجله يمنعه منه فلا يلزم الرجوع لما ذكر.
وقيل : هو حكاية لما قاله ملك الرؤيا له صلّى اللّه عليه وسلّم وإليه ذهب ابن كيسان أو لما قاله هو عليه الصلاة والسلام لأصحابه. ورده صاحب التقريب بأنه كيف يدخل في كلامه تعالى ما ليس منه بدون حكاية. ودفع بأن المراد أن جواب القسم بيان للرؤيا وقائلها في المنام الملك وفي اليقظة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فهي في حكم المحكي في دقيق النظر كأنه قيل : وهي قول الملك أو الرسول لتدخلن إلخ ، وأنت تعلم أن هذا وإن صحح النظم الكريم لا يدفع البعد ، وقد اعترض به على ذلك صاحب الكشف لكنه ادعى أن كونه حكاية ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أقل بعدا من جعله من قول الملك ، وقال أبو عبيدة. وقوم من النحاة : إِنْ بمعنى إذ وجعلوا من ذلك قوله تعالى : وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران : 139] وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في زيارة القبور : «أنتم السابقون وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون»
والبصريون لا يرتضون ذلك ، وقوله تعالى : مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ حال كآمنين من الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين من قوله تعالى : لَتَدْخُلُنَّ إلا أن آمنين حال مقارنة وهذا حال مقدرة لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير ، وجوز أن يكون حالا من ضمير آمِنِينَ والمراد محلقا بعضكم رأس بعض ومقصرا آخرون ففي الكلام تقدير أو فيه نسبة ما للجزء إلى الكل ، والقرينة عليه أنه لا يجتمع الحلق وهو معروف والتقصير وهو أخذ بعض الشعر فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم ، وقوله تعالى : لا تَخافُونَ حال من فاعل لَتَدْخُلُنَّ أيضا لبيان الأمن بعد تمام الحج وآمِنِينَ فيما تقدم لبيان الأمن وقت الدخول فلا تكرار أو حال من الضمير المستتر في آمِنِينَ فإن أريد به معنى آمنين كان حالا مؤكدة ، وإن أريد لا تخافون تبعة في الحلق أو التقصير ولا نقص ثواب فهو حال مؤسسة ، ولا يخفى الحال إذا جعل حالا من الضمير في مُحَلِّقِينَ أو مُقَصِّرِينَ ، وجوز أن يكون استئنافا بيانيا في جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فكيف الحال بعد الدخول؟ فقيل : لا تخافون أي بعد الدخول.
واستدل بالآية على أن الحلق غير متعين في النسك بل يجزىء عنه التقصير ، وظاهر تقديمه عليه أنه أفضل منه وهو الذي دلت عليه الأخبار في غير النساء.
أخرج الشيخان وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اللهم اغفر للمحلقين قالوا : يا رسول اللّه والمقصرين قال : اللهم اغفر للمحلقين ثلاثا قالوا : يا رسول اللّه والمقصرين قال : والمقصرين»
وأما في النساء
فقد أخرج أبو داود والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير»
والسنة في الحلق أن يبدأ بالجانب الأيمن ،
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أنس أنه رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال للحلاق هكذا وأشار بيده إلى جانب الأيمن
وإن يبلغ به إلى العظمين كما قال عطاء.
وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عباس وابن عمر رضي اللّه تعالى عنهم أنهما كانا يقولان للحلاق ابدأ بالأيمن وابلغ بالحلق العظمين ، واستدل بالآية أيضا على أن التقصير بالرأس دون اللحية وسائر شعر البدن إذ الظاهر أن المراد ومقصرين رؤوسكم أي شعرها لظهور أن الرؤوس أنفسها لا تقصر فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا الظاهر عطفه على لَقَدْ صَدَقَ فالترتيب باعتبار التعلق الفعلي بالمعلوم أي فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 275
لتقديم ما يشهد للصدق علما فعليا ، وقيل : الفاء للترتيب الذكري فَجَعَلَ لأجل هذا العلم مِنْ دُونِ ذلِكَ أي من دون تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجد الحرام آمنين إلخ ، وقيل : أي من دون فتح مكة ، والأول أظهر ، وهذا أنسب بقوله تعالى : فَتْحاً قَرِيباً وهو فتح خيبر كما قال ابن زيد وغيره ، والمراد بجعله وعده تعالى وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا وتستروح قلوب المؤمنين إلى تيسر وقوعها.
وقال في الكشاف : ما لَمْ تَعْلَمُوا أي من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل ، وفيه أمران : الأول أن فتح مكة لم يقع في العام الذي قاله بل في السنة الثامنة ، والتجوز في العام القابل أو تأويل الفتح بدخول المؤمنين مكة معتمرين لا يخفى حاله. الثاني إباء الفاء عما ذكر لأن علمه تعالى بذلك متقدم على إراءة الرؤيا قطعا.
وأجيب عن هذا بالتزام كون الفاء للترتيب الذكري أو كون المراد فأظهر معلومه لكم وهو الحكمة فتدبر.
ونقل عن كثير من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم أن الفتح القريب في الآية هو بيعة الرضوان ، وقال مجاهد ، وابن إسحق : هو فتح الحديبية ، ومن الغريب ما قيل : إن المراد به فتح مكة مع أنه لم يكن دخول الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه دون مكة على أنه مناف للسياق كما لا يخفى.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي ملتبسا به على أن الباء للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من المفعول ، والتباسه بالهدى بمعنى أنه هاد ، وقيل : أي مصاحبا للهدى ، والمراد به الدليل الواضح والحجة الساطعة أو القرآن ، وجوز أن تكون الباء للسببية أو للتعليل وهما متقاربان ، والجار والمجرور متعلق بأرسل أي أرسله بسبب الهدى أو لأجله وَدِينِ الْحَقِّ وبدين الإسلام ، والظاهر أن المراد به ما يعم الأصول والفروع ، وجوز أن يراد بالهدى الأصول وبدين الحق الفروع فإن من الرسل عليهم السلام من لم يرسل بالفروع وإنما أرسل بالأصول وتبيانها ، والظاهر أن المراد بالحق نقيض الباطل ، وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي ودين اللّه الحق ، وجوز الإمام غير ذلك أيضا لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جنس الدين بجميع أفراده أي ما يدان به من الشرائع والملل فيشمل الحق والباطل ، وأصل الإظهار جعل الشيء على الظهر فلذا كني به عن الإعلاء وعن جعله باديا للرائي ثم شاع في ذلك حتى صار حقيقة عرفية ، وإظهاره على الحق بنسخ بعض أحكامه المتبدلة بتبدل الاعصار ، وعلى الباطل ببيان بطلانه ، وجوز غير واحد ، ولعله الأظهر بحسب المقام ، أن يكون إظهاره على الدين بتسليط المسلمين على جميع أهل الأديان وقالوا :
ما من أهل دين حاربوا المسلمين إلا وقد قهرهم المسلمون ، ويكفي في ذلك استمرار ما ذكر زمانا معتدا به كما لا يخفى على الواقفين على كتب التواريخ والوقائع ، وقيل : إن تمام هذا الاعلاء عند نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي رضي اللّه تعالى عنه حيث لا يبقى حينئذ دين سوى الإسلام ، ووقوع خلاف ذلك بعد لا يضر اما لنحو ما سمعت وإما لأن الباقي من الدنيا إذ ذاك كلا شيء ، وفي الجملة فضل تأكيد لما وعد اللّه تعالى به من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه تعالى سيفتح لهم من البلاد ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون بالنسبة إليه فتح مكة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما عده عز وجل من إظهار دينه على جميع الأديان أو الفتح كائن لا محالة أو كفى باللّه شهيدا على رسالته صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام ادعاها وأظهر اللّه تعالى المعجزة على يده وذلك شهادة منه تعالى عليها ، واقتصر على هذا الوجه الرازي وجعل ذلك تسلية عما وقع من سهيل بن عمرو إذ لم يرض بكتابة محمد رسول اللّه وقال ما قال.
وجعل بعض الأفاضل إظهار المعجزة شهادة منه تعالى على تحقق وعده عز وجل أيضا ولا يظهر إلا بضم إخباره عليه الصلاة والسلام به.

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 276 مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أي هو أو ذلك الرسول المرسل بالهدى ودين الحق محمد على أن الاسم الشريف خبر مبتدأ محذوف ورَسُولُ اللَّهِ عطف بيان أو نعت أو بدل ، والجملة استئناف مبين لقوله تعالى : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ وهذا هو الوجه الأرجح الأنسب بالمساق كما في الكشف ويؤيده نظرا إلى بعض ما يأتي من الأوجه إن شاء اللّه تعالى قراءة ابن عامر في رواية رَسُولُ بالنصب على المدح ، وقوله تعالى : وَالَّذِينَ مَعَهُ مبتدأ خبره قوله سبحانه : أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ وقال أبو حيان : الظاهر أن مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مبتدأ وخبر والجملة عليه مبينة للمشهود به ، أما على كونه الرسالة فظاهر ، وأما على كونه محقق الوعد فقيل : لأن كينونة ما وعده لازمة لكونه عليه الصلاة والسلام رسول اللّه إذ هو لا يوعد إلا بما هو محقق ولا يخبر إلا عن كل صدق.
وجوز كون مُحَمَّدٌ مبتدأ ورَسُولُ تابعا له وَالَّذِينَ مَعَهُ عطفا عليه والخبر عنه وعنهم قوله تعالى :
أَشِدَّاءُ إلخ.
وقرأ الحسن «أشدّاء». «رحماء» بنصبهما فقيل على المدح وقيل على الحال ، والعامل فيهما العامل في مَعَهُ فيكون الخبر على هذا الوجه جملة تَراهُمْ الآتي وكذا خبر الَّذِينَ على الوجه الأول ، والمراد بالذين معه عند ابن عباس من شهد الحديبية ، وقال الجمهور : جميع أصحابه صلّى اللّه عليه وسلّم ورضي اللّه تعالى عنهم ، وأَشِدَّاءُ جمع شديد ورُحَماءُ جمع رحيم ، والمعنى أن فيهم غلظة وشدة على أعداء الدين ورحمة ورقة على إخوانهم المؤمنين ، وفي وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالشدة تكميل واحتراس فإنه لو اكتفى بالوصف الأول لربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر فيتوهم الفظاظة والغلظة مطلقا فدفع بإرداف الوصف الثاني ، ومآل ذلك أنهم مع كونهم أشداء على الأعداء رحماء على الاخوان ، ونحوه قوله تعالى : أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة : 54] وعلى هذا قوله :
حليم إذا ما الحلم زين أهله على أنه عند العدو مهيب
وقد بلغ كما روي عن الحسن من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه. والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء.
أخرج أبو داود عن البراء قال «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا اللّه واستغفراه غفر لهما»
وفي رواية الترمذي «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا»
وفي الاذكار النووية أنها مستحبة عند كل لقاء وأما ما اعتاده الناس بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له ولكن لا بأس به ، فإن أصل المصافحة سنة وكونهم محافظين عليها في بعض الأحوال ومفرطين في كثير منها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها ، وجعل ذلك العز بن عبد السلام في قواعده من البدع المباحة ، وأطال الشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره الكلام في ذلك ، وأما المعانقة فقال الزمخشري : كرهها أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه وكذلك التقبيل قال : لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئا من جسده ، ورخص أبو يوسف عليه الرحمة المعانقة ويؤيد ما
روي عن الإمام ما أخرجه الترمذي عن أنس قال : «سمعت رجلا يقول لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :
يا رسول اللّه الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال : لا قال : أفيلتزمه ويقبله؟ قال : لا قال : أيأخذ بيده ويصافحه؟ قال :
نعم»
وفي الاذكار التقبيل وكذا المعانقة لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه ، ومكروه كراهة تنزيه في غيره ، وللأمرد الحسن حرام بكل حال.
أخرج الترمذي وحسنه عن عائشة قالت : قدم زيد بن خالد بن حارثة المدينة ورسول اللّه في بيتي فقرع الباب فقام إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله ، وزاد رزين في حديث أنس السابق بعد قوله : ويقبله قال : «لا إلا أن يأتي

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 277
من سفره»
وروى أبو داود سئل أبو ذر هل كان صلّى اللّه عليه وسلّم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال : ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فجئت فأخبرت أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت أجود أجود
، وهذا يؤيد الإطلاق المحكي عن أبي يوسف وينبغي التأسي بهم رضي اللّه تعالى عنهم في التشدد على أعداء الدين والرحمة على المؤمنين. وقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود عن عبد اللّه بن عمر مرفوعا «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا»
وأخرجاهما. وأحمد وابن حبان والترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : لا تنزع الرحمة إلا من شقي»
ولا بأس بالبر والإحسان على عدو الدين إذا تضمن مصلحة شرعية كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فليراجع. وقرأ يحيى بن يعمر «أشدا» بالقصر وهي قراءة شاذة لأن قصر الممدود في الشعر نحو قوله :
لا بد من صنعا وإن طال السفر وقوله تعالى : تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً خبر آخر - للذين - أو استئناف ويجوز فيه غير ذلك على ما لا يخفى ، والرؤية بصرية ، والخطاب لكل من تتأتى منه ، ورُكَّعاً سُجَّداً حال من المفعول ، والمراد تراهم مصلين ، والتعبير بالركوع والسجود عن الصلاة مجاز مرسل ، والتعبير بالمضارع للاستمرار وهو استمرار عرفي ، ومن هنا قال في البحر :
هذا دليل على كثرة الصلاة منهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي ثوابا ورضا ، والجملة إما خبر آخر أو حال من مفعول تَراهُمْ أو من المستتر في رُكَّعاً سُجَّداً أو استئناف مبني على سؤال نشأ من بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل : ماذا يريدون بذلك؟ فقيل : يبتغون فضلا إلخ.
وقرأ عمرو بن عبيد «ورضوانا» بضم الراء سِيماهُمْ أي علامتهم وقرىء «سيمياؤهم» بزيادة ياء بعد الميم والمد وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر قال الشاعر :
غلام رماه اللّه بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر
وجاء سيماء بالمد واشتقاقها من السومة بالضم العلامة تجعل على الشاة والياء مبدلة من الواو ، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى : فِي وُجُوهِهِمْ أي في جباههم أو هي على ظاهرها ، وقوله سبحانه : مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ حال من المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا لسيماهم أو بيان لها أي سيماهم التي هي أثر السجود ، ووجه إضافة الأثر إلى السجود أنه حادث من التأثير الذي يؤثره السجود ، وشاع تفسير ذلك بما يحدث في جبهة السجاد مما يشبه أثر الكي وثفنة البعير وكان كل من العليين علي بن الحسين زين العابدين وعلي بن عبد اللّه بن عباس أبي الاملاك رضي اللّه تعالى عنهما يقال له ذو الثفنات لأن كثرة سجودهما أحدث في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير وهي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا غلظ ، وما
روي من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تعلبوا صوركم»
أي لا تسموها من العلب بفتح العين المهملة وسكون اللام الأثر ، وقول ابن عمر وقد رأى رجلا بأنفه أثر السجود : إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك فذلك إنما هو إذا اعتمد بجبهته وأنفه على الأرض لتحدث تلك السمة وذاك محض رياء ونفاق يستعاذ باللّه تعالى منه ، والكلام فيما حدث في وجه السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه اللّه عز وجل ، وأنكر بعضهم كون المراد بالسيما ذلك.
أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن حميد بن عبد الرحمن قال : كنت عند السائب بن يزيد إذ جاء رجل وفي وجهه أثر السجود فقال : لقد أفسد هذا وجهه أما واللّه ما هي السيما التي سمى اللّه تعالى ولقد صليت على وجهي منذ ثمانين سنة ما أثر السجود بين عينيّ ، وربما يحمل على أنه استشعر من الرجل تعمدا لذلك فنفى أن يكون ما حصل به هو السيما التي سمى اللّه تعالى ، ونظيره ما حكي عن بعض المتقدمين قال : كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فترى بين عينيه ركبة البعير فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض.

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 278
وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال : هذه السيما ندى الطهور وتراب الأرض ، وروي نحوه عن سعيد بن المسيب وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال : ليس له أثر في الوجه ولكنه الخشوع ، وفي رواية هي الخشوع والتواضع ، وقال منصور : سألت مجاهدا أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل قال : لا وقد يكون مثل ركبة البعير وهو أقسى قلبا من الحجارة ، وقيل : هي صفرة الوجه من سهر الليل وروي ذلك عن عكرمة والضحاك ، وروى السلمي عن عبد العزيز المكي ليس ذاك هو النحول والصفرة ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان في زنجي أو حبشي ، وقال عطاء : والربيع ابن أنس : هو حسن يعتري وجوه المصلين ، وأخرج ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : السمت الحسن ، وعن بعضهم ترى على وجوههم هيبة لقرب عهدهم بمناجاة سيدهم ، والذاهبون إلى هذه الأقوال قائلون : إن المراد علامتهم في وجوههم وهم في الدنيا ، وقال غير واحد : هذه السيما في الآخرة ، أخرج البخاري في تاريخه. وابن نصر عن ابن عباس أنه قال في الآية : بياض يغشى وجوههم يوم القيامة. وأخرج ابن نصر وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن مثله ، وأخرجوا عن عطية العوفي قال : موضع السجود أشد وجوههم بياضا ، وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ النور يوم القيامة» النور يوم القيامة»
ولا يبعد أن يكون النور علامة في وجوههم في الدنيا والآخرة لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتم خصه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالذكر ، وإذا صح الحديث فهو مذهبي. وقرأ ابن هرمز «إثر» بكسر الهمزة وسكون الثاء وهو لغة في أثر. وقرأ قتادة من «آثار» بالجمع ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه وبعد منزلته في الفضل ، وقيل : البعد باعتبار المبتدأ أعني أَشِدَّاءُ ولو قيل هذا لتوهم أن المشار إليه هو النعت الأخير. أعني سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : مَثَلُهُمْ أي وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى الأمثال ، وقوله سبحانه وتعالى : فِي التَّوْراةِ حال من مَثَلُهُمْ والعامل معنى الإشارة وقوله تعالى : وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ عطف على مَثَلُهُمْ الأول كأنه قيل : ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل ، وتكرير مَثَلُهُمْ لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها ، وقرىء «الإنجيل» بفتح الهمزة ، وقوله عز وجل : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلخ تمثيل مستأنف أي هم أو مثلهم كزرع إلخ فالوقف على الْإِنْجِيلِ وهذا مروي عن مجاهد ، وقيل :
مَثَلُهُمْ الثاني مبتدأ وقوله تعالى : كَزَرْعٍ إلخ خبره فالوقف على التَّوْراةِ وهذا مروي عن الضحاك وأبي حاتم وقتادة ، وجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله تعالى : كَزَرْعٍ إلخ كقوله تعالى : وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر : 66] فعلى الأول والثالث «مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل» شيء واحد إلا أنه على الأول أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ إلخ ، وعلى الثالث كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلخ وعلى الثاني مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ شيء وهو أَشِدَّاءُ إلخ ومثلهم في الإنجيل شيء آخر وهو كَزَرْعٍ إلخ.
واعترض الوجه الثالث بأن الأصل في الإشارة أن تكون لمتقدم وإنما يشار إلى المتأخر إذا كان نعتا لاسم الإشارة نحو ذلِكَ الْكِتابُ ، وفيه أن الحصر ممنوع ، والشطء فروخ الزرع كما قال غير واحد وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه كما قال الراغب اشطاء ، وقال قطرب : شوك السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، وقال الكسائي. والأخفش : طرفه ، وأنشدوا :
اخرج الشطء على وجه الثرى ومن الأشجار أفنان الثمر

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 279
وزعم أبو الفتح أن الشطء لا يكون إلا في البر والشعير ، وقال صاحب اللوامح : شطأ الزرع وأشطأ إذا أخرج فراخه وهو في الحنطة والشعير وغيرهما ، وفي البحر أشطأ الزرع افرخ والشجرة أخرجت غصونها.
وفي القاموس الشطء فراخ النخل والزرع أو ورقه جمعه شطوء ، وشطأ كمنع شطأ وشطوأ أخرجها ، ومن الشجر ما خرج حول أصله وجمعه اشطاء ، وأشطأ أخرجها ا ه ، وفيه ما يرد به على أبي الفتح مع زيادة لا تخفى فائدتها فلا تغفل.
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان «شطأه» بفتح الطاء وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي كذلك وبالمد. وقرأ زيد بن علي كذلك أيضا وبألف بدل الهمزة فاحتمل أن يكون مقصورا وإن يكون أصله الهمز فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفا كما قالوا في المرأة والكمأة المراة والكماة ، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين وعند البصريين شاذ لا يقاس عليه ، وقرأ أبو جعفر «شطه» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء ، ورويت عن شيبة ونافع والجحدري ، وعن الجحدري أيضا «شطوه» بإسكان الطاء وواو بعدها ، قال أبو الفتح : هي لغة أو بدل من الهمزة فَآزَرَهُ أي أعانه وقواه قاله الحسن وغيره ، قال الراغب : وأصله من شد الإزار كون الكفار مستيقنين بالآخرة ومتحققين كون الوعد منه عز وجل بعيد ، وضمير مِنْهُمْ لمن عاد عليه الضمائر السابقة ، و(من) للبيان مثلها في قوله تعالى : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج : 30] وليس مجيئها كذلك مخصوصا بما إذا كانت داخلة على ظاهر كما توهم صاحب التحفة الاثني عشرية في الكلام على قوله تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور : 55] فقال : حمل «من» للبيان إذا كان داخلا على الضمير مخالف لاستعمال العرب ، وأنكر ذلك عليه صاحب الترجمة لكن قال : لو ادعى هذا الخلاف في ضميري الخطاب والتكلم لم يبعد.
ومن مجيئها للبيان داخلة على ضمير الغائب قوله تعالى : لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عند القائلين بأن ضمير تَزَيَّلُوا للمؤمنين لا للتبعيض كما يقوله الشيعة الزاعمون ارتداد أكثر الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم من أهل بيعة الرضوان وغيرهم ، فإن مدحهم السابق بما يدل على الاستمرار كقوله تعالى : تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ووصفهم بما يدل على الدوام والثبات كقوله سبحانه : وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ يأبى التبعيض والارتداد الذين زعموه عند من له أدنى إنصاف وشمة من دين ، ويزيد زعمهم هذا سقوطا عن درجة الاعتبار أن مدحهم ذاك قد كتبه اللّه تعالى في التوراة قبل أن يخلق السموات والأرض ، ولا يكاد عاقل يقبل أنه تعالى أطلق المدح وكتبه لأناس لم يثبت على تلك الصفة إلا قليل منهم ، وإذا قلنا : إن هؤلاء الممدوحين هم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه عليه الصلاة والسلام في الحديبية كما يشعر به وَالَّذِينَ مَعَهُ لا سيما على القول بأن السورة بتمامها نزلت عند منصرفه عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل أن يتفرقوا عنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان سقوط ذلك الزعم أبين وأبين لأن الارتداد الذي يزعمونه كان لترك مبايعة علي كرم اللّه تعالى وجهه بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مع العلم بالنص على خلافته بزعمهم ومبايعة أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه ، وكيف يكون ذاك ارتدادا واللّه عز وجل حين رضي عنهم على أنهم يفعلونه ، والقول بأنه سبحانه إنما رضي عن مبايعتهم أو عنهم من حيث المبايعة ولم يرض سبحانه عنهم مطلقا لأجلها خلاف ظاهر الآية ، والظاهر ما نفي ، ولا يعكر عليه صدور بعض المعاصي من بعضهم بعد وإنما يعكر صدور ما لا يجامع الرضا أصلا كالارتداد والعياذ باللّه تعالى ، وبالجملة جعل (من) للتبعيض ليتم للشيعة ما زعموه مما يأباه الكتاب والسنة وكلام العترة.
وفي التحفة الاثني عشرية من ذلك ما تنشرح له الصدور وتزداد به قلوب المؤمنين نورا على نور ، ويا سبحان اللّه أين جعل (من) للتبعيض من دعوى الارتداد ، ولكن من يضلل اللّه فما له من هاد ، وتأخير مِنْهُمْ هنا عن عَمِلُوا الصَّالِحاتِ

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 280
وتقديم مِنْكُمْ عليه في آية النور التي ذكرناها آنفا لأن عمل الصالحات لا ينفك عنهم ، وذلك ثمت لبيان الخلفاء والعمل الصالح ليس موقوفا عليه لاستمرار صحة خلافتهم حتى لا ينعزلوا بالفسق ، وقال ابن جرير : مِنْهُمْ يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة فأعاد الضمير على معنى الشطء وكذلك فعل البغوي ولا يخفى بعده.
وهذا وفي المواهب أن الإمام مالكا قد استنبط من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، فإنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر ، ووافقه كثير من العلماء انتهى. وفي البحر ذكر عند مالك رجل ينتقص الصحابة فقرأ مالك هذه الآية فقال : من أصبح من الناس في قلبه غيظ. من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية ، ويعلم تكفير الرافضة بخصوصهم ، وفي كلام عائشة يقال : أزرته أي شددت إزاره ويقال : آزرت البناء وأزرته قويت أسافله ، وتأزر النبات طال وقوي.
وذكر غير واحد أنه إما من المؤازرة بمعنى المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة. وفي البحر «آزر» أفعل كما حكي عن الأخفش ، وقول مجاهد وغيره فاعل خطأ لأنه لم يسمع في مضارعه ألا يؤزر على وزن يكرم دون يوازر.
وتعقب بأن هذه الشهادة نفي غير مسموعة على أنه يجوز أن يكون ورد من بابين واستغنى بأحدهما عن الآخر ومثله كثير ، مع أن السرقسطي نقله عن المازني لكنه قال : يقال آزر الشيء غيره أي ساواه وحاذاه ، وأنشد لامرىء القيس :
بمحنية قد آزر الضال نبتها بجر جيوش غانمين وخيب
وجعل ما في الآية من ذلك ، وهو مروي أيضا عن السدي قال : آزره صار مثل الأصل في الطول ، والجمهور على ما نقل أولا ، والضمير المرفوع في (آزره) للشطء والمنصوب للزرع أي فقوي ذلك الشطء الزرع ، والظاهر أن الإسناد في أَخْرَجَ و«آزر» مجازي وكون ذلك من الاسناد إلى الموجب ، وهو حقيقة على ما ذهب إليه السالكوتي في حواشيه على المطول حيث قال في قولهم : سرتني رؤيتك. هذا القول مجاز إذا أريد منه حصول السرور عند الرؤية أما إذا أريد منه أن الرؤية موجبة للسرور فهو حقيقة لا يخفى حاله. وقرأ ابن ذكوان «فآزره» ثلاثيا. وقرىء «فأزّره» بشد الزاي أي فشد أزره وقواه فَاسْتَغْلَظَ فصار من الدقة إلى الغلظ وهو من باب استنوق الجمل ، ويحتمل أن يراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم ونحوه ، وأوثر الأول لأن المساق ينبىء عن التدرج فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ فاستقام على قصبه وأصوله جمع ساق نحو لابة ولوب وقارة وقور. وقرأ ابن كثير «سوقه» بإبدال الواو المضموم ما قبلها همزة ، قيل : وهي لغة ضعيفة ، ومن ذلك قوله :
أحب المؤقدين إلي موسى يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره ، والجملة في موضع الحال أي معجبا لهم ، وخصهم تعالى بالذكر لأنه إذا أعجب الزراع وهم يعرفون عيوب الزرع فهو أحرى أن يعجب غيرهم ، وهنا تم المثل وهو مثل ضربه اللّه تعالى للصحابة رضي اللّه تعالى عنهم قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس ، وهذا ما اختاره بعضهم وقد أخرجه ابن جرير وابن المنذر ، عن الضحاك وابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة ، وذكرا عنه أنه قال أيضا : مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي الكشاف هو مثل ضربه اللّه تعالى لبدء ملة الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 281
واستحكم لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قام وحده ثم قواه اللّه تعالى بمن معه كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها ، وظاهره أن الزرع هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والشطء أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم فيكون مثلا له عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا لأصحابه فقط كما في الأول ولكل وجهة ، وروي الثاني عن الواقدي ، وفي خبر أخرجه ابن جرير. وابن مردويه عن ابن عباس ما يقتضيه.
وقوله تعالى : لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ علة لما يعرب عنه الكلام من إيجاده تعالى لهم على الوجه الذي تضمنه التمثيل ، وظاهر كلام بعضهم أنه علة للتمثيل وليس بذاك ، وقيل : علة لما بعده من قوله تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد اللّه تعالى للمؤمنين في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك ، وهو مع توقف تماميته بحسب الظاهر علي رضي اللّه تعالى عنه ما يشير إليه أيضا ، فقد أخرج الحاكم وصححه عنها في قوله تعالى : لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ قالت : أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، وعن بعض السلف جعل جمل الآية كل جملة مشيرة إلى معين من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، فعن عكرمة أنه قال : أَخْرَجَ شَطْأَهُ بأبي بكر فَآزَرَهُ بعمر فَاسْتَغْلَظَ بعثمان فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعلي رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين.
وأخرج ابن مردويه والقاضي أحمد بن محمد الزهري في فضائل الخلفاء الأربعة. والشيرازي في الألقاب عن ابن عباس مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أبو بكر أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ عمر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ عثمان تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً علي كرم اللّه تعالى وجهه يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً طلحة والزبير سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ بأبي بكر فَاسْتَغْلَظَ بعمر فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعثمان يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ بعلي كرم اللّه تعالى وجهه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جميع أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه رضي اللّه تعالى عنه أيضا في قوله تعالى : كَزَرْعٍ قال : أصل الزرع عبد المطلب أَخْرَجَ شَطْأَهُ محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فَآزَرَهُ بأبي بكر فَاسْتَغْلَظَ بعمر فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعثمان لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ بعلي رضي اللّه تعالى عنه ، وكل هذه الأخبار لم تصح فيما أرى ولا ينبغي تخريج ما في الآية عليها ، وأعتقد أن لكل من الخلفاء رضي اللّه تعالى عنهم الحظ الأوفى مما تضمنته ، ومتى أريد بالزرع النبي عليه الصلاة والسلام كان حظ علي كرم اللّه تعالى وجهه من شطأه أوفى من حظ سائر الخلفاء رضي اللّه تعالى عنه ، ولعل مؤازرته ومعاونته البدنية بقتل كثير من الكفرة أعدائه عليه الصلاة والسلام أكثر من مؤازرة غيره من الخلفاء أيضا ، ومع هذا لا ينخدش ما ذهب إليه محققو أهل السنة والجماعة في مسألة التفضيل كما لا يخفى على النبيه النبيل ، فتأمل واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ومن باب الإشارة في بعض الآيات : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يشير عندهم إلى فتح مكة العماء بإدخال الأعيان الثابتة ظاهرة بنور الوجود فيها أي إظهارها للعيان لأجله عليه الصلاة والسلام على أن لام لَكَ للتعليل ، وحاصله أظهرنا العالم لأجلك وهو في معنى ما
يروونه من قوله سبحانه : «لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك»
وقيل : يشير إلى فتح باب قلبه عليه الصلاة والسلام إلى حضرة ربوبيته عز وجل بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب من الأسرار وتفصيل شرائع الإسلام وغير ذلك من فتوحات قلبه صلّى اللّه عليه وسلّم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ليستر وجودك في جميع الأزمنة بوجوده جل وعلا وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإثبات جميع حسنات العالم في

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 282
صحيفتك إذ كنت العلة في إظهاره وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً بدعوة الخلق على وجه الجمع والفرق وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ على النفوس الأمّارة ممن تدعوهم إلى الحق نَصْراً عَزِيزاً قلما يشبهه نصر ، ومن هنا كان صلّى اللّه عليه وسلّم أكثر الأنبياء عليهم السلام تبعا ، وكان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل إلى غير ذلك مما حصل لأمته بواسطة تربيته عليه الصلاة والسلام لهم وإفاضة الأنوار والأسرار على نفوسهم وأرواحهم ، والمراد ليجمع لك هذه الأمور فلا تغفل هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فسروها بشيء يجمع نورا وقوة وروحا بحيث يسكن إليه ويتسلى به الحزين والضجر ويحدث عنده القيام بالخدمة ومحاسبة النفس وملاطفة الخلق ومراقبة الحق والرضا بالقسم والمنع من الشطح الفاحش ، وقالوا : لا تنزل السكينة إلا في قلب نبي أو ولي لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ فيحصل لهم الإيمان العياني والإيمان الاستدلالي البرهاني إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على جميع المخلوقات إذ كنت أول مخلوق ، ومن هنا أحاط صلّى اللّه عليه وسلّم علما بما لم يحط به غيره من المخلوقات لأنه عليه الصلاة والسلام شاهد خلق جميعها ، ومن هذا المقام
قال عليه الصلاة والسلام : «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد»
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً إذ كنت أعلم الخلق بصفات الجمال والجلال إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يشير عندهم إلى كمال فناء وجوده صلّى اللّه عليه وسلّم وبقائه باللّه عز وجل ، وأيد ذلك بقوله سبحانه : يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ المتخلفون عن السير إلى قتال الأنفس الأمارة مِنَ الْأَعْرابِ من سكان بوادي الطبيعة شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا العوائق والعلائق فَاسْتَغْفِرْ لَنا اطلب من اللّه عز وجل ستر ذلك عن ليتأتى لنا السير يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ لتمكن حب ذلك في قلوبهم وعدم استعدادهم لدخول غيره فيها :
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أي إن هاتيك العوائق والعلائق لا تجديكم شيئا بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليها حسبما تقتضي الحكمة بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ بل حسبتم أن لا يرجع العقل والقوى الروحانية من السالكين السائرين إلى جهاد النفس وطلب مغانم التجليات والانس إلى ما كانوا عليه من إدراك المصالح وتدبير حال المعاش وما تقتضيه هذه النشأة وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ باللّه تعالى وشؤونه عز وجل وَكُنْتُمْ في نفس الأمر قَوْماً بُوراً هالكين في مهالك الطبيعة وسوء الاستعداد سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها وهي مغانم التجليات ومواهب الحق لأرباب الحضرات ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ دعونا نسلك مسلككم لننال منالكم يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ في حقهم من حرمانهم المغانم لسوء استعدادهم قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ حكم وقضى مِنْ قَبْلُ إذ كنتم في عالم الأعيان الثابتة فَسَيَقُولُونَ منكرين لذلك بَلْ تَحْسُدُونَنا ولهذا تمنعوننا عن الاتباع بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ولذلك نسبوا الحسد وهو من أقبح الصفات إلى ذوي النفوس القدسية المطهرة عن جميع الصفات الردية قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ ولا تتركون سدى إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وهم النفس وقواها تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ينقادون لحكم رسول العقل المنزه عن شوائب الوهم فَإِنْ تُطِيعُوا الداعي يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً من أنواع المعارف والتجليات وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو عذاب الحرمان والحجاب
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى وهو من لم ير في الدار غيره ديارا حَرَجٌ في ترك السلوك والجهاد المطلوب منكم لأنه وراء ذلك وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ وهو من فقد شيخا كاملا سالما عن عيب في كيفية التسليك والإيصال حَرَجٌ في ترك السلوك أيضا ، وهو إشارة إلى ما قالوا من أن ترك السلوك خير من السلوك على يد

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 283
ناقص وَلا عَلَى الْمَرِيضِ بمرض العشق والهيام حَرَجٌ في ذاك أيضا لأنه مجذوب والجذبة خير من السلوك لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يشير إلى المعاهدين على القتل بسيف المجاهدة تحت سمرة الانفراد عن الأهل والمال ، ويقال في أكثر الآيات الآتية نحو هذا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ أعداء اللّه عز وجل في مقام الفرق رُحَماءُ فيما بَيْنَهُمْ لقوة مناسبة بعضهم بعضا فهم جامعون لصفتي الجلال والجمال سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ له عز وجل وعدم السجود لشيء من الدنيا والأخرى وتلك السيما خلع الأنوار الإلهية ، قال عامر بن عبد قيس : كاد وجه المؤمن يخبر عن مكنون عمله وكذلك وجه الكافر وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً سترا لصفاتهم بصفاته عز وجل وَأَجْراً عَظِيماً وهو أن يتجلى سبحانه لهم بأعظم تجلياته وإلا فكل شيء دونه جل جلاله ليس بعظيم ، وسبحانه من إله رحيم وملك كريم.

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 284
سورة الحجرات
مدنية كما قال الحسن وقتادة ، وعكرمة وغيرهم وفي مجمع البيان عن ابن عباس إلا آية وهي قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات : 13] ولعل من يعتبر ما أخرجه الحاكم في مستدركه. والبيهقي في الدلائل. والبزار في مسنده من طريق الأعمش عن علقمة عن عبد اللّه قال : ما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات : 1 ، 2 ، 6 ، 11 ، 12 ، 15] أنزل بالمدينة وما كان يا أَيُّهَا النَّاسُ فبمكة يقول بمكية ما استثنى ، والحق أن هذا ليس بمطرد. وذكر الخفاجي أنها في قول شاذ مكية ، وهي ثماني عشرة آية بالإجماع ، ولا يخفى تواخيها مع ما قبلها لكونهما مدنيتين ومشتملتين على أحكام وتلك فيها قتال الكفار وهذه فيها قتال البغاة ، وتلك ختمت بالذين آمنوا وهذه افتتحت بالذين آمنوا ، وتلك تضمنت تشريفات له صلّى اللّه عليه وسلّم خصوصا مطلعها وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له عليه الصلاة والسلام ، وفي البحر مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر لأنه عز وجل ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه ثم قال سبحانه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الفتح : 29] إلخ فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه فقال جل وعلا تعليما للمؤمنين وتهذيبا لهم.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 إلى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وتصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته ، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه ورادع عن الإخلال به.
وتُقَدِّمُوا من قدم المتعدي ، ومعناه جعل الشيء قادما أي متقدما على غيره ، وكان مقتضاه أن يتعدى إلى

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 285
مفعولين لكن الأكثر في الاستعمال تعديته إلى الثاني بعلى تقول : قدمت فلانا على فلان ، وهو هنا محتمل احتمالين :
الأول أن يكون مفعوله نسيا والقصد فيه إلى نفس الفعل وهو التقديم من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور ولا نظر إلى أن المقدم ماذا هو على طريقة قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [المؤمنون : 80 ، غافر : 68] وقولهم : يعطي ويمنع ، فالمعنى لا تفعلوا التقديم ولا تتلبسوا به ولا تجعلوه منكم بسبيل. والثاني أن يكون قد حذف مفعوله قصدا إلى تعميمه لأنه لاحتماله لأمور لو قدر أحدها كان ترجيحا بلا مرجح يقدر أمرا عاما لأنه أفيد مع الاختصار ، فالمعنى لا تقدموا أمرا من الأمور ، والأول قيل أوفى بحق المقام لإفادته النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني ، ورجح الثاني بأنه أكثر استعمالا ، وبأن في الأول تنزيل المتعدي منزلة اللازم وهو خلاف الأصل والثاني سالم منه ، والحذف وإن كان خلاف الأصل أيضا أهون من التنزيل المذكور لكثرته بالنسبة إليه ، وبغضهم لم يفرق بينهما لتعارض الترجيح عنده وكون مآل المعنى عليهما العموم المناسب للمقام ، وذكر أن في الكلام تجوزين ، أحدهما في «بين» إلخ فإن حقيقة قولهم بين يدي فلان ما بين العضوين فتجوز بذلك عن الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما فهو من المجاز المرسل. ثانيهما استعارة الجملة وهي التقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته تصويرا لهجنته وشناعته بصورة المحسوس فيما نهوا عنه كتقدم الخادم بين يدي سيده في سيره حيث لا مصلحة ، فالمراد من لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لا تقطعوا أمرا وتجزموا به وتجترؤوا على ارتكابه قبل أن يحكم اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ويأذنا فيه ، وحاصله النهي عن الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة.
وجوز أن يكون تُقَدِّمُوا من قدم اللازم بمعنى تقدم كوجه وبين ، ومنه مقدمة الجيش خلاف ساقته وهي الجماعة المتقدمة منه ، ويعضده قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم «لا تقدموا» بفتح التاء والقاف والدال ، وأصله تتقدموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا لأنه من التفعل وهو المطاوع اللازم ، ورجح ما تقدم بما سمعت وبأن فيه استعمال اعرف اللغتين وأشهرهما ، لا يقال : الظرف إذا تعلق به العامل قد ينزل منزلة المفعول فيفيد العموم كما قرروه في «مالك يوم الدين» فليكن الظرف هاهنا بمنزلة مفعول التقدم مغنيا غناءه ، والتقدم بين يدي المرء خروج عن صفة المتابعة حسا فهو أوفق للاستعارة التمثيلية المقصود منها تصوير هجنة الحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته بصورة المحسوس ، فتخريج لا تُقَدِّمُوا على اللزوم أبلغ ولا يضره عدم الشهرة فإنه لا يقاوم الأبلغية المطابقة للمقام لما أشار إليه في الكشف من أن المراد النهي عن مخالفة الكتاب والسنة ، والتعدية تفيد أن ذلك بجعل وقصد منه للمخالفة لأن التقديم بين يدي المرء أن تجعل أحدا إما نفسك أو غيرك متقدما بين يديه وذلك أقوى في الذم وأكثر استهجانا للدلالة على تعمد عدم المتابعة لا صدورها عنه كيفما اتفق فافهم ولا تغفل.
وجوز أن يكون بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ من باب أعجبني زيد وكرمه فالنهي عن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل : لا تقدموا بين يدي رسول اللّه ، وذكر اللّه تعالى لتعظيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده عز وجل ومزيد اختصاصه به سبحانه ، وأمر التجوز عليه على حاله ، وهو كما قال في الكشف أوفق لما يجيء بعده ، فإن الكلام مسوق لإجلاله عليه الصلاة والسلام ، وإذا كان استحقاق هذا الإجلال لاختصاصه باللّه جل وعلا ومنزلته منه سبحانه فالتقدم بين يدي اللّه عز شأنه أدخل في النهي وأدخل ، وإن جعل مقصودا بنفسه على ما مر فالنهي عن الاستبداد بالعمل في أمر ديني لا مطلقا من غير مراجعة إلى الكتاب والسنة ، وعليه تفسير ابن عباس على ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه أنه قال : أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ، وكذا ما أخرجه

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 286
ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا.
ووجه الدلالة على هذا أن كلامه عليه الصلاة والسلام أريد به ما ينقله عنه تعالى ولفظه أيضا ، وما اللفظ من الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وإن كان المعنى من الوحي أو أراد كلام كل واحد من اللّه تعالى والرسول عليه الصلاة والسلام ، وما أخرج عبد بن حميد. والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن مجاهد أنه قال في ذلك : لا تفتأتوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بشيء حتى يقضي اللّه تعالى على لسانه يخرج على نحو التخريج الأول لكلام ابن عباس ويكون مؤيدا له ، وبعضهم يروى أنه قال : لا تفتاتوا على اللّه تعالى شيئا حتى يقصه على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجعل مؤيدا لكلام ابن عباس أيضا ، وفسر التقدم بين يدي اللّه تعالى لأن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام مكشوف المعنى ، ثم إن كل ذلك من باب بيان حاصل المعنى في الجملة.
وفي الدر المنثور بعد ذكر المروي عن مجاهد حسبما ذكرنا قال الحفاظ : هذا التفسير على قراءة «تقدموا» بفتح التاء والدال وهي قراءة لبعضهم حكاها الزمخشري وأبو حيان وغيرهما ، وكأن ذلك مبني على أن تُقَدِّمُوا على هذه القراءة من قدم كعلم إذا مضى في الحرب ويأتي من باب نصر أيضا إذ الافتيات وهو السبق دون ائتمار من يؤتمر أنسب بذلك.
واختار بعض الأجلة جعله من قدم من سفره من باب علم لا غير كما يقتضيه عبارة القاموس ، وعليه يكون قد شبه تعجيلهم في قطع الحكم في أمر من أمور الدين بقدوم المسافر من سفره إيذانا بشدة رغبتهم فيه نحو وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان : 23] واختلف في سبب النزول ، فأخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير قال : «قدم ركب من بني تميم على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه : أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : بل أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حتى انقضت الآية» وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن أن أناسا ذبحوا قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم النحر فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يعيدوا ذبحا فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ ، وفي الكشاف عنه أن أناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت وأمرهم صلّى اللّه عليه وسلّم أن يعيدوا ذبحا آخر ، والأول ظاهر في أن النزول بعد الأمر والذبح قبل الصلاة يستلزم الذبح قبل رسول اللّه عليه الصلاة والسلام لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان ينحر بعدها كما نطقت به الأخبار ، وإلى عدم الاجزاء قبل ذهب الإمام أبو حنيفة والأخبار تؤيده ،
أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي عن البراء قال : «ذبح أبو بردة بن نيار قبل الصلاة فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أبدلها فقال : يا رسول اللّه ليس عندي إلا جذعة فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : اجعلها مكانها ولن تجزي عن أحد بعدك»
وفي رواية أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شي ء»
وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح قبل الصلاة الحديث ، وفي المسألة كلام طويل محله كتب الفروع فراجعه إن أردته ، وعن الحسن أيضا لما استقر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدئوه بالمسألة حتى يكون عليه الصلاة والسلام هو المبتدئ ، وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا وكذا لكان كذا وكذا فكره اللّه تعالى ذلك وقدم فيه.
وقيل : بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلا عليهم المنذر بن عمرو الساعدي فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة فاعتزيا لهم إلى بني عامر لأنهم أعز

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 287
من سليم فقتلوهما وسلبوهما ثم أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : بئسما صنعتم كانا من سليم أي كانا من أهل العهد لأنهم كانوا معاهدين والسلب ما كسوتهما فوداهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : ونزلت أي لا تعملوا شيئا من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفي رواية عن مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي دخلت على عائشة رضي اللّه تعالى عنها وكانت قد تبنته في اليوم الذي يشك فيه فقالت للجارية : اسقيه عسلا فقلت : إني صائم فقالت : قد نهى اللّه تعالى عن صوم هذا اليوم وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا إلخ ، فالمعنى كما في المعالم لا تصوموا قبل صوم نبيكم ، وأول هذا صاحب الكشف فقال : الظاهر عندي أنها استدلت بالآية على أنه ينبغي أن يمتثل أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ونهيه ، وقد نهى عليه الصلاة والسلام وفيه نزلت أي في مثل هذا لدلالتها على وجوب الاتباع والنهي عن الاستبداد إذ لا يلوح ذلك التفسير على وجه ينطبق على يوم الشك وحده إلا بتكلف ، وهذا نظير ما نقل عن ابن مسعود في جواب المرأة التي اعترضت عليه أنها قرأت كتاب اللّه وما وجدت اللعن على الواشمة كما ادعاه رضي اللّه تعالى عنه من قوله : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما رأيت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر : 7] قالت : بلى قال : فإنه نهى عنه.
وأنت تعلم بعد الرواية الأولى عن هذا التأويل ، ويعلم من هذه الروايات وغيرها أنهم اختلفوا أيضا في تفسير التقدم ، وفي كثير منها تفسيره بخاص ، وقال بعضهم : إن الآية عامة في كل قول وفعل ويدخل فيها أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يسبقوه في الجواب ، وأن لا يمشي بين يديه إلا للحاجة ، وأن يستأتي في الافتتاح بالطعام ، ورجح بأنه الموافق للسياق ولما عرف في الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وفي الكلام عليه بناء على ما قاله الطيبي مجاز باعتبار القدر المشترك الصادق على الحقيقة أيضا دون التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس ويسمى في الأصول بعموم المجاز وفي الصناعة بالكناية لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة أيضا ومن هنا يجوز إرادة لا تمشوا بين يديه صلّى اللّه عليه وسلّم وذكر عليه الرحمة أنه لا يقدر على هذا القول مفعول بل يتوجه النهي إلى نفس الفعل فتأمل ، ويحتج بالآية على اتباع الشرع في كل شيء وهو ظاهر مما تقدم ، وربما احتج بها نفاة القياس وهو كما قال الكيا باطل منهم.
نعم قال الجلال السيوطي : يحتج بها على تقديم النص على القياس ، ولعله مبني على أن العمل بالنص أبعد من التقدم بين يدي اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في كل ما تأتون وتذرون من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما نحن فيه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكل مسموع ومنه أقوالكم عَلِيمٌ بكل المعلومات ومنها أفعالكم فمن حقه أن يتقي ويراقب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل ، وإعادة النداء مع قرب العهد به للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد يبلغه عليه الصلاة والسلام بصوته.
وقرأ ابن مسعود لا ترفعوا بأصواتكم بتشديد «ترفّعوا» وزيادة الباء وقد شدد الأعلم الهذلي في قوله :
رفعت عيني بالحجا ز إلى أناس بالمناقب
والتشديد فيه للمبالغة كزيادة الباء في القراءة إلا أن ليس المعنى فيها أنهم نهوا عن الرفع الشديد تخيلا أن يكون ما دون الشديد مسوغا لهم ، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون ، وهو نظير قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران : 130].
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي جهرا كائنا كالجهر الجاري فيما بينكم ، فالأول نهى عن

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 288
رفع الصوت فوق صوته صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا نهي عن مساواة جهرهم لجهره عليه الصلاة والسلام فإنه المعتاد في مخاطبة الأقران والنظراء بعضهم لبعض ، ويفهم من ذلك وجوب الغض حتى تكون أصواتهم دون صوته صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : الأول مخصوص بمكالمته صلّى اللّه عليه وسلّم لهم وهذا بصمته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق ونطقتم ولا تجهروا له بالقول إذا سكت وتكلمتم ، ويفهم أيضا وجوب كون أصواتهم دون صوته عليه الصلاة والسلام ، فأيا ما كان يكون المآل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته صلّى اللّه عليه وسلّم وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها ، ومن هنا قال أبو بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه بعد نزول الآية كما أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة : «والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول اللّه لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى اللّه تعالى».
وفي رواية أنه قال : يا رسول اللّه واللّه لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى اللّه تعالى ، وكان إذا قدم على رسول اللّه عليه الصلاة واطبوه بالنبي والرسول ، والكلام عليه أبعد عن توهم التكرار لكنه خلاف الظاهر لأن ذكر الجهر عليه لا يظهر له وجه ، وكان الظاهر أن يقال مثلا : ولا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم بعضا.
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ تعليل لما قبله من النهيين على طريق التنازع بتقدير مضاف أي كراهة أن تحبط أعمالكم ، والمعنى إني أنهاكم عما ذكر لكراهة حبوط أعمالكم بارتكابه أو تعليل للمنهي عنه ، وهو الرفع والجهر بتقدير اللام أي لأن تحبط ، والمعنى فعلكم ما ذكر لأجل الحبوط منهي عنه ، ولام التعليل المقدرة مستعارة للعاقبة التي يؤدي إليها الفعل لأن الرفع والجهر ليس لأجل الحبوط لكنهما يؤديان إليه على ما تعلمه إن شاء اللّه تعالى ، وفرق بينهما بما حاصله أن الفعل المنهي معلل في الأول والفعل المعلل منهي في الثاني وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص الأداء إلى حبوط العمل ، وقراءة ابن مسعود. وزيد بن علي «فتحبط» بالفاء أظهر في التنصيص على أدائه إلى الإحباط لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبلها ، وقوله تعالى : وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ حال من فاعل تَحْبَطَ ومفعول تَشْعُرُونَ محذوف بقرينة ما قبله أي والحال أنتم لا تشعرون أنها محبطة ، وظاهر الآية مشعر بأن الذنوب مطلقا قد تحبط الأعمال الصالحة ، ومذهب أهل السنة أن المحبط منها الكفر لا غير ، والأول مذهب المعتزلة ولذا قال الزمخشري : قد دلت الآية على أمرين هائلين : أحدهما أن فيما يرتكب من الآثام يحبط عمل المؤمن ، والثاني أن في أعماله ما لا يدرى أنه محبط ولعله عند اللّه تعالى محبط.
وأجاب عن ذلك ابن المنير عليه الرحمة بأن المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق ، ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سواء وجد هذا المعنى أو لا حماية للذريعة وحسما للمادة ، ثم لما كان هذا النهي عنه منقسما إلى ما يبلغ مبلغ الكفر وهو المؤذي له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا خوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى إذ لا دليل ظاهرا يميزه ، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان ، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه : أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ وإلا فلو كان الأمر على

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 289
ما يعتقده الزمخشري لم يكن لقوله سبحانه : وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ موقع إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا قطعا وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة على رأيه قطعا ، فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق إذن فلا موقع لإدعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا ، ثم قال عليه الرحمة : وهذا التقدير يدور على مقدمتين كلتاهما صحيحة : إحداهما أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الأذى وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام.
ثانيتهما أن إيذاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كفر وهذا ثابت قد نص عليه أئمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا ولا تقبل توبته فما أتاه أعظم عند اللّه تعالى وأكبر انتهى.
وحاصل الجواب أنه لا دليل في الآية على ما ذهب إليه الزمخشري لأنه قد يؤدي إلى الإحباط إذا كان على وجه الإيذاء أو الاستهانة فنهاهم عز وجل عنه وعلله بأنه قد يحبط وهم لا يشعرون ، وقيل : يمكن نظرا للمقام أن ينزل إذا همّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم برفع الصوت منزلة الكفر تغليظا إجلالا لمجلسه صلوات اللّه تعالى عليه وسلامه ثم يرتب عليه ما يرتب على الكفر الحقيقي من الإحباط كقوله تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إلى قوله سبحانه : وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران : 97] ومعنى وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ عليه وأنتم لا تشعرون أن ذلك بمنزلة الكفر المحبط وليس كسائر المعاصي ، ولا يتم بدون الأول ، وجاز كما في الكشف أن يكون المراد ما فيه استهانة ويكون من باب فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص : 86] مما الغرض منه التعريض كيف وهو قول منقول عن الحسن كما حكاه في الكشاف ، وقال أبو حيان : إن كانت الآية بمن يفعل ذلك استخفافا فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة ، وإن كانت للمؤمن الذي يفعله غلبة وجريا على عادته فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وغض الصوت عنده ان لو فعل ذلك كأنه قيل : مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها ، ولا يخفى ما في الشق الثاني من التكلف البارد ، ثم إن من الجهر ما لم يتناوله النهي بالاتفاق وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاندا أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ أو استهانة ، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال للعباس بن عبد المطلب لما ولى المسلمون يوم حنين : ناد أصحاب السمرة فنادى بأعلى صوته أين أصحاب السمرة ، وكان رجلا صيتا. يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدة صوته ، وفيه يقول نابغة بني جعدة :
زجر أبي عروة السباع إذا اشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه ، وذكروا أنه سئل ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فكيف لا تفتق مرارة الغنم؟ فقال : لأنها ألفت صوته ، وروى البخاري ومسلم عن أنس لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس فسأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟ قال سعد : إنه جاري وما علمت له بشكوى فأتاه سعد فقال : أنزلت هذه الآية ولقد علمتم إني أرفعكم صوتا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : بل هو من أهل الجنة ،
وفي رواية أنه لما نزلت دخل بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي فافتقده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : ما شأن ثابت؟ قالوا : يا رسول اللّه ما ندري ما شأنه غير أنه أغلق باب بيته فهو يبكي فيه فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليه فسأله ما شأنك؟ قال : يا رسول اللّه أنزل اللّه عليك هذه الآية وأنا شديد الصوت فأخاف أن أكون قد حبط عملي فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير
، والظاهر أن ذلك منه رضي اللّه تعالى عنه كان من غلبة الخوف عليه وإلا فلا حرمة قبل النهي ، وهو أيضا أجل من أن يكون ممن كان يقصد الاستهانة والإيذاء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم برفع الصوت وهم المنافقون الذين

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 290
نزلت فيهم الآية على ما روي عن الحسن وإنما كان الرفع منه طبيعة لما أنه كان في أذنه صمم وعادة كثير ممن به ذلك رفع الصوت ، والظاهر أنه بعد نزولها ترك هذه العادة ،
فقد أخرج الطبراني والحاكم وصححه أن عاصم بن عدي ابن العجلان أخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بحاله فأرسله إليه فلما جاء قال : ما يبكيك يا ثابت؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في فقال له عليه الصلاة والسلام : أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ قال : رضيت ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
واستدل العلماء بالآية على المنع من رفع الصوت عند قبره الشريف صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعند قراءة حديثه عليه الصلاة والسلام لأن حرمته ميتا كحرمته حيا. وذكر أبو حيان كراهة الرفع أيضا بحضرة العالم ، وغير بعيد حرمته بقصد الإيذاء والاستهانة لمن يحرم إيذاؤه والاستهانة به مطلقا لكن للحرمة مراتب متفاوتة كما لا يخفى.
وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلخ ترغيب في الانتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب عن الإخلال به أي يحفظونها مراعاة للأدب أو خشية من مخالفة النهي أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة ، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من تفخيم شأنه وهو مبتدأ خبره الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى والجملة خبر إن ، وأصل معنى الامتحان التجربة والاختبار ، والمراد به هنا لاستحالة نسبته إليه تعالى التمرين بعلاقة اللزوم أي إنهم مرن اللّه تعالى قلوبهم للتقوى. وفي الكشف الامتحان كناية تلويحية عن صبرهم على التقوى وثباتهم عليها وعلى احتمال مشاقها لأن الممتحن جرب وعود منه الفعل مرة بعد أخرى فهو دال على التمرن الموجب للاضطلاع ، والإسناد إليه تعالى للدلالة على التمكين ، ففيه على ما قيل مع الكناية تجوز في الإسناد والأصل امتحنوا قلوبهم للتقوى بتمكين اللّه تعالى لهم ، وكأنه إنما اعتبر ذلك لأنه لا يجوز إرادة المعنى الموضوع له هنا فلا يصح كونه كناية عند من يشترط فيها إرادة الحقيقة ، ومن اكتفى فيها بجواز الإرادة وإن امتنعت في محل الاستعمال لم يحتج إلى ذلك الاعتبار.
واختار الشهاب كون الامتحان مجازا عن الصبر بعلاقة اللزوم ، وحاصل المعنى عليه كحاصله على الكناية أي إنهم صبر على التقوى أقوياء على مشاقها أو المراد بالامتحان المعرفة كما حكي عن الجبائي مجازا من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب ، والمعنى عرف اللّه قلوبهم للتقوى ، وإسناد المعرفة إليه عز وجل بغير لفظها غير ممتنع وهو في القرآن الكريم شائع ، على أن الصحيح جواز الإسناد مطلقا لما في نهج البلاغة من إطلاق العارف عليه تعالى ، وقد ورد في الحديث أيضا على ما ادعاه بعض الأجلة ، واللام صلة لمحذوف وقع حالا من قُلُوبَهُمْ أي كائنة للتقوى مختصة بها ، فهو نحو اللام في قوله :
وقصيدة رائقة ضوعتها أنت لها أحمد من بين البشر
وقوله :
أعداء من لليعملات على الوجى وأضياف ليل بيتوا للنزول
أو هي صلة لامتحن ، باعتبار معنى الاعتياد أو المراد ضرب اللّه تعالى قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى أي لتظهر ويعلم أنهم متقون إذ لا تعلم حقيقة التقوى إلا عند المحن والاصطبار عليها ، وعلى هذا فالامتحان هو الضرب بالمحن ، واللام للتعليل على معنى أن ظهور التقوى هو الغرض والعلة وإلا فالصبر على المحنة مستفاد من التقوى لا العكس ، أو المراد أخلصها للتقوى أي جعلها خالصة لأجل التقوى أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقوى فيها حق كأن القلوب خلصت ملكا للتقوى ، وهذا أبلغ وهو استعارة من امتحان الذهب وإذابته ليخلص ابريزه من خبثه وينقى أو تمثيل ، وتفسير امْتَحَنَ بأخلص رواه ابن جرير وجماعة عن مجاهد ، وروي ذلك أيضا عن

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 291
الكعبي وأبي مسلم ، وقال الواحدي : تقدير الكلام امتحن اللّه قلوبهم فأخلصها للتقوى فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه وليس بذاك. واختار صاحب الكشف ما نقل عنه أولا فقال : الأول أرجح الوجوه لكثرة فائدته من الكناية والإسناد والدلالة على أن مثل هذا الغض لا يتأتى إلا ممن هو مدرب للتقوى صبور عليها فتأمل لَهُمْ في الآخرة مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ لغضهم أصواتهم عند النبي عليه الصلاة والسلام ولسائر طاعاتهم ، وتنكير مَغْفِرَةٌ وأَجْرٌ للتعظيم ، ففي وصف أجر بعظيم مبالغة في عظمه فإنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وجملة لَهُمْ إلخ مستأنفة لبيان جزاء الغاضين احمادا لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين ، والمبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنوانا لهم ، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بعضهم والارتضاء له وتعريضا بشناعة الرفع والجهر وإن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك ، وقيل الجملة خبر ثان لإن وليس بذاك ، والآية قيل : أنزلت في الشيخين رضي اللّه تعالى عنهما لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار بعد نزول الآية السابقة وفي حديث الحاكم. وغيره عن محمد بن ثابت بن قيس أنه قال بعد حكاية قصة أبيه وقوله : لا أرفع صوتي أبدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنزل اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية.
وأنت تعلم أن حكمها عام ويدخل الشيخان في عمومها وكذا ثابت بن قيس. وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما أنزل اللّه تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : منهم ثابت بن قيس ابن شماس
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها خلفها أو قدامها على أن وَراءِ من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء خلفا كان أو قداما إذا لم تره فإذا رأيته لا يكون وراءك ، فالوراء بالنسبة إلى من في الحجرات ما كان خارجها لتواريه عمن فيها ، وقال بعض أهل اللغة إن وراء من الأضداد فهو مشترك لفظي عليه ومشترك معنوي على الأول وهو الذي ذهب إليه الآمدي وجماعة.
والْحُجُراتِ جمع حجرة على وزن فعلة بضم الفاء وسكون العين وهي القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ، وتسمى حظيرة الإبل وهي ما تجمع فيه وتكون محجورة بحطب ونحوه حجرة أيضا فهي بمعنى اسم المفعول كالغرفة لما يغرف باليد من الماء ، وفي جمعها هنا ثلاثة أوجه ، ضم العين اتباعا للفاء كقراءة الجمهور ، وفتحها وبه قرأ أبو جعفر. وشيبة. وتسكينها للتخفيف وبه قرأ ابن أبي عبلة.
وهذه الأوجه جائزة في جمع كل اسم جامد جاء على هذا الوزن ، والمراد حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام وكانت تسعة لكل منهن حجرة ، وكانت كما أخرج ابن سعد عن عطاء الخراساني من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود. وأخرج البخاري في الأدب. وابن أبي الدنيا والبيهقي عن داود بن قيس قال : رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر ، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت ست أو سبع أذرع ، وأحزر البيت الداخل عشرة أذرع ، وأظن السمك بين الثمان والسبع.
وأخرجوا عن الحسن أنه قال : كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي ، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وبكى الناس لذلك ، وقال سعيد بن المسيب يومئذ : واللّه لوددت أنهم تركوها على حالها لينشو أناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها ، وقال نحو ذلك أبو أمامة بن سهل بن حنيف ، وفي ذكر الْحُجُراتِ كناية عن خلوته عليه الصلاة والسلام بنسائه لأنها معدة

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 292
لها ، ولم يقل : حجرات نسائك ولا حجراتك توقيرا له صلّى اللّه عليه وسلّم وتحاشيا عما يوحشه عليه الصلاة والسلام ، ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها فيكون القصد إلى الاستغراق العرفي أي جميع حجرات نسائه صلّى اللّه عليه وسلّم أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه الصلاة والسلام على أن الاستغراق إفرادي لا شمولي مجموعي ولا أنه من مقابلة الجمع بالجمع المقتضية لانقسام الآحاد على الآحاد لأن من ناداه صلّى اللّه عليه وسلّم من وراء حجرة منها فقد ناداه من وراء الجميع على ما قيل ، وعلى هذا يكون إسناد النداء من إسناد فعل الأبعاض إلى الكل ، وقيل : إن الذي نادى رجل واحد كما هو ظاهر خبر أخرجه الترمذي وحسنه. وجماعة عن البراء بن عازب ، وما
أخرجه أحمد وابن جرير وأبو القاسم البغوي والطبراني وابن مردويه بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس أنه أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا محمد اخرج إلينا فلم يجبه عليه الصلاة والسلام فقال : يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال : ذاك اللّه فأنزل اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ
إلخ ، وعليه يكون الإسناد إلى الكل لأنهم رضوا بذلك وأمروا به أو لأنه وجد فيما بينهم ، وظاهر الآية أن المنادى جمع وكذا جمع من الأخبار ، وسنذكر إن شاء اللّه تعالى بعضا منها ، وحمل الْحُجُراتِ على الجمع الحقيقي هو الظاهر الذي عليه غير واحد من المفسرين ، وجوز كون الحجرة واحدة وهي التي كان فيها الرسول عليه الصلاة والسلام وجمعت إجلالا له صلّى اللّه عليه وسلّم على أسلوب حرمت النساء سواكم ، وأيضا لأن حجرته عليه الصلاة والسلام لأنها أم الحجرات وأشرفها بمنزلة الكل على نحو أحد الوجهين في قوله تعالى :
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [البقرة : 114].
وفرق الزمخشري بين مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ بإثبات مِنْ وراء الحجرات بإسقاطها بأنه على الثاني يجوز أن يجمع المنادي والمنادى الوراء ، وعلى الأول لا يجوز ذلك ، وعلله بأن الوراء يصير بدخول من مبتدأ الغاية ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد. واعترضه في البحر بأنه قد صرح الأصحاب في معاني مِنْ أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد وأن الشيء الواحد يكون محلا لهما ونسبوا ذلك إلى سيبويه وقالوا : إن منه قولهم : أخذت الدرهم من زيد فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معا قالوا : فمن ، تكون في أكثر المواضع لابتداء الغاية فقط ، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معا.
وصاحب التقريب بقوله فيه نظر ، لأن المبدأ والمنتهى إما المنادي والمنادى على ما هو التحقيق أو الجهة ، فإن كان الأول جاز أن يجمعها الوراء في إثبات مِنْ وفي إسقاطها لتغاير المبدأ والمنتهى ، وإن كان الثاني فالجهة إما ذات أجزاء أو عديمتها ، فإن كان الأول جاز أن يجمعهما في إثبات من أيضا باعتبار أجزاء الجهة ، وإن كان الثاني لم يجز أن يجمعهما لا في إثبات من ولا في إسقاطها لاتحاد المورد. ورد الأول بأن محل الانتهاء هو المتكلم ليس إلا كما ذكره ابن هشام في المغني ، وذكر أن ابن مالك قال : إن مِنْ في المثال للمجاوزة ، والثاني غير قادح في الفرق على ما ذكره صاحب الكشف قال : الحاصل أن المبدأ الجهة باعتبار تلبسها بالفاعل لأن حرف الابتداء دخل على الجهة والفعل مما ليست المسافة داخلة في مفهومه فيعتبر الأمر أن تحقيقا لمقتضى الفعل والحرف ، ولما أوقع جميع الجهة مبدأ لم يجز أن يكون منتهى سواء كان منقسما أو لا ، ثم لما كان الوراء مبهما لم يكن مثل سرت من البصرة إلى جامعها إذ لا يتعين بعضها مبدأ وبعضها منتهى ، على أن ذلك أيضا إذا أطلق يجب أن يحمل على أن المنتهى غير البصرة ، أما إذا عينت فيجوز مع تجوز والأصل عدم إلا بدليل ، ثم هذا الجواز فيما كانت النهاية مكانا أيضا أما إذا اعتبرت باعتبار التلبس بالمفعول فلا ، وإذا لم يذكر حرف الابتداء لم يؤد هذا المعنى.
فهذا فرق محقق ومنه يظهر أن المذكور في التقريب من النظر غير قادح ، وما ذكر من أن التحقيق أن الفعل

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 293
يبتدىء من الفاعل وينتهي إلى المفعول ويقع في الظرف وأن مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ووراءها كلاهما ظرف كصلّيت من خلف الإمام وخلفه ومن قبل اليوم وقبله ومعنى الابتداء غير محقق والفرق تعسف ظاهر في أن من زائدة لا فرق بين دخولها وخروجها وهو خلاف الظاهر وإلا لما اختلفوا في زيادتها في الإثبات لشيوع نحو هذا الكلام فيما بينهم ، ومتى لم تكن زائدة فلا بد من الفرق بين الكلامين لا سيما إذا كانا من كلامه عز وجل فتدبر. والتعبير عن النداء بصيغة المضارع مع تقدمه على النزول لاستحضار الصورة الماضية لغرابتها.
والموصول اسم إن ، وجملة قوله تعالى : أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ خبرها وتكرار الإسناد للمبالغة ، والمراد أنهم لا يجرون على مقتضى العقل من مراعاة الأدب لا سيما مع أجل خلق اللّه تعالى وأعظمهم عنده سبحانه صلّى اللّه عليه وسلّم وكثيرا ما ينزل وجود الشيء منزلة عدمه لمقتض ، والحكم على الأكثر دون الكل بذلك لأن منهم من لم يقصد ترك الأدب بل نادى لأمر ما على ما قيل ، وجوز أن يكون المراد بالقلة التي يدل عليها نفي الكثرة للعدم فإنه يكنى بها عنه ، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك في صريح القلة لا في المفهوم من نفي الكثرة ، وكان هؤلاء من بني تميم كما صرح به أكثر أهل السير.
أخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن ابن عباس قال قدم وفد بني تميم وهم سبعون رجلا أو ثمانون رجلا منهم الزبرقان بن بدر : وعطارد بن حاجب بن زرارة وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث وعمرو بن الأهتم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فانطلق معهم عينية بن حصن بن بدر الفزاري وكان يكون في كل سوأة حتى أتوا منزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنادوه من وراء الحجرات بصوت جاف يا محمد اخرج إلينا ثلاثا فخرج إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : يا محمد إن مدحنا زين وإن شتمنا شين نحن أكرم العرب فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : كذبتم بل مدح اللّه تعالى الزين وشتمه الشين وأكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فقالوا : إنا أتيناك لنفاخرك فذكره بطوله وقال في آخره : فقال التميميون واللّه إن هذا الرجل لمصنوع له لقد قام خطيبه فكان أخطب من خطيبنا وفاه شاعره فكان أشعر من شاعرنا وفيهم أنزل اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من بني تميم أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
هذا في القراءة الأولى.
وذكر ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق الخبر بطوله وعد منهم الأقرع بن حابس وذكر أنه وعيينة شهدا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتح مكة وحنينا والطائف ، وأن عمرو بن الأهتم خلفه القوم في ظهرهم وان خطيبهم عطارد بن حاجب وخطيبه صلّى اللّه عليه وسلّم ثابت بن قيس بن شماس وشاعرهم الزبرقان بن بدر وشاعره عليه الصلاة والسلام حسان بن ثابت وذكر الخطبتين وما قيل من الشعر وأنه لما فرغ حسان قال الأقرع : وأبي ان هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا ، وأنه لما فرغوا أسلموا وجوزهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأحسن جوائزهم وأرسل لعمرو جائزته كالقوم ، وتعقب ابن هشام الشعر بعض التعقب. وفي البحر أيضا ذكر الخبر بطوله مع مخالفة كلية لما ذكره ابن إسحاق ، وفيه أن الأقرع قام بعد أن أنشد الزبرقان ما أنشد وأجابه حسان بما أجاب فقال : إني واللّه لقد جئت لأمر وقد قلت شعرا فاسمعه فقال :
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خالفونا عند ذكر المكارم وأنا رؤوس الناس من كل معشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وأن لنا المرباع في كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لحسان : قم فأجبه فقال :
بني دارم لا تفخرون إن فخركم يصير وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 294
فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لقد كنت يا أخا دارم غنيا أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد نسوه فكان قوله عليه الصلاة والسلام : أشد عليهم من جميع ما قال حسان ثم رجع حسان إلى شعره فقال :
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم أن يقسموا في المقاسم فلا تجعلوا للّه ندا وأسلموا ولا تفخروا عند النبي بدارم وإلا ورب البيت قد مالت القنا على هامكم بالمرهفات الصوارم فقال الأقرع بن حابس : واللّه ما أدري ما هذا الأمر تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ، ثم دنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ما يضرك ما كان قبل هذا
انتهى ، وهذا ظاهر في أن إسلام الأقرع يومئذ ، ومعلوم أن سنة الوفود سنة تسع والطائف وحنين كانتا قبل ذلك ، وتقدم عن ابن إسحق أن الأقرع شهدهما مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويتوهم منه أنه كان مسلما إذ ذاك فيتناقض مع هذا بل في أول كلام ابن إسحق وآخره ما يوهم التناقض ، والمذكور في الصحاح أنه وكذا عيينة كان إذ ذاك من المؤلفة قلوبهم.
وقد روى ابن إسحاق نفسه عن محمد بن إبراهيم أن قائلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أصحابه يوم قسمة ما أفاء اللّه تعالى عليه يوم حنين : يا رسول اللّه أعطيت عيينة والأقرع مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال : أما والذي نفس محمد بيده لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكن تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه
، وجاء ما يدل على أنهم من بني تميم مرفوعا.
أخرج ابن مردويه من طريق يعلى بن الأشدق عن سعد بن عبد اللّه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ إلخ فقال : هم الجفاة من بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت اللّه تعالى عليهم أن يهلكهم
،
وفي الصحيحين ما يشهد بأنهم من أشد الأمة على الدجال وجعله أبو هريرة أحد أسباب حبهم ، وظاهر كثير من الأخبار أن سبب وفودهم المفاخرة ، وقال الواقدي. وهو حاطب ليل : إن سببه هو أنهم كانوا قد جهروا السلاح على خزاعة فبعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عيينة بن بدر في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فقد رؤساؤهم بسبب أسرائهم ويقال : قدم منهم سبعون أو ثمانون رجلا في ذلك منهم عطارد والزبرقان وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث ونعيم بن سعد والأقرع بن حابس ورياح بن الحارث وعمرو بن الأهتم فدخلوا المسجد وقد أذّن بلال الظهر والناس ينتظرون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليخرج إليهم فعجل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات فنزل فيهم ما نزل ، ثم ذكر أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أجازهم كل رجل اثنتي عشرة أوقية وكساء ولعمرو بن الأهتم خمس أواق لحداثة سنه انتهى ، ولعل زيادة جائزته لما نيل منه أيضا فقد ذكر ابن إسحاق أن عاصم بن قيس كان يبغض عمرا فقال : يا رسول اللّه إنه قد كان رجل منا في رحالنا وهو غلام حدث وأزرى به فقال لما بلغه ذلك يخاطب قيسا :
ظللت مفترش الهلباء تشتمني عند الرسول فلم تصدق ولم تصب
سدناكم سؤددا رهوا وسؤددكم باد نواجذه مقع على الذنب
وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنهم ناس من بني العنبر أصاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من ذراريهم فأقبلوا في فدائهم فقدموا المدينة ودخلوا المسجد وعجلوا أن يخرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام فجعلوا يقولون : يا محمد اخرج إلينا ،

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 295
وذكر الخفاجي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعث إلى قوم من العرب هم بنو العنبر سرية أميرها عيينة بن حصن فهربوا وتركوا النساء والذراري فسباهم وقدم بهم عليه عليه الصلاة والسلام فجاء رجالهم راجين إطلاق الأسارى فنادوا من وراء الحجرات فخرج صلّى اللّه عليه وسلّم فأطلق النصف وفادى الباقي ، وظاهر كلامه أنهم ليسوا من بني تميم وإن كانت هذه السرية متحدة مع السرية التي أشار إليها الواقدي فيما تقدم ، ويقال : إن عيينة في الكلامين هو عيينة بن حصن بن بدر إلا أنه نسب هناك إلى جده وهنا إلى أبيه كان ذلك الكلام ظاهرا في أن القوم كانوا من بني تميم لا أناسا آخرين ، وفي القاموس العنبر أبو حي من تميم فبنو العنبر عليه منهم فلم يخرج الأمر عنهم.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 5 إلى 11]
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لكان الصبر خيرا له من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الموجبين للثناء والثواب أو لذلك والإسعاف بالمسئول على أوفق وجه وأوقعه عندهم بناء على حديث الأسارى بأن يطلق عليه الصلاة والسلام الجميع من غير فداء ، فأن المفتوحة المؤولة بالمصدر هنا فاعل فعل مقدر وهو ثبت كما اختاره المبرد والقرينة عليه معنى الكلام ، فإن أن تدل على الثبوت وهو إنما يكون في الماضي حقيقة ولذا يقدر الفعل ماضيا. وضمير (كان) للمصدر الدال عليه صَبَرُوا كما في قولك : من كذب كان شرا له أي الكذب ومذهب سيبويه أن المصدر في موضع المبتدأ فقيل :
خبره مقدر أي لو صبرهم ثابت وقيل : لا خبر له وأنت تعلم أن في تقدير الفعل إبقاء لَوْ على ظاهرها من دخولها على الفعل فإنها في الأصل شرطية مختصة به ، وجوز كون ضمير (كان) لمصدر الفعل المقدر أي لكان ثبوت صبرهم ، وصنيع الزمخشري يقتضي أولويته.
وأوثرت حَتَّى هنا على - إلى - لأنها موضوعة لما هو غاية في نفس الأمر ويقال له الغاية المضروبة أي المعينة وإلى لما هو غاية في نفس الأمر أو بجعل الجاعل ، وإليه يرجع قول المغاربة وغيرهم : إن مجرور حتى دون مجرور إلى لا بد من كونه آخر جزء نحو أكلت السمكة حتى رأسها أو ملاقيا له نحو سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر : 5] ولا يجوز سهرت البارحة حتى ثلثيها أو نصفها فيفيد الكلام معها أن انتظارهم إلى أن يخرج صلّى اللّه عليه وسلّم أمر لازم

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 296
ليس لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه ، فإن الخروج لما جعله اللّه تعالى غاية كان كذلك في الواقع ، وإلى هذا ذهب الزمخشري ، وتوهم ابن مالك أنه لم يقل به أحد غيره ، واعترض عليه بقوله :
عينت ليلة فما زلت حتى نصفها راجيا فعدت يؤوسا
وأجيب بأنه على تسليم أنه من كلام من يعتد به مع أنه نادر شاذ لا يرد مثله نقضا مدفوع بأن معنى عينت ليلة عينت وقتا للزيارة وزيارة الأحباب يتعارف فيها أن تقع في أول الليل فقوله : حتى نصفها بيان لغاية الوقت المتعارف للزيارة الذي هو أول الليل والنصف ملاق له ، وهو أولى من قول ابن هشام في المغني : إن هذا ليس محل الاشتراط إذ لم يقل : فما زلت في تلك الليلة حتى نصفها وإن كان المعنى عليه ، وحاصله أن الاشتراط مخصوص فيما إذا صرح بذي الغاية إذ لا دليل على هذا التخصيص ، وخفاء عدم الاكتفاء بتقديم ليلة في صدر البيت.
نعم ما ذكر من أصله لا يخلو عن كلام كما يشير إليه كلام صاحب الكشف ، ولذا قال الأظهر : إنه أوثر حتى تخرج اختصارا لوجوب حذف أن ووجوب الإظهار في إلى مع أن حتى أظهر دلالة على الغاية المناسبة للحكم وتخالف ما بعدها وما قبلها ولهذا جاءت للتعليل دون إلى ، وفي قوله تعالى : إِلَيْهِمْ إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم فليس زائدا بل قيد لا بد منه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بليغ المغفرة والرحمة فلذا اقتصر سبحانه على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقد كان مقتضى ذلك أن يعذبهم أو يهلكهم أو فلم تضق ساحة مغفرته ورحمته عز وجل عن هؤلاء ان تابوا وأصلحوا ، ويشير إلى هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلّم للأقرع بعد أن دنا منه عليه الصلاة والسلام وقال : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه : ما يضرك ما كان قبل هذا ، وفي الآيات من الدلالة على قبح سوء الأدب مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ما لا يخفى ، ومن هذا وأمثاله تقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب كما يحكى عن أبي عبيد وهو في الفضل هو أنه قال : ما دققت بابا على عالم حتى يخرج في وقت خروجه ، ونقله بعضهم عن القاسم بن سلام الكوفي ، ورأيت في بعض الكتب أن الحبر ابن عباس كان يذهب إلى أبي في بيته لأخذ القرآن العظيم عنه فيقف عند الباب ولا يدق الباب عليه حتى يخرج فاستعظم ذلك أبي منه فقال له يوما : هلا دققت الباب يا ابن عباس؟ فقال : العالم في قومه كالنبي في أمته وقد قال اللّه تعالى في حق نبيه عليه الصلاة والسلام : وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وقد رأيت هذه القصة صغيرا فعملت بموجبها مع مشايخي والحمد للّه تعالى على ذلك.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
أخرج أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول اللّه أرجع إلى قومي فادعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول اللّه رسولا لإبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فدعا سروات قومه فقال لهم : رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان وقت لي وقتا يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة وليس من رسول اللّه عليه الصلاة والسلام الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان رضي اللّه تعالى عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 297
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبله الحارث وقد فصل عن المدينة قالوا : هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك قال : ولم؟ قالوا : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني ولا أقبلت إلا حين احتبس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خشية أن يكون سخطة من اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ إلى قوله سبحانه : حَكِيمٌ
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا نبي اللّه إن بني فلان حيا من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء وكان حديث عهد بالإسلام قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا باللّه تعالى فلم يعجل رسول اللّه عليه الصلاة والسلام ودعا خالد بن الوليد فبعثه إليهم ثم قال : ارمقهم عند الصلوات فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم وإلا فلا تعجل عليهم فدنا منهم عند غروب الشمس فكمن حتى يسمع الصلاة فرمقهم فإذا هو بالمؤذن قد قام عند غروب الشمس فإذن ثم أقام الصلاة فصلوا صلاة المغرب فقال خالد : ما أراهم إلا يصلون فلعلهم تركوا صلاة غير هذه ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذن مؤذنهم فصلوا فقال : لعلهم تركوا صلاة أخرى فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدم حتى أطل الخيل بدورهم فإذا القوم تعلموا شيئا من القرآن فهم يتهجدون به من الليل ويقرؤونه ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذن وأقام فقاموا وصلوا فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم فقالوا : ما هذا؟ قالوا : خالد بن الوليد قالوا : يا خالد ما شأنك؟ قال : أنتم واللّه شأني أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقيل له : إنكم تركتم الصلاة وكفرتم باللّه تعالى فجثوا يبكون فقالوا : نعوذ باللّه تعالى أن نكفر أبدا فصرف الخيل وردها عنهم حتى أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأنزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية
قال الحسن : فو اللّه لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء ، والرواية السابقة أصح وأشهر ، وكلام صاحب الكشف مصرح بأن بعث خالد بن الوليد كان في قضية الوليد بن عقبة ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه إلى أولئك الحي من خزاعة بعد رجوع الوليد وقوله ما قال ، والقائل بذلك قال : إنهم سلموا إليه الصدقات فرجع ، والخطاب بقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شامل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين من أمته الكاملين منهم محاسن آداب وغيرهم ، وتخصيص الخطاب بحسب ما يقع من الأمر بعده إذ يليق بحال بعضهم لا يخرجه عن العموم لوجوده فيما بينهم فلا تغفل ، والفاسق الخارج عن حجر الشرع من قولهم : فسق الرطب إذا خرج عن قشرة ، قال الراغب : والفسق أعم من الكفر ويقع بالقليل من الذنوب والكثير لكن تعورف فيما كانت كثيرة ، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضها ، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة.
ووصف الإنسان به - على ما قال ابن الأعرابي - لم يسمع في كلام العرب ، والظاهر أن المراد به هنا المسلم المخل بشيء من أحكام الشرع أو المروة بناء على مقابلته بالعدل وقد اعتبر في العدالة عدم الإخلال بالمروءة ، والمشهور الاقتصار في تعريفه على الإخلال بشيء من أحكام الشرع فلا تغفل ، والتبين طلب البيان والتعرف وقريب منه التثبت كما في قراءة ابن مسعود وحمزة ، والكسائي «فتثبتوا» وهو طلب الثبات والتأني حتى يتضح الحال وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوم نزلت الآية : التثبت من اللّه تعالى والعجلة من الشيطان»
وتنكير فاسِقٌ للتعميم لأنه نكرة في سياق الشرط وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرر في الأصول وكذا نبأ ، وهو - كما في القاموس - الخبر ، وقال الراغب : لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 298
يحصل به علم أو غلبة ظن ، وقوله تعالى : إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا تنبيه على أنه إذا كان الخبر شيئا عظيما وما له قدر فحقه أن يتوقف فيه وإن علم أو غلب صحته على الظن حتى يعاد النظر فيه ويتبين فضل تبين ، ولما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والذين معن بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة قيل : إِنْ جاءَكُمْ بحرف الشك ، وفي النداء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا دلالة على أن الإيمان إذا اقتضى التثبت في نبأ الفاسق فأولى أن يقتضي عدم الفسق ، وفي إخراج الفاسق عن الخطاب ما يدل على تشديد الأمر عليه من باب «لا يزني الزاني وهو مؤمن» والمؤمن لا يكذب ، واستدل بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة ، ألا ترى أن العبد إذا شهد ترد شهادته ولا يتثبت فيها خلافا للشافعي.
وعلى جواز قبول خبر العدل الواحد ، وقرره الأصوليون بوجهين : أحدهما أنه لو لم يقبل خبره لما كان عدم قبوله معللا بالفسق ، وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته وهو كونه خبر واحد فيمتنع تعليل عدم قبوله بغيره لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللا بالغير إذ لو كان معللا به اقتضى حصوله به مع أنه حاصل قبله لكونه معللا بالذات وهو باطل لأنه تحصيل للحاصل أو يلزم توارد علتين على معلول واحد في خبر الفاسق ، وامتناع تعليله بالفسق باطل للآية فإن ترتب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له والظن كاف هنا لأن المقصود هو العمل فثبت أن خبر الواحد ليس مردودا وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول يعمل به. ثانيهما أن الأمر بالتبين مشروط بمجيء الفاسق ومفهوم الشرط معتبر على الصحيح فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقا لأن الظن يعمل به هنا ، والقول بالواسطة منتف والقول بأنه يجوز اشتراك أمور في لازم واحد فيعلق بكل منهما بكلمة إن مع أنه لا يلزم من انتفاء ذلك الملزوم انتفاء اللازم غير متوجه لأن الشرط مجموع تلك الأمور وكل واحد منها لا يعد شرطا على ما قرر في الأصول. نعم قال ابن الحاجب وعضد الدين : قد استدل من قبلنا على وجوب العمل بخبر الواحد بظواهر لا تفيد إلا الظن ولا يكفي في المسائل العلمية وذكرا من ذلك الآية المذكورة ، ثم إن للقائلين بوجوب العمل به اختلافا كثيرا مذكورا في محله.
واستدل الحنفية بها على قبول خبر المجهول الذي لا تعلم عدالته وعدم وجوب التثبت لأنها دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى الفسق انتفى وجوبه وهاهنا قد انتفى الفسق ظاهرا ونحن نحكم به فلا يجب التثبت.
وتعقب بأنا لا نسلم أنه هاهنا انتفى الفسق بل انتفى العلم به ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه والمطلوب العلم بانتفائه ولا يحصل إلا بالخبرة به أو بتزكية خبير به له ، قال العضد : إن هذا مبني على أن الأصل الفسق أو العدالة والظاهر أنه الفسق لأن العدالة طارئة ولأنه أكثر. واستدل بها على أن من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم من ليس بعدل لأن اللّه تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة فيها ، فإن سبب النزول قطعي الدخول وهو صحابي بالاتفاق فيرد بها على من قال : إنهم كلهم عدول ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة ، وهذا أحد أقوال في المسألة وقد ذهب إليه الأكثر من العلماء السلف والخلف. وثانيها أنهم كغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين. وثالثها أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي اللّه تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حيث قتله لوقوع الفتن من حينئذ وفيهم الممسك عن خوضها. ورابعها أنهم عدول إلا من قاتل عليا كرم اللّه تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة.
والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون : إن من طرأ له منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عما بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يصر على ما يخل بالعدالة بناء على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار ، فلا

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 299
يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقا بأنه مات على الفسق. ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقا لعدم القول بعصمتهم وأنه كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومزيد ثناء اللّه عز وجل عليهم كقوله سبحانه وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : 143] أي عدولا وقوله سبحانه : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران : 110] إلى غير ذلك ، وحينئذ إن أريد بقوله : إن من الصحابة من ليس بعدل ان منهم من ارتكب في وقت ما ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه مسلمة لكن ذلك ليس محل النزاع ، وإن أريد به أن منهم من استمر على ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه غير مسلمة كما لا يخفى فتدبر فالمسألة بعد تتحمل الكلام وربما تقبل زيادة قول خامس فيها. هذا ثم اعلم أن الفاسق قسمان : فاسق غير متأول وهو ظاهر ولا خلاف في أنه لا يقبل خبره وفاسق متأول كالجبري والقدري ويقال له المبتدع بدعة واضحة ، فمن الأصوليين من رد شهادته وروايته للآية ومنهم الشافعي والقاضي ، ومنهم من قبلهما ، أما الشهادة فلأن ردها لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه بل هو إمارة الصدق لأن موقعه فيه تعمقه في الدين ، والكذب حرام في كل الأديان لا سيما عند من يقول بكفر الكاذب أو خروجه من الإيمان وذلك يصده عنه إلا من يدين بتصديق المدعي المتحلي بحليته كالخطابية ، وكذا من اعتقد بحجية الإلهام ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : نحن نحكم بالظاهر
وأما الرواية فلأن من احترز عن الكذاب على غير الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فاحترازه من الكذب عليه صلّى اللّه عليه وسلّم أولى إلا من يعتقد حل وضع الأحاديث ترغيبا أو ترهيبا كالكرامية أو ترويجا لمذهبه كابن الراوندي ، وأصحابنا الحنفية قبلوا شهادتهم لما مر دون روايتهم إذا دعوا الناس إلى هواهم ، وعلى هذا جمهور أئمة الفقه والحديث لأن الدعوة إلى ذلك داعية إلى النقول فلا يؤتمنون على الرواية ولا كذلك الشهادة. ورجح ما ذهب إليه الشافعي والقاضي بأن الآية تقتضيه والعمل بها أولى من العمل بالحديث لتواترها وخصوصها ، والعام يحتمل التخصيص ولأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود ، والحديث خص منه خبر الكافر.
وأجيب بأن مفهومها أن الفسق هو المقتضي للتثبت فيراد به ما هو إمارة الكذب لا ما هو إمارة الصدق فافهم ، وليس من الفسق نحو اللعب بالشطرنج من مجتهد يحله أو مقلد له صوبنا أو خطأنا لوجوب العمل بموجب الظن ولا تفسيق بالواجب. وحد الشافعي عليه الرحمة شارب النبيذ ليس لأنه فاسق بل لزجره لظهور التحريم عنده ، ولذا قال : أحده وأقبل شهادته ، وكذا الحد في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب لا يدل على الفسق بخلافه في مقام القذف فليحفظ.
أَنْ تُصِيبُوا تعليل للأمر بالتبين أن فتبينوا كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا قَوْماً أي قوم كانوا بِجَهالَةٍ ملتبسين بجهالة لحالهم ، ومآله جاهلين حالهم ، فَتُصْبِحُوا فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما رموا به عَلى ما فَعَلْتُمْ في حقهم نادِمِينَ مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع ، فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه ، ويشعر باللزوم وكذا سائر تصاريف حروفه وتقاليبها كمدن بمعنى لزم الإقامة ومنه المدينة وأدمن الشيء أدام فعله ، وزعم بعضهم أن في الآية إشارة إلى أنه يجب على الإنسان تجديد الندم كلما ذكر الذنب ونسب إلى الزمخشري وليس بشيء ، وفي الكشف التحقيق أن الندم غم خاص ولزومه قد يقع لقوته في أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه عن الخاطر ، وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب ، وان تجديد الندم لا يجب في التوبة لكن التائب الصادق لا بد له من ذلك.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ عطف على ما قبله ، وأَنَّ بما في حيزها ساد مسد مفعولي اعْلَمُوا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله عز وجل : لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لوقعتم في الجهد والهلاك فإنه حال من أحد الضميرين في فِيكُمْ الضمير المستتر المرفوع وهو ضمير الرسول أو البارز المجرور وهو ضمير المخاطبين ، وتقديم خبر أن للحضر المستتبع زيادة التوبيخ ، وصيغة المضارع للاستمرار - فلو - لامتناع استمرار طاعته

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 300
عليه الصلاة والسلام لهم في كثير مما يعن لهم من الأمور ، وكون المراد استمرار الامتناع نظير قيل في قوله تعالى :
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة : 38 وغيرها] من أن المراد استمرار النفي ليس بذاك ، وفي الكلام إشعار بأنهم زينوا بين يدي الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم الإيقاع بالحرث وقومه وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم فقيل : واعلموا أنه فيكم لا في غيركم كأنهم حسبوه لعدم تأدبهم وما بدر منهم الفرطة بين أظهر أقوام آخرين كائنا على حال يجب عليكم تغييرها أو وأنتم على كذلك وهو ما تريدون من استتباع رأيه لرأيكم وطاعته لكم مع أن ذلك تعكيس وموجب لوقوعكم في العنت ، وفيه مبالغات من أوجه : أحدها إيثار لَوْ ليدل على الفرض والتقدير وأن ما بدر من من التزيين كان من حقه أن يفرض كما يفرض الممتنعات ، والثاني ما في العدول إلى المضارع من تصوير ما كانوا عليه وتهجينه من التوبيخ بإرادة استمرار ما حقه أن يكون مفروضا فضلا عن الوقوع ، والثالث ما في العنت من الدلالة على أشد المحذور فإنه الكسر بعد الجبر والرمز الخفي على أنه ليس بأول بادرة. والرابع ما في تعميم الخطاب والحري به غير الكمل من التمريض ليكون أردع لمرتكبه وأزجر لغيره كأنه قيل : يا أيها الذين آمنوا تبينوا إن جاءكم فاسق ولا تكونوا أمثال هؤلاء ممن استفزه النبأ قبل تعرف صدقه ثم لا يقنعه ذلك حتى يريد أن يستتبع رأي من هو المتبوع على الإطلاق فيقع هو ويقع غيره في العنت والإرهاق واعلموا جلالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتفادوا عن أشباه هذه الهنات ، وقوله عز وجل :
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ استدراك على ما يقتضيه الكلام فان لَوْ يُطِيعُكُمْ خطاب كما سمعت للبعض الغير الكمل عمم للفوائد المذكورة والمحبب إليهم الإيمان هم الكمل فكأنه قيل : ولكن اللّه حبب إلى بعضكم الإيمان وعدل عنه لنداء الصفة به ، وعليه قول بعض المفسرين هم الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى ، والإشارة بقوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ إليهم ، وفيه نوع من الالتفات ، والخطاب فيه للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم كأنه تعالى يبصره عليه الصلاة والسلام ما هم فيه من سبق القدم في الرشاد أي إصابة الطريق السوي ، فحاصل المعنى أنتم على الحال التي ينبغي لكم تغييرها وقد بدر منكم ما بدر ولكن ثم جمعا عما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريء وإرادة أن يتبع الحق أهواءكم برآء لأن اللّه تعالى حبب إليهم الإيمان إلخ ، وهذا أولى من جعل لَوْ يُطِيعُكُمْ إلخ في معنى ما حبب إليهم الإيمان تغليظا لأن من تصدى للإيقاع بالبريء بين يدي الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وجسر على ارتكاب تلك العظيمة لم يكن محبوبا إليه الإيمان وإن كان ذلك أيضا سديد الشيوع التصرف في الأواخر في مثله ، وجعله بعضهم استدراكا ببيان عذرهم فيما بدر منهم ، ومآل المعنى لم يحملكم على ما كان منكم اتباع الهوى ومحبة متابعة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لآرائكم بل محبة الإيمان وكراهة الكفر هي الداعية لذلك ، والمناسب لما بعد ما ذكرناه.
وجوز غير واحد من المعربين أن لَوْ يُطِيعُكُمْ استئناف على معنى أنه لما قيل وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ دالا على أنهم جاهلون بمكانه عليه الصلاة والسلام مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه أعلى اللّه شأنه اتجه لهم أن يسألوا ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط وماذا ينتج من المضرة؟ فأجيبوا بما يصرح بالنتيجة لخفائها ويومىء إلى ما فيها من المعرة من وقوعهم في العنت بسبب استتباع من هو في علو المنصب اقتداء يتخطى أعلى المجرة ، وهو حسن لولا أن وَاعْلَمُوا كلام من تتمة الأول كما يؤذن به العطف لا وارد تقريعا على الاستقلال فيأبى التقدير المذكور لتعين موجب التفريط ، وأيضا يفوت التعريض وإن ذلك بادرة من بعضهم في قصة ابن عقبة ويتنافر الكلام ، هذا وَكَرَّهَ يتعدى بنفسه إلى واحد وإذا شدد زاد له آخر لكنه ضمن في الآية معنى التبغيض فعومل معاملته وحسنه

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 301
مقابلته لحبب أو نزل إِلَيْكُمُ منزلة مفعول آخر ، والْكُفْرَ تغطية نعم اللّه تعالى بالجحود ، والْفُسُوقَ الخروج عن القصد ومأخذه ما تقدم ، وَالْعِصْيانَ الامتناع عن الانقياد ، وأصله من عصت النواة صلبت واشتدت ، والكلام أعني قوله تعالى : وَلكِنَّ اللَّهَ إلخ ثناء عليهم بما يردف التحبيب المذكور والتكريه من فعل الأعمال المرضية والطاعات والتجنب عن الأفعال القبيحة والسيئات على سبيل الكناية ليقع التقابل موقعه على ما سلف آنفا ، وقيل :
الداعي لذلك ما يلزم على الظاهر من المدح بفعل الغير مع أن الكلام مسوق للثناء عليهم وهو في إيثارهم الإيمان وإعراضهم عن الكفر وأخويه لا في تحبيب اللّه تعالى الإيمان لهم وتكريهه سبحانه الكفر وما معه إليهم. وأنت تعلم أن الثناء على صفة الكمال اختيارية كانت أولا شائع في عرف العرب والعجم ، والمنكر معاند على أن ذلك واقع على الجماد أيضا ، والمسلم الضروري أنه لا يمدح الرجل بما لم يفعله على أنه فعله ، وإليه الإشارة في قوله تعالى : وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران : 188] أما أنه لا يمدح به على أنه صفة له فليس بمسلم فلا تغفل فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً تعليل للأفعال المستندة إليه عز وجل في قوله سبحانه : وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلخ وما في البين اعتراض ، وجوز كونه تعليلا للراشدين ، وصح النصب على القول باشتراط اتحاد الفاعل أي من قام به الفعل وصدر عنه موجدا له أولا لما أن الرشد وقع عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تبارك اسمه فإنه لو قيل مثلا حبب إليكم الإيمان فضلا منه وجعل كناية عن الرشد لصح فيحسن أن يقال : أولئك هم الراشدون فضلا ويكون في قوة أولئك هم المحببون فضلا أو لأن الرشد هاهنا يستلزم كونه تعالى شأنه مرشدا إذ هو مطاوع أرشد ، وهذا نظير ما قالوا من أن الإراءة تستلزم رؤية في قوله سبحانه : يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الرعد : 12] فيتحد الفاعل ويصح النصب ، وجوز كونه مصدرا لغير فعله فهو منصوب إما بحبب أو بالراشدين فإن التحبيب والرشد من فضل اللّه تعالى وانعامه» وقيل :
مفعول به لمحذوف أي يبتغون فضلا وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ يفعل كل ما يفعل من أفضال وإنعام وغيرهما بموجب الحكمة.
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا أي تقاتلوا ، وكان الظاهر. اقتتلتا بضمير التثنية كما في قوله تعالى :
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي بالنصح وإزالة الشبهة إن كانت والدعاء إلى حكم اللّه عز وجل ، والعدول إلى ضمير الجمع لرعاية المعنى فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة فقد روعي في الطائفتين معناهما أولا ولفظهما ثانيا على عكس المشهور في الاستعمال ، والنكتة في ذلك ما قيل : إنهم أولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثني الضمير. وقرأ ابن أبي عبلة «اقتتلتا» بضمير التثنية والتأنيث كما هو الظاهر. وقرأ زيد بن علي ، وعبيد بن عمير «اقتتلا» بالتثنية والتذكير باعتبار أن الطائفتين فريقان فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما تعدت وطلبت العلو بغير الحق عَلَى الْأُخْرى ولم تتأثر بالنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ أي ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي إلى حكمه أو إلى ما أمر سبحانه به وقرأ الزهري حتى «تفي» بغير همز وفتح الياء وهو شاذ كما قالوا في مضارع جاء يجيء بغير همز فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى بفي مضارع وفي شذوذا ، وفي تعليق القتال بالموصول للإشارة إلى علية ما في حيز الصلة أي فقاتلوها لبغيها فَإِنْ فاءَتْ أي رجعت إلى أمره تعالى وأقلعت عن القتال حذرا من قتالكم فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما على حكم اللّه تعالى ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر ، وتقييد الإصلاح هنا بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وقد أكد ذلك بقوله تعالى : وَأَقْسِطُوا أي اعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ فيجازيهم أحسن الجزاء.
وفي الكشاف في الإصلاح بالعدل والقسط تفاصيل ، إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 302
بعد الفيئة ما جنت ، وأن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت ، وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها فما جنته ضمنته عند الجميع فمحمل الإصلاح بالعدل على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل ، وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد ، والذي ذكروا من أن الفرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال في الكشف ، لأن ما ذكروه من إماتة الأضغان داخل في قوله تعالى : فَإِنْ فاءَتْ لأنه من ضرورات التوبة ، فاعمال العدل والقسط إنما يكون في تدارك الفرطات ثم قال : والأولى على قول الجمهور أن يقال : الإصلاح بالعدل أنه لا يضمن من الطرفين فإن الباغي معصوم الدم والمال مثل العادل لا سيما وقد تاب فكما لا يضمن العادل المتلف لا يضمنه الباغي الفائي ، هذا مقتضى العدل لا تخصيص الضمان بطرف دون آخر. والآية نزلت في قتال وقع بين الأوس والخزرج.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال : قيل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لو أتيت عبد اللّه بن أبي فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق إليه قال : إليك عني فو اللّه لقد آذاني ريح حمارك فقال رجل من الأنصار : واللّه لحمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أطيب ريحا منك فغضب لعبد اللّه رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل اللّه تعالى فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ الآية
، وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فمر على عبد اللّه بن أبي بن سلول فقال ما قال فرد عليه عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه تعالى عنه نغضب لكل أصحابه فتقاتلوا فنزلت فقرأها صلّى اللّه عليه وسلّم عليهم فاصطلحوا
وكان ابن رواحة خزرجيا وابن أبي أوسيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها وأن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان أهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم هذه الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فبعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأصلح بينهم
وقاموا إلى أمر اللّه عز وجل ، والخطاب فيها على ما في البحر لمن له الأمر وروي ذلك عن ابن عباس وهو للوجوب فيجب الإصلاح ويجب قتال الباغية ما قاتلت وإذا كفت وقبضت عن الحرب تركت ، وجاء في حديث رواه الحاكم. وغيره حكمها إذا تولت قال عليه الصلاة والسلام : «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال : اللّه تعالى ورسوله أعلم قال : لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها»
وذكروا أن الفئتين من المسلمين إذا اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا فالواجب أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقاما على البغي صيرا إلى مقاتلتهما ، وأنهما إذا التحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة واطلاعهما على مراشد الحق فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه فقد لحقتا باللتين اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا ، والتصدي لإزالة الشبهة في الفئة الباغية إن كانت لازم قبل المقاتلة ، وقيل : الخطاب لمن يتأتى منه الإصلاح ومقاتلة الباغي فمتى تحقق البغي من طائفة كان حكم إعانة المبغي عليه حكم الجهاد ، فقد أخرج الحاكم وصححه. والبيهقي عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية يعني وَإِنْ طائِفَتانِ إلخ إني لم أقاتل هذه

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 303
الفئة الباغية كما أمرني اللّه تعالى - يعني بها معاوية ومن معه الباغين - على علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وصرح بعض الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد احتجاجا بأن عليا كرم اللّه تعالى وجهه اشتغل في زمان خلافته بقتالهم دون الجهاد ، والحق أن ذلك ليس على إطلاقه بل إذا خشي من ترك قتالهم مفسدة عظيمة دفعها أعظم من مصلحة الجهاد ، وظاهر الآية أن الباغي مؤمن لجهل الطائفتين الباغية والمبغي عليها من المؤمنين. نعم الباغي على الإمام ولو جائرا فاسق مرتكب لكبيرة إن كان بغيه بلا تأويل أو بتأويل قطعي البطلان. والمعتزلة يقولون في مثله : إنه فاسق مخلد في النار إن مات بلا توبة ، والخوارج يقولون : إنه كافر ، والإمامية أكفروا الباغي على علي كرم اللّه تعالى وجهه المقاتل له واحتجوا بما
روي من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم له : «حربك حربي»
وفيه بحث. وقرأ ابن مسعود «حتى يفيئوا إلى أمر اللّه فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط» إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح ، وإطلاق الاخوة على المؤمنين من باب التشبيه البليغ وشبهوا بالاخوة من حيث انتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية ، وجوز أن يكون هناك استعارة وتشبه المشاركة في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان ، والفاء في قوله تعالى : فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ للإيذان بأن الاخوة الدينية موجبة للإصلاح ، ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا للمأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه ، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه ، وقيل : المراد بالأخوين الأوس والخزرج اللتان نزلت فيهما الآية سمي كلا منهما أخا لاجتماعهم في الجد الأعلى.
وقرأ زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن بخلاف عنه «إخوانكم» جمعا على وزن غلمان.
وقرأ ابن سيرين «إخوتكم» جمعا على وزن غلمة ، وروى عبد الوارث عن أبي عمرو القراءات الثلاث ، قال أبو الفتح : وقراءة الجمع تدل على أن قراءة الجمهور لفظها لفظ التثنية ومعناها الجماعة أي كل اثنين فصاعدا من المسلمين اقتتلا ، والإضافة لمعنى الجنس نحو لبيك وسعديك ، ويغلب الاخوان في الصداقة والاخوة في النسب وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به من الإصلاح ، والظاهر أن هذا عطف على فَأَصْلِحُوا وقال الطيبي : هو تذييل للكلام كأنه قيل : هذا الإصلاح من جملة التقوى فإذا فعلتم التقوى دخل فيه هذا التواصل ، ويجوز أن يكون عطفا على فَأَصْلِحُوا أي واصلوا بين أخويكم بالصلح واحذروا اللّه تعالى من أن تتهاونوا فيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لأجل أن ترحموا على تقواكم أو راجين أن ترحموا عليها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ أي منكم مِنْ قَوْمٍ آخرين منكم أيضا ، فالتنكير في الموضعية للتبعيض ، والسخر الهزؤ كما في القاموس ، وفي الزواجر النظر إلى المسخور منه بعين النقص ، وقال القرطبي : السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول أو الاشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته ، وقال بعض : هو ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته ، واختير أنه احتقاره قولا أو فعلا بحضرته على الوجه المذكور ، وعليه ما قيل المعنى : لا يحتقر بعض المؤمنين بعضا. والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال.
وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن نهيرة وسالم مولى أبي حذيفة رضي اللّه تعالى عنهم ، ولا يضر فيه اشتمالها على نهي النساء عن السخرية كما لا يضر اشتمالها على نهي الرجال عنها فيما روي أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها فقالت عائشة لحفصة تشير إلى ما تجر خلفها : كأنه لسان كلب فنزلت ، وما روي عن عائشة أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة فنزلت ، وقيل : نزلت بسبب عكرمة بن

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 304
أبي جهل كان يمشي بالمدينة فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز ذلك عليه وشكاهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت ، وقيل غير ذلك وقوله عز وجل : عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند اللّه تعالى من الساخرين فرب اشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على اللّه تعالى لأبره ، وجوز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضا عسى أن يصير المحتقر - اسم مفعول - عزيز أو يصير المحتقر ذليلا فينتقم منه ، فهو نظير قوله :
لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
والقوم جماعة الرجال ولذلك قال سبحانه : وَلا نِساءٌ أي ولا يسخر نساء من المؤمنات مِنْ نِساءٍ منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي المسخورات خَيْراً مِنْهُنَّ أي من الساخرات ، وعلى هذا جاء قول زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وهو إما مصدر كما في قول بعض العرب : إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما نعت به فشاع في جماعة الرجال ، وإما اسم جمع لقائم كصوم لصائم وزور لزائر ، وأطلق عليه بعضهم الجمع مريدا به المعنى اللغوي وإلا ففعل ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات ، ووجه الاختصاص بالرجال أن القيام بالأمور وظيفتهم كما قال تعالى : الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء : 34] وقد يراد به الرجال والنساء تغليبا كما قيل في قوم عاد وقوم فرعون أن المراد بهم الذكور والإناث وقيل : المراد بهم الذكور أيضا ودل عليهن بالالتزام العادي لعدم الانفكاك عادة ، والنساء على ما قال الراغب وغيره وكذا النسوان والنسوة جمع المرأة من غير لفظها ، وجيء بما يدل على الجمع في الموضعين دون المفرد كأن يقال : لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة مع أنه الأصل الأشمل الأعم قيل جريا على الأغلب من وقوع السخرية في مجامع الناس فكم من متلذذ بها وكم من متألم منها فجعل ذلك بمنزلة تعدد الساخر والمسخور منه ، وقيل : لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين الجماعة كقوله تعالى : لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران : 130] وعموم الحكم لعموم علته ، وعَسى في نحو هذا التركيب من كل ما أسندت فيه إلى أن والفعل قيل تامة لا تحتاج إلى خبر وأن وما بعدها في محل رفع على الفاعلية ، وقيل : إنها ناقصة وسد ما بعدها مسد الجزأين وله محلان باعتبارين أو محله الرفع ، والتحكم مندفع بأنه الأصل في منصوبها بناء على أنها من نواسخ المبتدأ والخبر.
وقرأ عبد اللّه وأبيّ «عسوا أن يكونوا». «وعسين عن أن يكن» فعسى عليها ذات خبر على المشهور من أقوال النحاة ، وفيه الاخبار عن الذات بالمصدر أو يقدر مضاف مع الاسم أو الخبر ، وقيل : هو في مثل ذلك بمعنى قارب وأن وما معها مفعول أو قرب وهو منصوب على إسقاط الجار وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة لأن المؤمنين كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنه عاب نفسه ، فضمير تَلْمِزُوا للجميع بتقدير مضاف ، وأَنْفُسَكُمْ عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون جعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم وأطلق الأنفس على الجنس استعارة كما في قوله تعالى : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة : 128] وقوله سبحانه : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء : 29] وهذا غير النهي السابق وإن كان كل منهما مخصوصا بالمؤمنين بناء على أن السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته ، واللمز التنبيه على معايبه سواء كان على مضحك أم لا؟ وسواء كان بحضرته أم لا كما قيل في تفسيره ، وجعل عطفه عليه من قبيل عطف العام على الخاص

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 305
لإفادة الشمول كشارب الخمر وكل فاسق مذموم ، ولا يتم إلا إذا كان التنبيه المذكور احتقارا ، ومنهم من يقول :
السخرية الاحتقار واللمز التنبيه على المعايب أو تتبعها والعطف من قبيل عطف العلة على المعلول وقيل : اللمز مخصوص بما كان من السخرية على وجه الخفية كالإشارة فهو من قبيل عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة ، واختار الزمخشري أن المعنى وخصوا أنفسكم أيها المؤمنون بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ، ففي الحديث «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وتعقب بأنه لا دليل على الاختصاص.
وقال الطيبي : هو من دليل الخطاب لكن ان في هذا الوجه تعسفا والوجه الآخر. يعني ما تقدم. أوجه لموافقته لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وفي الكشف أخذ الاختصاص من العدول عن الأصل وهو لا يلمز بعضكم بعضا كأنه قيل : ولا تلمزوا من هو على صفتكم من الإيمان والطاعة فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف ، وتعقب قول الطيبي بأن الكلام عليه يفيد العلية والاختصاص معا فيوافق ما سبق ويؤذن بالفرق بين السخرية واللمز وهو مطلوب في نفسه وكأنه قيل : لا تلمزوا المؤمنين لأنهم أنفسكم ولا تعسف فيه بوجه إلى آخر ما قال فليتأمل ، والإنصاف أن المتبادر ما تقدم ، وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه فانفسكم على ظاهره والتجوز في تَلْمِزُوا أطلق فيه المسبب على السبب والمراد لا ترتكبوا أمرا تعابون به ، وهو بعيد عن السياق وغير مناسب لقوله تعالى : وَلا تَنابَزُوا وكونه من التجوز في الإسناد إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب تكلف ظاهر ، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق لا يدفع كونه مخالفا للظاهر ، وكذا كون المراد به لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم كما
في الحديث «من الكبائر أن يشتم الرجل والديه»
وفسر بأنه إن شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضا.
وقرأ الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو «لا تلمزوا» بضم الميم وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب ، قال في القاموس : التنابز التعاير والتداعي بالألقاب ويقال نبزه ينبزه نبزا بالفتح والسكون لقبه كنبزه والنبز بالتحريك وكذا النزب اللقب وخص عرفا بما يكرهه الشخص من الألقاب.
وعن الرضي أن لفظ اللقب في القديم كان في الذم أشهر منه في المدح ، والنبز في الذم خاصة ، وظاهر تفسير التنابز بالتداعي بالألقاب اعتبار التجريد في الآية لئلا يستدرك ذكر الألقاب ، ومن الغريب ما قيل : التنابز الترامي أي لا تتراموا بالألقاب ويراد به ما تقدم ، والمنهي عنه هو التلقيب بما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له وشينا.
قال النووي : اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره سواء كان صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما فقد
روي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليسمع فأتى يوما وهو يقول : تفسحوا حتى انتهى إلى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فقال لرجل : تنح فلم يفعل فقال : من هذا؟ فقال الرجل :
أنا فلان فقال : بل أنت ابن فلانة يريد أما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت
فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا. وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن جبير وابن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول اللّه انه يكرهه فنزلت وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى اللّه تعالى أن يعير بما سلف من عمله ، وعن ابن مسعود هو أن يقال اليهودي أو النصراني أو المجوسي إذا أسلم يا

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 306
يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي ، وعن الحسن نحوه ، ولعل مأخذه ما روي أنها نزلت في صفية بنت حيي أتت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال لها : هلا قلت : إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأنت تعلم أن النهي عما ذكر داخل في عموم لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ على ما سمعت فلا يختص التنابز بقول يا يهودي ويا فاسق ونحوهما ، ومعنى قوله تعالى : بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب التنابز أن يذكروا بالفسق بعد اتصافهم بالإيمان ، وهو ذم على اجتماع الفسق وهو ارتكاب التنابز والإيمان على معنى لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإيمان يأبى الفسق كقولهم : بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة يريدون استقباح الجمع بين الصبوة وما يكون في حال الشباب من الميل إلى الجهل وكبر السن.
والِاسْمُ هنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو اللؤم فلا تأبى هذه الآية حمل ما تقدم على النهي عن التنابز مطلقا ، وفيها تسميته فسوقا ، وقيل : بَعْدَ الْإِيمانِ أي بدله كما في قولك للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة ، وفيه تغليظ بجعل التنابز فسقا مخرجا عن الإيمان ، وهذا خلاف الظاهر. وذكر الزمخشري له مبني على مذهبه من أن مرتكب الكبيرة فاسق غير مؤمن حقيقة ، وقيل : معنى النهي السابق لا ينسبن أحدكم غيره إلى فسق كان فيه بعد اتصافه بضده ، ومعنى هذا بئس تشهير الناس وذكرهم بفسق كانوا فيه بعد ما اتصفوا بضده ، فيكون الكلام نهيا عن أن يقال ليهودي أسلم يا يهودي أو نحو ذلك ، والأول أظهر لفظا وسياقا ومبالغة ، والجملة على كل متعلقة بالنهي عن التنابز على ما هو الظاهر ، وقيل : هي على الوجه السابق متعلقة بقوله تعالى : وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أو بجميع ما تقدم من النهي ، وعلى هذا اقتصر ابن حجر في الزواجر.
ويستثنى من النهي الأخير دعاء الرجل الرجل بلقب قبيح في نفسه لا على قصد الاستخفاف به والإيذاء له كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته كقول المحدثين : سليمان الأعمش وواصل الأحدب ، وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لعلقمة : تقول أنت ذلك يا أعور ظاهر في أن الاستثناء لا يتوقف على دعاء الضرورة ضرورة أنه لا ضرورة في حال مخاطبته علقمة لقوله يا أعور ، ولعل الشهرة مع عدم التأذي وعدم قصد الاستخفاف كافية في الجواز ، ويقال ما كان من ابن مسعود من ذلك ، والأولى أن يقال في الرواية عمن اشتهر بذلك كسليمان المتقدم روي عن سليمان الذي يقال له الأعمش ، هذا وغوير بين صيغتي تَلْمِزُوا وتَنابَزُوا لأن الملموز قد لا يقدر في الحال على عيب يلمز به لامزه فيحتاج إلى تتبع أحواله حتى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النبز فإن من لقب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالا فوقع التفاعل كذا في الزواجر ، وقيل : قيل تَنابَزُوا لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين القوم ، ويعلم من الآية أن التلقيب ليس محرما على الإطلاق بل المحرم ما كان بلقب السوء ، وقد صرحوا بأن التلقيب بالألقاب الحسنة مما لا خلاف في جوازه ، وقد لقب أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه بالعتيق
لقوله عليه الصلاة والسلام له : «أنت عتيق اللّه من النار»
وعمر رضي اللّه تعالى عنه بالفاروق لظهور الإسلام يوم إسلامه ، وحمزة رضي اللّه تعالى عنه بأسد اللّه لما أن إسلامه كان حمية فاعتز الإسلام به ، وخالد بسيف اللّه
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «نعم عبد اللّه خالد بن الوليد سيف من سيوف اللّه»
إلى غير ذلك من الألقاب الحسنة وألقاب علي كرم اللّه وجهه أشهر من أن تذكر وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم ويراعى فيها المعنى بخلاف العلم ، ولذلك قال الشاعر : وقلما أبصرت عيناك ذا لقب. إلا ومعناه أن فتشت في لقبه بدخوله في مفهومه لكن الشائع غير ذلك ، وفي الحديث «كنّوا أولادكم»
قال عطاء : مخافة الألقاب وقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : أشيعوا الكنى فإنها سنة ، ولنا في

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 307
الكنى كلام نفيس ذكرناه في الطراز المذهب فمن أراده فليرجع وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهى عنه من التنابز أو من الأمور الثلاثة السابقة أو مطلقا ويدخل ما ذكر فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب ، والإفراد أولا والجمع ثانيا مراعاة للفظ ومراعاة للمعنى.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 12 إلى 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ أي تباعدوا منه ، وأصل اجتنبه كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له ، وتنكير كَثِيراً ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل ، فإن من الظن ما يباح اتباعه كالظن في الأمور المعاشية ، ومنه ما يجب كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات كالواجبات الثابتة بغير دليل قطعي وحسن الظن باللّه عز وجل ، ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين ،
ففي الحديث «أن اللّه تعالى حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء»
وعن عائشة مرفوعا من أسماء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن إن اللّه تعالى يقول : اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ويشترط في حرمة هذا أن يكون المظنون به ممن شوهد منه التستر والصلاح وأونست منه الأمانة ، وأما من يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث كالدخول والخروج إلى حانات الخمر وصحبة الغواني الفاجرات وإدمان النظر إلى المرد فلا يحرم ظن السوء فيه وإن كان الظان لم يره يشرب الخمر ولا يزني ولا يعبث بالشباب. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيب قال : كتب إلي بعض اخواني من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه ، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده ، وما كافيت من عصى اللّه تعالى فيك بمثل أن تطيع اللّه تعالى فيه ، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند عظيم البلاء ولا تهاون بالحلف فيهينك اللّه تعالى ، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه ، وعليك بالصدق وإن قتلك ، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي اللّه تعالى ، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.
وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت وظن بالناس ما شئت ، واعلم

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 308
أن ظن السوء إن كان اختياريا فالأمر واضح ، وإذا لم يكن اختياريا فالمنهي عنه العمل بموجبه من احتقار المظنون به وتنقيصه وذكره بما ظن فيه ، وقد قيل نظير ذلك في الحسد على تقدير كونه غير اختياري ، ولا يضر العمل بموجبه بالنسبة إلى الظان نفسه كما إذا ظن بشخص أنه يريد به سوءا فتحفظ من أن يلحقه منه أذى على وجه لا يلحق ذلك الشخص به نقص ، وهو محمل
خبر «إن من الحزم سوء الظن»
وخبر الطبراني «احترسوا من الناس بسوء الظن»
، وقيل :
المنهي عنه الاسترسال معه وترك إزالته بنحو تأويل سببه من خبر ونحوه ، وإلا فالأمر الغير الاختياري نفسه لا يكون مورد التكليف ، وفي الحديث «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ثلاث لازمات أمتي الطيرة والحسد وسوء الظن فقال رجل : ما يذهبهن يا رسول اللّه ممن هن فيه؟ قال : إذا حسدت فاستغفر اللّه وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض»
أخرجه الطبراني عن حارثة بن النعمان إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل بالأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقي ، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه ، ومنه قيل لعقوبته الأثام فعال منه كالنكال ، قال الشاعر :
لقد فعلت هذي النوى بي فعلة أصاب النوى قبل الممات أثامها
والهمزة فيه على ما قال الزمخشري بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها لكونه يضربها في الجملة وإن لم يحبطها قطعا : وتعقب بأن الهمزة ملتزمة في تصاريفه تقول : إثم يأثم فهو آثم وهذا إثم وتلك آثام ، وإن أثم من باب علم ، ووثم من باب ضرب ، وإنه ذكره في باب الهمزة في الأساس ، والواوي متعد وهذا لازم.
وَلا تَجَسَّسُوا ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم وتستكشفوا عما ستروه ، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كاللمس فإن من يطلب الشيء يجسه ويلمسه فأريد به ما يلزمه ، واستعمال التفعل للمبالغة وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين «ولا تحسسوا» بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ، ولهذا يقال لمشاعر الإنسان الحواس والجواس بالحاء والجيم ، وقيل التجسس والتحسس متحدان ومعناهما معرفة الأخبار ، وقيل :
التجسس بالجيم تتبع الظواهر وبالحاء تتبع البواطن ، وقيل : الأول أن تفحص بغيرك والثاني أن تفحص بنفسك ، وقيل :
الأول في الشر والثاني في الخير ، وهذا بفرض صحته غير مراد هنا والذي عليه الجمهور أن المراد على القراءتين النهي عن تتبع العورات مطلقا وعدوه من الكبائر.
أخرج أبو داود وابن المنذر وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه اللّه تعالى في قعر بيته»
وفي رواية البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلّى اللّه عليه وسلّم نادى بذلك حتى اسمع العواتق في الخدر.
وأخرج أبو داود وجماعة عن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال ابن مسعود :
قد نهينا عن التجسس فإن ظهر لنا شيء أخذنا به.
وقد يحمل مزيد حب النهي عن المنكر على التجسس وينسى النهي فيعذر مرتكبه كما وقع ذلك لعمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه. أخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمر رضي اللّه تعالى عنه كان يعس بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال : يا عدو اللّه أظننت أن اللّه تعالى يسترك وأنت على معصية؟ فقال : وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي إن كنت عصيت اللّه تعالى واحدة فقد عصيت اللّه تعالى في ثلاث قال سبحانه : وَلا تَجَسَّسُوا وقد تجسست وقال اللّه تعالى : وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [البقرة 189 : ] وقد تسورت وقال جل شأنه : لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور : 27] ودخلت علي بغير إذن قال عمر رضي اللّه تعالى عنه : فهل عندكم من خير ان عفوت عنك؟ قال :

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 309
نعم فعفا عنه وخرج وتركه. وفي رواية سعيد بن منصور عن الحسن أنه قال رجل لعمر رضي اللّه تعالى عنه : إن فلانا لا يصحو فقال : انظر إلى الساعة التي يضع فيها شرابه فأتني فأتاه فقال : قد وضع شرابه فانطلقا حتى استأذنا عليه فعزل شرابه ثم دخلا فقال عمر : واللّه إني لأجد ريح شراب يا فلان أنت بهذا فقال : يا ابن الخطاب وأنت بهذا لم ينهك اللّه تعالى أن تتجسس؟ فعرفها عمر فانطلق وتركه ، وذكر بعضهم أن انزجار شربة الخمر ونحوهم إذا توقف على التسور عليهم جاز احتجاجا بفعل عمر رضي اللّه تعالى عنه السابق وفيه نظر ، وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يخالف ذلك.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي أيضا عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر رضي اللّه تعالى عنه ليلة المدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقال عمر : وأخذ بيد عبد الرحمن أتدري بيت من هذا؟ هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف الآن شرب قال : أرى أن قد أتينا ما نهى اللّه تعالى عنه قال اللّه تعالى : وَلا تَجَسَّسُوا فقد تجسسنا فانصرف عمر رضي اللّه تعالى عنه عنهم وتركهم ، ولعل القصة إن صحت غير واحدة ، ومن التجسس على ما قال الأوزاعي الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون فهو حرام أيضا.
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره في غيبته
فقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «أتدرون ما الغيبة؟
قالوا : اللّه ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت لو كان في أخي ما أقول قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
والمراد بالذكر الذكر صريحا أو كناية ويدخل في الأخير الرمز والإشارة ونحوهما إذا أدت مؤدى النطق فإن علة النهي عن الغيبة الإيذاء بتفهيم الغير نقصان المغتاب وهو موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب بأي وجه كان من طرق الإفهام ، وهي بالفعل كان تمشي مشية أعظم الأنواع كما قاله الغزالي ، والمراد بما يكره أعم من أن يكون في دينه أو دنياه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو خادمه أو لباسه أو غير ذلك مما يتعلق به ، وخصه القفال بالصفات التي لا تذم شرعا فذكر الشخص بما يكره مما يذم شرعا ليس بغيبة عنده ولا يحرم ، واحتج على ذلك
بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس»
وما ذكره لا يعول ، عليه والحديث ضعيف وقال أحمد منكر ، وقال البيهقي : ليس بشيء ولو صح فهو محمول على فاجر معلن بفجوره. والمراد بقولنا : غيبته غيبته عن ذلك الذكر سواء كان حاضرا في مجلس الذكر أو لا ، وفي الزواجر لا فرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد ، وقد يقال شمول الغيبة للذكر بالحضور على نحو شمول سجود السهو لما كان عن ترك ما يسجد له عمدا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى ، الاستفهام التقريري من حيث إنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاء ، وإسناد الفعل إلى - أحد - إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة ، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، وجعل المأكول أخا للآكل وميتا ، وتعقيب ذلك بقوله تعالى : فَكَرِهْتُمُوهُ حملا على الإقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها ، وفي المثل السائر كني عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله لأنها ذكر المثالب وتمزيق الاعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له ، وجعله ميتا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته ، ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها ، وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه وكأنه أولى مما في المثل ، والفاء في فَكَرِهْتُمُوهُ

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 310
فصيحة في جواب شرط مقدر ويقدر معه قد أي إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته ، والجزائية باعتبار التبين ، والضمير المنصوب للأكل وقيل : للحم ، وقيل : للميت وليس بذاك ، وجوز كونه للاغتياب المفهوم مما قبل ، والمعنى فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل ، وعبر بالماضي للمبالغة ، وإذا أول بما ذكر يكون إنشاء غير محتاج لتقدير قد ، وانتصاب مَيْتاً على الحال من اللحم أو الأخ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والحال في مثل ذلك جائز خلافا لأبي حيان.
وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري وأبو حيوة
«فكرّهتموه» بضم الكاف وشد الراء ، ورواها الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم
، وقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ قيل عطف على محذوف كأنه قيل : امتثلوا ما قيل لكم واتقوا اللّه.
وقال الفراء التقدير ان صح ذلك فقد كرهتموه فلا تفعلوه واتقوا اللّه فهو عطف على النهي المقدر ، وقال أبو علي الفارسي. لما قيل لهم أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إلخ كان الجواب لا متعينا فكأنهم قالوا : لا نحب فقيل لهم فَكَرِهْتُمُوهُ ويقدر فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظيره واتقوا اللّه فيكون عطفا على فاكرهوا المقدر ، وقيل : هو عطف على فكرهتموه بناء على أنه خبر لفظا أمر معنى كما أشير إليه سابقا ولا يخفى الأولى من ذلك : وقوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر أي لأنه تعالى تواب رحيم لمن اتقى واجتنب ما نهي عنه وتاب مما فرط منه ، وتواب أي مبالغة في قبول التوبة والمبالغة إما باعتبار الكيف إذ يجعل سبحانه التائب كمن لم يذنب أو باعتبار الكم لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفارسي رضي اللّه تعالى عنه كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا : ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخبار مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال : يا رسول اللّه بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال : ما يصنع أصحابك بالإدام؟ لقد ائتدموا فرجع رضي اللّه تعالى عنه فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا : والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا قال : إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده فنزلت.
وأخرج الضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال : كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي اللّه تعالى عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاما فقالا : إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا :
ائت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقل له إن أبا بكر وعمر يقرآنك السلام ويستأدمانك فقال : إنهما ائتدما فجاءا فقالا : يا رسول اللّه بأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثنايا كما فقالا : استغفر لنا يا رسول اللّه قال :
مراه فليستغفر لكما
وهذا خبر صحيح ولا طعن فيه على الشيخين سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده حيث لم يظنا بناء على حسن الظن فيهما ان تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل : هذا والآية دالة على حرمة الغيبة. وقد نقل القرطبي وغيره الإجماع على أنها من الكبائر ، وعن الغزالي وصاحب العدة أنهما صرحا بأنها من الصغائر وهو عجيب منهما لكثرة ما يدل على أنها من الكبائر ، وقصارى ما قيل في وجه القول بأنها صغيرة أنه لو لم تكن كذلك يلزم فسق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم. وتعقب بأن فشو المعصية وارتكاب جميع الناس لها فضلا عن الأكثر لا يوجب أن تكون صغيرة ، وهذا الذي دل عليه الكلام من ارتكاب أكثر الناس لها لم يكن قبل. على أن الإصرار عليها قريب منها في كثرة الفشو في الناس وهو كبيرة بالإجماع ويلزم عليه الحرج العظيم وإن لم يكن في

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 311
عظم الحرج السابق ، مع أن هذا الدليل لا يقاوم تلك الدلائل الكثيرة ، ولعل الأولى في الاستدلال على ذلك ما
رواه أحمد. وغيره بسند صحيح عن أبي بكرة قال : «بينما أنا أماشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو آخذ بيدي ورجل عن يساري فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير وبكى إلى أن قال : وما يعذبان إلا في الغيبة والبول»
ولا يتم أيضا ، فقد قال ابن الأثير : المعنى وما يعذبان في أمر كان يكبر عليهما ويشق فعله لو أراداه لا أنه في نفسه غير كبير ، وكيف لا يكون كبيرا وهما يعذبان فيه ، فالحق أنها من الكبائر. نعم لا يبعد أن يكون منها ما هو من الصغائر كالغيبة التي لا يتأذى بها كثيرا نحو عيب الملبوس والدابة ، ومنها ما لا ينبغي أن يشك في أنه من أكبر الكبائر كغيبة الأولياء والعلماء بألفاظ الفسق والفجور ونحوها من الألفاظ الشديدة الإيذاء ، والأشبه أن يكون حكم السكوت عليها مع القدرة على دفعها حكمها ، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها فيقلع ويندم خوفا من اللّه تعالى ليخرج من حقه ثم يستحل المغتاب خوفا ليحله فيخرج عن مظلمته ، وقال الحسن : يكفيه الاستغفار عن الاستحلال ، واحتج بخبر «كفارة من اغتبته أن تستغفر له» ، وأفتى الخياطي بأنها إذا لم تبلغ المغتاب كفاه الندم والاستغفار ، وجزم ابن الصباغ بذلك وقال : نعم إذا كان تنقصه عند قوم رجع إليهم وأعلمهم أن ذلك لم يكن حقيقة وتبعهما كثيرون منهم النووي ، واختاره ابن الصلاح في فتاويه وغيره ، وقال الزركشي : هو المختار وحكاه ابن عبد البر عن ابن المبارك وأنه ناظر سفيان فيه ، وما يستدل به على لزوم التحليل محمول على أنه أمر بالأفضل أو بما يمحو أثر الذنب بالكلية على الفور ، وما ذكر في غير الغائب والميت أما فيهما فينبغي أن يكثر لهما الاستغفار ، ولا اعتبار بتحليل الورثة على ما صرح به الخياطي وغيره ، وكذا الصبي والمجنون بناء على الصحيح من القول بحرمة غيبتهما.
قال في الخادم : الوجه أن يقال يبقى حق مطالبتهما إلى يوم القيامة أي إن تعذر الاستحلال والتحليل في الدنيا بأن مات الصبي صبيا والمجنون مجنونا ويسقط من حق اللّه تعالى بالندم ، وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة أم لا؟ وجهان ، والذي رجحه في الإذكار أنه لا بد من معرفتها لأن الإنسان قد يسمح عن غيبة دون غيبة ، وكلام الحليمي. وغيره يقتضي الجزم بالصحة لأن من سمح بالعفو من غير كشف فقد وطن نفسه عليه مهما كانت الغيبة ، ويندب لمن سئل التحليل أن يحلل ولا يلزمه لأن ذلك تبرع منه وفضل ، وكان جمع من السلف واقتدى بهم والدي عليه الرحمة والرضوان يمتنعون من التحليل مخافة التهاون بأمر الغيبة ، ويؤيد الأول
خبر «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال : إني تصدقت بعرضي على الناس».
ومعناه لا أطلب مظلمة منهم ولا أخاصمهم لا أن الغيبة تصير حلالا لأن فيها حقا للّه تعالى ولأنه عفو وإباحة للشيء قبل وجوبه ، وسئل الغزالي عن غيبة الكافر فقال : هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل : الإيذاء ، وتنقيص خلق اللّه تعالى ، وتضييع الوقت بما لا يعني. والأولى تقتضي التحريم ، والثانية الكراهة ، والثالثة خلاف الأولى. وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع عن الإيذاء لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله.
وقد روى ابن حبان في صحيحه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من سمع يهوديا أو نصرانيا فله النار»
ومعنى سمعه أسمعه ما يؤذيه ولا كلام بعد هذا في الحرمة. وأما الحربي فغيبته ليست بحرام على الأولى وتكره على الثانية وخلاف الأولى على الثالثة ، وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي وإلا فكالمسلم وأما ذكره ببدعته فليس مكروها.
وقال ابن المنذر
في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في تفسير الغيبة : «ذكرك أخاك بما يكره»
:
فيه دليل على أن من ليس أخا لك من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل ومن أخرجته بدعته إلى غير دين الإسلام لا غيبة له ويجري نحوه في الآية ، والوجه تحريم غيبة الذمي كما تقرر وهو وإن لم يعلم من الآية ولا من الخبر المذكور معلوم بدليل آخر ولا معارضة بين ما ذكر

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 312
وذلك الدليل كما لا يخفى ، وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب.
الأول التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه لا تخفيفه. الثاني الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته. الثالث الاستفتاء فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي : ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له أو ما طريق تحصيل حقي أو نحو ذلك والأفضل أن يبهمه.
الرابع تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمتصدين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهلية فتجوز إجماعا بل تحب ، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزوج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفي فإن كفى نحو لا يصلح لك فذاك وإن احتاج إلى ذكر عيب ذكره أو عيبين فكذلك وهكذا ولا يجوز الزيادة على ما يكفي ، ومن ذلك أن يعلم من ذي ولاية قادحا فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره الخالي من ذلك أو على نصحه وحثه للاستقامة ، والخامس أن يتجاهر بفسقه كالمكاسين وشربه الخمر ظاهرا فيجوز ذكره بما تجاهروا فيه دون غيره إلا أن يكون له سبب آخر مما مر.
السادس للتعريف بنحو لقب كالأعور ، والأعمش فيجوز وإن أمكن تعريفه بغيره. نعم الأولى ذلك إن سهل ويقصد التعريف لا التنقيص ، وأكثر هذه الستة مجمع عليه ويدل لها من السنة أحاديث صحيحة مذكورة في محلها كالأحاديث الدالة على قبح الغيبة وعظم آثامها وأكثر الناس بها مولعون ويقولون : هي صابون القلوب وإن لها حلاوة كحلاوة التمر وضراوة كضراوة الخمر وهي في الحقيقة كما
قال ابن عباس وعلي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهم : الغيبة إدام كلاب الناس
نسأل اللّه تعالى التوفيق لما يحب ويرضى.
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية أعني قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إلخ كما قال أبو حيان وفصله بقوله : جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم وهو الظن ثم نهى ثانيا عن طلب تحقيق ذلك الظن ليصير علما بقوله سبحانه : وَلا تَجَسَّسُوا ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم فهذه أمور ثلاثة مترتبة ظن فعلم بالتجسس فاغتياب ، وقال ابن حجر عليه الرحمة : إنه تعالى ختم كلا من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفا عليهم لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي في وَمَنْ لَمْ يَتُبْ لتقاربهما ولما بدئت الثانية بالأمر في اجْتَنِبُوا ختمت به في وَاتَّقُوا اللَّهَ إلى إلخ وكان حكمة ذكر التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَتُبْ إلخ أن ما فيها أفحش لأنه إيذاء في الحضرة بالخسرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه أمر خفي إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الإخفاء وعدم العلم به غالبا انتهى فلا تغفل.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحواء عليهما السلام فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب ومن هذا قوله :
الناس في عالم التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
وجوز أن يكون المراد هنا إنا خلقنا كل واحد منكم من أب وأم ، ويبعده عدم ظهور ترتب ذم التفاخر بالنسب عليه والكلام مساق له كما ينبي عنه ما بعد ، وقيل : هو تقرير للاخوة المانعة عن الاغتياب وعدم ظهور الترتب عليه على حاله مع أن ملاءمة ما بعد له دون ملاءمته للوجه السابق لكن وجه تقريره للأخوة ظاهر.
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ الشعوب جمع شعب بفتح الشين وسكون العين وهم الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد ، وهو يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة بفتح العين وقد تكسر تجمع البطون ، والبطن تجمع

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 313
الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل ، فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها ، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل النسب واللغة ، ونظم ذلك بعض الأدباء فقال :
قبيلة فوقها شعب وبعدهما عمارة ثم بطن تلوه فخذ
وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ولا سداد لسهم ما له قذذ
وذكر بعضهم العشيرة بعد الفصيلة فقال :
اقصد الشعب فهو أكثر حي عددا في الحساب ثم القبيلة
ثم يتلوهما العمارة ثم البطن ثم الفخذ وبعد الفصيلة
ثم من بعدها العشيرة لكن هي في جنب ما ذكرنا قليله
وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يذكر ما يخالفه ، وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل ، وأيد كون الشعوب في العجم ما في حديث مسروق أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية فإن الشعوب فيه فسرت بالعجم لكن قيل : وجهه على ما تقدم أن الشعب ما تشعب منه قبائل العرب والعجم فخص بأحدهما ، ويجوز أن يكون جمع الشعوبي وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلا على غيرهم كيهود ومجوس في جمع المجوسي واليهودي ، ومنهم أبو عبيدة وكان خارجيا وقد ألف كتابا في مثالب العرب ، وابن غرسية وله رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب ، وقد رد عليه علماء الأندلس برسائل عديدة.
وقيل : الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل ربيعة ومضر وسائر عدنان ، وقال قتادة ومجاهد والضحاك :
الشعب النسب إلا بعد والقبيلة الأقرب ، وقيل : الشعوب الموالي والقبائل العرب ، وقال أبو روق : الشعوب الذين ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم لِتَعارَفُوا علة للجعل أي جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب والتوارث لا لتفاخروا بالآباء والقبائل ، والحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر والسكوت في معرض البيان. وقرأ الأعمش «لتتعارفوا» بتاءين على الأصل ، ومجاهد. وابن كثير في رواية وابن محيصن بإدغام التاء في التاء ، وابن عباس وأبان عن عاصم «لتعرفوا» بكسر الراء مضارع عرف ، قال ابن جني : والمفعول محذوف أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه كقوله :
وما علم الإنسان إلا ليعلما أي ليعلم ما علمه وما أعذب هذا الحذف وما أغربه لمن يعرف مذهبه.
واختير في المفعول المقدر قرابة بعضكم من بعض ، وقوله تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف الحقيقي كأنه قيل : إن أكرمكم عند اللّه تعالى والأرفع منزلة لديه عز وجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى. وقرأ ابن عباس «أن» بفتح الهمزة على حذف لام التعليل كأنه قيل : لم لا تتفاخروا بالأنساب؟ فقيل : لأن أكرمكم عند اللّه تعالى أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها.
وفي البحر أن ابن عباس قرأ «لتعرفوا وأن أكرمكم» بفتح الهمزة فاحتمل أن يكون «أن أكرمكم» إلخ معمولا لتعرفوا وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر وهو أجود من حيث المعنى ، وأما إن كانت لام كي فلا يظهر المعنى

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 314
إذ ليس جعلهم شعوبا وقبائل لأن يعرفوا أن أكرمهم عند اللّه تعالى أتقاهم فإن جعلت مفعولا لتعرفوا محذوفا أي لتعرفوا الحق لأن أكرمكم عند اللّه أتقاكم ساغ في اللام ان تكون لام كي ا ه وهو كما ترى.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكم وبأعمالكم خَبِيرٌ بباطن أحوالكم. روي أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على الكعبة فغضب الحارث بن هشام. وعتاب بن أسيد وقالا : أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة فنزلت.
وعن ابن عباس سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يا ابن فلانة فوبخه النبي عليه الصلاة والسلام وقال : إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى ونزلت وأخرج أبو داود في مراسيله وابن مردويه وعن البيهقي في سننه عن الزهري قال : أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا : يا رسول اللّه أنزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية.
قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة وكان حجام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي رواية ابن مردويه من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال : أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ونزلت يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية
في ذلك ، وعن يزيد بن شجرة مر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فاشتراه رجل فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يراه عند كل صلاة ففقده فسأل عنه صاحبه فقال : محموم فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقال : هو لما به فجاءه وهو في ذمائه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت
، وفي القلب من صحة هذا شيء واللّه تعالى أعلم. وقد دلت على أنه لا ينبغي التفاخر بالأنساب وبذلك نطقت الأخبار.
أخرج ابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان. وعبد بن حميد.
والترمذي. وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ، وقال : الحمد صلّى اللّه عليه وسلّم الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس الناس رجلان بر تقي كريم على اللّه وفاجر شقي هين على اللّه الناس كلهم بنو آدم وخلق اللّه آدم من تراب قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى إلى قوله تعالى : خَبِيرٌ ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم
، وأخرج البيهقي وابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه قال : خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد لا فضللعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ألا هل بلغت؟ قالوا :
بلى يا رسول اللّه قال : فليبلغ الشاهد الغائب
، وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن اللّه أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع وإن أكرمكم عند اللّه أتقاكم فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه» وأخرج أحمد وجماعة نحوه لكن ليس فيه «فمن أتاكم» إلخ.
وأخرج البزار عن حذيفة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على اللّه من الجعلان»
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «يقول اللّه يوم القيامة أيها الناس إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم عند اللّه أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا : فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان وإني اليوم أرفع نسبي واضع نسبكم ألا إن أوليائي المتقون» وأخرج الخطيب عن علي كرم اللّه تعالى وجهه نحوه مرفوعا.
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والبغوي وابن قانع والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي ريحانة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وكبرا فهو عاشرهم في النار»
وأخرج

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 315
البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال : «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أي الناس أكرم؟ قال : أكرمهم عند اللّه أتقاهم قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فأكرم الناس يوسف نبي اللّه ابن نبي اللّه ابن خليل اللّه قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا : نعم قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»
والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم : 39] وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه ، ولا من جهة الفاعل لأنه هو اللّه تعالى الواحد ، فليس للنسب شرف يعول عليه ويكون مدارا للثواب عند اللّه عز وجل ، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى وبها تكمل النفس وتتفاضل الأشخاص ، وهذا لا ينافي كون العرب أشرف من العجم وتفاوت كل من العرب والعجم في الشرف ، فقد ذكروا أن الفرس أشرف من النبط ، وبنو إسرائيل أفضل من القبط. وأخرج مسلم. وغيره عن واثلة بن الأسقع قال : «قال صلّى اللّه عليه وسلّم إن اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم»
لأن ذلك ليس إلا باعتبار الخصال الحميدة ، فشرف العرب على العجم مثلا ليس إلا باعتبار أن اللّه تعالى امتازهم على من سواهم بفضائل جمة وخصال حميدة كما صحت به الأحاديث ، وقد جمع الكثير منها العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه مبلغ الأرب في فضائل العرب ، ولا نعني بذلك أن كل عربي ممتاز على كل عجمي بالخصال الحميدة بل إن المجموع ممتاز على المجموع ، ثم إن أشرف العرب نسبا أولاد فاطمة رضي اللّه تعالى عنها لأنهم ينسبون إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما صرح به جمع من الفقهاء.
وأخرج الطبراني عن فاطمة رضي اللّه تعالى عنها قالت : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم»
وفي رواية له عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه «كل ابن أنثى كان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا عصبتهم وأنا أبوهم» ونوزع في صحة ذلك ، ورمز الجلال السيوطي للأول بأنه حسن ، وتعقب وليس الأمر موقوفا على ما ذكر لظهور دليله. وقد أخرج أحمد. والحاكم في المستدرك عن المسور بن مخرمة ولا كلام فيه. قال : «قال صلّى اللّه عليه وسلّم فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وإن الأنساب كلها تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري»
وحديث بضعية فاطمة رضي اللّه تعالى عنها مخرج في صحيح البخاري أيضا ، قال الشريف السمهودي : ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهذا غاية الشرف لأولادها ، وعدم انقطاع نسبه صلّى اللّه عليه وسلّم جاء أيضا
في حديث أخرجه ابن عساكر عن عمر رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا بلفظ «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة الا نسبي وصهري»
والذهبي وإن تعقبه بقوله فيه ابن وكيع لا يعتمد لكن استدرك ذلك بأنه ورد فيه مرسل حسن ، ويعلم مما ذكر ونحوه. كما قال المناوي. عظيم نفع الانتساب إليه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولا يعارضه ما في أخبار أخر من حثه عليه الصلاة والسلام لأهل بيته على خشية اللّه تعالى واتقائه سبحانه وأنه عليه الصلاة والسلام لا يغني عنهم من اللّه تعالى شيئا حرصا على إرشادهم وتحذيرا لهم من أن يتكلوا على النسب فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين ، وليجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب ، ورعاية لمقام التخويف خاطبهم عليه الصلاة والسلام
بقوله : «لا أغني عنكم من اللّه شيئا»
والمراد لا أغني عنكم شيئا بمجرد نفسي من غير ما يكرمني اللّه تعالى به من نحو شفاعة فيكم ومغفرة منه تعالى لكم ، وهو عليه الصلاة والسلام لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا إلا بتمليك اللّه تعالى ، واللّه سبحانه يملكه نفع أمته والأقربون أولى بالمعروف.
فعلى هذا لا بأس بقوله الرجل : أنا من ذرية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على وجه التحدث بالنعمة أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية. وقد نقل المناوي عن ابن حجر أنه قال نهيه صلّى اللّه عليه وسلّم عن التفاخر بالأنساب موضعه مفاخرة تقتضي تكبرا

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 316
واحتقار مسلم ، وعلى ما ذكرناه أولا
جاء قوله عليه الصلاة والسلام «إن اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل» الحديث ،
وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»
إلى غير ذلك ، ومع شرف الانتساب إليه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي لمن رزقه أن يجعله عاطلا عن التقوى ويدنسه بمتابعة الهوى ، فالحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن ، والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ ، وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وربما ينكر نسبه. وعليه قيل لشريف سيىء الأفعال :
قال النبي مقال صدق لم يزل يحلو لدى الاسماع والأفواه
إن فاتكم أصل امرئ ففعاله تنبيكم عن أصله المتناهي
وأراك تسفر عن فعال لم تزل بين الأنام عديمة الأشباه
وتقول إني من سلالة أحمد أفأنت تصدق أم رسول اللّه
ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل ، كما يحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غير أنه كان فاسقا ظاهر الفسق وكان هناك مولى أسود تقدم في العلم والعمل فأكب الناس على تعظيمه فاتفق أن خرج يوما من بيته يقصد المسجد فاتبعه خلق كثير يتبركون به فلقيه الشريف سكران فكان الناس يطردونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال : يا أسود الحوافر والمشافر يا كافر ابن كافر أنا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أذل وأنت تجل وأهان وأنت تعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده ومعفو عنه وإن خرج عن حده ، ولكن أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا معي ما يعمل مع أبيك ، ولهذا ونحوه قيل :
ولا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهله
أي لا ينفع في الامتياز على ذوي الخصال السنية إذا كانت النفس في حد ذاتها باهلية ردية ومن الكمالات عرية ، فإن باهلة في الأصل اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها ، وقيل : بنو باهلة وهم قوم معروفون بالخساسة ، قيل : كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها ويأخذون دسوماتها فاستنقصتهم العرب جدا حتى قيل لعربي أترضى أن تكون باهليا وتدخل الجنة فقال : لا إلا بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي ، وقيل :
إذا قيل للكلب يا باهلي عوى الكلب من شؤم هذا النسب
ولم يجعلهم الفقهاء لذلك أكفاء لغيرهم من العرب لكن لا يخلو ذلك من نظر ، فإن النص أعني «إن العرب بعضهم أكفاء لبعض» لم يفصل مع أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان أعلم بقبائل العرب وأخلاقهم وقد أطلق وليس كل باهلي كما يقولون بل فيهم الأجواد ، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري في حق الكل اللهم إلا أن يقال :
مدار الكفاءة وعدمها على العار وعدمه في المعروف بين الناس. فمتى عدوا الباهلية عارا وشاع استنقاصها فيما بينهم وأبتها نفوسهم اعتبر ذلك وإن لم يكن عن أصل أصيل ، وهذا نظير ما ذكروا فيما إذا اشترى الشخص دارا فتبين أن الناس يستشئمونها أنه بالخيار مع قول الجل من العلماء بنفي الشؤم المتعارف بين الناس اعتبارا لكون ذلك مما ينقص الثمن بين الناس وإن لم يكن له أصل فتأمله ، وبالجملة شرف النسب مما اعتبر جاهلية وإسلاما ، أما جاهلية فأظهر من

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 317
أن يبرهن عليه ، وأما إسلاما فيدل عليه اعتبار الكفاءة في النسب في باب النكاح على الوجه المفصل في كتب الفقه ، ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا الإمام مالك والثوري والكرخي من الحنفية ، وبعض ما تقدم من الأخبار يؤيد كلامهم لكن أجيب عنه في محله ، وكذا يدل عليه ما ذكروه في بيان شرائط الإمامة العظمى من أنه يشترطها فيها كون الإمام قرشيا ، وقد أجمعوا على ذلك كما قال الماوردي ، ولا اعتبار بضرار. وأبي بكر الباقلاني حيث شذا فجوزاها في جميع الناس ، وقال الشافعية : فإن لم يوجد قرشي أي مستجمع لشروط الإمامة اعتبر كون الإمام كنانيا من ولد كنانة بن خزيمة ، فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل عليه السلام ، فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة إسماعيل عليه السلام إلى غير ذلك ، ومع هذا كله فالتقوى التقوى فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل ، ويكفي في هذا الفصل قوله تعالى لنوح عليه السلام في ابنه كنعان : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود : 46] وقوله عليه الصلاة والسلام : «سلمان منا أهل البيت»
فالحزم اللائق بالنسيب أن يتقي اللّه تعالى ويكتسب من الخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته ليكون قد زاد على الزبد شهدا وعلق على جيد الحسناء عقدا ولا يكتفى بمجرد الانتساب إلى جدود سلفوا ليقال له : نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا ، وقد ابتلى كثير من الناس بذلك فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عري كالإبرة من كل كمال. ويقول : كان أبي كذا وكذا وذاك وصف أبيه فافتخاره به نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه ، ومن هنا قيل :
وأعجب شيء إلى عاقل أناس عن الفضل مستأخره
إذا سئلوا ما لهم من علا أشاروا إلى أعظم ناخره
وقال الفاضل السري عبد الباقي أفندي العمري :
أقول لمن غدا في كل وقت يباهينا بأسلاف عظام
أتقنع بالعظام وأنت تدري بأن الكلب يقنع بالعظام
وما ألطف قوله :
لم يجدك الحسب العالي بغير تقى مولاك شيئا فحاذر واتق اللّه
وابغ الكرامة في نيل الفخار به فأكرم الناس عند اللّه أتقاها
وأكثر ما رأينا ذلك الافتخار البارد عند أولاد مشايخ الزوايا الصوفية فإنهم ارتكبوا كل رذيلة وتعروا عن كل فضيلة ومع ذلك استطالوا بآبائهم على فضلاء البرية واحتقروا أناسا فاقوهم حسبا ونسبا وشرفوهم أما وأبا وهذا هو الضلال البعيد والحمق الذي ليس عليه مزيد ، ولولا خشية السأم لأطلقنا في هذا الميدان عنان كميت القلم على أن فيما ذكرنا كفاية لمن أخذت بيده العناية واللّه تعالى أعلم.
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإسلام وقلوبهم دغلة إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا ، ويروى أنهم قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادتين وكانوا يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون بذكر ذلك الصدقة ويمنون به على النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هم مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا : آمنا فاستحقينا الكرامة فرد اللّه تعالى عليهم ، وأيا ما كان فليس المراد بالأعراب العموم كما قد صرح به قتادة. وغيره ، والحلق الفعل علامة التأنيث لشيوع اعتبار التأنيث في الجموع حتى قيل :

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 318
لا تبالي بجمعهم كل جمع مؤنث
والنكتة في اعتباره هاهنا الإشارة على قلة عقولهم على عكس ما روعي في قوله تعالى : وَقالَ نِسْوَةٌ [يوسف : 30].
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إكذاب لهم بدعوى الإيمان إذ هو تصديق مع الثقة وطمأنينة القلب ولم يحصل لهم وإلا لما منوا على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وهو ضد الحرب وما كان من هؤلاء مشعر به ، وكان الظاهر لم تؤمنوا ولكن أسلمتم أو لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا لتحصل المطابقة لكن عدل عن الظاهر اكتفاء بحصولها من حيث المعنى مع إدماج فوائد زوائد ، بيان ذلك أن الغرض المسوق له الكلام توبيخ هؤلاء في منّهم بإيمانهم بأنهم خلوا عنه أولا وبأنهم الممتنون إن صدقوا ثانيا ، فالأصل في الإرشاد إلى جوابهم قل كذبتم ولكن أخرج إلى ما هو عليه المنزل ليفيد عدم المكافحة بنسبة الكذب ، وفيه حمل له عليه الصلاة والسلام على الأدب في شأن الكل ليصير ملكة لأتباعه وأن لا يلبسوا جلد النمر لمن يخاطبهم به وتلخيص ما كذبوا فيه.
ومن الدليل على أنه الأصل قوله تعالى في الآية التالية : أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريضا بأن الكذب منحصر فيهم ، وأوثر على لا تقولوا آمنا لاستهجان ذلك لا سيما من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المبعوث للدعوة إلى الإيمان ، على أن إفادة لَمْ تُؤْمِنُوا لمعنى كذبتم أظهر من إفادة لا تقولوا آمنا كما لا يخفى ، ثم قوبل بقوله سبحانه : وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا كأنه قيل : قل لم تؤمنوا فلا تكذبوا ولكن قولوا أسلمنا لتفوزوا بالصدق إن فاتكم الإيمان والتصديق ولو قيل : ولكن أسلمتم لم يؤد هذا المعنى ، وفيه تلويح بأن إسلامهم وهو خلو عن التصديق غير معتد به ولو قيل ولكن أسلمتم لكان ذلك موهما أن ذلك معتد به والمطلوب كماله بالإيمان ولا يحتاج هذا إلى أن يقال : القول في المنزل مستعمل في معنى الزعم ، وقيل : في الآية احتباك.
والأصل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا فحذف من كل من الجملتين ما أثبت في الأخرى والأول أبلغ وألطف وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ حال من ضمير قُولُوا كأنه قيل : قولوا أسلمنا ما دمتم على هذه الصفة ، وفيه إشارة إلى توقع دخول الإيمان في قلوبهم بعد فليس هذا النفي مكررا مع قوله تعالى : لَمْ تُؤْمِنُوا وقيل : الجملة مستأنفة ولا تكرار أيضا لأن لما تفيد النفي الماضي المستمر إلى زمن الحال بالإجماع وتفيد أن منفيها متوقع خلافا لأبي حيان و- لم - لا تفيد شيئا من ذلك بلا خلاف فلا حاجة في دفع التكرار إلى القول بالحالية وجعل الجملة توقيتا للقول المأمور به وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ لا ينقصكم شَيْئاً من أجورها أو شيئا من النقص يقال لاته يليته ليتا إذا نقصه ، ومنه ما حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية الحمد للّه الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو «لا يألتكم» من ألت يألت بضم اللام وكسرها ألتا وهي لغة أسد وغطفان ، قال الحطيئة :
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
والأولى لغة الحجاز والفعل عليها أجوف وعلى الثانية مهموز الفاء ، وحكى أبو عبيدة ألات يليت إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المطيعين رَحِيمٌ بالتفضل عليهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكوا من ارتاب مطاوع را به إذا أوقعه في الشك مع التهمة وجعل عدم الارتياب متراخيا عن الإيمان مع أنه لا ينفك عنه لإفادة نفي الشك فيما بعد عند اعتراء شبهة كأنه قيل : آمنوا ثم لم يعترهم ما يعتري الضعفاء بعد حين ، وهذا لا يدل على أنهم كانوا مرتابين أولا بل يدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم يحدث لهم ارتياب ثانيا ، والحاصل آمنوا ثم لم يحدث لهم ريبة فالتراخي زماني ، وقال بعض الأجلة : عطف عدم الارتياب على الإيمان من باب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة : 98] تنبيها على أنه الأصل في الإيمان فكأنه شيء آخر أعلى منه كائن فيه ، وأوثر ثُمَّ على الواو

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 319
للدلالة على أن هذا الأصل حديثه وقديمه سواء في القوة والثبات فهو أبدا على طراوته لا أنه شيء واحد مستمر فيكون كالشيء الخلق بل هو متجدد طري حينا بعد حين ، ولا بأس بأن يجعل ترشيحا لما دل عليه معنى العطف لما جعل مغايرا نبه على أنه ليس تغاير ما بين الاستمرار والحدوث بل تغاير شيئين مختلفين ليدل على المعنى المذكور وأنهم في زيادة اليقين آنا فآنا ، أما عند من يقول فيه بالقوة والضعف فظاهر ، وأما من لم يقل به فلانضمام العيان إلى البيان ، والفرق بين الاستمرارين أن الاستمرار على الأول استمرار المجموع نحو قوله تعالى : قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت :
30 ، الأحقاف : 13] أي استمر بذلك إيمانهم مع عدم الارتياب ، وعلى الثاني الاستمرار معتبر في الجزء الأخير ، وهذا الوجه أوجه ، وأيا ما كان ففي الكلام تعريض بأولئك الأعراب وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته عز وجل على تكثير فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا كالحج والجهاد ، وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ويجوز بأن يقال : قدم الأموال لحرص الكثير عليها حتى أنهم يهلكون أنفسهم بسببها مع أنه أوفق نظرا إلى التعريض بأولئك حيث إنهم لم يكفهم أنهم لم يجاهدوا بأموالهم حتى جاؤوا أو أظهروا الإسلام حبا للمغانم وعرض الدنيا ومعنى جاهَدُوا بذلوا الجهد أو مفعوله مقدر أي العدو أو النفس والهوى أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة هُمُ الصَّادِقُونَ أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا أولئك الأعراب. روي أنه لما نزلت الآية جاؤوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قوله تعالى : قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أتخبرونه سبحانه وتعالى بذلك بقولكم آمنا. فتعلمون.
من علمت به فلذا تعدى بالتضعيف لواحد بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر ، وقيل : إنه تعدى به لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور فيفيد مبالغة من حيث إنه جار مجرى المحسوس وقوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ حال من مفعول تُعَلِّمُونَ وفيه من تجهيلهم ما لا يخفى ، وقوله سبحانه : وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعتدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابا ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته ، وقال الراغب : هي النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وثقلها عظمها أو المشقة في تحملها ، وأَنْ أَسْلَمُوا في موضع المفعول. ليمنون. لتضمينه معنى الاعتداد أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر أي يمنون عليك بإسلامهم ، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى : قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ فهو إما على معنى لا تعتدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم ، وجوز أبو حيان أن يكون أَنْ أَسْلَمُوا مفعولا من أجله أي يتفضلون عليك لأجل إسلامهم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي ما زعمتم في قولكم آمنا فلا ينافي هذا قوله تعالى : قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أو الهداية مطلق الدلالة فلا يلزم إيمانهم وينافي نفي الإيمان السابق.
وقرأ عبد اللّه. وزيد بن علي «إذ هداكم» بإذ التعليلية ، وقرىء «إن هداكم» بإن الشرطية إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في ادعاء الإيمان فهو متعلق الصدق لا الهداية فلا تغفل وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم ، ولا يخفى ما في سياق الآية من اللطف والرشاقة ، وذلك أن الكائن من أولئك الأعراب قد سماه اللّه تعالى إسلاما إظهارا لكذبهم في قولهم : آمنا أي أحدثنا الإيمان في معرض الامتنان ونفى سبحانه أن يكون كما زعموا إيمانا فلما منوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما كان منهم قال سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام : يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به من حديثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام فقل لهم : لا تعتدوا علي إسلامكم أي حديثكم المسمى

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 320
إسلاما عندي لا إيمانا ، ثم قال تعالى : بل اللّه يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم ، وفي قوله تعالى : إِسْلامَكُمْ بالإضافة ما يدل على أن ذلك غير معتد به وأنه شيء يليق بأمثالهم فأنى يخلق بالمنة ، وللتنبيه على أن المراد بالإيمان الإيمان المعتد به لم يضفه عز وجل ، ونبه سبحانه بقوله جل وعلا : إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ على أن ذلك كذب منهم ، واللطف في تقديم التكذيب ثم الجواب عن المن مع رعاية النكت في كل من ذلك ، وتمام الحسن في التذييل بقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب فيهما وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه سبحانه ما في ضمائركم ، وذلك ليدل على كذبهم وعلى اطلاعه عز وجل خواص عباده من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأتباعه رضي اللّه تعالى عنهم. وقرأ ابن كثير. وابان ، عن عاصم «يعملون» بياء الغيبة واللّه تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في بعض الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ إشارة إلى لزوم العمل بالشرع ورعاية الأدب وترك مقتضيات الطبع ، وقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبإ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً من القلوب وصفاتها بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا صباح يوم القيامة عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ إلخ يشير إلى رسول الإلهام الرباني في الأنفس بلهم فجورها وتقواها ، ويشير قوله تعالى : فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ إلى أن النفس إذا ظلمت القلب باستيلاء شهواتها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة عفي عنها لأنها هي المطية إلى باب اللّه عز وجل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إشارة إلى رعاية حق الاخوة الدينية ومنشأ نطفها صلب النبوة وحقيقتها نور اللّه تعالى فإصلاح ذات بينهم برفع حجب أستار البشرية عن وجوه القلوب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب فيصيروا كنفس واحدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ يشير إلى ترك الإعجاب بالنفس والنظر إلى أحد بعين الاحتقار فإن الظاهر لا يعبأ به والباطن لا يطلع عليه فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على اللّه تعالى لأبره قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا إلى آخره فيه إشارة إلى أنه ينبغي ترك رؤية الأعمال والعلم بأن المنة في الهداية للّه الملك المتعال ، وفيه إرشاد إلى كيفية
مخاطبة الجاهلين والرد على المحجوبين كما سلفت الإشارة إليه ، هذا ونسأل اللّه تعالى التوفيق لما يرضاه يوم العرض عليه.

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 321
سورة ق
وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك ، وفي التحرير عن ابن عباس. وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [ق : 38] الآية فهي مدنية نزلت في اليهود ، وآيها خمس وأربعون بالإجماع. ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث افتتح عز وجل هذه السورة بما يتعلق بذلك ، وكان صلّى اللّه عليه وسلّم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم. وغيره عن جابر ابن سمرة ، وفي رواية ابن ماجه. وغيره عن قطبة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت ، وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت : «ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق : 1] الا من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس»
وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا «تعلموا ق والقرآن المجيد»
وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور.
[سورة ق (50) : الآيات 1 إلى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 322
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ذي المجد والشرف من باب النسب كلابن وتامر وإلا فالمعروف وصف الذات الشريفة به ، وصنيع بعضهم ظاهر في اختيار هذا الوجه ، وأورد عليه أن ذلك غير معروف في فعيل كما قاله ابن هشام في إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف : 56] وأنت تعلم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وشرفه على هذا بالنسبة لسائر الكتب ، أما غير الإلهية فظاهر ، وأما الإلهية فلإعجازه وكونه غير منسوخ بغيره واشتماله مع إيجازه على أسرار يضيق عنها كل واحد منها ، وقال الراغب : المجد السعة في الكرم وأصله مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع ، ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية ، ويجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام المجيد فهو وصف بصفة قائله ، فالإسناد مجازي كما في القرآن الحكيم أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند اللّه تعالى وعند الناس ، فالكلام بتقدير مضاف حذف فارتفع الضمير المضاف إليه ، أو فعيل فيه بمعنى مفعل كبديع بمعنى مبدع لكن في مجيء فعيل وصفا من الإفعال كلام ، وأكثر أهل اللغة والعربية لم يثبته ، وأكثر ما تقدم في قوله تعالى : ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص : 1] يجري هاهنا حتى أنه قيل : يجوز أن يكون ق أمرا من مفاعلة قفا أثره أي تبعه ، والمعنى اتبع القرآن واعمل بما فيه ، ولم يسمع مأثورا ، ومثله ما قيل : إنه أمر بمعنى قف أي قف عند ما شرع لك ولا تجاوزه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : خلق اللّه تعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ومن وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الدنيا مترفرفة عليه ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل ثم قال : وذلك قوله تعالى : وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان : 27] وأخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات. وأبو الشيخ عنه أيضا أنه قال : خلق اللّه تعالى جبلا يقال له قاف محيطا بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد اللّه تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية. وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة. والحاكم. وابن مردويه عن عبد اللّه بن بريدة أنه قال في الآية : قاف جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء. وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه أيضا قال : هو جبل محيط بالأرض ، وذهب القرافي إلى أن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما برهن ثم قال : ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه.
وتعقبه ابن حجر الهيتمي فقال : «يرد ذلك ما جاء عن ابن عباس من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح ، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ان وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف إلى آخر ما تقدم ، ثم قال : وكما يندفع بذلك قوله : لا وجود له يندفع قوله : ولا يجوز اعتقاد إلخ لأنه إن أراد بالدليل مطلق الامارة فهذه عليه أدلة أو الامارة القطعية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي انتهى ، والذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحس فقد قطعوا هذه الأرض برها وبحرها على مدار السرطان مرات فلم يشاهدوا ذلك ، والطعن في صحة هذه الأخبار وإن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح أهون من تكذيب الحس ، وليس ذلك من باب نفي الوجود لعدم الوجدان كما لا يخفى على ذوي العرفان ، وأمر الزلزلة لا يتوقف على

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 323
ذلك الجبل بل هي من الأبخرة وطلبها الخروج مع صلابة الأرض وإنكار ذلك مكابرة عند من له أدنى عرق من الإنصاف واللّه تعالى أعلم.
واختلف في جواب القسم فقيل : محذوف يشعر به الكلام كأنه قيل : والقرآن المجيد إنا أنزلناه لتنذر به الناس ، وقدره أبو حيان إنك جئتهم منذرا بالبعث ونحو ما قيل : هو إنك لمنذر وقيل : ما ردوا أمرك بحجة.
وقال الأخفش والمبرد والزجاج : تقديره لتبعثن ، وقيل : هو مذكور ، فعن الأخفش قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق : 4] وحذفت اللام لطول الكلام ، وعنه أيضا. وعن ابن كيسان ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [ق : 18] وقيل : إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى [ق : 37] وهو اختيار محمد بن علي الترمذي ، وقيل : ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق : 29] وعن نحاة الكوفة هو قوله تعالى : بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وما ذكر أولا هو المعول عليه ، وبَلْ للإضراب عما ينبىء عنه جواب القسم المحذوف فكأنه قيل : إنا أنزلناه لتنذر به الناس فلم يؤمنوا به بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للتكبر والتعجب مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول ، وقيل : التقدير إنك جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا أو فشكوا فيه بل عجبوا على معنى لم يكتفوا بالشك والرد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة ، وقيل : هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد كأنه قيل : ليس سبب امتناعهم من الإيمان بالقرآن أن لا مجد له ولكن لجهلهم ، ونبه بقوله تعالى : بَلْ عَجِبُوا عليه لأن التعجب من الشيء يقتضي الجهل بسببه.
قال في الكشف : وهو وجه حسن ، وأَنْ جاءَهُمْ بتقدير لأن جاءهم ، ومعنى مِنْهُمْ من جنسهم أي من جنس البشر أو من العرب ، وضمير الجمع في الآية عائد على الكفار ، وقيل : عائد على الناس وليس بذاك.
وقوله تعالى : فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارنا لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب ، وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن وإضمارهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم ، وإظهارهم ثانيا للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة ، وعطفه بالفاء لوقوعه بعده وتفرعه عليه لأنه إذا أنكر المبعوث أنكر ما بعث به أيضا ، على أن هذا إشارة إلى مبهم وهو البعث يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية ، ودل عليه السياق أيضا لأنه دل على أن ثم منذرا به ، ومعلوم أن إنذار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول كل شيء بالبعث وما يتبعه.
ووضع المظهر موضع المضمر إما لسبق اتصافهم بما يوجب كفرهم وإما للإيذان بأن تعجبهم من البعث لدلالته على استقصارهم لقدرة اللّه سبحانه عنه مع معاينتهم لقدرته عز وجل على ما هو أشق منه في قياس العقل من مصنوعاته البديعة أشنع من الأول وأعرق في كونه كفرا ، وقوله تعالى : أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار أو بيان لموضع تعجبهم ، والعامل في إِذا مضمر غني عن البيان لغاية شهرته مع دلالة ما بعده عليه أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذ ، وقوله سبحانه : ذلِكَ إشارة إلى محل النزاع وهو الرجع والبعث بعد الموت أي ذلك الرجع رَجْعٌ بَعِيدٌ أي عن الأوهام أو العادة أو الإمكان ، وقيل : الرجع بمعنى المرجوع أي الجواب يقال هذا رجع رسالتك ومرجوعها ومرجوعتها أي جوابها ، والإشارة عليه إلى أَإِذا مِتْنا إلخ ، والجملة من كلام اللّه تعالى ، والمعنى ذلك جواب بعيد منهم لمنذرهم ، وناصب إِذا حينئذ ما ينبىء عنه المنذر من المنذر به وهو البعث أي أئذا متنا وكنا ترابا بعثنا ، وقد يقال : إنه لما تقرر أن ذلك جواب منهم لمنذرهم فقد علم أنه أنذرهم بالبعث ليصلح ذلك جوابا له فهو دليل أيضا على المقدر ، فالقول بأنه إذا كان

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 324
الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب لا يكون في الكلام دليل على ناصب إِذا مندفع. نعم هذا الوجه في نفسه بعيد بل قال أبو حيان : إنه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب.
وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وابن وثاب والأعمش وابن عتبة عن ابن عامر «إذا» بهمزة واحدة على صورة الخبر فجاز أن يكون استفهاما حذفت منه الهمزة وجاز أن يكون خبرا ، قال في البحر : وأضمر جواب إِذا أي إذا متنا وكنا ترابا رجعنا ، وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب ذلك رجع بعيد على تقدير حذف الفاء ، وقد أجاز ذلك بعضهم في جواب الشرط مطلقا إذا كان جملة اسمية ، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة.
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم وأشعارهم ، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه وهو أن أجزاءهم تفرقت فلا تعلم حتى تعاد بزعمهم الفاسد ، وقيل : ما تنقص الأرض منهم من يموت فيدفن في الأرض منهم ، ووجه التعبير بما ظاهر والأول أظهر وهو المأثور عن ابن عباس. وقتادة ، وقوله تعالى :
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ تعميم لعلمه تعالى أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ويدخل فيها أعمالهم أو محفوظ عن التغير ، والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه تعالى بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده سبحانه.
هذا وفي الآية إشارة إلى رد شبهة تمسك بها من يرى استحالة إعادة المعدوم وفي البعث لذلك بناء على أن أجزاء الميت تعدم ولا تتفرق فقط ، وحاصلها أن الشيء إذا عدم ولم يستمر وجوده في الزمان الثاني ثم أعيد في الزمان الثالث لزم التحكم الباطل في الحكم بأن هذا الموجود المتأخر هو بعينه الموجود السابق لا موجود آخر مثله مستأنف إذ لما فقد هوية الموجود الأول لم يبق منه شيء من الموضوع والعوارض الشخصية حتى يكون الموجود الثاني مشتملا عليه ويكون مرجحا للحكم المذكور ويندفع التحكم.
وحاصل الرد أن اللّه تعالى عليم بتفاصيل الأشياء كلها يعلم كلياتها وجزئياتها على أتم وجه وأكمله. فللمعدوم صورة جزئية عنده سبحانه فهو محفوظ بعوارضه الشخصية في علمه تعالى البليغ على وجه يتميز به عن المستأنف فلا يلزم التحكم ، ويكون ذلك نظير انحفاظ وحدة الصورة الخيالية فينا بعد غيبة المحسوس عن الحس كما إذا رأينا شخصا فغاب عن بصرنا ثم رأيناه ثانيا فإنا نحكم بأن هذا الشخص هو من رأيناه سابقا وهو حكم مطابق للواقع مبني على انحفاظ وحدة الصورة الخيالية قطعا ولا ينكره إلا مكابر ، وقال بعض الأشاعرة : إن للمعدوم صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد وهو اللّه تعالى ، وليست تلك الصورة للمستأنف وجوده فإن صورته وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح ، وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصور الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له تعالى بواسطة تعلق صفة البصر بالطريق الأولى انتهى ، وهو حسن لكن لا تشير الآية إليه.
وأيضا لا يتم عند القائلين بعدم رؤية اللّه سبحانه المعدومات مطلقا إلا أن أولئك قائلون بثبوت هويات المعدومات متمايزة تمايزا ذاتيا حال العدم فلا ترد عليهم الشبهة السابقة ، وقد يقال : إن صفة البصر ترجع إلى صفة العلم وتعلقاته مختلفة فيجوز أن يكون لعلمه تعالى تعلقا خاصا بالموجود الذي عدم غير تعلقه بالمستأنف في حال عدمه وبذلك يحصل الامتياز ويندفع التحكم ، ويقال على مذهب الحكماء : إن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها عندهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد فنائه بخلاف المستأنف إذ ليس تلك الصورة قبل وجوده وإنما له الصور الكلية في الأذهان العالية

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 325
والسافلة فإذا أوجدت تلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا أوجدت هذه الصورة الكلية كان مستأنفا وربما يدعي الإسلامي المتفلسف في قوله تعالى : وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ رمزا إلى ذلك ، وللجلال الدواني كلام في هذا المقام لا يخلو عن نظر عند ذوي الأفهام ، ثم إن البعث لا يتوقف على صحة إعادة المعدوم عند الأكثرين لأنهم لا يقولون إلا بتفرق أجزاء الميت دون انعدامها بالكلية ، ولعل في قوله تعالى حكاية عن منكريه : «أئذا متنا وكنا ترابا» إشارة إلى ذلك ، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة»
وليس نصا في انعدام ما عدا العجب بالمرة لاحتمال أن يراد ببلا غيره من الأجزاء انحلالها إلى ما تركبت منه من العناصر وأما هو فيبقى على العظيمة وهو جزء صغير في العظم الذي في أسفل الصلب ، ومن كلام الزمخشري العجب أمره عجب هو أول ما يخلق وآخر ما يخلق بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر فكأنه بدل بداء من الأول فلا حاجة إلى تقدير ما أجادوا النظر بل كذبوا أو لم يكذب المنذر بل كذبوا ، وكون التكذيب المذكور أفظع قيل : من حيث إن تكذيبهم بالنبوة تكذيب بالمنبأ به أيضا وهو البعث وغيره ، وقيل : لأن إنكار النبوة في نفسه أفظع من إنكار البعث ، وربما لا يتم عند القائلين بأن العقل مستقل بإثبات أصل الجزاء ، على أن من الجائز أن يكونوا قد سمعوا بالبعث من أصحاب ملل أخرى بخلاف نبوته عليه الصلاة والسلام خاصة ، وقيل : المراد بالحق الإخبار بالبعث ولا شك أن التكذيب أسوأ من التعجب وأفظع فهو إضراب عن تعجبهم بالمنذر والمنذر به إلى تكذيبهم ، وقيل : المراد به القرآن والمضروب عنه عليه على ما قال الطيبي قوله تعالى : ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وجعل كبدل البداء من الإضراب الأول على أنه إضراب عن حديث القرآن ومجده إلى التعجب من مجيء من أنذرهم بالبعث الذي تضمنه وإن هذا إضراب إلى التصريح بالتكذيب به ويتضمن ذلك إنكار جميع ما تضمنه كذا قيل فتأمل.
وقرأ الجحدري لَمَّا بكسر اللام وتخفيف الميم فاللام توقيتية بمعنى عند نحوها في قولك : كتبه لخمس خلون مثلا ، و(ما) مصدرية أي بل كذبوا بالحق عند مجيئه إياهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب من مرج الخاتم في إصبعه إذا قلق من الهزال ، والإسناد مجازي كما فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة : 21] مبالغة بجعل المضطرب الأمر نفسه وهو في الحقيقة صاحبه ، وذلك نفيهم النبوة عن البشر بالكلية تارة وزعمهم أن اللائق بها أهل الجاه والمال كما ينبىء عنه قولهم : لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : 31] تارة أخرى وزعمهم أن النبوة سحر مرة وأنها كهانة أخرى حيث قالوا في النبي عليه الصلاة والسلام مرة ساحر ومرة كاهن أو هو اختلاف حالهم ما بين تعجب من البعث واستبعاد له وتكذيب وتردد فيه أو قولهم في القرآن هو شعر تارة وهو سحر أخرى إلى غير ذلك أَفَلَمْ يَنْظُرُوا أي أغفلوا أو عموا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ بحيث يشاهدونها كل وقت ، قيل : وهذا ظاهر على ما هو المعروف بين الناس من أن المشاهد هو السماء التي هي الجرم المخصوص الذي يطوى يوم القيامة وقد وصف في الآيات والأحاديث بما وصف.
وأما على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن المشاهد إنما هو كرة البخار أو هواء ظهر بهذا اللون ولا لون له حقيقة ودون ذلك الجرم ففيه خفاء ، وقال بعض الأفاضل في هذا المقام : إن ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية ، وما ذكره الفلاسفة المتقدمون من أن الأفلاك أجرام صلبة شفافة لا ترى غير مسلم أصلا ، وكذا كون السموات السبع هي الأفلاك السبعة غير مسلم عند المحققين ، وكذا وجود كرة البخار وأن ما بين السماء والأرض هواء مختلف الأجزاء في اللطافة فكلما علا كان ألطف حتى أنه ربما لا يصلح للتعيش ولا يمنع خروج الدم من المسام الدقيقة جدا لمن وصل إليه ، وإن رؤية الجو بهذا اللون لا ينافي رؤية السماء حقيقة وإن لم تكن في نفسها

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 326
ملونة به ويكون ذلك كرؤية قعر البحر أخضر من وراء مائه ونحو ذلك مما يرى بواسطة شيء على لون وهو في نفسه على غير ذلك اللون ، بل قيل : إن رؤية السماء مع وجود كرة البخار على نحو رؤية الأجرام المضيئة كالقمر وغيره.
وأنت تعلم أن الأصحاب مع الظواهر حتى يظهر دليل على امتناع ما يدل عليه وحينئذ يؤولونها ، وأن التزام التطبيق بين ما نطقت به الشريعة وما قاله الفلاسفة مع إكذاب بعضه بعضا أصعب من المشي على الماء أو العروج إلى السماء ، وأنا أقول : لا بأس بتأويل ظاهر تأويلا قريبا لشيء من الفلسفة إذا تضمن مصلحة شرعية ولم يستلزم مفسدة دينية ، وأرى الإنصاف من الدين ، ورد القول احتقارا لقائله غير لائق بالعلماء المحققين ، هذا وحمل بعض السَّماءِ هاهنا على جنس الأجرام العلوية وهو كما ترى ، والظاهر أنها الجرم المخصوص وأنها السماء الدنيا أي أفلم ينظروا إلى السماء الدنيا كَيْفَ بَنَيْناها أحكمناها ورفعناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها للناظرين بالكواكب المرتبة على أبدع نظام وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي من فتوق وشقوق ، والمراد سلامتها من كل عيب وخلل فلا ينافي القول بأن لها أبوابا. وزعم بعضهم أن المراد متلاصقة الطباق وهو ينافي ما ورد في الحديث من أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام ، ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل.
وقيل هاهنا أَفَلَمْ يَنْظُرُوا بالفاء وفي موضع آخر أَوَلَمْ يَنْظُرُوا [الأعراف : 185] بالواو لسبق إنكار الرجع فناسب التعقيب بما يشعر بالاستدلال عليه ، وجيء بالنظر دون الرؤية كما في الأحقاف استبعادا لاستبعادهم فكأنه قيل :
النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع ولا حاجة إلى الرؤية قاله الإمام ، واحتج بقوله سبحانه ما لَها مِنْ فُرُوجٍ للفلاسفة على امتناع الخرق ، وأنت تعلم أن نفي الشيء لا يدل على امتناعه ، على أنك قد سمعت المراد بذلك ، ولا يضر كونه ليس معنى حقيقيا لشيوعه وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها وهو لا ينافي كريتها التامة أو الناقصة من جهة القطبين لمكان العظم وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت تمنعها من الميد كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى :
رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل : 15 ، لقمان : 10] وهو ظاهر في عدم حركة الأرض ، وخالف في ذلك بعض الفلاسفة المتقدمين وكل الفلاسفة الموجودين اليوم ، ووافقهم بعض المغاربة من المسلمين فزعموا أنها تتحرك بالحركة اليومية بما فيها من العناصر وأبطلوا أدلة المتقدمين العقلية على عدم حركتها ، وهل يكفر القائل بذلك الذي يغلب على الظن لا وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ حسن يبهج ويسر من نظر إليه تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه ، وهو مجاز عن التفكر في بدائع صنعه سبحانه بتنزيل التفكر في المصنوعات منزلة الرجوع إلى صانعها ، وتَبْصِرَةً وَذِكْرى علتان للأفعال السابقة معنى وان انتصبا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا ، وقال أبو حيان : منصوبان على المصدرية لفعل مقدر من لفظهما أي بصرنا وذكرنا والأول أولى.
وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكرى» بالرفع على معنى خلقهما تبصرة وذكرى ، وقوله تعالى : وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي كثير المنافع شروع في بيان كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج ، وهو عطف على أَنْبَتْنا وما بينهما على الوجهين الأخيرين اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده فَأَنْبَتْنا بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ كثيرة كما يقتضيه المقام أي أشجارا ذات ثمار وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما ، فالإضافة لما بينهما من الملابسة ، والْحَصِيدِ بمعنى المحصود صفة لموصوف مقدر كما أشرنا إليه فليس من قبيل مسجد الجامع ولا من مجاز الأول كما توهم ، وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات وَالنَّخْلَ عطف على جَنَّاتٍ وهي اسم جنس تؤنث وتذكر وتجميع ، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 327
الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار ، وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل باسِقاتٍ أي طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون على هذا من أفعل فهو فاعل ، والقياس مفعل فهو من النوادر كالطوائح واللواقح في أخوات لها شاذة ويافع من أيفع وباقل من أبقل ، ونصبه على أنه حال مقدرة. وروى قطبة بن مالك عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قرأ «باصقات»
بالصاد وهي لغة لبني العنبر يبدلون من السين صادا إذا وليتها أو فصل بحرف أو حرفين خاء معجمة أو عين مهملة أو طاء كذلك أوقاف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض ، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من مادة الثمر ، والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها في باسِقاتٍ على التداخل ، وجوز أن يكون الحال هو الجار والمجرور وطَلْعٌ مرتفع به على الفاعلية ، وقوله تعالى : رِزْقاً لِلْعِبادِ أي ليرزقهم علة لقوله تعالى : فَأَنْبَتْنا وفي تعليله بذلك بعد تعليل أَنْبَتْنا الأول بالتبصير والتذكير تنبيه على أن اللائق بالعبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أقدم وأهم من تمتعه به من حيث الرزق ، وجوز أن يكون رِزْقاً مصدرا من معنى أَنْبَتْنا لأن الإنبات رزق فهو من قبيل قعدت جلوسا ، وأن يكون حالا بمعنى مرزوقا وَأَحْيَيْنا بِهِ أي بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدبة لا نماء فيها بأن جعلناها بحيث ربت أو أنبتت وتذكير مَيْتاً لأن البلدة بمعنى البلد والمكان ، وقرأ أبو جعفر. وخالد «ميّتا» بالتثقيل كَذلِكَ الْخُرُوجُ جملة قدم فيها الخبر للقصد إلى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء ، وما فيه من معنى البعد إشعار ببعد الرتبة أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا كشيء مخالف لها ، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس ، وجوز أن يكون الكاف في محل رفع على الابتداء الْخُرُوجُ خبر ، ونقل عن الزمخشري أنه قال : كَذلِكَ الخبر وهو الظاهر ، ولكونه مبتدأ وجه وهو أن يقال : ذلك الخروج مبتدأ وخبر على نحو أبو يوسف أبو حنيفة ، والكاف واقع موقع مثل في قولك : مثل زيد أخوك ولا يخفى أنه تكلف.
وقوله تعالى : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى آخره استئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليها وتكذيب منكريها ، وفي ذلك أيضا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتهديد للكفرة ، وَأَصْحابُ الرَّسِّ هو البئر التي لم تبن ، وقيل : هو واد وأصحابه قيل : هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام ، وقيل : قوم حنظلة ابن صفوان وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ أريد هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده ، وهذا كما تسمى القبيلة تميما مثلا باسم أبيها وَإِخْوانُ لُوطٍ قيل : كانوا من أصهاره عليه السلام. فليس المراد الأخوة الحقيقية من النسب وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قيل : هم قوم بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين كانوا يسكنون أيكة وهي الغبطة فسموا بها وَقَوْمُ تُبَّعٍ الحميري وكان مؤمنا وقومه كفرة ولذا لم يذم وهو ذم قومه ، وقد سبق في الحجر. والدخان. والفرقان تمام الكلام فيما يتعلق بما في هذه الآية.
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الأقوام المذكورين كذبوا رسولهم أو كذب كل هؤلاء جميع رسلهم ، وإفراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جميع الرسل لاتفاقهم على الدعوة إلى التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل ، والمراد بالكلية التكثير كما في قوله تعالى : وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل : 23] وإلا فقد آمن من آمن من قوم نوح وكذا من غيرهم ، ثم ما ذكر على تقدير رسالة تبع ظاهر ثم على تقدير عدمها وعليه الأكثر فمعنى

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 328
تكذيب وقومه الرسل عليهم السلام تكذيبهم بما قبل من الرسل المجتمعين على التوحيد والبعث ، وإلى ذلك كان يدعوهم تبع.
فَحَقَّ وَعِيدِ أي فوجب وحل عليهم وعيدي وهي كلمة العذاب أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة ، والعي بالأمر العجز عنه لا التعب ، قال الكسائي :
تقول أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر ، وهذا هو المعروف والأفصح وإن لم يفرق بينهما كثير ، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبىء عنه العي من القصد والمباشرة كأنه قيل : أقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا من الإعادة ، وجوز الإمام أن يكون المراد بالخلق الأول خلق السماء والأرض ويدل عليه قوله سبحانه : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف :
33] ويؤيده قوله تعالى بعد : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إلخ وهو كما ترى ، وعن الحسن «الخلق الأول» آدم عليه السلام وليس بالحسن ، وقرأ ابن أبي عبلة. والوليد بن مسلم. والقورصي عن أبي جعفر والسمسار عن شيبة وأبو بحر عن نافع «أفعيّنا» بتشديد الياء وخرجت على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي فقال : عي في عي وحي في حي فلما أدغم ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ولم يفك الإدغام فقال : عينا وهي لغة لبعض بكر بن وائل في رددت ورددنا ردت وردنا فلا يفكون ، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة ولو كانت «نا» ضمير نصب فالعرب جميعهم على الإدغام نحو ردنا زيد بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل : إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه فلا وجه لإنكارهم الثاني بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف وإنما نكر الخلق ووصف بجديد ولم يقل : من الخلق الثاني تنبيها على مكان شبهتهم واستبعادهم العادي بقوله سبحانه : جَدِيدٍ وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ أي نبأ ، والتعظيم ليس راجعا إلى الخلق من حيث هو.
هو - حتى يقال : إنه أهون من الخلق الأول بل إلى ما يتعلق بشأن المكلف وما يلاقيه بعده وهو - هو - وقال بعض المحققين : نكر لأنه لاستبعاده عندهم كان أمرا عظيما ، وجوز أن يكون التنكير للإبهام إشارة إلى أنه خلق على وجه لا يعرفه الناس ، وأورد الشيخ الأكبر قدس سره هذه الآية في معرض الاستدلال على تجدد الجواهر كالتجدد الذي يقوله الأشعري في الإعراض فكل منهما عند الشيخ لا يبقى زمانين ، ويفهم من كلامه قدس سره أن ذلك مبني على القول بالوحدة وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن ، ولعمري أن الآية بمعزل عما يقول : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما تحدثه به وهو ما يخطر بالبال ، والوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي ، وضمير بِهِ لما وهي موصولة والباء صلة تُوَسْوِسُ وجوز أن تكون للملابسة أو زائدة وليس بذاك ، ويجوز أن تكون ما مصدرية والضمير للإنسان والباء للتعدية على معنى أن النفس تجعل الإنسان قائما به الوسوسة فالمحدث هو الإنسان لأن الوسوسة بمنزلة الحديث فيكون نظير حدث نفسه بكذا وهم يقولون ذلك كما يقولون حدثته نفسه بكذا قال لبيد :
وأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته على أنه أطلق السبب وأريد المسبب لأن القرب من الشيء في العادة سبب العلم به وبأحواله أو الكلام من باب التمثيل ولا مجال لحمله على القرب المكاني لتنزهه سبحانه عن ذلك ، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذوي الأحوال ، وحَبْلِ الْوَرِيدِ مثل في فرط القرب كقولهم : مقعد القابلة ومعقد الإزار قال ذو الرمة على ما في الكشاف :

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 329
والموت أدنى لي من حبل الوريد والحبل معروف والمراد به هنا العرق لشبهه به وإضافته إلى الوريد وهو عرق مخصوص كما ستعرفه للبيان كشجر الأراك أو لامية كما في غيره من إضافة العام إلى الخاص فإن أبقى الحبل على حقيقته فإضافته كما في لجين الماء ، والْوَرِيدِ عرق كبير في العنق وعن الأثرم أنه نهر الجسد ويقال له في العنق الوريد وفي القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخذ الأكحل والنسا وفي الخنصر الأسلم.
والمشهور أن في كل صفحة من العنق عرقا يقال له وريد. ففي الكشاف الوريدان عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان بحسب المشاهدة من الرأس إليه فالوريد فعيل بمعنى فاعل ، وقيل : هو بمعنى مفعول لأن الروح الحيواني يرده ويشير إلى هذا قول الراغب : الوريد عرق متصل بالكبد والقلب وفيه مجاري الروح ، وقال في الآية : أي نحن أقرب إليه من روحه ، وحكي ذلك عن بعضهم أيضا إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ هما الملكان الموكلان بكل إنسان يكتبان أعماله والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة ، وإِذْ قيل : ظرف. لا قرب. وأفعل التفضيل يعمل في الظروف لأنه يكفيها رائحة الفعل وإن لم يكن عاملا في غيرها فاعلا أو مفعولا به أي هو سبحانه أعلم بحال الإنسان من كل قريب حين يتلقى المتلقيان الحفيظان ما يتلفظ به ، وفيه إيذان بأنه عز وجل غني عن استحفاظ الملكين فإنه تعالى شأنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما لكن الحكمة اقتضته ، وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائفهما يوم يقوم الاشهاد ، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة اللّه تعالى بعمله من زيادة لطف في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات ، وجوز أن تكون إِذْ لتعليل القرب ، وفيه أن تعليل قربه عز وجل العلمي باطلاع الحفظة الكتبة بعيد ، واختار بعضهم كونها مفعولا به لأذكر مقدرا لبقاء الأقربية على إطلاقها ولأن أفعل التفضيل ضعيف في العمل وإن كان لا مانع من عمله في الظرف والكلام مسوق لتقرير قدرته عز وجل وإحاطة علمه سبحانه وتعالى فتأمل عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، ومنه قوله :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطويّ رماني
وقال المبرد : إن التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال فأخر قعيد عن موضعه ، والقعيد عليهما فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم ، وذهب الفراء إلى أن قعيدا يدل على الاثنين والجمع ، وقد أريد منه هنا الاثنان فلا حذف ولا تقديم ولا تأخير. واعترض بأن فعيلا يستوي فيه ذلك إذا كان بمعنى مفعول وهذا بمعنى فاعل ولا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول ، واختلف في تعيين محل قعودهما فقيل : هما على الناجذين ،
فقد أخرج أبو نعيم والديلمي عن معاذ بن جبل مرفوعا «إن اللّه لطف بالملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين وجعل لسانه قلمهما وريقه مدادهما»
وقيل : على العاتقين ، وقيل : على طرفي الحنك عند العنفقة وفي البحر أنهم اختلفوا في ذلك ولا يصح فيه شيء ، وأنا أقول أيضا لم يصح عندي أكثر مما أخبر اللّه تعالى به من أنهما عن اليمين وعن الشمال قعيدان ، وكذا لم يصح خبر قلمهما ومدادهما وأقول كما قال اللقاني بعد أن استظهر أن الكتب حقيقي :
علم ذلك مفوض إلى اللّه عز وجل ، وأقول الظاهر إنهما في سائر أحوال الإنسان عن يمينه وعن شماله.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن عباس أنه قال : إن قعد فاحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وإن مشى فاحدهما أمامه والآخر خلفه وإن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه خيرا كان أو شرا ، وقرأ محمد بن أبي معدان «ما يلفظ» بفتح الفاء إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب قوله ويكتبه فإن كان

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 330
خيرا فهو صاحب اليمين وإن كان شرا فهو صاحب الشمال عَتِيدٌ معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر ، وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقال الإمام مالك. وجماعة :
يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض ، وفي شرح الجوهرة للقاني مما يجب اعتقاده أن للّه تعالى ملائكة يكتبون أفعال العباد من خير أو شر أو غيرهما قولا كانت أو عملا أو اعتقادا هما كانت أو عزما أو تقريرا اختارهم سبحانه لذلك فهم لا يهملون من شأنهم شيئا فعلوه قصدا وتعمدا أو ذهولا ونسيانا صدر منهم في الصحة أو في المرض كما رواه علماء النقل والرواية انتهى. وفي بعض الآثار ما يدل على أن الكلام النفسي لا يكتب ، أخرج البيهقي في الشعب عن حذيفة بن اليمان أن للكلام سبعة أغلاق إذا خرج منها كتب وإن لم يخرج لم يكتب القلب واللها واللسان والحنكان والشفتان ، وذهب بعضهم إلى أن المباح لا يكتبه أحد منهما لأنه لا ثواب فيه ولا عقاب والكتابة للجزاء فيكون مستثنى حكما من عموم الآية وروي ذلك عن عكرمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه من طريقه عن ابن عباس أنه قال : إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام أسرج الفرس ويا غلام اسقني الماء ، وقال بعضهم : يكتب كل ما صدر من العبد حتى المباحات فإذا عرضت أعمال يومه محي منها المباحات وكتب ثانيا ماله ثواب أو عقاب وهو معنى قوله تعالى : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد : 39] وقد أشار السيوطي إلى ذلك في بعض رسائله وجعل وجها للجمع بين القولين القول بكتابة المباح والقول بعدمها وقد روي نحوه عن ابن عباس. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله : أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله تعالى : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ثم إن المباح على القول بكتابته يكتبه ملك الشمال على ما يشعر به. ما أخرجه ابن أبي شيبة. والبيهقي في شعب الإيمان من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية أن رجلا كان على حمار فعثر به فقال : تعست فقال صاحب اليمين : ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب الشمال ما هي بسيئة فاكتبها فنودي صاحب الشمال إن ما تركه صاحب اليمين فاكتبه ، وجاء في بعض الأخبار أن صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال ، وقد أخرج ذلك الطبراني وابن مردويه. والبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة مرفوعا ، وفيه «فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر اللّه تعالى منها لم يكتب عليه منها شيئا وإن لم يستغفر اللّه تعالى كتبت عليه سيئة واحدة»
ومثل الاستغفار كما نص عليه فعل طاعة مكفرة في حديث آخر أن صاحب اليمين يقول : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ، وظاهر الآية عموم الحكم للكافر فمعه أيضا ملكان يكتبان ما له وما عليه من أعماله وقد صرح بذلك غير واحد وذكروا أن ما له الطاعات التي لا تتوقف على نية كالصدقة وصلة الرحم وما عليه كثير لا سيما على القول بتكليفه بفروع الشريعة.
وفي شرح الجوهرة الصحيح كتب حسنات الصبي وإن كان المجنون لا حفظة عليه لأن حاله ليست متوجهة للتكليف بخلاف الصبي وظاهر الآية شمول الحكم له وتردد الجزولي في الجن والملائكة أعليهم حفظة أم لا ثم جزم بأن على الجن حفظة وأتبعه القول بذلك في الملائكة عليهم السلام ، قال اللقاني بعد نقله : ولم أقف عليه في الجن لغيره ويفهم منه أنه وقف عليه في الملائكة لغيره ولعله ما حكي عن بعضهم أن المراد بالروح في قوله تعالى : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر : 4] الحفظة على الملائكة ، ويحتاج دعوى ذلك فيهم وفي الجن إلى نقل.
وأما اعتراض القول به في الملائكة بلزوم التسلسل فمدفوع بما لا يخفى على المتأمل ثم إن بعضهم استظهر في

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 331
الملكين اللذين مع الإنسان كونهما ملكين بالشخص لا بالنوع لكل إنسان يلزمانه إلى مماته فيقومان عند قبره يسبحان اللّه تعالى ويحمدانه ويكبرانه ويكتبان ثواب ذلك لصاحبهما إن كان مؤمنا.
أخرج أبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن اللّه تعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكّلا به : قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول اللّه تعالى : سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولان : أنقيم في الأرض؟ فيقول اللّه تعالى : أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني فيقولان فأين؟ فيقول : قوما على قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة ، وجاء أنهما يلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا.
وقال الحسن : الحفظة أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل وهو يحتمل التبدل بأن يكون في كل يوم وليلة أربعة غير الأربعة التي في اليوم والليلة قبلهما وعدمه.
وقال بعضهم : إن ملك الحسنات يتبدل تنويها بشأن الطائع وملك السيئات لا يتبدل سترا على العاصي في الجملة ، والظاهر أنهما لا يفارقان الشخص وقالوا : يفارقانه عند الجماع ودخول الخلاء ، ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه في تلك الحال ، ولهما علامة للحسنة والسيئة بدنيتين كانتا أو قلبيتين ، وبعض الأخبار ظاهرة في أن ما في النفس لا يكتب ،
أخرج ابن المبارك. وابن أبي الدنيا في الإخلاص. وأبو الشيخ في العظمة عن ضمرة بن حبيب قال :
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إن الملائكة يصعدون بعمل العبد من عباد اللّه تعالى فيكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به حيث شاء اللّه تعالى من سلطانه فيوحي اللّه تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين قال : ويصعدون بعمل العبد من عباد اللّه تعالى فيستقلونه ويحتقرونه حتى ينتهوا به حيث شاء اللّه تعالى من سلطانه فيوحي اللّه تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين»
وجاء من حديث عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني أنه ينادي الملك اكتب لفلان بن فلان كذا وكذا أي من العمل الصالح فيقول : يا رب انه لم يعمله فيقول : سبحانه وتعالى إنه نواه ، وقد يقال : إنهما يكتبان ما في النفس ما عدا الرياء والطاعات المئوية
جمعا بين الأخبار ، وجاء أنه يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والإقامة من الحسنات.
أخرج ابن أبي شيبة والدار قطني في الافراد والطبراني والبيهقي في الشعب عن عبد اللّه بن عمرو قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر اللّه تعالى الحفظة فقال : اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي»
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من مرض أو سافر كتب اللّه تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما»
وفي بعض الآثار ما يدل على أن بعض الطاعات يكتبها غير هذين الملكين ، ثم إن الملائكة الذين مع الإنسان ليسوا محصورين بالملكين الكاتبين ، فعن عثمان أنه سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلم كم ملك على الإنسان؟ فذكر عشرين ملكا قاله المهدوي في الفيصل ، وذكر بعضهم أن المعقبات في قوله تعالى :
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد : 11] غير الكاتبين بلا خلاف ، وحكى اللقاني عن ابن عطية أن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك ، واللّه تعالى أعلم بصحة ذلك.
وروى ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن المبارك أنه قال : وكل بالعبد خمسة أملاك ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه لا ليلا ولا نهارا ، وقوله تعالى :
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ إلى آخره كلام وارد بعد تتميم العرض من إثبات ما أنكروه من البعث بأبين

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 332
دليل وأوضحه دال على أن هذا المنكر أنتم لا قوه فخذوا حذركم ، والتعبير بالماضي هنا وفيما بعد لتحقق الوقوع ، وسَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته مستعارة من الحالة التي تعرض بين المرء وعقله بجامع أن كلا منهما يصيب العقل بما يصيب ، وجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية ويجعل إثبات السكرة له تخييلا ، وليس بذاك ، والباء إما للتعدية كما في قولك : جاء الرسول بالخبر ، والمعنى أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب اللّه تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته ، وقيل :
بالحق الذي ينبغي أن يكون من الموت والجزاء فإن الإنسان خلق له ، وإما للملابسة كما في قوله تعالى : تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون : 20] أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الأمر ، وقيل : بالحكمة والغاية الجميلة ، وقرىء «سكرة الحق بالموت» والمعنى أنها السكرة التي كتبت على الإنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه ، وقيل : الباء بمعنى مع ، وقيل : سكرة الحق سكرة اللّه تعالى على أن (الحق) من أسمائه عز وجل ، والإضافة للتهويل لأن ما يجيء من العظيم عظيم. وقرأ ابن مسعود سكرات الموت جمعا ، ويوافق ذلك ما
أخرج البخاري. والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول : لا إله إلا اللّه إن للموت سكرات»
وجاء في حديث صححه الحاكم عن القاسم بن محمد عن عائشة أيضا قالت : «لقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول : اللهم أعني على سكرات الموت»
ذلِكَ أي الحق ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تميل وتعدل ، فالإشارة إلى الحق والخطاب للفاجر لا للإنسان مطلقا والإشارة إلى الموت لأن الكلام في الكفرة ، وإنما جيء بقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ لإثبات العلم بجزئيات أحواله وتضمين شبه وعيد لهؤلاء إدماجا والتخلص منه إلى بيان أحواله في الآخرة ولأن قوله سبحانه وتعالى : لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ إلخ يناسب خطاب هؤلاء ، وكذلك ما يعقبه على ما لا يخفى.
وأما حديث مقابليهم فقد أخذ فيه حيث قال عز وجل : وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ [ق : 31] الآيات ، وقال بعض الأجلة : الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان الشامل للبر والفاجر والنفرة عن الموت شاملة لكل من أفراده طبعا.
وقال الطيبي : إن كان قوله تعالى : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ متصلا بقوله سبحانه : بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وقوله تعالى : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر : 9] فالمناسب أن يكون المشار إليه الحق والخطاب للفاجر ، وإن كان متصلا بقوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فالمناسب أن يكون المشار إليه الموت والخطاب للجنس وفيه البر والفاجر ، والالتفات لا يفارق الوجهين ، والثاني هو الوجه لقوله تعالى بعد ذلك : وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ إلخ ، وتفصيله بقوله تعالى : أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق : 24]. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ وفيه ما يعلم مما قدمنا. وحكى في الكشاف عن بعضهم أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال : الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فحكاه لصالح بن كيسان فقال : واللّه ما من عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب هو للكافر ، ثم حكاهما للحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عباس فقال : أخالفهما جميعا هو للبر والفاجر ، وكأن هذه المخالفة لنحو ما سمعت عن الطيبي. وفي بعض الآثار ما يؤيد القول بالعموم
أخرج ابن سعد عن عروة قال : لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت :
يا عين فابكي الوليد بن الوليد بن المغيرة كان الوليد بن الوليد أبو الوليد فتى العشيرة
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 333
وأخرج أحمد. وابن جرير عن عبد اللّه مولى الزبير بن العوام قال : لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت :
أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر : ليس كذلك يا بنية ولكن قولي : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال رضي اللّه تعالى عنه : بل جاءت سكرة الموت إلخ إذ التمثل بالآية على تقدير العموم أوفق بالحال كما لا يخفى.
[سورة ق (50) : الآيات 20 إلى 45]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخة البعث ذلِكَ إشارة إلى النفخ المفهوم من نُفِخَ والكلام على حذف مضاف أي وقت ذلك النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم إنجاز الواقع في الدنيا أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود ، وجوز أن تكون الإشارة إلى الزمان المفهوم من نُفِخَ فإن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان ، وعليه لا حاجة إلى تقدير شيء ، لكن قيل عليه : إن الإشارة إلى زمان الفعل مما لا نظير له ، وتخصيص الوعيد بالذكر على تقدير كون الخطاب للإنسان مطلقا مع أنه يوم الوعد أيضا بالنسبة إليه للتهويل.
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرة والفاجر كما هو الظاهر مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ وإن اختلفت كيفية السوق

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 334
والشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أي معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها ، وروي ذلك عن عثمان رضي اللّه تعالى عنه وغيره ، وفي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر مرفوعا تصريح بأن ملك الحسنات وملك السيئات أحدهما سائق والآخر شهيد ، وعن أبي هريرة السائق ملك الموت والشهيد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي رواية أخرى عنه السائق ملك والشهيد العمل وكلاهما كما ترى ، وقيل : الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشورا ، وعن ابن عباس. والضحاك السائق ملك والشهيد جوارح الإنسان ، وتعقبه ابن عطية بقوله : وهذا بعيد عن ابن عباس لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي ، وقوله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ يعم الصالحين ، وقيل : السائق والشهيد ملك واحد والعطف لمغايرة الوصفين أي معها ملك يسوقها ويشهد عليها ، وقيل : السائق نفس الجائي والشهيد جوارحه. وتعقب بأن المعية تأباه والتجريد بعيد ، وفيه أيضا ما تقدم آنفا عن ابن عطية ، وقال أبو مسلم : السائق شيطان كان في الدنيا مع الشخص وهو قول ضعيف ، وقال أبو حيان : الظاهران سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسما جنس فالسائق ملائكة موكلون بذلك والشهيد الحفظة وكل من يشهد ، ثم ذكر أنه يشهد بالخير الملائكة والبقاع ، وفي الحديث «لا يسمع مدى صوت المؤذن انس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة»
ومَعَها صفة نَفْسٍ أو كُلُّ وما بعده فاعل به لاعتماده أو مَعَها خبر مقدم وما بعده مبتدأ. والجملة في موضع الصفة ، واختير كونها مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الأخبار بعد العلم بها أوصاف ومضمون هذه الجملة غير معلوم فلا تكون صفة إلا أن يدعي العلم به. وأنت تعلم أن ما ذكر غير مسلم.
وقال الزمخشري. محل مَعَها سائِقٌ النصب على الحال من كُلُّ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة ، فإن أصل كل أن يضاف إلى الجمع كأفعل التفضيل فكأنه قيل : كل النفوس يعني أن هذا أصله وقد عدل عنه في الاستعمال للتفرقة بين كل الإفرادي والمجموعي ، ولا يخفى أن ما ذكره تكلف لا تساعده قواعد العربية ، وقد قال عليه في البحر : إنه كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو ، ثم إنه لا يحتاج إليه فإن الإضافة للنكرة تسوغ مجيء الحال منها ، وأيضا كُلُّ تفيد العموم وهو من المسوغات كما في شرح التسهيل. وقرأ طلحة «محا سائق» بالحاء مثقلة أدغم العين في الهاء فانقلبتا حاء كما قالوا : ذهب محم يريدون معهم ، وقوله تعالى : لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا محكي بإضمار قول ، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : فماذا يكون بعد النفخ ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد؟ فقيل : يقال للكافر الغافل إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا من البعث وغيره لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه ، فالخطاب للكافر كما قال ابن عباس. وصالح بن كيسان ، وتنكير الغفلة وجعله فيها وهي فيه يدل على أنها غفلة تامة ، وهكذا غفلة الكفرة عن الآخرة وما فيها ، وقيل : الجملة محكية بإضمار قول هو صفة - لنفس - أو حال والخطاب عام أي يقال لكل نفس أو قد قيل لها : لقد كنت ، والمراد بالغفلة الذهول مطلقا سواء كان بعد العلم أم لا ، وما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وما فيها ، وجوز الاستئناف على عموم الخطاب أيضا. وقرأ الجحدري «لقد كنت» بكسر التاء على مخاطبة النفس وهي مؤنثة وتذكيرها في قوله : يا نفس إنك باللذات مسرور.
على تأويلها بالشخص ، ولا يلزم في قراءة الجمهور لأن التعبير بالنفس في الحكاية لا يستدعي اعتباره في المحكي كما لا يخفى.
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الغطاء الحجاب المغطي لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها ، وجعل ذلك غطاء مجازا ، وهو إما غطاء الجسد كله أو العينين ، وعلى كليهما يصح قوله تعالى : فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي نافذ لزوال المانع للإبصار ، أما على الثاني فظاهر ، وأما على الأول فلأن غطاء الجسد كله غطاء للعينين أيضا فكشفه عنه يستدعي كشفه عنهما. وزعم بعضهم أن الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمعنى

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 335
كنت في غفلة من هذا الذي ذكرناه من أمر النفخ والبعث ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد وغير ذلك فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن فبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون ، ولعمري إنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق. وفي البحر وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله وهو في كتاب ابن عطية انتهى ، ولعله أراد به هذا لكن في دعوى حرمة النقل بحث ، وقرأ الجحدري. وطلحة بن مصرف بكسر الكافات الثلاثة أعني كاف عَنْكَ وما بعده على خطاب النفس ، ولم ينقل صاحب اللوامح الكسر في الكاف إلا عن طلحة وقال :
لم أجد عنه في لَقَدْ كُنْتَ الكسر فإن كسر فيه أيضا فذاك وإن فتح يكون قد حمل ذلك على لفظ كُلُّ وحمل الكسر فيما بعده على معناه لإضافته إلى نَفْسٍ وهو مثل قوله تعالى : فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة : 112] وقوله سبحانه بعده وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة : 112] انتهى وَقالَ قَرِينُهُ أي شيطانه المقيض له في الدنيا كما قال مجاهد ، وفي الحديث «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا : ولا أنت يا رسول اللّه قال : ولا أنا إلا أن اللّه تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»
هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ إشارة إلى الشخص الكافر نفسه أي هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم قد هيأته لها بإغوائي وإضلالي ، ولا ينافي هذا ما حكاه سبحانه عن القرين في قوله تعالى الآتي :
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ لأن هذا نظير قول الشيطان : وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء : 119] وقوله : وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم : 22] وذاك نظير قوله : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم : 22].
وقال قتادة وابن زيد : قرينه الملك الموكل بسوقه يقول مشيرا إليه : هذا ما لدي حاضر ، وقال الحسن : هو كاتب سيئاته يقول مشيرا إلى ما في صحيفته أي هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض ، وقيل : قرينه هنا عمله قلبا وجوارح وليس بشيء ، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد أو موصولة والظرف صلتها وعَتِيدٌ خبر بعد خبر لاسم الإشارة أو خبر لمبتدأ محذوف ، وجوز أن يكون بدلا من ما بناء على أنه يجوز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم توصف إذا حصلت الفائدة بإبدالها ، وأما تقديره بشيء عتيد على أن البدل هو الموصوف المحذوف الذي قامت صفته مقامه أو إن ما الموصول لإبهامها أشبهت النكرة فجاز إبدالها منها فقيل عليه إنه ضعيف لما يلزم الأول من حذف البدل وقد أباه النحاة ، والثاني لا يقول به من يشترط النعت فهو صلح من غير تراضي الخصمين. وقرأ عبد اللّه «عتيدا» بالنصب على الحال أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ خطاب من اللّه تعالى للسائق والشهيد بناء على أنهما اثنان لا واحد جامع للوصفين أو للملكين من خزنة النار أو لواحد على أن الألف بدل من نون التوكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف ، وأيد بقراءة الحسن «ألقينّ» بنون التوكيد الخفيفة ، وقيل : إن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنين فكثر على ألسنتهم أن يقولوا خليلي وصاحبي وقفا واسعدا حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين ، وما في الآية محمول على ذلك كما حكي عن الفراء أو على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل بأن يكون أصله ألق ألق ثم حذف الفعل الثاني وأبقى ضميره مع الفعل الأولى فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر كما في قوله :
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وحكي ذلك عن المازني والمبرد ، ولا يخفى بعده ، ولينظر هل هو حقيقة أو مجاز والأظهر أنه خطاب لاثنين وهو المروي عن مجاهد. وجماعة ، وأيا ما كان فالكلام على تقدير القول كما مر ، والإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في التعارف اسما لكل طرح أي اطرحا في جهنم كل مبالغ في الكفر للمنعم والنعمة عَنِيدٍ مبالغ في العناد وترك الانقياد للحق ، وقريب منه قول الحسن : جاحد متمرد ، وقال قتادة : أي منحرف عن الطاعة يقال : عند عن الطريق عدل عنه ، وقال السدي : المشاق من العند وهو عظم يعرض في الحلق ، وقال ابن بحر : المعجب بما عنده

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 336
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مبالغ في المنع للمال عن حقوقه المفروضة ، قال قتادة. ومجاهد. وعكرمة : يعني الزكاة ، وقيل : المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة كان يقول لبني أخيه : من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بشيء ما عشت ، والمبالغة باعتبار كثرة بني أخيه أو باعتبار تكرر منعه لهم.
وضعف بأنه لو كان المراد ذلك كان مقتضى الظاهر مناع عن الخير ، وفي البحر الأحسن عموم الخير في المال وغيره مُعْتَدٍ ظالم متخط للحق متجاوز له مُرِيبٍ شاك في اللّه تعالى ودينه ، وقيل : في البعث.
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمن لمعنى الشرط خبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ بتأويل فيقال في حقه ألقياه أو لكونه في معنى جواب الشرط لا يحتاج للتأويل أو بدل من كُلَّ كَفَّارٍ أو من كَفَّارٍ وقوله تعالى : فَأَلْقِياهُ تكرير للتوكيد فهو نظير فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران : 188] بعد قوله تعالى : لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمران : 188] والفاء هاهنا للإشعار بأن الإلقاء للصفات المذكورة أو من باب وحقك ثم حقك ينزل التغاير بين المؤكد والمفسر والمفسر منزلة التغاير بين الذاتين بوجه خطابي ، ولا يدعي التغاير الحقيقي لأن التأكيد يأباه ، وقول أهل المعاني : أن بين المؤكد والمؤكد شدة اتصال تمنع من العطف ليس على إطلاقه بسديد ، والنحويون على خلافه ، فقد قال ابن مالك في التسهيل : فصل الجملتين في التأكيد بثم أن أمن اللبس أجود من وصلهما ، وذكر بعض النحاة الفاء والزمخشري في الجاثية الواو أيضا ، وجعلوا ذلك من التأكيد الاصطلاحي ، ولو جعل الْعَذابِ الشَّدِيدِ نوعا من عذاب جهنم ومن أهواله فكان من باب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة : 98] دون تكرير لكان كما قال صاحب الكشف حسنا.
وجوز أن يكون مفعولا بمضمر يفسره فَأَلْقِياهُ وقال ابن عطية : أن يكون صفة كَفَّارٍ وجاز وصفه بالمعرفة لتخصصه بالأوصاف المذكورة. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز وصف النكرة بالمعرفة ولو وصفت بأوصاف كثيرة قالَ قَرِينُهُ أي الشيطان المقيض له ، وإنما استؤنفت هذه الجملة استئناف الجمل الواقعة في حكاية المقاولة لما أنها جواب لمحذوف دل عليه قوله تعالى : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ فإنه مبني على سابقة كلام اعتذر به الكافر كأنه قال : هو أطغاني فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الطغيان إليه بخلاف الجملة الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها دلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين ، وقول قرينه : وَلكِنْ كانَ هو بالذات فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ من الحق فأعنته عليه بالإغواء والدعوة إليه من غير قسر ولا الجاء ، فهو كما قدمنا نظير وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم : 22] إلخ قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : فماذا قال اللّه تعالى؟ فقيل : قال عز وجل : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة في ذلك وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في دار الكسب في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلا تطمعوا في الخلاص عنه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة ، والجملة حال فيها تعليل للنهي ويلاحظ معنى العلم لتحصل المقارنة التي تقتضيها الحالية أي لا تختصموا لدي عالمين أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [ص : 85] فاتبعتموه معرضين عن الحق والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم وهو لازم يعدى بالباء ، وجوز أن يكون قَدَّمْتُ واقعا على قوله تعالى : ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ إلخ ويكون بِالْوَعِيدِ متعلقا بمحذوف هو حال من المفعول قدم عليه أو الفاعل أي وقد قدمت إليكم هذا
القول ملتبسا بالوعيد مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي ، والأظهر استئناف هذه الجملة. وفي لَدَيَّ على ما قال الإمام وجهان : الأول أن يكون متعلقا بالقول أي ما يبدل القول الذي عنده.

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 337
الثاني أن يكون متعلقا بالفعل قبل أي لا يقع التبديل عندي ، قال : وعلى الأول في القول الذي لديه تعالى وجوه.
أحدها قوله تعالى : أَلْقِيا أرادوا باعتذارهم أن يبدل ويقول سبحانه : لا تلقيا فرد عليهم.
ثانيها قوله سبحانه لإبليس : لَأَمْلَأَنَّ إلخ. ثالثها الإيعاد مطلقا. رابعها القول السابق يوم خلق العباد هذا سعيد وهذا شقي. وعلى الثاني في معنى الآية وجوه أيضا. أحدها لا يكذب لدي فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى فلا يفيد قولكم أطغاني شيطاني وقول الشيطان : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ثانيها لو أردتم أن لا أقول : فَأَلْقِياهُ كنتم أبدلتم الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي وأما الآن فما يبدل القول لدي. ثالثها لا يبدل القول الكفر بالإيمان لدي فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم : ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله : ربنا ما أشركنا وقوله : ربنا آمنا. والمشهور أن لَدَيَّ متعلق بالفعل على أن المراد بالقول ما يشمل الوعد والوعيد.
واستدل به بعض من قال بعدم جواز تخلفهما مطلقا. وأجاب من قال بجواز العفو عن بعض المذنبين بأن ذلك العفو ليس بتبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد ، وقال بعض المحققين : المراد نفي أن يوقع أحد التبديل لديه تعالى أي في علمه سبحانه أو يبدل القول الذي علمه عز وجل ، فإن ما عنده تبارك وتعالى هو ما في نفس الأمر وهو لا يقبل التبديل أصلا ، وأكثر الوعيدات معلقة بشرط المشيئة على ما يقتضيه الكرم وإن لم يذكر على ما يقتضيه الترهيب ، فمتى حصل العفو لعدم مشيئته التعذيب لم يكن هناك تبديل ما في نفس الأمر فتدبره فإنه دقيق وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وارد لتحقيق الحق على أبلغ وجه ، وفيه إشارة إلى أن تعذيب من يعذب من العبيد إنما هو عن استحقاق في نفس الأمر ، وقد تقدم تمام الكلام في هذه الجملة فتذكر.
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي اذكر أو أنذر يوم إلخ. فيوم. مفعول به لمقدر ، وقيل : هو ظرف. لظلام ، وقال الزمخشري : يجوز أن ينتصب. بنفخ. كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم ، وعليه يشار بذلك إلى يَوْمَ نَقُولُ لأن الإشارة إلى ما بعد جائزة لا سيما إذا كانت رتبته التقديم فكأنه قيل : ذلك اليوم أي يوم القول يوم الوعيد ، ولا يحتاج إلى حذف على ما مر في الوجه الذي أشير به إلى النفخ.
وهذا الوجه كما قال في الكشف : فيه بعد لبعده عن العامل وتخلل ما لا يصلح اعتراضا على أن زمان النفخ ليس يوم القول إلا على سبيل فرضه ممتدا واقعا ذلك في جزء منه وهذا في جزء وكل خلاف الظاهر فكيف إذا اجتمعت.
وقال أبو حيان : هو بعيد جدا قد فصل عليه بين العامل والمعمول بجمل كثيرة فلا يناسب فصاحة القرآن الكريم وبلاغته ، والظاهر إبقاء السؤال والجواب على حقيقتهما ، وكذا في نظير ذلك من اشتكاء النار والإذن لها بنفسين وتحاج النار والجنة ، ونحن متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم لا يمنع مانع ولا مانع هاهنا ، فإن القدرة صالحة والعقل مجوز والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل ، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا.
وقال الرماني : الكلام على حذف مضاف أي نقول لخزنة جهنم ، وليس بشيء.
وقال غير واحد : هو من باب التمثيل والمعنى أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها تطرح فيها من الجنّة والناس فوجا بعد فوج حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة ، فالاستفهام للإنكار أي لا مزيد على امتلائها وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد والحسن ، وجوز في نفي الزيادة أن يكون على ظاهره وأن يكون كناية أو مجازا عن الاستكثار ، وقيل : المعنى أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو ، فالاستفهام للتقرير أي فيها موضع للمزيد لسعتها ، وجوز أن يكون ذلك كناية عن شدة غيظها على العصاة كأنها طالبة لزيادتهم.

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 338
واستشكل دعوى أن فيها فراغا بأنه مناف لصريح قوله تعالى : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الآية. وأجيب بأنه لا منافاة لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها وإن كان فيها فراغ كثير كما يقال : إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية مع ما بينها من الأبنية والأفضية أو أن ذلك باعتبار حالين فالفراغ في أول الدخول فيها ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلىء ، هذا ويدل غير ما حديث أنها تطلب الزيادة حقيقة إلا أنه لا يدري حقيقة ما يوضع فيها حتى تمتلىء إذ الأحاديث في ذلك من المتشابهات التي لا يراد بها ظواهرها عند الأكثرين
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء اللّه لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة».
وأخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال اللّه تعالى للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم اللّه من خلقه أحدا وأما الجنة فإن اللّه تعالى ينشىء لها خلقا»
وأول أهل التأويل ذلك ، فقال النضر بن شميل : إن القدم الكفار الذين سبق في علمه تعالى دخولهم النار والقدم تكون بمعنى المتقدم كقوله تعالى : قَدَمَ صِدْقٍ [يونس : 2] وظاهر الحديث عليه يستدعي دخول غير الكفار قبلهم وهو في غاية البعد ولعل في الأخبار ما ينافيه.
وقال ابن الأثير : قدمه أي الذين قدمهم لها من شرار خلقه فهم قدم اللّه تعالى للنار كما أن المسلمين قدمه للجنة والقدم كل ما قدمت من خير أو شر وهو كما ترى ، ويبعده ما
في حديث أحمد. وعبد بن حميد. وابن مردويه عن أبي سعيد مرفوعا «فيلقى فيها ، أي النار ، أهلها فتقول : هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليه فتنزوي وتقول : قدني قدني»
وأولوا الرجل بالجماعة ومنه ما جاء في أيوب عليه السلام أنه كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد ، والإضافة إلى ضميره تعالى تبعد ذلك ، وقيل : وضع القدم أو الرجل على الشيء مثل للردع والقمع فكأنه قيل : يأتيها أمر اللّه تعالى فيكفها من طلب المزيد.
وقريب منه ما ذهب إليه بعض الصوفية ان القدم يكنى بها عن صفة الجلال كما يكنى بها عن صفة الجمال ، وقيل : أريد بذلك تسكين فورتها كما يقال للأمر : تريد إبطاله وضعته تحت قدمي أو تحت رجلي ، وهذان القولان أولى مما تقدم واللّه تعالى أعلم. والمزيد إما مصدر ميمي كالمحيد أو اسم مفعول أعلّ إعلال المبيع.
وقرأ الأعرج وشيبة ونافع وأبو بكر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعمش «يوم يقول» بياء الغيبة. وقرأ عبد اللّه.
والحسن. والأعمش أيضا «يقال». مبنيا للمفعول.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أخذ في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين وهو عطف على نفخ أي قربت للمتقين عن الكفر والمعاصي غَيْرَ بَعِيدٍ أي في مكان غير بعيد بمرأى منهم بين يديهم وفيه مبالغة ليست في التخلية عن الظرف - فغير بعيد - صفة لظرف متعلق بأزلفت حذف فقام مقامه وانتصب انتصابه ، ولذلك لم يقل غير بعيدة ، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية والأصل وأزلفت إزلافا غير بعيد ، قال الإمام : أي عن قدرتنا وإن يكون حالا من الجنة قصد به التوكيد كما تقول : عزيز غير ذليل لأن العزة تنافي الذل ونفي مضاد الشيء تأكيد إثباته ، وفيه دفع توهم أن ثم تجوزا أو شوبا من الضد ولم يقل : غير بعيدة عليه قيل : لتأويل الجنة بالبستان ، وقيل : لأن البعيد على

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 339
زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المؤنث والمذكر كالزئير والصليل فعومل معاملته وأجري مجراه ، وقيل : لأن فعيلا بمعنى فاعل قد يجري مجرى فعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه الأمران ، وللإمام في تقريب الجنة أوجه. منها طي المسافة التي بينها وبين المتقين مع بقاء كل في مكانه وعدم انتقاله عنه ولكرامة المتقين قيل : أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ دون وأزلف المتقون للجنة ، ومنها أن المراد تقريب حصولها والدخول فيها دون التقريب المكاني ، وفيه ما فيه ، ومنها أن التقريب على ظاهره واللّه عز وجل قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض أي إلى جهة السفل أو الأرض المعروفة بعد مدها ، وقول بعض : إن المراد إظهارها قريبة منها على نحو إظهارها للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في عرض حائط مسجده الشريف على ما فيه منزع صوفي هذا ما تُوعَدُونَ إشارة إلى الجنة ، والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غير قصد لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ العربي كما في قوله تعالى :
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام : 78] وقوله سبحانه : وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب : 22] ويجوز أن يكون ذلك لتذكير الخبر ، وقيل : هو إشارة إلى الثواب. وقيل : إلى مصدر أُزْلِفَتِ والجملة بتقدير قول وقع حالا من المتقين أو من الجنة والعامل أزلفت أي مقولا لهم أو مقولا في حقها هذا ما توعدون ، أو اعتراض بين المبدل منه أعني لِلْمُتَّقِينَ والبدل أعني الجار والمجرور وفيه بعد.
وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يوعدون» بياء الغيبة ، والجملة على هذه القراءة قيل : اعتراض أو حال من الجنة وقال أبو حيان : هي اعتراض ، والمراد هذا القول هو الذي وقع الوعد به وهو كما ترى ، وقوله تعالى : لِكُلِّ أَوَّابٍ أي رجاع إلى اللّه تعالى بدل من المتقين بإعادة الجار أو من لِلْمُتَّقِينَ على أن يكون الجار والمجرور بدلا من الجار والمجرور حَفِيظٍ حفظ ذنوبه حتى رجع عنها كما روي عن ابن عباس وسعيد بن سنان ، وقريب منه ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن يونس بن خباب قال : قال لي مجاهد : ألا أنبئك بالأواب الحفيظ؟ هو الرجل يذكر ذنبه إذا خلا فيستغفر اللّه تعالى منه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : أي حفيظ لما استودعه اللّه تعالى من حقه ونعمته.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عبيد بن عمير كنا نعد الأواب الحفيظ الذي يكون في المجلس فإذا أراد أن يقوم قال : اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. وقيل : هو الحافظ لتوبته من النقض ولا ينافيه صيغة أَوَّابٍ كما لا يخفى. وقوله تعالى شأنه : مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بدل من كل المبدل من المتقين أو بدل ثان من المتقين بناء على جواز تعدد البدل والمبدل منه واحد. وقول أبي حيان : تكرر البدل والمبدل منه واحد لا يجوز في غير بدل البداء ، وسره أنه في نية الطرح فلا يبدل منه مرة أخرى غير مسلم ، وقد جوزه ابن الحاجب في أماليه ، ونقله الدماميني في أول شرحه للخزرجية وأطال فيه ، وكون المبدل منه في نية الطرح ليس على ظاهره ، أو بدل من موصوف أَوَّابٍ أي لكل شخص أواب بناء على جواز حذف المبدل منه ، وقد جوزه ابن هشام في المغني لا سيما وقد قامت صفته مقامه حتى كأنه لم يحذف ولم يبدل من أَوَّابٍ نفسه لأن أوابا صفة لمحذوف كما سمعت فلو أبدل منه كان للبدل حكمه فيكون صفة مثله ، و«من» اسم موصول والأسماء الموصولة لا يقع منها صفة إلا الذي على الأصح ، وجوز بعض الوصف بمن أيضا لكنه قول ضعيف أو مبتدأ خبره ادْخُلُوها بتأويل يقال لهم ادخلوها لمكان الإنشائية والجمع باعتبار معنى من وقوله تعالى بِالْغَيْبِ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خَشِيَ أو من مفعوله أو صفة لمصدره أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه سبحانه وهو غائب عنه أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد ، وقيل : الياء للآلة ، والمراد بالغيب القلب لأنه مستور أي من خشي الرحمن بقلبه دون جوارحه بأن يظهر الخشية ليس في قلبه منها شيء وليس بشيء.

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 340
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه عز وجل راجون رحمته سبحانه أو بأن علمهم بسعة رحمته تبارك وتعالى لا يصدهم عن خشيته جل شأنه ، وقال الإمام : يجوز أن يكون لفظ الرَّحْمنَ إشارة إلى مقتضى الخشية لأن معنى الرحمن واهب الوجود بالخلق والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو سبحانه في الدنيا رحمن حيث أوجدنا ورحيم حيث أبقانا بالرزق فمن يكون منه الوجود ينبغي أن يكون هو المخشي وما تقدم أولى.
والباء في قوله تعالى : بِقَلْبٍ للمصاحبة ، وجوز أن تكون للتعدية أي أحضر قلبا منيبا. ووصف القلب بالإنابة مع أنها يوصف بها صاحبه لما أن العبرة رجوعه إلى اللّه تعالى ، وأغرب الإمام فجوز كون الباء للسببية فكأنه قيل : ما جاء إلا بسبب آثار العلم في قلبه أن لا مرجع إلا اللّه تعالى فجاء بسبب قلبه المنيب وهو كما ترى ، وقوله تعالى :
بِسَلامٍ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادْخُلُوها والباء للملابسة ، والسلام إما من السلام أو من التسليم أي ادخلوها ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم أو بتسليم وتحية من اللّه تعالى وملائكته ذلِكَ إشارة إلى أن الزمان الممتد الذي وقع في بعض منه ما ذكر من الأمور يَوْمُ الْخُلُودِ البقاء الذي لا انتهاء له أبدا أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت السلام بتقدير مضاف أيضا أي ذلك يوم إعلام الخلود أي الإعلام به لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من فنون المطالب كائنا ما كان فِيها متعلق بيشاؤون ، وقيل : بمحذوف هو حال من الموصول أو من عائده المحذوف من صلته وَلَدَيْنا مَزِيدٌ هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ومنه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن كثير بن مرة أن تمر السحابة بهم فتقول : ماذا تريدون فأمطره عليكم فلا يريدون شيئا إلا أمطرته عليهم. وأخرج البيهقي في الرؤية. والديلمي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى : وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قال : «يتجلى لهم الرب عز وجل».
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن أنس أنه قال في ذلك أيضا : يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة ،
وجاء في حديث أخرجه الشافعي في الأم وغيره أن يوم الجمعة يدعى يوم المزيد
،
وقيل : المزيد أزواج من الحور العين عليهن تيجان أدنى لؤلؤة منها تضيء ما بين المشرق والمغرب وعلى كل سبعون حلة وان الناظر لينفذ بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك ، وقيل : هو مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي كثيرا أهلكنا قبل قومك مِنْ قَرْنٍ قوما مقترنين في زمن واحد هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي قوة كما قيل أو أخذا شديدا في كل شيء كعاد وقوم فرعون فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذار الموت ، فالتنقيب السير وقطع المسافة كما ذكره الراغب. وغيره ، وأنشدوا للحارث بن حلزة :
نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال
ولامرىء القيس :
وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وروي وقد طوفت ، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال : هو هربوا بلغة اليمن ، وأنشد له بيت الحرث المذكور لكنه نسبه لهدى بن زيد ، وفسر التنقيب في البلاد بالتصرف فيها بملكها ونحوه ، وشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله ، ومنه قوله تعالى : وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً التنقيب بالسير ونحوه المروي عن ابن عباس لمجرد التعقيب ، وعلى تفسيره بالتصرف للسببية لأن تصرفهم في البلاد

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 341
مسبب عن اشتداد بطشهم وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها كأنه قيل : اشتد بطشهم فنقبوا وقيل : هي على ما تقدم أيضا للسببية والعطف على أَهْلَكْنا على أن المراد أخذنا في إهلاكهم فنقبوا في البلاد هَلْ مِنْ مَحِيصٍ على إضمار قول هو حال من واو (نقبوا) أي قائلين هل لنا مخلص من اللّه تعالى أو من الموت؟ أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القول على ما قيل أو هو كلام مستأنف لنفي أن يكون لهم محيص أي هل لهم مخلص من اللّه عز وجل أو من الموت ، وقيل : ضمير (نقبوا) لأهل مكة أي ساروا في مسايرهم وأسفارهم في بلاد القرون المهلكة فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم.
وأيد بقراءة ابن عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر بن سيار وأبي حيوة والأصمعي عن أبي عمرو على صيغة الأمر لأن الأمر للحاضر وقت النزول من الكفار وهم أهل مكة لا غير ، والأصل توافق القراءتين وفيه على هذه القراءة التفات من الغيبة إلى الخطاب. قرأ ابن عباس أيضا وعبيد عن ابن عمرو «فنقّبوا» بفتح القاف مخففة ، والمعنى كما في المشددة ، وقرىء بكسر القاف خفيفة من النقب محركا ، وهو أن ينتقب خف البعير ويرق من كثرة السير ، قال الراجز :
أقسم باللّه أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر
والكلام بتقدير مضاف أي نقبت أقدامهم ، ونقب الإقدام كناية مشهورة عن كثرة السير فيؤول المعنى إلى أنهم أكثروا السير في البلاد أو نقبت أخفاف مراكبهم والمراد كثرة السير أيضا ، وقد يستغنى عن التقدير بجعل الإسناد مجازيا إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإهلاك أو ما ذكر في السورة لَذِكْرى لتذكرة وعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع يدرك الحقائق فإن الذي لا يعي ولا يفهم بمنزلة العدم ، وفي الكشف لِمَنْ كانَ إلخ تمثيل أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحي وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر على أنه من الشهود بمعنى الحضور ، والمراد به المتفطن لأن غير المتفطن منزل منزلة الغائب فهو إما استعارة أو مجاز مرسل والأول أولى ، وجوز أن يكون من الشهادة وصفا للمؤمن لأنه شاهد على صحة المنزل وكونه وحيا من اللّه تعالى فيبعثه على حسن الإصغاء أو وصفا له من قوله تعالى : لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة : 143] كأنه قيل : وهو من جملة الشهداء أي المؤمنين من هذه الأمة فهو كناية على الوجهين ، وجوز على الأول منهما أن لا يكون كناية على أن المراد وهو شاهد شهادة عن إيقان لا كشهادة أهل الكتاب.
وعن قتادة المعنى لمن سمع القرآن من أهل الكتاب وهو شاهد على صدقه لما يجده في كتابه من نعته ، والأنسب بالمساق وإلا ملأ بالفائدة الأخذ من الشهود ، والوجه جعل وَهُوَ شَهِيدٌ حالا من ضمير الملقى لا عطفا على أَلْقَى كما لا يخفى على من له قلب أو القى السمع وهو شهيد ، والمراد أن فيما فعل بسوالف الأمم أو في المذكور إماما من الآيات لذكرى لإحدى طائفتين من له قلب يفقه عن اللّه عز وجل ومن له سمع مصغ مع ذهن حاضر أي لمن له استعداد القبول عن الفقيه إن لم يكن فقيها في نفسه ، وأَوْ لمنع الخلو من حيث إنه يجوز أن يكون الشخص فقيها ومستعدا للقبول من الفقيه ، وذكر بعضهم أنها لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع أو إلى فقيه ومتعلم أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكليته وأزال الموانع بأسرها فتأمل.
وقرأ السلمي وطلحة والسدي وأبو البرهسم «أو ألقي» مبنيا للمفعول «السّمع» بالرفع على النيابة عن الفاعل والفاعل المحذوف أما المعبر عنه بالموصول أولا ، وعلى الثاني معناه لمن ألقى غيره السمع وفتح أذنه ولم يحضر

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 342
ذهنه ، وأما هو فقد ألقي وهو شاهد متفطن محضر ذهنه ، فالوصف أعني الشهود معتمد الكلام ، وإنما أخرج في الآية بهذه العبارة للمبالغة في تفطنه وحضوره ، وعلى الأول معناه لمن ألقى سمعه وهو حاضر متفطن ، ثم لو قدر موصول آخر بعد أَوْ فذو القلب والملقى غير أن شخصا ولو لم يقدر جاز أن يكونا شخصين وأن يكونا شخصا باعتبار حالين حال تفطنه بنفسه وحال القائه السمع عن حضور إلى متفطن بنفسه لأن (من) عام يتناول كل واحد واحد وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تقدم الكلام فيها وَما مَسَّنا وما أصابنا بذلك مع كونه مما لا تفي به القوى والقدر مِنْ لُغُوبٍ تعب ما فالتنوين للتحقير ، وهذا كما قال قتادة. وغيره رد على جهلة اليهود زعموا أنه تعالى شأنه بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وعن الضحاك أن الآية نزلت لما قالوا ذلك ، ويحكى أنهم يزعمون أنه مذكور في التوراة ، وجملة وَما مَسَّنا إلخ تحتمل أن تكون حالية وأن تكون استئنافية ، وقرأ السلمي وطلحة ويعقوب «لغوب» بفتح اللام بزنة القبول والولوع وهو مصدر غير مقيس بخلاف مضموم اللام فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي ما يقول المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الاستبعاد والإنكار فإن من قدر على خلق العالم في تلك المدة اليسيرة بلا إعياء قادر على بعثهم والانتقام منهم ، أو على ما يقول اليهود من مقالة الكفر والتشبيه.
والكلام متعلق بقوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا إلخ على الوجهين ، وفي الكشف أنه على الأول متعلق بأول السورة إلى هذا الموضع وأنه أنسب من تعلقه ، بلقد خلقنا ، الآية لأن الكلام مرتبط بعضه ببعض إلى هاهنا على ما لا يخفى على المسترشد.
وأنت تعلم أن الأقرب تعلقه على الوجهين بما ذكرنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث وعن وصفه عز وجل بما يوجب التشبيه ، أو نزهه عن كل نقص ومنه ما ذكر حامدا له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق وغيرها. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ هما وقتا الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة وَمِنَ اللَّيْلِ مفعول لفعل محذوف يفسره فَسَبِّحْهُ باعتبار الاتحاد النوعي ، والعطف للتغاير الشخصي أي وسبحه بعض الليل فسبحه أو مفعول لقوله تعالى : «سبحه» على أن الفاء جزائية والتقدير مهما يكن من شيء فسبحه بعض الليل ، وقدم المفعول للاهتمام به وليكون كالعوض عن المحذوف ولتتوسط الفاء الجزائية كما هو حقها ، ولعل المراد بهذا البعض السحر فإن فضله مشهور وَأَدْبارَ السُّجُودِ وأعقاب الصلاة جمع دبر بضم فسكون أو دبر بضمتين.
وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وطلحة وشبل والحرميان «إدبار» بكسر الهمزة وهو مصدر تقول : أدبرت الصلاة إدبارا انقضت وتمت ، والمعنى ووقت انقضاء السجود كقولهم : آتيك خفوق النجم. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالتسبيح الصلاة على أنه من إطلاق الجزء أو اللازم على الكل أو الملزوم ، وعليه
فالصلاة قبل الطلوع الصبح وقبل الغروب العصر ، قاله قتادة وابن زيد والجمهور ، وأخرجه الطبراني في الأوسط. وابن عساكر عن جرير بن عبد اللّه مرفوعا
، ومن الليل صلاة العتمة وإدبار السجود النوافل بعد المكتوبات أخرجه ابن جرير عن ابن زيد ، وقال ابن عباس :
الصلاة قبل الطلوع الفجر وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان وإدبار السجود النوافل بعد الفرائض ، وفي رواية أخرى عنه الوتر بعد العشاء ، وفي أخرى عنه أيضا وعن عمر وعلي وابنه الحسن وأبي هريرة رضي اللّه تعالى عنهم.
والشعبي وإبراهيم ومجاهد والأوزاعي ركعتان بعد المغرب ، وأخرجه مسدد في مسنده. وابن المنذر وابن مردويه عن

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 343
علي كرم اللّه تعالى وجهه مرفوعا ، وقال مقاتل : ركعتان بعد العشاء يقرأ في الأولى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون : 1] وفي الثانية قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص : 1] ، وقيل : من الليل صلاة العشاءين والتهجد. وعن مجاهد صلاة الليل ، وفيه احتمال العموم لصلاة العشاءين والخصوص بالتهجد وهو الأظهر وَاسْتَمِعْ أمر بالاستماع ، والظاهر أنه أريد به حقيقته ، والمستمع له محذوف تقديره واستمع لما أخبر به من أهوال يوم القيامة ، وبين ذلك بقوله تعالى : يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إلى آخره ، وسلك هذا لما في الإبهام ثم التفسير من التهويل والتعظيم لشأن المخبر به ، وانتصب يَوْمَ بما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور ، وقيل : المفعول محذوف تقديره نداء المنادى ، وقيل : تقديره نداء الكافرين بالويل والثبور ويَوْمَ ظرف لذلك المحذوف ، وقيل : لا يحتاج ذلك إلى مفعول والمعنى كن مستمعا ولا تكن غافلا ، وقيل : معنى استمع انتظر ، والخطاب لكل سامع ، وقيل : للرسول عليه الصلاة والسلام ويَوْمَ منتصب على أنه مفعول به لاستمع أي انتظر يوم ينادي المنادي فإن فيه تبين صحة ما قلته كما تقول لمن تعده بورود فتح : استمع كذا وكذا. والمنادي على ما في بعض الآثار جبريل عليه السلام ينفخ إسرافيل في الصور وينادي جبريل يا أيتها العظام النخرة والجلود المتمزقة والشعور المتقطعة إن اللّه يأمرك بأن تجتمعي لفصل الحساب. وأخرج ابن عساكر. والواسط في فضائل بيت المقدس عن يزيد بن جابر أن إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور فيقول : يا أيتها العظام النخرة إلى آخره فيكون المراد بالمنادي هو عليه السلام.
وفي الحواشي الشهابية الأول هو الأصح مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ هو صخرة بيت المقدس على ما روي عن يزيد بن جابر وكعب وابن عباس وبريدة وقتادة ، وهي على ما روي عن كعب أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
وفي الكشاف أنها أقرب إليها باثني عشر ميلا وهي وسط الأرض ، وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل إلا بوحي ، ثم إن كونها وسط الأرض مما تأباه القواعد في معرفة العروض والأطوال ، ومن هنا قيل : المراد قريب ممن يناديهم فقيل :
ينادي من تحت أقدامهم ، وقيل : من منابت شعورهم فيسمع من كل شعرة يا أيتها العظام النخرة إلخ ، ومن الناس من قال : المراد بقربه كون النداء منه لا يخفى على أحد بل يستوي في سماعه كل أحد ، والنداء في كل ذلك على حقيقته ، وجوز أن يكون في الإعادة نظير كن في الابتداء على المشهور فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة ولا نداء ولا صوت حقيقة ، ثم إن ما ذكرناه من أن المنادي ملك وأنه ينادي بما سمعت هو المأثور ، وجوز أن يكون نداؤه بقوله للنفس : ارجعي إلى ربك لتدخلن مكانك من الجنة أو النار أو هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ، وأن يكون المنادي هو اللّه تعالى ينادي احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات : 22] أو أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق : 24] مع قوله تعالى : ادْخُلُوها بِسَلامٍ [الحجر : 46 ، ق : 34] أو خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة : 30] أو أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل : 27 ، القصص : 62 ، 74 ، فصلت : 47] أو غير ذلك ، وأن يكون غيره تعالى وغير الملك من المكلفين ينادي يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف : 77] أو أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف : 50] أو غير ذلك ، والمعول عليه ما تقدم يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ وهي النفخة الثانية ، ويَوْمَ بدل من يَوْمَ يُنادِ إلخ ، والعامل فيهما ما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ كما تقدم ، وجوز أن يكون ظرفا لما دل عليه ذلك ويَوْمَ يُنادِ غير معمول له بل لغيره على ما مر ، وأن يكون ظرفا لينادي ، وقوله تعالى : بِالْحَقِّ في موضع الحال من الصَّيْحَةَ أي يسمعونها ملتبسة بالحق الذي هو البعث ، وجوز أن يكون (الحق) بمعنى اليقين والكلام نظير صاح بيقين أي وجد منه الصياح يقينا لا كالصدى وغيره فكأنه قيل : الصيحة المحققة ، وجوز أن يكون الجار متعلقا بيسمعون على أن المعنى يسمعون بيقين ، وأن يكون الباء للقسم و(الحق) هو اللّه تعالى أي يسمعون الصيحة أقسم باللّه وهو كما ترى ذلِكَ أي اليوم يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور وهو من أسماء يوم القيامة.

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 344
وقيل : الإشارة إلى النداء واتسع في الظرف فجعل خبرا عن المصدر ، أو الكلام على حذف مضاف أي ذلك النداء نداء يوم الخروج أو وقت ذلك النداء يوم الخروج إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ الرجوع للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا.
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ بدل بعد بدل ، ويحتمل أن يكون ظرفا للمصير أي إلينا مصيرهم في ذلك اليوم أو لما دل عليه ذلِكَ حَشْرٌ أي يحشرون يوم تشقق. وقرأ نافع وابن عامر «تشّق» بشد الشين وقرىء «تشقّق» بضم التاء مضارع شققت على البناء للمفعول و«تنشّق» مضارع انشقت. وقرأ زيد بن علي «تتشقّق» بتاءين ، وقوله تعالى :
سِراعاً مصدر وقع حالا من الضمير في «عنهم» بتأويل مسرعين والعامل «تشقق» وقيل : التقدير يخرجون سراعا فتكون حالا من الواو والعامل يخرج ، وحكاه أبو حيان عن الحوفي ثم قال : ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملا في يَوْمَ تَشَقَّقُ أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية : تمطر السماء عليهم حتى تنشق الأرض عنهم ، وجاء إن أول من تنشق عنه الأرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
، أخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، أخرج الترمذي وحسنه. والطبراني. والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر وعمر ثم أهل البقيع فيحشرون معي ثم انتظر أهل مكة وتلا ابن عمر يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً»
ذلِكَ حَشْرٌ بعث وجمع عَلَيْنا يَسِيرٌ أي هين ، وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به عز وجل فإنه سبحانه العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة وغير ذلك مما لا خير فيه ، وهذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وتهديد لهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي ما أنت مسلط عليهم تقسرهم على الإيمان أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت منذر ، فالباء زائدة في الخبر وعَلَيْهِمْ متعلق به.
ويفهم من كلام بعض الأجلة جواز كون (جبار) من جبره على الأمر قهره عليه بمعنى أجبره لا من أجبره إذ لم يجىء فعال بمعنى مفعل من أفعل إلا فيما قل كدراك وسراع ، وقال علي بن عيسى : لم يسمع ذلك إلا في دراك.
وقيل : جبار من جبر بمعنى أجبر لغة كنانة وإن «عليهم» متعلق بمحذوف وقع حال أي ما أنت جبار تجبرهم على الإيمان واليا عليهم ، وهو محتمل للتضمين وعدمه فلا تغفل ، وقيل : أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم ، وعليه قيل :
الآية منسوخة ، وقيل : هي منسوخة على غيره أيضا بآية السيف فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنه لا ينتفع به غيره ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : «قالوا يا رسول اللّه لو خوفتنا فنزلت فذكر بالقرآن من يخاف وعيد»
وما أنسب هذا الاختتام بالافتتاح بقوله سبحانه : ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق : 1] هذا وللشيخ الأكبر قدس سره في قوله تعالى : بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق : 15] ولغير واحد من الصوفية في قوله سبحانه : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق : 16] كلام أشرنا إليه فيما سبق ، ومنهم من يجعل ق إشارة إلى الوجود الحق المحيط بجميع الموجودات واللّه من ورائهم محيط ، وقيل : هو إشارة إلى مقامات القرب ، وقيل : غير ذلك ، وطبق بعضهم سائر آيات السورة على ما في الأنفس وهو مما يعلم بأدنى التفات ممن له أدنى ممارسة لكلامهم واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
___________
«تم والحمد للّه الجزء السادس والعشرون ويليه إن شاء اللّه الجزء السابع والعشرون وأوله سورة الذاريات»

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 345
فهرس المجلد الثالث عشر من روح المعاني

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 346

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 347
الفهرس تتمة تفسير سورة فصلت الآيات : 47 - 54 3 تفسير سورة الشورى الآيات : 1 - 12 11 الآيات : 13 - 23 21 الآيات : 24 - 34 33 الآيات : 35 - 53 43 تفسير سورة الزخرف الآيات : 1 - 22 63 الآيات : 23 - 44 75 الآيات : 45 - 64 85 الآيات : 65 - 89 96 تفسير سورة الدخان الآيات : 1 - 14 109 الآيات : 15 - 37 118

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 348
الآيات : 38 - 59 128 تفسير سورة الجاثية الآيات : 1 - 14 136 الآيات : 15 - 32 145 الآيات : 33 - 37 159 تفسير سورة الأحقاف الآيات : 1 - 14 162 الآيات : 15 - 26 173 الآيات : 27 - 35 185 تفسير سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلم الآيات : 1 - 14 193 الآيات : 15 - 19 203 الآيات : 20 - 38 221 تفسير سورة الفتح الآيات : 1 - 7 239 الآيات : 8 - 18 250 الآيات : 19 - 29 262 تفسير سورة الحجرات الآيات : 1 - 4 284 الآيات : 5 - 11 295

روح المعاني ، ج 13 ، ص : 349
الآيات : 12 - 18 307 تفسير سورة ق الآيات : 1 - 19 321 الآيات : 20 - 45 333

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 3
[الجزء الرابع عشر]
سورة الذّاريات
«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهما - ولم يحك في ذلك خلاف - وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد ، ومناسبتها لسورة «ق» أنهما لما ختمت بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق ، وأن الجزاء لواقع ، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال ، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 إلى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً أي الرياح التي تذرو التراب وغيره من - ذرا - المعتل بمعنى فرق وبدد ما رفعه عن مكانه فَالْحامِلاتِ وِقْراً أي حملا وهي السحب الحاملة للمطر.
فَالْجارِياتِ يُسْراً أي جريا سهلا إلى حيث سيرت وهي السفن فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً هي الملائكة الذين يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به ، وتفسير كل بما فسر به قد صح روايته من طرق عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وفي بعض الروايات أن ابن الكواء سأله عن ذلك وهو رضي اللّه تعالى عنه يخطب على المنبر فأجاب بما ذكر ، وفي بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير مأثور عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم. «1»
___________
(1) (تنبيه) جرينا هنا في تقسيم هذا الجزء هكذا لما هو المشهور من تجزئة الأجزاء الأربعة الأواخر لذلك ليكون أو كل جزء منها أو سورة وإن كانت تجزئة المصاحف في هذا الجزء هي قوله «قال فما خطبكم أيها المرسلون».

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 4
أخرج البزار والدارقطني في الافراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : «جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه فقال : أخبرني عن الذَّارِياتِ ذَرْواً قال : هي الرياح ، ولولا أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن «الحاملات وقرا» قال : هي السحاب ولولا أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن «الجاريات يسرا» قال : هي السفن ولولا أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن «المقسمات أمرا» قال : هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب إلى عمر رضي اللّه تعالى عنه ما أخاله إلا قد صدق فخلى بينه وبين مجالسة الناس».
ويدل هذا أن الرجل لم يكن سليم القلب وأن سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلا لم يصنع به عمر رضي اللّه تعالى عنه ما صنع.
وفي رواية عن ابن عباس أن - الحاملات - هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم ، وقيل : هي الحوامل من جميع الحيوانات ، وقيل : الجاريات السحب تجري وتسير إلى حيث شاء اللّه عز وجل ، وقيل : هي الكواكب التي تجري في منازلها وكلها لها حركة وإن اختلفت سرعة وبطأ كما بين في موضعه ، وقيل : هي الكواكب السبعة الشهيرة وتسمى السيارة ، وقيل : الذَّارِياتِ النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح ، وباقي المتعاطفات على ما سمعت أولا ، وقيل : الذَّارِياتِ هي الأسباب التي تذري الخلائق على تشبيه الأسباب المعدة للبروز من العدم بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها ، وقيل : الحاملات الرياح الحاملة للسحاب ، وقيل : هي الأسباب الحاملة لمسبباتها مجازا ، وقيل : الجاريات الرياح تجري في مهابها ، وقيل : المقسمات السحب يقسم اللّه تعالى بها أرزاق العباد ، وقيل : هي الكواكب السبعة السيارة - وهو قول باطل - لا يقول به إلا من زعم أنها مدبرة لعالم الكون والفساد ، وفي صحيح البخاري عن قتادة «خلق اللّه تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين.
وعلامات يهتدى بها فمن تأوّل فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم» وزاد رزين «وما لا علم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة» وعن الربيع مثله وزاد «واللّه ما جعل اللّه تعالى في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته وإنما يفترون على اللّه تعالى الكذب ويتعللون بالنجوم» ذكره صاحب جامع الأصول ، وقد مر الكلام في إبطال ما قاله المنجمون مفصلا فتذكر ، ولعله سيأتي إن شاء اللّه تعالى شيء من ذلك ، وجوز أن يراد بالجميع الرياح فإنها - كما تذر - وما تذروه تثير السحاب وتحمله ، وتجري في الجوّ جريا سهلا - وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار - والمعول عليه ما روي عن عمر رضي اللّه تعالى عنه سامعا له من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم - وقاله باب مدينة العلم كرم اللّه تعالى وجهه على المنبر - وإليه كما نقل عن الزجاج ذهب جميع المفسرين أي المعتبرين ، وقول الإمام بعد نقله له عن الأمير : الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح جسارة عظيمة على ما لا يسلم له ، وجهل منه بما رواه ابن المسيب من الخبر الدال على أن ذلك تفسير النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأين منه الامام عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه.
وقول صاحب الكشف : إنه شديد الطباق للمقام ولذا آثره الإمام لا أسلمه له أيضا إذا صح الحديث ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات كما في المعول عليه فالفاء للترتيب في الأقسام ذكرا ورتبة باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته عز وجل ، وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل لما في كل منها

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 5
من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح ، وقيل : الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منا ، وإن حملت على واحد وهو الرياح فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولا حتى تنعقد سحابا فتحمله ثانيا وتجري به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها اللّه تعالى ثم تقسم أمطاره ، وقيل : إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء ، فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر.
ونصب ذَرْواً على أنه مفعول مطلق ، ووِقْراً على أنه مفعول به ، وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطا ، ويُسْراً على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جريا ذا يسر ، أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه ، وأَمْراً على أنه مفعول به وهو واحد الأمور ، وقد أريد به الجمع ولم يعبر به لأن الفرد أنسب برؤوس الآي مع ظهور الأمر ، وقيل على أنه حال أي مأمورة ، والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وَالذَّارِياتِ ذَرْواً بإدغام التاء في الذال ، وقرىء «وقرا» بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله - كما أفاده كلام الزمخشري - وناهيك به إماما في اللغة ، وعلى هذا هو منصوب على أنه مفعول به أيضا على تسمية المحمول بالمصدر أو على أنه مفعول مطلق - لحاملات - من معناها كأنه قيل :
فالحاملات حملا. وقوله تعالى شأنه : إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ جواب للقسم ، و(ما) موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه ، أو توعدون به ، ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن وعدكم ، أو وعيدكم إذ توعدون يحتمل أن يكون مضارع وعد ، وأن يكون مضارع أوعد ، ولعل الثاني أنسب لقوله تعالى : فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق : 45] ولأن المقصود التخويف والتهويل ، وعن مجاهد أن الآية في الكفار وهو يؤيد الوعيد ومعنى صدقة تحقق وقوعه ، وفي الكشاف وعد صادق - ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة : 21] - والدِّينَ الجزاء ووقوعه حصوله ، والأكثرون على أن الموعود هو البعث ، وفي تخصيص المذكورات بالإقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق الجملة المقسم عليها من حيث إنها أمور بديعة فمن قدر عليها فهو قادر على تحقيق البعث الموعود وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي الطرق جمع حبيكة كطريقة ، أو حباك كمثال ومثل ، ويقال : حبك الماء للتكسر الجاري فيه إذ مرت عليه الريح ، وعليه قول زهير يصف غديرا :
مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق لضاحي مائه حبك «1»
وحبك الشعر لآثار تثنية وتكسره ، وتفسيرها بذلك مروي عن مقاتل والكلبي والضحاك ، والمراد بها إما الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب ، أو المعقولة التي تدرك بالبصيرة وهي ما تدل على وحدة الصانع وقدرته وعلمه وحكمته جل شأنه إذا تأملها الناظر ، وقال ابن عباس وقتادة وعكرمة ومجاهد والربيع : ذات الخلق المستوي الجيد ، وفي رواية أخرى عن مجاهد المتقنة البنيان ، وقيل : ذات الصفاقة وهي أقوال متقاربة وكأن الحبك عليها من قولهم :
حبكت الشيء أحكمته وأحسنت عمله وحبكت العقدة أوثقتها ، وفرس محبوك المعاقم - وهي المفاصل - أي محكمها ، وفي الكشف أصل الحباكة الصفاقة وجودة الأثر ، وعن الحسن - حبكها - نجومها ، والظاهر أن إطلاق الحبك على النجوم مجاز لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى حبكه وطرائق وشيه فكأنه قيل : ذات النجوم التي هي كالحبك أي الطرائق في التزيين ، واستظهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السماوات وكون كل واحدة
___________
(1) قوله : «مكلل» مجرور على الوصف في قوله : قبله ثم استعانت - ماء مكلل - ذلك الماء بأصول النبات وصارت حوله كالإكليل ، «والخريق» الريح الباردة الشديدة الهبوب و«الضاحي» الظاهر ، و«حبك الماء طرائفة». ا ه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 6
منها ذات حبك بمعنى مستوية الخلق جيدته ، أو متقنة البنيان أو صفيقة ، أو ذات طرق معقولة ظاهر ، وأما كون كل منها كذلك بمعنى ذات طرق محسوسة فباعتبار أن الكواكب في أي سماء كانت تسير مسامتة لسائر السماوات ، فممراتها باعتبار المسامتة طرق ، وبمعنى ذات النجوم فباعتبار أن النجوم في أي سماء كانت تشاهد في سائر السماوات بناء على أن السماوات شفافة لا يحجب كل منها إدراك ما وراءه ، وأخرج ابن منيع عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : هي السماء السابعة
، وعن عبد اللّه بن عمرو مثله فتدبر ولا تغفل.
وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنه وأبو ممالك الغفاري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو السمال ونعيم عن أبي عمرو «الحبك» بإسكان الباء على زنة القفل ، وعكرمة بفتحها جمع حبكة مثل طرفة وطرف وبرقة «1» وبرق ، وأبو مالك الغفاري والحسن بخلاف عنه أيضا بكسر الحاء والباء - كالإبل - وهو على ما ذكر الخفاجي اسم مفرد ورد على هذا الوزن شذوذا وليس جمعا ، وأبو مالك والحسن وأبو حيوة أيضا بكسر الحاء وإسكان الباء - كالسلك - وهو تخفيف فعل مكسور الفاء والعين وهو اسم مفرد لا جمع لأن فعلا ليس من أبنية الجموع - قاله في البحر - وابن عباس وأبو مالك أيضا بفتحهما - كالجبل - قال أبو الفضل الرازي : فهو جمع حبكة مثل عقبة وعقب ، والحسن أيضا بكسر الحاء وفتح الباء كالنعم ، وأبو مالك أيضا بكسر الحاء وضم الباء وذكرها ابن عطية عن الحسن أيضا ثم قال : هي قراءة شاذة غير متوجهة وكأنه بعد أن كسر الحاء توهم قراءة الجمهور فضم التاء «2» وهذا من تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء أي لأن فيه الانتقال من خفة إلى ثقل على عكس ضرب مبنيا للمفعول ، وقال صاحب اللوامح : هو عديم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها ولا أدري ما وراءه انتهى.
وعلى التداخل تأول النحاة هذه القراءة ، وقال أبو حيان : الأحسن عندي أن يكون ذلك مما أتبع فيه حركة الحياء لحركة تاء ذاتِ في الكسر ولم يعتد باللام الساكنة لأن الساكن حاجز غير حصين.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي متخالف متناقض في أمر اللّه عز وجل حيث تقولون : إنه جل شأنه خالق السماوات والأرض وتقولون بصحة عبادة الأصنام معه سبحانه ، وفي أمر الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم فتقولون تارة : إنه مجنون ، وأخرى : إنه ساحر ولا يكون الساحر إلا عاقلا ، وفي أمر الحشر فتقولون : تارة لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا ، وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند اللّه تعالى يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة فيما كلفوا بالإيمان به ، واقتصر بعضهم على كون القول المختلف في أمره صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والجملة جواب القسم ولعل النكتة في ذلك القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف هيئاتها ، أو الإشارة إلى أنها ليست مستوية جيدة ، أو ليست قوية محكمة ، أو ليس فيها ما يزينها بل فيها ما يشينها من التناقض يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي يصرف عن الإيمان بما كلفوا الايمان به لدلالة الكلام السابق عليه ، وقال الحسن وقتادة : عن الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقال غير واحد : عن القرآن ، والكلام السابق مشعر بكل من صرف الصرف الذي لا أشد منه وأعظم ، ووجه المبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به فلولا غرض المبالغة لكان من توضيح الواضح فكأنه أثبت للمصروف صرف آخر حيث قيل : يُصْرَفْ عَنْهُ [الأنعام : 16] المصروف فجاءت المبالغة من المضاعفة ثم الإطلاق في المقام الخطابي له مدخل في تقوية أمر المضاعفة وكذلك الإبهام الذي
___________
(1) هي أرض ذات حجارة.
(2) هكذا بالتاء الفوقية والظاهر أنها بالباء الموحدة.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 7
في الموصول ، وهو قريب من قوله تعالى : فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه : 78] وقيل : المراد يُصْرَفْ عَنْهُ في الوجود الخارجي من فَصَرَفَ عَنْهُ [يوسف : 34] في علم اللّه تعالى وقضائه سبحانه ، وتعقب بأنه ليس فيه كثير فائدة لأن كل ما هو كائن معلوم أنه ثابت في سابق علمه تعالى الأزلي وليس فيه المبالغة السابقة ، وأجيب عن الأول بأن فيه الإشارة إلى أن الحجة البالغة للّه عز وجل في صرفه وكفى بذلك فائدة وهو مبني أن العلم تابع للمعلوم فافهمه ، وحكى الزهراوي أنه يجوز أن يكون الضمير لما تُوعَدُونَ أو - للدين - أقسم سبحانه - بالذاريات - على أن وقوع أمر القيامة حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في وقوعه ، فمنهم شاك ، ومنهم جاحد ثم قال جل وعلا : يُؤْفَكُ عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك ، وذكر ذلك الزمخشري ولم يعزه ، وادعى صاحب الكشف أنه أوجه لتلاؤم الكلام ، وقيل : يجوز أن يكون الضمير - لقول مختلف - وعن - للتعليل كما في قوله تعالى :
وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود : 53] وقوله :
ينهون عن أكل وعن شرب مثل المها يرتعن في خصب «1»
أي يصرف بسبب ذلك القول المختلف من أراد الإسلام ، وقال الزمخشري : حقيقة يصدر إفكهم عن القول المختلف ، وهذا محتمل لبقاء - عن - على أصلها من المجاوزة واعتبار التضمين ، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع مع ذهاب تلك المبالغة ، وجوز ابن عطية رجوع الضمير إلى القول إلا أنه قال : المعنى يصرف عن ذلك القول المختلف بتوفيق اللّه تعالى للإسلام من غلبت سعادته ، وتعقبه بأن فيه مخالفة للعرف فإن عرف الاستعمال في الإفك الصرف من خير إلى شر فلذلك لا تجده إلا في المذمومين ، ثم إن ذلك على كون الخطاب في أنكم للكفار - وهو الذي ذهب إليه ابن زيد وغيره - واستظهر أبو حيان كونه عاما للمسلم والكافر ، واستظهر العموم فيما سبق أيضا ، والقول المختلف حينئذ قول المسلمين بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقول الكفار بنقيض ذلك ، وقرأ ابن جبير وقتادة «من أفك» مبينا للفاعل أي من أفك الناس عنه وهم قريش ، وقرأ زيد بن علي - يأفك عنه من أفك - أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب ، وقرىء «يؤفن عنه من أفن» بالنون فيهما أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي الكذابون من أصحاب القول المختلف ، وأصل الخرص الظن والتخمين ثم تجوز به عن الكذب لأنه في الغالب يكون منشأ له ، وقال الراغب : حقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له : خرص سواء كان مطابقا للشيء أو مخالفا له من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل خارص الثمرة في خرصه ، وكل من قال قولا على هذا النحو قد يسمى كاذبا وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر به كما في قوله تعالى : إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [المنافقون : 1] الآية انتهى.
وفيه بحث وحقيقة - القتل - معروفة ، والمراد - بقتل - الدعاء عليهم مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي. وعن ابن عباس تفسيره باللعن قال ابن الأنباري : وإنما كان القتل بمعنى اللعن هنا لأن من لعنه اللّه تعالى بمنزلة المقتول الهالك ، وقرىء «قتل الخراصين» أي قتل اللّه الخراصين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في جهل عظيم يغمرهم ويشملهم شمول الماء الغامر لما فيه ساهُونَ غافلون عما أمروا به ، فالمراد بالسهو مطلق الغفلة.
___________
(1) يصف الشاعر مضيافا يصدر الأضياف عنه شباعا يتباهون في السمن بسبب الأكل والشرب وقالوا جمل ناه إذا كان عريقا في السمن ا ه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 8
يَسْئَلُونَ أي بطريق الاستعجال استهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ معمول ليسألون على أنه جار مجرى يقولون لما فيه من معنى القول ، أو لقول مقدر - أي فيقولون متى وقوع يوم الجزاء - وقدر الوقوع ليكون السؤال عن الحدث كما هو المعروف في أَيَّانَ ولا ضير في جعل الزمان زمانيا فإن اليوم لما جعل موعودا ومنتظرا في نحو قوله تعالى : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ [الدخان : 10] صار ملحقا بالزمانيات وكذلك - كل يوم له شأن مثل يوم العيد. والنيروز - وهذا جار في عرفي العرب والعجم على أنه يجوز عند الأشاعرة أن يكون للزمان زمان على ما فصل في مكانه ، وقرىء «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يحرقون ، وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحو ذلك ، ويَوْمَ نصب على الظرفية لمحذوف دل عليه وقوع الكلام جوابا للسؤال مضاف للجملة الاسمية بعده - أي يقع يوم الدين يوم هم على النار - إلخ ، وقال الزجاج : ظرف لمحذوف وقع خبرا لمبتدأ كذلك أي هو واقع ، أو كائن يوم إلخ ، وجوز أن يكون هو نفسه خبر مبتدأ محذوف ، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير ، وهي الجملة الاسمية فإن الجمل بحسب الأصل كذلك على كلام فيه بين البصريين والكوفيين مفصل في شرح التسهيل - أي هو يوم هم - إلخ ، والضمير قيل : راجع إلى وقت الوقوع فيكون هذا الكلام قائما مقام الجواب على نحو - سيقولون للّه - في جواب مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد : 16] لأن تقدير السؤال في أي وقت يقع ، وجوابه الأصلي في يوم كذا ، وإذا قلت : وقت وقوعه يوم كذا كان قائما مقامه.
ويجوز أن يكون الضمير لليوم والكلام جواب بحسب المعنى ، فالتقدير يوم الجزاء - يوم تعذيب الكفار - ويؤيد - كونه مرفوع المحل خبرا لمبتدأ محذوف - قراءة ابن أبي عبلة. والزعفراني «يوم هم» بالرفع ، وزعم بعض النحاة أن - يوم - بدل من يَوْمُ الدِّينِ وفتحته على قراءة الجمهور فتحة بناء ، ويَوْمَ وما في حيزه من جملة كلام السائلين قالوه استهزاء ، وحكي على المعنى ، ولو حكي على اللفظ لقيل : يوم نحن على النار نفتن ، وهو في غاية البعد كما لا يخفى ، وقوله تعالى : ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ بتقدير قول وقع حالا من ضمير يُفْتَنُونَ أي مقولا لهم ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي عذابكم المعدّ لكم ، وقد يسمى ما يحصل عنه العذاب - كالكفر - فتنة ، وجوز أن يكون منه ما هنا كأنه قيل : ذوقوا كفركم - أي جزاء كفركم - أو بجعل الكفر نفس العذاب مجازا وهو كما ترى هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر - أي هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء - وجوز أن يكون هذا بدلا من فِتْنَتَكُمْ بتأويل العذاب ، وفيه بعد إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول ، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرض المدح وإظهار منّه تعالى عليهم ، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد ، ونصب آخِذِينَ على الحال من الضمير في الصرف إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم ، وفسر إحسانهم بقوله تعالى كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ إلخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى : كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ حصل بها تفسير ، أو أنها جملة لا محل لها
من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية ، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية : آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الفرائض إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون ، ولا أظن صحة نسبته لذلك الخبر ، ولا يكاد تجعل جملة كانُوا إلخ عليه تفسيرا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 9
و- الهجوع - النوم ، وقيده الراغب بقوله : ليلا ، وغيره بالقليل ، وما إما مزيدة - فقليلا - معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي - هجوعا قليلا - ومِنَ اللَّيْلِ صفة ، أو لغو متعلق - بيهجعون - ومِنَ للابتداء ، وجملة يَهْجَعُونَ خير - كان - أو قَلِيلًا صفة لظرف محذوف - أي زمانا قليلا - ومِنَ اللَّيْلِ صفة على نحو - قليل من المال عندي - وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل قَلِيلًا وهو خبر - كان - ومِنَ اللَّيْلِ حال من الموصول مقدم كأنه قيل : كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائنا ذلك المقدار مِنَ اللَّيْلِ وإما مصدرية فالمصدر فاعل قَلِيلًا وهو خبر كان أيضا ، ومِنَ اللَّيْلِ بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم ، أو حال من المصدر ، ومِنَ الابتداء كذا في الكشف فهمامن الكشاف ، وذهب بعضهم إلى أن مِنَ على زيادة - ما - بمعنى في كما في قوله تعالى : إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة : 9] واعترض ابن المنير احتمال مصدريتها بأنه لا يجوز في مِنَ اللَّيْلِ كونه صفة ، أو بيانا - للقليل - لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه ، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره يَهْجَعُونَ وجوز أن يكون ما يَهْجَعُونَ على ذلك الاحتمال بدلا من اسم كان فكأنه قيل : كان هجوعهم قليلا وهو بعيد ، وجوز في ما أن تكون نافية ، وقَلِيلًا منصوب - بيهجعون - والمعنى - كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله - ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن مجاهد ، ورده الزمخشري بأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو - عوتب بلا جرم - ولم ولن - لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه ، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين ، وفي شرح الهادي أن بعض النحاة أجازه مطلقا ، وبعضهم
أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه ، واستدل عليه
بقوله :
ونحن عن فضلك ما استغنينا نعم يرد على ذلك أن فيه كما في الانتصاف خللا من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قيل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول : بأنه كان ثابتا في الشرع ، فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية : كان ذلك إذ أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذر يعتمد على العصا فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل : 20] وقال الضحاك : كانُوا قَلِيلًا في عددهم ، وتم الكلام عند قَلِيلًا ثم ابتدأ مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ على أن ما نافية وفيه ما تقدم مع زيادة تفكيك الكلام ، ولعل أظهر الأوجه زيادة ما ونصب قَلِيلًا على الظرفية ، ومِنَ اللَّيْلِ صفة قيل : وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناء على أنه القليل من النوم ، وقوله تعالى : قَلِيلًا ومِنَ اللَّيْلِ لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة ما لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدا فيها.
والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا ، قال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا ، وعن عبد اللّه بن رواحة هجعوا قليلا ثم قاموا ، وفسر أنس ابن مالك الآية - كما رواه جماعة عنه وصححه الحاكم - فقال : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 10
[سورة الذاريات (51) : الآيات 18 إلى 28]
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22)
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة ، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الاحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه.
وفي الآية من الإشارة إلى مزيد خشيتهم وعدم اغترارهم بعبادتهم ما لا يخفى ، وحمل الاستغفار على حقيقته المشهورة هو الظاهر - وبه قال الحسن.
أخرج عنه ابن جرير وغيره أنه قال : صلوا فلما كان السحر استغفروا ، وقيل : المراد طلبهم المغفرة بالصلاة ، وعليه ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال :
يَسْتَغْفِرُونَ يصلون ، وأخرج ابن مردويه عنه ذلك مرفوعا
ولا أراه يصح ، وأخرج أيضا عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله لأن اللّه تعالى يقول : وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وهو محتمل لذلك التفسير والظاهر وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى اللّه عز وجل وإشفاقا على الناس فهو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. لِلسَّائِلِ الطالب منهم وَالْمَحْرُومِ وهو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس.
أخرج ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان قيل : فمن المسكين؟ قال : الذي ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه فذلك المحروم»
وفسره ابن عباس بالمحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس ، وقيل : هو الذي يبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان ، وقال زيد بن أسلم : هو الذي اجتيحت ثمرته ، وقيل : من ماتت ماشيته ، وقيل : من ليس له سهم في الإسلام ، وقيل : الذي لا ينمو له مال ، وقيل : غير ذلك - قال في البحر : وكل ذلك على سبيل التمثيل ويجمع الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه - وأنا بقول رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أقول - وقال منذر بن سعيد هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وتعقب بأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة ، وقيل : أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم ، وعن ابن عمر أن رجلا سأله عن هذا الحق فقال الزكاة وسوى ذلك حقوق فعمم ، والجمهور على الأول.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ دلائل من أنواع المعادن والنباتات والحيوانات ، أو وجوه دلالات من الدحو وارتفاع بعضها عن الماء ، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص ، فالدليل على الأول ما في الأرض من الموجودات والظرفية حقيقية والجمع على ظاهره ، وعلى الثاني الدليل نفس الأرض ، والجمعية باعتبار وجوه الدلالة وأحوالها ، والظرفية من ظرفية الصفة في الموصوف والدلالة على وجود الصانع جل شأنه وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 11
رحمته عز وجل لِلْمُوقِنِينَ للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة ، وقرأ قتادة - آية - بالإفراد وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي في ذواتكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة ، وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى ، وقيل : أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع ، ورواه عطاء عن ابن عباس ، وقيل : سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر أَفَلا تُبْصِرُونَ أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة ، وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية ، وقيل : في الأخير وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي تقديره وتعيينه ، أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادئ الرزق إلى غير ذلك ، فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبّب ، وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهو سماء لغة ، والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروي تفسيره بذلك مرفوعا وقرأ ابن محيصن - أرزاقكم - على الجمع.
وَما تُوعَدُونَ عطف على رزقكم أي والذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد ، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك - ما توعدون - الجنة والنار وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف ، وقال بعضهم : هو الجنة وهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش ، وقيل : أمر الساعة ، وقيل : الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها ، وقيل : إنه مستأنف خبره.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ على أن ضمير إِنَّهُ ل ما وعلى ما تقدم ، فإما له أو للرزق ، أو للّه تعالى ، أو للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، أو للقرآن ، أو للدين في إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات : 6] أو لليوم المذكور في أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات : 12] أو لجميع المذكور أما ما أقوال ، واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروي عن ابن جرير أي إن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس : إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع ، ونصب مِثْلَ على الحالية من المستكن في لَحَقٌّ وهو لا يتعرف بالإضافة لتوغله في التنكير ، أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقا مثل نطقكم ، وقيل : إنه مبني على الفتح فقال المازني :
لتركبه مع ما حتى صارا شيئا واحدا نحو - ويحما - وأنشدوا لبناء الاسم معها قول الشاعر :
أثور ما أصيدكم أو ثورين أم هذه الجماء ذات القرنين
وقال غيره : لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت نكرة موصوفة بمعنى شيء ، أو موصولة بمعنى الذي وأَنَّكُمْ إلخ خبر مبتدأ محذوف أي هو أَنَّكُمْ إلخ ، والجملة صفة ، أو صلة ، أو هو أن بما في حيزها إن جعلت ما زائدة ، وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة لَحَقٌّ أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم مِثْلَ بالرفع ، وفي البحر أن الكوفيين يجعلون - مثلا - ظرفا فينصبونه على الظرفية ويجيزون زيد مثلك بالنصب ، وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوبا على الظرفية - واستدلالهم ، والرد عليهم مذكور على النحو - وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها : بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «قاتل اللّه قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا»
وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال : ممن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 12
الرجل؟ قلت : من بني أصمع قال : من أين أقبلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال : اتل علي فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال : حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال :
وهل غير هذا؟ فقرأت فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح وقال : يا سبحان اللّه من ذا أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه.
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بغير طريق الوحي قاله غير واحد ، وفي الكشف فيه رمز إلى أنه لما فرغ من إثبات الجزاء لفظا للقسم ومعنى بما في المقسم به من التلويح إلى القدرة البالغة مديحا فيه صدق المبلغ ، وقضى الوطر من تفصيله مهّد لإثبات النبوة وأن هذا الآتي الصادق حقيق بالإتباع لما معه من المعجزات الباهرة فقال سبحانه : هَلْ أَتاكَ إلخ ، وضمن فيه تسليته عليه الصلاة والسلام بتكذيب قومه فله بسائر آبائه وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام أسوة حسنة هذا إذا لم يجعل قوله تعالى : وَفِي مُوسى عطفا على قوله سبحانه وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وأما على ذلك التقدير فوجهه أن يكون قصة الخليل ولوط عليهما السلام معترضة للتسلي بإبعاد مكذبيه وأنه مرحوم منجى مكرم بالاصطفاء مثل أبيه إبراهيم صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه وعليهم - والترجيح مع الأول انتهى - وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما سيتعلق بقوله سبحانه : وَفِي مُوسى ، و(الضيف) في الأصل مصدر بمعنى الميل ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد ، قيل : كانوا اثني عشر ملكا ، وقيل : ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وسموا ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف ولأن إبراهيم عليه السلام حسبهم كذلك ، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان ، وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد لأنها أقوى في غرض التسلية الْمُكْرَمِينَ أي عند اللّه عز وجل كما قال الحسن فهو كقوله تعالى في الملائكة عليهم السلام : بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء : 26] أو عند إبراهيم عليه السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته وعجل لهم القرى ورفع مجالسهم كما في بعض الآثار ، وقرأ عكرمة «المكرّمين» بالتشديد إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ظرف للحديث لأنه صفة في الأصل ، أو للضيف ، أو ل الْمُكْرَمِينَ إن أريد إكرام
إبراهيم لأن إكرام اللّه تعالى إياهم لا يتقيد ، أو منصوب بإضمار اذكر فَقالُوا سَلاماً أي نسلم عليك سلاما ، وأوجب في البحر حذف الفعل لأن المصدر سادّ مسدّه فهو من المصادر التي يجب حذف أفعالها ، وقال ابن عطية :
يتجه أن يعمل في سَلاماً قالوا : على أن يجعل في معنى قولا ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا : تحية وقولا معناه «سلام» ونسب إلى مجاهد وليس بذاك.
قالَ سَلامٌ أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى يكون تحيته أحسن من تحيتهم أخذا بمزيد الأدب والإكرام ، وقيل : سَلامٌ خبر مبتدأ محذوف أي أمري سَلامٌ وقرئا مرفوعين ، وقرى ء - سلاما قال سلما - بكسر السين وإسكان اللام والنصب ، والسلم السلام ، وقرأ ابن وثاب والنخعي وابن جبير وطلحة - سلاما قال سلم - بالكسر والإسكان والرفع ، وجعله في البحر على معنى نحن أو أنتم سلم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أنكرهم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام ، أو لأنهم عليهم السلام ليسوا ممن عهدهم من الناس ، أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس ، وقَوْمٌ خبر مبتدأ محذوف والأكثر على أن التقدير أنتم قوم منكرون وأنه عليه السلام قاله لهم للتعرف كقولك لمن لقيته : أنا لا أعرفك تريد عرف لي نفسك وصفها ، وذهب بعض المحققين إلى

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 13
أن الذي يظهر أن التقدير هؤلاء قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وأنه عليه السلام قاله في نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه من غير أن يشعرهم بذلك فإنه الأنسب بحاله عليه السلام لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا ما ، وطلبه به أن يعرفوه حالهم لعله لا يزيل ذلك. وأيضا لو كان مراده ذلك لكشفوا أحوالهم عند القول المذكور ولم يتصد عليه السلام لمقدمات الضيافة.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه ، نقل أبو عبيدة أنه لا يقال : راغ إلا إذا ذهب على خفية ، وقال : يقال روغ اللقمة إذا غمسها في السمن حتى تروى ، قال ابن المنير : وهو من هذا المعنى لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى ، ومن مقلوب الروغ غور الأرض والجرح لخفائه وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى ، وقال الراغب : الروغ الميل على سبيل الاحتيال ، ومنه راغ الثعلب ، وراغ فلان إلى فلان مال نحوه لأمر يريده منه بالاحتيال ، ويعلم منه أن لاعتبار قيد الخفية وجها وهو أمر يقتضيه المقام أيضا لأن من يذهب إلى أهله لتدارك الطعام يذهب كذلك غالبا ، وتشعر الفاء بأنه عليه السلام يبادر بالذهاب ولم يمهل وقد ذكروا أن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرا من أن يمنعه الضيف ، أو يصير منتظرا فَجاءَ بِعِجْلٍ هو ولد البقرة كأنه سمي بذلك لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورا سَمِينٍ ممتلىء الجسد بالشحم واللحم يقال : سمن - كسمع - سمانة بالفتح وسمنا - كعنب - فهو سامن وسمين ، وكحسن السمين خلقة كذا في القاموس ، وفي البحر يقال : سمن سمنا فهو سمين شذوذا في المصدر ، واسم الفاعل والقياس سمن وسمن ، وقالوا : سامن إذا حدث له السمن انتهى ، والفاء فصيحة أفصحت عن جمل قد حذقت ثقة بدلالة الحال عليها ، وإيذانا بكمال سرعة المجيء بالطعام أي فذبح عجلا فحنذه فجاء به ، وقال بعضهم إنه كان معدا عنده حنيذا قبل مجيئهم لمن يرد عليه من الضيوف فلا حاجة إلى تقدير ما ذكر ، والمشهور اليوم أن الذبح للضيف إذا ورد أبلغ في إكرامه من الإتيان بما هيء من الطعام قبل وروده ، وكان كما روي عن قتادة عامة ماله عليه السلام البقر ولو كان عنده أطيب لحما منه لأكرمهم به.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه لديهم ، وفيه دليل على أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل وأن لا يوضع الطعام بموضع ويدعى الضيف إليه قالَ أَلا تَأْكُلُونَ ، قيل : عرض للأكل فإن في ذلك تأنيسا للضيف ، وقيل : إنكار لعدم تعرضهم للأكل ، وفي بعض الآثار أنهم قالوا : إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه فقال عليه السلام : إني لا أبيحه لكم إلا بثمن قالوا : وما هو؟ قال : أن تسموا اللّه تعالى عند الابتداء وتحمدوه عز وجل عند الفراغ فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه اللّه تعالى خليلا
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فأضمر في نفسه منهم خوفا لما رأى عليه الصلاة والسلام إعراضهم عن طعامه وظن أن ذلك لشر يريدونه فإن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والامتناع منه وحشة موجبة لظن الشر. وعن ابن عباس أنه عليه السلام وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب فخاف قالُوا لا تَخَفْ إنا رسل اللّه تعالى ، عن يحيى بن شداد مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم ، وعلى ما روي عن الحبر أن هذا لمجرد تأمينه عليه السلام ، وقيل : مع تحقيق أنهم ملائكة وعلمهم بما أضمر في نفسه إما بإطلاع اللّه تعالى إياهم عليه ، أو إطلاع ملائكته الكرام الكاتبين عليه وإخبارهم به ، أو بظهور أمارته في وجهه الشريف فاستدلوا بذلك على الباطن وَبَشَّرُوهُ وفي سورة [الصافات : 112] وَبَشَّرْناهُ أي بواسطتهم بِغُلامٍ هو عند الجمهور إسحاق بن سارة وهو الحق للتنصيص على أنه المبشر به في سورة هود ، والقصة واحدة ، وقال مجاهد : إسماعيل بن هاجر كما رواه عنه ابن جرير وغيره ولا يكاد يصح عَلِيمٍ عند بلوغه واستوائه ، وفيه تبشير بحياته وكانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بالعلم لأنها الصفة التي

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 14
يختص بها الإنسان الكامل لا الصورة الجميلة والقوة ونحوهما ، وهذا عند غير الأكثرين من أهل هذا الزمان فإن العلم عندهم لا سيما العلم الشرعي رذيلة لا تعادلها رذيلة والجهل فضيلة لا توازنها فضيلة ، وفي صيغة المبالغة مع حذف المعمول ما لا يخفى مما يوجب السرور ، وعن الحسن عَلِيمٍ نبي ووقعت البشارة بعد التأنيس ، وفي ذلك إشارة إلى أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة ، وذكر بعضهم أن علمه عليه السلام بأنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 29 إلى 53]
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أي سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم ، وفي التفسير الكبير إنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر اللّه تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل دون الإدبار عن الملائكة ، وهو إن صح مثله عن نقل وأثر لا يأباه الخطاب الآتي لأنه يقتضي الإقبال دون الإدبار إذ يكفي لصحته أن يكون بمسمع منها وإن كانت مدبرة ، نعم في الكلام عليه استعارة ضدية ولا قرينة هاهنا تصححها ، وقيل : أقبلت بمعنى أخذت كما تقول أخذ يشتمني فِي صَرَّةٍ في صيحة من الصرير قاله ابن عباس ، وقال قتادة وعكرمة : صرتها رنتها ، وقيل : قولها أوه ، وقيل : يا ويلتي ، وقيل : في شدة ، وقيل : الصرة الجماعة المنضم بعضهم إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في وعاء - وإلى هذا ذهب ابن بحر - قال : أي أقبلت في صرة من نسوة تبادرن نظرا إلى الملائكة عليهم السلام ، والجار والمجرور في موضع الحال ، أو المفعول به إن فسر (أقبلت) بأخذت قيل : إن فِي عليه زائدة كما في قوله :
يجرح في عراقيبها نصلي والتقدير أخذت صيحة ، وقيل : بل الجار والمجرور في موضع الخبر لأن الفعل حينئذ من أفعال المقاربة فَصَكَّتْ وَجْهَها قال مجاهد : ضربت بيدها على جبهتها وقالت : يا ويلتاه ، وقيل : إنها وجدت حرارة الدم فلطمت

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 15
وجهها من الحياء ، وقيل : إنها لطمته تعجبا وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء وَقالَتْ عَجُوزٌ أي أنا عجوز عَقِيمٌ عاقر فكيف ألد ، وعقيم فعيل قيل : بمعنى فاعل أو مفعول وأصل معنى العقم اليبس قالُوا كَذلِكَ أي مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرنا به قالَ رَبُّكِ وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه عز وجل لا أنا نقوله من تلقاء أنفسنا ، وروي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فيكون قوله عز وجل حقا وفعله سبحانه متقنا لا محالة ، وهذه المفاوضة لم تكن مع سارة فقط بل كانت مع إبراهيم أيضا حسبما تقدم في سورة الحجر ، وإنما لم يذكر هاهنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاء بما ذكر - هاهنا وفي سورة هود ..
قالَ أي إبراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر فَما خَطْبُكُمْ أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط عليه السلام لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ أي بعد قلب قراهم عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي طين متحجر وهو السجيل وفي تقييد كونها من طين رفع توهم كونها بردا فان بعض الناس يسمي البرد حجارة مُسَوَّمَةً معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحدة منها اسم من يهلك بها وقيل : أعلمت بأنها من حجارة العذاب ، وقيل : بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا ، وقي
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممن آمن بلوط عليه السلام فَما وَن المؤمنين فلم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد وإلا لم يستقم الكلام ، وأنت تعلم أن هذا يدل على أنهما صادقان على الأمر الواحد لا ينفك أحدهما عن الآخر كالناطق والإنسان إما على الاتحاد في المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا ، فالاستدلال بها على اتحادهما فيه ضعيف ، نعم تدل على أنهما صفتا مدح من أوجه عديدة استحقاق الإخراج واختلاف الوصفين وجعل كل مستقلا بأن يجعل سبب النجاة وما في قوله تعالى : مَنْ كانَ أولا ، وغَيْرَ بَيْتٍ ثانيا من الدلالة على المبالغة فإن صاحبهما محفوظ مَنْ كانَ وأين كان إلى غير ذلك ، ومعنى الوجدان منسوبا إليه تعالى العلم على ما قاله الراغب ، وذهب بعض الأجلة إلى أنه لا يقال : ما وجدت كذا إلا بعد الفحص والتفتيش ، وجعل عليه معنى الآية فأخرج ملائكتنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فما وجد ملائكتنا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 16
فيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أو في الكلام ضرب آخر من المجاز فلا تغفل.
وَتَرَكْنا فِيها أي في القرى آيَةً علامة دالة على ما أصابهم من العذاب ، قال ابن جريج : هي أحجار كثيرة منضودة ، وقيل : تلك الأحجار التي أهلكوا بها ، وقيل : ماء منتن قال الشهاب : كأنه بحيرة طبرية ، وجوز أبو حيان كون ضمير فِيها عائدا على الاهلاكة التي أهلكوا فإنها من أعاجيب الإهلاك بجعل أعالي القرية أسافل ، وإمطار الحجارة ، والظاهر هو الأول لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية وَفِي مُوسى عطف على وَتَرَكْنا فِيها بتقدير عامل له أي وجعلنا في موسى ، والجملة معطوفة على الجملة ، أو هو عطف على فِيها بتغليب معنى عامل الآية ، أو سلوك طريق المشاكلة في عطفه على الأوجه التي ذكرها النحاة في نحو :
علفتها تبنا وماء باردا لا يصح تسليط الترك بمعنى الإبقاء على قوله سبحانه : وَفِي مُوسى فقول أبي حيان : لا حاجة إلى إضمار تَرَكْنا لانه قد أمكن العامل في المجرور تركنا الاول فيه بحث ، وقيل : فِي مُوسى خبر لمبتدأ محذوف أي وَفِي مُوسى آية ، وجوز ابن عطية. وغيره أن يكون معطوفا على قوله تعالى : وَفِي الْأَرْضِ وما بينهما اعتراض لتسليته عليه الصلاة والسلام على ما مر ، وتعقبه في البحر بأنه بعيد جدا ينزه القرآن الكريم عن مثله إِذْ أَرْسَلْناهُ قيل : بدل من مُوسى ، وقيل : هو منصوب بآية ، وقيل : بمحذوف أي كائنة وقت إرسالنا ، وقيل : بتركنا.
إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة ، والسلطان يطلق على ذلك مع شموله للواحد والمتعدد لأنه في الأصل مصدر فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فأعرض عن الإيمان بموسى عليه السلام على أن ركنه جانب بدنه وعطفه ، والتولي به كناية عن الإعراض ، والباء للتعدية لأن معناه ثنى عطفه ، أو للملابسة ، وقال قتادة :
تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم ، والباء للمصاحبة أو الملابسة وكونها للسببية غير وجيه ، وقيل : تولى بقوته وسلطانه ، والركن يستعار للقوة - كما قال الراغب - وقرىء بركنه بضم الكاف اتباعا للراء وَقالَ ساحِرٌ أي هو ساحر أَوْ مَجْنُونٌ كان اللعين جعل ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة منسوبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره فيكون سحرا ، أو بغير اختياره فيكون جنونا ، وهذا مبني على زعمه الفاسد وإلا فالسحر ليس من الجن كما بين في محله - فأو - للشك ، وقيل : للإبهام ، وقال أبو عبيدة : هي بمعنى الواو لأن اللعين قال الأمرين قال : إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف : 109 ، الشعراء : 34] وقال : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء : 27] وأنت تعلم أن اللعين يتلوّن تلون الحرباء فلا ضرورة تدعو إلى جعلها بمعنى الواوأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ
طرحناهم غير معتّدين بهم ي الْيَمِ
في البحر ، والمراد فأغرقناهم فيه ، وفي الكلام من الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه ما لا يخفى هُوَ مُلِيمٌ
أي آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان فالافعال هنا للاتيان بما يقتضي معنى ثلاثيه كأغرب إذا أتى أمرا غريبا ، وقيل : الصيغة للنسب ، أو الإسناد للسبب - وهو كما ترى - وكون الملام عليه هنا الكفر والطغيان هو الذي يقتضيه حال فرعون وهو مما يختلف باعتبار من وصف به فلا يتوهم أنه كيف وصف اللعين بما وصف به ذو النون عليه السلام وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا على طرز ما تقدم عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الشديد التي لا تلقح شيئا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس وصححه الحاكم ، وفي لفظ هي ريح لا بركة فيها ولا منفعة ولا ينزل منها غيث ولا يلقح بها شجر كأنه شبه عدم تضمن المنفعة بعقم المرأة ففعيل بمعنى فاعل من اللازم وكون هذا المعنى لا يصح هنا مكابرة ، وقال بعضهم وهو

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 17
حسن : سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم على أن هناك استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بعقم النساء وعدم حملهن لما فيه من إذهاب النسل ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم ، وفعيل قيل : بمعنى فاعل أو مفعول ، وهذه الريح كانت الدبور لما
صح من قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد الدبور»
وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنها النكباء
،
وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن المسيب أنها الجنوب ، وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها الصبا ، والمعول عليه ما ذكرنا أولا ، ولعل الخبر عن الأمير كرم اللّه تعالى وجهه غير صحيح ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ ما تدع شيئا أَتَتْ عَلَيْهِ جرت عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ الشيء البالي من عظم ، أو نبات ، أو غير ذلك من رمّ الشيء بلي ، ويقال للبالي : رمام كغراب ، وأرم أيضا لكن قال الراغب يختص الرم بالفتات من الخشب والتبن ، والرمة بالكسر تختص بالعظم البالي ، والرمة بالضم بالحبل البالي ، وفسره السدي هنا بالتراب ، وقتادة بالهشيم ، وقطرب بالرماد ، وفسره ابن عيسى بالمنسحق الذي لا يرم أي لا يصلح كأنه جعل الهمزة في أرم للسلب ، والجملة بعد إِلَّا حالية. والشيء هنا عام مخصوص أي من شيء أراد اللّه تعالى تدميره وإهلاكه من ناس. أو ديار. أو شجر. أو غير ذلك ، روي أن الريح كانت تمر بالناس فيهم الرجل من عاد فتنتزعه من بينهم وتهلكه وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ أخرج البيهقي في سنة عن قتادة أنه ثلاثة أيام - وإليه ذهب الفراء وجماعة - قال : تفسيره قوله تعالى : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود : 65] واستشكل بأن هذا التمتع مؤخر عن العتو لقوله تعالى : فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا [هود : 65] ، وقوله تعالى : فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ يدل على أن العتو مؤخر ، وأجيب بأن هذا مرتب على تمام القصة كأنه قيل : وجعلنا في زمان قولنا ذلك لثمود آية أو وفي زمان قولنا ذلك لثمود آية ، ثم أخذ في بيان كونه آية فقيل : فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي فاستكبروا عن الامتثال به إلى الآخر ، فالفاء للتفصيل قال في الكشف.
وهو الظاهر من هذا المساق ، وكذلك قوله تعالى : فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ مرتب على القصة زمان إرسال موسى عليه السلام بالسلطان وإن كان هناك لا مانع من الترتب على الإرسال وذلك لأنه جيء بالظرف مجيء الفضلة حيث جعل فيه الآية ، والقصة من توليهم إلى هلاكهم انتهى ، وقال الحسن : هذا أي - القول لهم تمتعوا حتى حين - كان حين بعث إليهم صالح أمروا بالإيمان بما جاء به ، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم - ثم عتوا بعد ذلك - قال في البحر : ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عما أمروا به فهو مطابق لفظا ووجودا واختاره الإمام فقال : قال بعض المفسرين : المراد بالحين الأيام الثلاثة التي أمهلوها بعد عقر الناقة وهو ضعيف لأن ترتب فعتوا بالفاء دليل على أن العتو كان بعد القول المذكور ، فالظاهر أنه ما قدر اللّه تعالى من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل كأنه يقول له. تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب انتهى ، وما تقدم أبعد مغزى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي أهلكتهم ، روي أن صالحا عليه السلام وعدهم الهلاك بعد ثلاثة أيام ، وقال لهم : تصبح وجوهكم غدا مصفرة. وبعد غد محمرة. واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب.
ولما رأوا الآيات التي بينها عليه السلام عمدوا إلى قتله فنجاه اللّه تعالى فذهب إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصاعقة وهي نار من السماء ، وقيل : صيحة منها فهلكوا ، وقرأ عمر وعثمان رضي اللّه تعالى عنهما والكسائي الصعقة وهي المرة من الصعق بمعنى الصاعقة أيضا ، أو الصيحة وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها ويعاينونها ويحتاج إلى تنزيل المسموع منزلة المبصر على القول بأن الصاعقة الصيحة وأن المراد ينظرون إليها ، وقال مجاهد : يَنْظُرُونَ بمعنى ينتظرون أي وهم ينتظرون الأخذ والعذاب في تلك الأيام الثلاثة التي رأوا فيها علاماته وانتظار العذاب أشد من العذاب فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ كقوله تعالى : فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف : 78 ، 91 ، العنكبوت : 37] وقيل : هو من قولهم : ما يقوم فلان بكذا إذا عجز عن دفعه ، وروي

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 18
ذلك عن قتادة فهو معنى مجازي ، أو كناية شاعت حتى التحقت بالحقيقة وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ بغيرهم كما لم يتمنعوا بأنفسهم وَقَوْمَ نُوحٍ أي وأهلكنا قوم ، فإن ما قبله يدل عليه ، أو واذكر ، وقيل : عطف على الضمير في فَأَخَذَتْهُمُ ، وقيل : في نَبَذْناهُمْ
لأن معنى كل فأهلكناهم - وهو كما ترى - وجوز أن يكون عطفا على محل وَفِي عادٍ أو وَفِي ثَمُودَ وأيد بقراءة عبد اللّه وأبي عمرو وحمزة والكسائي وقوم بالجر ، وقرأ عبد الوارث ومحبوب والأصمعي عن أبي عمرو وأبو السمال وابن مقسم. وقوم بالرفع والظاهر أنه على الابتداء ، والخبر محذوف أي أهلكناهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المهلكين إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وَالسَّماءَ أي وبنينا السماء بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، ومثله - الآد - وليس جمع «يد» وجوزه الامام وإن صحت التورية به وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة ، فالجملة تذييل إثباتا لسعة قدرته عز وجل كل شيء فضلا عن السماء ، وفيه رمز إلى التعريض الذي في قوله تعالى : وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق : 38] ، وعن الحسن لَمُوسِعُونَ الرزق بالمطر وكأنه أخذه من أن المساق مساق الامتنان بذلك على العباد لا إظهار القدرة فكأنه أشير في قوله تعالى : وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ إلى ما تقدم من قوله سبحانه : وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات : 22] على بعض الأقوال فناسب أن يتمم بقوله تعالى : وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مبالغة في المن ولا يحتاج أن يفسر الأيد بالأنعام على هذا القول لأنه يتم المقصود دونه ، واليد بمعنى النعمة لا الإنعام ، وقيل : أي لموسعوها بحيث إن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إليها كحلقة في فلاة ، وقيل : أي لجاعلون بينها وبين الأرض سعة ، والمراد السعة المكانية ، وفيه على القولين تتميم أيضا وَالْأَرْضَ أي وفرشنا الأرض فَرَشْناها أي مهدناها وبسطناها لتستقروا عليها ولا ينافي ذلك شبهها للكرة على ما يزعمه فلاسفة العصر فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن ، وقرأ أبو السمال ومجاهد وابن مقسم برفع السماء ورفع الأرض على أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر لهما وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من كل جنس من الحيوان خَلَقْنا زَوْجَيْنِ نوعين ذكرا وأنثى - قاله ابن زيد وغيره -
وقال مجاهد : هذا إشارة إلى المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلال والسماء والأرض والسواد والبياض والصحة والمرض إلى غير ذلك ، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة ، وقيل : أريد بالجنس المنطقي ، وأقل ما يكون تحته نوعان فخلق سبحانه من الجوهر مثلا المادي والمجرد ، ومن المادي النامي والجامد ، ومن النامي المدرك والنبات ، ومن المدرك الصامت والناطق وهو كما ترى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فعلنا ذلك كله كي تتذكروا فتعرفوا أنه عز وجل الرب القادر الذي لا يعجزه شيء فتعملوا بمقتضاه ولا تعبدوا ما سواه ، وقيل : خلقنا ذلك كي تتذكروا فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات سبحانه لا يقبل التعدد والانقسام ، وقيل : المراد التذكر بجميع ما ذكر لأمر الحشر والنشر لأن من قدر على إيجاد ذلك فهو قادر على إعادة الأموات يوم القيامة وله وجه ، وقرأ أبي تتذكرون بتاءين وتخفيف الذال فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ تفريع على قوله سبحانه : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وهو تمثيل للاعتصام به سبحانه وتعالى وبتوحيده عز وجل ، والمعنى قل يا محمد :
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ لمكان إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من عقابه تعالى المعد لمن لم يفر إليه سبحانه ولم يوحده نَذِيرٌ مُبِينٌ بين كونه منذرا من اللّه سبحانه بالمعجزات ، أو مُبِينٌ ما يجب أن يحذر عنه.
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ عطف على الأمر ، وهو نهي عن الإشراك صريحا على نحو وحدوده ولا تشركوا ، ومن الأذكار المأثورة : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وكرر قوله تعالى : إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ لاتصال الأول بالأمر واتصال هذا بالنهي والغرض من كل ذلك الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة ، وقيل : إن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 19
المراد بقوله تعالى : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة ، وذكر وَلا تَجْعَلُوا إلخ ، إفرادا لأعظم ما يجب أن يفر منه ، وإِنِّي لَكُمْ إلخ ، الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة ، والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلا له ولا يخلو عن كدر ، وقال الزمخشري : في الآية : فروا إِلَى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولا تشركوا به ، وكرر إِنِّي لَكُمْ إلخ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الايمان وأنه لا يفوز عند اللّه تعالى إلا الجامع بينهما انتهى ، وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى اللّه بما فسره أيضا لينطبق على العمل وحده غير مسلم على أنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع ، وأهل السنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية ، فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى اللّه تعالى العبادة أنه تعالى أمر بها أولا وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود ، ونهى جل شأنه ثانيا أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود ، وعلى هذا يكون الوعيدان متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى : فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف : 110] ، وقوله سبحانه : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء : 36] وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله اللّه تعالى بعدله.
كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة ، ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعد أن تقدمت عموما أو خصوصا في قوله تعالى : إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات : 8] وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه : الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عز وجل : ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال : الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحرا ومجنونا ، ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجوز نصبه يأتي على أنه صفة لمصدره ، والإشارة إلى الإتيان أي ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من رسول إتيانا مثل إتيانهم إِلَّا قالُوا إلخ لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور ، ولا يأتي مقدرا على شريطة التفسير لأن ما لا يعلم لا يفسر عاملا في مثل ذلك كما صرح به النحاة ، وجعله معمولا لقالوا ، والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحرا أو مجنون قولا مثل ذلك القول لا يجوز أيضا على تعسفه لمكان ما وضمير قبلهم لقريش أي ما أتى الذين من قبل قريش مِنْ رَسُولٍ أي رسول من رسل اللّه تعالى إِلَّا قالُوا في حقه ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر ، و- أو - قيل : من الحكاية أي إِلَّا قالُوا ساحِرٌ ، أو قالوا مَجْنُونٌ وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكون مقول كل مجموع ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض : ساحر وقال بعض : مجنون وقال بعض : ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت - أو - على التفصيل انتهى فلا تغفل.
واستشكلت الآية بأنها تدل على أنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه السلام لم يكذبوا وكذا آدم عليه السلام أرسل ولم يكذب. وأجاب الامام بقوله : لا نسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضا وتعقب بأن الأخبار وكذا الآيات دالة على أن المقررين رسل ، وأيضا يبقى الاستشكال بآدم عليه السلام وقد اعترف هو بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الاستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل على أن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل ، ولا يدخل في عموم

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 20
ذلك المقررون لأن المتبادر من إتيان الرسول قوما مجيئه إياهم مع عدم تبليغ غيره إياهم ما أتى به من قبله وذلك لم يحصل للمقرر شرع من قبله كما لا يخفى ، وعن الاستشكال بآدم عليه السلام بأن المراد - ما أتى الذين من قبلهم من الأمم الذين كانوا موجودين على نحو وجود هؤلاء رسول إلا قالوا - إلخ ، وآدم عليه السلام لم يأت أمة كذلك إذ لم يكن في حين أرسل إلا زوجته حواء ، ولعله أولى مما قيل : إن المراد من رسول من بني آدم فلا يدخل هو عليه السلام في ذلك ، واستشكلت أيضا بأن إِلَّا قالُوا يدل على أنهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم ، وأجاب الإمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع على إرادة الكثير بل الأكثر ، وذكر المكذب فقط لأنه الأوفق بغرض التسلية ، وأخذ منه بعضهم الجواب عن الاستشكال السابق فقال : الحكم باعتبار الغالب لا أن كل أمة من الأمم أتاها رسول فكذبته ليرد آدم والمقررون حيث لم يكذبوا - وفيه ما فيه - وحمل بعضهم الذين من قبلهم على الكفار ودفع به الاستشكالين - وفيه ما لا يخفى - فتأمل جميع ذلك ولا تظن انحصار الجواب فيما سمعت فأمعن النظر واللّه تعالى الهادي لأحسن المسالك أَتَواصَوْا بِهِ تعجيب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوه جميعا ، وقيل : إنكار للتواصي أي ما تواصوا به.
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أن التواصي جامعهم إلى أن الجامع لهم على ذلك القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 54 إلى 60]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة ولم تأل جهدا في البيان فأبوا إلا إباء وعنادا فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على التولي بعد ما بذلت الجهود وجاوزت في الإبلاغ كل حد معهود.
وَذَكِّرْ آدم على فعل التذكير والموعظة ولا تدع ذلك فالأمر بالتذكير للدوام عليه والفعل منزل منزلة اللازم ، وجوز أن يكون المفعول محذوفا أي فذكرهم وحذف لظهور الأمر.
فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي الذين قدر اللّه تعالى إيمانهم ، أو المؤمنين بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين ، وفي البحر يدل ظاهر الآية على الموادعة وهي منسوخة بآية السيف ، وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله تعالى : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ إلخ ، وقال : أمره اللّه تعالى أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمدا صلى اللّه تعالى عليه وسلم ثم قال سبحانه : وَذَكِّرْ إلخ فنسختها.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب. والضياء في المختارة وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : لما نزلت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن يتولى عنا فنزلت وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا ، وعن قتادة أنهم ظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل اللّه تعالى وَذَكِّرْ إلخ.
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن خلقهم لما ذكر سبحانه وتعالى مما يدعوه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ ، ولعل تقديم

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 21
الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنس في الوجود ، والظاهر أن المراد من يقابلون بهم وبالملائكة عليهم السلام ولم يذكر هؤلاء قيل : لأن الأمر فيهم مسلم ، أو لأن الآية سيقت لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة اللّه تعالى وقد خلقوا لها وهذا الترك مما لا يكون فيهم بل هم عباد مكرمون لا يستكبرون عن عبادته عز وجل ، وقيل :
لأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ليس مبعوثا إليهم فليس ذكرهم في هذا الحكم مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم ، وأنت تعلم أن الأصح عموم البعثة فالأولى ما قيل بدله لاستغنائهم عن التذكير والموعظة ، وقيل : المراد بالجن ما يتناولهم لأنه من الاستتار وهم مستترون عن الإنس ، وقيل : لا يصح ذكرهم في حيز الخلق لأنهم كالأرواح من عالم الأمر المقابل لعالم الخلق ، وقد أشير إليهما بقوله تعالى : لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف : 54] ورد بقوله سبحانه : خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام : 102 ، الرعد : 16 ، الزمر : 62 ، غافر : 62] ولَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ليس كما ظن والعبادة غاية التذلل ، والظاهر أن المراد بها ما كانت بالاختيار دون التي بالتسخير الثابتة لجميع المخلوقات وهي الدلالة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم ، ويعبر عنها بالسجود كما في قوله تعالى : وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن : 6] وأل في الجن والإنس على المشهور للاستغراق ، واللام قيل : للغاية والعبادة وإن لم تكن غاية مطلوبة من الخلق لقيام الدليل على أنه عز وجل لم يخلق الجن والإنس لأجلها أي لإرادتها منهم إذ لو أرادها سبحانه منهم لم يتخلف ذلك لاستلزام الإرادة الإلهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف بالمشاهدة ، وأيضا ظاهر قوله تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف : 179] يدل على إرادة المعاصي من الكثير ليستحقوا بها جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولا وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الاستعداد جعل خلقهم مغيا بها مبالغة بتشبيه المعدّ له الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف ، ألا تراهم يقولون للقويّ جسمه : هو مخلوق للمصارعة ، وللبقر : هي مخلوقة للحرث.
وفي الكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك ، وأما الارادة فليست من مقتضى اللام إلا إذا علم أن البهر والسياق ، ونقل عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة : 5] فذكر العبادة المسببة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 22
شرعا عن الأمر أو اللازمة له ، وأريد سببها أو ملزومها فهو مجاز مرسل ، وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لا سيما إذا كان غير المكلفين كالأطفال الذي يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم ، وقال مجاهد : إن معنى لِيَعْبُدُونِ ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضا من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد ، ولعل السر فيه التنبيه على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل : وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عز وجل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى ، وقد جاء «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز وجل كالطبيعيين اليوم فلا بد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين الفرغاني في منتهى المدارك ، وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثمانية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمية : إنه ليس من كلام النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف ، وكذا قال الزركشي والحافظ بن حجر وغيرهما : ومن يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلا لكن يقول : إنه ثابت كشفا ، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الباب المذكور ، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم ، ومع ذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء اللّه تعالى ، وقيل : أل في الْجِنَّ وَالْإِنْسَ للعهد ، والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنا الآية أي بناء على أن اللام فيها ليست للعاقبة ، ونسب هذا القول لزيد بن أسلم وسفيان ، وأيد بقوله تعالى قيل : فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وأيده
في البحر برواية ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين» ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما
،
ومن الناس من جعلها للجنس ، وقال : يكفي في ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنين الطائعون وهو في المآل متحد مع سابقه ، ولا إشكال على ذلك في جعل اللام للغاية المطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجوز تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير - كما ذهب إليه كثير من السلف ، والمحدثين - وقد سمعت أن منهم من يقسم الارادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها ، وعليه يجوز أن يبقى الْجِنَّ وَالْإِنْسَ على شمولهما للعاصين ، ويقال : إن العبادة مرادة منهم أيضا لكن بالإرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذا الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالإرادة التفويضية القائل بها المعتزلة.
هذا وإذا أحطت خبرا بالأقوال في تفسير هذا الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى :
وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود : 118 ، 119] على تقدير كون الاشارة إلى الاختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها ، ودفعه بعضهم يكون اللام في تلك الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذا من تعقيب ذلك بقوله سبحانه : ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ وهو لبيان أن شأنه تعالى شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، ومالك ملاك العبيد نفى عز وجل أن يكون ملكه إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه : ما أريد أن أستعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي ، وذكر الإمام فيه وجهين : الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة ، والثاني أن يكون لتقرير كونهم مخلوقين لها ، وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على قسمين :
قسم يتخذونه لإظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبيد الملوك ، وقسم يتخذون للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها ، فكأنه قال سبحانه : إني خلقتهم ولا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 23
هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق ، وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ ومن يقرب الطعام؟ وليسوا كذلك وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ فإذا هم عبيد من القسم الأول ، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم ، والظاهر أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي لمكان قوله سبحانه : وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ وإليه ذهب الامام ، وذكر في الآية لطائف : الاولى أنه سبحانه كرر نفي الإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء حوائجه من حفظ المال وإحضار الطعام من ماله بين يديه. فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الارادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك ، الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي في بيان غناه عز وجل كأنه قال سبحانه : لا أطلب منهم رزقا ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيرا ما يطلب من العبيد إذا كان التكسب لا يطلب منهم ، الثالثة أنه سبحانه قال : ما أريد منهم من رزق دون ما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل ، وقال سبحانه : ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الاستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة اليه للفعل نفسه ، الرابعة أنه جل وعلا خص الإطعام بالذكر لأن أدنى درجات الاستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل :
ما أريد منهم من عين ولا عمل ، الخامسة أن ما لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الاستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى ، فتأمله.
ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي ولهم ، وفي البحر ما أريد منهم من رزق أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى ، ونحوه ما قيل : المعنى ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أريد أن يطعموه ، وأسند الإطعام إلى نفسه سبحانه لأن الخلق كلهم عيال اللّه تعالى. ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه ، وفي الحديث «يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني»
فإنه كما يدل عليه آخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه وقيل : الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الأنعام : 90] والغيبة فيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمران الغيبة والخطاب ، وقد قرىء بهما في قوله تعالى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران :
12] ، وقيل : المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في مِنْهُمْ ويُطْعِمُونِ ولا ينافي ذلك قراءة - أني أنا الرزاق - فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول ، أو الائتمار لا لعدم الإرادة ، نعم لا شك في أنه قول بعيد جدا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره سبحانه استقلالا ، أو اشتراكا ويفهم من ذلك استغناؤه عز وجل عن الرزق ذُو الْقُوَّةِ أي القدرة الْمَتِينُ شديد القوة ، والجملة تعليل لعدم الإرادة قال الامام : كونه تعالى هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق لأن من يطلبه يكون فقيرا محتاجا وكونه عز وجل هو ذو القوة المتين ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله سبحانه : وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ لأن من يطلبه يكون عاجزا لا قوة له فكأنه قيل : ما أريد منهم من رزق لأني أنا الرزاق وما أريد منهم من عمل لأني قوي متين ، وكان الظاهر - أني أنا الرزاق - كما جاء في قراءة له صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لكن التفت إلى الغيبة ، والتعبير بالاسم الجليل لاشتهاره بمعنى العبودية فيكون في ذلك إشعار بعلة الحكم ولتخرج الآية مخرج المثل كما قيل ذلك في قوله تعالى : إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء : 81] والتعبير به على القول بتقدير قل فيما تقدم هو الظاهر ، وتحتاج القراءة الاخرى إلى ما ذكرناه آنفا ، وآثر سبحانه ذو القوة على القوى قيل : لأن في ذُو كما قال ابن حجر الهيتمي وغيره تعظيم ما أضيف إليه ، والموصوف بها والمقام يقتضيه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 24
ولذا جيء بالمتين بعد ولم يكتف به عن الوصف بالقوة : وقال الإمام : لما كان المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير جيء بوصف الرزق على صيغة المبالغة لأنه بدونها لا يكفي في تقرير عدم إرادة الرزق وبوصف القوة بما لا مبالغة فيه لكفايته في تقرير عدم الاستعانة فإن من له قوة دون الغاية لا يستعين بغيره لكن لما لم يدل ذو القوة على أكثر من أن له تعالى قوة ما زيد الوصف بالمتين وهو الذي له ثبات لا يتزلزل ، ثم قال : إن القوي أبلغ من ذي القوة والعزة أكمل من المتانة وقد قرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه في قوله تعالى : لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد : 25] وفي قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ إلخ لما اقتضى المقام ذلك ، وقد أطال الكلام في هذا المقام وما أظنه يصفو عن كدر ، وقرأ ابن محيصن - الرازق - بزنة الفاعل ، وقرأ الأعمش وابن وثاب - المتين - بالجر ، وخرج على أنه صفة القوة ، وجاز ذلك مع تذكيره لتأويلها بالاقتدار أو لكونه على زنة المصادر التي يستوي فيها المذكر والمؤنث ، أو لإجرائه مجرى فعيل بمعنى مفعول ، وأجاز أبو الفتح أن يكون صفة - لذو - وجر على الجوار - كقولهم هذا جحر ضب خرب - وضعف فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي إذا ثبت أن اللّه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلى آخر ما تقدم فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة وإشراكهم باللّه عز وجل وتكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكة وأضرابهم من كفار العرب ذَنُوباً أي نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أي نصيب أَصْحابِهِمْ أي نظرائهم من الأمم السالفة ، وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماء ، أو القريبة من الامتلاء ، قال الجوهري : ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة ، وهي تذكر وتؤنث وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصيب مطلقا شرا كان كالنصيب من العذاب في الآية أو خيرا كما في العطاء في قول علقمة بن عبدة التميمي يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شأسا يوم عين أباغ :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب
يروى أن الحارث لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة «1» ومن استعمالها في النصيب قول الآخر :
لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب
وهو استعمال شائع ، وفي الكشاف هذا تمثيل أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الراجز :
إنا إذا نازلنا غريب له ذنوب ولنا ذنوب
وإن أبيتم فلنا القليب فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي لا يطلبوا مني أن أعجل في الإتيان به يقال استعجله أي حثه على العجلة وطلبها منه ، ويقال : استعجلت كذا إن طلبت وقوعه بالعجلة ، ومنه قوله تعالى : أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل : 1] وهو على ما في الإرشاد جواب لقولهم : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس : 48 ، الأنبياء : 38 ، النمل : 71 ، سبأ : 29 ، يس : 48 ، الملك : 25] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي فويل لهم ، ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وإشعارا بعلة الحكم ، والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما
___________
(1) «شأس» هو جد علقمة بن عبدة مدح بهذه القصيدة الحارث بن أبي شمر الغساني لما كان عنده أسيرا فأمر بإطلاقه وجميع أسرى بني تميم و«الخابط» الطالب ، ومعنى البيت أنت الذي أنعمت على كل حي بنعمة واستحق من نداك ذنوبا ا ه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 25
أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك. ومِنْ في قوله سبحانه : مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ للتعليل والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه أو يوعدون به على قول ، والمراد بذلك اليوم قيل : يوم بدر ، ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث إنه ذنوب من العذاب الدنيوي ، وقيل : يوم القيامة ، ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية ، واللّه تعالى أعلم.
ومما قاله بعض أهل الاشارة في بعض الآيات : وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المعرضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة ، ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة ما من غلبات اللوعة فَالْحامِلاتِ وِقْراً إشارة إلى سحائب ألطاف الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين فَالْجارِياتِ يُسْراً إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الاستقامة ، وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب ، وقد قال العاشق المجازي :
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه نسيم كاد رياها يطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه متى هب كان الوجد أيسر خطبه
ومنها فَالْحامِلاتِ وِقْراً دواء قلوب العاشقين كما قيل :
أيا جبلي نعمان باللّه خليا نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة على كبد لم يبق إلا صميمها
إن الصبا ريح إذا ما تنسمت على نفس مهموم تجلت همومها
ومنها «الجاريات» من مهاب حضرات القدس إلى أفئدة أهل الإنس بسهولة لتنعش قلوبهم ، ومنها «المقسمات» ما جاءت به مما عبق بها من آثار الحضرة الإلهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى اللّه عز وجل إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم ، أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزا من الموجودات ليس واحدا وحدة حقيقية بل هو مركب ولا أقل من كونه مركبا من الإمكان ، وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا اللّه تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بترك ما سواه عز وجل وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ليعرفون ، وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفا
من روايته صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن ربه سبحانه أنه قال : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
وفي كتاب الأنوار السنية للسيد نور الدين السمهودي بلفظ «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني فبي عرفوني»
وفي المقاصد الحسنة للسخاوي بلفظ «كنت كنزا لا أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي فعرفوني» إلى غير ذلك ، وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبي فلا بد فيه من مخفي ومخفى عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفي عنه فلا يتحقق الخفاء ، وأجيب أولا بأن الخفاء عن الأعيان الثابتة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجوديا فكان اللّه سبحانه مخفيا عنها غير معروف لها معرفة وجودية - فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث - فخلق الخلق لأن معرفتهم الوجودية فرع وجودهم فتعرف سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 26
تفاوت الاستعدادات فعرفوا أنفسهم بالتجليات فعرفوا اللّه تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه ، وثانيا بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا ، ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله : لا أعرف بدل مخفيا ، وثالثا بأن مخفيا بمعنى ظاهر من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه ، وترتيب قوله سبحانه : «فأحببت أن أعرف» إلخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قويا أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة ، ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهو كما ترى لا يخلو عن بحث ، وأما إطلاق الكنز عليه عز وجل فقد ورد ، روى الديلمي في مسنده عن أنس مرفوعا كنز المؤمن ربه أي فإن منه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين ، والشيخ محيي الدين قدس سره ذكر في معنى - الكنز - غير ذلك فقال في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من فتوحاته : لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم بالحادث في قوله : «كنت كنزا» إلخ فجعل نفسه كنزا ، والكنز لا يكون إلا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما لبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ، وهو منطق الطير الذي لا نعرفه نسأل اللّه تعالى التوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 27
سورة الطّور
«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها ، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي ، وثمان وأربعون في البصري ، وسبع وأربعون في الحجازي ، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد ، وقال الجلال السيوطي : وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين ، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار ، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك.
[سورة الطور (52) : الآيات 1 إلى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ الطور اسم لكل جبل على ما قيل : في اللغة العربية عند الجمهور ، وفي اللغة السريانية عند بعض ، ورواه ابن المنذر وابن جرير عن مجاهد والمراد به هنا طُورِ سِينِينَ [التين : 2] الذي كلم اللّه تعالى موسى عليه السلام عنده ، ويقال له : طور سيناء أيضا ، والمعروف اليوم بذلك ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة ، وقال أبو حيان في تفسير سورة «التين» : لم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام وهو الذي كلم اللّه تعالى عليه موسى عليه السلام ، وقال في تفسيره : هذه السورة في الشام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء فقال نوف

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 28
البكالي : إنه الذي أقسم اللّه سبحانه به لفضله على الجبال ، قيل : وهو الذي كلم اللّه تعالى عليه موسى عليه السلام انتهى فلا تغفل ، وحكى الراغب أنه جبل محيط بالأرض ولا يصح عندي ، وقيل : جبل من جبال الجنة ، وروى فيه ابن مردويه عن أبي هريرة ، وعن كثير بن عبد اللّه حديثا مرفوعا ولا أظن صحته ، واستظهر أبو حيان أن المراد الجنس لا جبل معين ، وروي ذلك عن مجاهد والكلبي والذي أعول عليه ما قدمته.
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة ، والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله وهو المذكور في قوله تعالى :
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء : 13] ، وقال الكلبي : هو التوراة ، وقيل : هي. والإنجيل.
والزبور وقيل : القرآن ، وقيل : اللوح المحفوظ ، وفي البحر لا ينبغي أن يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين وإنما تورد على الاحتمال ، والتنكير قيل : للإفراد نوعا ، وذلك على القول بتعدده ، أو للإفراد شخصا ، وذلك على القول المقابل ، وفائدته الدلالة على اختصاصه من جنس الكتب بأمر يتميز به عن سائرها ، والأولى على وجهي التنكير إذا حمل على أحد الكتابين أعني القرآن والتوراة أن يكون من باب لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية : 14] ففي التنكير كمال التعريف ، والتنبيه على أن ذلك الكتاب لا يخفى نكّر أو عرف ، ومن هذا القبيل التنكير في قوله تعالى : فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ والرق بالفتح ويكسر ، وبه قرأ أبو السمال جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق وأصله على ما في مجمع البيان من اللمعان يقال : ترقرق الشيء إذا لمع. أو من الرقة ضد الصفاقة على ما قيل ، وقد تجوز فيه عما يكتب فيه الكتاب من ألواح وغيرها. والمنشور المبسوط والوصف به قيل : للإشارة إلى صحة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جعل معرضا لنظر كل ناظر آمنا عليه من الاعتراض لسلامته عما يوجبه ، وقيل : هو لبيان حاله التي تضمنتها الآية المذكورة آنفا بناء على أن المراد به صحائف الأعمال ولبيان أنه ظهر للملائكة عليهم السلام يرجعون إليه بسهولة في أمورهم بناء على أنه اللوح ، أو للناس لا يمنعهم مانع عن مطالعته والاهتداء بهديه بناء على الأقوال الأخر ، وفي البحر مَنْشُورٍ منسوخ ما بين المشرق والمغرب
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون اليه حتى تقوم الساعة كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا.
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا كرم اللّه تعالى وجهه فقال : ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إلخ
، وجاء في رواية عنه كرم اللّه تعالى وجهه ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط سقط عليها.
وروي عنمجاهد وقتادة وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتا حرمته كحرمتها وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم السلام كما سمعت ، وقال الحسن : هو الكعبة يعمره اللّه تعالى كل سنة بستمائة ألف من الناس فإن نقصوا أتم سبحانه العدد من الملائكة ، وأنت تعلم أن من المجاز المشهور - مكان معمور - بمعنى مأهول مسكون يحل الناس في محل هو فيه ، فعمارة الكعبة بالمجاورين عندها وبحجاجها صح خبر الحسن المذكور أم لا
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ أي السماء كما رواه جماعة ، وصححه الحاكم عن الأمير كرم اللّه تعالى وجهه
، وعن ابن عباس هو العرش وهو سقف الجنة ، وأخرجه أبو الشيخ عن الربيع بن أنس ، وعليه لا بأس في تفسير البيت المعمور بالسماء كما روي عن مجاهد ، وعمارتها بالملائكة أيضا فما فيها موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد أو قائم وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي الموقد نارا.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 29
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن المسيب قال : قال علي كرم اللّه تعالى وجهه لرجل من اليهود : أين موضع النار في كتابكم؟ قال : البحر فقال كرم اللّه تعالى وجهه : ما أراه إلا صادقا ، وقرأ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ
[التكوير : 6] وبذلك قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش ، وقال قتادة : المسجور المملوء يقال : سجره أي ملأه ، والمراد به عند جمع البحر المحيط ، وقيل :
بحر في السماء تحت العرش ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وغيره عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
وابن جرير عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ، وفي البحر أنهما قالا فيه ماء غليظ ، ويقال له : بحر الحياة يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم ، وأخرج أبو الشيخ عن الربيع أنه الملأ الأعلى الذي تحت العرش وكأنه أراد به القضاء الواسع المملوء ملائكة ، وعن ابن عباس «المسجور» الذي ذهب ماؤه ، وروى ذو الرمة الشاعر ، وليس له كما قيل حديث غير هذا عن الحبر قال : خرجت أمة لتستقي فقالت : إن الحوض مسجور أي فارغ فيكون من الاضداد ، وحمل كلامه رضي اللّه تعالى عنه على إرادة البحر المعروف ، وأن ذهاب مائه يوم القيامة ، وفي رواية عنه أنه فسره بالمحبوس ، ومنه ساجور الكلب وهي القلادة التي تمسكه وكأنه عنى المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع الأرض ، أو يغيض فتبقى الأرض خالية منه ، وقيل الْمَسْجُورِ المختلط ، وهو نحو قولهم للخليل المخالط : سجير ، وجعله الراغب من سجرت التنور لأنه سجير في مودّة صاحبه ، والمراد بهذا الاختلاط تلاقي البحار بمياهها واختلاط بعضها ببعض ، وعن الربيع اختلاط عذبها بملحها ، وقيل : اختلاطها بحيوانات الماء ، وقيل : المفجور أخذا من قوله تعالى : وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ [الانفطار : 3] ويحتمله ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس من تفسيره بالمرسل ، وإذا اعتبر هذا مع ما تقدم عنه آنفا من تفسيره بالمحبوس يكون من الاضداد أيضا ، وقال منبه بن سعيد ، هو جهنم سميت بحرا لسعتها وتموأها ، والجمهور على أن المراد به بحر الدنيا - وبه أقول - وبأن المسجور بمعنى الموقد ، ووجه التناسب بين القرائن بعد تعين ما سيق له الكلام لائح ، وهو هاهنا إثبات تأكيد عذاب الآخرة وتحقيق كينونته ووقوعه ، فأقسم سبحانه له بأمور كلها دالة على كمال قدرته عز وجل مع كونها متعلقة بالمبدأ والمعاد ، فالطور لأنه محل مكالمة موسى عليه السلام ، ومهبط آيات البدء والمعاد يناسب حديث إثبات المعاد وكتاب الأعمال كذلك
مع الإيماء إلى أن إيقاع العذاب عدل منه تعالى فقد تحقق ، ودون في الكتاب ما يجر إليه قبل ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ لأنه مطاف الرسل السماوية ، ومظهر لعظمته تعالى ، ومحل لتقديسهم وتسبيحهم إياه جل وعلا ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ لأنه مستقرهم ومنه تنزل الآيات ، وفيه الجنة : وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ لأنه محل النار ، وإذا حمل الكتاب على التوراة كان التناسب مع ما قبله حسب النظر الجليل أظهر ولم يحمله عليها كثير لزعم أن - الرق المنشور - لا يناسبها لأنها كانت في الألواح ، ولا يخفى عليك أن شيوع الرق فيما يكتب فيه الكتاب مطلقا يضعف هذا الزعم في الجملة ، ثم إن المعروف أن التوراة لا يكتبها اليهود اليوم إلا في - رق - وكأنهم أخذوا ذلك من أسلافهم ، وقال الإمام : يحتمل أن تكون الحكمة في القسم - بالطور والبيت المعمور والبحر المسجور - أنها أماكن خلوة لثلاثة أنبياء مع ربهم سبحانه ، أما الطور فلموسى عليه السلام وقد خاطب عنده ربه عز وجل بما خاطب ، وأما البيت المعمور فلرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقد قال عنده : «سلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
وأما البحر فليونس عليه السلام قال فيه : لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء : 87] فلشرفها بذلك أقسم اللّه تعالى بها ، وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب ، وأما ذكر السقف المرفوع فلبيان رفعة البيت المعمور ليعلم عظمة شأن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ثم ذكر وجها آخر ، ولعمري إنه لم يأت بشيء فيهما ، والواو الاولى للقسم وما بعدها على

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 30
ما قال أبو حيان للعطف ، والجملة المقسم عليها قوله تعالى : إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ أي لكائن على شدّة كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من يحل به من الكفار وفي إضافته إلى الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أمان له صلى اللّه تعالى عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذبه ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما - واقع - بدون لام ، وقوله تعالى : ما لَهُ مِنْ دافِعٍ خبر ثان - لأن - أو صفة لَواقِعٌ أو هو جملة معترضة ، ومِنْ دافِعٍ إما مبتدأ للظرف أم مرتفع به على الفاعلية ، ومِنْ مزيدة للتأكيد ولا يخفى ما في الكلام من تأكيد الحكم وتقريره وقد روي أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قرأ من أول السورة إلى هنا فبكى ثم بكى حتى عيد من وجعه وكان عشرين يوما ، وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن سعد عن جبير بن مطعم قال : قدمت المدينة على رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ وَالطُّورِ إلى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ فكأنما صدع قلبي ، وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب ، وهو لا يأتي أن يكون المراد الوقوع يوم القيامة «ومن غريب ما يحكى» أن شخصا رأى مكتوبا في كفه خمس واوات فعبرت له بخير فسأل ابن سيرين فقال : تهيأ لما لا يسر فقال له : من أين أخذت هذا؟ فقال : من قوله عز وجل : وَالطُّورِ إلى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص ، وقوله سبحانه : يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً منصوب على الظرفية «1» وناصبه (واقع) أو دافِعٍ أو معنى النفي وإبهام أنه لا ينتفي دفعه غير ذلك اليوم بناء على اعتبار المفهوم لا ضير فيه لعدم مخالفته للواقع لأنه تعالى أمهلهم في الدنيا وما أهملهم ، ومنع مكي أن يعمل فيه - واقع - ولم
يذكر دليل المنع ولا دليل له فيما يظهر ، ومعنى تَمُورُ تضطرب كما قال ابن عباس أي ترتج وهي في مكانها ، وفي رواية عنه تشقق ، وقال مجاهد : تدور ، وأصل المور التردد في المجيء والذهاب ، وقيل : التحرك في تموج ، وقيل : الجريان السريع ، ويقال للجري مطلقا وأنشدوا للأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً عن وجه الأرض فتكون هباء منبثّا ، والإتيان بالمصدرين الإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي إذا وقع ذلك «2» أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون ، وأصل الخوض المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء وغلب في الخوض في الباطر كالإحضار عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب.
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها ، وقرأ زيد بن علي والسيلمي وأبو رجاء «يدعّون» بسكون الدال وفتح العين من الدعاء فيكون دَعًّا حالا أي ينادون إليها مدعوعين «3» ويَوْمَ إما بدل من يوم تَمُورُ أو ظرف لقول مقدر محكي به قوله تعالى : هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي فيقال لهم ذلك يَوْمَ إلخ ،
___________
(1) لأنه مفعول فيه.
(2) يشير إلى أن الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر. ا ه. [.....]
(3) الحال مقدرة لأن الدفع بعد الدعوة ، وقيل : إنها مقارنة بإجراء قرب الوقوع مجرى المقارنة وفيه نظر.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 31
ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها ، وقوله تعالى : أَفَسِحْرٌ هذا توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل : كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم بهذا سحرا أفهذا المصدق له سحر أيضا وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والمدار للتوبيخ.
أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أي أم أنتم عمي عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عميا عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفا عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذا عليه وكانت هذا جملة واردة تقريعا مثل هذا النار إلخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتب ويكون مدلولا عليه من السياق فقدّر كنتم تقولون إلى آخره ، ودل عليه قوله تعالى : فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ وقوله سبحانه : هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وفي الكشف إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم : هذا باطل فتأتي بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول :
أفباطل هذا؟! تعيره بالإلزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة ، وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدر لابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ ، وأَمْ كما هو الظاهر منقطعة ، وفي البحر لما قيل لهم : هذه النار وقفوا على الجهتين اللتين يمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثمّ سحر يلبس ذات المرأى ، وإما أن يكون في ناظر الناظر اختلال ، والظاهر أنه جعل أَمْ معادلة والأول أبعد مغزى.
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه.
سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه - فسواء - خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدر في الأصل ، وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك ، وقوله تعالى : إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر وعدمه مستويين في عدم النفع.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ شروع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين كما هو عادة القرآن الجليل في الترهيب والترغيب ، وجوز أن يكون من جملة المقبول للكفار إذ ذاك زيادة في غمهم وتنكيدهم والأول أظهر ، والتنوين في الموضعين للتعظيم أي في جنات عظيمة ونعيم عظيم ، وجوز أن يكون للنوعية أي نوع من الجنات ونوع من النعيم مخصوصين بهم وكونه عوضا عن المضاف إليه أي جناتهم ونعيمهم ليس بالقوي كما لا يخفى.
فاكِهِينَ متلذذين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الإحسان ، وقرى ء - فكهين - بلا ألف ، ونصبه في القراءتين على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أعني من جنات الواقع خبرا لأن ، وقرأ خالد - فاكهون - بالرفع على أنه الخبر ، وفي جنات متعلق به لكنه قدم عليه للاهتمام ، ومن أجاز بعدد الخبر أجاز أن يكون خبرا بعد خبر وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عطف على «في جنات» على تقدير كونه خبرا كأنه قيل : استقروا فِي جَنَّاتٍ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ إلخ ، أو على آتاهُمْ إن جعلت (ما) مصدرية أي فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم ، ولم يجوز كثير عطفه عليه إن جعلت موصولة إذ يكون التقدير فاكهين بالذي وقاهم ربهم فلا يكون راجع إلى الموصول ، وجوزه بعض بتقدير الراجع أي وقاهم به على أن الباء للملابسة ، وفي الكشف لم يحمل على حذف الراجع لكثرة الحذف ولو درج نصا. والفعل من المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل وهو مسموع عند بعضهم ، ولا يخفى أنه وجه سديد أيضا ، والمعنى عليه أسد لأن الفكاهة تلذذ يشتغل به صاحبه والتلذذ بالإيتاء يحتمل التجدد باعتبار تعدد المؤتى إما بالوقاية أي على تقدير المصدرية فلا ، وأقول لعله هو المنساق إلى الذهن ، وجوز أن يكون حالا بتقدير قد أو بدونه إما من المستكن في الخبر أو في الحال. وإما من فاعل آتى أو من مفعوله. أو منهما ، وإظهار الرب في موقع

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 32
الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل. وقرأ أبو حيوة «وقّاهم» بتشديد القاف كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي يقال لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا أكلا وشربا هنيئا ، أو طعاما وشرابا هنيئا ، فالكلام بتقدير القول : وهَنِيئاً نصب على المصدرية لأنه صفة مصدر. أو على أنه مفعول به ، وأيا ما كان فقد تنازعه الفعلان ، والهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسببه أو بمقابلته والباء عليهما متعلق - بكلوا واشربوا ، على التنازع ، وجوز الزمخشري كونها زائدة وما بعدها فاعل هنيئا كما في قول كثير :
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت «1»
فإن ما فيه فاعل هنيئا على أنه صفة في الأصل بمعنى المصدر المحذوف فعله وجوبا لكثرة الاستعمال كأنه قيل : هنؤ لعزة المستحل من أعراضنا ، وحينئذ كما يجوز أن يجعل ما هنا فاعلا على زيادة الباء على معنى هنأكم ما كنتم تعملون يجوز أن يجعل الفاعل مضمرا راجعا إلى الأكل أو الشرب المدلول عليه بفعله ، وفيه أن الزيادة في الفاعل لم تثبت سماعا في السعة في غير فاعل كفى على خلاف ولا هي قياسية في مثل هذا ومع ذلك يحتاج الكلام إلى تقدير مضاف أي جزاء ما كنتم إلخ ، وفيه نوع تكلف مُتَّكِئِينَ نصب على الحال قال أبو البقاء : من الضمير في كُلُوا أو في وَقاهُمْ أو في آتاهُمْ أو في فاكِهِينَ أو في الظرف يعني في جنات ، واستظهر أبو حيان الأخير عَلى سُرُرٍ جمع سرير معروف ، ويجمع على أسرّة وهو من السرور إذ كان لأولي النعمة ، وتسمية سرير الميت به للتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار اللّه تعالى وخلاصه من سجن الدنيا ، وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لكلب في المضعف فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف.
مَصْفُوفَةٍ مجعولة على صف وخط مستو وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن - قاله الراغب - ثم قال : ولم يجىء في القرآن زوجناهم حورا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة ، وقال الفراء : تزوجت بامرأة لغة أزد شنوءة ، والمشهور أن التزوج متعد إلى مفعول واحد بنفسه والتزويج متعد بنفسه إلى مفعولين ، وقيل : فيما هنا أن الباء لتضمين الفعل معنى القرآن أو الإلصاق ، واعترض بأنه يقتضي معنى التزويج بالعقد وهو لا يناسب المقام إذ العقد لا يكون في الجنة لأنها ليست دار تكليف أو أنها للسببية والتزويج ليس بمعنى الإنكاح بل بمعنى تصييرهم زوجين زوجين أي صيرناهم كذلك بسبب حور عين ، وقرأ عكرمة بحور عين على إضافة الموصوف إلى صفته بالتأويل المشهور ، وقوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم ذريتهم في الإيمان ، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم ، وقوله تعالى : وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ عطف على آمنوا ، وقيل اعتراض للتعليل ، وقوله تعالى : بِإِيمانٍ متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناء على تفاوت مراتب نفس الإيمان ، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء اليه ، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقا قيل : هو حال من الذرية ، وقيل : من الضمير وتنوينه للتعظيم ، وقيل : منهما وتنوينه للتنكير
___________
(1) هذا البيت من قصيدة مشهورة لكثير أولها
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا قلوصيكما ثم احللا حيث حلت
قيل كان كثير في حلقة البصرة ينشد أشعاره فمرت به عزة مع زوجها فقال لها : أغضبيه فاستحيت من ذلك فقال لتغضبنه أو لأضربنك فدنت من الحلقة فأغضبته ، وذلك أن قالت : هذا وهذا بفم الشاعر فقال ذلك.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 33
والمعول عليه ما قدمنا أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الدرجة.
أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : «إن اللّه تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ الآية» وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعا إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم
، وفي رواية ابن مردويه والطبرائي عنه أنه قال : «إن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به»
وقرأ ابن عباس الآية ، وظاهر الاخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصاله بهم أحيانا ولو للزيارة. وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل اللّه عز وجل ، وما قيل : لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه ، وقد يستأنس للتخصيص بما روي عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار ، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته وَما أَلَتْناهُمْ أي وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق مِنْ عَمَلِهِمْ أي من ثواب عملهم مِنْ شَيْءٍ أي شيئا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان ، وقال ابن زيد - الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملا - وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ وإلى الأول ذهب ابن عباس وابن جبير والجمهور والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية ، وقال منذر بن سعيد : هي في الصغار.
وروي عن الحبر والضحاك أنهما قالا : إن اللّه تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين ، وجعل بإيمان عليه متعلقا بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل : وكأن من يقول بذلك يفسر اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم ، وجوز أن يتعلق بإيمان باتبعتهم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكما لصغرهم وإيمان آبائهم ، والصغير يحكم بإيمانه تبعا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى ، وقيل :
الموصول معطوف على حور ، والمعنى قرنّاهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وقوله تعالى : وَاتَّبَعَتْهُمْ عطف على زَوَّجْناهُمْ وقوله سبحانه :
بِإِيمانٍ متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم ، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم ، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجها أول ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس وغيره ، وقيل عليه : إنه تعصب منه ، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف ، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم.
وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم» بقطع الهمزة وفتحها ، وإسكان التاء ، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان ، وقرأ أيضا ذرياتهم جمعا نصبا ، وابن عامر كذلك رفعا ، وقرأ «ذرّيّاتهم» بكسر الذال «واتبعتهم ذريتهم» بتاء الفاعل ، ونصب ذريتهم على المفعولية ، وقرأ الحسن وابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم ، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب ، وابن هرمز آلتناهم بالمدمن آلت يؤلت ، وابن مسعود وأبيّ لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة والأعمش ، ورويت عن شبل وابن كثير ، وعن طلحة والأعمش أيضا - لتناهم - بفتح

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 34
اللام ، قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضا آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية - وليس كما قال - بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز ، وقرىء وما ولتناهم من ولت يلت ، ومعنى الكل واحد ، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلا قام إلى عمر رضي اللّه تعالى عنه فوعظه فقال : لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ أي بكسبه وعمله رَهِينٌ أي مرهون عند اللّه كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤد الدين فإن كان العمل صالحا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب ، ولذا قال جل وعلا : كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر : 38 ، 39] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند اللّه تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبا لأنه لم يفك رقبته ، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى : هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور : 28] ليكون كلاما راجعا إلى حال الفريقين - المدعوعين.
والمتقين - وإنما جعل متخللا بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم ، قال في الكشف : ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضا ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقا لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص ، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلا على الآباء لا على الأبناء ابتداء لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل ، وجعله استئنافا بيانيا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد ، وقيل : رَهِينٌ فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت ، وفي الإرشاد أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء ، فالجملة تعليل لما قبلها ، وأنت تعلم أن فعيلا بمعنى المفعول أسرع تبادرا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى.
[سورة الطور (52) : الآيات 22 إلى 49]
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 35
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي وزدناهم على ما كان لهم من مبادي التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء ، وأصل المدّ الجر ، ومنه المدّة للوقت الممتد ثم شاعر في الزيادة ، وغلب الإمداد في المحبوب ، والمدّ في المكروه وكونه وقتا بعد وقت مفهوم المدّ نفسه يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل :
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وقيل : التنازع مجاز عن التعاطي ، والكأس مؤنث سماعي كالخمر ، ولا تسمى كأسا على المشهور إلا إذا امتلأت خمرا أو كانت قريبة من الامتلاء ، وقد تطلق على الخمر نفسها مجازا لعلاقة المجاورة ، وقال الراغب : الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا ، وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر ، وبعضهم بالخمر ، والاول أوفق بالتجاذب ، والثاني بقوله سبحانه : لا لَغْوٌ فِيها أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام وَلا تَأْثِيمٌ ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لا لغو» «ولا تأثيم» بفتحهما وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي بالكأس غِلْمانٌ لَهُمْ أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقل غلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا ، وقيل : أولادهم الذين سبقوهم فالاختصاص بالولادة لا بالملك ، وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلى الأولاد لا تناسب مقام الامتنان كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون في الصدف لم تنله الأيدي - كما قال ابن جبير - ووجه الشبه البياض والصفاء ، وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزن إلا الحسن الغالي الثمن ،
أخرج عبد الرزاق ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : «بلغني أنه قيل : يا رسول اللّه هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
«والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»
وروي «أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيء ألف ببابه لبيك لبيك».
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون كل بعض سائلا ومسؤولا لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضا آخر معينا ثم هذا التساؤل في الجنة كما هو الظاهر. وحكى الطبري عن ابن عباس أنه إذا بعثوا في النفخة الثانية ولا أراه يصح عنه لبعده جدا قالُوا أي المسئولون وهم كل واحد منهم في الحقيقة إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي قبل هذا الحال فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أرقاء القلوب خائفين من عصيان اللّه عز وجل معتنين بطاعته سبحانه ، أو وجلين من العاقبة ، وفِي أَهْلِنا قيل : يحتمل أنه كناية عن كون ذلك في الدنيا ، ويحتمل أن يكون بيانا لكون إشفاقهم كان فيهم وفي أهلهم لتبعيتهم لهم في العادة ويكون قوله تعالى : فَمَنَّ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 36
اللَّهُ عَلَيْنا
أي بالرحمة والتوفيق وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أي عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وهو الريح الحارة المعروفة ، ووجه الشبه وإن كان في النار أقوى لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف فلذا جعل مشبها به ، وقال الحسن : السَّمُومِ اسم من أسماء جهنم عاما لهم ولأهلهم ، فالمراد بيان ما منّ اللّه تعالى به عليهم من اتباع أهلهم لهم ، وقيل : ذكر فِي أَهْلِنا لإثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن ولا أرى فيه بأسا ، نعم كون ذلك لأن السؤال عما اختصوا به من الكرامة دون أهليهم ليست بشيء ، وقيل : لعل الاولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الشفقة على خلق اللّه تعالى كما أن قوله عز وجل : إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إلى آخره إشارة إلى التعظيم لأمر اللّه تعالى وترك العاطف بجعل الثاني بيانا للأول ادعاء للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما للآخر ولا يخفى ما فيه ، والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعداد ما كانوا عليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي المحسن ما يدل عليه اشتقاقه من البر بسائر مواده لأنها ترجع إلى الإحسان - كبرّ في يمينه - أي صدق لأن الصدق إحسان في ذاته ويلزمه الإحسان للغير ، وأبرّ اللّه تعالى حجه أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة ، وأبرّ فلان على أصحابه أي علاهم لأنه غالبا ينشأ عن الإحسان لهم فتفسيره باللطيف كما روي عن ابن عباس ، أو العالي في صفاته ، أو خالق البرّ ، أو الصادق فيما وعد أولياءه كما روي عن ابن جريج بعيد إلا أن يراد بعض ما صدقات ، أو غايات ذلك البر؟ الرَّحِيمُ الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب ، وقرأ أبو حيوة «ووقّانا» بتشديد القاف ، والحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي «أنّه» بفتح الهمزة لتقدير لام الجر التعليلية قبلها أي لأنه فَذَكِّرْ فاثبت
على ما أنت عليه من التذكير بما أنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل.
فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن ، وخص الراغب الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك ، والعرّاف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك ، والمشهور في الكهانة الاستمداد من الجن في الإخبار عن الغيب ، والباء في بِكاهِنٍ مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن وَلا مَجْنُونٍ واختلف في باء بِنِعْمَةِ فقال أبو البقاء : للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن ، أو مجنون ، والتقدير ما أنت كاهن ولا مجنون ملتبسا بنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبسا بنعمة ربه عز وجل ، وقيل : للقسم فنعمة ربك مقسم به ، وجواب القسم ما علم من الكلام وهو - ما أنت بكاهن ولا مجنون - وهذا كما تقول : ما زيد واللّه بقائم وهو بعيد ، والأقرب عندي أن الباء للسببية وهو متعلق بمضمون الكلام ، والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة اللّه تعالى عليك ، وهذا كما تقول ما أنا معسر بحمد اللّه تعالى وإغنائه ، والمراد الرد على قائل ذلك ، وإبطال مقالتهم فيه عليه الصلاة والسلام وإلا فلا امتنان عليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس ، وقيل : الامتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله ، والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم اللّه تعالى أنى يؤفكون ، وممن قال كاهن : شيبة بن ربيعة ، وممن قال مجنون : عقبة بن أبي معيط أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون شاعِرٌ أي هو شاعر نَتَرَبَّصُ أي ننتظر بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي الدهر ، وهو فعول من المنّ بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها ، ومنه حبل منين أي مقطوع ، والريب مصدر رابه إذا
أقلقه أريد به حوادث الدهر وصروفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة ، وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أي نزل ، والمراد بنزوله إهلاكه ، وتفسير المنون بالدهر مروي عن مجاهد وعليه قول الشاعر :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 37
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وبيت أبي ذؤيب
أمن المنون وريبه يتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
قيل : ظاهره ذلك ، وكذلك قول الأعشى :
أإن رأت رجلا أعشى أضرّ به ريب المنون ودهر متبل خبل
ولهذا أنشده الجوهري شاهدا له ، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشترك بين المعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفا : المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه ، وقد يراد به المنية فيؤنث ، وقد روي ريبها ، وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلا تغفل ، وهو أيضا من المنّ بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات ، ولذا قيل : المنية تقطع الأمنية ، وريب المنون عليه نزول المنية ، وجوز أن يكون معنى حادث الموت على أن الإضافة بيانية ، روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه عليه الصلاة والسلام حتى قال قائل منهم وهم بنو عبد الدار - كما قال الضحاك - تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك ما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت ، وقرأ زيد بن علي «يتربّص» بالياء مبنيا للمفعول ، وقرىء «ريب» بالرفع على النيابة.
قُلْ تَرَبَّصُوا تهكم بهم ، وتهديد لهم فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي ، وفيه عدة كريمة بإهلاكهم أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي عقولهم وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى - وذلك على ما قال الجاحظ - لأن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم وبذلك يكمل العقل وهو يكمل بالمسافرة وزيادة رؤية البلاد المختلفة والأماكن المتباينة ومصاحبة ذوي الأخلاق المتفاوتة وقد حصل لهم الغرض بدون مشقة ، وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم اللّه تعالى بالعقل؟! فقال : تلك عقول كادها اللّه عز وجل أي لم يصحبها التوفيق فلذا لم يؤمنوا وكفروا - وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم - ولعلها تدل على ضد ذلك بِهذا التناقص في المقال فإن الكاهن والشاعر يكونان ذا عقل تام وفطنة وقادة والمجنون مغطى عقله مختل فكره وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيص بيص حتى اضطربت عقولهم وتناقضت أقوالهم وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون ، وأمر الأحلام بذلك مجاز عن التأدية إليه بعلاقة السببية كما قيل ، وقيل : جعلت الأحلام آمرة على الاستعارة المكنية فتشبه الأحلام بسلطان مطاع تشبيها مضمرا في النفس ، وتثبت له الأمر على طريق التخييل أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد لا يحومون حول الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب المحصنة الخارجة عن دائرة العقول ، وقرأ مجاهد «بل هم» أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلقه من تلقاء نفسه.
وقال ابن عطية : معناه قال عن الغير إنه قاله فهو عبارة عن كذب مخصوص ، وضمير المفعول للقرآن بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل كيف لا وما رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلا واحد من العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى إِنْ كانُوا صادِقِينَ فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار ، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر ، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ولا ريب في أن القدرة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 38
على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك ، فالكلام ردّ للأقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة والسلام ، والقرآن بالتحدي فإذا تحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدّعى ، وجوز أن يكون ردّا لزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فسادا منه ومع ذلك إذا ظهر فساد زعم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم ، وقرأ الجحدري ، وأبو السمال بحديث مثله على الاضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم في كونه أميا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحدا منهم فلا يعوز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبدا أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالق ، وقال الطبري : المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات ، وقيل : المعنى أم خلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون ، ومِنْ عليه للسببية ، وعلى ما تقدم لابتداء الغاية والمعول عليه من الأقوال ما قدمنا ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى زيادة إيضاح له ، ويؤيده قوله سبحانه : أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون اللّه عز وجل ولا يلتفتون إلى رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم إذ على القولين لا يظهر حسن المقابلة ، وإرادة خلقوا أنفسهم يشعر به قوله تعالى :
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الطور : 36] إذ لو أريد العموم لعدم ذكر المفعول لم يظهر حسن المقابلة أيضا ، وقال ابن عطية : المراد أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمهما وشرفهما في المخلوقات وفيه ما سمعته بَلْ لا يُوقِنُونَ أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا : اللّه وهم غير موقنين بما قالوا إذ لو كانوا موقنين لما أعرضوا عن عبادته تعالى فإن من عرف خالقه وأيقن به امتثل وانقاد له أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أي خزائن رزقه تعالى ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا ، ويمسكوها عمن شاؤوا ، وقال الرماني : خزائنه تعالى مقدوراته سبحانه ، وقال ابن عطية : المعنى أم عندهم الاستغناء عن اللّه تعالى في جميع الأمور لأن المال والصحة والعزة وغير ذلك من الأشياء من خزائن اللّه تعالى ، وقال الزهري : يريد بالخزائن العلم واستحسنه أبو حيان ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يعلم حاله منه أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم فالمسيطر الغالب ، وفي معناه قول ابن عباس :
المسلط القاهر وهو من سيطر على كذا إذا راقبه وأقام عليه وليس مصغرا كما يتوهم ولم يأت على هذه الزنة إلا خمسة ألفاظ أربعة من الصفات ، وهي مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر ، وواحد من الأسماء وهو مجيمر اسم جبل ، وقرأ الأكثر الْمُصَيْطِرُونَ بالصاد لمكان حرف الاستعلاء وهو الطاء ، وأشم خلف عن حمزة وخلاد عنه بخلاف الزاي أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالا والظرفية على حقيقتها ، وقيل : هو متعلق - بيستمعون - على تضمينه معنى الصعود.
وقال أبو حيان : أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسدّ بعضها مسدّ بعض ومفعول يَسْتَمِعُونَ محذوف أي كلام اللّه تعالى ، قيل : ولو نزل منزلة اللازم جاز فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة واضحة تصدق استماعه أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ تسفيه لهم وتركيك لعقولهم ، وفيه إيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعدّ من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت وسماع كلام ذي العزة والجبروت والالتفات إلى الخطاب لتشديد الإنكار والتوبيخ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي على تبليغ الرسالة وهو رجوع إلى خطابه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وإعراض عنهم فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ مصدر ميمي

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 39
من الغرم والغرامة وهو - كما قال الراغب - ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه ، فالكلام بتقدير مضاف أي من التزام مغرم ، وفسره الزمخشري بالتزام الإنسان ما ليس عليه فلا حاجة إلى تقدير - لكن الذي تقتضيه اللغة هو الأول - مُثْقَلُونَ أي محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ويخبرون به الناس - قاله ابن عباس - وقال ابن عطية : أم عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما يزعمون للناس شرعا ، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم ، وقال قتادة : أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فهم يعلمون متى يموت محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم الذي يتربصون به ، وفسر بعضهم يَكْتُبُونَ بيحكمون أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً بك وبشرعك وهو ما كان منهم في حقه صلّى اللّه عليه وسلم بدار الندوة مما هو معلوم من السير ، وهذا من الإخبار بالغيب فإن قصة دار الندوة وقعت في وقت الهجرة وكان نزول السورة قبلها كما تدل عليه الآثار فَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المذكورون المريدون كيده عليه الصلاة والسلام ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به ، وجوز أن يراد جميع الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي الذين يحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه وكان وباله في حق أولئك قتلهم يوم بدر في السنة الخامسة عشر من النبوة قيل : ولذا وقعت كلمة أَمْ مكررة هنا خمس عشرة مرة للإشارة لما ذكر ، ومثله على ما قال الشهاب : لا يستبعد من المعجزات القرآنية وإن كان الانتقال لمثله خفي ومناسبته أخفى ، وجوز أن يكون المعنى هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم ويحرسهم من عذابه عز وجل.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية ، أو عن شركة الذي يشركونه على أنها موصولة وقبلها مضاف مقدر والعائد محذوف وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة فهو مفرد وقد قرىء في جميع القرآن كسفا وكسفا جمعا وإفرادا إلا هنا فإنه على الإفراد وحده ، وتنوينه للتفخيم أي وإن يروا كسفا عظيما مِنَ السَّماءِ ساقِطاً لتعذيبهم يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم سَحابٌ أي هو سحاب مَرْكُومٌ متراكم ملقى بعضه على بعض أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطنا عليهم حسبما قالوا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا لقالوا هو سحاب متراكم يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط لعذابهم فَذَرْهُمْ فدعهم غير مكترث بهم وهو على ما في البحر أمر موادعة منسوخ بآية السيف حَتَّى يُلاقُوا وقرأ أبو حيوة يلقوا مضارع لقى يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ على البناء للمفعول وهي قراءة عاصم وابن عامر وزيد بن علي وأهل مكة في قول شبل بن عباد : من صعقته الصاعقة ، أو من أصعقته ، وقرأ الجمهور وأهل مكة في قول إسماعيل : يصعقون بفتح الياء والعين ، والسلمي بضم الياء وكسر العين من أصعق رباعيا والمراد بذلك اليوم يوم بدر ، وقيل : وقت النفخة الأولى فإنه يصعق فيه من في السماوات ومن في الأرض ، وتعقب بأنه لا يصعق فيه إلا من كان حيا حينئذ وهؤلاء ليسوا كذلك وبأن قوله تعالى : يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي شيئا من الإغناء بدل من يومهم ، ولا يخفى أن التعرّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له طمعا بالانتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في أمره صلى اللّه تعالى عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر ، وأما النفخة الأولى فليست مما يجرى في مدافعته الكيد والحيل ، وأجيب عن الأول بمنع اختصاص الصعق بالحي فالموتى أيضا يصعقون وهم داخلون في عموم «من» وإن لم يكن صعقهم مثل صعق الأحياء من كل وجه وهو
خلاف الظاهر فيحتاج إلى نقل صحيح ، عن الثاني بأن الكلام على نهج قوله :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 40
على لا حب لا يهتدى بمناره فالمعنى يوم لا يكون لهم كيد ولا إغناء وهو كثير في القرآن وباب من أبواب البلاغة والإحسان ، وقيل : هو يوم القيامة - وعليه الجمهور - وفيه بحث ، وقيل : هو يوم موتهم ، وتعقب بأن فيه ما فيه مع أنه تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم فلا تغفل وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من جهة الغير في دفع العذاب عنهم وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر قبل وجوز العموم وهم داخلون دخولا أوليا عَذاباً آخر دُونَ ذلِكَ دون ما لا قوه من القتل أي قبله وهو - كما قال مجاهد - القحط الذي أصابهم سبع سنين.
وعن ابن عباس هو ما كان عليهم يوم بدر والفتح ، وفسر دُونَ ذلِكَ بقبل يوم القيامة بناء على كون يومهم الذي فيه يصعقون ذلك ، وعنه أيضا. وعن البراء بن عازب أنه عذاب القبر وهو مبني على نحو ذلك التفسير ، وذهب إليه بعضهم بناء على أن دُونَ ذلِكَ بمعنى وراء ذلك كما في قوله :
يريك القذى من دونها وهو دونها وإذا فسر اليوم بيوم القيامة ونحوه ، ودُونَ ذلِكَ بقبله ، وأريد العموم من الموصول فهذا العذاب عذاب القبر ، أو المصائب الدنيوية ، وفي مصحف عبد اللّه - دون ذلك تقريبا - وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن الأمر كما ذكر ، وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا ، أو لا يعملون شيئا.
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي في حفظنا وحراستنا ، فالعين مجاز عن الحفظ ، ويتجوز بها أيضا عن الحافظ وهو مجاز مشهور ، وفي الكشاف هو مثل أي بحيث نراك ونكلؤك ، وجمع العين هنا لإضافته إلى ضمير الجمع ووحد في «طه» لإضافته إلى ضمير الواحد ، ولوح الزمخشري - في سورة المؤمنين - إلى أن فائدة الجمع الدلالة على المبالغة في الحفظ كأن معه من اللّه تعالى حفاظا يكلؤونه بأعينهم ، وقال العلامة الطيبي : إنه أفرد هنالك لإفراد الفعل وهو كلاءة موسى عليه السلام ، وهاهنا لما كان لتصبير الحبيب على المكايد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عز وجل انتهى ، ومن نظر بعين بصيرته علم من الآيتين الفرق بين الحبيب والكليم عليهما أفضل الصلاة وأكمل التسليم ، ثم إن الكلام في نظير هذا على مذهب السلف مشهور ، وقرأ أبو السمال «بأعينّا» بنون مشددة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي قل سبحان اللّه ملتبسا بحمده تعالى على نعمائه الفائتة الحصر ، والمراد سبحه تعالى واحمده حِينَ تَقُومُ من كل مجلس قاله عطاء ومجاهد وابن جبير ، وقد صح من رواية أبي داود والنسائي وغيرهما عن أبي برزة الأسلمي «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس :
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فسئل عن ذلك فقال : كفارة لما يكون في المجلس»
والآثار في ذلك كثيرة ، وقيل : حين تقوم إلى الصلاة ، أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال : «حق على كل مسلم حين يقوم إلى الصلاة أن يقول : سبحان اللّه وبحمده لأن اللّه تعالى يقول لنبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك أنه قال في الآية :
حين تقوم إلى صلاة تقول هؤلاء الكلمات «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» وحكاه في البحر عن ابن عباس وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال : «سبح بحمد ربك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة» وروي نحوه عن ابن السائب ، وقال زيد أسلم : «حين تقوم من القائلة والتسبيح إذ ذاك هو صلاة الظهر» وقوله تعالى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 41
يلوح به تقديمه على الفعل وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح ، وقيل :
التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء ، وَإِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر ، وعن عمر رضي اللّه تعالى عنه وعلي كرم اللّه تعالى وجهه وأبي هريرة والحسن رضي اللّه تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل : وإِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر ، وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب - أدبار - بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقد أي في أعقابها إذا غربت ، أو خفيت بشعاع الشمس.
هذا ونظم الآيات من قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطور : 30] إلى قوله سبحانه : أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ إلخ فيه غرابة ولم أر أحدا كشف عن لثامه كصاحب الكشف جزاه اللّه تعالى خيرا ، ولغاية حسنه - وكونه مما لا مزيد عليه - أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار ما ، فأقول : قال : أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى :
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الأنبياء : 5] : أحدهما أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه ، والثاني أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه ، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاء لتكذيبهم بالمنبئ والنبأ والمنبأ به ، فالمتعين هو الثاني ، ووجهه - واللّه تعالى أعلم - أن قوله : فَذَكِّرْ معناه إذ ثبت كون العذاب واقعا وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم ، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان ، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفا في هذه الدار ، ومنزلة ورفعة في دار القرار ، ومن قوله تعالى : فَما أَنْتَ إلى قوله سبحانه : هُمُ الْمَكِيدُونَ تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من اللّه تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم ، وفيه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم من اللّه تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شدّ من عضد التسلي ، وقوله سبحانه : فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ [الطور : 29] إلخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين ، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولا على فساد آرائهم ويجعله دستورا في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأيا وأرجحهم عقلا وأبينهم آيا منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشدّ عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماما متبعا عندهم فأين الكهانة من الجنون ، ثم ترقى مضربا إلى قولهم فيه وحاشاه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقديما قيل :
أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم ، وقوله تعالى : قُلْ تَرَبَّصُوا [الطور : 31] من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد ، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولا تلويحا بقوله تعالى : بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وثانيا تصريحا بقوله جل وعلا. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ [الطور : 32] كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة ، ثم قيل : لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على اللّه عز وجل فقد باء بغضبه ، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراء وعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر - في الأحقاف - ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته ، ثم قد يكون شعره حكما ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار ، والتدرج عن الشعر هاهنا عكس التدرج اليه في الأنبياء لأن بناء الكلام هاهنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته ، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل : إن افتراءه لا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 42
يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءات كثيرة ، وأين هذا من ذاك؟ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الاضراب في الردّ فقيل : بَلْ لا يُؤْمِنُونَ [الطور : 33] وعقب بقوله تعالى : فَلْيَأْتُوا [الطور : 34] ثم من لا يؤمن أشد إنكارا له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر ، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما ، ثم الشعر ، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا ، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة ، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فهو ينسبه إلى الافتراء حيث لم يرسله ، ثم أضرب صريحا عنه بقوله تعالى : بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور : 36] ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بمازن ، فكأنه قيل : مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه
لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارا لتماديهم في العناد ، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفتريا غير صالح للنبوة في زعمهم ، فالأول لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث إن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته ، والثاني يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريا البتة ، وأدمج فيه إنكارهم للمعاد ، ونسبتهم إياه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في ذلك أيضا خاصة إلى الافتراء ، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ [الطور : 41] إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء اللّه تعالى كان هذا القول أيضا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى : أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور : 37] من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبيّن فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل : لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم ، وقيل : أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ [الطور : 38] وذيل بقوله تعالى : أَمْ لَهُ الْبَناتُ [الطور :
39] إشعارا بأنه من جعل خالقه أدون حالا منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقيل : ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما ، ثم قيل : أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً [الطور :
40] أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرا مالا ، أو جاها ، أو ذكرا ، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث ، ثم قيل أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ على معنى بل أعندهم اللوح فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب ، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضا إدماجا عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى : أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز إلى الأخير : ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاء لحق الإعجاز ، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضا لأن العلم أشمل موردا من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث إنهم لم يرسلوه ، وهذا من تلك الحيثية ، ومن حيث إنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضا مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصدا أوليا ، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الأخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدا فهم ينصبون لك الحبائل قولا وفعلا لا يقفون على هذا المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولا وفعلا وحجة وسيفا ، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه : أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ فينجيهم من كيده وعذابه لا واللّه سبحان اللّه عن أن يكون إله غيره ، ومنه يظهر أن حمل الذين كفروا على المريدين به كيدا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 43
أظهر في هذا المساق انتهى ، وكأن ما بعد تأكيدا لأمر «1» طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية ، ويعلم مما ذكره - لا زالت رحمة اللّه تعالى عليه متصلة - أن أَمْ في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية ، والإضراب هاهنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء وكثير من المفسرين ، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام ، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام واللّه تعالى أعلم.
ومما ذكروه من باب الاشارة في بعض الآيات وَالطُّورِ إشارة إلى قالب الإنسان وَكِتابٍ مَسْطُورٍ إشارة إلى سره فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ إشارة إلى قلبه وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إشارة إلى روحه وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ إشارة إلى صفته وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر ، وقيل : - الطور - إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك - والكتاب المسطور في الرق المنشور - إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائف الآفاق وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إشارة إلى بحر القدرة المملوء من أنواع المقدورات التي لا تتناهى ، وقيل : إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون ، ووصفه - بالمسجور - إما لأنه مملوء منهم ، وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى اللّه عز وجل ، وقيل : غير ذلك فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي يخوضون في غمرات البحر اللجى الدنيوي ويلعبون فيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الأكدار المتحلين بالأنوار إذ أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وهو عذاب الحجاب كُلُوا من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية وَاشْرَبُوا من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي مقام العبودية وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي عند نزول السكينة عليك وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي عند ظهور نور شمس الوجه ، وتسبيحة سبحانه عند
ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا اللّه تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
___________
(1) هكذا الأصل وصوابه «تأكيد لأمر طغيانهم» برفع تأكيد.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 44
سورة النجم
وتسمى أيضا سورة - النجم - بدون واو وهي «مكية» على الإطلاق ، وفي الإتقان استثنى منها الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ إلى اتَّقى [النجم : 32] ، وقيل : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النجم : 33] الآيات التسع ، ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنها مدنية. ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا ، وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي ، وإحدى وستون في غيره ، وهي كما
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون
، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه قال : «أول سورة أنزلت فيها سجدة «والنجم» فسجد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا»
وهو أمية بن خلف ، وفي البحر أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال : يكفي هذا
،
فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك ، وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى : إِدْبارَ النُّجُومِ [الطور : 49] وافتتحت هذه بقوله سبحانه : «والنجم» وأيضا في مفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون ، وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين : إن محمدا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن ، وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم : 32] الآية
فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحارث الأنصاري «قال : كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها اللّه في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل اللّه تعالى عند ذلك هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية كلها»
وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين : أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور : 21] إلخ قال سبحانه هنا في الكفار ، أو في الكبار : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم : 39] خلاف ما دخل في المؤمنين الصغار ، ثم قال : وهذا وجه بديع في المناسبة من وادي التضاد ، وفي صحة كون قوله تعالى : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية نزل لما ذكر نظر عندي ، وكون قوله تعالى أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد ، نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل.
[سورة النجم (53) : الآيات 1 إلى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 45
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى أقسم سبحانه بجنس النجم المعروف على ما روي عن الحسن ومعمر بن المثنى ، ومنه قوله :
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
ومعنى هَوى غرب ، وقيل : طلع يقال هوى يهوي كرمى يرمي هويا بالفتح في السقوط والغروب لمشابهته له وهويا بالضم للعلو ، والطلوع ، وقيل : الهوى بالفتح للإصعاد والهوى بالضم للانحدار وقيل : الهوى بالفتح والضم للسقوط ويقال أهوى بمعنى هوى ، وفرق بعض اللغويين بينهما بأن هوى إذا انقض لغير صيد ، وأهوى إذا انقض له ، وقال الحسن وأبو حمزة الثمالي : أقسم سبحانه بالنجوم إذا انتثرت في القيامة ، وعن ابن عباس في رواية أقسم عز وجل بالنجوم إذا انقضت في إثر الشياطين ، وقيل : المراد بالنجم معين فقال مجاهد وسفيان : هو الثريا فإن النجم صار علما بالغلبة لها ، ومنه قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إذا طلع النجم صباحا ارتفعت العاهة»
وقول العرب : - طلع النجم عشاء فابتغى الراعي كساء ، طلع النجم غدية فابتغى الراعي كسية - وفسر هويها بسقوطها مع الفجر ، وقيل : هو الشعرى المرادة بقوله تعالى : وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [النجم : 49] والكهان يتكلمون على المغيبات عند طلوعها ، وقيل : الزهرة وكانت تعبد ، وقال ابن عباس ومجاهد والفراء ومنذر بن سعيد : النَّجْمِ المقدار النازل من القرآن على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وإِذا هَوى بمعنى إذا نزل عليه مع ملك الوحي جبريل عليه السلام ، وقال جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه : هو النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج
، وجوز على هذا أن يراد بهويه صعوده وعروجه عليه الصلاة والسلام إلى منقطع الأين ، وقيل : هو الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، وقيل : العلماء على إرادة الجنس ، والمراد بهويهم قيل : عروجهم في معارج التوفيق إلى حظائر التحقيق. وقيل :
غوصهم في بحار الافكار لاستخراج درر الأسرار. وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف بأن أصله اسم جنس لكل كوكب ، وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا ، ووراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن ، وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبه الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه ، أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل : وَالنَّجْمِ الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة فهو استعارة وتمثيل لكونه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أقواله وأفعاله وَما غَوى أي وما اعتقد باطلا قط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على ما ضَلَّ من عطف الخاص على العام اعتناء بالاعتقاد ، وإشارة إلى أنه المدار.
وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل :
وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين ما ضَلَّ عنها محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وَما غَوى فهو من باب :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 46
وثناياك إنها إغريض والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان المصاحبة لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبرا ببراءته صلى اللّه تعالى عليه وسلم مما نفي عنه بالكلية وباتصافه عليه الصلاة والسلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتما ففي ذلك تأكيد لإقامة الحجة عليهم ، واختلف في متعلق إذا قال بعضهم : فاوضت جار اللّه في قوله تعالى : وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فقال : العامل فيه ما تعلق به الواو فقلت : كيف يعمل فعل الحال في المستقبل؟! وهذا لأن معناه أقسم الآن لا أقسم بعد هذا ، فرجع وقال : العامل فيه مصدر محذوف ، والتقدير - وهوى النجم إذا هوى - فعرضته على بعض المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني ، والوجه تعلقه بأقسم وهو قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ونحوه آتيك إذا احمر البسر أي وقت احمراره ، وقال عبد القاهر : إخبار اللّه تعالى بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع إذا لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى المحقق الماضي ، وقيل : إنه متعلق بعامل هو حال من النجم ، وأورد عليه أن الزمان لا يكون خبرا ولا حالا عن جثة كما هنا ، وأن إِذا للمستقبل فكيف يكون حالا إلا أن تكون حالا مقدرة أو تجرد إِذا لمطلق الوقت كما يقال بصحية الحالية إذا أفادت معنى معتدا به ، فمجيء الزمان خبرا أو حالا عن جثة ليس ممنوعا على الإطلاق كما ذكره النحاة ، أو النجم لتغيره طلوعا وغروبا أشبه الحدث ، والإنصاف أن جعله حالا كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه ، وإنما الوجه ، - على ما قيل - ما سمعت من تعلقه بأقسم منسلخا عنه معنى الاستقبال وهو الذي اختاره في المغني ، وتخصيص القسم بوقت الهوي ظاهر على الأخير من الأقوال الثلاثة ، وأما على الأولين فقيل : لأن النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا
الشمال من الجنوب ، وإنما يهتدي به عند هبوطه ، أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من التدلي والدنو ، وقيل : لدلالته على حدوثه الدال على الصانع وعظيم قدرته عز وجل كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام : 76] وسيأتي إن شاء اللّه تعالى آخر الكتاب تمام الكلام في تحقيق إعراب مثل هذا التركيب فلا تغفل وَما يَنْطِقُ أي النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله سبحانه :
صاحِبُكُمْ والنطق مضمن معنى الصدور فلذا عدي بعن في قوله تعالى : عَنِ الْهَوى وقيل : هي بمعنى الباء وليس بذاك أي ما يصدر نطقه فيما آتاكم به من جهته عز وجل كالقرآن ، أو من القرآن عن هوى نفسه ورأيه أصلا فإن المراد استمرار النفي كما مر مرارا في نظائره إِنْ هُوَ أي ما الذي ينطق به من ذلك أو القرآن وكل ذلك مفهوم من السياق إِلَّا وَحْيٌ من اللّه عز وجل يُوحى يوحيه سبحانه إليه ، والجملة صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي ، وقيل : ضمير يَنْطِقُ للقرآن فالآية كقوله تعالى : هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية : 29] وهو خلاف الظاهر ، وقيل : المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة والسلام مطلقا عن هوى وهو عائد لما ينطق به مطلقا أيضا.
واحتج بالآية على هذا التفسير من لم ير الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم ، ووجه الاحتجاج أن اللّه تعالى أخبر بأن جميع ما ينطق به وحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مما ينطق ، وأجيب بأن اللّه تعالى إذا سوغ له عليه الصلاة والسلام الاجتهاد كان الاجتهاد وما يسند إليه وحيا لا نطقا عن الهوى ، وحاصله منع كبر القياس ، واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي يستنبطها المجتهدون بالقياس وحيا ، وأجيب بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوحى إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين ، وقال القاضي البيضاوي : إنه حينئذ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 47
بالوحي لا وحي ، وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول اللّه تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي فيكون وحيا حقيقة ، والظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديث القدسية والاستدلال بها على أنه عليه الصلاة والسلام غير متعبد بالوحي محوج لارتكاب خلاف الظاهر وتكلف في دفع نظر البيضاوي عليه الرحمة كما لا يخفى على المنصف ، ولا يبعد عندي أن يحمل قوله تعالى : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى على العموم فإن من يرى الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كالإمام أحمد وأبي يوسف عليهما الرحمة لا يقول بأن ما ينطق به صلى اللّه عليه وسلم مما أدى إليه اجتهاده صادر عن هوى النفس وشهوتها حاشا حضرة الرسالة عن ذلك وإنما يقول هو واسطة بين ذلك وبين الوحي ويجعل الضمير في قوله سبحانه : إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ للقرآن على أن الكلام جواب سؤال مقدر كأنه قيل : إذا كان شأنه عليه الصلاة والسلام أنه ما ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف فيه ما عليه قومه استمال به قلوب كثير من الناس وكثرت فيه الأقاويل؟ فقيل : ما هو إلا وحي يوحيه اللّه عز وجل إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فتأمل ، وفي الكشف أن في قوله تعالى : ما يَنْطِقُ مضارعا مع قوله سبحانه : ما ضَلَّ وَما غَوى ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام حيث لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ تميز وقبل تحنكه واستنبائه لم يكن له نطق عن الهوى كيف وقد تحنك ونبىء ، وفيه حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم عَلَّمَهُ الضمير للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمفعول الثاني محذوف أي القرآن ، أو الوحي ، وجوز أبو حيان كون الضمير للقرآن ، وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة والسلام شَدِيدُ الْقُوى هو جبريل عليه السلام كما قال ابن عباس وقتادة والربيع -
فإنه الواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف ، فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ما قرروه في الحكمة الجديدة ذُو مِرَّةٍ ذو حصافة واستحكام في العقل كما قال بعضهم ، فكأن الأول وصف بقوّة الفعل ، وهذا وصف بقوّة النظر والعقل لكن قيل : إن ذاك بيان لما وضع له اللفظ فإن العرب تقول لكل قوي العقل والرأي ذُو مِرَّةٍ من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله وإلا فوصف الملك بمثله غير ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البديعة ، وعن سعيد بن المسيب ذو حكمة لأن كلام الحكماء متين ، وروي الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال : ذو شدة في أمر اللّه عز وجل واستشهد له ، وحكى الطيبي عنه أنه قال : ذو منظر حسن واستصوبه الطبري ، وفي معناه قول مجاهد ذو خلق حسن : وهو في
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى»
بمعنى ذي قوة ، وفي الكشف إن المرّة لأنها في الأصل تدل على المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل فَاسْتَوى أي فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه اللّه تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادئ النبوة وكان له عليه الصلاة والسلام - كما في حديث أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وجماعة عن ابن مسعود - ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق فالاستواء هاهنا بمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب ، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الاعوجاج ، ومنه استوى الثمر إذا نضج ، وفي كلام على ما قال الخفاجي : طي لأن وصفه عليه السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل :
فهل رآه على صورته الحقيقية؟ فقيل : نعم رآه فاستوى إلخ ، وفي الإرشاد أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى : ما أَوْحى
بيان لكيفية التعليم ، وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر ، ومن هنا قيل : إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطفة على عَلَّمَهُ على معنى

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 48
علمه على غير صورته الأصلية ، ثم استوى على صورته الأصلية وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ويحسن به النظام ، وقيل : استوى بمعنى ارتفع والعطف على علم ، والمعنى ارتفع إلى السماء بعد أن علمه وأكثر الآثار تقتضي ما تقدم.
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر ، وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله ، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن : هو أفق المشرق ، والجملة في موضع الحال من فاعل استوى ، وقال الفراء والطبري : إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبرائيل عليه السلام ، وجوز العكس ، والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل ، وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين ثُمَّ دَنا أي ثم قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فَتَدَلَّى فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة والسلام في الهواء ، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير. والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتار عسل :
تدلى عليها بين سب وخيطة بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها
ومن أسجاع ابنة الخس - كن حذرا كالقرلى إن رأى خيرا تدلى ، وإن رأى شرا تولى - فالمراد بالتدلي دنو خاص فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو كما في الإيضاح ، نعم إن جعل بمعنى التنزل من علو كما يرشد إليه الاشتقاق كان له وجه فَكانَ أي جبريل عليه السلام من النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قابَ قَوْسَيْنِ أي من قسي العرب لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم ، والقاب ، وكذا القيب والقاد والقيد ، والقيس المقدار ، وقرأ زيد بن علي قاد ، وقرىء قيد وقدر ، وقد جاء التقدير بالقوس كالرمح والذراع وغيرهما ، ويقال على ما بين مقبض القوس وسيتها ، وهي ما عطف من طرفيها فلكل قوس قابان ، وفسر به هنا قيل : وفي الكلام عليه قلب أي فكان قابي قوس ، وفي الكشف لك أن تقول قابا قوس وقاب قوسين واحد دون قلب ، وعن مجاهد والحسن أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها ولا حاجة إلى القلب عليه أيضا فإن هذا على ما قال الخفاجي : إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا فإنهم كانوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى فيكون القاب ملاصقا للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهم رضا الآخر وسخطه سخطه لا يمكن خلافه ، وعن ابن عباس القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال وإليه ذهب أبو رزين ، وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز ، وأيا ما كان فالمعنى على حذف مضاف - أي فكان ذا قاب قوسين - ونحوه قوله :
فأدرك إبقاء العرادة ظلعها وقد جعلتني من خزيمة أصبعا
فإنه على معنى ذا مقدار أصبع وهو القرب فكأنه قيل فكان قريبا منه ، وجوز أن يكون ضمير كان للمسافة بتأويلها بالبعد ونحوه فلا حاجة إلى اعتبار الحذف وليس بذاك أَوْ أَدْنى أي أو أقرب من ذلك ، وأَوْ للشك من جهة العباد على معنى إذا رآه الرائي يقول : هو قاب قوسين أو أدنى ، والمراد إفادة شدة القرب فَأَوْحى
أي جبريل عليه السلام إِلى عَبْدِهِ
أي عبد اللّه وهو النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، والإضمار ولم يجر له تعالى ذكر لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام ، ومنه وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر : 45] وقوله سبحانه : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر : 1] ما أَوْحى
أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه السلام أيضا ، وإبهام الموحى به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى : فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه : 78] وقال أبو زيد : الضمير المستتر للّه عز وجل أي أوحى جبريل إلى عبد اللّه ما أوحاه اللّه إلى جبريل ، والأول مروي عن الحسن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 49
وهو الأحسن ، وقيل : ضمير (أوحى) الأول والثاني للّه تعالى والمراد بالعبد جبريل عليه السلام وهو كما ترى ما كَذَبَ الْفُؤادُ أي فؤاد محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما رَأى ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما رآه ببصره لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره فهو من قولهم كذب إذا قال كذبا فما كذب بمعنى ما قال الكذب ، وقيل : أي ما كَذَبَ الْفُؤادُ البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه السلام وما في عالم الملكوت تدرك أولا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر. قرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر ما كَذَبَ مشددا أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته ، وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها ، وفي الكشف أنه لما قال سبحانه : إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أي من عند اللّه تعالى يُوحى ذكر جل وعلا ما يصور هذا المعنى ويفصله ليتأكد أنه وحي وأنه ليس من الشعر وحديث الكهان في شيء فقال تعالى علم صاحبكم هذا الوحي من هو على هذه الصفات ، وقوله تعالى :
فَاسْتَوى وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يشتبه عليه بوجه ، وقوله تعالى : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة والسلام وإتيانه بالمنزل ، وقوله سبحانه : فَأَوْحى
أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند اللّه تعالى إلى عبد اللّه وإنما قال سبحانه : - ما أوحى - ولم يأت بالضمير تفخيما لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن ، وإيثار عبده بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الاختصاص وإيثار الضمير على الاسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبدا إلا له عز وجل فلا لبس لشهرته بأنه عبد اللّه لا غير ، وجاز أن يكون التقدير فأوحى اللّه تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضا سديد ، ثم قال سبحانه : ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولو تصور بغير تلك الصورة إنه جبريل ، فهذا نظم سري مرعي فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى.
وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنه وسيأتي ذلك إن شاء اللّه عز وجل بما له وعليه أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة فتمارونه عطف على محذوف على ما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدرّ به فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج درّه.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وعبد اللّه وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي وخلف «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال : مريته حقه إذا جحدته ، وأنشدوا لذلك قول الشاعر :
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكا
أو مضارع مريته إذا غلبته في المراء على أنه من باب المغالبة ، ويجوز حمل ما في البيت عليه وعدي الفعل بعلى وكان حقه أن يعدى بفي لتضمينه معنى المغالبة فإن المجادل والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم ، وقرأ عبد اللّه فيما حكى ابن خالويه والشعبي فيما ذكر شعبة «أفتمرونه» بضم التاء وسكون الميم مضارع أمريت قال أبو حاتم :
وهو غلط ، والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه السلام ، وعبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لما فيها من الغرابة ، وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد ، وقيل : المراد

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 50
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى من الصور التي يظهر بها جبريل عليه السلام بعد ما رآه قبل وحققه بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فالتعبير بالمضارع على ظاهره وَلَقَدْ رَآهُ أي رأى النبي جبريل صلّى اللّه عليه وسلم في صورته التي خلقه اللّه تعالى عليها نَزْلَةً أُخْرى أي مرة أخرى من النزول وهي فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصب نصبها على الظرفية لأن أصل المرة مصدر مرّ يمر ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه ولم يقل مرة بدلها ليفيد أن الرؤية في هذه المرة كانت بنزول ودنو كالرؤية في المرة الأولى الدال عليها ما مر ، وقال الحوفي وابن عطية : إن نزلة منصوب على المصدرية للحال المقدرة أي نازلا نزلة ، وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على المصدرية - لرأى - من معناه أي رؤية أخرى وفيه نظر ، والمراد من الجملة القسمية نفي الريبة والشك عن المرة الأخيرة وكانت ليلة الإسراء عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى هي شجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعة على المشهور ، وفي حديث أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم في السماء السادسة نبقها كقلال هجر وأوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها ، وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه تعالى عنهما مرفوعا «يسير الراكب في الفنن منها مائة سنة»
والأحاديث ظاهرة في أنها شجرة نبق حقيقية.
والنبات في الشاهد يكون ترابيا ومائيا وهوائيا ولا يبعد من اللّه تعالى أن يخلقه في أي مكان شاء وقد أخبر سبحانه عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصل الجحيم ، ويقيل : إطلاق السدرة عليها مجاز لأنها تجتمع عندها الملائكة عليهم السلام كما يجتمع الناس في ظل السدرة ، والْمُنْتَهى اسم مكان وجوز كونه مصدرا ميميا ، وقيل : لها سِدْرَةِ الْمُنْتَهى لأنها كما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس إليها ينتهي علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا اللّه تعالى ، أو لأنها ينتهي إليها علم الأنبياء عليهم السلام ويعزب علمهم عما وراءها. أو لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأن تعرض على اللّه تعالى عندها أو لأنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها. أو لأنها تنتهي إليها أرواح الشهداء أو أرواح المؤمنين مطلقا.
أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة ، وفي الكشاف كأنها منتهى الجنة وآخرها ، وإضافة سِدْرَةِ إلى الْمُنْتَهى من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان ، وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك كتاب الفقه ، وقيل : يجوز أن يكون المراد بالمنتهى اللّه عز وجل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي سِدْرَةِ اللّه الذي إليه الْمُنْتَهى كما قال سبحانه : وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم : 42] وعد ذلك من باب الحذف والإيصال ولا يخفى أن هذا القول يكاد يكون المنتهى في البعد عِنْدَها أي عند السدرة ، وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهو نازل عن رتبة القبول جَنَّةُ الْمَأْوى التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة كما روي عن الحسن ، واستدل به على أن الجنة في السماء ، وقال ابن عباس بخلاف عنه وقتادة : هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وليست بالتي وعد المتقون ، وقيل : هي جنة تأوي إليها الملائكة عليهم السلام والأول أظهر ، والمأوى على ما نص عليه الجمهور اسم مكان وإضافة الجنة إليه بيانية ، وقيل : من إضافة الموصوف إلى الصفة كما في مسجد الجامع ، وتعقب بأن اسم المكان لا يوصف به ، والجملة حالية ، وقيل : الحال هو الظرف ، وجَنَّةُ مرتفع به على الفاعلية ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة : «جنه» بهاء الضمير وهو ضمير النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وجن فعل ماض أي عندها ستره إيواء اللّه تعالى : وجميل صنعه به ، أو ستره المأوى بظلاله ودخل فيه على أن الْمَأْوى مصدر ميمي ، أو اسم مكان ، وجنه بمعنى ستره ، قال أبو البقاء : شاذ والمستعمل أجنه ، ولهذا قالت عائشة رضي اللّه تعالى عنها وكذا جمع الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين : من قرأ به فأجنه اللّه تعالى أي جعله مجنونا أو أدخله الجنن وهو القبر ،

روح المعاني ،
ج 14 ، ص : 51
وأنت تعلم أنه إذا صح أنه قرأ به الأمير كرم اللّه تعالى وجهه ومن معه من أكابر الصحابة فليس لأحد رده من حيث الشذوذ في الاستعمال ، وعائشة قد حكي عنها الاجازة أيضا.
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى متعلق برآه : وقيل : بما بعد من الجملة المنفية ولا يضر التقدم على ما النافية للتوسع في الظرف. والغشيان بمعنى التغطية والستر ، ومنه الغواشي أو بمعنى الإتيان يقال فلان يغشى زيدا كل حين أي يأتيه. والأول هو الأليق بالمقام ، وفي إبهام ما يَغْشى من التفخيم ما لا يخفى فكأن الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان ولا تسعه أردان الأذهان ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها البديعة ، وجوز أن يكون للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد ، وورد في بعض الأخبار تعيين هذا الغاشي ، فعن الحسن غشيها نور رب العزة جل شأنه فاستنارت. ونحوه ما روي عن أبي هريرة يغشاها نور الخلاق سبحانه ، وعن ابن عباس غشيها رب العزة وجل وهو من المتشابه ، وقال ابن مسعود ومجاهد وإبراهيم : يغشاها جراد من ذهب ، وروي عن مجاهد أن ذلك تبدل أغصانها لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا.
وأخرج عبد بن حميد عن سلمة قال : استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأذن له فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه عليه الصلاة والسلام ، وفي حديث «رأت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح اللّه تعالى»
وقيل : يغشاها رفرف من طير خضر ، والإبهام على هذا كله على نحو ما تقدم.
ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما مال بصر رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه عما رآه وَما طَغى وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا ، وهذا تحقيق للأمر ونفي للريب عنه ، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها إلى ما لم يؤمر برؤيته.
[سورة النجم (53) : الآيات 18 إلى 32]
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27)
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي واللّه رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج - فالكبرى - صفة موصوف محذوف مفعول لرأى أقيمت مقامه معد حذفه وقدر مجموعا ليطابق الواقع ،

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 52
وجوّز أن تكون الْكُبْرى صفة المذكور على معنى ، ولَقَدْ رَأى بعضا من الآيات الكبرى ، ورجح الأول بأن المقام يقتضي التعظيم والمبالغة فينبغي أن يصرح بأن المرئي الآيات الكبرى وجوزت الوصفية المذكورة مع كون من مزيدة ، وأنت تعلم أن زيادة من في الإثبات ليس مجمعا على جوازه ، وجاء في بعض الأخبار تعيين ما رأى عليه الصلاة والسلام ، أخرج البخاري ، وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في الآية رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق. وعن ابن زيد رأى جبريل عليه السلام في الصورة التي هو بها ، والذي ينبغي أن لا يحمل ذلك على الحصر كما لا يخفى فقد رأى عليه الصلاة والسلام آيات كبرى ليلة المعراج لا تحصى ولا تكاد تستقصى «هذا وفي الآيات» أقوال غير ما تقدم ، فعن الحسن أن شَدِيدُ الْقُوى هو اللّه تعالى ، وجمع الْقُوى للتعظيم ويفسر ذُو مِرَّةٍ عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكون وصفا له عز وجل ، وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى :
فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عليه له سبحانه أيضا. وقال : إن ذلك على معنى العظمة والقدرة السلطان ، ولعل الحسن يجعل الضمائر في قوله سبحانه : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى له عز وجل أيضا ، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى فقد كان عليه الرحمة يحلف باللّه تعالى ، لقد رأى محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ربه وفسر دنوه تعالى من النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم برفع مكانته صلّى اللّه عليه وسلم عنده سبحانه وتدليه جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس ، ويقال لهذا الجذب : الفناء في اللّه تعالى عند المتألهين ، وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه.
ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى اللّه تعالى بعد نفي التشبيه ، وجوز أن تكون الضمائر في دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى على ما روي عن الحسن للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، والمراد ثم دنا النبي عليه الصلاة والسلام من ربه سبحانه فكان منه عز وجل قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى والضمائر في فَأَوْحى
إلخ للّه تعالى ، وقيل : إِلى عَبْدِهِ
ولم يقل إليه للتفخيم ، وأمر المتشابه قد علم ، وذهب غير واحد في قوله تعالى : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى إلى قوله سبحانه : وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى إلى أنه في أمر الوحي وتلقيه من جبريل عليه السلام على ما سمعت فيما تقدم ، وفي قوله تعالى : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إلخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجناب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياه جل وعلا فالضمائر في دَنا و(تدلى) و(كان) وأَوْحى
وكذا الضمير المنصوب في رَآهُ للّه عز وجل ، ويشهد لهذا ما
في حديث أنس عند البخاري من طريق شريك بن عبد اللّه ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا اللّه حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة» الحديث
، فإنه ظاهر فيما ذكر.
واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبر الأمة ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وغيره ، وادعت عائشة رضي اللّه تعالى عنها خلاف ذلك ،
أخرج مسلم عن مسروق قال : «كنت متكئا عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على اللّه تعالى الفرية قلت ما هن؟ قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على اللّه الفرية ، قال :
وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل اللّه تعالى : وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير : 23] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال : لا إنما هو جبريل لم أره على صورته الذي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض ، الحديث
، وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق «فقالت :
أنا أول من سأل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن هذا فقلت : يا رسول اللّه هل رأيت ربك؟ فقال : إنما رأيت

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 53
جبريل منهبطا»
ولا يخفى أن جواب رسول اللّه عليه الصلاة والسلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في رَآهُ ليس راجعا إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام ، وشاعر أنها تنفي أن يكون صلى اللّه تعالى عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا ، وتستدل لذلك بقوله تعالى : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام : 103] وقوله سبحانه وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى : 51] وهو ظاهر ما ذكره البخاري في صحيحه في تفسير هذه السورة ، وقال بعضهم : إنها إنما تنفي رؤية تدل عليها الآية التي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق.
وحاصل ما روي عنها نفي صحة الاحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضمير فيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياها ، وحمل قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم في جوابها «لا» على أنه نفي للرؤية المخصوصة وهي التي يظن دلالة الآية عليها ويرجع إلى نفي الدلالة ولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق ، والإنصاف أن الاخبار ظاهرة في أنها تنفي الرؤية مطلقا ، وتستدل عليه بالآيتين السابقتين ، وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكور في محله ، والظاهر أن ابن عباس لم يقل بالرؤية إلا عن سماع ، وقد أخرج عنه أحمد أنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : رأيت ربي»
ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميذ الحافظ السيوطي في الآيات البينات وصححه ، وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس وعائشة بأن قول عائشة محمول على نفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوت بأنه لا يقوم له بصر ، وقول ابن عباس محمول على ثبوت رؤيته تعالى في نوره الذي لا يذهب بالأبصار بقرينة قوله في جواب عكرمة عن قوله تعالى :
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وبه يظهر الجمع بين حديثي أبي ذر ،
أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد اللّه بن شقيق عن ابن ذر قال : سألت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال : «نوراني أراه»
ومن طريق هشام وهمام كلاهما عن قتادة عن عبد اللّه قال : قلت لأبي ذر لو رأيت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لسألته فقال : عن أي شيء كنت تسأله؟ قال : كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر : قد سألته فقال : «رأيت نورا»
فيحمل النور في الحديث الأول على النور القاهر للأبصار بجعل التنوين للنوعية أو للتعظيم ، والنور في الثاني على ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية ، وإن صحت رواية الأول كما حكاه أبو عبد اللّه المازري بلفظ «نوراني» بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء لم يكن اختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنى المنسوب إلى النور على خلاف القياس ويكون المنسوب إليه هو نوره الذي هو نوره ، والمنسوب هو النور المحمول على الحجاب حمل مواطأة
في حديث السبحات في قوله عليه الصلاة والسلام : «حجابه النور»
وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر.
ثم إن القائلين بالرؤية اختلفوا ، فمنهم من قال : إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه بعينه ، وروى ذلك ابن مردويه عن ابن عباس ، وهو مروي أيضا عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل ، ومنهم من قال : رآه عز وجل بقلبه ، وروي ذلك عن أبي ذر ، أخرج النسائي عنه أنه قال : «رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره» وكذا
روي عن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال قالوا : يا رسول اللّه رأيت ربك؟ قال : «رأيته بفؤادي مرتين ولم أره بعيني ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى»
وفي حديث عن ابن عباس يرفعه «فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت اليه بفؤادي»
وكأن التقدير في الآية على هذا ما كَذَبَ الْفُؤادُ فيما رَأى ، ومنهم من ذهب إلى أن إحدى الرؤيتين كانت بالعين والأخرى بالفؤاد وهي رواية عن ابن عباس ، أخرج الطبراني وابن مردويه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 54
عنه أنه قال : إن محمدا صلى اللّه تعالى عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي في الرؤية بالعين ، وقال : إنه ليس عليه دليل واضح قال في الكشف : لأن الروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا ، وعن الإمام أحمد أنه كان يقول : إذا سئل عن الرؤية رآه رآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه ، واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزم صاحب الكشف بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسم ما بين النبي وجبريل صلاة اللّه تعالى وسلامه عليهما أي وأن المرئي هو جبريل عليه السلام ، وإذا صح خبر جوابه عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي اللّه تعالى عنها لم يكن لأحد محيص عن القول به ، وقال العلامة الطيبي : الذي يقتضيه النظم إجراء الكلام إلى قوله تعالى : وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى على أمر الوحي وتلقيه من الملك ورفع شبه الخصوم ، ومن قوله سبحانه : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إلى قوله سبحانه : مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى على أمر العروج إلى الجناب الأقدس ، ثم قال : ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام فَأَوْحى
الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد اللّه ما أَوْحى
إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين وما يضيق عنه بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم ، وكلمة ثُمَّ على هذا للتراخي الرتبي والفرق بين الوحيين أن أحدهما وحي بواسطة وتعليم ، والآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحصل عنه عنده الترقي من مقام وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات : 164] إلى مخدع قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وعن جعفر الصادق عليه الرضا أنه قال : لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنه لا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف
، وذلك قوله تعالى : فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
أي كان ما كان وجرى ما جرى قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبه وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدا وإلى نحو هذا يشير ابن الفارض بقوله :
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سرّ أرق من النسيم إذا سرى
ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو اللّه عز وجل من النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ودنوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك ، وقال بعضهم في قوله تعالى : ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى : ما زاغ بصر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وما التفت إلى الجنة ومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصا إلى الحق وَما طَغى عن الصراط المستقيم ، وقال أبو حفص السهروردي : ما زاغ البصر حيث لم يختلف عن البصيرة ولم يتقاصر وَما طَغى لم يسبق البصر البصيرة ويتعدى مقامه ، وقال سهل بن عبد اللّه التستري : لم يرجع رسول اللّه عليه الصلاة والسلام إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل ، وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى : وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو منتهى وصول اللطائف ، وفسر سِدْرَةِ الْمُنْتَهى بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم مجاوزته إلا بجذبة من جذبات الحق ، وقالوا في قابَ قَوْسَيْنِ ما قالوا وأنا أقول برؤيته صلى اللّه تعالى عليه وسلم ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهب فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب الكشف أم ذهبت فيه إلى ما قاله الطيبي فتأمل واللّه تعالى الموفق.
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة : لثقيف بالطائف ، وأنشدوا :
وفرت ثقيف إلى لاتها بمنقلب الخائب الخاسر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 55
وقال أبو عبيدة وغيره : كان بالكعبة ، وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ يعبده قريش ، ورجح ابن عطية قول قتادة ، وقال أبو حيان : يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصناما فأخبر عن كل صنم بمكانه ، والتاء فيه قيل :
أصلية وهي لام الكلمة كالباء في باب ، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة «ل ي ت» موجودة فإن وجدت مادة «ل وت» جاز أن تكون منقلبة من واو ، وقيل : تاء العوض ، والأصل لوية بزنة فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليه ويعتكفون للعبادة ، أو يلتوون عليه أي يطوفون فخفف بحذف الياء وأبدلت واوه ألفا ، وعوض عن الياء تاء فصارت كتاء أخت وبنت ، ولذا وقف عليها بالتاء ، وقرأ ابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية بتشديد التاء على أنه اسم فاعل من لت يلت إذا عجن قيل : كان رجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك ، وعن مجاهد أنه كان على صخرة في الطائف يصنع حيسا ويطعم من يمرّ من الناس فلما مات عبدوه ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه ، وأخرج الفاكهي عنه أنه لما مات قال لهم عمرو بن لحي : إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثنا ، وزعم الناس أنه عامر بن الظرب أحد عدوان ، وقيل :
غير ذلك وَالْعُزَّى لغطفان وهي على المشهور سمرة بنخلة - كما قال قتادة - وأصلها ثأنيث الأعز ، وأخرج النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال : «لما فتح رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخبره فقال : ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع خالد فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام : تلك العزى»
وفي رواية أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعث إليها خالدا فقطعها فخرجت منه شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت اللّه قد أهانك ورجع فأخبر رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : «تلك العزى ولن تعبد أبدا»
وقال ابن زيد : كانت العزى بالطائف ، وقال أبو عبيدة : كان بالكعبة ، وأيده في البحر بقول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين لنا العزى ولا عزى لكم ، وذكر فيه أنه صنم وجمع بمثل ما تقدم ، وَمَناةَ قيل : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وعن ابن عباس لثقيف ، وعن قتادة للأنصار بقديد ، وقال أبو عبيدة : كانت بالكعبة أيضا ، واستظهر أبو حيان أنها ثلاثتها كانت فيها قال : لأن المخاطب في قوله تعالى : أفرأيتم قريش؟ وفيه بحث ، ومناة مقصورة قيل : وزنها فعلة ، وسميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق ، وقرأ ابن كثير على ما في البحر مناءة بالمد والهمزة كما في قوله :
ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة على النأي فيما بيننا ابن تميم
ووزنها مفعلة فالألف منقلبة عن واو كما في مقالة ، والهمزة أصل وهي مشتقة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها ، والظاهر أن الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لمناة وهما على ما قيل : للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها معلوم غير محتاج للبيان ، وقال بعض الأجلة : الثَّالِثَةَ للتأكيد ، والْأُخْرى للذم بأنها

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 56
متأخرة في الرتبة وضيعة المقدار ، وتعقبه أبو حيان بأن آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا لذم ولا لمدح وإنما يدلان على معنى غير ، والحق أن ذلك باعتبار المفهوم الأصلي وهي تدل على ذم السابقتين أيضا قال في الكشف : هي اسم ذم يدل على وضاعة السابقتين بوجه أيضا لأن «أخرى» تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق فإذا أتى بها لقصد التأخر في الرتبة عملا بمفهومها الأصلي إذ لا يمكن العمل بالمفهوم العرفي لأن السابقتين ليستا ثالثة أيضا استدعت المشاركة فضاء لحق التفضيل ، وكأنه قيل : الْأُخْرى في التأخر انتهى وهو حسن ، وذكر في نكتة ذم مناة بهذا الذم أن الكفرة كانوا يزعمون أنها أعظم الثلاثة فأكذبهم اللّه تعالى بذلك.
وقال الإمام : الْأُخْرى صفة ذم كأنه قال سبحانه : وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي وَالْعُزَّى صورة نبات وَمَناةَ صورة صخرة ، فالآدمي أشرف من النبات ، والنبات أشرف من الجماد - فالجماد متأخر - ومناة جماد فهي أخريات المراتب ، وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال ، وقيل : الْأُخْرى صفة للعزى لأنها ثانية اللات ، والثانية يقال لها الْأُخْرى وأخرت لموافقة رؤوس الآي ، وقال الحسن بن المفضل :
في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير والعزى الأخرى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ ولعمري إنه ليس بشيء ، والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون : إن الملائكة عليهم السلام وتلك المعبودات الباطلة بنات اللّه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم توبيخا وتبكيتا : أَفَرَأَيْتُمُ إلخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون اللّه تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير ، ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه ، فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة اللّه عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذا الأصنام مع غاية حقارتها بنات اللّه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى : أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى توبيخ مبني على ذلك التوبيخ ومداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه عز وجل حيث جعلوا له تعالى الإناث واختاروا لأنفسهم الذكور ، ومناط الأول نفس تلك النسبة ، وقيل : المعنى أَرايتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء للّه سبحانه مع ما تقدم من عظمته. وقيل : المعنى أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السابقة ، وقيل : المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم وقيل المعنى أَفَرَأَيْتُمُ هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم ، ولا يخفى أن قوله تعالى : أَلَكُمُ إلخ لا يلتئم مع ما قبله على جميع هذه الأقوال التئامه على القول السابق ، وقيل : إن قوله سبحانه : أَلَكُمُ إلخ في موضع المفعول الثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني أن اللات والعزى ومناة ألكم الذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ وهو على تكلفه يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير الذليل على جناب اللّه تعالى العزيز الجليل من غير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه ، وفي الكشف وجه النظم الجليل أنه بعد ما صور أمر الوحي تصويرا تاما وحققه بأن ما يستمعه وحي لا شبهة فيه لأنه رأى الآتي به وعرفه حق المعرفة قال سبحانه :
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى [النجم : 12] على معنى أتلاحونه بعد هذه البيانات على ما يرى من الآيات المحققة لأنه على بينة من ربه سبحانه هاديا مهديا ، وأنى يبقى للمراء مجال - وقد رآه نزلة أخرى.؟! وعرفه حق المعرفة ، ثم قيل :
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ إلخ تنبيها على أن ما عدّ منها فهو أيضا نفي للضلالة والغواية وتحقيق للدراية والهداية.
وقوله تعالى : أَفَرَأَيْتُمُ عطف على تمارونه وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار والفاء لأن القول بأمثاله مسبب عن الطبع والعناد وعدم الإصغاء لداعي الحق ، والمعنى أبعد هذا البيان تستمرون على ما أنتم عليه من المراء فترون اللات

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 57
والعزى ومناة أولادا له تعالى ثم أخسها وسد مسد المفعول الثاني قوله تعالى : أَلَكُمُ إلخ زيادة الإنكار فعلى هذا ليس أَفَرَأَيْتُمُ في معنى الاستخبار وجاز أن يكون في معناه على معنى أَفَتُمارُونَهُ فأخبروني هل لكم الذكر وله الأنثى ، والقول مقدر أي فقل لهم أخبروني والمعنى هو كذا تهكما وتنبيها على أنه نتيجة مرائهم وأن من كان هذا معتقده فهو على الضلال الذي لا ضلال بعده ولا يبعد عن أمثاله نسبة الهادين المهديين إلى ما هو فيه من النقص انتهى ، وما ذكره أولا أولى وهو ليس بالبعيد عما ذكرنا تِلْكَ إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الاستفهامية إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي جائرة حيث جعلتم له سبحانه ما تستنكفون منه وبذلك فسر ضيزى ابن عباس وقتادة ، وفي معناه قول سفيان منقوصة ، وابن زيد مخالفة ، ومجاهد ومقاتل عوجاء ، والحسن غير معتدلة ، والظاهر أنه صفة ، واختلف في يائه فقيل : منقلبة عن واو ، وقيل : أصيلة ، ووزنه فعلى بضم الفاء كحبلى وأنثى ، ثم كسرت لتسلم الياء كما فعل ذلك في بيض جمع أبيض فإن وزنه فعل بضم الفاء كحمر ثم كسرت الفاء لما ذكر ومثله شائع ، ولم يجعل وزنه فعلى بالكسر ابتداء لما ذهب إليه سيبويه من أن فعلى بالكسر لم يجىء عن العرب في الصفات وجعله بعضهم كذلك متمسكا بورود ذلك.
فقد حكى ثعلب مشية حيكى ، ورجل كيصى ، وغيره امرأة عزهى وامرأة سعلى ، ورد بأنه من النوادر والحمل على الكثير المطرد في بابه أولى ، وأيضا يمكن أن يقال في حيكى وكيصى ما قيل في ضيزى ويمنع ورود عزهى وسعلى فإن المعروف عزهاة وسعلاة ، وجوز أن يكون ضيزى فعلى بالكسر ابتداء على أنه مصدر كذكرى ووصف به مبالغة ، ومجيء هذا الوصف في المصادر كما ذكر ، والأسماء الجامدة كدفلى وشعرى ، والجموع كحجلى كثير ، وقرأ ابن كثير ضئزى بالهمز على أنه مصدر وصف به ، وجوز أن يكون وصفا وهو مضموم عومل معاملة المعتل لانه يؤول إليه. وقرأ ابن زيد ضيزي بفتح الضاد وبالياء على أنه كدعوى أو كسكرى ، ويقال ضؤزى بالواو والهمز وضم الفاء وقد حكى الكسائي ضأز يضأز ضأزا بالهمز وأنشد الأخفش :
فإن تنأ عنها تقتنصك وإن تغب فسهمك مضؤوز وأنفك راغم
والأكثر ضاز بلا همز في قول امرئ القيس :
ضازت بنو أسد بحكمهم إذ يجعلون الرأس كالذنب
وأنشده ابن عباس على تفسيره السابق إِنْ هِيَ الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الألوهية التي تدعونها إِلَّا أَسْماءٌ محضة ليس فيها شيء ما أصلا من معنى الألوهية وقوله تعالى : سَمَّيْتُمُوها صفة للأسماء وضميرها لها لا للأصنام ، والمعنى جعلتموها أسماء فان التسمية نسبة بين الاسم والمسمى فإذا قيست إلى الاسم فمعناها جعله اسما للمسمى وإن قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للاسم وإنما اختير هاهنا المعنى الاول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعا كما في قوله سبحانه : ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً [يوسف : 40] الآية لا أن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية ، وقيل : هي للأسماء الثلاثة المذكورة حيث كانوا يطلقونها على تلك الأصنام لاعتقادهم أنها تستحق العكوف على عبادتها والإعزاز والتقرب إليها بالقرابين ، وتعقب بأنه لو سلم دلالة الأسماء المذكورة على ثبوت تلك المعاني الخالصة للأصنام فليس في سلبها عنها مزيد فائدة بل إنما هي في سلب الألوهية عنها كما هو زعمهم المشهور في حق جميع الأصنام على وجه برهاني فإن انتفاء الوصف بطريق الأولوية أي ما هي شيء من الأشياء إلا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بمقتضى الأهواء الباطلة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ برهان يتعلقون به إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بها إِلَّا الظَّنَّ إلا توهم أن ما هم عليه حق توهما باطلا ،

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 58
فالظن هنا مراد به التوهم وشاع استعماله فيه ، ويفهم من كلام الراغب أن التوهم من أفراد الظن وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي والذي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء على أن ما موصولة وعائدها مقدر - وأل - في الأنفس للعهد ، أو عوض عن المضاف إليه ، وجوز كون ما مصدرية وكذا جوز كون - أل - للجنس والنفس من حيث هي إنما تهوى غير الأفضل لأنها مجبولة على حب الملاذ وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل ، والالتفات في يَتَّبِعُونَ إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الاعراض عنهم ، وحكاية جناياتهم لغيرهم ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر - تتبعون - بتاء الخطاب وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى حال من ضمير يَتَّبِعُونَ مقررة لبطلان ما هم عليه من اتباع الظن والهوى ، والمراد بالهدى الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو القرآن العظيم على أنه بمعنى الهادي أو جعله هدى مبالغة أي ما يتبعون إلا ذلك ، والحال لقد جاءهم من ربهم جل شأنه ما ينبغي لهم معه تركه واتباع سبيل الحق.
وحاصله يَتَّبِعُونَ ذلك في حال ينافيه ، وجوز أن تكون الجملة معترضة وهي أيضا مؤكدة لبطلان ذلك أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ منقطعة مقدرة - ببل - وهي للانتقال من بيان أن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى أنفسهم إلى بيان أن ذلك مما لا يجدي نفعا أصلا والهمزة وهي للإنكار والنفي أي بل ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه ، ومفاده قيل : رفع الإيجاب الكلي ومرجعه إلى سالبه جزئية ، وإليه يشير قول بعضهم : المراد نفي أن يكون للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنى عند اللّه تعالى يوم القيامة وما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من إحدى القريتين عظيم ونحو ذلك ، ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي ، والمعنى لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكا له مختصا به يتصرف فيه حسب إرادته ويتضمن ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الإنسان خاصا بهم كما قيل ، وقوله تعالى : فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى تعليل لانتفاء ذلك فإن اختصاص ملك أمور الآخرة والأولى جميعا به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون للإنسان أمر من الأمور بل ما شاء اللّه تعالى له كان وما لم يشأ لم يكن ، وقدمت الآخرة اهتماما برد ما هو أهمّ أطماعهم عندهم من الفوز فيها ، ولذا أردف ذلك بقوله تعالى : وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وإقناطهم عما طمعوا به من شفاعة الملائكة عليهم السلام موجب لاقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الاولوية وَكَمْ خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء ، والخبر الجملة المنفية ، وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عند اللّه تعالى شيئا من الإغناء في وقت من الأوقات إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة.
لِمَنْ يَشاءُ أن يشفعوا له وَيَرْضى ويراه سبحانه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان ، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن اللّه تعالى بمعزل. وعنه بألف ألف منزل ، وجوز أن يكون المراد إلا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء من الملائكة بالشفاعة ويراه عز وجل أهلا لها ، وأيا ما كان فالمعنى على أنه إذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام ، والكلام قيل من باب :
على لا حب لا يهتدى بمناره فحاصله لا شفاعة لهم ولا غناء بدون أن يأذن اللّه سبحانه إلخ ، وقيل : هو وارد على سبيل الفرض فلا يخالف قوله تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة : 255] ، وقرأ زيد بن علي شفاعته بإفراد الشفاعة والضمير ، وابن مقسم شفاعاتهم بجمعهما وهو اختيار صاحب الكامل أبي القاسم الهذلي ، وأفردت

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 59
الشفاعة في قراءة الجمهور قال أبو حيان : لأنها مصدر ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق تَسْمِيَةَ الْأُنْثى فإنهم كانوا يقولون الملائكة بنات اللّه سبحانه وتعالى عما يقولون ، والْمَلائِكَةَ في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحد من الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي يسمونه بنتا لأنهم إذا قالوا ذلك فقد جعلوا كل واحد منهم بنتا ، فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسا كل واحد منا حلة ، والإفراد لعدم اللبس ، ولذا لم يقل تسمية الإناث فلا حاجة إلى تأويل الأنثى بالإناث ولا إلى كون المراد الطائفة الأنثى ، وما ذكر أولا قيل : مبني على أن تسمية الأنثى في النظم الجليل ليس نصبا على التشبيه وإلا فلا حاجة إليه أيضا ، وفي تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا ، وقوله تعالى : وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ حال من فاعل (يسمون) وضمير به للمذكور من التسمية وبهذا الاعتبار ذكر ، أو باعتبار القول أي يسمونهم إناثا ، والحال أنهم لا علم لهم بما يقولون أصلا ، وقرأ أبيّ بها أي بالتسمية ، أو بالملائكة إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبعون في ذلك إِلَّا الظَّنَّ أي التوهم الباطل وَإِنَّ الظَّنَّ أي جنس الظن كما يلوح به الإظهار في موقع الإضمار ، وقيل : الإظهار ليستقل الكلام استقلال المثل.
لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما يدرك إدراكا معتدا به إذا كان عن يقين لا عن ظن وتوهم فلا يعتدّ بالظن في شأن المعارف الحقيقية أعني المطالب الاعتقادية التي يلزم فيها الجزم ولو لم يكن عن دليل ، وإنما يعتدّ به في العمليات وما يؤدي إليها.
وفسر بعضهم الحق باللّه عز وجل لقوله سبحانه : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [الحج : 6 ، 62 ، لقمان :
30] ، واستدل بالآية من لم يعتبر التقليد في الاعتقاديات - وفيه بحث - والظاهرية على إبطاله مطلقا ، وإبطال القياس ورده على أتم وجه في الأصول ، وما أخرج ابن أبي حاتم عن أيوب قال : قال عمر بن الخطاب :
احذروا هذا الرأي على الدّين فإنما كان الرأي من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم مصيبا لأن اللّه تعالى كان يريه وإنما هو منا تكلف وظن وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً هو أحد أدلتهم على إبطال القياس أيضا ، وقد حكى الآمدي في الأحكام نحوه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما فقال : قال ابن عمر : اتهموا الرأي عن الدّين فإن الرأي منا تكلف وظن وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وأجاب عنه بأن غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله ، وأن المراد بقوله : إِنَّ الظَّنَّ إلخ استعمال الظن في مواضع اليقين وليس المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة ، ويقال نحو هذا في كلام عمر رضي اللّه تعالى عنه ، وقد ذكر جملة من الآثار استدل بها المبطل على ما زعمه وردها كلها فمن أراد ذلك ليراجعه فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة ، وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق وهو القرآن العظيم. المنطوي على بيان الاعتقادات الحقة. المشتمل على علوم الأولين والآخرين. المذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها ، والمراد بالإعراض عنه ترك الأخذ بما فيه وعدم الاعتناء به ، وقيل : المراد بالذكر الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم وبالإعراض عنه ترك الأخذ بما جاء به ، وقيل : المراد به الإيمان ، وقيل : هو على ظاهره والإعراض عنه كناية عن الغفلة عنه عز وجل وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا راضيا بها قاصرا نظره عليها جاهدا فيما يصلحها كالنضر بن الحارث.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 60
والوليد بن المغيرة ، والمراد من الأمر المذكور النهي عن المبالغة في الحرص على هداهم كأنه قيل : لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته وقصارى سعيه ، وقوله تعالى : ذلِكَ أي أمر الحياة الدنيا المفهوم من الكلام ولذا ذكر اسم الإشارة ، وقيل : أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا ، وقيل : ذلك إشارة إلى الظن الذي يتبعونه ، وقيل : إلى جعلهم الملائكة بنات اللّه سبحانه وكلا القولين كما ترى مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي منتهى علمهم لا علم لهم فوقه اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا.
والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد ، وضمير مَبْلَغُهُمْ - لمن - وجمع باعتبار معناه كما أن إفراده قبل باعتبار لفظه ، وقوله سبحانه : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى تعليل للأمر بالإعراض ، وتكرير قوله تعالى : هُوَ أَعْلَمُ لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين ، والمراد بِمَنْ ضَلَّ من أصر على الضلال ولم يرجع إلى الهدى أصلا ، وبِمَنِ اهْتَدى من شأنه الاهتداء في الجملة ، أي هو جل شأنه المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبدا ، وبمن يقبل الاهتداء في الجملة لا غيره سبحانه فلا تتعب نفسك في دعوتهم ولا تبالغ في الحرص عليها فإنهم من القبيل الأول : وقوله تعالى : وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقا وملكا لا لغيره عز وجل أصلا لا استقلالا ولا اشتراكا ، ويشعر بفعل يتعلق به قوله تعالى : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بيانا لحاله أو بمثل ما عملوا ، أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي اهتدوا بِالْحُسْنَى أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة ، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قبل لأنه سبحانه لما أمره عليه الصلاة والسلام بالإعراض نفي توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى ، وفي العدول عن ضمير ربك إلى الاسم الجامع ما ينبىء عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلا بدّ من ضال ومهتد ، ومن أن يلقى كلّ ما يستحقه ، وفيه أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يلقى الحسنى جزاء لتبليغه وهم يلقون السوء أي جزاء لتكذيبهم ، وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الاعتناء به والتنبيه على تباين الجزاءين.
وجوز أن يكون معنى فَأَعْرِضْ إلخ لا تقابلهم بصنيعهم وكلهم إلى ربك إنه أعلم بك وبهم فيجزي كلا ما يستحقه ، ولا يخفى ما في العدول عن الضميرين في «بمن ضل» «وبمن اهتدى» وجعل قوله تعالى : لِيَجْزِيَ على هذا متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ إلخ أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لِيَجْزِيَ إلخ ، وقوله سبحانه : وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ جملة معترضة تؤكد حدث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل : هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته ، وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق لِيَجْزِيَ بقوله تعالى :
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد ، أي - هو أعلم بهم - وإنما سوي هذا الملك للجزاء ، ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مرّ ، وجوز في جملة لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ كونها حالا من فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أو لا ، وفي لِيَجْزِيَ تعلقه - بضل. واهتدى - على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ ليؤول أمره إلى أن يجزيه اللّه تعالى بعمله ، وبِمَنِ اهْتَدى ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى ، ولا يخفى بعده ، وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه : لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ كما ذكره مكي ، وقرأ زيد ابن علي - لنجزي - ونجزي بالنون فيهما الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ بدل من الموصول الثاني وصيغة الاستقبال

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 61
في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره أو بيان أو نعت أو منصوب على المدح أو مرفوع على أنه خبر محذوف والْإِثْمِ الفعل المبطئ عن الثواب وهو الذنب. وكبائره ما يكبر عقابه ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف - كبير الإثم - على إرادة الجنس ، أو الشرك وَالْفَواحِشَ ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام ، وقيل : الفواحش والكبائر مترادفان إِلَّا اللَّمَمَ ما صغر من الذنوب وأصله ما قل قدره ، ومنه لمة الشعر لأنها دون الوفرة ، وفسره أبو سعيد الخدري بالنظرة والغمزة والقبلة وهو من باب التمثيل ، وقيل : معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له من ألممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة - وعليه قول الرماني - هو الهمّ بالذنب وحديث النفس دون أن يواقع ، وقول ابن المسيب : ما خطر على القلب ، وعن ابن عباس وابن زيد هو ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام ، والآية نزلت لقول الكفار للمسلمين قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا فهي مثل قوله تعالى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء : 23] على ما في البحر ، وقيل : هو مطلق الذنب.
وفي رواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب ، والمعظم على تفسيره بالصغائر والاستثناء منقطع ، وقيل : إنه لا استثناء فيه أصلا ، وإِلَّا صفة بمعنى غير إما لجعل المضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الإثم في حكم النكرة ، أو لأن غير وإِلَّا التي بمعناها قد يتعرفان بالإضافة كما في غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة : 7] وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع إِلَّا صفة كونها تابعة لجمع منكر غير محصور ولم يوجد هنا ، ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب ، وسيبويه يرى جواز وقوعها صفة مع جواز الاستثناء فهو لا يشترط ذلك ، وتبعه أكثر المتأخرين ، نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه ، والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام وقالوا : سائر المعاصي كبائر ، منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني ، والقاضي أبو بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين في الإرشاد ، وتقي الدين السبكي وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الاشاعرة.
واختاره في تفسيره فقال معاصي اللّه تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة ، وحكي الانقسام عند المعتزلة ، وقال : إنه ليس بصحيح ، وقال القاضي عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر ويوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال : كل ما نهى اللّه تعالى عنه فهو كبيرة ، وفي رواية كل شيء عصى اللّه تعالى فيه فهو كبيرة ، والجمهور على الانقسام قيل : ولا خلاف في المعنى ، وإنما الخلاف في التسمية ، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي : لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع ، ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حدّ الكبيرة فقيل : هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء ، وقيل : كل معصية أوجبت الحدّ - وبه قال البغوي وغيره - والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حدّ فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي : إنهم إلى ترجيحه أميل ، وقد يقال : يرد على الأول أيضا أنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد.
وقيل : هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حدّ وترك فريضة تجب فورا والكذب في

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 62
الشهادة والرواية واليمين ، زاد الهروي وشريح وكل قول خالف الإجماع العام ، وقيل : كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وهو المحكي عن إمام الحرمين ، ورجحه جمع لما فيه من حسن الضبط ، وتعقب بأنه بظاهره يتناول صغيرة الخسة ، والإمام - كما قال الاذرعي - إنما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي الشاملة لذلك لا الكبيرة فقط ، نعم هو أشمل من التعريفين الأولين ، وقيل : هي ما أوجب الحدّ أو توجه إليه الوعيد ذكره الماوردي في فتاويه ، وقيل : كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان فاحشة ، فالزنا كبيرة وبحليلة الجار فاحشة والصغيرة تعاطي ما تنقص عن رتبته عن رتبته المنصوص عليه. أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو أكثر من التحريم كان كبيرة فالقبلة واللمس والمفاخذة صغيرة ، ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعة وغيره عن القاضي حسين عن الحليمي ، وقيل : هي كل فعل نص الكتاب على تحريمه أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء : أكل الميتة ، ولحم الخنزير ، ومال اليتيم ، والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر ، وقيل :
إنها كل ذنب قرن به حدّ ، أو وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك أو أكثر أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارا صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه مستحق لدمه أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته ، وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال : هو التحقيق وقيل : غير ذلك ، واعتمد الواحدي أنها لا حدّ لها يحصرها فقال الصحيح أن الكبيرة ليس لها حدّ يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن اللّه تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر. ونظير ذلك إخفاء الاسم الأعظم والصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ، وقال العلامة ابن حجر الهيتمي : كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة ، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه؟ وذهب جمع إلى تعريفها بالعدّ ، فعن ابن عباس أنها ما ذكره اللّه تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء : 31].
وقيل :
هي سبع وروي ذلك عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
وعطاء وعبيد بن عمير ، واستدل له بما
في الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات : الإشراك باللّه تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم اللّه تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»
وقيل : خمس عشرة ، وقيل : أربع عشرة ، وقيل : أربع ، وعن ابن مسعود ثلاث ، وفي رواية أخرى عشرة ، وقال شيخ الإسلام العلائي :
المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون ، وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك ، وقال أبو طالب المكي : هي سبع عشرة أربع في القلب الشرك والإصرار على المعصية والقنوط والأمن من المكر ، وأربع في اللسان القذف وشهادة الزور والسحر ، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئا من أعضائه. واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقا أو تثبت بها باطلا ، وثلاث في البطن أكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وشرب كل مسكر ، واثنان في الفرج : الزنا واللواط ، واثنتان في اليد القتلة والسرقة ، وواحدة في الرجل الفرار من الزحف ، وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين ، وفيه ما فيه ، وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له :
كم الكبائر سبع هي؟ فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ، وقد ألف فيها غير واحد من العلماء ، وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه كفاية فليراجع ، واللّه تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 63
الكبائر ، فالجملة تعليل لاستثناء اللمم ، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية ، وجوز أن يكون المعنى له سبحانه أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، ولعل تعقيب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بذلك حينئذ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه عز وجل ، وزعم بعض جواز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي واسِعُ الْمَغْفِرَةِ لهم ليس بشيء كما لا يخفى.
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أي بأحوالكم من كل أحد إِذْ أَنْشَأَكُمْ في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام.
مِنَ الْأَرْضِ إنشاء إجماليا حسبما مر تحقيقه ، وقيل : إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه في الأغذية التي منشؤها الأرض ، وأيا ما كان - فإذا - ظرف - لأعلم - وهو على بابه من التفصيل.
وقال مكي : هو بمعنى عالم إذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه ، وتعقب بأنه قد يتعلق علم من أطلعه اللّه تعالى من الملائكة عليه ، وقيل : إِذْ منصوب بمحذوف ، والتقدير اذكروا إِذْ أَنْشَأَكُمْ وهو كما ترى وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ ووقت كونكم أجنة فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله.
فالجملة استئناف مقرر لما قبلها وذكر فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه ، وقيل : لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة ، والفاء في قوله تعالى : فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل اشكروا اللّه تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى المعاصي جميعا وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيها بأسرها كذا في الإرشاد ، وقيل : اتقى الشرك ، وقيل : اتقى شيئا من المعاصي ، والآية نزلت على ما قيل : في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب ، أو الرياء أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعد فاعله من المزكين أنفسهم ، ولذا قيل : المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر ، ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعدّ منها التسمية بنحو برّة ،
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لا تزكوا أنفسكم اللّه أعلم بأهل البر منكم سموها زينب»
وكذا غير عليه الصلاة والسلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش ، وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار ، والنهي عن التسمية به للتنزيه وقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما روى جابر : «إن عشت إن شاء اللّه أنهى أمتي أن يسمعوا نافعا وأفلح وبركة»
محمول كما قال النووي على إرادة أنهى نهي تحريم ، والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوصة بما إذا كان الاشعار قويا كما إذا كان الاسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التسمية مستعملا فيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذا لم يكن كذلك كسعيد وحسن ، وقد كان لعمر رضي اللّه تعالى عنه ابنة يقال لها :
عاصية فسماها رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم جميلة كذا قيل ، والمقام بعد لا يخلو عن بحث

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 64
فليراجع ، وقيل : معنى - لا تزكوا أنفسكم - لا يزكي بعضكم بعضا ، والمراد النهي عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية على سبيل القطع ، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة ، وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود.
أخرج الواحدي وابن المنذر وغيرهما عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال : «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا : هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها اللّه تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها» فأنزل اللّه سبحانه عند ذلك هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية.
[سورة النجم (53) : الآيات 33 إلى 62]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أي عن اتباع الحق والثبات عليه وَأَعْطى قَلِيلًا أي شيئا قليلا ، أو إعطاء قليلا وَأَكْدى أي قطع العطاء من قولهم حفر فأكدى إذا بلغ إلى كدية أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر ، قال مجاهد وابن زيد : نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وجلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين ، وقال له :
أتترك ملة آبائك؟! ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما همّ به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا ، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح ، وقال الضحاك : هو النضر بن الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه ، وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم في بعض الأمور ، وقال محمد بن كعب : في أبي جهل قال : واللّه ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق ، والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه : أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ إلى آخره ، وأما ما في الكشاف من أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد اللّه بن سعيد بن أبي سرح : يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا اللّه تعالى وأرجو عفوه فقال عبد اللّه : أعطني ناقتك برحلها وأنا أحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فباطل - كما قال ابن عطية - ولا أصل له ، وعثمان رضي اللّه تعالى عنه منزه عن مثل ذلك ، وأَ فَرَأَيْتَ هنا على ما في البحر بمعنى أخبرني ومفعولها الأول الموصول ، والثاني الجملة الاستفهامية ، والفاء في قوله تعالى : فَهُوَ يَرى للتسبب

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 65
عما قبله أي عنده علم بالأمور الغيبية فهو بسبب ذلك يعلم أن صاحبه يتحمل عنه يوم القيامة ما يخافه ، وقيل : يرى أن ما سمعه من القرآن باطل : وقال الكلبي : المعنى أأنزل عليه قرآن فرأى أن ما صنعه حق ، وأيا ما كان - فيرى - من الرؤية القلبية ، وجوز أن تكون من الرؤية البصرية أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ أي بل ألم يخبر.
بِما فِي صُحُفِ مُوسى وهي التوراة وَإِبْراهِيمَ وبما في صحف إبراهيم التي نزلت عليه الَّذِي وَفَّى أي وفر وأتم ما أمر به ، أو بالغ في الوفاء بما عاهد عليه اللّه تعالى ، وقال ابن عباس : وفى بسهام الإسلام كلها ولم يوفها أحد غيره وهي ثلاثون سهما منها عشرة في براءة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة :
111] الآيات ، وعشرة في الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب : 35] الآيات ، وست في - قد أفلح المؤمنون - الآيات التي في أولها ، وأربع في سأل سائل وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج : 26] الآيات ، وفي حديث ضعيف عن أبي أمامة يرفعه ، وفّى بأربع ركعات كان يصليهن في كل يوم ، وفي رواية يصليهن أول النهار.
وأخرج أحمد من حديث معاذ بن أنس مرفوعا أيضا «ألا أخبركم لم سمى اللّه تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى سبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون الآية»
وقال عكرمة : وَفَّى بتبليغ هذه العشرة أن لا تزر إلى آخره «وقيل ، وقيل : » والأولى العموم وهو مروي عن الحسن قال : ما أمره اللّه تعالى بشيء إلا وفى به وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لا يحتمله غيره ، وفي قصة الذبح ما فيه كفاية وخص هذان النبيان عليهما السلام بالذكر قيل : لأنه فيما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وبأبيه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم وقرر ذلك موسى ولم يأت قبله مقرر مثله عليه السلام ، وتقديمه لما أن صحفه أشهر عندهم وأكثر ، وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي «وفى» بتخفيف الفاء أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي إنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن (أن) هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف ، والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما في صحف موسى ، أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والاستئناف بياني كأنه قيل : ما في صحفهما؟ فقيل : هو أَلَّا تَزِرُ إلخ ، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه ، ولا يقدح في ذلك
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من علم بها إلى يوم القيامة»
فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره لا وزر غيره ، وقوله تعالى : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره وَأَنْ كأختها السابقة ، وما مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه ، أو إلا الذي سعى به وفعله ، واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عن الميت ، منها ما
أخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة «أن رجلا قال لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال : نعم»
وكذا بنفع الحج.
أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال : «أتى رجل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام : لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال : نعم قال :
فحق اللّه أحق بالقضاء»
وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعا فكأنه بسعيه ، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز ، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه ، وأجيب أيضا بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه من الإيمان فكأنه سعيه ، ودل على بنائه على ذلك ما
أخرجه أحمد عن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 66
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشاما ابنه نحو حصته خمسين وأن عمرا سأل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال : «وأما أبوك فلو كان أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك»
وأجيب بهذا عما قيل : إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضا القصر على سعيه وحده ، وأنت تعلم ما في الجواب من النظر ، وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتقيد بما لا يهبه العامل ، وسأل والي خراسان عبد اللّه بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى : وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة : 261] فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء اللّه تعالى فقبل عبد اللّه رأس الحسين وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى عليهما السلام ، وأما هذه الأمة فللإنسان منها سعي غيره يدل عليه
حديث سعد بن عبادة «هل لأمي إذا تطوعت عنها؟ قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : نعم»
وقال الربيع : الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره ، وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور : 21] وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ ، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفا ولا نسخ في الأخبار. وما يتوهم جوابا من أنه تعالى أخبر في شريعة موسى وإبراهيم عليهما السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى ، ثم من بعد ذلك ترتفع إرادته ، وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه ، وقيل : اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه ، وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضا فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدا ، والذي أميل إليه كلام الحسين ، ونحوه كلام ابن عطية قال : والتحرير عندي في هذا الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه : لِلْإِنْسانِ فإذا حققت الشيء الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة ، أو رعاية أب صالح ، أو أبن صالح ، أو تضعيف حسنات ، أو نحو ذلك فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوّز ، وإلحاق بما هو حقيقة انتهى.
ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا ينجعل ويلغو جعله غير تام وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات - وهو مذهب الإمام مالك - بل قال الامام ابن الهمام : إن مالكا والشافعي لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة بل غيرها كالصدقة والحج ، وفي الإذكار للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل ، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنه تصل ، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان ، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى ، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة وفي القلب منه شيء ، ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما إذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرؤوا لموتاهم فيقرؤون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذ الاجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه اللّه تعالى ، وفي الهداية من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوما عند أهل السنة والجماعة ، وفيه ما علمت ما مرّ آنفا.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 67
وقال الخفاجي : هو محتاج إلى التحرير وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فتسقط عمن لزمته فعل غيره سواء كان بإذنه أو لا بعد حياته أم لا فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة ، أما الصوم فلا ، وما
ورد في حديث «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»
وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوي : إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنه بدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضله عز وجل كالصدقة عن الغير فأعرفه انتهى فلا تغفل.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشيء ، وفي البحر يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن وتوبيخا للمسيء ثُمَّ يُجْزاهُ أي يجزى الإنسان سعيه ، يقال : جزاه اللّه عز وجل بعمله وجزاه على عمله وجزاه عمله بحذف الجار وإيصال الفعل ، وقوله تعالى : الْجَزاءَ الْأَوْفى مصدر مبين للنوع وإذا جاز وصف المجزي به بالأوفى جاز وصف الحدث عن الجزاء لملابسته له ، وجوز كونه مفعولا به بمعنى المجزي به وحينئذ يكون الفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل. ولا بأس لأن الثاني بالحذف والإيصال لا التوسع فيجيء فيه الخلاف ، وبعضهم يجعل الجزاء منصوبا بنزع الخافض ، وجوز أن يكون الضمير المنصوب في يُجْزاهُ للجزاء لا للسعي ، والْجَزاءَ الْأَوْفى عليه عطف بيان ، أو بدل كما في قوله تعالى : وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء : 3] وتعقبه أبو حيان بأن فيه إبدال الظاهر من الضمير وهي مسألة خلافية والصحيح المنع وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا ، والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين يحشرون ولهذا قال غير واحد : أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعقابه من النار الانتهاء ، وقيل : المعنى أنه عز وجل منتهى الأفكار فلا تزال الأفكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات اللّه عز وجل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها ، وأيد بما
أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية : «لا فكرة في الرب» وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري
، وروي عنه عليه الصلاة والسلام «إذا ذكر الرب فانتهوا»
، وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس قال : «مر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون في اللّه فقال : تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه»
وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال :
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : تفكروا في خلق اللّه ولا تفكروا في اللّه فتهلكوا».
واستدل بذلك من قال باستحالة معرفته عز وجل بالكنه ، والبحث في ذلك طويل ، وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع ، وقرأ أبو السمال ، وإن بالكسر هنا وفيما بعد على أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى خلق فعلي الضحك والبكاء ، وقال الزمخشري : خلق قوتي الضحك والبكاء ، وفيه دسيسة اعتزال ، وقال الطيبي : المراد خلق السرور والحزن أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة ، ولذا قرن بقوله تعالى : وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضا تناسب الإماتة والإحياء لا سيما والموت يعقبه البكاء غالبا والإحياء عند الولادة الضحك وما أحسن قوله :
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا والناس حولك يضحكون سرورا
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكا مسرورا
وقال مجاهد الكلبي : أَضْحَكَ أهل الجنة وَأَبْكى أهل النار ، وقيل : أَضْحَكَ الأرض بالنبات وَأَبْكى السماء بالمطر ، وتقديم الضمير وتكرير الإسناد للحصر أي إنه تعالى فعل ذلك لا غيره سبحانه ، وكذا في

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 68
أنه هُوَ أَماتَ وَأَحْيا فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عز وجل ، والقاتل إنما ينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل اللّه تعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى من نوع الإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ولم يذكر الضمير على طرز ما تقدم لأنه لا يتوهم نسبة خلق الزوجين إلى غيره عز وجل مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي تدفق في الرحم يقال : أمنى الرجل ومنى بمعنى ، وقال الأخفش :
أي تقدر يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر ، ومنه المنا الذي يوزن به فيما قبل ، والمنية وهي الأجل المقدر للحيوان وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي الإحياء بعد الإماتة وفاء بوعده جل شأنه : وفي البحر لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى عليه كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه ، وفي الكشاف قال سبحانه : عَلَيْهِ لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة وفيه مع كونه على طريق الاعتزال نظر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو - النشاءة - بالمد وهي أيضا مصدر نشأة الثلاثي وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء ، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى : أَغْنى لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها ، وفي البحر يقال : قنيت المال أي كسبته ويعدى أيضا بالهمزة والتضعيف فيقال : أقناه اللّه تعالى مالا وقناه اللّه تعالى مالا ، وقال الشاعر :
كم من غني أصاب الدهر ثروته ومن فقير يقني بعد إقلال
أي يقني المال ، وعن ابن عباس أَغْنى مول ، وَأَقْنى أرضى. وهو بهذا المعنى مجاز من القنية قال الراغب : وتحقيق ذلك أنه جعل له قنية من الرضا والطاعة وذلك أعظم القنائن ، وللّه تعالى در من قال :
هل هي إلا مدة وتنقضي ما يغلب الأيام إلا من رضي
وعن ابن زيد والأخفش أَقْنى أفقر ، ووجه بأنهما جعلا الهمزة فيه للسلب والإزالة كما في أشكى ، وقيل :
إنهما جعلا أَقْنى بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في أَماتَ وَأَحْيا وأَضْحَكَ وَأَبْكى وفسره بأفقر أيضا الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير وأبو الشيخ قال أَغْنى نفسه سبحانه و«أفقر» الخلائق إليه عز وجل ، والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أن يكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل ، وعندي أن أَغْنى سبحانه نفسه كأوجد جل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور ، وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى الفعل نفسه وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى هي الشِّعْرى العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعد الواو ، وتقال الشِّعْرى أيضا على الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناء تحتية وصاد مهملة ومد ، والأولى في الجوزاء ، وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا ولأنها تراه إذا طلع كأنها ستعبر وتسمى أيضا كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما تتبع الكلب الصائد أو الصيد ، والثانية في ذراع الأسد المبسوطة ، وإنما قيل لها الغميصاء لانها بكت من فراق سهيل فغمصت عينها ، والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق ، وذلك من زعم العرب أنهما أختا سهيل ، وفي القاموس من أحاديثهم أن الشعرى العبور قطعت المجرة فسميت عبورا وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموص أيضا ، وقيل : زعموا أن سهيلا والشِّعْرى كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانيا فاتبعه الشعرى فعبرت المجرة فسميت العبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياء ، وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها ، والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرما وأكثر ضياء وهي التي عبدت من دون
اللّه سبحانه في الجاهلية.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 69
قال السدي : عبدتها حمير وخزاعة ، وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة رجل من خزاعة ، أو هو سيدهم واسمه وخز بن غالب وكان المشركون يقولون للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : ابن أبي كبشه شبهوه به لمخالفته قومه في عبادة الأصنام ، وذكر بعضهم أنه أحد أجداده عليه الصلاة والسلام من قبل أمه وأنهم كانوا يزعمون أن كل صفة في المرء تسري إليه من أحد أصوله فيقولون نزع إليه عرق كذا ، وعرق الخال نزاع ، وقيل : هو كنية وهب بن عبد مناف جده صلى اللّه تعالى عليه وسلم من قبل أمه ، وقولهم له عليه الصلاة والسلام ذلك على ما يقتضيه ظاهر القاموس لأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في الشبه الخلقي دون المخالفة ، وقيل : كنية زوج حليمة السعدية مرضعته عليه الصلاة والسلام ، وقيل : كنية عم ولدها ولكونها عبدت من دونه عز وجل خصت بالذكر ليكون ذلك تجهيلا لهم بجعل المربوب ربا ، ولمزيد الاعتناء بذلك جيء بالجملة على ما نطق به النظم الجليل.
ومن العرب من كان يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضا وسائر النجوم تقطعها طولا ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى : وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى إشارة إلى نفي تأثيرها.
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى أي القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح كما قاله ابن زيد والجمهور ، وقال الطبري : وصفت الأولى لأن في القبائل عاداً أخرى وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال ، وقال المبرد : عاد الأخرى هي ثمود ، وقيل : الجبارون ، وقيل : عاد الأولى ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح ، وعاد الأخرى من ولد عاد الأولى ، وفي الكشاف الْأُولى قوم هود والأخرى إرم واللّه تعالى أعلم.
وجوز أن يراد بالأولى المتقدمون الأشراف : وقرأ قوم عاد الولي بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى اللام قبلها ، وقرأ نافع وأبو عمرو عاد الولي بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة ، وعاب هذه القراء المازني والمبرد ، وقالت العرب : في الابتداء بعد النقل - الحمر ، ولحمر - فهده القراءة جاءت على لحمر فلا عيب فيها ، وأتى قالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو كما في قوله :
أحب الموقدين إليّ مؤسى وكما قرأ بعضهم - على سؤقه - وفيه شذوذ ، وفي حرف أبيّ عاد غير مصروف للعلمية والتأنيث ومن صرفه فباعتبار الحي ، أو عامله معاملة هند لكونه ثلاثيا ساكن الوسط وَثَمُودَ عطف على عاداً ولا يجوز أن يكون مفعولا - لأبقى - في قوله تعالى : فَما أَبْقى لأن - ما - النافيه لها صدر الكلام والفاء على ما قيل : مانعة أيضا فلا يتقدم معمول ما بعدها ، وقيل : هو معمول - لأهلك - مقدر ولا حاجة إليه ، وقرأ عاصم وحمزة - ثمود - بلا تنوين ويقفان بغير ألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف ، والظاهر أن متعلق أَبْقى يرجع إلى عاد وثمود معا أي فما أبقى عليهم ، أي أخذهم بذنوبهم ، وقيل : أي ما أبقى منهم أحدا ، والمراد ما أبقى من كفارهم وَقَوْمَ نُوحٍ عطف على عاداً أيضا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إهلاك عاد وثمود ، وصرح بالقبلية لأن نوحا عليه السلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي من الفريقين حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكاد يتحرك وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ فإياك أن تصدقه فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولم يتأثروا من دعائه وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وقيل : ضمير إِنَّهُمْ يعود على جميع من تقدم عاد وثمود وقوم نوح أي كانوا أظلم من قريش وأطغى منهم ، وفيه من التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى ، وهُمْ يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل ، وحذف المفضول مع الواقع خبرا لكان لأنه جار مجرى خبر المبتدأ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 70
وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان وَالْمُؤْتَفِكَةَ هي قرى قوم لوط سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم ، ومنه الإفك لأنه قلب الحق ، وجوز أن يراد بالمؤتفكة كل ما انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه.
وقرأ الحسن «والمؤتفكات» جمعا أَهْوى أي أسقطها إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبريل عليه السلام إلى السماء ، وقال المبرد : جعلها تهوي.
والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة ، وجوز أن يكون - المؤتفكة - معطوفا على ما قبله وأَهْوى مع فاعله جملة في موضع الحال بتقدير قد ، أو بدونه توضح كيفية إهلاكهم.
فَغَشَّاها ما غَشَّى فيه تهويل للعذاب وتعميم لما أصابهم منه لأن الموصول من صيغ العموم والتضعيف في غشاها يحتمل أن يكون للتعدية فيكون ما مفعولا ثانيا والفاعل ضميره تعالى : ويحتمل أن يكون للتكثير والمبالغة ف ما هي الفاعل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى تتشكك والتفاعل هنا مجرد عن التعدد في الفاعل والمفعول للمبالغة في الفعل ، وقيل : إن فعل التماري للواحد باعتبار تعدد متعلقه وهو الآلاء المتمارى فيها ، والخطاب قيل :
لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم على أنه من باب الإلهاب والتعريض بالغير ، وقيل : للإنسان على الإطلاق وهو أظهر والاستفهام للإنكار ، والآلاء جمع إلى النعم ، والمراد بها ما عد في الآيات قبل وسمي الكل بذلك مع أن منه نقما لما في النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين والانتفاع للأنبياء والمؤمنين فهي نعم بذلك الاعتبار أيضا ، وقيل : التعبير بالآلاء للتغليب وتعقب بأن المقام غير مناسب له ، وقرأ يعقوب وابن محيصن - ربك تمارى - بتاء مشددة هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى الإشارة إلى القرآن. وقال أبو مالك : إلى الأخبار عن الأمم ، أو الإشارة إلى الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم. والنذير يجيء مصدرا ووصفا ، والنذر جمعه مطلقا وكل من الامرين محتمل هنا ، ووصف النُّذُرِ جمعا للوصف بالأولى على تأويل الفرقة ، أو الجماعة ، واختير على غيره رعاية للفاصلة ، وأيا ما كان فالمراد هذا نَذِيرٌ مِنَ جنس النُّذُرِ الْأُولى .
وفي الكشف أن قوله تعالى : هذا نَذِيرٌ إلخ فذلكة للكلام إما لما عدد من المشتمل عليه الصحف وإما لجميع الكلام من مفتتح السورة فتدبر ولا تغفل أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت الساعة الموصوفة بالقرب في غير آية من القرآن ، فأل في الْآزِفَةُ كاللعهد لا للجنس ، وقيل : الْآزِفَةُ علم بالغلبة للساعة هنا ، وقيل : لا بأس بإرادة الجنس ووصف القريب بالقرب للمبالغة لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير اللّه تعالى أو إلا اللّه عز وجل كاشِفَةٌ نفس قادرة على كشفها إذا وقعت لكنه سبحانه لا يكشفها والمراد بالكشف الإزالة ، وقريب من هذا ما روي عن قتادة وعطاء والضحاك أي إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد ، أو ليس لها الآن نفس كاشفة أي مزيلة للخوف منها فإنه باق إلى أن يأتي اللّه سبحانه بها وهو مراد الزمخشري بقوله : أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير ، وقيل : معناه لو وقعت الآن لم يردّها إلى وقتها أحد إلا اللّه تعالى ، فالكشف بمعنى التأخير وهو إزالة مخصوصة ، وقال الطبري والزجاج : المعنى ليس لها من دون اللّه تعالى نفس كاشفة تكشف وقت وقوعها وتبينه لأنها من أخفى المغيبات ، فالكشف بمعنى التبيين والآية كقوله تعالى : لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف : 187] والتاء في كاشِفَةٌ على جميع الأوجه للتأنيث ، وهو لتأنيث الموصوف المحذوف كما سمعت ، وبعضهم يقدر الموصوف حالا ، والأول أولى وجوز أن تكون للمبالغة مثلها في علامة ، وتعقب بأن المقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره عز وجل وفيه نظر ، وقال الرماني وجماعة : يحتمل أن يكون كاشِفَةٌ مصدرا كالعافية ، وخائنة الأعين أي ليس لها كشف من دون اللّه تعالى أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ أي القرآن تَعْجَبُونَ إنكارا وَتَضْحَكُونَ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 71
استهزاء مع كونه أبعد شيء من ذلك وَلا تَبْكُونَ حزنا على ما فرطتم في شأنه وخوفا من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون كما روي عن ابن عباس جوابا لنافع بن الأزرق ، وأنشد عليه قول هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد :
ليت عادا قبلوا الحق ولم يبدوا جحودا
قيل : قم فانظر إليهم ثم دع عنك السمودا
وفي رواية أنه رضي اللّه تعالى عنه سئل عن السمود ، فقال : البرطمة وهي رفع الرأس تكبرا أي وأنتم رافعون رؤوسكم تكبرا ، وروي تفسيره بالبرطمة عن مجاهد أيضا ، وقال الراغب : السامد اللاهي الرافع رأسه - من سمد البعير في سيره - إذا رفع رأسه ، وقال أبو عبيدة : السمود الغناء بلغة حمير يقولون : يا جارية اسمدي لنا أي غني لنا ، وروي نحوه عن عكرمة ، وأخرج عبد الرازق. والبزار وابن جرير والبيهقي في سننه. وجماعة عن ابن عباس أنه قال : هو الغناء باليمانية وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه ، وقيل : يفعلون ذلك ليشغلوا الناس عن استماعه ، والجملة الاسمية على جميع ذلك حال من فاعل - لا تبكون - ومضمونها قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود ، وقال المبرد : السمود الجمود والخشوع كما في قوله :
رمى الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا
والجملة عليه حال من فاعل - تبكون - أيضا إلا أن مضمونها قيد للمنفى ، والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معا فلا تغفل ، وفي حرف أبيّ وعبد اللّه - تضحكون - بغير واو ، وقرأ الحسن - تعجبون تضحكون - بغير واو وضم التاءين وكسر الجيم والحاء ، واستدل بالآية كما
في أحكام القرآن على استحباب البكاء عند سماع بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال عليه الصلاة والسلام : لا يلج النار من بكى من خشية اللّه تعالى ولا يدخل الجنة مصرّ على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء اللّه تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم»
وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وهناد وغيرهم بمن صالح أبي الخليل قال : «لما نزلت هذه الآية أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ما ضحك النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم»
ولفظ عبد بن حميد «فما رئي النبي عليه الصلاة والسلام ضاحكا ولا مبتسما حتى ذهب من الدنيا»
وفيه سد باب الضحك عند قراء القرآن ولو لم يكن استهزاء والعياذ باللّه عز وجل.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا الفاء لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالتعجب والضحك وحقية مقابلته بما يليق به ، ويدل على عظم شأنه أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا للّه تعالى الذي أنزله واعبدوه جل جلاله ، وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم ، وقد سجد النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عندها.
أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال : «أول سورة أنزلت فيها سجدة وَالنَّجْمِ فسجد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا» الحديث.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما «قال : صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود»
وكذا عمر رضي اللّه تعالى عنه ، أخرج سعيد بن منصور عن سبرة قال : صلى بنا عمر بن الخطاب الفجر فقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف ، ثم قرأ في الثانية سورة النجم فسجد ، ثم قام فقرأ إذا زلزلت ثم ركع ، ولا يرى مالك السجود هنا ، واستدل له بما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 72
والنسائي والطبراني وغيرهم عن زيد بن ثابت قال : قرأت النجم عند النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فلم يسجد فيها ، وأجيب بأن الترك إنما ينافي وجوب السجود وليس بمجمع عليه وهو عند القائل به على التراخي في مثل ذلك على المختار وليس في الحديث ما يدل على نفيه بالكلية فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام سجد بعد ، وكذا زيد رضي اللّه تعالى عنه ، نعم التأخير مكروه تنزيها ولعله فعل لبيان الجواز ، أو لعذر لم نطلع عليه ، وما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس من قوله : «إن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة»
ناف وضعيف ، وكذا
قوله فيما رواه أيضا عنه «كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها»
على أن الترك إنما ينافي - كما سمعت - الوجوب ، واللّه تعالى أعلم.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 73
سورة القمر
وتسمى أيضا «اقتربت» وعن ابن عباس أنها تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه ، أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان لكن قال : إنه منكر «وهي مكية» في قول الجمهور ، وقيل مما نزل يوم بدر ، وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات أَمْ يَقُولُونَ إلى وَأَمَرُّ [القمر : 44 - 46] واقتصر بعصهم على استثناء سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر : 45] إلخ ،
ورد بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة قال : أنزل اللّه تعالى على نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وقال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول اللّه أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكانت ليوم بدر
، وفي الدر المنثور : أخرج البخاري عن عائشة قالت : «نزل على محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر : 46]»
ويرد به وبما قبله ما حكي عن مقاتل أيضا ، وقيل : إلا إِنَّ الْمُتَّقِينَ [القمر : 45] الآيتين وآيها خمس وخمسون بالإجماع ، ومناسبة أولها لآخر السورة التي قبلها ظاهرة فقد قال سبحانه :
ثم أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم : 57] وهنا اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر : 1] وقال الجلال السيوطي : لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق للتناسب في التسمية لما بين - النجم ، والقمر - من الملابسة ، وأيضا إن هذه بعد تلك - كالأعراف بعد الأنعام ، وكالشعراء بعد الفرقان ، وكالصافات بعد يس - في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله تعالى : وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ [النجم : 50] إلى قوله سبحانه : وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النجم : 53].
[سورة القمر (54) : الآيات 1 إلى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 74
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت جدا وَانْشَقَّ الْقَمَرُ انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين
فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما
، وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس - أن أحبار اليهود سألوا آية فأراهم اللّه تعالى القمر قد انشق -
لا يعوّل عليه ، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود «انشق القمر على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : اشهدوا»
ومن حديثه أيضا «انشق القمر على عهد رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل : انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فأخبروهم بذلك» رواه أبو داود. والطيالسي
، وفي رواية البيهقي «فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا : رأيناه» فأنزل اللّه تعالى : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال : «اجتمع المشركون على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وربيعة بن الأسود والنضر بن الحارث فقالوا للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا :
نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ربه عز وجل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع ورسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا»
. والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة ، واختلف في تواتره فقيل : هو غير متواتر ، وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب : الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمترى في تواتره انتهى باختصار ، وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم علي كرم اللّه تعالى وجهه وأنس وابن سعود وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم ، نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكن مولودا إذ ذاك وكأنس فإنه كان ابن أربع أو خمس بالمدينة ، وهذا لا يطعن في صحة الخبر كما لا يخفى ، ووقع
في رواية البخاري وغيره عن ابن مسعود «كنا مع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بمنى فانشق القمر»
ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلتئذ بمكة ، فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ، ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الانشقاق عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال : رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم الحديث ، وأما الإجماع فغير مسلم ، وفي المواهب قال الحافظ بن حجر : أظن أن قوله :
بالإجماع يتعلق - بانشق - لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ولعل قائل مرتين أراد فرقتين ، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات انتهى ، ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنى في خبر ابن مسعود المذكور آنفا لمكان شقتين وهي بمعنى فرقتين ومرتين معا ، والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 75
فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير ففيه إشارة إلى أنه رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة ،
أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال : انتهى أهل مكة إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : هل من آية نعرف بها أنك رسول اللّه؟ فهبط جبريل عليه السلام فقال : يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأخبرهم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل اللّه تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
فلو قال أحد هؤلاء رأيت القمر منشقا ثلاث مرات على معنى تعدد الرؤية صح بلا غبار ولم يقتض تعدد الانشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذا الطرز ليجمع بين الروايات ، ثم هذا الحديث إن صح كان دليلا لما أشار إليه البوصيري في قوله :
شق عن صدره وشق له البد ر ومن شرط كل شرط جزاء
من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمر ليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه : ظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفا ، ولعله أراد بالبدر مطلق القمر ، ويؤيد كونه ليلة البدر ما أخرجه الطبراني ، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال :
كسف القمر على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : سحر القمر فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ إلى مُسْتَمِرٌّ فإن الكسوف وإن جاز عادة أن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشر إلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورة إلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الانشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهاية أن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف ، نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب.
ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعتاه السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدا ما لحظة ثم اتصلتا ، وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة اللّه تعالى على من وضعه. وما في خبر أبي نعيم - الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب - لا يعوّل عليه ، كيف وقد تضمن ذلك الخبر أن الانشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ هم ، وهو مخالف لما نطقت به الأخبار الصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع ، وقد شاع
«أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق»
ولم أره في خبر صحيح واللّه تعالى أعلم.
وأنكر الفلاسفة أصل الانشقاق بناء على زعمهم استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنى نسمة من نسمات أفكار أهل الحق العلويين خرقا لا يقبل الالتئام كما بين في موضعه ، وقال بعض الملاحدة : لو وقع لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد ، ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلا في الزمن القديم ولو كان له أصل لخلد أيضا في كتب التسيير والتنجيم ولذكره أهل الإرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة ، وأيضا لا يعقل سبب لخرق هذا الجرم العظيم وأيضا خرقه يوجب صوتا هائلا أشد من أصوات الصواعق المهلكة بأضعاف مضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أهل الأرض منه ، وأيضا متى خرق وصار قطعتين ذهبت منه قوة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 76
التجاذب كالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقا ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلة وكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم ورؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعا على قوم غائبا عن آخرين ومكسوفا عند قوم غير مكسوف عند آخرين والاعتناء بأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلة أهلها لحظة غير مستبعد والانشقاق لا تختلف به منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوة سير لتلحق أختها الغربية ، وأي مانع من أن يخلق اللّه تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق اللّه سبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمة الجديدة : إن بين الأرض والشمس ثلاثمائة ألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرض في مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلم سبب كل حادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤية الكواكب قريبة مع بعدها المفرط فقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفي في ذلك عدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقة ولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم إبصار بخواص البصر مع كونه قطعة شحم صغيرة معروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون.
ومن سلم تأثير النفوس إلى حدّ أن يصرع الشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناك سبب نحو ذلك ، وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممن له عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين ، وربما تصور له من رمل فينظر إليه ويفلقه فينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاة وإلا فإرادة اللّه تعالى كافية في الانشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه ، وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع فيما نحن فيه ومصله ذهاب التجاذب والأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلا جذبته إليه إذا لم يخرج عن حدّ جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حدّ الجذب على أنا في غنى عن كل ذلك أيضا بعد إثبات الإمكان وشمول قدرته عز وجل وأنه سبحانه فعال لما يريد.
والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق ، والاستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سلم ، وروي عن الحسن أنه قال : هذا الانشقاق بعد النفخة الثانية ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، وروي ذلك عن عطاء أيضا ، ويؤيد ما تقدم الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة وقد انشق القمر فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الانشاق قبل يوم القيامة ، وكذا قوله تعالى : وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا فإنه يقتضي أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها ، وزعم بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قوله النابغة :
فلما أدبروا ولهم دوي دعانا عند شق الصبح داعي
وزعم آخر أن معنى انشق القمر وضح الأمر وظهر وكلا الزعمين مما لا يعول عليه ولا يلتفت إليه لا أظن الداعي إليهما عند من يقرّ بالساعة التي هي أعظم من الانشقاق ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق سوى عدم ثبوت الاخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده ، ومنشأ ذلك القصور التام والتمسك بشبه هي على طرف الثمام ، ومع هذا لا يكفر المنكر بناء على عدم الاتفاق على تواتر ذلك وعدم كون الآية نصا فيه ، والإخراج من

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 77
الدين أمر عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره واللّه تعالى الموفق.
والظاهر أن المراد باقتراب الساعة القرب الشديد الزماني ، وكل آت قريب ، وزمان العالم مديد ، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير ، ومال الإمام إلى أن المراد به قربها في العقول والأذهان ، وحاصله أنها ممكنة إمكانا قريبا لا ينبغي لاحد إنكارها ، واستعمال الاقتراب مع أنه أمر مقطوع به كاستعمال لَعَلَّ في قوله تعالى : لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب : 63] مع أن الأمر معلوم عند اللّه تعالى وانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب ، وعلى الاول قيل : هو آية لأصل الإمكان الذي يقتضيه قرب الوقوع ، وقيل : هو آية لقرب الوقوع ومعجزة للنبي صلّى اللّه عليه وسلم باعتبار أن اللّه تعالى مخبر في كتبه السالفة بأنه إذا قربت الساعة انشق القمر معجزة وكلاهما كما ترى ، واختار بعضهم أنه آية لصدق النبي عليه الصلاة والسلام في جميع ما يقول ويبلغ ربه سبحان لأنه معجزة له صلّى اللّه عليه وسلم ومنه دعوى الرسالة والإخبار باقتراب الساعة وغير ذلك ، وآيَةً نكرة في سياق الشرط فتعم ، فالمعنى «وإن يروا كل آية يعرضوا» عن التأمل فيها ليقفوا على وجه دلالتها وعلو طبقتها وَيَقُولُوا سِحْرٌ أي هذا أو هو أي ما نراه سحر مُسْتَمِرٌّ أي مطرد دائم يأتي به محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم على مر الزمان وهو ظاهر في ترادف الآيات وتتابع المعجزات.
وقال أبو العالية والضحاك : مُسْتَمِرٌّ محكم موثق من المرة بالفتح أو الكسر بمعنى القوة وهو في الأصل مصدر مررت الحبل مرة إذا فتلته فتلا محكما فأريد به مطلق المحكم مجازا مرسلا ، وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء - واختاره النحاس - مستمر أي مارّ ذاهب زائل عن قريب عللوا بذلك أنفسهم ومنوها بالأماني الفارغة كأنهم قالوا : إن حاله عليه الصلاة والسلام وما ظهر من معجزاته سبحانه سحابة صيف عن قريب تقشع وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة : 32] وقيل : مُسْتَمِرٌّ مشتدّ المرارة أي مستبشع عندنا منفور عنه لشدة مرارته يقال : مرّ الشيء وأمرّ إذا صار مرّا وأمرّ غيره ومرّه يكون لازما ومتعديا ، وقيل : مُسْتَمِرٌّ يشبه بعضه بعضا أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخييلات ، وقيل : مُسْتَمِرٌّ مار من الأرض إلى السماء أي بلغ من سحره أنه سحر القمر وهذا ليس بشيء ، ولعل الأنسب بغلوهم في العناد والمكابرة ما روي عن أنس ومن معه ، وقرى ء - وأن يروا - بالبناء للمفعول من الاراءة وَكَذَّبُوا النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وبما أظهره اللّه تعالى على يده من الآيات وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ التي زينها الشيطان لهم ، وقيل : كَذَّبُوا الآية التي هي انشقاق القمر وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وقالوا سحر القمر أو سحرت أعيننا والقمر بحاله ، والعطف على الجزاء السابق وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ، وقيل : العطف على اقْتَرَبَتِ والجملة الشرطية اعتراض لبيان عادتهم إذا شاهدوا الآيات ، وقوله تعالى : وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم فيه ولا يمنع علو شأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، أو لإقناطهم عما علقوا به أمانيهم الفارغة من عدم استقرار أمره عليه الصلاة والسلام حسبما قالوا : سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ببيان
ثبوته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومن جملتها أمر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيته وعلو شأنه ، وللإشارة إلى ظهور هذه الغاية لأمره عليه الصلاة والسلام لم يصرح بالمستقر عليه ، وفي الكشاف أي كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها وأن أمره صلّى اللّه عليه وسلم سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل وسيظهر له عاقبتهم أو وكل أمر من أمره عليه الصلاة والسلام وأمرهم مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة نصرة أو خذلان في الدنيا أو سعادة وشقاوة في الآخرة ، قال في الكشف : والكلام على الأول تذييل جار مجرى المثل وعلى الثاني تذييل غير مستقل ، وقرأ شيبة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 78
«مستقر» بفتح القاف ورويت عن نافع ، وزعم أبو حاتم أنها لا وجه لها وخرجت على أن مستقرا مصدر بمعنى استقرار ، وحمله على كل أمر بتقدير مضاف أي ذو مستقر ولو لم يقدر وقصد المبالغة صح ، وجوز كونه اسم زمان أو مكان بتقدير مضاف أيضا أي ذو زمان استقرار ، أو ذو موضع استقرار ، وتعقب بأن كون كل أمر لا بد له من زمان أو مكان أمر معلوم لا فائدة في الأخبار به ، وأجيب بأن فيه إثبات الاستقرار له بطريق الكناية وهي أبلغ من التصريح.
وقرأ زيد بن علي «مستقر» بكسر القاف والجر ، وخرج على أنه صفة أمر وأن كل معطوف على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر يستقر ويتبين حاله أي بقربها ، قال في الكشف : وفيه شمة من التجريد وتهويل عظيم حيث جعل في اقترابها اقتراب كل أمر يكون له قرار وتبين حال مما له وقع ، وقوله تعالى : وَانْشَقَّ الْقَمَرُ على هذا إما على تقدير قد وينصره القراءة بها ، وإما منزل منزلة الإعراض لكونه مؤكدا لقرب الساعة ، وقوله سبحانه : وَإِنْ يَرَوْا آيَةً إلخ مستطرد عند ذكر انشقاق القمر.
واعترض ذلك أبو حيان بأنه بعيد لكثرة الفواصل بين المعطوف والمعطوف عليه وجعل الكلام عليه نظير - أكلت خبزا ، وضربت خالدا ، وإن يجىء زيد أكرمه ، ورحل إلى بني فلان ، ولحما بعطف - لحما على خبزا - ثم قال بل لا يوجد مثله في كلام العرب ، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا دل على العطف الدليل لا يعد ذلك مانعا منه على أن بين الآية والمثال فرقا لا يخفى ، وقال صاحب اللوامح إن مُسْتَقِرٌّ خبر كل ، والجر للجوار ، واعترضه أبو حيان أيضا بأنه ليس بجيد لأن الجر على الجوار في غاية الشذوذ في مثله إذ لم يعهد في خبر المبتدأ ، وإنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده ، واستظهر كون كل مبتدأ وخبره مقدر كآت ، أو معمول به ونحوه مما يشعر به الكلام أو مذكور بعد وهو قوله تعالى : حِكْمَةٌ بالِغَةٌ وقد اعترض بينهما بقوله سبحانه : وَلَقَدْ جاءَهُمْ في القرآن مِنَ الْأَنْباءِ أي أخبار القرون الخالية أو أخبار الآخرة ، والجار والمجرور في موضع الحال من ما في قوله عز وجل : ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ قدم عليه رعاية للفاصلة وتتويقا إليه ومِنَ للتبعيض ، أو للتبيين بناء على المختار من جواز تقديمه على المبين ، قال الرضى : إنما جاز تقديم مِنَ المبينة على المبهم في نحو - عندي من المال ما يكفي - لأنه في الأصل صفة لمقدر أي شيء من المال ، والمذكور عطف بيان للمبين المقدر قبلها ليحصل البيان بعد الإبهام أي باللّه لقد جاءهم كائنا من الأنباء ما فيه ازدجار لهم ومنع عما هم فيه من القبائح ، أو موضع ازدجار ومنع ، وهي أنباء التعذيب ، أو أنباء الوعيد ، وأصل مُزْدَجَرٌ مزتجر بالتاء موضع الدال وتاء الافتعال تقلب دالا مع الدال والذال والراء للتناسب ، وقرىء مزجر بقلبها زايا وإدغام الزاي فيها ، وقرأ زيد بن علي مزجر اسم فاعل من أزجر أي صار ذا زجر كأعشب صار ذا عشب حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها ، ورفع حِكْمَةٌ على
أنها بدل كل ، أو اشتمال من ما ، وقيل : من مُزْدَجَرٌ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي ، أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسل وإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى ، أو إلى ما في الأنباء ، أو إلى الساعة المقتربة ، والآية الدالة عليها - كما قاله الإمام وتقدم آنفا - احتمال كونها خبرا عن كل في قراءة زيد ، وقرأ اليماني حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بالنصب حالا من ما فإنها موصولة أو نكرة موصوفة ، ويجوز مجيء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني.
فَما تُغْنِ النُّذُرُ نفى للإغناء أو استفهام إنكاري والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة مع كونه مظنة الإغناء وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار ، وما على الوجه الثاني في محل نصب على أنها مفعول مطلق أي فأي إغناء تغني النذر ، وجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء ، والجملة بعدها خبر ، والعائد مقدر أي فما تغنيه النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر ، وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار ، وتعقب بأن حق

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 79
المصدر أن لا يثنى ولا يجمع وأن يكون مصدرا كالإنذار ، وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله فَتَوَلَّ عَنْهُمْ الفاء للسببية والمسبب التولي أو الأمر به والسبب عدم الاعناء أو العلم به ، والمراد بالتولي إما عدم القتال ، فالآية منسوخة ، وإما ترك الجدال للجلاد فهي محكمة والظاهر الأول يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ظرف - ليخرجون - أو مفعول به لاذكر مقدرا ، وقيل : لا نتظر ، وجوز أن يكون ظرفا لتغني ، أو لمستقر وما بينهما اعتراض ، أو ظرفا - ليقول الكافر - أو - لتول - أي تول عن الشفاعة لهم يوم القيامة ، أو هو معمول له بتقدير إلى ، وعليه قول الحسن - فتول عنهم إلى يوم ..
والمراد استمرار التولي والكل كما ترى ، والداعي إسرافيل عليه السلام ، وقيل : جبرائيل عليه السلام ، وقيل :
ملك غيرهما موكل بذلك ، وجوز أن يكون الدعاء للإعادة في ذلك اليوم كالأمر في كُنْ فَيَكُونُ [البقرة : 117] وغيرها على القول بأنه تمثيل ، فالداعي حينئذ هو اللّه عز وجل ، وحذفت الواو من يَدْعُ لفظا لالتقاء الساكنين ورسما اتباعا للفظ ، والياء من الدَّاعِ تخفيفا ، وإجراء لال مجرى التنوين لأنها تعاقبه ، والشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة ويكنى بالنكر عن الفظيع لأنه في الغالب منكر غير معهود ، وجوز أن يكون من الإنكار ضد الإقرار وأيما كان فهو وصف على فعل بضمتين وهو قليل في الصفات ، ومنه - روضة أنف لم ترع ، ورجل شلل خفيف في الحاجة سريع حسن الصحبة طيب النفس ، وسجح لين سهل وقرأ الحسن وابن كثير وشبل «نكر» بإسكان الكاف كما قالوا : شغل وشغل ، وعسر وعسر وهو إسكان تخفيف ، أو السكون هو الأصل والضم للإتباع ، وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي «نكر» فعلا ماضيا مبنيا للمفعول بمعنى أنكر خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ حال من فاعل يَخْرُجُونَ أي يخرجون مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول أي أذلاء من ذلك ، وقدم الحال لتصرف العامل والاهتمام ، وفيه دليل على بطلان مذهب الجرمي من عدم تجويز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا ، ويرده أيضا قولهم : شتى تؤب الحلبة ، وقوله :
سريعا يهون الصعب عند أولي النهى إذا برجاء صادق قابلوا البأسا
وجعل حالا من ذلك لقوله تعالى : يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج : 43] إلى قوله تعالى : خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ [المعارج : 43 - 44] وقيل : هو حال من الضمير المفعول المحذوف في يَدْعُ الدَّاعِ أي يدعوهم الداع وتعقب بأنه لا يطابق المنزل وأيضا يصير حالا مقدرة لأن الدعاء ليس حال خشوع البصر وليست في الكثرة كغيرها وكذلك جعله مفعول - يدعو - على معنى يدعو فريقا خاشعا أبصارهم أي سيخشع وإن كان هذا أقرب مما قبل : وقيل : هو حال من الضمير المجرور في قوله تعالى : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ وفيه ما لا يخفى ، وأبصارهم فاعل خشعا وطابقه الوصف في الجمع لأنه إذا كسر لم يشبه الفعل لفظا فتحسن فيه المطابقة وهذا بخلاف ما إذا جمع جمع مذكر سالم فإنه لم يتغير زنته وشبهه للفعل فينبغي أن لا يجمع إذا رفع الظاهر المجموع على اللغة الفصيحة دون لغة أكلوني البراغيث ، لكن الجمع حينئذ في الاسم أخف منه في الفعل كما قال الرضى ، ووجهه ظاهر ، وفي التسهيل إذا رفعت الصفة اسما ظاهرا مجموعا فان أمكن تكسيرها - كمررت برجل قيام غلمانه - فهو أولى من إفرادها - كمررت برجل قائم غلمانه - وهذا قول المبرد ومن تبعه والسماع شاهد له كقوله :
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 80
وقوله :
بمطرد لدن صحاح كعوبه وذي رونق عضب يقد القوانسا
وقال الجمهور : الإفراد أولى والقياس معهم ، وعليه قوله :
ورجال حسن أوجههم من إياد بن نزار بن معد
وقيل : إن تبع مفردا فالإفراد أولى - كرجل قائم غلمانه - وإن تبع جمعا فالجمع أولى - كرجال قيام غلمانهم - وأما التثنية والجمع السالم فعلى لغة أكلونى البراغيث وجوز أن يكون في خُشَّعاً ضمير مستتر ، وأَبْصارُهُمْ بدلا منه ، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي - خاشعا - بالإفراد ، وقرأ أبيّ وابن مسعود «خاشعة» وقرىء «خشع» على أنه خبر مقدم ، وأَبْصارُهُمْ مبتدأ ، والجملة في موضع الحال ، وقوله تعالى : كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ حال أيضا وتشبيههم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار ، وجاء تشبيههم بالفراش المبثوث ولهم يوم الخروج سهم من الشبه لكل ، وقيل : يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون لأن الفراش لا جهة لها تقصدها ، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، وحكي ذلك عن مكي بن أبي طالب.
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين إليه قال أبو عبيدة : وزاد بعضهم مادّي أعناقهم ، وآخر مع هز ورهق ومدّ بصر ، وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت ، وعن ابن عباس ناظرين إليه لا تقلع أبصارهم عنه وأنشد قول تبع :
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وفي رواية أنه فسره بخاضعين وأنشد البيت ، وقيل : خافضين ما بين أعينهم ، وقال سفيان : شاخصة أبصارهم إلى السماء ، وقيل : أصل الهطع مد العنق ، أو مد البصر ، ثم يكنى به عن الإسراع ، أو عن النظر والتأمل فلا تغفل ، يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب شديد لما يشاهدون من مخايل هوله وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه ، وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأنه على المؤمنين ليس كذلك.
[سورة القمر (54) : الآيات 9 إلى 21]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنبياء الموجبة للازدجار ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى : فَما تُغْنِ النُّذُرُ والفعل منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح : وقوله تعالى : فَكَذَّبُوا عَبْدَنا تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى : وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ [هود : 45] إلخ ، وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب ، وجوز أن يكون المعنى كذبوا تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مكذب مثله ، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل ، والفاء عليه سببية ، وقيل : معنى كذبت قصدت التكذيب وابتدأته ، ومعنى فكذبوا أتموه وبلغوا نهايته كما قيل في قوله :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 81
وقد جبر الدين الإله فجبر وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه.
وَقالُوا مَجْنُونٌ أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وَازْدُجِرَ عطف على - قالوا - وهو إخبار منه عز وجل أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية والتخويف قاله ابن زيد ، وقرأ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء : 116] وقال مجاهد : هو من تمام قولهم أي هو مجنون ، وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبّه وتخبطته ، والأول أظهر وأبلغ ، وجعل مبنيا للمفعول لغرض الفاصلة ، وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة على أن فعلهم أسوأ من قولهم فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي أي بأني.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن علي - ورويت عن عاصم - «إني» بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين ، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين مَغْلُوبٌ من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم ، وقيل : فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك ، وقيل : المراد - بمغلوب - غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم ، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار.
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي منصب ، وقيل : كثير قال الشاعر :
أعيناي جودا بالدموع الهوامر على خير باد من معد وحاضر
والباء للآلة مثلها في فتحت الباب بالمفتاح ، وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ ، وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء ، وهو الذي ذهب إليه الجمهور ، وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال : لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب ، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتقى الماءان ، وفي رواية لم تقلع أربعين يوما ، وعن النقاش أنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العيبة! والمعروف من الأرصاد أن المجرة كواكب صغار متقاربة جدا ، واللّه تعالى أعلم.
ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم اللّه تعالى بمطلوبهم ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب «ففتحنا» بالتشديد لكثرة الأبواب ، والظاهر أن جمع القلة هنا للكثرة وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الإبهام والتفسير ، فالتمييز محول عن المفعول ، وجعله بعضهم محولا عن الفاعل بناء على أنه الأكثر ، الأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل المذكور يكون عن فاعل فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق - وهذا منه - وهو تكلف لا حاجة إليه ، ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب عُيُوناً حالا مقدرة ، وجوز عليه أن يكون مفعولا ثانيا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أي صيرنا بالتفجير الأرض عيونا وكان ذلك على ما في بعض الروايات أربعين يوما ، وقرأ عبد اللّه وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم «فجرنا» بالتخفيف فَالْتَقَى الْماءُ أي ماء السماء وماء الأرض ، والإفراد لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بل بطريق الاختلاط والاتحاد ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه والحسن ومحمد بن كعب والجحدري - الماءان - والتثنية لقصد بيان اختلاف النوعين وإلا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 82
فالماء شامل لماء السماء وماء الأرض ، ونحوه قوله :
لنا إبلان فيهما ما علمتم فعن أيها ما شئتم فتنكبوا
وقيل : فيها إشارة إلى أن ماء الأرض فار بقوة وارتفع حتى لاقى ماء السماء وفي ذلك مبالغة لا تفهم من الإفراد ، وقرأ الحسن أيضا - ماوان - بقلب الهمز واوا كقولهم : علباوان كما قال الزمخشري ، ولم يرد أنه نظيره بل أراد كما أن هنالك إبدالا بعلة أنها غير أصلية لانها زائدة للإلحاق كذلك هاهنا لانها مبدلة والبدل وإن كان من الهاء لكنها أجريت مجرى البدل عن الواو قاسه على النسبة كذا في الكشف ، وعنه أيضا المايان بقلب الهمزة ياء.
عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي كائنا على حال قد قدرها اللّه تعالى في الأزل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج.
وقيل : إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا ونزل ماء السماء مكملا أربعين ، وقيل : ما الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند اللّه عز وجل ، أو على أمر قدره اللّه تعالى وكتبه في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.
ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر اللّه تعالى فيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هلاك هؤلاء ، وعَلى عليه للتعليل ، ويحتمل تعلقها بالتقى. وفيه ردّ على أهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عدا الزهرة في برج مائي ، وقرأ أبو حيوة وابن مقسم «قدّر» بتشديد الدال وَحَمَلْناهُ أي نوحا عليه السلام عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أخشاب عريضة وَدُسُرٍ أي مسامير كما قاله الجمهور وابن عباس في رواية ابن جرير ، وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب ، وقيل : دُسُرٍ كسقف وسقف. وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر فسمي به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة. وقيل : حبال من ليف تشد بها السفن. وقال الليث : خيوط تشد بها ألواحها ، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه. وروي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها.
وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة. وأيا ما كان فقوله تعالى : ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم : حي مستوي القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو من فصيح الكلام وبديعه. ونظير الآية قول الشاعر :
مفرشي صهوة الحصان ولكن قميصي مسرودة من حديد
فإنه أراد قميصي درع وقوله يصف هزال الإبل :
تراءى لها في كل عين مقابل ولو في عيون النازيات بأكرع
فإنه أراد في عيون الجراد لأن النزو بالأكرع يختص بها. وأما كونه على حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه على ما في المفصل وغيره فكلام نحوي تَجْرِي بِأَعْيُنِنا بمرأى منا. وكني به عن الحفظ أي تجري في ذلك الماء بحفظنا وكلاءتنا ، وقيل : بأوليائنا يعني نوحا عليه السلام ومن آمن معه يقال : مات عين من عيون اللّه تعالى أو ولي من أوليائه سبحانه ، وقيل : بأعين بالماء التي فجرناها ، وقيل : بالحفظة من الملائكة عليه السلام سماهم أعينا وأضافهم إليه جل شأنه والأول أظهر ، وقرأ زيد بن علي. وأبو السمال - بأعينا - بالإدغام.
جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي فعلنا ذلك جزاء لنوح عليه السلام فإنه كان نعمة أنعمها اللّه تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي نعمة من اللّه تعالى على أمته ، وجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 83
واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعا أي لمن كفر به وهو نوح عليه السلام أيضا أي جحدت نبوته ، فالكفر عليه ضد الإيمان ، وعلى الأول كفران النعمة ، وعن ابن عباس ومجاهد من يراد به اللّه تعالى كأنه قيل : غضبا وانتصارا للّه عز وجل وهو كما ترى ، وقرأ مسلمة بن محارب - كفر - بإسكان الفاء خفف فعل كما في قوله :
لو عصر منه البان والمسك انعصر وقرأ يزيد بن رومان وقتادة وعيسى «كفر» مبنيا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه السلام لا غير ، وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرا لكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لا بد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة ، وجوز أن تكون كانَ زائدة كأنه قيل : جزاء لمن كُفِرَ ولم يؤمن وَلَقَدْ تَرَكْناها أي أبقينا السفينة آيَةً بناء على ما روي عن قتادة والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة ، أو أبقينا خبرها ، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن ، أو - تركنا - بمعنى جعلنا ، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي معتبر بتلك الآية الحرّية بالاعتبار ، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية - مذكر - بالذال المعجمة على قلب تاء الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال ، وقال صاحب اللوامح : قرأ قتادة فهل من - مذكر - بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها ، وقرىء مذتكر بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف ، و- النذر - مصدر كالإنذار ، وقيل : جمع نذير بمعنى الإنذار ، وجعله بعضهم بمعنى المنذر منه ، وليس بشيء ، وكذا جعله بمعنى المنذر ، وكان يحتمل أن تكون ناقصة فكيف في موضع الخبر؟ وتامة فكيف في موضع الحال؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ إلخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى : وَلَقَدْ جاءَهُمْ إلخ وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار ، ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار ، أي وباللّه لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحنّاه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد لِلذِّكْرِ أي للتذكر والاتعاظ فَهَلْ
مِنْ مُدَّكِرٍ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم ، وقيل : المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروّه عن الوحشي ونحوه فله تعلق بالقلوب وحلاوة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ومن هنا قال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن ، وأخرج ابن المنذر ، وجماعة عن مجاهد أنه قال : يسرنا القرآن. هونّا قراءته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : لولا أن اللّه تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام اللّه تعالى.
وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله.
وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مرّ برجل يقول سورة خفيفة فقال :
لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن اللّه تعالى يقول : وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ والمعنى الذي ذكر أولا أنسب بالمقام ، ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية ، وجوز تفسير يَسَّرْنَا بهيأنا من قولهم : يسر ناقته للسفر إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال الشاعر :
وقمت إليه باللجام ميسرا هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
كَذَّبَتْ عادٌ شروع في قصة أخرى ولم تعطف وكذا ما بعدها من القصص إشارة إلى أن كل قصة مستقلة في القصد والاتعاظ ولما لم يكن لقوم نوح اسم علم ذكروا بعنوان الإضافة ولما كان لقوم هود علم وهو عادٌ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 84
ذكروا به لأنه أبلغ في التعريف ، والمراد كذبت عاد هودا عليه السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له عليه السلام روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب ، وقوله : فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قبله وما بعده كأنه قيل : كَذَّبَتْ عادٌ فهل سمعتم ، أو فاسمعوا كيف عذابي وإنذاري لهم ، وقيل : هو للتهويل أيضا لغرابة ما عذبوا به من الريح وانفراده بهذا النوع من العذاب ، وفيه بحث ، وقوله تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً استئناف لبيان ما أجمل أولا ، والصرصر الباردة على ما روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك ، وقيل : شديد الصوت وتمام الكلام قد مر في «فصلت».
فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ ذلك الشؤم لأنهم بعد أن أهلكوا لم يزالوا معذبين في البرزخ حتى يدخلوا جهنم يوم القيامة ، والمراد باليوم مطلق الزمان لقوله تعالى : فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت : 16] ، وقوله سبحانه : سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة : 7] المشهور أنه يوم الأربعاء وكان آخر شوّال على معنى أن ابتداء إرسال الريح كان فيه فلا ينافي آيتي «فصلت» و«الحاقة».
وجوز كون مُسْتَمِرٍّ صفة يوم أي في يوم استمر عليهم حتى أهلكهم ، أو شمل كبيرهم وصغيرهم حتى لم تبق منهم نسمة على أن الاستمرار بحسب الزمان أو بحسب الأشخاص والأفراد لكن على الأول لا بد من تجوز بإرادة استمرار نحسه ، أو بجعل اليوم بمعنى مطلق الزمان لأن اليوم الواحد لم يستمر فتدبر ، وجوز كون مُسْتَمِرٍّ بمعنى محكم وكونه بمعنى شديد المرارة وهو مجاز عن بشاعته وشدة هوله إذ لا طعم له ، وجوز كونه بدلا ، أو عطف بيان وهو كما ترى ، وقرأ الحسن «يوم نحس» بتنوين يوم وكسر حاء نحس ، وجعله صفة ليوم فيتعين كون مُسْتَمِرٍّ صفة ثانية له ، وأيد بعضهم بالآية ما أخرجه وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب البغدادي عن ابن عباس مرفوعا آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ بذلك كثير من الناس فتطيروا منه وتركوا السعي لمصالحهم فيه ويقولون له :
أربعاء لا تدور ، وعليه قوله :
لقاؤك للمبكر فأل سوء ووجهك - أربعاء لا تدور -
وذلك مما لا ينبغي ، والحديث المذكور في سنده مسلمة بن الصلت قال أبو حاتم : متروك ، وجزم ابن الجوزي بوضعه وقال ابن رجب : حديث لا يصح ورفعه غير متفق عليه فقد رواه الطيوري من طريق آخر موقوفا على ابن عباس ، وقال السخاوي : طرقه كلها واهية ، وضعفوا أيضا خبر الطبراني يوم الأربعاء يوم نحس مستمر ، والآية قد علمت معناها ، وجاء في الأخبار والآثار ما يشعر بمدحه ففي منهاج الحليمي ، وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء بعيد الزوال ، وذكر برهان الإسلام في تعليم المتعلم عن صاحب الهداية أنا ما بدىء شيء يوم الأربعاء إلا وتم وهو يوم خلق اللّه تعالى فيه النور فلذلك كان جمع من المشايخ يتحرون ابتداء الجلوس للتدريس فيه ، واستحب بعضهم غرس الأشجار فيه
لخبر ابن حيان والديلمي عن جابر مرفوعا «من غرس الأشجار يوم الأربعاء وقال : سبحان الباعث الوارث أتته أكلها»
نعم جاءت أخبار وآثار تشعر بخلاف ذلك ،
ففي الفردوس عن عائشة مرفوعا «لو لا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء ، وأحب الأيام إليّ الشخوص فيها يوم الخميس»
وهو غير معلوم الصحة عندي.
وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس. وابن عدي وتمام في فوائده عن أبي سعيد مرفوعا يوم السبت يوم مكر وخديعة ويوم الأحد يوم غرس وبناء ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس. ويوم الأربعاء لا أخذ ولا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 85
عطاء. ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلطان. والجمعة يوم خطبة ونكاح ، وتعقبه السخاوي بأن سنده ضعيف ، وروى ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعا
، وخرجه الحاكم من طريقين آخرين «لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء»
وفي بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص
، وكره بعضهم عيادة المرضى فيه ، وعليه قيل :
لم يؤت في الأربعاء مريض إلا دفناه في الخميس
وحكي عن بعضهم أنه قال لأخيه : اخرج معي في حاجة فقال : هو الأربعاء قال : فيه ولد يونس قال : لا جرم قد بانت له بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه اللّه تعالى قال : وفيه ولد يوسف عليه السلام قال : فما أحسن ما فعل أخوته حتى طال حبسه وغربته قال : وفيه نصر المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال :
أجل لكن - بعد أن زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر - ونقل المناوي عن البحر أن أخباره عليه الصلاة والسلام عن نحوسه آخر أربعاء في الشهر من باب التطير ضرورة أنه ليس من الدين بل فعل الجاهلية ولا مبني على قول المنجمين أنه يوم عطارد وهو نحس مع النحوس سعد مع السعود فإنه قول باطل ، ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير أي احذروا ذلك اليوم لما نزل فيه من العذاب وكان فيه من الهلاك وجددوا فيه للّه تعالى توبة خوفا أن يلحقكم فيه بؤس كما وقع لمن قبلهم ، وهذا كما قال حين أتى الحجر : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين إلى غير ذلك ، وحكي أيضا عن بعضهم أنه قال : التطير مكروه كراهية شرعية إلا أن الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء في مصالحه أن يدع التصرف فيه لا على جهة التطير واعتقاد أنه يضر أو ينفع بغير إذن اللّه تعالى بل على جهة اعتقاد إباحة الإمساك فيه لما كرهته النفس لا اقتفاءا للتطير ولكن إثباتا للرخصة في التوقي فيه لمن يشاء مع وجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا ونقل عن الحليمي أنه قال : علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا ، ويقابل النحس السعد وإذا ثبت الأول ثبت الثاني أيضا ، فالأيام منها نحس ومنها سعد كالأشخاص منهم شقي ومنهم سعيد ، ولكن زعم أن الأيام والكواكب تنحس أو تسعد باختيارها أوقاتا وأشخاصا باطل ، والقول - إن الكواكب قد تكون أسبابا للحسن والقبيح والخير والشر والكل فعل اللّه تعالى وحده - مما لا بأس به. ثم قال المناوي : والحاصل أن توقي الأربعاء على جهة الطيرة وظن اعتقاد المنجمين حرام شديد التحريم إذ الأيام كلها للّه تعالى لا تنفع ولا تضر بذاتها وبدون ذلك لا ضير ولا محذور فيه ومن تطير حاقت به نحوسته ، ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا اللّه عز وجل لم يؤثر فيه شيء من ذلك كما قيل :
تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور
انتهى ، وأقول كل الأيام سواء ولا اختصاص لذلك بيوم الأربعاء وما من ساعة من الساعات إلا وهي سعد على شخص نحس على آخر باعتبار ما يحدث اللّه تعالى فيها من الملائم والمنافر والخير والشر ، فكل يوم من الأيام يتصف بالأمرين لاختلاف الاعتبار وإن استنحس يوم الأربعاء لوقوع حادث فيه فليستنحس كل يوم فما أولج الليل في النهار والنهار في الليل إلا لإيلاد الحوادث وقد قيل :
ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات
وقد حكي أنه صبح ثمود العذاب يوم الأحد ، وورد في الأثر ولا أظنه يصح - نعوذ باللّه تعالى من يوم الأحد فإن له حدا أحد من السيف - ولو صح فلعله في أحد مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه ، وزعم بعضهم - أن من المجرب الذي يخط قط أنه متى كان اليوم الرابع عشر من الشهر القمري الأحد وفعل فيه شيء لم يتم - غير مسلم ،

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 86
وورد في الفردوس من حديث ابن مسعود - خلق اللّه تعالى الأمراض يوم الثلاثاء ، وفيه أنزل إبليس إلى الأرض ، وفيه خلق جهنم ، وفيه سلط اللّه تعالى ملك الموت على أرواح بني آدم. وفيه قتل قابيل هابيل ، وفيه توفي موسى وهارون عليهم السلام ، وفيه ابتلي أيوب - الحديث
، وهو إن صح لا يدل على نحوسته غايته أنه وقع فيه ما وقع وقد وقع فيه غير ذلك مما هو خير ،
ففي رواية مسلم - خلق المنفق أي ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء
- وإذا تتبعت التواريخ وقعت على حوادث عظيمة في سائر الأيام ، ويكفي في هذا الباب أن حادثة عاد استوعبت أيام الأسبوع فقد قال سبحانه :
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة : 7] فإن كانت النحوسة لذلك فقل لي أي يوم من الأسبوع خلا منها؟! ومثل أمر النحوسة فيما أرى أمر تخصيص كل يوم بعمل كما يزعمه كثير من الناس ، ويذكرون في ذلك
أبياتا نسبها الحافظ الدمياطي لعليّ كرم اللّه تعالى وجهه وهي :
فنعم اليوم يوم السبت حقا لصيد إن أردت بلا امتراء وفي الأحد البناء لأن فيه تبدى اللّه في خلق السماء وفي الاثنين إن سافرت فيه سترجع بالنجاح وبالثراء ومن يرد الحجامة فالثلاثا ففي ساعاته هرق الدماء وإن شرب امرؤ يوما دواء فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس قضاء حاج فإن اللّه يأذن بالقضاء وفي الجمعات تزويج وعرس ولذات الرجال مع النساء وهذا العلم لا يدريه إلا نبيّ أو وصيّ الأنبياء
ولا أظنها تصح ، وقصارى ما أقول : ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن لا دخل في ذلك لوقت ولا لغيره ، لبعض الأوقات شرف لا ينكر كيوم الجمعة وشهر رمضان وغير ذلك ، ولبعضها عكس ذلك كالأوقات التي تكره فيها الصلاة لكن هذا أمر ومحل النزاع أمر فاحفظ ذلك ، واللّه تعالى يتولى هداك ، وقوله تعالى : تَنْزِعُ النَّاسَ يجوز أن يكون صفة الريح وأن يكون حالا منها لأنها وصفت فقربت من المعرفة ، وجوز أن يكون مستأنفا ، وجي ء - بالناس - دون ضمير عاد قيل : ليشمل ذكورهم وإناثهم - والنزاع - القلع ، روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فقلعتهم الريح وصرعتهم موتى.
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض ، وقيل : شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأن الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجسادا وجثثا بلا رؤوس ، ويزيد هذا التشبيه حسنا أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال ، والنخل اسم جنس يذكر نظرا للفظ كما هنا ويؤنث نظرا للمعنى كما في قوله تعالى :
أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة : 7] واعتبار كل في كل من الموضعين للفاصلة ، والجملة التشبيهية حال من الناس وهي حال مقدرة ، وقال الطبري : في الكلام حذف والتقدير فتركتهم كأنهم إلخ ، فالكاف على ما في البحر في موضع نصب بالمحذوف وليس بذاك ، وقرأ أبو نهيك أعجز على وزن أفعل نحو ضبع وأضبع ، وقوله تعالى : فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار مع ما تقدم ، وقيل : إن الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيق بهم في الآخرة ، وكانَ للمشاكلة ، أو للدلالة على تحققه على عادته سبحانه في إخباره ، وتعقب بأنه يأباه ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.
[سورة القمر (54) : الآيات 22 إلى 55]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 87
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ الكلام فيه كالذي مرّ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بالرسل عليهم الصلاة والسلام فإن تكذيب أحدهم وهو صالح عليه السلام هنا تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع ، وجوز أن يكون مصدرا ، أو جمعا له وأن يكون جمع نذير بمعنى المنذر منه فلا تغفل.
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا أي كائنا من جنسنا على أن الجار والمجرور في موضع الصفة - لبشرا - وانتصابه بفعل يفسره - نتبع - بعد أي أنتبع بشرا واحِداً أي منفردا لا تبع له ، أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنكير الدال على عدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه ، وقرأ أبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل وأبو عمرو الداني - أبشر منا واحد - برفعهما على أن - بشر - مبتدأ ، وما بعد صفته ، وقوله تعالى :
نَتَّبِعُهُ خبره. ونقل ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية عن أبي السمال رفع - بشر - ونصب واحِداً وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع - بشر - إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر ، وإما على الابتداء والخبر جملة نَتَّبِعُهُ ، ونصب واحِداً على الحال إما من ضمير النصب في نَتَّبِعُهُ وإما من الضمير المستقر في

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 88
مِنَّا وخرج صاحب اللوامح نصب واحِداً على هذا أيضا ، وأما رفع بشر فخرجه على الابتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما ، وتقدم الاستفهام يرجع تقدير فعل يرفع به إِنَّا إِذاً أي إذا اتبعنا بشرا منا واحدا لَفِي ضَلالٍ عظيم عن الحق وَسُعُرٍ أي نيران جمع سعير.
وروي أن صالحا عليه السلام كان يقول لهم : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا : إن اتبعناك كنا إذا كما تقول
،
فالكلام من باب التعكيس والقول بالموجب ، وجمع السعير باعتبار الدركات ، أو للمبالغة ، وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال : أي لفي بعد عن الحق وعذاب ، وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنه اسم مفرد بمعنى ذلك يقال : ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر :
كأن بها سعرا إذا العيس هزها ذميل وإرخاء من السير متعب
والأول أوجه وأفصح أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بذلك ، والتعبير بألقي دون أنزل قل : لأنه يتضمن العجلة في الفعل بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي شديد البطر وهو على ما قال الراغب : دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ووضعها إلى غير وجهها ، ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما تعتري من الفرح ، ومرادهم ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله شدّة بطره وطلبه التعظيم عليها على ادعاء ذلك ، وقرأ قتادة. وأبو قلابة - بل هو الكذب الأشر - بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشدّ الراء ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا ما في ذلك ، وقوله تعالى : سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ حكاية لما قاله سبحانه وتعالى لصالح عليه السلام وعدا له ووعيدا لقومه ، والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده ، والمراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم ، وقيل : يوم القيامة فهو لمطلق الزمان المستقبل وعبر به لتقريبه ، وعليه قول الطرماح :
ألا عللاني قبل نوح النوائح وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي ولست برائح
أي سَيَعْلَمُونَ البتة عن قريب مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ الذي حمله أشره وبطره على ما حمله أصالح أن من كذبه ، والمراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون لكن أورد ذلك مورد الإبهام ايماء إلى أنه مما لا يكاد يخفى ، ونحوه قول الشاعر :
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيّي وأيّك فارس الأحزاب
وقرأ ابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش - ستعلمون - بتاء الخطاب على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم ، وفي الكشاف أو هو كلام على سبيل الالتفات ، قال صاحب الكشف : أي هو كلام اللّه تعالى لقوم ثمود على سبيل الالتفات إليهم إما في خطابه تعالى لرسولنا صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو نظير ما حكاه سبحانه عن شعيب فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الأعراف : 93] بعد ما استؤصلوا هلاكا وهو من بليغ الكلام فيه دلالة على أنهم أحقاء بهذا الوعيد وكأنهم حضور في المجلس حول إليهم الوجه لينعي عليهم جناياتهم. وإما في خطابه عز وجل لصالح عليه السلام والمنزل حكاية ذلك الكلام المشتمل على الالتفات. وعلى التقديرين لا إشكال فيه كما توهم ولفظ الزمخشري على الأول أدل وهو أبلغ انتهى ، ومن التفت إلى ما قاله الجمهور في الالتفات لا أظنه تسكن نفسه بما ذكر فتأمل ، وقرأ مجاهد فيما ذكره صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي «الأشر» بثلاث ضمات وتخفيف الراء. ويقال : أشر وأشر كحذر وحذر فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لها.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 89
وحكى الكسائي عن مجاهد ضم الشين دون الهمزة فهو كندس ، وقرأ أبو حيوة «الأشر» أفعل تفضيل أي الأبلغ في الشرارة وكذا قرأ قتادة وأبو قلابة أيضا وهو قليل الاستعمال وإن كان على الأصل كالأخير في قول رؤبة :
بلال خير الناس وابن الأخير وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم - بالأخير - والْأَشِرُ إلا في ضرورة الشعر وأنشد البيت ، وقال الجوهري : لا يقال الْأَشِرُ إلا في لغة رديئة وقوله تعالى : إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ إلخ استئناف مسوق لبيان مبادئ الموعود على ما هو الظاهر ، وبه يتعين كون المراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم دون يوم القيامة ، والإرسال حقيقة في البعث وقد جعل هنا كناية عن الإخراج ، وأريد المعنى الحقيقي معه كما أومأ إليه بعض الأجلة أي إنا مخرجو الناقة التي سألوها من الهضبة وباعثوها فِتْنَةً لَهُمْ امتحانا ، وجوز إبقاؤها على معناها المعروف فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون وَاصْطَبِرْ على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر اللّه تعالى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ وأخبرهم بأن ماء البئر التي لهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم لها يوم ولهم يوم ، وبَيْنَهُمْ لتغليب العقلاء ، وقرأ معاذ عن أبي عمرو «قسمة» بفتح القاف كُلُّ شِرْبٍ نصيب وحصة منه مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه في نوبته فتحضر الناقة تارة ويحضرونه أخرى ، وقيل : يتحول عنه غير صاحبه من حضر عن كذا تحول عنه وقيل : يمنع عنه غير صاحبه مجاز عن الحظر بالظاء بمعنى المنع بعلاقة السببية فإنه مسبب عن حضور صاحبه في نوبته وهو كما ترى ، وقيل :
يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها ، والمعنى كل شرب من الماء واللبن تحضرونه أنتم فَنادَوْا أي فأرسلنا الناقة وكانوا على هذه الوتيرة من القسمة فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة فَنادَوْا لعقرها صاحِبَهُمْ وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود وكان أجرأهم فَتَعاطى العقر أي فاجترأ على تعاطيه مع عظمه غير مكترث به.
فَعَقَرَ فأحدث العقر بالناقة ، وجوز أن يكون المراد فتعاطى الناقة فعقرها ، أو فتعاطى السيف فقتلها ، وعلى كل فمفعول تعاطى محذوف والتفريع لا غبار عليه ، وقيل : تعاطى منزل منزلة اللازم على أن معناه أحدث ماهية التعاطي ، وقوله تعالى : فَعَقَرَ تفسير له لا متفرع عليه ولا يخفى ركاكته ، والتعاطي التناول مطلقا على ما يفهم من كلام غير واحد ، وزاد بعضهم قيد بتكلف ونسبة العقر إليهم في قوله تعالى : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف : 77] لأنهم كانوا راضين به فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ الكلام فيه كالذي تقدم إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هي صيحة جبريل عليه السلام صاح صباح يوم الأحد كما حكى المناوي عن الزمخشري في طرف منازلهم فَكانُوا أي فصاروا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء.
وفي البحر الهشيم ما تفتت وتهشم من الشجر ، والْمُحْتَظِرِ الذي يعمل الحظيرة فإنه يتفتت منه حالة العمل ويتساقط أجزاء مما يعمل به ، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان تطؤه البهائم فيتهشم ، وتعقب هذا بأن الأظهر عليه كهشيم الحظيرة ، والحظيرة الزريبة التي تصنعها العرب. وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب من الحظر وهو المنع.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وعمرو بن عبيد «المحتظر» بفتح الظاء على أنه اسم مكان والمراد به الحظيرة نفسها أو هو اسم مفعول قيل : ويقدر له موصوف أي كَهَشِيمِ الحائط الْمُحْتَظِرِ أو لا يقدر على أن الْمُحْتَظِرِ الزريبة نفسها كما سمعت. وجوز أن يكون مصدرا أي كهشيم الاحتظار أي ما تفتت حالة الاحتظار وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كما مر كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ على قياس النظير السابق إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ملكا على ما قيل - يحصبهم أي يرميهم بالحصباء والحجارة أو هو اسم للريح

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 90
التي تحصب ولم يرد بها الحدوث كما في ناقة ضامر وهو وجه التذكير ، وقال ابن عباس : هو ما حصبوا به من السماء من الحجارة في الريح ، وعليه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
إِلَّا آلَ لُوطٍ خاصته المؤمنين به ، وقيل : آله ابنتاه نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي في سحر وهو آخر الليل ، وقيل :
السدس الأخير منه ، وقال الراغب : السحر والسحرة اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار وجعل اسما لذلك الوقت ، ويجوز كون الباء للملابسة والجار والمجرور فيموضع الحال أي ملتبسين بِسَحَرٍ داخلين فيه نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي إنعاما منا وهو علة لنجينا ، ويجوز نصبه بفعل مقدر من لفظه ، أو بنجينا لأن التنجية إنعام فهو كقعدت جلوسا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا بالإيمان والطاعة وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السلام بَطْشَتَنا أخذتنا الشديدة بالعذاب.
وجوز أن يراد بها نفس العذاب فَتَمارَوْا فكذبوا بِالنُّذُرِ متشاكين ، فالفعل مضمن معنى التكذيب ولولاه تعدى بفي وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ صرفوه عن رأيه فيهم وطلبوا الفجور بهم وهذا من إسناد ما للبعض للجميع لرضاهم به فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أي أزلنا أثرها وذلك بمسحها وتسويتها كسائر الوجه ، وهو كما قال عبيدة ، وروي أن جبريل عليه السلام استأذن ربه سبحانه في عقوبتهم ليلة جاؤوا وعالجوا الباب ليدخلوا عليهم فصفقتهم بجناحه فتركهم عميانا يترددون لا يهتدون إلى طريق خروجهم حتى أخرجهم لوط عليه السلام وقال ابن عباس والضحاك : إنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس فعبر به عنه.
وقرأ ابن مقسم «فطمّسنا» بتشديد الميم للتكثير في المفعول فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة عليهم السلام ، فالقول في الحقيقة لهم وأسند إليه تعالى مجازا لأنه سبحانه الآمر أو القائل ظاهر الحال فلا قول وإنما هو تمثيل ، والمراد بالعذاب الطمس وهو من جملة ما أنذروه.
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أو النهار وهي أخص من الصباح فليس في ذكرها بعده زيادة وكان ذلك أول شروق الشمس ، وقرأ زيد بن علي «بكرة» غير مصروفة للعلمية والتأنيث على أن المراد بها أول نهار مخصوص.
عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ يستقر بهم ويدوم حتى يسلمهم إلى النار ، أو لا يدفع عنهم ، أو يبلغ غايته.
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ حكاية لما قيل لهم بعد التصحيح من جهته تعالى تشديدا للعذاب ، أو هو تمثيل.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تقدم ما فيه من الكلام وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي الإبراز كمال الاعتناء - بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لا قوه من العذاب وقوة إيجابها للاتعاظ والاكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأنه نفسه أولى بذلك فإنه رأس الطغيان ومدعي الألوهية ، والقول : بأنه إشارة إلى إسلامه مما لا يلتفت إليه ، والنُّذُرُ إن كان جمع نذير بمعنى الإنذار فالأمر ظاهر وكذا إن كان مصدرا ، وأما إن كان جمع نذير بمعنى المنذر فالمراد به موسى وهارون وغيرهما لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون أي وباللّه تعالى لقد جاءهم المنذرون ، أو الإنذرات ، أو الإنذار ، وقوله تعالى : كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل : فماذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل : كذبوا بجميع آياتنا وهي آيات الأنبياء كلهم عليهم السلام فإن تكذيب البعض تكذيب للكل ، أو هي الآيات التسع ، وجوز الواحدي أن يراد بالنذر نفس الآيات فقوله سبحانه : بِآياتِنا من إقامة الظاهر مقام الضمير والأصل كذبوا بها ، وزعم بعض غلاة الشيعة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 91
وهم المسلمون بالكشفية في زماننا أن المراد - بالآيات كلها - علي كرم اللّه تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى : وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس : 12] وأنه كرم اللّه تعالى وجهه ظهر مع موسى عليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا - وهذا من الهذيان بمكان - نسأل اللّه تعالى العفو والعافية فَأَخَذْناهُمْ أي آل فرعون ، وزعم بعض أن ضمير كَذَّبُوا وضمير أخذناهم عائدان على جميع من تقدم ذكره من الأمم وتم الكلام عند قوله تعالى : النُّذُرُ وليس بشيء ، والفاء للتفريع أي فَأَخَذْناهُمْ وقهرناهم لأجل تكذيبهم أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شيء ، ونصب أخذ على المصدرية لا على قصد التشبيه أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أي الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، والمراد الخيرية باعتبار الدنيا وزينتها ككثرة القوة والشدة ووفور العدد والعدة ، أو باعتبار لين الشكيمة في الكفر بأن يكون الكفار المحدث عنهم بالخيرية أقل عنادا وأقرب طاعة وانقيادا ، وظاهر كلام كثير أن الخطاب هنا عام للمسلمين وغيرهم حيث قالوا : أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ إلخ والاستفهام إنكاري في معنى النفي فكأنه قيل : ما كفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين بأن يكونوا أكثر منهم قوة وشدة وأوفر عددا وعدة ، أو بأن يكونوا ألين شكيمة في الكفر والعصيان والضلال والطغيان بل هم دونهم في القوة وما أشبهها من زينة الدنيا ، أو أسوأ حالا منهم في الكفر ، وقد أصاب من هو خير ما أصاب فكيف يطمعون هم في أن لا يصيبهم نحو ذلك ، وكذا قيل : في الخطاب في قوله تعالى : أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ وجعل بتقدير أم لكفاركم وهو إضراب وانتقال إلى تنكيت آخر فكأنه قيل : بل ألكفار كم براءة وأمن من تبعات ما يعملون من الكفر والمعاصي وغوائلها في الكتب السماوية فلذلك يصرون
على ما هم عليه ولا يخافون ، واختار بعضهم في هذا أنه خاص بالكفار ، وقالوا في قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إنه إضراب من التبكيت المذكور إلى تبكيت آخر بطريق الالتفات للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم.
أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ولا يضام ، أو مُنْتَصِرٌ من الأعداء لا يغلب ، أو متناصر ينصر بعضنا بعضا.
والذي يترجح في نظر الفقير أن الخطاب في الموضعين خاص على ما يقتضيه السياق بكفار أهل مكة أو العرب وهو ظهر في الموضع الثاني لا يحتاج إلى شيء ، وأما في الموضع الأول فوجهه أن تكون الإضافة مثلها في الدراهم كلها كذا ، وطور سيناء ، ويوم الأحد ولم يقل أأنتم للتنصيص على كفرهم المقتضي لهلاكهم ، ويجوز أن يعتبر في أَكُفَّارُكُمْ ضرب من التجريد الذي ذكروه في نحو لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت : 28] فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم ، وفي ذلك من المبالغة ما فيه ، ويجوز أن يكون هذا وجها للعدول عن أأنتم ، وربما يترجح به كون الخيرية المنفية باعتبار لين الشكيمة في الكفر وكأنه لما خوف سبحانه الكفار الذين كذبوا الآيات وأعرضوا عنها ، وقالوا هي سحر مستمر بذكر ما حل بالأمم السالفة مما تبرق وترعد منه أسارير الوعيد قال عز وجل لهم : لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم أأنتم أقل كفرا وعنادا منهم ليكون ذلك سببا للأمن من حلول نحو عذابهم بكم أن أعطاكم اللّه عز وجل براءة من عذابه أم أنتم أعز منهم منتصرون على جنود اللّه تعالى وعدل سبحانه عن أم أنتم جميع منتصر إلى ما في النظم الجليل للإشارة إلى أن ذلك مما لا تحقق له أصلا إلا باللفظ ومحض الدعوى التي لا يوافق عليها فتأمل ، فأسرار كلام اللّه تعالى لا تتناهى ، ثم لا تعجل بالاعتراض على ما قلناه وإن لم يكن لنا سلف فيه حسبما تتبعنا ، ثم إن جَمِيعٌ على ما أشير إليه بمعنى الجماعة التي أمرها مجتمع وليس من التأكيد في شيء بل هو خبر نَحْنُ ، وجوز أن يكون بمعنى مجتمع خبر مبتدأ محذوف وهو (أمرنا) والجملة خبر نَحْنُ وأن يكون هو

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 92
الخبر والإسناد مجازي ، ومُنْتَصِرٌ على ما سمعت إما بمعنى ممتنع يقال : نصره فانتصر إذا منعه فامتنع.
والمراد بالامتناع عدم المغلوبية أو هو بمعنى منتقم من الأعداء أو هو من النصر بمعنى العون والافتعال بمعنى التفاعل كالاختصام والتخاصم وكان الظاهر منتصرون إلا أنه أفرد باعتبار لفظ الجميع فإنه مفرد لفظا جمع معنى ورجح هنا جانب اللفظ عكس بل أنتم قوم تجهلون لخفة الإفراد مع رعاية الفاصلة وليس في الآية رعاية جانب المعنى أولا ، ثم رعاية جانب اللفظ ثانيا على عكس المشهور ، وإن كان ذلك جائزا على الصحيح كما لا يخفى على الخبير ، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم - أم تقولون - بتاء الخطاب ، وقوله تعالى : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ رد لقولهم ذلك والسين للتأكيد أي يهزم جمعهم البتة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الإدبار ، وقد قرىء كذلك ، والإفراد لإرادة الجنس الصادق على الكثير مع رعاية الفواصل ومشاكلة القرائن ، أو لأنه في تأويل يولي كل واحد منهم دبره على حدّ : كسانا الأمير حلة مع الرعاية المذكورة أيضا وقد كان هذا يوم بدر وهو من دلائل النبوة لأن الآية مكية ، وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد ولا كان قتال ولذا قال عمر رضي اللّه تعالى عنه : يوم نزلت أي جمع يهزم أي من جموع الكفار؟ ولم يتعرض لقتال أحد منهم ، وقد تقدم الخبر.
ومما أشرنا إليه يعلم أن قول الطيبي في هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في أَمْ يَقُولُونَ إلخ دلت على أن المنهزمين من هم ناشىء عن الغفلة عن مراد عمر رضي اللّه تعالى عنه ، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم - ستهزم الجمع - بفتح التاء وكسر الزاي خطابا لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ونصب الجمع على المفعولية ، وقرأ أبو حيوة أيضا ويعقوب - سنهزم - بالنون مفتوحة وكسر الزاي على إسناد الفعل إلى ضمير العظمة ، وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة «سيهزم الجمع» بفتح الياء مبنيا للفاعل ونصب الجمع أي سيهزم اللّه تعالى الجمع ، وقرأ أبو حيوة وداود ابن أبي سالم عن أبي عمرو - وتولون - بتاء الخطاب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل الساعة موعد عذابهم وهذا من طلائعه وَالسَّاعَةُ أَدْهى أي أعظم داهية وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص عنه وَأَمَرُّ وأشد مرارة في الذوق وهو استعارة لصعوبتها على النفس : وقيل : أقوى وليس بذاك وإظهار الساعة في موضع إضمارها لتربية تهويلها إِنَّ الْمُجْرِمِينَ من الأولين والآخرين فِي ضَلالٍ في هلاك وَسُعُرٍ ونيران مسعرة أو في ضلال عن الحق ونيران في الآخرة ، وقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : في خسران وجنون ، وقوله تعالى : يَوْمَ يُسْحَبُونَ أي يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ متعلق بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ وجوز أن يكون متعلقا بمقدار يفهم مما قبل أي يعذبون ، أو يهانون ، أو نحوه ، وجملة القول عليه حال من ضمير يُسْحَبُونَ وجوز كونه متعلقا - بذوقوا - على أن الخطاب للمكذبين المخاطبين في قوله تعالى : أَكُفَّارُكُمْ إلخ أي ذوقوا أيها المكذبون محمدا صلى اللّه تعالى عليه وسلم يوم يسحب المجرمون المتقدمون ، والمراد حشرهم معهم والتسوية بينهم في الآخرة كما ساؤوهم في الدنيا وهو كما
ترى ، والمراد - بمس سقر - ألمها على أنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية فإن مسها سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الاستعمال ، وفي الكشاف مَسَّ سَقَرَ كقولك وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرّها ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم مسا بذلك كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم ، وهو مشعر بأن في الكلام استعارة مكنية نحو يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الرعد : 25] ويحتمل غير ذلك ، وسَقَرَ علم لجهنم - أعاذنا اللّه تعالى منها ببركة كلامه العظيم وحرمة حبيبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم - من سقرته للنار وصقرته بإبدال السين صادا لأجل القاف إذا لوحته وغيرت لونه قال ذو الرمة يصف ثور الوحش :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 93
إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها بأفنان مربوع الصريمة معبل
وعدم الصرف للعلمية والتأنيث ، وقرأ عبد اللّه إلى النار ، وقرأ محبوب عن أبي عمرو «مس سّقر» بإدغام السين في السين ، وتعقب ذلك ابن مجاهد بأن إدغامه خطأ لأنه مشدد ، والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ثم أدغم إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ من الأشياء خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي مقدرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه ، فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء ، وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف ، و
روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة قال : «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في القدر فنزلت يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ»
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية» أنزلت فيهم آية في كتاب اللّه إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ
إلى آخر الآيات ، وكان ابن عباس يكره القدرية جدا ، أخرج عبد بن حميد عن أبي يحيى الأعرج قال سمعت ابن عباس - وقد ذكر القدرية - يقول : لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال : الزنا بقدر والسرقة بقدر وشرب الخمر بقدر.
وأخرج عن مجاهد أنه قال : قلت لابن عباس : ما تقول فيمن يكذب بالقدر؟ قال : اجمع بيني وبينه قال : ما تصنع به؟ قال : أخنقه حتى أقتله ، وقد جاء ذمهم في أحاديث كثيرة ، منها ما
أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «لكل أمه مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم».
وجوز كون المعنى إنا كل شيء خلقناه مقدرا محكما مستوفي فيه مقتضي الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين ، فالآية من باب وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان : 2] ونصب كُلَّ بفعل يفسره ما بعده أي إنا خلقنا كل شيء خلقناه ، وقرأ أبو السمال قال ابن عطية وقوم من أهل السنة برفع كل وهو على الابتداء ، وجملة خَلَقْناهُ هو الخبر ، وبِقَدَرٍ متعلق به كما في القراءة المتواترة ، فتدل الآية أيضا على أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة ، ويجعل الخبر بِقَدَرٍ لاختلاف القراءتين معنى حينئذ ، والأصل توافق القراءات ، وقال الرضي : لا يتفاوت المعنى لأن مراده تعالى بكل شيء كل مخلوق سواء نصبت كُلَّ أو رفعته وسواء جعلت خَلَقْناهُ صفة مع الرفع ، أو خبرا عنه ، وذلك إن خلقنا كل شيء بقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء يقع على كل منها ، وحينئذ نقول : إن معنى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ على أن خلقناه هو الخبر كُلَّ مخلوق مخلوق بِقَدَرٍ وعلى أن خَلَقْناهُ صفة كُلَّ شَيْءٍ مخلوق كائن بِقَدَرٍ والمعنيان واحد إذ لفظ كُلَّ في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان خَلَقْناهُ صفة له أو خبرا ، وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول :
إذ جعلنا خَلَقْناهُ صفة كان المعنى كُلَّ مخلوق متصف بأنه مخلوقنا كائن بقدر ، وعلى هذا لا يمتنع نظرا إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك الصفة فلا تندرج تحت الحكم ، وأما إذا جعلناه خبرا أو نصبنا كُلَّ شَيْءٍ فلا مجال لهذا الاحتمال نظرا إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام فقد اختلف المعنيان قطعا ولا يجديه نفعا أن كل مخلوق متصف بتلك الصفة في الواقع لأنه إنما يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذي لا احتمال فيه ، وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكون النصب نصا في المقصود اتفقت القراءات المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجح على الرفع الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 94
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي ما شأننا إلا فعلة واحدة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الإيجاد بلا معالجة ومشقة ، أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة ، وهي قوله تعالى : كُنْ [البقرة : 117] وغيرها فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور ، فإذا أراد عز وجل شيئا قال له : كُنْ فَيَكُونُ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي في السير والسرعة ، وقيل : هذا في قيام الساعة فهو كقوله تعالى : وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل : 77] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة ، وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه ، أو بطريق الاستعارة ، والحال قرينة على ذلك ، وقيل : هو باق على حقيقته أي أتباعكم فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ بذلك وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ من الكفر والمعاصي ، والضمير المرفوع للأشياع كما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد ، وجملة فَعَلُوهُ صفة شَيْءٍ والرابط ضمير النصب ، وقوله تعالى : فِي الزُّبُرِ متعلق بكون خاص خبر المبتدأ أي كل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه ، وتفسير الزُّبُرِ باللوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء ، ولم يختلف القراء في رفع كُلُّ وليست الآية من باب الاشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الاسم السابق كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى هاهنا حينئذ فعلوا فِي الزُّبُرِ كل شيء إن علقنا الجار - يفعلوا وهم لم يفعلوا شيئا من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم السلام كتبوها عليهم في الكتب ، أو فعلوا كل شيء مكتوب فِي الزُّبُرِ إن جعلنا الجار نعتا لكل شيء ، وهذا وإن كان معنى مستقيما إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفا وَكُلُّ
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وقيل : منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة مُسْتَطَرٌ مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهو من السطر بمعنى الكتب ، ويقال : سطرت واستطرت بمعنى ، وقرأ الأعمش وعمران وعصمة عن أبي بكر عن عاصم «مستطرّ» بتشديد الراء ، قال صاحب اللوامع : يجوز أن يكون من - طر - النبات والشارب إذا ظهر ، والمعنى كل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الاستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول. جعفرّ ويفعلّ - بالتشديد وقفا أي ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل ، ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلخ مما يستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانه ما لهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقال عز قائلا : إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي من الكفر والمعاصي ، وقيل : من الكفر.
فِي جَنَّاتٍ عظيمة الشأن وَنَهَرٍ أي أنهار كذلك ، والإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل ، وعن ابن عباس تفسيره بالسعة ، وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة - كما في الدر المنثور - أو قيس بن الخطيب - كما في البحر - يصف طعنة :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
أي أوسعت فتقها ، والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر ، وقيل : سعة الرزق والمعيشة ، وقيل : ما يعمهما وأخرج الحكيم والترمذي في نوادر الأصول عن محمد بن كعب قال : وَنَهَرٍ أي في نور وضياء وهو على الاستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من منبعه ، وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة ، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم في الجنات ، وقرأ الأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان «ونهر» بسكون الهاء ، وهو بمعنى «نهر» مفتوحها ، وقرأ الأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني «ونهر» بضم النون والهاء ، وهو جمع نهر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 95
المفتوح أو الساكن - كأسد وأسد ، ورهن ورهن - وقيل : جمع نهار ، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم كما حكي فيما ، وقيل : قرىء بضم النون وسكون الهاء فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضي على أن الصدق مجاز مرسل في لازمه أو استعارة ، وقيل : المراد صدق المبشر به وهو اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم السلام ، فالإضافة لأدنى ملابسة وقال جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه : مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق
، وهو المقعد الذي يصدق اللّه تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز وجل لهم النظر إلى وجهه الكريم ، وإفراد المقعد على إرادة الجنس.
وقرأ عثمان البتي - في مقاعد - على الجمع وهي توضح أن المراد بالمقعد المقاعد عِنْدَ مَلِيكٍ أي ملك عظيم الملك ، وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الإشباع مُقْتَدِرٍ قادر عظيم القدرة ، والظرف في موضع الحال من الضمير المستقر في الجار والمجرور ، أو خبر بعد خبر ، أو صفة لمقعد صدق ، أو بدل منه ، والعندية للقرب الرتبي ، وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر - مليكا ، ومقتدرا - للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عز وجل لا تدري الأفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكلّ دونه الأذهان.
وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة - عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم في قوله تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ إلخ قال : إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بالأعمال فلا تقرّ أعينهم قط كما تقرّ بذلك ولم يسمعوا شيئا أعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد
- وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل ، ولهذين الاسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء على ما في بعض الآثار.
أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال : دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا علي ليل طويل وليس فيه أحد غيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال : أيها الممتلئ قلبه فرقا لا تفرق أو لا تفزع وقل اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لك قال : فما سألت اللّه تعالى شيئا إلا استجاب لي وأنا أقول :
اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن علي وانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد للّه رب العالمين.==

36. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 96
سورة الرّحمن
وسميت
في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه مرفوعا «عروس القرآن» ورواه موسى بن جعفر رضي اللّه تعالى عنهما عن آبائه الأطهار كذلك
«وهي مكية» في قول الجمهور ، وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير وعائشة رضي اللّه تعالى عنهم وابن النحاس عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة ، وحكي ذلك عن مقاتل ، وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا ، وحكي أيضا قولا آخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى : يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرحمن : 29] الآية ، وحكي الاستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعينه ، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي ، وسبع وسبعون في الحجازي ، وست وسبعون في البصري.
ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي : أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر : 46] ثم وصف عز وجل حال المجرمين فِي سَقَرَ [القمر : 48] وحال المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر : 54] فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة ، والإشارة إلى شدّتها ، ثم وصف النار وأهلها ، ولذا قال سبحانه : يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن : 41] ولم يقل الكافرون ، أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ [القمر :
47] ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وذلك هو عين التقوى ولم يقل ولمن آمن ، أو أطاع ، أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها ، وقال أبو حيان في ذلك : إنه تعالى لما ذكر هناك مقر المجرمين في سعر ، ومقر المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر : 54] ذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثار القدرة ، ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان ذكره هناك على جهة الاختصار ، ولما أبرز قوله سبحانه : عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين؟ فقيل : «الرحمن» إلخ ، والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم اللّه عز وجل ، وبيّن عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم أثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها ، وهذا التكرار أحلى من السكر إذ تكرر ، وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضى التكرار في سورة «الرحمن» إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة ، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 97
كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا :
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب إذا رجف العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب غداة تأثل الأمر الكبير
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خار جأش المستجير
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولولا خوف الملل لأوردتها ، ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى في محله ، وقسم في الإتقان التكرار إلى أقسام ، وذكر أن منه ما هو لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ثم قال : وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى :
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من سورة الرحمن فإنها وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره ، وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله : إن التأكيد إلخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع وإن لزم منه التأكيد فافهم ، وبدأ سبحانه من النعم بتعليم القرآن فقال عز قائلا :
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 إلى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)
بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 98
ومناطه ، ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه ، ونصبه على أنه مفعول ثان - لعلم - ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه - أي علم الإنسان القرآن - وهذا المفعول هو الذي كان فاعلا قبل نقل فعل الثلاثي إلى فعل المضعف ، وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال : علم لا بد له من مفعول ثان وترك للإشارة إلى أن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص ، ويمكن أن يقال :
أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذا المفعول فلا جزم بسهوه ، وقيل : المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام ، وقيل : محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وعلى القولين يتضمن ذلك الاشارة إلى أن القرآن كلام اللّه عز وجل ، والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام ، ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام تردد ما بناء على ما في الإتقان نقلا عن ابن الصلاح من أن قراءة القرآن كرامة أكرم اللّه تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة على أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثني منه جبريل عليه السلام ، وقيل : عَلَّمَ من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر ، أو علامة للنبوة ومعجزة ، وهذا على ما قيل : يناسب ما ذكر في مفتتح السورة السابقة من قوله تعالى : وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر : 1] وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة.
وقد أبعد القائل ولو أبدى ألف مناسبة ، فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم ، والمراد بتعليم القرآن قيل :
إفادة العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتدّ به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن اللّه تعالى لم يغفل شيئا فيه.
أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعا «إن اللّه لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصّر عما بين لنا في القرآن ، وقال ابن عباس : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب اللّه تعالى : وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ، ثم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة ، ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه ، وفسر بعضهم التعليم بتنبيه النفس لتصور المعاني ، وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن فالآية كقوله تعالى : وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر : 17 ، 22 ، 32 ، 40] وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى ، والرَّحْمنُ مبتدأ والجملة بعده خبره كما هو الظاهر ، وإسناد تعليمه إلى اسم الرَّحْمنُ للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها ، وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر ، وفيه من تعظيم شأن القرآن ما فيه ، وقيل : الرَّحْمنُ خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف أي اللّه الرحمن ، أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز وجل وهو خلاف الظاهر ، ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى : خَلَقَ الْإِنْسانَ لأن أصل النعم عليه ، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها ، وقيل : لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 99
في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهنا وإن كان الأمر بالعكس خارجا ، والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة ، ثم أتبع عز وجل ذلك بنعمة تعليم الْبَيانَ فقال سبحانه : عَلَّمَهُ الْبَيانَ لأن البيان هو الذي به يتمكن عادة من تعلم القرآن وتعليمه ، والمراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
والمراد بتعليمه نحو ما مر ، وفي الإرشاد أن قوله تعالى : خَلَقَ الْإِنْسانَ تعيين للمتعلم ، وقوله سبحانه : عَلَّمَهُ الْبَيانَ تبيين لكيفية التعليم ، والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه ، ومن فهم بيان غيره إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن. وقيل إنه بناء على تقدير المفعول المحذوف الملائكة المقربين :
إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعا فهم قد علموه قبل خلق الإنسان وربما يرمز إليه قوله تعالى : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة : 77 - 79] وفي النظم الجليل عليه حسن زائد حيث إنه تعالى ذكر أمورا علوية وأمورا سفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضا وقال الضحاك : الْبَيانَ الخير والشر ، وقال ابن جريج : سبيل الهدى وسبيل الضلالة ، وقال يمان : الكتابة والكل كما ترى ، وجوز أن يراد به القرآن وقد سماه اللّه تعالى بيانا في قوله سبحانه : هذا بَيانٌ [آل عمران : 138] وأعيد ليكون الكلام تفصيلا لإجمال علم القرآن وهذا في غاية البعد وقال قتادة :
الْإِنْسانَ آدم ، والْبَيانَ علم الدنيا والآخرة ، وقيل : الْبَيانَ أسماء الأشياء كلها. وقيل : التكلم بلغات كثيرة ، وقيل : الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ، ونسب هذا إلى جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه.
وقال ابن كيسان : الْإِنْسانَ محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وعليه قيل : المراد بالبيان بيان المنزل. والكشف عن المراد به كما قال تعالى : وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل :
44] أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفا ، أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة والسلام ويليق به من المعاني السابقة ، ولعل ابن كيسان يقدر مفعول علم الإنسان مرادا به النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أيضا ، وهذه أقوال بين يديك ، والمتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولا. ثم إن كلا من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأ كجملة عَلَّمَ الْقُرْآنَ وكذا قوله تعالى : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جرى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كائن أو مستقر بِحُسْبانٍ أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران بمعنى الحساب - كما قال قتادة وغيره - أي هما يجريان بِحُسْبانٍ مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب ، وقال الضحاك وأبو عبيدة : هو جمع حساب كشهاب وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما ، وقال مجاهد : الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة ، وعليه فالباء للظرفية ، والجار والمجرور في موضع الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم ، والمراد كل من الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في فلك ، والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه.
وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلا ، وأن القمر يجري على الأرض ، والأرض تجري على الشمس ، وقد سمعنا أنهم عدلوا منذ أعوام عن ذلك ، فزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 100
يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم ، والظاهر أن حالهم اليوم بل وغدا مثل حالهم بالأمس ، ونحن مع الظواهر حتى يقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذ نميل إلى التأويل وبابه واسع ، ومثل هذه الجملة قوله تعالى : وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ فإن المعطوف على الخبر خبر ، والمراد - بالنجم - النبات الذي ينجم أي يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له ، وبالشجر النبات الذي له ساق ، وهو المروي عن ابن عباس وابن جبير وأبي رزين والمراد بسجودهما انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعا ، شبه جريهما على مقتضى طبيعتيهما بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له. ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه فهناك استعارة مصرحة تبعية ، وقال مجاهد وقتادة والحسن - النجم - نجم السماء وسجوده بالغروب ونحوه وسجود الشجر بالظل واستدارته عند مجاهد والحسن وفي رواية أخرى عن مجاهد أن سجودهما عبارة عن انقيادهما لما يريد سبحانه بهما طبعا ، والجمهور على تفسير النجم بما سمعت أولا قبل لأن اقترانه بالشجر يدل عليه ، وإن كان تقدم الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يتوهم منه أنه بمعناه المعروف ففيه تورية ظاهرة ، وإخلاء الجمل الثانية والثالثة والرابعة عن العاطف لورودها على نهج التعديد مع الإشارة إلى أن كلا مما تضمنته نعمة مستقلة تقتضي الشكر ، وقد قصروا في أدائه ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أن الكل نعمة واحدة.
وتوسيط العاطف بين الرابعة والخامسة رعاية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ علويان وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ سفليان ، ومن حيث إن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر اللّه عز وجل وخلوهما عن الرابط اللفظي مع كونهما خبرين للتعويل على كمال قوة الارتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بتسخير غيره تعالى ، ولا إلى كون سجود النجم والشجر لسواه سبحانه فكأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ له كذا قالوه ، وفي الكشف : تبيينا لما ذكره صاحب الكشاف في هذا المقام أخلى الجمل أي التي قبل الشمس والقمر بحسبان عن العاطف لأن الغرض تعديد النعم وتبكيت المنكر كما يقال : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثّرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه كأنه لما عد نعمة حرك منه حتى يتأمل هل شكرها حق شكرها أم لا ، ثم يأخذ في أخرى ولو جيء بالعاطف صارت كواحدة ولم يكن من التحريك في شيء ، ولما قضي الوطر من التعديد المحرك والتبكيت بذكر ما هو أصل النعم على نمط رد الكلام على منهاجه الأصلي من تعداد النعم واحدة بعد أخرى على التناسب والتقارب بحرف النسق ، وفيه تنبيه على أن النعم لا تحصى فليكتف بتعديد أجلها رتبة للغرض المذكور.
وجملة الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ليست من أخبار المبتدأ ، والزمخشري إنما سأل عن وجه الربط ، وأجاب بأن الربط حاصل بالوصل المعنوي كأنه بعد ما بكت ونبه أخذ يعد عليه أصول النعم ليثبت على ما طلب منه من الشكر ، وهذا كما تقول في المثال السابق بعد قولك : فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد دانت له أقرانك وأطاعته إخوانك وبسط نواله فيمن تحت ملكته ولم يخرج أحد من حياطة عدله ونصفته ، فلا يشك ذو أرب أنها جمل منقطعة عن الأولى إعرابا متصلة بها اتصالا معنويا أورثها قطعها لأنها سيقت لغرض وهذه لأخر ، وقريب من هذا الاتصال اتصال قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة : 6] الآية بقوله تعالى : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة : 3] الآية انتهى.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 101
وقد أبعد المغزى فيما أرى إلا أن ظاهر كلام الكشاف يقتضي كونه قوله تعالى : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ من الأخبار فتأمل وَالسَّماءَ رَفَعَها أي خلقها مرفوعة ابتداء لا أنها كانت مخفوضة ورفعها ، والظاهر أن المراد برفعها الرفع الصوري الحسي ، ويجوز أن يكون المراد به ما يشمل الصوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه ورفعها المعنوي الرتبي لأنها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومنزل أوامره سبحانه ومحل ملائكته عز وجل ، وقرأ أبو السمال «والسماء» بالرفع على الابتداء ، ولا إشكال فيه لأن الجملة عليه اسمية معطوفة على مثلها ، وإنما الإشكال في النصب لأنه بفعل مضمر على شريطة التفسير أي ورفع السماء فتكون الجملة فعلية فإن عطفت على جملة - والنجم والشجر يسجدان - الكبرى لزم تخالف الجملتين لمعطوفة والمعطوف عليها بالاسمية والفعلية وهو خلاف الأولى ، وإن عطفت على جملة يَسْجُدانِ الصغرى لزم أن تكون خبرا - للنجم والشجر - مثلها ، وذلك لا يصح إذ لا عائد فيها إليهما ، وكذا يقال في العطف على كبرى وصغرى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وأجاب أبو علي باختيار الثاني ، وقال : لا يلزم في المعطوف على الشيء أن يعتبر فيه حال ذلك الشيء ، وتلا باب قولهم متقلدا سيفا ورمحا ، وبعضهم باختيار الأول ويحسن التخالف إذا تضمن نكتة ، وقال الطيبي :
الظاهر أن يعطف على جملة الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر ، وأسجد النجم والشجر ، فعدل إلى معنى دوام التسخير والانقياد في الجملتين الأوليين ، ومعنى التوكيد في الأخيرة والكلام فيما يتعلق بالرفع والنصب فيما إذا ولي العاطف جملة ذات وجهين مفصل في كتب النحو وَوَضَعَ الْمِيزانَ أي شرع العدل وأمر به بأن وفر على كل مستعد مستحقه ، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما
قال عليه الصلاة والسلام : «بالعدل قامت السماوات والأرض»
أي بقيتا على أبلغ نظام وأتقن إحكام ، وقال بعضهم : المراد بقاء من فيهما من الثقلين إذ لولا العدل أهلك أهل الأرض بعضهم بعضا ، وأما الملأ الأعلى فلا يقع بينهم ما يحتاج للحكم والعدل ، فذكرهم للمبالغة ، والذي اختاره أن المراد بالسماوات والأرض العالم جميعه ولا شك أنه لولا العدل لم يكن العالم منتظما. ومنشأ ما ذكره القائل ظن أن المراد بالعدل في الحديث العدل في الحكم لفصل الخصومات ونحوه وليس كما ظن بل المراد به عدل اللّه عز وجل وإعطاؤه سبحانه كل شيء خلقه. وتفسير الميزان بما ذكر هو المروي عن مجاهد والطبري والأكثرين ، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية وعن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك أن المراد به ما يعرف به مقادير الأشياء من الآلة المعروفة والمكيال المعروف ونحوهما ، فالمعنى خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم ، والمشهور أنه بهذا المعنى مجاز أيضا من استعمال المقيد في المطلق ، وقيل : هو حقيقة فالواضع لم يضعه إلا لما يعرف به المقادير على أي هيئة ومن أي جنس كان ، والناس لما ألفوا المعروف لا يكاد يتبادر إلى أذهانهم من لفظ الْمِيزانَ سواه ، وقيل : المراد به المعروف واللفظ فيه حقيقة ولا يسلم الوضع للعام.
ورجح القولان الأخيران بأن ما بعد أشدّ ملاءمة لهما وبين الوضع والرفع عليهما تقابل ، وقد قرأ عبد اللّه - وخفض الميزان - والأول بأنه أتم فائدة فزن ذلك بميزان ذهنك أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي لئلا تطغوا فيه أي حقه وشأنه بأن تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي فيه على أن (أن) ناصبة و(لا) نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى :
وَضَعَ الْمِيزانَ وجوز ابن عطية والزمخشري كون (أن) تفسيرية و(لا) ناهية.
واعترضه أبو حيان بأنه لم يتقدم جملة فيها معنى القول وهو شرط في صحة جعل (أن) مفسرة ، وأجيب بأن وضع الميزان فيه ذلك لأنه بالوحي وإعلام الرسل عليهم والسلام ، وزعم بعضهم أن التفسير متعين لأنه لا معنى لوضع

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 102
الميزان لئلا تطغوا في الميزان إذ المناسب الموزون ونحوه ، وفيه ما لا يخفى وفي البحر قرأ إبراهيم «ووضع الميزان» بإسكان الضاد ، وخفض الميزان على أن وَضَعَ مصدر مضاف إلى ما بعده ولم يبين هل وَضَعَ مرفوع أو منصوب ، فإن كان مرفوعا فالظاهر أنه مبتدأ وأَلَّا تَطْغَوْا بتقدير الجار في موضع الخبر. وإن كان منصوبا فالظاهر أن عامله مقدر أي وفعل «وضع الميزان» أو ووضع وضع الميزان أَلَّا تَطْغَوْا إلخ ، وقرأ عبد اللّه - لا تطغوا - بغير (أن) على إرادة القول أي قائلا ، أو نحوه لا قل - كما قيل - و(لا) ناهية بدليل الجزم.
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ قوموا وزنكم بالعدل ، وقال الراغب هذا إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال ، وعن مجاهد أن المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل إذا أردتم الأخذ والإعطاء ، وقال سفيان بن عيينة : الإقامة باليد ، والقسط بالقلب ، والظاهر أن الجملة عطف على الجملة المنفية قبلها ولا يضر في ذلك كونها إنشائية ، وتلك خبرية لأنها لتأويلها بالمفرد تجردت عن معنى الطلب ، وجعل بعضهم لا في الاولى مطلقا ناهية حرصا على التوافق وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي لا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه وكرر لفظ الْمِيزانَ بدون إضماره كما هو مقتضى الظاهر تشديدا للتوصية وتأكيدا للأمر باستعماله والحث عليه ، بل في الجمل الثلاث تكرار ما معنى لذلك ، وقرىء «ولا تخسروا» بفتح التاء وضم السين ، وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين.
وحكى ابن جني وصاحب اللوامح عن بلال أنه قرأ بفتحهما ، وخرّج ذلك الزمخشري على أن الأصل - ولا تخسروا في الميزان - فحذف الجار ، وأوصل الفعل بناء على أنه لم يجىء إلا لازما ، وتعقبه أبو حيان بأن خسر قد جاء متعديا كقوله تعالى : خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام : 12] وغيرها وخَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الحج : 11] فلا حاجة إلى دعوى الحذف والإيصال ، وأجيب بأنه على تقدير أن يكون متعديا هنا لا بد من القول بالحذف والإيصال لأن المعنى على حذف المفعول به أي لا تخسروا أنفسكم في الميزان أي لا تكونوا خاسريها يوم القيامة بسبب الميزان بأن لا تراعوا ما ينبغي فيه ، والراغب جوز حمل الآية على القراءة المشهورة على نحو هذا فقال : إن قوله تعالى :
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يعاطاه فيه ، ويجوز أن يكون إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسرا فيكون ممن قال سبحانه فيه : مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ [الأعراف : 9 ، المؤمنين : 103 ، القارعة : 8] وكلا المعنيين متلازمان ، وقيل : المعنى على التعدي بتقدير مضاف أي موزون الميزان ، أو جعل الميزان مجازا عن الموزون فيه فتأمل ولا تغفل وَالْأَرْضَ وَضَعَها خلقها موضوعة مخفوضة عن السماء حسبما يشاهد ، وقال الراغب : الوضع هنا الإيجاد والخلق وكأن مراده ما ذكر ، وقيل : أي خفضها مدحوّة على الماء ، والظاهر على تقدير اعتبار الدحو أنه لا حاجة إلى اعتبار أنه سبحانه خلقها كذلك بل لا يصح لأنها لم تخلق مدحوّة وإنما دحيت بعد على ما روي عن ابن عباس ، ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه عز وجل خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه من زبده لِلْأَنامِ قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والشعبي ومجاهد على ما في مجمع البحرين : الحيوان كله ، وقال الحسن : الإنس والجن.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس هم بنو آدم فقط ولم أر هذا التخصيص لغيره رضي اللّه تعالى عنه ، ففي القاموس الأنام الخلق أو الجن والإنس ، أو جميع ما على وجه الأرض ، ويحتمل أنه أراد أن المراد به هنا ذلك بناء على أن اللام للانتفاع وأنه محمول على الانتفاع التام وهو للإنس أتم منه لغيرهم ، والأولى عندي ما حكي عنه أولا ، وقرأ أبو السمال «والأرض» بالرفع - وقوله تعالى : فِيها فاكِهَةٌ إلخ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كون الأرض

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 103
موضوعة لنفع الأنام ، وقيل : حال مقدرة من الأرض ، أو من ضميرها ، فالأحسن حينئذ أن يكون الحال هو الجار والمجرور ، وفاكِهَةٌ رفع على الفاعلية والتنوين بمعونة المقام للتكثير أي فيها ضروب كثيرة مما يتفكه به وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ هي أوعية التمر أعني الطلع على ما روي عن ابن عباس جمع - كم - بكسر الكاف وقد تضم ، وهذا في - كم - الثمر ، وأما - كم - القميص فهو بالضم لا غير ، أو كل ما يكم ويغطى من ليف وسعف وطلع فإنه مما ينتفع به كالمكموم من الثمر والجمار مثلا ، واختاره من اختاره ، ومما ذكر يعلم فائدة التوصيف وَالْحَبُّ هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير ذُو الْعَصْفِ قيل : هو ورق الزرع ، وقيده بعضهم باليابس ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه التبن ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك أنه القشر الذي يكون على الحب وعن السدي والفراء أنه بقل الزرع وهو أول ما ينبت ، وأخرجه غير واحد عن الحبر أيضا ، واختار جمع ما روي عنه أولا ، وفي توصيف الحب بما ذكر تنبيه على أنه سبحانه كما أنعم عليهم بما يقوتهم من الحب أنعم عليهم بما يقوت بهائمهم من العصف وَالرَّيْحانُ هو كل مشموم طيب الريح من النبات على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد ، وأخرج عن الحسن أنه قال : هو ريحانكم هذا أي الريحان المعروف : وأخرج عن مجاهد أنه الرزق بل قال ابن عباس :
كما أخرج هو أيضا عنه كل ريحان في القرآن فهو رزق ، وزعم الطبرسي أنه قول الأكثر ، وعليه قول بعض الأعراب ، وقد قيل له : إلى أين أطلب من ريحان اللّه فإنه أراد من رزقه عز وجل ، ووجه إطلاقه عليه أنه يرتاح له ، وظاهر كلام الكشاف أنه أطلق وأريد منه اللب ليطابق العصف ويوافق المراد منه في قراءة حمزة والكسائي والأصمعي عن أبي عمرو «والريحان» بالجر عطفا على الْعَصْفِ إذ يبعد عليها حمله على المشموم والقريب حمله على اللب فكأنه قيل : والحب ذو العصف الذي هو رزق دوابكم ، وذو اللب الذي هو رزق لكم ، وجوز أن يكون الريحان في هذه القراءة عطفا على فاكهة كما في قراءة الرفع ، والجر للمجاورة وهو كما ترى ، والزمخشري بعد أن فسر الْأَكْمامِ بما ذكرناه ثانيا فيها وَالرَّيْحانُ باللب قال : أراد سبحانه فيها ما يتلذذ به من الفواكه : والجامع بين التغذي والتلذذ - وهو ثمر النخل - وما يتغذى به - وهو الحب - وهو على ما في الكشف بيان لإظهار وجه الامتنان وأنه مستوعب لأقسام ما يتناول في حال الرفاهية لأنه إما للتلذذ الخالص وهو الفاكهة ، أو له وللتغذي أيضا وهو ثمر النخل ، أو للتغذي وحده وهو الحب ، ولما كان الأخيران أدخل في الامتنان شفع كلا بعلاوة فيها منة أيضا ، وأن تعلم أنه إذا كان المقصود من النخل ثمره المعروف فالعطف على أسلوب ملائكته وجبريل كما قيل في قوله تعالى : فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن : 68] وإذا كان ما يعمه وسائر ما ينتفع به منه كالجمار والكفرى ، فالعطف ليس على ذلك ، وجعل صاحب الكشف قول الزمخشري بعد تفسير الْأَكْمامِ بالمعنى الأعم وكله منتفع به كالمكموم إشارة إلى هذا ، ثم قال : ولا ينافي جعله منه في قوله تعالى : فِيها فاكِهَةٌ إلخ نظرا إلى أن الجنة دار تخلص للتلذذ فالنظر هنالك إلى المقصود وهو الثمر فقط فتأمل.
وقرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة - والحب ذا العصف والريحان - بنصب الجميع ، وخرج على أنه بتقدير وخلق الحب إلخ ، وقيل : يجوز تقدير أخص ، وفيه دغدغة ، وجوزوا أن يكون الريحان بمعنى اللب حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف والأصل وذو أو وذا الريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والرَّيْحانُ فيعلان من الروح. فأصله ريوحان قبلت الواو ياء لاجتماعها مع ياء ساكنة قبلها وأدغمت في الياء فصار ريحان بالتشديد ثم حذفت الياء الثانية التي هي عين الكلمة فقيل : ريحان كما قيل : ميت وهين بسكون الياء.
وعن أبي علي الفارسي أنه فعلان وأصله روحان بفتح الراء وسكون الواو قلبت واوه ياء للتخفيف وللفرق بينه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 104
وبين الروحان بمعنى ما له روح فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الخطاب للثقلين لأنهما داخلان في الأنام على ما اخترناه ، أو لأن الأنام عبارة عنهما على ما روي عن الحسن ، وسينطق بهما في قوله تعالى : سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن : 31] وفي الاخبار كما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى قريبا ما يؤيده ، وقد أبعد من ذهب إلى أنه خطاب للذكر والأنثى من بني آدم ، وأبعد أكثر منه من قال : إنه خطاب على حد أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق : 24] ويا شرطي اضربا عنقه ، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين والفاء لترتيب الإنكار ، والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتما ، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بشيء من آلائه تعالى كفرهم به إما بإنكار كونه منه عز وجل مع عدم الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية ، وإما بإنكار كونه منه تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره سبحانه استقلالا ، أو اشتراكا صريحا ، أو دلالة فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها ، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر وشهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل فَبِأَيِّ فرد من أفراد نعم مالككما ومربيكما بتلك النعم تُكَذِّبانِ مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق ويندب أن يقول سامع هذه الآية : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ،
فقد أخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في الافراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه بسند صحيح عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قرأ سورة «الرحمن» على أصحابه فسكتوا فقال : ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم ما أتيت على قول اللّه تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلا قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد».
وأخرج الترمذي وجماعة وصححه الحاكم عن جابر بن عبد اللّه نحوه
، وقرىء «فبأي» بالتنوين في جميع السورة كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه آلاءِ رَبِّكُما بدل معرفة من نكرة.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين ، والمراد بالإنسان آدم عند الجمهور. وقيل : الجنس وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق مما ذكر ، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة ، وأصله - كما قال الراغب - تردد الصوت من الشيء اليابس ومنه قيل : صل المسمار ، وقيل : هو المنتن من الطين من قولهم : صل اللحم ، وكأن أصله صلال فقلبت إحدى اللامين صادا ويبعد ذلك قوله سبحانه : كَالْفَخَّارِ وهو الخزف أعني ما أحرق من الطين حتى تحجر وسمي بذلك لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورة من يكثر التفاخر ، وقد خلق اللّه تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين وَخَلَقَ الْجَانَّ هو أبو الجن وهو إبليس قاله الحسن ، وقال مجاهد : هو أبو الجن وليس بإبليس ، وقيل : هو اسم جنس شامل للجن كلهم مِنْ مارِجٍ من لهب خالص لا دخان فيه - كما هو رواية عن ابن عباس - وقيل : هو اللهب المختلط بسواد النار ، أو بخضرة وصفرة وحمرة - كما روي عن مجاهد - من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط ، ومِنْ لابتداء الغاية ، وقوله تعالى : مِنْ نارٍ بيان لمارج والتنكير للمطابقة ولأن التعريف لكنه عليه فكأنه قيل : خلق من نار خالصة ، أو مختلطة على التفسيرين ، وجوز جعل مِنْ فيه ابتدائية فالتنكير لأنه أريد نار مخصوصة متميزة من بين النيران لا هذه المعروفة ، وأيا ما كان فالمارج بالنسبة إلى الجان كالتراب بالنسبة إلى الإنسان ، وفي الآية رد على من يزعم أن الجن نفوس مجردة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما أفاض عليكما في تضاعيف

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 105
خلقكما من سوابغ النعم رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب إلخ ، أو الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة - رب مشرقي الشمس صيفا وشتاء ومغربيها - كذلك على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة أن الْمَشْرِقَيْنِ مشرقا الشتاء ومشرق الصيف ، والْمَغْرِبَيْنِ مغرب الشتاء ومغرب الصيف بدون ذكر الشمس ، وقيل : المشرقان مشرقا الشمس والقمر ، والمغربان مغرباهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الفجر ومشرق الشفق ، والْمَغْرِبَيْنِ مغرب الشمس ومغرب الشفق ، وحكى أبو حيان في المغربين نحو هذا ، وفي المشرقين أنهما مطلع الفجر ومطلع الشمس والمعول ما عليه الأكثرون من مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما ، ومن قضية ذلك أن يكون سبحانه رب ما بينهما من الموجودات ، وقيل : رَبُّ مبتدأ والخبر قوله تعالى : مَرَجَ إلخ ، وليس بذاك.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ربّ» بالجر على أنه بدل من ربكما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما في ذلك من فوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته.
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما وأجراهما من - مرجت - الدابة - في المرعى - أرسلتها فيه ، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب يَلْتَقِيانِ أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في مرأى العين ، وقيل :
أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان ينشعبان منه ، وروي هذا عن قتادة لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى : مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [الفرقان : 53] والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وعليه قيل : جملة يَلْتَقِيانِ حال مقدرة إن كان المراد - إرسالهما إلى المحيط ، أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما إليه بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة اللّه تعالى ، أو من أجرام الأرض كما قال قتادة لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية بالكلية بناء على الوجه الأول فيما سبق ، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما بناء على الوجه الثاني ، وروي هذا عن قتادة أيضا ، وفي معناه ما أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الحسن لا يَبْغِيانِ عليكم فيغرقانكم ، وقيل : المعنى لا يطلبان حالا غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما لكما في ذلك من المنافع
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ صغار الدر وَالْمَرْجانُ كباره كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
ومجاهد ، وأخرجه عبد عن الربيع وجماعة منهم المذكوران وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس ، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : اللُّؤْلُؤُ ما عظم منه وَالْمَرْجانُ اللؤلؤ الصغار.
وأخرج هو وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه ، وكذا أخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء عن مجاهد ، وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل ثانيا فيهما. وأخرج عبد الرزاق الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبري عن ابن مسعود أنه قال : - المرجان - الخرز الأحمر أعني البسذ وهو المشهور المتعارف ، واللُّؤْلُؤُ عليه شامل للكبار والصغار. ثم إن اللؤلؤ بناء غريب قيل : لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة هو ، والجؤجؤ الصدر وقرية بالبحرين ، والدؤدؤ آخر الشهر أو ليلة خمس وست وسبع وعشرين أو ثمان وتسع وعشرين أو ثلاث ليال من آخره ، والبؤبؤ بالباء الموحدة الأصل والسيد الظريف ورأس المكحلة وإنسان العين ووسط الشيء ، واليؤيؤ بالياء آخر الحروف طائر كالباشق ، ورأيت في كتب اللغة على هذا البناء غيرها وهو الضؤضؤ الأضل للطائر. والنؤنؤ بالنون المكثر تقليب الحدقة والعاجز الجبان ، ومن ذلك شؤشؤ دعاء الحمار إلى الماء وزجر الغنم والحمار للمضي. أو هو دعاء للغنم لتأكل ، أو تشرب وأما

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 106
المرجان فقد ذكره صاحب القاموس في مادة - مرج - ولم يذكر ما يفهم منه أنه معرب ، وقال أبو حيان في البحر : هو اسم أعجمي معرب. وقال ابن دريد : لم أسمع فيه بفعل متصرف.
وقرأ طلحة - اللؤلئ - بكسر اللام الأخيرة. وقرىء اللؤلي بقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسر ما قبلها وكل من ذلك لغة. وقرأ نافع وأبو عمرو «يخرج» مبنيا للمفعول من الإخراج ، وقرىء «يخرج» مبنيا للفاعل منه ونصب «اللّؤلؤ والمرجان» أي يخرج اللّه تعالى. واستشكلت الآية على تفسير البحرين بالعذب والملح دون بحري فارس والروم بأن المشاهد خروج اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ من أحدهما وهو الملح فكيف قال سبحانه : مِنْهُمَا؟ وأجيب بأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال : يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميعه ولكن من بعضه ، وكما تقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره ، وقد ينسب إلى الاثنين ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. ومثله ما في الانتصاف عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : 31] وعلى ما نقل عن الزجاج سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح : 15 ، 16] ، وقيل : إنهما لا يخرجان إلا من ملتقى العذب والملح ويرده المشاهدة وكأن من ذكره مع ما تقدم لم يذكره لكونه قولا آخر بل ذكره لتقوية الاتحاد فحينئذ تكون علاقة التجوز أقوى.
وقال أبو علي الفارسي : هذا من باب حذف المضاف والتقدير يخرج من أحدهما وجعل مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من ذلك. وهو عندي تقدير معنى لا تقدير إعراب. وقال الرماني : العذب منهما كاللقاح للملح فهو كما يقال الولد يخرج من الذكر والأنثى أي بواسطتهما ، وقال ابن عباس ، وعكرمة : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الأصداف في شهر نيسان تتلقى ماء المطر بأفواهها فتتكون منه ، ولذا تقل في الجدب ، وجعل عليه ضمير مِنْهُمَا للبحرين باعتبار الجنس ولا يحتاج إليه بناء على ما أخرجه ابن جرير عنه أن المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض.
وأخرج هو وابن المنذر عن ابن جبير نحوه إلا أن في تكون المرجان بناء على تفسير بالبسذ من ماء المطر كاللؤلؤ ترددا وإن قالوا : إنه يتكون في نيسان ، وقال بعض الأئمة : ظاهر كلام اللّه تعالى أولى بالاعتبار من كلام الناس ، ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من الملح ، ولكن لم قلتم إن الصدف لا يخرج بأمر اللّه تعالى من الماء العذب إلى الماء الملح فإن خروجه محتمل تلذذا بالملوحة كما تلتذ المتوحمة بها في أوائل حملها حتى إذا خرج لم يمكنه العود ، وكيف يمكن الجزم بما قلتم وكثير من الأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ، واللّه تعالى أعلم ومن غريب التفسير ما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال : مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ علي وفاطمة رضي اللّه تعالى عنهما بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ الحسن والحسين رضي اللّه تعالى عنهما.
وأخرج عن إياس بن مالك «1» نحوه لكن لم يذكر فيه البرزخ
، وذكر الطبرسي من الإمامية في تفسيره مجمع البيان الأول بعينه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري ، والذي أراه أن هذا إن صح ليس من التفسير في شيء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير من الآيات ، وكل من عليّ وفاطمة رضي اللّه تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علما وفضلا ، وكذا كل من الحسنين رضي اللّه تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتب
___________
(1) هكذا بالأصل ولعله انس بن مالك فدخله التصحيف.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 107
جاوزت حدّ الحسبان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما في ذلك من الزينة والمنافع الجليلة فقد ذكر الأطباء أن اللُّؤْلُؤُ يمنع الخفقان والبحر وضعف الكبد والكلى والحصى وحرقة البول والسدد واليرقان وأمراض القلب والسموم والوسواس والجنون والتوحش والربو شربا والجذام والبرص والبهق والآثار مطلقا بالطلي إلى غير ذلك ، وأن المرجان أعني بالبسذ يفرح ويزيل فساد الشهوة ولو تعليقا ونفث الدم والطحال شربا والدمعة والبياض والسلاق والجرب كحلا إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وَلَهُ الْجَوارِ السفن جمع جارية وخصها سبحانه بأنها له وهو تعالى له ملك السماوات والأرض وما فيهن للإشارة إلى أن كونهم هم منشئيها لا يخرجها من ملكه عز وجل حيث كان تمام منفعتها إنما هو منه عز وجل ، وقرأ عبد اللّه والحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو «الجوار» بإظهار الرفع على الراء لأن المحذوف لما تناسوه أعطوا ما قبل الآخر حكمه كما في قوله :
لها ثنايا أربع حسان وأربع فكلها ثمان
الْمُنْشَآتُ أي المرفوعات الشرع - كما قال مجاهد - من أنشأه بمعنى رفعه ، وقيل : المرفوعات على الماء وليس بذاك ، وكذا ما قيل المصنوعات ، وقرأ الأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر بخلاف عنه «المنشآت» بكسر الشين أي الرافعات الشرع ، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن ، أو اللاتي ينشئن السير إقبالا وإدبار ، وفي الكل مجاز ، وشدد الشين ابن أبي عبلة ، وقرأ الحسن «المنشآت» وحد الصفة ودل على الجمع الموصوف كقوله تعالى : أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة : 25 ، آل عمران : 15 ، النساء : 57] وقلب الهمزة ألفا على حد قوله :
إن السباع لتهدأ في مرابضها يريد لتهدأ والتاء لتأنيث الصفة كتبت تاء على لفظها في الأصل فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات ومَنْ للتغليب أو للثقلين فانٍ هالك وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي ذاته عز وجل ، والمراد هو سبحانه وتعالى ، فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس ، وهو مجاز شائع ، وقيل : أصله الجهة واستعماله في الذات من باب الكناية وتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل ، وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف ، وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ.
والظاهر أن الخطاب في - ربك - للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته ، وفي الآية عند المؤولين كلام كثير منه ما سمعت ، ومنه ما قيل :
الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود ، أي ويبقى ما يقصد به ربك عز وجل من الأعمال ، وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه ، وأقرب منه ما قيل : وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز وجل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه ، ومرجع ذلك العمل الصالح أيضا واللّه جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء أو لأنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق ، ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في كُلُّ مَنْ عَلَيْها وقيل : وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها على الشيء من عنده أي إن ذلك باق دون الشيء في حدّ ذاته فإنه فان في كل وقت ، وقيل : المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعالى ، والاضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حدّ ذاته أي إذا اعتبر مستقلا غير مرتبط

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 108
بعلته أعني الوجود الحق كان معدوما لأن ظهوره إنما نشأ من العلة ولولاها لم يك شيئا مذكورا ، وقول العلامة البيضاوي : لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه اللّه تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات ، وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف ، فمنهم من يجعل قوله : لو استقريت إلخ تتمة لتفسيره الأول ، ومنهم من يجعله وجها آخر ، وهو على الأول أخذ بالحاصل ، وعلى الثاني قيل : يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة ، وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافا حقيقيا بأن يكون الوجود زائدا عليها قائما بها ، وهو مذهب جمهور الحكماء والمتكلمين ، وإما موجودة مجازا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود قائما بها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء ، وإليه ذهب المتألهون من الحكماء والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتألهين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حضرة الوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى ، والطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق ، فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضه لشيء ولا قيامه به ومعنى كون الممكن موجودا أنه مظهر له ومجلى ينجلي فيه نوره - فاللّه نور السماوات والأرض - والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه ، ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لها صفات متكثرة وشؤونات متعددة وتجليات متجددة قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام : 91] والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين.
ووجه التطبيق على الأول أن يقال : المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوب بالغير إذ الممكن - وإن كان موجودا حقيقة عند الجمهور - لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات ، وجهة الاستفادة ليست هي الذات ولا شيئا آخر من الجهات والوجوه كالإمكان والمعلولية والجوهرية والعرضية والبساطة والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلا منها جهته الخسة ، ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحل عن الوجوب الذاتي المنافية له ، وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتي جهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوبا وإن كان بالغير ، ولذا يعقبه فيضان الوجود ، ولذا تسمعهم يقولون : الممكن ما لم يجب لو يوجد.
ووجه التطبيق على الثاني أن يقال : الوجه الذي يلي جهته تعالى هو تلك النسبة المخصوصة المصححة لإطلاق لفظ الموجود عليها ولو مجازا ، فالمعنى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازا إلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهرا له سبحانه ، ووجه التطبيق على الثالث أن يقال : المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شؤونات واعتبارات له تعالى.
فالمعنى كُلُّ مَنْ عَلَيْها معدوم من جميع الوجوه والاعتبارات إلا من الوجه الذي يلي جهته سبحانه والاعتبار الذي يحصل مقيسا إليه عز وجل ، وهو كونه شأنا من شؤونه واعتبارا من اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينا باللّه عز وجل.
ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي يجعله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنه تعالى شأنه فهذا راجع إلى ما له سبحانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز وجل أو الذي يقال في شأنه : ما أجلك وما أكرمك أي هو سبحانه من يستحق أن يقال في شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ما له تعالى من الكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه ، أو من عنده الجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم ، وفسر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 109
بعض المحققين الْجَلالِ بالاستغناء المطلق وَالْإِكْرامِ بالفضل التام وهذا ظاهر ، ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها ، ثم ألحق بالحقيقة ، ولذا قال الجوهري : عظمة الشيء الاستغناء عن غيره وكل محتاج حقير ، وقال الكرماني : إنه تعالى له صفات عدمية مثل لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام : 163] وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدي بجلّ عن كذا جل عن كذا وصفات وجوديه - كالحياة والعلم - وتسمى صفات الإكرام ، وفيه تأمل.
والظاهر أن ذُو صفة للوجه ، ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء مَنْ عَلَيْها لا يخل بشأنه عز وجل لأنه الغني المطلق ، والاشارة إلى أنه تعالى بعد فنائهم يفيض على الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة ، ووصف الوجه بما وصف يبعد كونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفا وكأن من يقول بذلك يقول : ذُو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له ، ثم قطعت عن التبعية ، ويؤيده قراءة أبيّ وعبد اللّه - ذي الجلال - بالياء على أنه صفة تابعة للرب ، وذكر الراغب أن هذا الوصف قد خص به عز وجل ولم يستعمل في غيره ، فهو من أجلّ أوصافه سبحانه ، ويشهد له ما
رواه الترمذي عن أنس والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعا «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام»
أي الزموه واثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم ، وروى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس «أنه كان مع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم ، فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأصحابه : أتدرون بما دعا؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم قال :
والذي نفسي بيده لقد دعا اللّه باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى».
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء ، والحياة الأبدية ، والإثابة بالنعمة السرمدية ، وقال الطيبي : المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجلّ النعم ، ولذلك خص الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب ، والتحذير من مثل ذلك نعمة ، فلذا رتب عليها بالفاء قوله تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ إلخ ، وليس بذاك.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 29 إلى 58]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53)
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 110
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثا وبقاء وفي سائر أحوالهم سؤالا مستمرا بلسان المقال أو بلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلا فهم في كل آن سائلون.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي صالح يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ الرحمة ، ومن في - الأرض - المغفرة والرزق ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج يَسْئَلُهُ الملائكة عليهم السلام الرزق لأهل الأرض والمغفرة.
وأهل الأرض يسألونهما جميعا وما تقدم أولى. ولا دليل على التخصيص.
والظاهر أن الجملة استئناف. وقيل : هي حال من - الوجه - والعامل فيها يَبْقى أي هو سبحانه دائم في هذه الحال ، ولا يخفى حاله على ذي تمييز كُلَّ يَوْمٍ كل وقت من الأوقات ولحظة من اللحظات.
هُوَ فِي شَأْنٍ من الشؤون التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصا ، ويفني آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة ، وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجه ابن حيان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين» زاد البزار «ويجيب داعيا»
، وقيل : إن للّه تعالى في كل يوم ثلاث عساكر : عسكر من الأصلاب إلى الأرحام ، وعسكر من الأرحام إلى الدنيا ، وعسكر من الدنيا إلى القبور. والظاهر أن المراد بيان كثرة شؤونه تعالى في الدنيا فكل يوم على معنى كل وقت من أوقات الدنيا.
وقال ابن عيينة : الدهر عند اللّه تعالى يومان : أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والاحياء. وثانيهما اليوم الذي هو يوم القيامة فشأنه سبحانه فيه الجزاء والحساب ، وعن مقاتل إن الآية نزلت في اليهود قالوا : إن اللّه تعالى لا يقضي يوم السبت شيئا فرد عز وجل عليهم بذلك ، وسأل عبد اللّه بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال : شؤون يبديها لا شؤون يبتديها ، وانتصب كُلَّ يَوْمٍ على الظرف ، والعامل فيه هو العامل في قوله تعالى فِي شَأْنٍ ، وهُوَ ثابت المحذوف : فكأنه قيل هو ثابت في شأن كل يوم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما بيديه من مكمن العدم حينا فحينا سَنَفْرُغُ لَكُمْ الفراغ في اللغة يقتضي سابقة شغل.
والفراغ للشيء يقتضي لا حقيقته أيضا ، واللّه سبحانه لا يشغله شأن عن شأن فجعل انتهاء الشؤون المشار إليها بقوله تعالى : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يوم القيامة إلى واحد هو جزاء المكلفين فراغا لهم على سبيل التمثيل لأن من ترك أشغاله إلى شغل واحد يقال : فرغ له وإليه فشبه حال هؤلاء - وأخذه تعالى في جزائهم فحسب - بحال من فرغ له ، وجازت الاستعارة التصريحية التبعية في سَنَفْرُغُ بأن يكون المراد سنأخذ في جزائكم فقط الاشتراك الأخذ في الجزاء فقط ، والفراغ عن جميع المهام إلى واحد في أن المعنى به ذلك الواحد ، وقيل : المراد التوفر في الانتقام والنكاية ، وذلك أن الفراغ للشيء يستعمل في التهديد كثيرا كأنه فرغ عن كل شيء لأجله فلم يبق له شغل غيره فيدل

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 111
على التوفر المذكور ، وهو كناية فيمن يصح عليه ، ومجاز في غيره كالذي نحن فيه ، ولعل مراد ابن عباس والضحاك بقولهما - كما أخرج ابن جرير عنهما - هذا وعيد من اللّه تعالى لعباده ما ذكر ، والخطاب عليه قيل : للمجرمين ، وتعقب بأن النداء الآتي يأباه ، نعم المقصود بالتهديد هم ، وقيل : لا مانع من تهديد الجميع ، ثم إن هذا التهديد إنما هو بما يكون يوم القيامة ، وقول ابن عطية : يحتمل أن يكون ذلك توعدا بعذاب الدنيا مما لا يكاد يلتفت إليه ، وقيل :
إن فرغ يكون بمعنى قصد ، واستدل عليه بما أنشده ابن الأنباري لجرير :
ألان وقد فرغت إلى نمير فهذا حين كنت لهم عذابا
أي قصدت ، وأنشد النحاس :
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل وفي الحديث «لأتفرغن لك يا خبيث»
قاله صلى اللّه تعالى عليه وسلم مخاطبا به أزب العقبة يوم بيعتها أي لأقصدن إبطال أمرك ، ونقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء ، والظاهر أنهم حملوا ما في الآية على ذلك ، فالمراد حينئذ تعلق الإرادة تعلقا تنجيزيا بجزائهم ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي - سيفرغ - بياء الغيبة ، وقرأ قتادة والأعرج «سنفرغ» بنون العظمة وفتح الراء مضارع فرغ بكسرها - وهو لغة تميم - كما أن سَنَفْرُغُ في قراءة الجمهور مضارع فرغ بفتحها لغة الحجاز ، وقرأ أبو السمال وعيسى «سنفرغ» بكسر النون وفتح الراء وهي - على ما قال أبو حاتم - لغة سفلى مضر ، وقرأ الأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما وابن أبي عبلة والزعفراني «سيفرع» بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول وقرأ عيسى أيضا «سنفرع» بفتح النون وكسر الراء ، والأعرج أيضا - سيفرغ - بفتح الياء والراء وهي لغة ، وقرىء سأفرغ بهمزة المتكلم وحده ، وقرأ أبيّ «سنفرغ» إليكم عداه بإلى فقيل : للحمل على القصد ، أو لتضمينه معناه أي سَنَفْرُغُ قاصدين إليكم أَيُّهَ الثَّقَلانِ هما الإنس والجن من ثقل الدابة وهو ما يحمل عليها جعلت الأرض كالحمولة والإنس والجن ثقلاها ، وما سواهما على هذا كالعلاوة ، وقال غير واحد : سميا بذلك لثقلهما على الأرض ، أو لرزانة رأيهما وقدرهما وعظم شأنهما. ويقال لكل عظيم القدر مما يتنافس فيه : ثقل ، ومنه
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي»
وقيل : سميا بذلك لأنهما مثقلان بالتكليف ، وعن الحسن لثقلهما بالذنوب فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه وكأنه لما ذكر سبحانه أنه مجاز للعباد لا محالة عقب عز وجل ذلك ببيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه إذا أراده فقال سبحانه : يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إن قدرتم ، وأصل الاستطاعة طلب طواعية الفعل وتأتيه.
أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من اللّه تعالى فارّين من قضائه سبحانه فَانْفُذُوا فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابه عز وجل ، والأمر للتعجيز لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي بقوة وقهر وأنتم عن ذلك بمعزل وألف ألف منزل ، روي أن الملائكة عليهم السلام ينزلون يوم القيامة فيحيطون بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به ، وقيل : هذا أمر يكون في الدنيا ، قال الضحاك : بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ونزلت الملائكة فتهرب الجن والإنس فتحدق بهم الملائكة وذلك قبيل قيام الساعة ، وقيل : المراد إن استطعتم الفرار من الموت ففروا ، وقيل : المعنى إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السماوات والأرض فنفذوا لتعلموا لكن لا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 112
تَنْفُذُونَ
ولا تعلمون إلا ببينة وحجة نصبها اللّه تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم ، وروي ما يقاربه عن ابن عباس والأنسب بالمقام لا يخفى.
وقرأ زيد بن علي إن استطعتما رعاية للنوعين وإن كان تحت كل أفراد كثيرة والجمع لرعاية تلك الكثرة وقد جاء كل في الفصيح نحو قوله تعالى : وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات : 9] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة ، وقيل : على الوجه الأخير فيما تقدم أي مما نصب سبحانه من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السماوات العلا يُرْسَلُ عَلَيْكُما استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما شُواظٌ هو اللهب الخالص كما روي عن ابن عباس ، وأنشد عليه أبو حيان قول حسان :
هجوتك فاختضعت لنا بذل بقافية تأجج كالشواظ
وقيل : اللهب المختلط بالدخان ، وقال مجاهد : اللهب الأحمر المنقطع ، وقيل : اللهب الأخضر ، وقال الضحاك : الدخان الذي يخرج من اللهب ، وقيل : هو النار والدخان جميعا ، وقرأ عيسى وابن كثير وشبل «شواظ» بكسر الشين مِنْ نارٍ متعلق - بيرسل - أو بمضمر هو صفة - لشواظ - و«من» ابتدائية أي كائن من نار والتنوين للتفخيم وَنُحاسٌ هو الدخان الذي لا لهب فيه كما قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق وأنشد له قول الأعشى ، أو النابغة الجعدي :
تضيء كضوء السراج السلي ط لم يجعل اللّه فيه نحاسا
وروي عنه أيضا ، وعن مجاهد أنه الصفر المعروف أي يصب على رؤوسكما صفر مذاب ، والراغب فسره باللهب بلا دخان ثم قال : وذلك لشبهه في اللون بالنحاس ، وقرأ ابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو «ونحاس» بالجر على أنه عطف على نار ، وقيل : على شُواظٌ وجر للجوار فلا تغفل.
وقرأ الكلبي وطلحة ومجاهد بالجر أيضا لكنهم كسروا النون وهو لغة فيه ، وقرأ ابن جبير - ونحس - كما تقول يوم نحس ، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضا «ونحس» مضارعا ، وماضيه حسه أي قتله أي ونقتل بالعذاب ، وعن ابن أبي إسحاق أيضا - ونحس - بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير وحنظلة بن عثمان - ونحس - بفتح النون وكسر السين ، والحسن وإسماعيل - ونحس - بضمتين والكسر ، وهو جمع - نحاس - كلحاف ولحف ، وقرأ زيد بن علي - نرسل - بالنون - شواظا - بالنصب - ونحاسا - كذلك عطفا على شواظا فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تمتنعان وهذا عند الضحاك في الدنيا أيضا.
أخرج ابن أبي شيبة عنه أنه قال في الآية : تخرج نار من قبل المغرب تحشر الناس حتى إنها لتحشر القردة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل حيث قالوا ، وقال في البحر : المراد تعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار من عداد الآلاء فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انصدعت يوم القيامة ، وحديث امتناع الخرق حديث خرافة ، ومثله ما يقوله أهل الهيئة اليوم في السماء على أن الانشقاق فيها على زعمهم أيضا متصور فَكانَتْ وَرْدَةً أي كالوردة في الحمرة ، والمراد بها النور المعروف قاله الزجاج وقتادة ، وقال ابن عباس وأبو صالح : كانت مثل لون الفرس الورد ، والظاهر أن مرادهما كانت حمراء.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 113
وقال الفراء : أريد لون الفرس الورد يكون في الربيع إلى الصفرة ، وفي الشتاء إلى الحمرة ، وفي اشتداد البرد إلى الغبرة فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل ، وروي هذا عن الكلبي أيضا ، وقال أبو الجوزاء : وَرْدَةً صفراء والمعول عليه إرادة الحمرة ، ونصب وَرْدَةً على أنه خبر - كان - وفي الكلام تشبيه بليغ ، وقرأ عبيد بن عمير «وردة» بالرفع على أن - كان - تامة أي فحصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد لأنه بمعنى كانت منها ، أو فيها سماء وردة مع أن المقصود أنها نفسها كذلك فهو كقول قتادة بن مسلمة :
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة نحو المغانم أو يموت كريم
حيث عنى بالكريم نفسه ، وقوله تعالى : كَالدِّهانِ خبر ثان لكانت - أو نعت - لوردة - أو حال من اسم - كانت - على رأي من أجازه أي كدهن الزيت كما قال تعالى : كَالْمُهْلِ [الكهف : 29 ، الدخان : 45 ، المعارج :
8] وهو دردي الزيت ، وهو ما جمع دهن كقرط وقراط ، أو اسم لما يدهن به كالحزام والأدام ، وعليه قوله في وصف عينين كثيرتي التذارف :
كأنهما مزادتا متعجل فريان لما تدهنا بدهان
وهو الدهن أيضا إلا أنه أخص لأنه الدهن باعتبار إشرابه الشيء ، ووجه الشبه الذوبان وهو في السماء على وقيل من حرارة جهنم وكذا الحمرة ، وقيل : اللمعان ، وقال الحسن : أي كالدهان المختلفة لأنها تتلون ألوانا وقال ابن عباس :
الدهان الأديم الأحمر ومنه قول الأعشى :
وأجرد من كرام الخيل طرف كأن على شواكله دهانا
وهو مفرد ، أو جمع ، واستدل للثاني بقوله :
تبعن الدهان الحمر كل عشية بموسم بدر أو بسوق عكاظ
وإذا شرطية جوابها مقدر أي كان ما كان مما لا تطيقه قوة البيان ، أو وجدت أمرا هائلا ، أو رأيت ما يذهل الناظرين وهو الناصب لإذا ، ولهذا كان مفرعا ومسببا عما قبله لأن في إرسال الشواظ ما هو سبب لحدوث أمر هائل ، أو رؤيته في ذلك الوقت فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر فهو لطف أيّ لطف ونعمة أيّ نعمة فَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تنشق السماء حسبما ذكر.
لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ لأنهم يعرفون بسيماهم وهذا في موقف ، وما دل على السؤال من نحو قوله تعالى : فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : 92] في موقف آخر قاله عكرمة وقتادة ، وموقف السؤال على ما قيل : عند الحساب ، وترك السؤال عند الخروج من القبور ، وقال ابن عباس : حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير ، وحيث نفي فهو استخبار فحض عن الذنب ، وقيل : المنفي هو السؤال عن الذنب نفسه والمثبت هو السؤال عن الباعث عليه ، وأنت تعلم أن في الآيات ما يدل على السؤال عن نفس الذنب.
وحكى الطبرسي عن الرضا رضي اللّه تعالى عنه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب عذب في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه ، ولعمري إن الرضا لم يقل ذلك ، وحمل الآية عليه مما لا يلتفت إليه بعين الرضا كما لا يخفى ، وضمير ذنبه للإنس وهو متقدم رتبة لأنه نائب عن الفاعل ، وإفراده باعتبار اللفظ ، وقيل : لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل : لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني ، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد - ولا جأن - بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان على حدّه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يقال فيه نحو ما سمعت في سباقه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 114
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ استئناف يجري مجرى التعليل لانتفاء السؤال ، والْمُجْرِمُونَ قيل : من وضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى أن المراد بعض من الإنس وبعض من الجن وهم المجرمون فيكون ذلك كقوله تعالى : لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص : 78] ، و- سيماهم - على ما روي عن الحسن سواد الوجوه وزرقة العيون ، وقيل : ما يعلوهم من الكآبة والحزن ، وجوز أن تكون أمورا أخر - كالعمى. والبكم. والصمم ..
وقرأ حماد بن سليمان بسيمائهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي جمع ناصية وهي مقدم الرأس وَالْأَقْدامِ جمع قدم وهي قدم الرجل المعروفة والباء للآلة مثلها في أخذت بخطام الدابة ، والجار والمجرور نائب الفاعل وقال أبو حيان : إن الباء للتعدية والفعل مضمن معنى ما يعدى بها أي فيسحب بالنواصي إلخ ، وفيه بحث وظاهر كلام غير واحد أن - أل - عوض عن المضاف إليه الضمير أي بنواصيهم وأقدامهم ، ونص عليه أبو حيان فقال : - أل - فيهما عوض عن الضمير على مذهب الكوفيين ، والضمير محذوف على مذهب البصريين أي بالنواصي والأقدام منهم ، وأنت تعلم أن الخلاف بين أهل البلدين فيما إذا احتيج إلى الضمير للربط ولا احتياج إليه هنا ، نعم المعنى على الضمير وكيفية هذا الأخذ على ما روي عن الضحاك أن يجمع الملك بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره ثم يكسر ظهره ويلقيه في النار ، وقيل : تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية وبعضهم سحبا بالقدم ، وقيل : تسحبهم الملائكة عليهم السلام تارة بأخذ النواصي وتارة بأخذ الأقدام ، فالواو بمعنى أو التي للتقسيم وهو خلاف الظاهر ، وإبهام الفاعل لأنه كالمتعين ، وقيل : للرمز إلى عظمته
فقد أخرج ابن مردويه والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول : «والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والأقدام»
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يقال فيه نحو ما تقدم ، وقوله تعالى : هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ مقول قول مقدر معطوف على قوله تعالى : (يؤخذ) إلخ أي ويقال هذه إلخ أو مستأنف في جواب ماذا يقال لهم لأنه مظنة للتوبيخ والتقريع ، أو حال من أصحاب النواصي بناء على أن التقدير نواصيهم أو النواصي منهم ، وما في البين اعتراض على الأول والأخير وكان أصل الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ التي كذبتم بها فعدل عنه لما ذكر للدلالة على استمرار ذلك وبيان لوجه توبيخهم وعلته.
يَطُوفُونَ بَيْنَها أي يترددون بين نارها وَبَيْنَ حَمِيمٍ ماء حار آنٍ متناه إناه وطبخه بالغ في الحرارة أقصاها ، قال قتادة : الحميم يغلي منذ خلق اللّه تعالى جهنم والمجرم ويعاقب بين تصلية النار وشرب الحميم ، وقيل :
يحرقون في النار ويصب على رؤوسهم الحميم ، وقيل : إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم ، وقيل : يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث اللّه تعالى لهم خلقا جديدا ، وعن الحسن أنه قال : حَمِيمٍ آنٍ النحاس انتهى حره ، وقيل : آنٍ حاضر.
وقرأ السلمي يطافون ، والأعمش وطلحة وابن مقسم يَطُوفُونَ بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة ، وقرىء «يطّوفون» أي يتطوفون فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هو أيضا كما تقدم وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ إلخ شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة ، ومَقامَ مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي وَلِمَنْ خافَ قيام ربه وكونه مهيمنا عليه مراقبا له حافظا لأحواله ، فالقيام هنا مثله في قوله تعالى :
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد : 33] وهذا مروي عن مجاهد وقتادة ، أو هو اسم مكان ، والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب ، والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 115
وجل وحده فيه بحسب نفس الأمر ، والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه : يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين : 6] منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه ، وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسة وليس بشيء ، وقيل : المعنى وَلِمَنْ خافَ مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه ، وإضافته للرب لأنه عنده تعالى فهي مثلها في قولهم : شاة رقود الحلب ، وهي بمعنى - عند - عند الكوفيين أي رقود عند الحلب ، وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح التسهيل وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضا ، ثم إن المراد بالعندية هنا مما لا يخفى ، وجوز أن يكون مقحما على سبيل الكناية ، فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ ، ومثله قول الشماخ :
ذعرت به القطا ونقيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين «1»
وهو الأظهر على ما ذكره صاحب الكشف ، والظاهر أن المراد ولكل فرد فرد من الخائفين : جَنَّتانِ فقيل :
إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له ، والأخرى منزل أزواجه وخدمه ، وإليه ذهب الجبائي ، وقيل : بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه ، وقيل : منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته ، وأي هذا ممن يطوف بين النار ، وبين حميم آن؟؟.
وجوز أن يقال : جنة لعقيدته وجنة لعمله ، أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي ، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه ، أو إحداهما روحانية والأخرى جسمانية ، ولا يخفى أن الصفات الآتية ظاهرة في الجسمانية.
وقال مقاتل : جنة عدن وجنة نعيم ، وقيل : المراد لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني ، فإن الخطاب للفريقين ، وهذا عندي خلاف الظاهر ، وفي الآثار ما يبعده ، فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه كان شاب على عهد عمر رضي اللّه تعالى عنه ملازم للمسجد والعبادة فعشقته جارية فأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلك فشهق شهقة فغشي عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال : يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فانطلق فأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخرى فمات فوقف عليه عمر رضي اللّه تعالى عنه فقال : لك جنتان لك جنتان.
والخوف في الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب : والخوف من اللّه تعالى لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات ، ولذلك قيل : لا يعد خائفا من لم يكن للذنوب تاركا ، ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة اللّه تعالى وترك معصيته.
وقول مجاهد : هو الرجل يريد الذنب فيذكر اللّه تعالى فيدع الذنب ، والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم ، وقد يقال : إن ارتكاب الذنب قد يجامع الخوف من اللّه تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفا من عقابه تعالى عليه ، وأيد ذلك بما
أخرجه أحمد والنسائي والطبراني والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي شيبة وجماعة عن أبي الدرداء «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قرأ هذه الآية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت : وإن زنى وإن سرق
___________
(1) ضمير «ه» و«عنه» راجع إلى الماء في البيت قبله وماء قد وردت لوصل أروى عليه الطير كالورق اللجين وهو من قصيدة للشماخ مدح بها عرابة بن أوس الخزرجي والشاهد في قوله : «مقام الذئب».

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 116
يا رسول اللّه؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : الثانية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت : وإن زنى وإن سرق؟
فقال الثالثة : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت وإن زنى وإن سرق؟ قال : نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء»
وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال : سمعت محمد بن سعد يقرأ - ولمن خاف مقام ربه جنتان وإن زنى وإن سرق - فقلت : ليس فيه وإن زنى وإن سرق فقال : سمعت أبا الدرداء رضي اللّه تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلك حتى أموت ، وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل. وجاء في شأن هاتين الجنتين من
حديث عياض بن غنم مرفوعا «إن عرض كل واحدة منهما مسيرة مائة عام»
والآية على ما روي عن ابن الزبير وابن شوذب نزلت في أبي بكر.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أن أبا بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس وانتثار الكواكب فقال : وددت أني كنت خضرا من هذه الخضر تأتي عليّ بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيها على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ مقدر أي هما ذواتا ، وأيا ما كان فهو تثنية - ذات - بمعنى صاحبة فإنه إذا ثنى فيه لغتان ذاتا على لفظه وهو الأقيس كما يثنى مذكره ذوا ، والأخرى ذَواتا برده إلى أصله فإن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها ، وقد قالوا :
أصل ذات ذوات لكن حذفت الواو تخفيفا وفرقا بين الواحد والجمع ودلت التثنية ورجوع الواو فيها على أصل الواحد وليس هو تثنية الجمع كما يتوهم وتفصيله في باب التثنية من شرح التسهيل ، والأفنان إما جمع فن بمعنى النوع ولذا استعمل في العرف بمعنى العلم أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير والضحاك وعليه قول الشاعر :
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا لهوت به والعيش أخضر ناضر
وإما جمع فنن وهو ما دق ولان من الأغصان كما قال ابن الجوزي ، وقد يفسر بالغصن ، وحمل على التسامح وتخصيصها بالذكر مع أنها ذواتا قصب وأوراق وثمار أيضا لأنها هي التي تورق وتثمر. فمنها تمتد الظلال ومنها تجنى الثمار ففي الوصف تذكير لهما فكأنه قيل : ذَواتا ثمار وظلال لكن على سبيل الكناية هو أخصر وأبلغ ، وتفسيره بالأغصان على أنه جمع فنن مروي عن ابن عباس أيضا ، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد قال أبو حيان : وهو أولى لأن أفعالا في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين كفن ، ويجمع هو على فنون.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ صفة أخرى لجنتان أو خبر ثان للمبتدأ المقدر أي في كل منهما عين تجري بالماء الزلال تسمى إحدى العينين بالتسنيم ، والأخرى بالسلسبيل ، وروي هذا عن الحسن ، وقال عطية العوفي : عَيْنانِ إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذة للشاربين ، وقيل : عَيْنانِ من الماء تَجْرِيانِ حيث شاء صاحبهما من الأعالي والأسافل من جبل من مسك ، وعن ابن عباس عَيْنانِ مثل الدنيا أضعافا مضاعفة تَجْرِيانِ بالزيادة والكرامة على أهل الجنة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان معروف وغريب لم يعرفوه في الدنيا ، أو رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قال ابن عباس في هذه الآية : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل ، ونقل هذا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 117
في البحر عن ابن عباس أيضا إلا أنه حلو ، والجملة كالجملة التي قبلها.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ حال من قوله تعالى : - ولمن خاف - وجمع رعاية للمعنى بعد الإفراد رعاية اللفظ ، وقيل : العامل محذوف أي يتنعمون متكئين ، وقيل : مفعول به بتقدير أعني ، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب ، والمعنى متكئين في منازلهم عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين قال ابن مسعود - كما رواه عنه جمع وصححه الحاكم - أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر ، وقيل : ظهائرها من سندس ، عن ابن جبير من نور جامد ، وفي حديث من نور يتلألأ
وهو إن صح وقف عنده.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه قيل له : بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فماذا الظواهر؟ قال : ذلك مما قال اللّه تعالى : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة : 17] وقال الحسن : البطائن هي الظهائر وروي عن قتادة ، وقال الفراء : قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأن كلا منهما يكون وجها والعرب تقول : هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء ، والحق أن البطائن هنا مقابل الظهائر على الوجه المعروف ، وقرأ أبو حيوة «فرش» بسكون الراء ، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال : قرأ عبد اللّه على «سرر. وفرش بطائنها من إستبرق» وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ أي ما يجنى ويؤخذ من أشجارهما من الثمار ، فجنى اسم أو صفة مشبهة بمعنى المجني دانٍ قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع ، قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي اللّه تعالى إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا ، وعن مجاهد ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك ، وقرأ عيسى «وجني» بفتح الجيم وكسر النون كأنه أمال النون وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ كما أمال أبو عمرو حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة :
55] وقرىء «وجني» بكسر الجيم وهو لغة فيه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان ، وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لا سيما وقد تقدر اعتبار الجمعية في قوله تعالى : مُتَّكِئِينَ وقال الفراء : الضمير لجنتان ، والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعد ما سمعت ، وقيل : الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر ، وقيل : يعود على الفرش ، قال أبو حيان : وهذا قول حسن قريب المأخذ ، وتعقب بأن المناسب للفرش - على - وأجيب بأنه شبه تمكنهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثار للإشعار بأن أكثر حالهن الاستقرار عليها ، ويجوز أن يقال : الظرفية للإشارة إلى أن الفرش إذا جلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه ، وقيل :
الضمير للآلاء المعدودة من - الجنتين. والعينين. والفاكهة والفرش. والجني والمراد معهن قاصِراتُ الطَّرْفِ أي نساء يقصرن أبصارهم على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن ، قال ابن رشيق في قول امرئ القيس :
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الأنف منها لأثرا
أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغير زوجها ، ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتنبي :
وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 118
انتهى فلا تغفل ، والأكثرون على أول المعنيين اللذين ذكرناهما بل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي.
أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك «لا ينظرن إلا إلى أزواجهن»
ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه ، وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها :
وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد للّه الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي ، والطَّرْفِ في الأصل مصدر فلذلك وحد لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال ابن عباس : لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان ، وفيه إشارة إلى أن ضمير قبلهن للأزواج ، ويدل عليه قاصِراتُ الطَّرْفِ وفي البحر هو عائد على من عاد عليه الضمير في مُتَّكِئِينَ ، وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث ، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم ، وقيل : ثم عمم لكل جماع ، وهو المروي هنا عن عكرمة ، وإلى الأول ذهب الكثير ، وقيل : إن التعبير به للإشارة إلى أنهن يوجدن أبكارا كلما جومعن ، ونفي طمثهن عن الإنس ظاهر ، وأما عن الجن فقال مجاهد والحسن : قد تجامع الجن نساء البشر مع أزواجهم إذا لم يذكر الزوج اسم اللّه تعال فنفى هنا جميع المجامعين وقيل :
لا حاجة إلى ذلك إذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانه منهم ، ولا شك في إمكان جماع الجني إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم اللّه تعالى ، ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال : كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا : إن هاهنا رجلا من الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلك بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل : من زوجك؟ قالت : من الجن فيكثر الفساد في الإسلام ، ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعا حقيقيا مع أزواجهم إذا لم يذكروا اسم اللّه تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء ، وقوله تعالى : وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء : 64] غير نص في المراد كما لا يخفى ، وقال ضمرة بن حبيب : الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم ، فالمعنى لم يطمث الإنسيات أحد من الإنس ، ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن ، وقد أخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم ، وظاهره أن ما للجن لسن من الحور.
ونقل الطبرسي عنه أنهن من الحور وكذا الإنسيات ، ولا مانع من أن يخلق اللّه تعالى في الجنة حورا للإنس يشاكلنهم يقال لهن لذلك إنسيات ، وحورا للجن يشاكلنهم يقال لهن لذلك جنيات ، ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعا واحدا ويعطى الجني منهن لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة ، ويقال : ما يعطاه الإنسي منهن لم يطمثها إنسي قبله ، وما يعطاه الجني لم يطمثها جني قبله وبهذا فسر البلخي الآية ، وقال الشعبي والكلبي : تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن النشأة الآخرة خلق قبل والذي يعطاه الإنسي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا ويعطى غيرها من نسائها المؤمنات أيضا ، ويبعد أن يعطى الجني من نساء الدنيا الإنسانيات في الآخرة.
والذي يغلب على الظن أن الإنسي يعطي من الإنسيات والحور والجني يعطى من الجنيات والحور ولا يعطى إنسي جنية ، ولا جني إنسية وما يعطاه المؤمن إنسيا كان أو جنيا من الحور شيء يليق به وتشتهيه نفسه ، وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال ، واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجن ويجامعون فيها كالإنس فهم باقون فيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار ، وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى والأوزاعي. وعليه الأكثر - كما ذكره العيني في شرح البخاري - من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 119
على المعصية ، ويدخلون الجنة فإن ظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة ، وعن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات الاولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا كسائر الحيوانات ، الثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد على دخولها ، الثالثة التوقف قال الكردري : وهو في أكثر الروايات ، وفي فتاوى أبي إسحاق ابن الصفار أن الإمام يقول : لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم اللّه تعالى.
ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربض الجنة ، وقيل : هم أصحاب الأعراف ، وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة وعلى القول بدخولهم الجنة قيل :
نراهم ولا يرونا عكس ما كانوا عليه في الدنيا ، وإليه ذهب الحارث المحاسبي ، وفي اليواقيت الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهم في الدنيا ، وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل : إن تنعمهم بغير رؤيته عز وجل فإنهم لا يرونه ، وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها على ما حكاه أبو إسحاق إبراهيم بن الصفار في فتاويه عن أبيه ، والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله ، وقرأ طلحة وعيسى وأصحاب عبد اللّه «يطمثهن» بضم الميم هنا وفيما بعد ، وقرأ أناس بضمه في الاول وكسره في الثاني. وناس بالعكس وناس بالتخيير ، والجحدري بفتح الميم فيهما ، والجملة صفة - لقاصرات الطرف - لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى : كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ إما صفة لقاصرات الطرف ، أو حال منها كالتي قيل أي مشبهات بالياقوت والمرجان ، وقول النحاس : إن الكاف في موضع رفع على الابتداء ليس بشيء كما لا يخفى ، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ ، وعن الحسن نحوه ، وفي البحر عن قتادة في صفاء الياقوت. وحمرة المرجان فحمل المرجان على ما هو المعروف وقيل : مشبهات بالياقوت في حمرة الوجه وبالمرجان أي صغار الدر في بياض البشرة وصفائها وتخصيص الصغار على ما في الكشاف لأنه أنصع بياضا من الكبار ، وقيل ، يحسن هنا إرادة الكبار كما قيل في معناه لأنه أوفق بقوله تعالى : كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات : 49] فلا تغفل.
وأخرج أحمد وابن حيان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى : كَأَنَّهُنَّ إلخ قال : ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب وأنه يكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يوضح سوقها من وراء ذلك.
وأخرج عبد بن حميد والطبراني والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال : إن المرأة من الحور العين يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 59 إلى 72]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63)
مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى : هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ استئناف مقرر لمضمون ما قبله أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب ، وقيل : المراد ما جزاء التوحيد إلا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 120
الجنة وأيد بظواهر كثير من الآثار ،
أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبغوي في تفسيره والديلمي في مسند الفروس وابن النجار في تاريخه عن أنس قال : «قرأ رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فقال : وهل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم قال : يقول : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة»
وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه مرفوعا بلفظ «قال اللّه عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه»
إلخ ووراء ذلك أقوال تقرب من مائة قول ، واختير العموم ويدخل التوحيد دخولا أوليا ، والصوفية أوردوا الآية في باب الإحسان وفسروه بما
في الحديث «أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
قالوا : فهو اسم يجمع أبواب الحقائق ، وقرأ ابن أبي إسحاق إلا الحسان يعني بالحسان قاصرات الطرف اللاتي تقدم ذكرهن فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى : وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان ، قال ابن زيد والأكثرون الأوليان للسابقين وهاتان لأصحاب اليمين ، وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم في قوله تعالى : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن : 46] وقوله سبحانه : وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال : «جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين»
وقال الحسن : الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين ، وروي موقوفا وصححه الحاكم عن أبي موسى ، وزعم بعضهم أن الأوليين للخائفين والأخريين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم أجد له مستندا من الآثار ، وحكي في البحر عن ابن عباس أنه قال : وَمِنْ دُونِهِما في القرب للمنعمين والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين ، وادعى أن الصفات الآتية أمدح من الصفات السابقة ووافقه من وافقه ، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى : مُدْهامَّتانِ صفة لجنتان وسط بينها الاعتراض لما تقدم من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار والتوبيخ أو خبر مبتدأ محذوف أي هما مدهامتان من الدهمة وهي في الأصل على ما قال الراغب سواد الليل ويعبر بها عن سواد الفرس وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عنها بالخضرة إذا لم تكن كاملة وذلك لتقاربهما في اللون ، ويقال : ادهام ادهيماما فهو مدهام على وزن مفعال إذا اسود أو اشتدت خضرته ، وفسرها هنا ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء ابن أبي رباح وجماعة بخضراوان ، بل
أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب رضي اللّه تعالى عنه قال : «سألت النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : مُدْهامَّتانِ فقال عليه الصلاة والسلام :
خضراوان»
والمراد أنهما شديدتا الخضرة والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد وذلك من الري من الماء كما روي عن ابن عباس وابن الزبير وأبي صالح قيل : إن في وصف هاتين الجنتين بما ذكر إشعارا بأن الغالب عليهما النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض كما أن في وصف السابقتين بذواتا أفنان إشعارا بأن الغالب عليهما الأشجار فإن الأشجار توصف بأنها ذوات أفنان والنبات يوصف بالخضرة الشديدة فالاقتصار في كل منهما على أحد الأمرين مشعر بما ذكر وبني على هذا كون هاتين الجنتين دون الأوليين في المنزلة والقدر كيف لا والجنة الكثيرة الظلال والثمار أعلى وأغلى من الجنة القليلة الظلال والثمار ، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين الجنتين مع اختصاص الوصف بالخضرة بالنبات وكذا كونه أغلب من وصف الأشجار به فكثيرا ما تسمع الناس يقولون إذا مدحوا بستانا أشجاره خضر يانعة وهو أظهر في مدحه بأنه ذو ثمار من ذي أفنان ، وهو يشعر أيضا بكثر مائه والاعتناء بشأنه وبعده عن التصوح والهلاك.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فوارتان بالماء على ما هو الظاهر ، وفي البحر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 121
النضخ فوران الماء ، وفي الكشاف وغيره النضج أكثر من النضخ بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضل الجنتين الأوليين دون الجري ، فالمدح به دون المدح به ، وعليه قول البراء بن عازب فيما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاختين ، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين يقول في الفوران جري مع زيادة حسن فإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطرات كحبات اللؤلؤ المتناثرة كما يشاهد في الفوارات المعروفة ، أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس ضَّاخَتانِ
بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا ، أو بما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهدضَّاخَتانِ
بالخير ، ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطف الأخيرين على الفاكهة عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة بيانا لفضلهما ، وقيل : إنهما في الدنيا لما لم يخلصا للتفكه فإن النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء عدا جنسا آخر فعطفا على الفاكهة وإن كان كل ما في الجنة للتفكه لأنه تلذذ خالص ، ومنه قال الإمام أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث ، وخالفه صاحباه ثم إن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه.
أخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وهناد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والحاكم وصححه وآخرون عن ابن عباس نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم وحكمه حكم المرفوع. وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا أصوله فضة وجذوعه فضة وسعفه حلل وحمله الرطب إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا قال عليه الصلاة والسلام : «نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب»
وهذا المدح بحسب الظاهر دون المدح في قوله تعالى في الجنتين السابقتين : فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن : 52] ومن ذهب إلى تفضيلهما يقول إن التنوين في فاكهة للتعميم بقرينة المقام نظير ما قيل في قوله تعالى : عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير : 14] فيكون في قوة فيها كل فاكِهَةٌ ويزيد ما في النظم الجليل على ما ذكر بتضمنه الإشارة إلى مدح بعض أنواعها ، وقال الإمام الرازي : إن (ما) هنا كقوله تعالى : فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وذلك لأن الفاكهة أنواع أرضية وشجرية كالبطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات والنخل وغيرها من الشجريات فقال تعالى : مُدْهامَّتانِ لأنواع الخضر التي فيها الفواكه الأرضية ، وفيها أيضا الفواكه الشجرية وذكر سبحانه منها نوعين : الرطب والرمان لأنهما متقابلان أحدهما حلو والآخر فيه حامض ، وأحدهما حار والآخر بارد ، وأحدهما فاكهة وغذاء والآخر فاكهة ، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة ، وأحدهما أشجاره تكون في غاية الطول والآخر ليس كذلك ، وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين ، والإشارة إلى الطرفين تتناول الاشارة إلى ما بينهما كما في قوله تعالى : رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن : 17] انتهى ، ولعل الأول أولى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى : فِيهِنَّ خَيْراتٌ صفة أخرى لجنتان ، أو خبر بعد خبر للمبتدأ المحذوف كالجملة التي قبلها ، ويجوز أن تكون مستأنفة والكلام في ضمير الجمع هنا كالكلام فيه في قوله تعالى : فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن :
56] وخَيْراتٌ قال أبو حيان : جمع خيرة وصف بني على فعلة من الخير كما بنوا من الشر فقالوا شرة ، وقال الزمخشري : أصله «خيّرات» بالتشديد فخفف
كقوله عليه الصلاة والسلام : «هينون لينون»
وليس جمع خير بمعنى أخير

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 122
فإنه لا يقال فيه خيرون ولا خيرات ، ولعله لأن أصل اسم التفضيل أن لا يجمع خصوصا إذا نكر ، وقرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم «خيّرات» بتشديد الياء وهو يؤيد أن أصله كذلك ، وروي عن أبي عمرو «خيرات» بفتح الياء كأنه جمع خائرة جمع على فعلة حِسانٌ قيل : أي حسان الخلق والخلق.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية : خَيْراتٌ الأخلاق حِسانٌ الوجوه ، وأخرج ذلك ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة مرفوعا.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى : حُورٌ بدل من خَيْراتٌ وهو جمع حوراء وكذا جمع أحور ، والمراد بيض كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروته أم سلمة أيضا عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم :
وقال ابن الأثير : الحوراء هي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها ، وفي القاموس الحور بالتحريك أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها وتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيض ما حواليها أو شدة بياضها وسوادها في بياض الجسد ، أو اسوداد العين كلها مثل الظباء ولا يكون في بني آدم بل يستعار لها. وإذا صح حديث أم سلمة لم يعدل في القرآن عن تفسير رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم.
مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ أي مخدرات يقال : امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة ملازمة لبيتها لا تطوف في الطرق ، قال كثير عزة :
وأنت التي حبّبت كل قصيرة إليّ ولم تشعر بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر
والنساء يمدحن بملازمتهن البيوت لدلالتها على صيانتهن كما قال قيس بن الأسلت :
وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتغفل عن أبياتهن فتعذر
وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس والحسن والضحاك وهو رواية عن مجاهد ، وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن جرير عنه أنه قال : مَقْصُوراتٌ قلوبهن وأبصارهن ونفوسهن على أزواجهن ، والأول أظهر ، وفِي الْخِيامِ عليه متعلق بمقصورات ، وعلى الثاني يحتمل ذلك ، ويحتمل كونه صفة ثانية لحور فلا تغفل ، والخيام جمع خيمة - وهي على ما في البحر - بيت من خشب وثمام وسائر الحشيش ، وإذا كان من شعر فهو بيت ولا يقال له خيمة وقال غير واحد : هي كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر وتجمع أيضا على خيمات وخيم بفتح فسكون وخيم بالفتح وكعنب - والخيام هنا بيوت من لؤلؤ - أخرج ابن أبي شيبة وجماعة عن ابن عباس أنه قال : الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب ، وأخرج جماعة عن أبي الدرداء أنه قال : الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا من در ، وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال : الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن
، إلى ذلك من الاخبار ، وقوله سبحانه : فِيهِنَّ إلخ دون ما تقدم في الجنتين السابقتين أعني قوله عز وجل : فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ إلى قوله تعالى : كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن : 58] في المدح عند من فضلهما على الأخيرتين قيل لما في مَقْصُوراتٌ على التفسير الثاني من الإشعار بالقسر في القصر ، وأما على تفسيره الأول فكونه دونه ظاهر وإن لم يلاحظ كونها مخدرة فيما تقدم ، أو يجعل قوله تعالى : كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ كناية عنه لأنهما مما يصان كما قيل :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 123
جوهرة أحقاقها الخدور ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول : هذا أمدح لعموم خَيْراتٌ حِسانٌ الصفات الحسنة خلقا وخلقا ويدخل في ذلك قصر الطرف وغيره مما يدل عليه التشبيه بالياقوت والمرجان ، والمراد بالقاصر على التفسير الثاني لمقصورات القاصر الطبيعي بقرينة المقام فيكون فيه إشارة إلى تعذر ترك القصر منهن ، وقاصِراتُ الطَّرْفِ ربما يوهم أن القصر باختيارهن فمتى شئن قصرن ومتى لم يشأن لم يقصرن.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 73 إلى 78]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77)
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى : لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ الكلام فيه كالكلام في نظيره فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله سبحانه : مُتَّكِئِينَ قيل : بتقدير يتنعمون متكئين أو أعني متكئين ، والضمير لأهل الجنتين المدلول عليهم بذكرهما عَلى رَفْرَفٍ اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة ، وعلى الوجهين يصح وصفه بقوله تعالى : خُضْرٍ وجعله بعضهم جمعا لهذا الوصف ولا يخفى أن أمر الوصفية لا يتوقف على ذلك الجعل ، وفسره في الآية علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس والضحاك بفضول المحابس وهي ما يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه
، وقال الجوهري : الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس واشتقاقه من رف إذا ارتفع ، وقال الحسن - فيما أخرجه ابن المنذر وغيره عنه - هي البسط.
وأخرج عن عاصم الجحدري أنها الوسائد ، وروي ذلك عن الحسن أيضا وابن كيسان وقال الجبائي : الفرش المرتفعة ، وقيل : ما تدلى من الأسرّة من غالي الثياب ، وقال الراغب : ضرب من الثياب مشبهة بالرياض ، وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال : الرفرف رياض الجنة ، وأخرج عن عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس وهو عليه - كما في البحر - من رف النبت نعم وحسن ، ويقال الرفرف لكل ثوب عريض وللرقيق من ثياب الديباج ولأطراف الفسطاط والخباء الواقعة على الأرض دون الأطناب والأوتاد ، وظاهر كلام بعضهم أنه قيل بهذا المعنى هنا وفيه شيء وَعَبْقَرِيٍّ هو منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل عجيب غريب من الفرش وغيرها فمعناه الشيء العجيب النادر ، ومنه ما جاء في عمر الفاروق رضي اللّه تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه ، ولتناسي تلك النسبة قيل : إنه ليس بمنسوب بل هو مثل كرسي وبختي كما نقل عن قطرب ، والمراد الجنس ولذلك وصف بالجمع وهو قوله تعالى : حِسانٍ حملا على المعنى ، وقيل : هو اسم جمع أو جمع واحده عبقرية ، وفسره الأكثرون بعتاق الزرابي وعن أبي عبيدة هو ما كله وشي من البسط.
وروى غير واحد عن مجاهد أنه الديباج الغليظ ، وعن الحسن أنها بسط فيها صور وقد سمعت ما نقل عنه في الرفرف فلا تغفل عما يقتضيه العطف.
وقرأ عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه ونصر بن عاصم الجحدري ومالك بن دينار وابن محيصن وزهير الفرقبي وغيرهم رفارف جمع لا ينصرف «خضر» بسكون الضاد ، «وعباقري» بكسر القاف وفتح الياء مشددة ، وعنهم أيضا ضم الضاد ، وعنهم أيضا فتح القاف قاله صاحب اللوامح ثم قال أما منع الصرف من عباقري فلمجاورته لرفارف يعني للمشاكلة وإلا فلا وجه لمنع الصرف مع ياءي النسب إلا في ضرورة الشعر انتهى.
وقال ابن خالويه قرأ - على رفارف خضر وعباقري - النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، الجحدري وابن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 124
محيصن ، وقد روي عمن ذكرنا - على رفارف خضر وعباقري - بالصرف ، وكذلك روي عن مالك بن دينار ، وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويا - على رفارف خضار - بوزن فعال ، وقال صاحب الكامل : قرأ رفارف بالجمع ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن ، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني وهو الاختيار لقوله تعالى :
خُضْرٍ ، و«عباقريّ» بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ابن مقسم وابن محيصن ، وروي عنهما التنوين.
وقال ابن عطية : قرأ زهير القرقبي «1» رفارف بالجمع وترك الصرف ، وأبو طعمة المدني وعاصم فيما روي عنه رفارف بالصرف وعثمان رضي اللّه تعالى عنه كذلك ، وعباقري بالجمع والصرف ، وعنه وعباقري بفتح القاف والياء على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف ، والصحيح فيه عبقر ، وقال الزمخشري : قرىء عباقري كمدائني.
وروى أبو حاتم عباقري بفتح القاف ومنع الصرف وهذا لا وجه لصحته ، وقال الزجاج : هذه القراءة لا مخرج لها لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري قلت : عباقرة نحو مهلبي ومهالبة ولا تقول مهالبي.
وقال ابن جني : أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس ولا يستنكر شذوذه مع استعماله ، وقال ابن هشام : كونه من النسبة إلى الجمع كمدائني باطل فإن من قرأ بذلك قرأ رفارف خضر بقصد المجانسة ولو كان كما ذكر كان مفردا ولا يصح منع صرفه كمدايني وقد صحت الرواية بمنعه الصرف عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فهو من باب كرسي وكراسي وهو من صيغة منتهى الجموع لكنها خالفت القياس في زيادة ما بعد الألف على المعروف كما ذكره السهيلي ، وقال صاحب الكشف فتح القاف لا وجه له بوجه والمذكور في المنتقى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم الكسر.
وأما منع الصرف فليس بمتعين ليرد بل وجهه أنه نصب على محل رفرف على حد : يذهبن في نجد وغورا.
وإضافته إلى حِسانٍ مثل إضافة حور إلى عين في قراءة عكرمة كأنه قيل : عباقري مفارش ، أو نمارق حسان فهو من باب أخلاق ثياب لأن أحد الوصفين قائم مقام الموصوف ، ولعل عبقر وعباقر مثل عرفة وعرفات انتهى ، فأحط بجوانب الكلام ولا تغفل ، وقرأ ابن هرمز خضر بضم الضاد وهي لغة قليلة ومن ذلك قول طرفة :
أيها القينات في مجلسنا جرّدوا منها ورادا وشقر
وقول الآخر :
وما انتميت إلى خود ولا كشف ولا لئام غداة الروع أوزاع
فشقر جمع أشقر ، وكشف جمع أكشف وهو من ينهزم في الحرب ، هذا والوصف بقوله تعالى : مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ إلخ دون الوصف بقوله سبحانه : مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن : 54] عند القائل بتفضيل الجنتين السابقتين لما في هذا الوصف من الإشارة إلى أن الظهائر مما يعجز عنها الوصف. ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول : الرفرف ما يطرح على ظهر الفراش وليست الفرش التي يطرح عليها الرفرف مذكورة فيجوز أن يكون ترك ذكرها للإشارة إلى عدم إحاطة الوصف بها ظهارة وبطانة وهو أبلغ من الأول ، ولا يسلم أن تلك الفرش هي العبقري ، أو يقول الرفرف الفرش المرتفعة وترك التعرض لسوى لونها وهو الخضرة التي ميل الطباع إليها أشد وهي جامعة لأصول الألوان الثلاثة على ما بينه الإمام يشير إلى أنها مما لا تكاد تحيط بحقيقتها العبارات ، وقد يقال غير ذلك فتأمل ، وينبغي على القول بتفضيل الأخيرتين وكونهما لطائفة غير الطائفة المشار إليهم بمن خاف أن لا يفسر من
___________
(1) هكذا بقافين وقد مر بالفاء بعد الراء قاف ، وفي البحر العرقبي بالعين المهملة.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 125
خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم. أو يقال : إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أيضا جَنَّتانِ صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين ، وعليه قيل :
جَنَّتانِ عطف على جَنَّتانِ قبله وَمِنْ دُونِهِما في موضع الحال ، وذهب بعضهم إلى أن هاتين الجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربه عز وجل فله يوم القيامة أربع جنان.
قال الطبرسي : والأخيرتان دون الأوليين أي أقرب إلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف من طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعد عن الملل الذي طبع عليه البشر ، وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالا ظاهرا لكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي اللّه تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفا - إذ حكم مثله حكم المرفوع - لم يكن لنا العدول عما يقتضيه ، وقد روي عنه أيضا حديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس.
وأخرج عنه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم أنه قال : إن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنه عدن»
والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان ، ومعنى قوله تعالى : وَلِمَنْ خافَ إلخ عليه مما لا يخفى ، ثم إن قاصرات الطرف إن كنّ من الإنس فهنّ أجل قدرا وأحسن منظرا من الحور المقصورات في الخيام بناء على أنهن النساء المخلوقات في الجنة.
فقد جاء من حديث أم سلمة «قلت يا رسول اللّه : أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة ، قلت : يا رسول اللّه وبم ذاك؟ قال : بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس اللّه وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ألا ونحن الناعمات فلا نيأس أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا»
إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيدا للقول بتفضيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما قدم سبحانه ذكر الاتكاء أولا على ذكر النساء لأنه عز وجل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعارا ظاهرا وهو الاتكاء فإنه من شأن الآمنين ، وأخر سبحانه ذكره ثانيا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزل من طعام وشراب وقينة تكون فيه ، وإذا قلنا : إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع ، وقال الإمام في ذلك : إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب ، ومنهم من يكون مترددا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فاللّه عز وجل قال في أهل الجنة : مُتَّكِؤُنَ قيل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعد الاجتماع ليعلم أنهم دائمون على السكون ، ولا يخفى أن هذا على ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل أن يقول لم لم يعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا ، ثم ذكر في ذلك وجها ثانيا وهو على ما فيه مبني على ما لا مستند له فيه من الآثار فتدبر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله عز وجل : تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنه الفائضة على الأيام ، - فتبارك - بمعنى تعالى لأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصف الآتي ، وقد ورد في

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 126
الأحاديث «تعالى اسمه» أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرَّحْمنُ المنبئ عن إفاضة الآلاء المفصلة ، وارتفع مما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها ، وإذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانه كذلك فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى؟؟.
وقيل : الاسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها ، وقيل : هو مقحم كما في قول من قال : ثم اسم السلام عليكما ، وقيل : هو بمعنى المسمى ، وزعم بعضهم أن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة هو تعدد الآلاء والنعم تفسير تَبارَكَ بكثرت خيراته ثم إنه لا بعد في إسناده بهذا المعنى لاسمه تعالى إذ به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان ، وقوله سبحانه : ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلا لما ذكر من التنزيه والتقرير ، وقرأ ابن عامر وأهل الشام - ذو - بالرفع على أنه وصف للاسم ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح.
هذا «ومن باب الإشارة» في بعض الآيات الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانية الإجمالية عند استوائه عز وجل على عرش الرحمانية خَلَقَ الْإِنْسانَ الكامل الجامع عَلَّمَهُ الْبَيانَ وهو تفصيل تلك العلوم الإجمالية فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة : 18 ، 19] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الاستعدادات ، والنَّجْمُ القوى السفلية وَالشَّجَرُ الاستعدادات العلوية يَسْجُدانِ يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه وَالسَّماءَ سماء القوى الإلهية القدسية رَفَعَها فوق أرض البشرية وَوَضَعَ الْمِيزانَ القوة المميزة أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ لا تتجاوزوا عند أخذ الحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية.
وجوز أن يكون الْمِيزانِ الشريعة المطهرة فإنها ميزان يعرف به الكامل من الناقص وَالْأَرْضَ أرض البشرية وَضَعَها بسطها وفرشها لِلْأَنامِ للقوى الإنسانية فِيها فاكِهَةٌ من فواكه معرفة الصفات الفعلية وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظم وذات أطوار كل طور مستور بطور آخر وَالْحَبُّ هو حب الحب المبذور في مزارع القلوب السليمة من الدغل ذُو الْعَصْفِ أوراق المكاشفات وَالرَّيْحانُ ريحان المشاهدة رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ رب مشرق شمس النبوة ومشرق قمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز القلب يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أنواع أنوار الأسرار ونيران الأشواق وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ سفن الخواطر المسخرة في بحر الإنسان كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ما شم رائحة الوجود وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ الجهة التي تليه سبحانه وهي شؤوناته عز وجل ذُو الْجَلالِ أي الاستغناء التام عن جميع المظاهر وَالْإِكْرامِ الفيض العام يفيض على القوابل حسبما استعدت له وسألته بلسان حالها ، وإليه الاشارة بقوله تعالى : يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ ، واستدل الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره بقوله سبحانه :
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ على شرف التلون ، وكذا استدل به على عدم بقاء الجوهر آنين ، وعلى هذا الطراز ما قيل في الآيات بعد ، وذكر بعض أهل العلم أن قوله تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قد ذكر إحدى وثلاثين مرة ، ثمانية منها عقيب تعداد عجائب خلقه تعالى وذكر المبدأ والمعاد ، وسبعة عقيب ذكر ما يشعر بالنار وأهوالها على عدد أبواب جهنم ، وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 127
فكأنه أشير بذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الجنتين من اللّه تعالى ووقاه جهنم ذات الأبواب السبعة واللّه تعالى أعلم بإشارات كتابه وحقائق خطابه ودقائق كلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 128
سورة الواقعة
«مكية» كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن الزبير ، واستثنى بعضهم قوله تعالى : ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة : 39 ، 40] كما حكاه في الإتقان وكذا استثني قوله سبحانه : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ إلى تُكَذِّبُونَ [الواقعة : 75 ، 82] لما أخرجه مسلم في سبب نزوله وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وفي مجمع البيان حكاية استثناء قوله تعالى : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة : 82] عن ابن عباس وقتادة وعدد آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي ، وسبع وتسعون في البصري ، وست وتسعون في الكوفي ، وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله ، وهي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار ، وقال في البحر : مناسبتها لما قبلها أنه تضمن العذاب للمجرمين والنعيم للمؤمنين ، وفاضل سبحانه بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلى كافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول وعلى هذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين ، وقال بعض الأجلة انظر إلى اتصال قوله تعالى : إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة : 10] بقوله سبحانه : فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ [الرحمن : 37] وأنه اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء ، وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء ، وقد عكس الترتيب فذكر في أول هذه ما في آخر تلك وفي آخر هذه ما في أول تلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن ، ثم ذكر الشمس والقمر ، ثم ذكر النبات ، ثم خلق الإنسان والجان ، ثم صفة يوم القيامة ، ثم صفة النار ، ثم صفة الجنة ، وهذه ابتداؤها بذكر القيامة ، ثم صفة الجنة ، ثم صفة النار ثم خلق الإنسان ، ثم النبات ، ثم الماء ، ثم النار ، ثم ذكرت النجوم ولم تذكر في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس
والقمر ، ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلك وكالمتضمنة لرد العجز على الصدر ، وجاء في فضلها آثار.
أخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : «سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول : من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا»
. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس نحوه مرفوعا ، وأخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «سورة الواقعة سورة الغنى فاقرؤوها وعلموها أولادكم».
وأخرج الديلمي عنه مرفوعا «علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى»
.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 129
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 إلى 38]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي إذا حدثت القيامة على أن وَقَعَتِ بمعنى حدثت والْواقِعَةُ علم بالغلبة أو منقول للقيامة ، وصرح ابن عباس بأنها من أسمائها وسميت بذلك للإيذان بتحقيق وقوعها لا محالة كأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع في حيز الشرط فليس الإسناد كما في - جاءني جاء - فإنه لغو لدلالة كل فعل على فاعل له غير معين ، وقال الضحاك : الْواقِعَةُ الصيحة وهي النفخة في الصور ، وقيل :
الْواقِعَةُ صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة وليس بشيء ، وإِذا ظرف متضمن معنى الشرط على ما هو الظاهر ، والعامل فيها عند أبي حيان الفعل بعدها فهي عنده في موضع نصب - بوقعت - كسائر أسماء الشرط وليست مضافة إلى الجملة ، والجمهور على إضافتها فقيل : هي هنا قد سلبت الظرفية ووقعت مفعولا به لا ذكر محذوفا ، وقيل : لم تسلب ذلك وهي منصوبة بليس ، وصنيع الزمخشري يشعر باختياره.
وقيل : بمحذوف وهو الجواب أي إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ كان كيت وكيت ، قال في الكشف : هذا الوجه العربي الجزل فالنصب بإضمار اذكر إنما كثر في إذ ، وبليس إنما يصح إذا جعلت لمجرد الظرفية وإلا لوجب الفاء في ليس ، وأبو حيان تعقب النصب بليس بأنه لا يذهب إليه نحوي لأن ليس في النفي ك (ما) وهي لا تعمل. فكذا ليس فإنها مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان ، والقول : بأنها فعل على سبيل المجاز ، والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فحيث لا حدث فيها لا عمل لها فيه ، ثم ذكر نحو ما ذكر صاحب الكشف من وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد عن الشرطية واعترض دعواه أن (ما) لا تعمل بأنهم صرحوا بجواز تعلق الظرف بها لتأويلها بانتفى وأنه يكفي له رائحة الفعل ، ويقاس عليها في ذلك ليس ، وكذا دعوى وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد إِذا عن الشرطية بأن لزوم الفاء مع الأفعال الجامدة إنما هو في جواب إن الشرطية لعملها كما صرحوا به. وأما إِذا فدخول الفاء في جوابها على خلاف الأصل. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى فيها قولان آخران ، وبعد القيل والقال الأولى كون

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 130
العامل محذوفا وهو الجواب كما سمعت وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة.
وقوله تعالى : لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ إما اعتراض يؤكد تحقيق الوقوع أو حال من الواقعة كما قال ابن عطية ، وكاذِبَةٌ اسم فاعل وقع صفة لموصوف محذوف أي نفس ، وقيل : مقالة والأول أولى لأن وصف الشخص بالكذب أكثر من وصف الخبر به. والْواقِعَةُ السقطة القوية وشاعت في وقوع الأمر العظيم وقد تخص بالحرب ولذا عبر بها هنا واللام للتوقيت مثلها في قولك : كتبته لخمس خلون أي لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة على معنى تكذب على اللّه تعالى وتكذب في تكذيبه سبحانه وتعالى في خبره بها ، وإيضاحه أن منكر الساعة الآن مكذب له تعالى في أنها تقع وهو كاذب في تكذيبه سبحانه لأنه خبر على خلاف الواقع وحين تقع لا يبقى كاذبا مكذبا ، بل صادقا مصدقا ، وقيل : على معنى ليس في وقت وقوعها نفس كاذبة في شيء من الأشياء ، ولا يخفى أن صحته مبنية على القول بأنه لا يصدر من أحد كذب يوم القيامة وأن قولهم :
وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام : 23] مجاب عنه بما هو مذكور في محله أو اللام على حقيقتها ، وكاذِبَةٌ صفة لذلك المحذوف أيضا أي لَيْسَ لِوَقْعَتِها نفس كاذبة بمعنى لا ينكر وقوعها أحد ولا يقول للساعة لم تكوني لأن الكون قد تحقق كما يقول لها في الدنيا بلسان القول أو الفعل لأن من اغتر بزخارف الدنيا فقد كذب الساعة في وقعتها بلسان الحال لن تكوني ، وهذا كما تقول لمخاطبك ليس لنا ملك ولمعروفك كاذب أي لا يكذبك أحد فيقول : إنه غير واقع ، وفيه استعارة تمثيلية لأن الساعة لا تصلح مخاطبا إلا على ذلك إما على سبيل التخييل من باب لو قيل للشحم أين تذهب ، وهو الأظهر وإما على التحقيق ، وجوز كون كاذِبَةٌ من قولهم كذبت نفسي وكذبته إذا منته الأماني وقربت له الأمور البعيدة وشجعته على مباشرة الخطب العظيم ، واللام قيل : على حقيقتها أيضا أي ليس لها إذا وقعت نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها.
وفي الكشف أن اللام على هذا الوجه للتوقيت كما على الوجه الأول ، وجوز أيضا كون كاذِبَةٌ مصدرا بمعنى التكذيب وهو التثبيط وأمر اللام ظاهر أي ليس لوقعتها ارتداد ورجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهرة وروي نحوه عن الحسن وقتادة ، وذكر أن حقيقة التكذيب بهذا المعنى راجعة إلى تكذيب النفس في كذبها وإغرائها وتشجيعها وأنشد على ذلك لزهير :
ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
ويجوز جعل الكاذبة بمعنى الكذب على معنى ليس للوقعة كذب بل هي وقعة صادقة لا تطاق على نحو - حملة صادقة ، وحملة لها صادق - أو على معنى ليس هي في وقت وقوعها كذب لأنه حق لا شبهة فيه ، ولعل ما ذكر أظهر مما تقدم ، وإن روي نحوه عمن سمعت ، نعم قيل : عليهما إن مجيء المصدر على زنة الفاعل نادر ، وقوله عز وجل : خافِضَةٌ رافِعَةٌ خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة لأقوام رافعة لآخرين كما قال ابن عباس ، وأخرجه عنه جماعة ، والجملة تقرير لعظمتها وتهويل لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في تبدل الدول وظهور الفتن من ذل الأعزة وعز الأذلة ، وتقديم الخفض على الرفع لتشديد التهويل ، أو بيان لما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات ، وعلى هذا قول عمر رضي اللّه تعالى عنه : خفضت أعداء اللّه تعالى إلى النار ورفعت أولياءه إلى الجنة ، أو بيان لما يكون من ذلك ومن إزالة الأجرام عن مقارها ونثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو كالسحاب ، والضحاك بعد

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 131
أن فسر الواقعة بالصيحة قال : خافضة تخفض قوتها لتسمع الأدنى رافِعَةٌ ترفعها لتسمع الأقصى ، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وعكرمة ، وقدر أبو علي المبتدأ مقرونا بالفاء أي فهي خافِضَةٌ وجعل الجملة جواب إذا فكأنه قيل : إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ خفضت قوما ورفعت آخرين ، وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره «خافضة رافعة» بنصبهما ، ووجهه أن يجعلا حالين عن الواقعة على أن لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ اعتراض أو حالين عن وقعتها ، وقوله سبحانه : إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل متعلق - بخافضة - أو - برافعة - على أنه من باب الأعمال ، أو بدل من إِذا وَقَعَتِ كما قال به غير واحد ، وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي : إِذا رُجَّتِ في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو إِذا وَقَعَتِ وليست واحدة منهما شرطية بل هي بمعنى وقت أي وقت وقوعها وقت رج الأرض ، وادعى ابن مالك أن إِذا تكون مبتدأ ، واستدل بهذه الآية ، وقال أبو حيان : هو بدل من إِذا وَقَعَتِ وجواب الشرط عندي ملفوظ به وهو قوله تعالى : فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ والمعنى إذا كان كذا وكذا ، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به أي إن سعادتهم وعظم رتبهم عند اللّه عز وجل تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم ، وفيه بعد وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتت كما قال ابن عباس ومجاهد حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه ، وقيل : سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها فهو كقوله تعالى : وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ : 20].
وقرأ زيد بن علي «رجّت» و«بسّت» بالبناء للفاعل أي ارتجت وتفتتت ، وفي كلام هند بنت الخس تصف ناقة بما يستدل به على حملها : - عينها هاج وصلاها راج ، وهي تمشي وتفاج - فَكانَتْ فصارت بسبب ذلك هَباءً غبارا مُنْبَثًّا متفرقا ، والمراد مطلق الغبار عند الأكثرين ، وقال ابن عباس : هو ما يثور مع شعاع الشمس إذا دخلت من كوة ، وفي رواية أخرى عنه أنه الذي يطير من النار إذا اضطرمت.
وقرأ النخعي - منبتا - بالتاء المنطوقة بنقطتين من فوق من البت بمعنى القطع ، والمراد به ما ذكر من الليث بالمثلثة وَكُنْتُمْ خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليبا كما ذهب إليه الكثير ، وقال بعضهم :
خطاب للأمة الحاضرة فقط ، والظاهر أن - كان - أيضا بمعنى صار أي وصرتم أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج ، قال الراغب : الزوج يكون لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ولكل قرينين فيها ، وفي غيرها كالخف والنعل ، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا ، وقوله تعالى : فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها ، والدائر على ألسنتهم أن أصحاب الميمنة مبتدأ ، وقوله تعالى : ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما فيه استفهامية مبتدأ ثان وأَصْحابُ خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الظاهر القائم مقام الضمير ، وكذا يقال في قوله تعالى : وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ إلخ ، والأصل في الموضعين ما هم؟ أي أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم فإن ما وإن شاعت في طلب مفهوم الاسم والحقيقة لكنها قد تطلب بها الصفة والحال كما تقول ما زيد؟
فيقال : عالم ، أو طبيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل في المقصود وهو التفخيم في الأول والتفظيع في الثاني ، والمراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل : فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ في غاية حسن الحال وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ في نهاية سوء الحال ، وقيل : جملة ما أَصْحابُ خبر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 132
بتقدير القول على ما عرف في الجملة الانشائية إذا وقعت خبرا أي مقول في حقهم ما أَصْحابُ إلخ فلا حاجة إلى جعله من إقامة الظاهر مقام الضمير وفيه نظر ، والْمَيْمَنَةِ ناحية اليمين ، أو اليمن والبركة ، والْمَشْئَمَةِ ناحية الشمال من اليد الشؤمى وهي الشمال ، أو هي من الشؤم مقاب اليمن ، ورجح إرادة الناحية فيهما بأنها أوفق بما يأتي في التفصيل ، واختلفوا في الفريقين فقيل : أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية ، وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذا من تيمنهم بالميامن وتشؤمهم بالشمائل كما تسمع في السانح والبارح ، وهو مجاز شائع ، وجوز أن يكون كناية ، وقيل : الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم ، وقيل : الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، وقيل :
أصحاب اليمن وأصحاب الشؤم ، فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم بمعاصيهم ، وروي هذا عن الحسن والربيع ، وقوله تعالى : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة ، ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن إيرادهم بعنوان السبق مطلقا معرض عن إحرازهم قصب السبق من جميع الوجوه.
واختلف في تعيينهم فقيل : هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان ، وروي هذا عن عكرمة ومقاتل ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعليّ بن أبي طالب كرم اللّه تعالى وجهه وكل رجل منهم سابق أمته وعليّ أفضلهم ، وقيل : هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الإيمان ، وقيل هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم مقدمو أهل الأديان ، وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة : 100] وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة ، وعن عليّ كرم اللّه تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس ،
وأخرج أبو نعيم والديلمي عن ابن عباس مرفوعا أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال : بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل اللّه عز وجل ، وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد ، وعن ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر ، وقال كعب : هم أهل القرآن ، وفي البحر في الحديث «سئل عن السابقين فقال : هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم»
،
وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق ، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال ، وعن ابن كيسان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا اللّه تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم ، وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل ، وأيا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى وَالسَّابِقُونَ هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله :
أنا أبو النجم وشعري شعري وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى ، وقيل متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة اللّه تعالى «السابقون»إلى رحمته سبحانه ، أو السَّابِقُونَ إلى الخير السَّابِقُونَ إلى الجنة ، والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 133
وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيا ما كان فقوله تعالى : أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني ، وقيل : السَّابِقُونَ السابق مبتدأ وَالسَّابِقُونَ اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى : فَأَصْحابُ إلخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ ، ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الاستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما لم يقل - السابقون ما السابقون - على منوال الأولين لأنه جعل أمرا مفروغا مسلما مستقلا في المدح والتعجيب ، والاشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل ، والْمُقَرَّبُونَ من القربة بمعنى الحظوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا حظوة ومكانة عند اللّه تعالى ، وقال غير واحد : المراد الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم.
هذا وفي الإرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى : فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه : وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وقوله جل شأنه : وَالسَّابِقُونَ فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام.
وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها ، والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة ، والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلا منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامي أحوالهما في الخير والشر إنباء إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن ما الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على ما رآه سيبويه في أمثاله بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون ما خبرا لا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ، وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى : السَّابِقُونَ مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار للتفخيم وأُولئِكَ مبتدأ ثان ، أو بدل من الاول وما بعده خبر له ، أو للثاني ، والجملة خبر للأول انتهى ، وقيل عليه : إنه ليس في جعل جملتي الاستفهام وقوله سبحانه : السَّابِقُونَ إخبارا لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلا حتى يقال : حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك.
وأيضا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر ما أَصْحابُ الْيَمِينِ وما أَصْحابُ الشِّمالِ في التفصيل ، وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه على هذا الوجه ، ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للإعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع ، والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان الانقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقا وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الاستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل : فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وكذا يقال في وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ إلخ ، ويجعل أيضا السَّابِقُونَ صفة - للسابقون - قبله ، والتأويل في الوصفية كالتأويل

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 134
في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائما مقام تينك الجملتين في المدح ، والجملة بعد مستأنفة استئنافا بيانيا كما في الوجه الشائع ، وما يقال : إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون - أل - في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث موصولة فتأمل ولا تغفل ، وقوله تعالى : فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ متعلق بالمقربون ، أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم ، وعلى الوجهين فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ولا يرد عليهم أمر أو نهي ولذا قيل : فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دون جنات الخلود ونحوه ، وقيل : خبر ثان لاسم الإشارة وتعقب بأن الإخبار بكونهم فيها بعد الإخبار بكونهم مقربين ليس فيه مزيد مزية ، وأجيب بأن الإخبار الأول للإشارة إلى اللذة الروحانية والإخبار الثاني للإشارة إلى اللذة الجسمانية.
وقرأ طلحة في جنة النعيم بالإفراد ، وقوله تعالى : ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ خبر مبتدأ مقدر أي هم ثلة إلخ ، وجوز كونه مبتدأ خبره محذوف أي منهم ، أو خبرا أولا أو ثانيا - لأولئك - وجوز أبو البقاء كونه مبتدأ والخبر عَلى سُرُرٍ ، والثلة في المشهور الجماعة كثرت أو قلّت ، وقال الزمخشري : الأمة من الناس الكثيرة وأنشد قوله :
وجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيار من السيل مزبد
وقوله تعالى بعد : وَقَلِيلٌ إلخ كفى به دليلا على الكثرة انتهى ، والظاهر أنه أنشد البيت شاهدا لمعنى الكثرة في الثلة فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالاستدلال عليها من أن المقام مقام مبالغة ومدح ، وأما استدلاله بما بعد فذلك لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل ما بعد على التقنن بل هي إما للكثرة والاشتقاق عليها أدل لأن الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية ، والثلة بالكسر الضأن الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن لاستعمال غلب على الكثير فيها فالمعنى جماعة كثيرة من الأولين وهم الناس المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وهم الناس من لدن نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة ولا يخالفه
قوله عليه الصلاة والسلام : «إن أمتي يكثرون سائر الأمم»
أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي المتقدمين من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك.
وحاصل ذلك غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها عشرة من العلماء ومائة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك ، لا يقال يأبى أكثرية تابعي هؤلاء قوله تعالى : ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة : 39 ، 40] فإنه في حق أصحاب اليمين وهم التابعون ، وقد عبر في كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول لا دلالة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا. وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم ، والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال : إن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم فما على سابقي هذه الأمة بأس إذ أكثرهم سابقو الأمم بضم لأنبياء عليهم السلام ، وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : «لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فنزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة - أو شطر أهل الجنة - وتقاسمونهم النصف الثاني»
وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت ذلك ورفعته وأبدلته

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 135
بالكثرة ، ويدل على ذلك ما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ حزن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقالوا إذا لا يكون من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم إلا قليل فنزلت نصف النهار ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فنسخت وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وأبى ذلك الزمخشري فقال : إن الرواية غير صحيحة لأمرين :
أحدهما أن الآية الأولى واردة في السابقين ، الثانية في أصحاب اليمين ، والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه وما ذكر من عدم جواز النسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا هو المختار.
وقيل : يجوز النسخ في المتغير إن كان عن مستقبل لجواز المحو للّه تعالى فيما يقدره والإخبار يتبعه ، وعلى هذا البيضاوي ، وقيل : يجوز عن الماضي أيضا وعليه الإمام الرازي والآمدي ، وأما نسخ مدلول الخبر إذا كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا يجوز اتفاقا فإن كان ما نحن فيه مما يتغير فنسخه جائز عند البيضاوي ويوافقه ظهر خبر أبي هريرة الثاني ، ولا يجوز على المختار الذي عليه الشافعي وغيره فقول صاحب الكشف : لا خلاف في عدم جواز النسخ في مثل ما ذكر من الخبر إذ لا يتضمن حكما شرعيا لا يخلو عن شيء.
وأقول : قد يتعقب ما ذكره الزمخشري بأن الحديث قد صح وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضاه فإنه يجوز أن يقال : إن الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم لما سمعوا الآية الاولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين وقليلا منهم فيكثرهم الفائزون بالجنة من الأمم السوالف فخزنوا لذلك فنزل قوله تعالى في أصحاب اليمين : ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وقال لهم النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما قال مما أذهب به حزنهم وليس في هذا نسخ للخبر كما لا يخفى.
وقول أبي هريرة فنسخت وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ إن صح عنه ينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان أن يذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الأمة غير السابقين فتدبر ، وعن عائشة رضي اللّه تعالى عنها : الفرقتان أي في قوله تعالى : ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ في أمة كل نبي في صدرها ثلة وفي آخرها قليل ، وقيل : هما من الأنبياء عليهم السلام كانوا في صدر الدنيا كثيرين وفي آخرها قليلين.
وقال أبو حيان :
جاء في الحديث - الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل -
انتهى ، وجاء في فرقتي أصحاب اليمين نحو ذلك ،
أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم في قوله سبحانه : ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال : هما جميعا من هذه الأمة
، وأخرج جماعة بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ما لفظه هما جميعا من أمتي
وعلى هذا يكون الخطاب في قوله عز وجل : وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً لهذه الأمة فقط عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ حال من المقربين أو من ضميرهم في قوله تعالى : فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بناء على أنه في موضع الحال كما تقدم ، وقيل : هو خبر آخر للضمير المحذوف المخبر عنه أولا - بثلة - وفيه وجه آخر أشرنا إليه فيما مر ، ومَوْضُونَةٍ من الوضن وهو نسج الدرع قال الأعشى :
ومن نسج داود موضونة تسير مع الحي عيرا فعيرا
واستعير لمطلق النسج أو لنسج محكم مخصوص ، ومن ذلك وضين الناقة وهو حزامها لأنه موضون أي مفتول والمراد هنا على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي منسوجة بالذهب ، وفي رواية عنه بقضبان الفضة ، وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت ، وقيل : مَوْضُونَةٍ متصل بعضها ببعض كحلق الدرع ، والمراد متقاربة ، وقرأ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 136
زيد بن علي وأبو السمال «سرر» بفتح الراء وهي لغة لبعض تميم ، وكلب يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف نحو سرير مُتَّكِئِينَ عَلَيْها حال من الضمير المستقر في الجار والمجرور أعني على سرر ، وقوله تعالى : مُتَقابِلِينَ حال منه أيضا ولك أن تعتبر الحالين متداخلين.
والمراد كما قال مجاهد : لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه وهو وصف لهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق ورعاية الآداب وصفاء البواطن ، وقوله تعالى : يَطُوفُ عَلَيْهِمْ حال أخرى أو استئناف أي يدور حولهم للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة لا يتحولون عن ذلك ، وإلا فكل أهل الجنة مخلد لا يموت ، وقال الفراء وابن جبير : مقرطون بخلدة وهي ضرب من الأقراط قيل :
هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ، وروى هذا أمير المؤمنين علي كرم اللّه تعالى وجهه
، وعن الحسن البصري - واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام - قال : أولاد الكفار خدم أهل الجنة
- وذكر الطيبي أنه لم يصح بل صح ما يدفعه :
أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت : توفي صبي فقلت : طوبى له عصفور في الجنة فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : أو لا تدرين أن اللّه تعالى خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا ،
وفي رواية خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم.
وأخرج أبو داود عنها أنها قالت : قلت : يا رسول اللّه ذراري المؤمنين فقال من آبائهم فقلت : يا رسول اللّه بلا عمل قال : اللّه أعلم بما كانوا عاملين قلت : يا رسول اللّه فذراري المشركين قال : من آبائهم فقلت : بلا عمل قال : اللّه أعلم بما كانوا عاملين
، وقيل : إنهم يمتحنون يوم القيامة فتخرج لهم نار ويؤمرون بالدخول فيها فمن دخلها وجدها بردا وسلاما وأدخل الجنة ، ومن أبى أدخل النار مع سائر الكفار ويروون في ذلك أثرا.
ومن الغريب ما قيل : إنهم بعد الإعادة يكونون ترابا كالبهائم ، وفي الكشف الأحاديث متعارضة في المسألة وكذلك المذاهب ، والمسألة ظنية والعلم عند اللّه تعالى وهو عز وجل أعلم انتهى والأكثر على دخولهم الجنة بفضل اللّه تعالى ومزيد رحمته تبارك وتعالى ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في ذلك بِأَكْوابٍ بآنية لا عرا لها ولا خراطيم ، والظاهر أنها الأقداح وبذلك فسرها عكرمة وهي جمع كوب وَأَبارِيقَ جمع إبريق وهو إناء له خرطوم قيل : وعروة ، وفي البحر أنه من أواني الخمر ، وأنشد قول عدي بن زيد :
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت قينة في يمينها إبريق
وفيه أيضا أنه إفعيل من البريق ، وذكر غير واحد أنه معرب - آب ريزاي - صاب الماء وهو أنسب مما في بعض نسخ القاموس أنه معرب - آب ري - بلا زاي ، وأيا ما كان فهو ليس مأخوذا من البريق ، نعم الإبريق بمعنى المرأة الحسنة والبراقة والسيف البراق والقوس فيها تلاميع مأخوذ من ذلك ، ولعله يقول بأنه عربي لا معرب ، وأن البريق مما فيه من الخمر والشعراء يصفونها بذلك كقوله :
مشعشعة كأن الحص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا
أو لأنه غالبا يتخذ مما له نوع بريق كالبلور والفضة وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة أي لم يعصر كخمر الدنيا ، وقيل : خمر ظاهرة للعيون مرئية بها لأنها كذلك أهنأ ، وأفرد الكأس على ما قيل لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت مملوءة لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها ، والمراد أنهم لا يلحق رؤوسهم صداع لأجل خمار يحصل منها كما في خمور الدنيا ، وقيل : لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع التفريق.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 137
وقرأ مجاهد «لا يصّدعون» بفتح الياء وشد الصاد على أن أصله يتصدعون فأدغم التاء في الصاد أي لا يتفرقون كقوله تعالى : يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم : 43] ، وقرىء «لا يصدعون» بفتح الياء والتخفيف أي لا يصدع بعضهم بعضا ولا يفرقونهم أي لا يجلس داخل منهم بين اثنين فيفرق بين المتقاربين فإنه سوء الأدب وليس من حسن العشرة وَلا يُنْزِفُونَ قال مجاهد وقتادة والضحاك : لا تذهب عقولهم بكسرها من نزف الشارب كعنى إذا ذهب عقله ، ويقال للسكران نزيف ومنزوف ، وقيل : وهو من نزف الماء نزحه من البئر شيئا فشيئا فكان الكلام على تقدير مضاف.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد اللّه والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى وعاصم كما أخرج عنه عبد بن حميد «ولا ينزفون» بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه ، ومعناه صار ذا نزف ونظيره أقشع السراب وقشعته الريح وحقيقته دخل في القشع ، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا «ولا ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي قال : في المجمع وهو محمول على أنه لا يفنى خمرهم ، والتناسب بين الجملتين على ما سمعت فيهما أولا على قراءة الجمهور أن الأولى لبيان نفي الضرر عن الأجسام ، والثانية لبيان نفي الضرر عن العقول وتأمل لتعرفه إن شاء اللّه تعالى على ما عدا ذلك وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يأخذون خيره وأفضله والمراد مما يرضونه وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه ، والظاهر أن فاكهة ولحم معطوفان على أكواب فتفيد الآية أن الولدان يطوفون بهما عليهم ، واستشكل بأنه قد جاء في الآثار أن فاكهة الجنة وثمارها ينالها القائم والقاعد والنائم ، وعن مجاهد أنها دانية من أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين ، وأن الرجل من أهل الجنة يشتهي الطير من طيور الجنة فيقع في يده مقليا نضجا ، وقد أخرج هذا ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة.
وأخرج عن ميمونة مرفوعا أن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير إلى غير ذلك
،
وإذا كان الأمر كما ذكر استغنى عن طوافهم بالفاكهة واللحم ، وأجيب بأن ذلك - واللّه تعالى أعلم - حالة الاجتماع والشرب ، ويفعلون ذلك الإكرام ومزيد المحبة والتعظيم والاحترام ، وهذا كما يناول أحد الجلساء على خوان الآخر بعض ما عليه من الفواكه ونحوها وإن كان ذلك قريبا منه اعتناء بشأنه وإظهارا لمحبته والاحتفال به ، وجوز أن يكون العطف على جنات النعيم وهو من باب - متقلدا سيفا ورمحا - أو من بابه المعروف ، وتقديم الفاكهة على اللحم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحالة تقتضي تقديم اللحم كما في الجائع فإن حاجته إلى اللحم أشد من حاجته إلى الفاكهة بل هم بحالة تقتضي تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشبعان فإنه إلى الفاكهة أميل منه إلى اللحم ، وجوز أن يكون ذلك لأن عادة أهل الدنيا لا سيما أهل الشرب منهم تقديم الفاكهة في الأكل وهو طبا مستحسن لأنها ألطف وأسرع انحدارا وأقل احتياجا إلى المكث في المعدة للهضم ، وقد ذكروا أن أحد أسباب الهيضة إدخال اللطيف من الطعام على الكثيف منه ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها غالبا.
ويعلم من الوجه الأول وجه تخصيص التخير بالفاكهة والاشتهاء باللحم ، وفيه إشارة إلى أن الفاكهة لم تزل حاضرة عندهم وبمرأى منهم دون اللحم ووجه ذلك أنها مما تلذه الأعين دونه ، وقيل : وجه التخصيص كثرة أنواع الفاكهة واختلاف طعومها وألوانها وأشكالها وعدم كون اللحم كذلك ، وفي التعبير بيتخيرون دون يختارون وإن تقاربا معنى إشارة لمكان صيغة التفعل إلى أنهم يأخذون ما يكون منها في نهاية الكمال وأنهم في غاية الغنى عنها ، واللّه تعالى أعلم بأسرار كلامه وَحُورٌ عِينٌ عطف على وِلْدانٌ أو على الضمير المستكن في مُتَّكِئِينَ أو على مبتدأ حذف هو وخبره أي لهم هذا كل وَحُورٌ أو مبتدأ حذف خبره أي لهم ، أو فيها حور ، وتعقب الوجه الأول بأن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 138
الطواف لا يناسب حالهن ، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون من الحور ما ليس بمقصورات في الخيام ولا مخدرات هن كالخدم لهن لا يبالي بطوافهن ولا ينكر ذلك عليهن ، وأن الطواف في الخيام أنفسها وهو لا ينافي كونهم مقصورات فيها ، أو أن العطف على معنى لهم وِلْدانٌ وحُورٌ والثاني بأنه خلاف الظاهر جدا ، والثالث بكثرة الحذف ، وعِينٌ جمع عيناء وأصله عين على فعل كما تقول حمراء وحمر فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا ، وليس في كلام العرب ياء ساكنة قبلها ضمة كما أنه ليس فيه واو ساكنة قبلها كسرة.
وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة عن عاصم وحمزة والكسائي «وحور عين» بالجر ، وقرأ النخعي كذلك إلا أنه قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة في «حور» فقال :
وحير على الاتباع - لعين - وخرج على العطف على جَنَّاتِ النَّعِيمِ وفيه مضاف محذوف كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحم ومصاحبة حور على تشبيه مصاحبة الحور بالظرف على نهج الاستعارة المكنية ، وقرينتها التخييلية إثبات معنى الظرفية بكلمة فِي فهي باقية على معناها الحقيقي ولا جمع بين الحقيقة والمجاز ، وذهب إلى العطف المذكور الزمخشري ، وتعقبه أبو حيان فقال : فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي - وليس كما قال كما لا يخفى - أو على (أكواب) ويجعل من باب - متقلدا سيفا ورمحا - كما سمعت آنفا فكأنه قيل : ينعمون بأكواب وبحور ، وجوز أن يبقى على ظاهره المعروف ، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضا لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضوهن عليهم ، وإلى هذا ذهب أبو عمر وقطرب ، وأبى ذلك صاحب الكشف فقال : أما العطف على الولدان على الظاهر فلا لأن الولدان لا يطوفون بهن طوافهم بالأكواب ، والقلب إلى هذا أميل إلا أن يكون هناك أثر يدل على خلافه ، وكون الجر للجوار يأباه الفصل أو يضعفه. وقرأ أبيّ وعبد اللّه - وحورا عينا - بالنصب ، وخرج على العطف على محل بِأَكْوابٍ لأن المعنى يعطون أكوابا وحورا على أنه مفعول به لمحذوف أي ويعطون حورا أو على العطف على محذوف وقع مفعولا به لمحذوف أيضا أي يعطون هذا كله وحورا ، وقرأ قتادة «وحور» بالرفع مضافا إلى «عين» ، وابن مقسم «وحور» بالنصب مضافا ، وعكرمة - وحوراء عيناء - على التوحيد اسم جنس وبفتح الهمزة فيهما فاحتمل الجر والنصب كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي في الصفاء ، وقيد بالمكنون أي المستور بما يحفظه لأنه أصفى وأبعد من التغير ، وفي الحديث صفاؤهن كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي ، ووصف الحسنات بذلك شائع في العرب ، ومنه قوله :
قامت تراءى بين سجفي كلة كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد
والجار والمجرور في موضع الصفة لحور ، أو الحال ، والإتيان بالكاف للمبالغة في التشبيه ، ولعل الأمر عليه نحو زيد قمر جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مفعول له لفعل محذوف أي يفعل بهم ذلك كله جزاءا بأعمالهم أو بالذي استمروا على عمله أو هو مصدر مؤكد أي يجزون جزاء لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً ما لا يعتد به من الكلام وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا - وهو صوت العصافير ونحوها من الطير - وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا وَلا تَأْثِيماً أي ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم أثمتم ، وعن ابن عباس كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم تفسيره بالكذب ، وأخرجه هناد عن الضحاك - وهو من المجاز كما لا يخفى - والكلام من باب.
ولا ترى الضب بها ينجحر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 139
إِلَّا قِيلًا أي قولا فهو مصدر مثله سَلاماً سَلاماً بدل من قِيلًا كقوله تعالى : لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم : 62] وقال الزجاج : هو صفة له بتأويله بالمشتق أي سالما من هذه العيوب أو مفعوله ، والمراد لفظه فلذا جاز وقوعه مفعولا للقول مع إفراده ، والمعنى إلا أن يقول بعضهم لبعض سَلاماً ، وقيل : هو مصدر لفعل مقدر من لفظه وهو مقول القول ومفعوله حينئذ أي نسلم سلاما ، والتكرير للدلالة على فشو السلام وكثرته فيما بينهم لأن المراد سلاما بعد سلام ، والاستثناء منقطع وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم محتمل لأن يكون من الضرب الأول منه ، وهو أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح له بتقدير دخولها فيها بأن يقدر السلام هنا داخلا فيما قيل فيفيد التأكيد من وجهين ، وأن يكون من الضرب الثاني منه وهو أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى بأن لا يقدر ذلك ، ويجعل الاستثناء من أصله منقطعا فيفيد التأكيد من وجه ، ولولا ذكر التأثيم - على ما قاله السعد - جاز جعل الاستثناء متصلا حقيقة لأن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل الجنة أغنياء عن ذلك فكان ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام لولا ما فيه من فائدة الإكرام ، وإنما منع التأثيم الذي هو النسبة إلى الإثم لأنه لا يمكن جعل السلام من قبيله وليس لك في الكلام أن تذكر متعددين ثم تأتي بالاستثناء المتصل من الأول مثل أن تقول : ما جاء من رجل ولا امرأة إلا زيدا ولو قصدت ذلك كان الواجب أن تؤخر ذكر لرجل ، وقرى ء - سلام سلام - بالرفع على الحكاية ، وقوله تعالى : وَأَصْحابُ الْيَمِينِ إلخ شروع في بيان تفاصيل شؤونهم بعد بيان تفاصيل شؤون السابقين «وأصحاب» مبتدأ وقوله : ما أَصْحابُ الْيَمِينِ جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم والتعجيب من حالهم وهي على ما قالوا : إما خبر للمبتدأ ، وقوله سبحانه : فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ خبر ثان له ،
أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم في سدر ، والجملة استئناف لبيان ما أبهم في قوله عز وجل : ما أَصْحابُ الْيَمِينِ من علو الشأن ، وإما معترضة والخبر هو قوله تعالى شأنه : فِي سِدْرٍ وجوز أن تكون تلك الجملة في موضع الصفة والخبر هو هذا الجار والمجرور ، والجملة عطف على قوله تبارك وتعالى في شرح أحوال السابقين :
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة : 11 ، 12] أي وَأَصْحابُ الْيَمِينِ المقول فيهم ما أَصْحابُ الْيَمِينِ كائنون فِي سِدْرٍ إلخ ، والظاهر أن التعبير بالميمنة فيما مر ، وباليمين هنا للتفنن ، وكذا يقال في المشأمة والشمال فيما بعد ، وقال الإمام : الحكمة في ذلك أن في الميمنة وكذا المشأمة دلالة على الموضع والمكان والأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض ويتفرقون بالمكان فلذا جيء أولا بلفظ يدل على المكان وفيما بعد يكون التميز والتفرق بأمر فيهم فلذا لم يؤت بذلك اللفظ ثانيا ، والسدر شجر النبق ، والمخضود الذي خضد أي قطع شوكه ،
أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامه قال : «كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقولون : إن اللّه تعالى ينفعنا بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول اللّه لقد ذكر اللّه تعالى في القرآن شجر مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها قال : وما هي؟ قال : السدر فإن له شوكا فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم :
أليس اللّه يقول : فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ خضد اللّه شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة وأن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر».
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك أنه الموقر حملا على أنه في خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود مثنى الأغصان كني به عن كثير الحمل.
وقد أخرج ابن المنذر عن يزيد الرقاشي أن النبقة أعظم من القلال والظرفية مجازية للمبالغة في تمكنهم من التنعم والانتفاع بما ذكر
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قد نضد حمله من أسفله إلى أعلاه ليست له ساق بارزة وهو شجر الموز

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 140
كما أخرج ذلك عبد الرزاق وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
، وأخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس ورواه ابن المنذر عن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري وعبد بن حميد عن الحسن ، ومجاهد وقتادة ، وعن الحسن أنه قال : ليس بالموز ولكنه شجر ظله بارد رطب ، وقال السدي : شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل ، وقيل : هو شجر من عظام العضاه ، وقيل : شجر أم غيلان وله نوار كثير طيب الرائحة وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وظاهر الآثار يقتضي أنه ظل الأشجار.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرؤوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ»
. وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي سعيد قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها وذلك الظل الممدود».
وأخرج ابن أبي حاتم ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام يخرج إليها أهل الجنة وأهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل اللّه تعالى ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا
وعن مجاهد أنه قال : هذا الظل من سدرها وطلحها ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمرو بن ميمون أنه قال : الظل الممدود مسيرة سبعين ألف سنة وَماءٍ مَسْكُوبٍ قال سفيان وغيره : جار من غير أخاديد ، وقيل :
منساب حيث شاؤوا لا يحتاجون فيه إلى سانية ولا رشاء وذكر هذه الأشياء لما أن كثيرا من المؤمنين لبداوتهم تمنوها ، أخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد قال : كانوا يعجبون بوج وظلاله من طلحه وسدره فأنزل اللّه تعالى : وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ إلخ ، وفي رواية عن الضحاك «نظر المسلمون إلى وج فأعجبهم سدره وقالوا : يا ليت لنا مثل هذا فنزلت هذه الآية».
وقيل : كأنه لما شبه حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي من نزولهم في أماكن مخصبة فيها مياه وأشجار وظلال إيذانا بأن التفاوت بين الفريقين كالتفاوت بين أهل المدن والبوادي ، وذكر الإمام مدعيا أنه مما وفق له أن قوله تعالى : فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ من باب قوله سبحانه : رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشعراء :
28 ، المزمل : 9] لأن السدر أوراقه في غاية الصغر والطلح يعني الموز أوراقه في غاية الكبر فوقعت الإشارة إلى الطرفين فيراد جميع الأشجار لأنها نظرا إلى أوراقها محصورة بينهما وهو مما لا بأس به ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وجعفر بن محمد وعبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهم «وطلع» بالعين بدل وَطَلْحٍ بالحاء
،
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وابن جرير عن قيس بن عباد قال : قرأت على علي كرم اللّه تعالى وجهه وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فقال : ما بال الطلح؟ أما تقرأ وطلع ، ثم قرأ قوله تعالى : لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق : 10] فقيل له : يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟ فقال : لا يهاج القرآن اليوم وهي رواية غير صحيحة كما نبه على ذلك الطيبي ، وكيف يقر أمير المؤمنين كرم اللّه تعالى وجهه تحريفا في كتاب اللّه تعالى المتداول بين الناس ، أو كيف يظنّ بأن نقلة القرآن ورواته وكتابه من قبل تعمدوا ذلك أو غفلوا عنه؟ هذا واللّه تعالى قد تكفل بحفظه سبحانك هذا بهتان عظيم.
ثم إن الذي يقتضيه النظم الجليل كما قال الطيبي : حمل فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ إلخ على معنى التظليل ،

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 141
وتكاثف الأشجار على سبيل الترقي لأن الفواكه مستغنى عنها بما بعد وليقابل قوله تعالى : وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة : 41 - 43] قوله سبحانه : وَأَصْحابُ الْيَمِينِ إلخ فإذن لا مدخل لحديث الطلع في معنى الظل وما يتصل به لكن قال صاحب الكشف : إن وصف الطلح بكونه منضودا لا يظهر له كثير ملاءمة لكون المقصود منفعة التظليل وينبغي أن يحمل الطلح على أنه من عظام العضاه على ما ذكره في الصحاح فشجر أم غيلان والموز لا ظل لهما يعتد به ، ثم قال ولو حمل الطلح على المشموم لكان وجها انتهى ، وقد قدمنا لك خبر سبب النزول فلا تغفل وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أي بحسب الأنواع والأجناس على ما يقتضيه المقام.
لا مَقْطُوعَةٍ في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا وَلا مَمْنُوعَةٍ عمن يريد تناولها بوجه من الوجوه ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا ، وقرىء وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ بالرفع في الجميع على تقدير وهناك فاكِهَةٍ إلخ وَفُرُشٍ جمع فراش كسراج وسرج ، وقرأ أبو حيوة بسكون الراء مَرْفُوعَةٍ منضدة مرتفعة أو مرفوعة على الأسرة فالرفع حسي كما هو الظاهر ، وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وجماعة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال : ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام
ولا تستبعد ذلك من حيث العروج والنزول ونحوهما فالعالم عالم آخر وراء طور عقلك.
وأخرج هناد عن الحسن أن ارتفاعها مسيرة ثمانين سنة وليس بمثابة الخبر السابق ، وقال بعضهم : أي رفيعة القدر على أن رفعها معنوي بمعنى شرفها وأيا ما كان فالمراد بالفرش ما يفرش للجلوس عليه. وقال أبو عبيدة المراد بها النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش كما يكنى عنها باللباس ورفعهن في الأقدار والمنازل.
وقيل : على الأرائك وأيد إرادة النساء بقوله تعالى : إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً لأن الضمير في الأغلب يعود على مذكور متقدم وليس إلا الفرش ولا يناسب العود إليه إلا بهذا المعنى والاستخدام بعيد هنا ، وعلى القول في الفرش الضمير للنساء وإن لم يجر لها ذكر لتقدم ما يدل عليها فهو تتميم بيانا لمقدر يدل عليه السياق كأنه قيل : وفرش مرفوعة ونساء أو وحور عين ، ثم استؤنف وصفهن بقوله سبحانه : إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ تتميما للبيان زيادة للترغيب لا لتعليل الرفع ، وقيل : إن المرجع مضمر وتقدير المنزل وفرش مرفوعة لأزواجهم أو لنسائهم فإنا إلخ استئناف علة للرفع أي وفرش مرفوعة لأزواجهم لأنا أنشأناهن ، والأول أوفق لبلاغة القرآن العظيم ، والمراد بأنشأناهن أعدنا إنشاءهن من غير ولادة لأن المخبر عنهن بذلك نساءكن في الدنيا.
فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد والترمذي وآخرون عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : في الآية إن المنشئات اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا»
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم وجماعة عن سلمة بن مرثد الجعفي قال : «سمعت النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول في قوله تعالى : إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا»
وأخرج الترمذي في الشمائل وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال : «أتت عجوز فقالت : يا رسول اللّه ادع اللّه أن يدخلني الجنة فقال : يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز فولت تبكي قال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن اللّه تعالى يقول : إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً
إلخ ، وقال أبو حيان : الظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ويكون ذلك مخصوصا بالحور العين فالمعنى إنا ابتدأناهن ابتداء جديدا من غير ولادة ولا خلق أول فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً تفسير لما تقدم ، والجعل إما بمعنى التصيير ، وأَبْكاراً مفعول ثان ، أو بمعنى الخلق و«أبكارا» حال أو مفعول ثان ، والكلام من قبيل ضيق فم الركية ، وفي الحديث «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 142
أبكارا» أخرجه الطبراني في الصغير والبزار عن أبي سعيد مرفوعا
عُرُباً متحببات إلى أزواجهن جمع عروب كصبور وصبر ، وروي هذا عن جماعة من السلف وفسرها جماعة أخرى بغنجات ، ولا يخفى أن الغنج ألطف أسباب التحبب ، وعن زيد بن أسلم العروب الحسنة الكلام ، وفي رواية عن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد هن العواشق لأزواجهن ، ومنه على ما قيل قول لبيد :
وفي الخدور عروب غير فاحشة ريا الروادف يعشى دونها البصر
وفي رواية أخرى عن مجاهد أنهن الغلمات اللاتي يشتهين أزواجهم ، وأخرج ابن عدي بسند ضعيف عن أنس مرفوعا - خير نسائكم العفيفة الغلمة - وقال إسحاق بن عبد اللّه بن الحارث النوفلي : العروب الخفرة المتبذلة لزوجها ، وأنشد :
يعرين عند بعولهن إذا خلوا وإذا هم خرجوا فهن خفار
ويرجع هذا إلى التحبب ، وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى : عُرُباً كلامهن عربي
، ولا أظن لهذا صحة والتفسير بالمتحببات هو الذي عليه الأكثر.
وقرأ حمزة وجماعة - منها عباس والأصمعي - عن أبي عمرو ، وأخرى - منها خارجة وكردم - عن نافع ، وأخرى منها حماد وأبو بكر وأبان - عن عاصم «عربا» بسكون الراء وهي لغة تميم ، وقال غير واحد : هي للتخفيف كما في عنق وعنق أَتْراباً مستويات في سن واحد كما قال أنس وابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وغيرهم كأنهن شبهن في التساوي بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو كأنهن وقعن معا على التراب أي الأرض وهن بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن.
وأخرج الترمذي عن معاذ مرفوعا «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين ، أو ثلاث وثلاثين»
والمراد بذلك كمال الشباب ، وقوله تعالى : لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق - بأنشانا - أو بجعلنا ، وقيل : متعلق - بأترابا - كقولك فلان ترب لفلان أي مساو له فهو محتاج إلى التأويل ، وتعقب بأنه مع هذا ليس فيه كثير فائدة وفيه نظر ، وقيل : بمحذوف هو صفة - لأبكارا - أي كائنات لأصحاب اليمين ، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير لطول العهد أو للتأكيد والتحقيق [الواقعة : 39 - 80] وقوله تعالى :
[سورة الواقعة (56) : الآيات 39 إلى 80]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58)
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63)
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)
لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 143
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلة ، أو خبر ثان لهم المقدر مبتدأ مع فِي سِدْرٍ أو لِأَصْحابِ الْيَمِينِ في قوله تعالى : وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ أو مبتدأ خبره محذوف أي منهم ، أو مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله احتمالات اعترض الأخير منها بأن المعنى عليه غير ظاهر ولا طلاوة فيه ، وجعل اللام بمعنى من كما في قوله :
ونحن لكم يوم القيامة أفضل لا يخفى حاله - والأولون والآخرون - المتقدمون والمتأخرون إما من الأمم وهذه الأمة ، أو من هذه الأمة فقط على ما سمعت فيما تقدم ، هذا ولم يقل سبحانه في حق أصحاب اليمين - جزاء بما كانوا يعملون - كما قاله عز وجل في حق السابقين رمزا إلى أن الفضل في حقهم متمحض كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره. ثم الظاهر أن ما ذكر من حال أصحاب اليمين هو حالهم الذي ينتهون إليه فلا ينافي أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها ومات غير تائب عنها ثم يدخل الجنة. ولا يمكن أن يقال : إن المؤمن العاصي من أصحاب الشمال لأن صريح أوصافهم الآتية يقتضي أنهم كانوا كافرين ويلزم من جعل هذا قسما على حدة كون القسمة غير مستوفاة فليتأمل ، واللّه تعالى أعلم.
والكلام في قوله تعالى : وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ على نمط ما سلف في نظيره ، والسموم قال الراغب : الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم ، وفي الكشاف حرّ نار ينفذ في المسام والتنوين للتعظيم وكذا في قوله تعالى : وَحَمِيمٍ وهو الماء الشديد الحرارة وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي دخان أسود كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن زيد والجمهور وهي على وزن يفعول ، وله نظائر قليلة من الحممة القطعة من الفحم وتسميته ظلّا على التشبيه التهكمي ، وعن ابن عباس أيضا أنه سرادق النار المحيط بأهلها يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم ، وقال ابن كيسان : هو من أسماء جهنم فإنها سوداء وكذا كل ما فيها أسود بهيم نعوذ باللّه تعالى منها. وقال ابن بريدة وابن زيد أيضا : هو جبل من النار أسود يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء ، والجار والمجرور في موضع الصفة - لظل - وكذا قوله سبحانه : لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ صفتان له ، وتقديم الصفة الجار والمجرور على الصفة المفردة جائز كما صرح به الرضي وغيره أي لا بارد كسائر الظلال ، ولا نافع لمن يأوي إليه من أذى الحر - وذلك كرمه - فهناك استعارة ، ونفى ذلك ليمحق توهم ما في الظل من الاسترواح إليه وإن وصف أولا بقوله تعالى : مِنْ يَحْمُومٍ والمعنى أنه ظل حار ضار إلا أن للنفي شأنا ليس للإثبات. ومن ذلك جاء التهكم والتعريض بأن الذي يستأهل الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأشد لتحسرهم ، وقيل : الكرم باعتبار أنه مرضي في بابه ، فالظل الكريم هو المرضي في برده وروحه ، وفيه أنه لا يلائم ما هنا لقوله تعالى : لا بارِدٍ وجوز أن يكون ذلك نفيا لكرامة من يستروح

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 144
إليه ونسب إلى الظل مجازا ، والمراد أنهم يستظلون به وهم مهانون ، وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة ، وفي البحر يجوز أن يكونا صفتين - ليحموم - ويلزم منه وصف الظل بهما ، وتعقب بأن وصف اليحموم وهو الدخان بذلك ليس فيه كبير فائدة! وقرأ ابن أبي عبلة «لا بارد ولا كريم» برفعهما أي لا هو بارد ولا كريم على حدّ قوله :
فأبيت لا حرج ولا محروم أي لا أنا حرج ولا محروم ، وقوله تعالى : إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب ، وسلك هذا المسلك في تعليل الابتداء بالعذاب اهتماما بدفع توهم الظلم في التعذيب ، ولما كان إيصال الثواب مما ليس فيه توهم نقص أصلا لم يسلك فيه نحو هذا ، والمترف هنا بقرينة المقام هو المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع ، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا قبل ما ذكر من العذاب في الدنيا متبعين هوى أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره عز وجل وارتكاب نواهيه سبحانه كذا قيل ، وقيل : هو العاتي المستكبر عن قبول الحق والإذعان له ، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا في الدنيا مستكبرين عن قبول ما جاءتهم به رسلهم من الإيمان باللّه عز وجل وما جاء منه سبحانه ، وقيل : هو الذي أترفته النعمة أي أبطرته وأطغته ، وقريب منه ما قيل : هو المنعم المنهمك في الشهوات ، وعليه قول أبي السعود أي إنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا بنقائضها ، وتعقب بأن كثيرا من أهل الشمال ليسوا مترفين بالمعنى الذي اعتبره فكيف يصح تعليل عذاب الكل بذلك ولا يرد هذا على ما قدمناه من القولين كما لا يخفى.
ومن الناس من فسر المترف بما ذكر وتفصى عن الاعتراض بأن تعليل عذاب الكل بما ذكر في حيز العلة لا يستدعي أن يكون كل من المذكورات موجودا في كل من أصحاب الشمال بل وجود المجموع في المجموع وهذا لا يضر فيه اختصاص البعض بالبعض فتأمله ، وقيل : المترف المجعول ذا ترفة أي نعمة واسعة والكل مترفون بالنسبة إلى الحالة التي يكونون عليها يوم القيامة ، وهو على ما فيه لا يظهر أمر التعليل عليه وَكانُوا يُصِرُّونَ يتشددون ويمتنعون من الإقلاع ويداومون عَلَى الْحِنْثِ أي الذنب الْعَظِيمِ وفسر بعضهم الحنث بالذنب العظيم لا بمطلق الذنب وأيد بأنه في الأصل العدل العظيم فوصفه بالعظيم للمبالغة في وصفه بالعظم كما وصف الطود وهو الجبل العظيم به أيضا ، والمراد به كما روي عن قتادة والضحاك وابن زيد الشرك وهو الظاهر.
وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي أن المراد به الكبائر وكأنه جعل المعنى - وكانوا يصرون على كل حنث عظيم - وفي رواية أخرى عنه أنه اليمين الغموس وظاهره الإطلاق ، وقال التاج السبكي في طبقاته : سألت الشيخ ، يعني والده تقي الدين - ما الحنث العظيم؟ - فقال : هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل : 38] وهو تفسير حسن لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقا أو العظيم فالمشهور استعماله في عدم البر في القسم ، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى : وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً إلى آخره للزوم التكرار ، وأجيب بأن المراد بالأول وصفهم بالثبات على القسم الكاذب وبالثاني وصفهم بالاستمرار على الإنكار والرمز إلى استدلال ظاهر الفساد مع أنه لا محذور في تكرار ما يدل على الإنكار وهو توطئة وتمهيد لبيان فساده ، والمراد بقولهم : - كنا ترابا وعظاما - كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ونحوهما ترابا وبعضها عظاما نخرة ، وتقديم التراب لأنه أبعد عن الحياة التي يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث ، - وإذا - متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى : أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لا مبعوثون نفسه لتعدد ما يمنع من عمل ما بعده فيما قبله - وهو

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 145
نبعث - وهو المرجع للإنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له بالكلية وهذا كالاستدلال على ما يزعمونه ، وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد ، وقوله سبحانه : أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ عطف على محل - إن - واسمها أو على الضمير المستتر في مبعوثون وحسن للفصل بالهمزة وإن كانت حرفا واحدا - كما قال الزمخشري - ولا يضر عمل ما قبل هذه الهمزة في المعطوف بعدها لأنها مكررة للتأكيد وقد زحلقت عن مكانها ، وقولهم : الحرف إذا كرر للتأكيد فلا بد أن يعاد معه ما اتصل به أولا أو ضمير لا يسلم اطراده لورود :
«ولا - للما - بهم أبدا دواء» وأمثاله ، وجوز أن يكون آباؤُنَا مبتدأ وخبره محذوف دل عليه ما قبل أي مبعوثون ، والجملة عطف على الجملة السابقة وهو تكلف يغني عنه العطف المذكور والمعنى - أيبعث أيضا آباؤنا - على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل ، وقرأ قالون وابن عامر «أو آباؤنا» بإسكان الواو وعلى هذه القراءة لا يعطف على الضمير إذ لا فاصل.
قُلْ ردا لإنكارهم وتحقيقا للحق إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم ، وتقديم الأولين للمبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي لَمَجْمُوعُونَ بعد البعث ، وقرىء «لمجمعون» إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم القيامة ومعنى كونه معلوما كونه معينا عند اللّه عز وجل ، والميقات ما وقت به الشيء أي حد ، ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما ، وإضافته إلى يَوْمٍ بيانية كما في خاتم فضة ، وكون يوم القيامة ميقاتا لأنه وقتت به الدنيا ، وإِلى للغاية والانتهاء ، وقيل : والمعنى لَمَجْمُوعُونَ منتهين إلى ذلك اليوم ، وقيل : ضمن معنى السوق فلذا تعدى بها ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عطف على إِنَّ الْأَوَّلِينَ داخل في حيز القول ، وثُمَّ للتراخي الزماني أو الرتبي الْمُكَذِّبُونَ بالبعث ، أو بما يعمه وغيره ويدخل هو دخولا أوليا للسياق على ما قيل ، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم لَآكِلُونَ بعد البعث والجمع ودخول جهنم مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدئون للأكل من شجر هو زقوم ، وجوز كون الأولى تبعيضية ومِنْ الثانية على حالها ، وجوز كون مِنْ زَقُّومٍ بدلا من قوله تعالى : مِنْ شَجَرٍ فمن تحتمل الوجهين ، وقيل : الأولى زائدة ، وقرأ عبد اللّه من شجرة فوجه التأنيث ظاهر في قوله تعالى : فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي بطونكم من شدة الجوع فإنه الذي اضطرهم وقسرهم على أكل مثلها مما لا يؤكل ، وأما على قراءة الجمهور فوجهه الحمل على المعنى لأنه بمعنى الشجرة ، أو الأشجار إذا نظر لصدقه على المتعدد ، وأما التذكير على هذه القراءة في قوله سبحانه : فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أي عقيب ذلك بلا ريث مِنَ الْحَمِيمِ أي الماء الحار في
الغاية لغلبة العطش فظاهر لا يحتاج إلى تأويل ، وقال بعضهم : التأنيث أولا باعتبار المعنى والتذكير ثانيا باعتبار اللفظ ، فقيل عليه : إن فيه اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى على خلاف المتعارف فلو أعيد الضمير المذكور على الشجر باعتبار كونه مأكولا ليكون التذكير والتأنيث باعتبار المعنى كان أولى وفيه بحث ، ووجهه على القراءة الثانية أن الضمير عائد على الزقوم أو على الشجر باعتبار أنها زقوم أو باعتبار أنها مأكول ، وقيل : هو مطلقا عائد على الأكل ، وتعقب بأنه بعيد لأن الشرب عليه لا على تناوله مع ما فيه من تفكيك الضمائر وكونه مجازا شائعا وغير ملبس لا يدفع البعد فتأمل.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 146
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت ، أو تسقم سقما شديدا ، ويقال إبل هيماء وناقة هيماء كما يقال : جمل أهيم قال الشاعر :
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضي عليها هيامها
وجعل بعضهم الْهِيمِ هنا جمع الهيماء ، وقيل : هو جمع هائم أو هائمة ، وجمع فاعل على فعل كبازل وبزل شاذ ، وعن ابن عباس أيضا وسفيان الْهِيمِ الرمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها ومفرده هيام بفتح الهاء على المشهور كسحاب وسحب ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض من قلب الضمة كسرة لتسلم بالياء ويخفف اللفظ فكسرت الهاء لأجل الياء وهو قياس مطرد في بابه ، وقال ثعلب : هو بالضم كقراد وقرد ثم خفف وفعل به ما فعل مما سمعت والعطف بالفاء قيل : لأن الإفراط بعد الأصلي ، وقيل : لأن كلّا من المتعاطفين أخص من الآخر فإن شارب الحميم قد لا يكون به داء الهيام ومن به داء الهيام قد يشرب غير الحميم ، والشرب الذي لا يحصل الري ناشىء عن شرب الحميم لأنه لا يبل الغليل ، والذي اختاره ما قاله مفتي الديار الرومية : إن ذلك كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم ، والشرب بالضم مصدر ، وقيل : اسم لما يشرب ، وقرأ رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم - كما روى جماعة منهم الحاكم وصححه - عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما «شرب» بفتح الشين
وهو مصدر شرب المقيس ، وبذلك قرأ جمع من السبعة والأعرج وابن المسيب وشعيب ومالك بن دينار وابن جريج ، وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسر الشين وهو اسم بمعنى المشروب لا مصدر كالطحن والرعي هذا الذي ذكر من ألوان العذاب نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدم للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم بعد ما استقر لهم القرار واطمأنت لهم الدار في النار ، وفي جعله نزلا مع أنه مما يكرم به النازل من التهكم ما لا يخفى ، ونظير ذلك قوله :
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وقرأ ابن محيصن وخارجة عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس كلهم عن أبي عمرو نزلهم بتسكين الزاي المضمومة للتخفيف كما في البيت ، والجملة مسوقة من جهته سبحانه وتعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول ، وقوله تعالى : نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون بالخلق بقرينة نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ولما لم يحقق تصديقهم المشعر به قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : 25 ، الزمر : 38] عملهم حيث لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة بل اقترن بما ينبىء عن خلافه من الشرك والعصيان نزل منزلة العدم والإنكار فحضوا على التصديق بذلك ، وقيل : المراد فهلا تصدقون بالبعث لتقدمه وتقدم إنكاره في قولهم أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الإسراء : 49 ، 98 ، المؤمنون : 82 ، الصافات : 16 ، الواقعة : 47] فيكون الكلام إشارة إلى الاستدلال بالإبداء على الاعادة فإن من قدر عليه قدر عليها حتما ، والأول هو الوجه كما يظهر مما بعد إن شاء اللّه تعالى أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف ، وقرأ ابن عباس وأبو الثمال «تمنون» بفتح التاء من مني النطفة بمعنى أمناها أي أزالها بدفع الطبيعة أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي تقدرونه وتصورونه بشرا سويا تام الخلقة ، فالمراد خلق ما يحصل منه على أن في الكلام تقديرا أو

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 147
تجوزا ، وجوز إبقاء ذلك على ظاهره أي أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ وتنشئون نفس ذات ما تمنونه أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ له من غير دخل شيء فيه - وأرأيتم - قد مر الكلام غير مرة فيه ، ويقال هنا : إن اسم الموصول مفعوله الأول والجملة الاستفهامية مفعوله الثاني ، وكذا يقال فيم بعد من نظائره وما يعتبر فيه الرؤية بصرية تكون الجملة الاستفهامية فيه مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وجوز في - أنتم - أن يكون مبتدأ ، والجملة بعده خبره ، وأن يكون فاعلا لفعل محذوف والأصل أتخلقون فلما حذف الفعل انفصل الضمير ، واختاره أبو حيان. وأَمْ قيل : منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى - بل أنحن الخالقون - على أن الاستفهام للتقرير ، وقال قوم من النحاة : متصلة معادلة للهمزة كأنه قيل :
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ ثم جي ء - بالخالقون - بعد بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة ، وقرأ ابن كثير «قدرنا» بالتخفيف وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي لا يغلبنا أحد عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
أي على أن نذهبكم ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق فالسبق مجاز عن الغلبة استعارة تصريحية أو مجاز مرسل عن لازمه ، وظاهر كلام بعض الأجلة أنه حقيقة في ذلك إذا تعدى بعلى ، والجملة في موضع الحال من ضمير قَدَّرْنا وكأن المراد قَدَّرْنا ذلك ونحن قادرون على أن نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم.
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها ، وقال الحسن : من كونكم قردة وخنازير ، ولعل اختيار ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد ، والمراد ونحن قادرون على هذا أيضا وجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل بفتحتين بمعنى الصفة لا جمع مثل بالسكون بمعنى الشبه كما في الوجه الأول أي ونحن نقدر على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليه خلقا وخلقا وننشئكم في صفات لا تعلمونها ، وقيل : المعنى وننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا ، وقيل : المعنى وما يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته الذي وقتناه ، على أن المراد تمثيل حال من سلم من الموت أو تأخر أجله عن الوقت المعين له بحال من طلبه طالب فلم يلحقه وسبقه ، وقوله تعالى :
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
إلخ في موضع الحال من الضمير المستتر في مسبوقين أي حال كوننا قادرين أو عازمين على تبديل أمثالكم ، والجملة السابقة على حالها ، وقال الطبري : عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
متعلق - بقدّرنا - وعلة له وجملة وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ اعتراض ، والمعنى نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل أمثالكم أي نميت طائفة ونبدلها بطائفة هكذا قرنا بعد قرن وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى من خلقكم من نطفة ، ثم من علقه ، ثم من مضغة وقال قتادة :
هي فطرة آدم عليه السلام من التراب ولا ينكرها أحد من ولده فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ فهلا تتذكرون أن من قدر عليها فهو على النشأة الأخرى أقدر وأقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال ، وهذا - على ما قالوا - دليل على صحة القياس لكن قيل : لا يدل إلا على قياس الأولى لأنه الذي في الآية ، وفي الخبر عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى ، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور.
وقرأ طلحة تذكرون بالتخفيف وضم الكاف أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه وتردونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ الغاية أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي المنبتون لا أنتم والكلام في - أنتم - وأَمْ كما مر آنفا ، وأخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الايمان - وضعفه - وابن حبان - كما قال الخفاجي - عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل حرثت
، ثم قال أبو هريرة رضي اللّه تعالى عنه ألم تسمعوا اللّه تعالى يقول : أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» يشير رضي اللّه تعالى عنه إلى أنه عليه الصلاة والسلام أخذ النهي من

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 148
هذه الآية فإنه أسند الحرث إلى المخاطبين دون الزرع ، وقال القرطبي : إنه يستحب للزارع أن يقول بعد الاستعاذة وتلاوة هذه الآية اللّه تعالى الزارع والمنبت والمبلغ اللهم صل على محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ، وقيل : وقد جرب هذا الدعاء لدفع آفات الزرع كلها وإنتاجه لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً هشيما متكسرا متفتتا لشدة يبسه بعد ما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله فَظَلْتُمْ بسبب ذلك تَفَكَّهُونَ تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال الحسن : تندمون أي على ما تعبتم فيه ، وأنفقتم عليه من غير حصول نفع ، أو على ما اقترفتم لأجله من المعاصي ، وقال عكرمة : تلاومون على ما فعلتم ، وأصل التفكه التنقل بصنوف الفاكهة واستعير للتنقل بالحديث وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع وقد كني به في الآية عن التعجب ، أو الندم أو التلاوم على اختلاف التفاسير ، وفي البحر كل ذلك تفسير باللازم ، ومعنى تَفَكَّهُونَ تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة ، ورجل فكه منبسط النفس غير مكترث بشيء وتفكه من أخوات تحرج وتحوب أي إن التفعل فيه للسلب.
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية العتكي عنه «فظلتم» بكسر الظاء كما قالوا : مست بالكسر ومست بالفتح ، وحكاها الثوري عن ابن مسعود وجاءت عن الأعمش ، وقرأ عبد اللّه والجحدري - فظللتم - بلامين أولاهما مكسورة ، وقرأ الجحدري أيضا كذلك مع فتح اللام والمشهور ظللت بالكسر ، وقرأ أبو حزام «تفكنون» بالنون بدل الهاء ، قال ابن خالويه : تفكه بالهاء تعجب ، وتفكن بالنون تندم إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال الشاعر :
إن يعذب يكن غراما وإن يع ط جزيلا فإنه لا يبالي
والمراد مهلكون بهلاك رزقنا ، وقيل : بالمعاصي أو ملزمون غرامة بنقص رزقنا ، وقرأ الأعمش والجحدري وأبو بكر - أإنا بالاستفهام والتحقيق ، والجملة على القراءتين بتقدير قول هو في حيز النصب على الحالية من فاعل تفكهون أي قائلين ، أو تقولون ذلك بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ محدودون لا مجدودون أو محرومون الرزق كأنهم لما قالوا : إنا مهلكون لهلاك رزقنا أضربوا عنه وقالوا : بل هذا أمر قدر علينا لنحوسة طالعنا وعدم بختنا ، أو لما قالوا : إنا ملزمون غرامة بنقص أرزاقنا أضربوا فقالوا : بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ الرزق بالكلية أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ عذبا فراتا ، وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أي السحاب واحدته مزنة ، قال الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
وقيل : هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ له بقدرتنا.
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ملحا ذعاقا لا يمكن شربه من الأجيج وهو تلهب النار. وقيل : الأجاج كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار ، فإما أن يراد ذلك ، أو الملح بقرينة المقام وحذفت اللام من جواب لو هاهنا للقرينة اللفظية والحالية ومتى جاز حذف - لم أر - في قول أوس :
حتى إذا الكلاب قال لها «...» كاليوم مطلوبا ولا طلبا
والقرينة حالية فأولى أن يجوز حذفها وحدها لذلك على ما قرره الزمخشري ، وقرر وجها آخر حاصله أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمره مقدم على أمره ، وأن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 149
الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يسقى بعد أن يطعم ، وقد ذكر الأطباء أن الماء مبذرق ، ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل ، وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين فيه وجه الذكر أولا والحذف ثانيا ، ولم أره أتى بما يشرح الصدر ، وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائر : إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب ، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق ، وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد ، فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى.
فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ تحضيض على شكر الكل لأنه أفيد دون عذوبة الماء فقط كما ذهب إليه البعض.
نعم
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه «أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان إذا شرب الماء قال : الحمد للّه الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا»
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها التي منها الزناد وهي المرخ والعفار ، وقيل : المراد بالشجرة نفس النار كأنه قيل : نوعها أو جنسها فاستعير الشجرة لذلك وهو قول متكلف بلا حاجة.
أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبئ عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الأشجار التي لا تخلو عن النار حتى قيل - في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار - كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى : ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون : 14] لذلك نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً استئناف معين لمنافعها أي جعلناها تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به ، أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم لما
في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم»
وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في الأول إلى أنها من جنس نار جهنم أولا وفي الثاني نظر إلى ذلك ، وقيل : تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده ، وقيل : تبصرة في الظلام يبصر بضوئها ، وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن الكثيرين ، ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة وَمَتاعاً ومنفعة لِلْمُقْوِينَ للذين ينزلون القواء وهي القفر من أقوى دخل القواء كأصحر دخل الصحراء وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين ، أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد.
وقيل : لِلْمُقْوِينَ أي المسافرين ، ورواه جمع عن ابن عباس وعبد بن حميد عن الحسن ، وهو وابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة كم من قوم قد سافروا ثم أرملوا فأججوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها ، وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون القفراء والمفاوز ، وقيل : لِلْمُقْوِينَ للفقراء يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في القفر الفقر ، فقيل : - أقوى - فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل ، وقال ابن زيد : للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون وخصوا - على ما قيل - لأن غيرهم يتنعم بها لا يجعلها متاعا ، وتعقب بأنه بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسدّ خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ ، وقال عكرمة ومجاهد : المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 150
يستضيئون بها ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز ، قال العلامة الطيبي والطبرسي : وعلى هذا القول - المقوي - من الأضداد يقال للفقير : مقو لخلوه من المال ، وللغني مقو لقوّته على ما يريد يقال : أقوى الرجل إذا صار إلى حال القوة والمعنى متاعا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها انتهى.
وفيه بحث لا يخفى ، ولعل الأقرب عليه أنه أريد بالإقواء الاحتياج والمستمتع بها محتاج إليها فتدبر ، وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي وتقديم أمر الماء على أمر النار لأن الاحتياج إليه أشد وأكثر والانتفاع به أعم وأوفر ، وقال بعضهم : قدم أمر خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد ، ثم ذكر بعده ما به قوام الإنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغني عنه الجسد الحي وذلك الحب الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء ليعجن به فلذا ذكر بعده ثم إلى النار لتصيره خبزا فلذا ذكرت بعد الماء وهو كما ترى ، واستحسن بعضهم من القارئ أن يقول بعد كل جملة استفهامية من الجمل السابقة : بل أنت يا رب ،
فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن حجر المروي قال : بت عند عليّ كرم تعالى وجهه فسمعته وهو يصلي بالليل يقرأ فمر بهذه الآية أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ فقال : بل أنت يا رب ثلاثا ، ثم قرأ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ فقال : بل أنت يا رب ثلاثا ، ثم قرأ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ فقال : بل أنت يا رب ثلاثا ، ثم قرأ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ فقال :
بل أنت يا رب ثلاثا
،
وأنت تعلم أن في استحسان قول مثل ذلك في الصلاة اختلافا بين العلماء فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ مرتب على ما عدد من بدائع صنعه عز وجل وودائع نعمه سبحانه وتعالى ، والمراد على ما قيل : أحدث التسبيح تنزيلا للفعل المتعدي منزلة اللازم وأريد من إحداثه استمراره لا إيجاده لأنه عليه الصلاة والسلام غير معرض عنه ، وتعقبه الطيبي بأن هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث ، فالمراد تجديد التسبيح ، وفي الكلام إضمار أي سبح بذكر اسم ربك ، أو الاسم مجاز عن الذكر فإن إطلاق الاسم للشيء ذكره ، والباء للاستعانة أو الملابسة وكونها للتعدية كما هو ظاهر كلام أبي حيان ليس بشيء ، والعظيم صفة للاسم ، أو للرب ، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد إما لتنزيهه تعالى عما يقوله الجاحدون لوحدانيته عز وجل الكافرون بنعمه سبحانه مع عظمها وكثرتها ، أو للشكر على تلك النعم السابقة لأن تنزيهه تعالى وتعظيمه جل وعلا بعد ذكر نعمه سبحانه مدح عليها فهو شكر للمنعم في الحقيقة ، أو للتعجب من أمر الكفرة في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها وسبحان ترد للتعجب مجازا مشهورا فسبح بمعنى تعجب ، وأصله فقل سبحان اللّه للتعجب وفيه بعد وما تقدم أظهر.
هذا وجوز أن لا يكون في بِاسْمِ رَبِّكَ إضمار ولا مجاز بل يبقى على ظاهره فقد قالوا في قوله تعالى :
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى : 1] : كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته سبحانه عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب وهو أبلغ لأنه يلزمه تقديس ذاته عز وجل بالطريق الأولى على طريق الكناية الرمزية ، وفيه أنه إنما يتأتى لو لم تذكر الباء ، وجعلها زائدة خلاف الظاهر ، وحال كونها للتعدية قد سمعته ، وجعل بعضهم على هذا الخطاب لغير معين فقال : إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من الأمور وكان الكل معترفين بأنها من اللّه تعالى وكان الكفار إذا طولبوا بالوحدانية قالوا : نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة وذلك إشراك في الاسم ، والذي خلقنا وخلق السماوات والأرض هو اللّه تعالى فنحن ننزهه في الحقيقة قال سبحانه : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ على معنى كما أنك أيها الغافل اعترفت بعدم اشتراكها في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكها في الاسم ولا تقل لغيره تعالى إلها فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة ، فالخطاب كالخطاب في قول الواعظ يا مسكين أفنيت عمرك وما

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 151
أصلحت أمرك لا يريد به أحدا بعينه ، وإنما يريد أيها المسكين السامع وهو كما ترى ، نعم احتمال عموم الخطاب مما لا ينكر لكن لا يتعين عليه هذا التقرير ، ثم الظاهر أن المراد بذكر الرب أو ذكر اسمه سبحانه على ما تقرر سابقا ما هو المتبادر المعروف.
وفي الكشف إن المراد بذلك تلاوته صلى اللّه تعالى عليه وسلم للقرآن أو لهذه السورة الكريمة المتضمنة لإثبات البعث والجزاء ومراتب أهله لينطبق عليه قوله تعالى بعد : فَلا أُقْسِمُ وعلى الأول لا بد من إضمار - أي فسبح باسم ربك وامتثل ما أمرت به - فأقسم إنه لقرآن ، والغرض تأكيد الأمر بالتسبيح ، وأنا أقول يتأتى الانطباق على الظاهر أيضا سوى أنه يعتبر في الكلام إضمار ولا بأس بأن يقال : إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من النعم الجليلة الداعية لتوحيده سبحانه ووصفه بما يليق به عز وجل قال سبحانه : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي فنزهه تعالى عما يقولون في وصفه سبحانه ، وأقبل على إنذارهم بالقرآن والاحتجاج عليه به بعد الاحتجاج بما ذكرنا فأقسم إنه لقرآن كيت وكيت فلا في قوله عز وجل : فَلا أُقْسِمُ مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى : لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد : 29] أو هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف نظير ما في قوله :
أعوذ باللّه من العقراب واختاره أبو حيان ثم قال : وهو وإن كان قليلا فقد جاء نظيره في قوله تعالى : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم : 37] بياء بعد الهمزة وذلك في قراءة هشام.
ويؤيد قراءة الحسن وعيسى فلا قسم - وهو مبني على ما ذهب إليه تبعا لبعض النحويين من أن فعل الحال يجوز القسم عليه فيقال : واللّه تعالى ليخرج زيد وعليه قول الشاعر :
ليعلم ربي أن بيتي واسع وحينئذ لا يصح أن يقرن الفعل بالنون المؤكدة لأنها تخلصه للاستقبال وهو خلاف المراد ، والذي اختاره ابن عصفور والبصريون أن فعل الحال كما هنا لا يجوز أن يقسم عليه ومتى أريد من الفعل الاستقبال لزمت فيه النون المؤكدة فقيل : لأقسمن وحذفها ضعيف جدا ، ومن هنا خرجوا قراءة الحسن وعيسى على أن اللام لام الابتداء والمبتدأ محذوف لأنها لا تدخل على الفعل والتقدير فلأنا أقسم ، وقيل : نحوه في قراءة الجمهور على أن الألف قد تولدت من الإشباع ، وتعقب بأن المبتدأ إذ دخل عليه لام الابتداء يمتنع أو يقبح حذفه لأن دخولها لتأكيده وهو يقتضي الاعتناء به وحذفه يدل على خلافه ، وقال سعيد بن جبير وبعض النحاة : - لا - نفي وردّ لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة كأنه قيل : فلا صحة لما يقولون فيه ثم استؤنف فقيل : أُقْسِمُ إلخ ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لما فيه من حذف اسم - لا - وخبرها في غير جواب سؤال نحو - لا - في جواب هل من رجل في الدار ، وقيل : الأولى فيما إذا قصد بلا نفي لمحذوف واستئناف لما بعدها في اللفظ الإتيان بالواو نحو - لا - وأطال اللّه تعالى بقاءك ، وقال : بعضهم إن - لا - كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الاستفتاح كما في قوله :
لا وأبيك ابنة العامريّ لا يدّعي القوم أني أفرّ
وقال أبو مسلم وجمع : إن الكلام على ظاهره المتبادر منه ، والمعنى لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أي لا يحتاج إلى قسم ما فضلا عن أن هذا القسم العظيم ، فقول مفتي الديار الرومية أنه يأباه تعيين المقسم به وتفخيمه ناشىء عن الغفلة على ما لا يخفى على فطن بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي بمساقط كواكب السماء ومغاربها

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 152
كما جاء في رواية عن قتادة والحسن على أن الوقوع بمعنى السقوط والغروب وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها ، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير ، ولذا استدل الخليل عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جل وعلا ، أو لأن ذلك وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له»
وعن الحسن أيضا المراد مواقعها عند الانكدار يوم القيامة قيل : وموقع عليه مصدر ميمي أو اسم زمان ولعل وقوعها ذلك اليوم ليس دفعة واحدة والتخصيص لما في ذلك من ظهور عظمته عز وجل وتحقق ما ينكره الكفار من البعث ، وعن أبي جعفر وأبي عبد اللّه على آبائهما وعليهما السلام المراد مواقعها عند الانقضاض إثر المسترقين السمع من الشياطين
، وقد مرّ لك تحقيق أمر هذا الانقضاض فلا تغفل ، وقيل : مواقع النجوم هي الأنواء التي يزعم الجاهلية أنهم يمطرون بها ، ولعله مأخوذ من بعض الآثار الواردة في سبب النزول وسنذكره إن شاء اللّه تعالى وليس نصا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد المغارب مطلقا.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة أنها منازلها ومجاريها على أن الوقوع النزول كما يقال : على الخبير سقطت وهو شائع والتخصيص لأن له تعالى في ذلك من الدليل على عظيم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به نطاق البيان ، وقال جماعة منهم ابن عباس : النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها.
وأخرج النسائي وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أن قال : «أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين» وفي لفظ «ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ فلا أقسم بمواقع النجوم»
وأيد هذا القول بأن الضمير في قوله تعالى بعد : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ يعود حينئذ على ما يفهم من مواقع النجوم حتى يكاد يعدّ كالمذكور صريحا ولا يحتاج إلى أن يقال يفسره السياق كما في سائر الأقوال ، ووجه التخصيص أظهر من أن يخفى ، ولعل الكلام عليه من باب «وثناياك إنها إغريض».
وقرأ ابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي «بموقع» مفردا مرادا به الجمع.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ مشتمل على اعتراض في ضمن آخر فقوله تعالى : إِنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ معترض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله سبحانه : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وهو تعظيم للقسم مقرر مؤكد له ، وقوله عز وجل لَوْ تَعْلَمُونَ معترض بين الصفة والموصوف وهو تأكيد لذلك التعظيم وجواب لَوْ إما متروك أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره أي لعظمتموه أو لعملتم بموجبه ، ووجه كون ذلك القسم عظيما قد أشير إليه فيما مر ، أو هو ظاهر بناء على أن المراد بِمَواقِعِ النُّجُومِ ما روي عن ابن عباس والجماعة ، ومعنى كون القرآن كريما أنه حسن مرضي في جنسه من الكتب أو نفاع جم المنافع ، وكيف لا وقد اشتمل على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش ، والمعاد ، والكرم على هذا مستعار - كما قال الطيبي - من الكرم المعروف.
وقيل : الكرم أعم من كثرة البذل والإحسان والاتصاف بما يحمد من الأوصاف ككثرة النفع فإنه وصف محمود فكونه كرما حقيقة ، وجوز أن يراد كريم على اللّه تعالى قيل : هو يرجع لما تقدم ، وفيه تقدير من غير حاجة وأيا ما كان فمحط الفائدة الوصف المذكور قيل : إن مرجع الضمير هو القرآن لا من حيث عنوان كونه قرآنا فبمجرد الإخبار عنه بأنه قرآن تحصل الفائدة أي إنه لمقروء على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا أنه أنشأه كما زعمه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 153
الكفار ، وقوله تعالى : فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ وصف آخر للقرآن أي كائن في كتاب مصون عن غير المقربين من الملائكة عليهم السلام لا يطلع عليه من سواهم ، فالمراد به اللوح المحفوظ كما روي عن الربيع بن أنس وغيره ، وقيل : أي في كتاب مصون عن التبديل والتغيير وهو المصحف الذي بأيدي المسلمين ويتضمن ذلك الإخبار بالغيب لأنه لم يكن إذ ذاك مصاحف ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة أنه قال : في كتاب أي التوراة والإنجيل ، وحكي ذلك في البحر ثم قال : كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه ، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة انتهى.
والظاهر أنه أريد على هذا بالكتاب الجنس لتصح إرادة التوراة والإنجيل ، وفي وصف ذلك بالمكنون خفاء ولعله أريد به جليل الشأن عظيم القدر فإن الستر كاللازم للشيء الجليل ، وجوز إرادة هذا المعنى المجازي على غير هذا القول من الأقوال ، وقيل : الكتاب المكنون قلب المؤمن وهو كما ترى.
وقيل : المراد من كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التغيير والتبديل ليس إلا كما قال تعالى : وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف : 63] والمعول عليه ما تقدم ، وجوز تعلق الجار بكريم كمايقال زيد كريم في نفسه ، والمعنى إنه كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريما عند الكفار ، والوصفية أبلغ كما لا يخفى ، وقوله تعالى : لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إما صفة بعد صفة لكتاب مرادا به اللوح ، فالمراد بالمطهرون الملائكة عليهم السلام أي المطهرون المنزهون عن كدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية ، وقيل : عن كدر الأجسام ودنس الهيولى والطهارة عليهما طهارة معنوية ، ونفي مسه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه وعلى ما فيه ، وإما صفة أخرى لقرآن.
والمراد بالمطهرون المطهرون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر بحمل الطهارة على الشرعية ، والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة من الناس فالنفي هنا نظير ما في قوله تعالى : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور : 3] وقوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه» الحديث
وهو بمعنى النهي بل أبلغ من النهي الصريح ، وهذا أحد أوجه ذكروها للعدول عن جعل - لا - ناهية ، وثانيها أن المتبادر كون الجملة صفة والأصل فيها أن تكون خبرية ولا داعي لاعتبار الإنشائية وارتكاب التأويل ، وثالثها أن المتبادر من الضمة أنها إعراب فالحمل على غيره فيه إلباس ، ورابعها أن عبد اللّه قرأ ما يمسه وهي تؤيد أن لا نافية وكون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام مروي من عدة طرق عن ابن عباس ، وكذا أخرجه جماعة عن أنس وقتادة وابن جبير ومجاهد وأبي العالية وغيرهم إلا أن في بعض الآثار عن بعض هؤلاء ما هو ظاهر في أن الضمير في لا يَمَسُّهُ مع كون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام راجع إلى القرآن.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال : في الآية ذاك عند رب العالمين لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس ، والمنافق الرجس ، وأخرجاهما وابن المنذر والبيهقي في المعرفة عن الحبر قال : في الآية الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة ، ويشير إليه ما أخرج ابن المنذر عن النعيمي قال :
قال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ أنها بمنزلة الآية التي في عبس كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس : 11 - 16] وكون المراد بهم المطهرين من الأحداث مروي عن محمد الباقر على آبائه وعليه السلام وعطاء وطاوس وسالم.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان - يعني الفارسي - رضي اللّه تعالى عنه فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا فخرج إلينا فقلنا لو توضأت

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 154
فسألناك عن أشياء من القرآن؟ فقال : سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، وقيل : الجملة صفة لقرآن ، والمراد - بالمطهرون - المطهرون من الكفر ، والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى : أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الجن : 8] أي لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر ، ولم أر هذا مرويا عن أحد من السلف ، والنفي عليه على ظاهره ، ورجح جمع جعل الجملة وصفا للقرآن لأن الكلام مسوق لحرمته وتعظيمه لا لشأن الكتاب المكنون ، وإن كان في تعظيمه تعظيمه. وصحح الإمام جعلها وصفا للكتاب - وفيه نظر - وعلى الوصفية للقرآن ذهب من ذهب إلى اختيار تفسير المطهرين بالمطهرين عن الحدث الأكبر والأصغر.
وفي الأحكام للجلال السيوطي استدل الشافعي بالآية على منع المحدث من مس المصحف وهو ظاهر في اختيار ذلك ، والاحتمال جعل الجملة صفة للكتاب المكنون أو للقرآن ، وكون المراد بالمطهرين الملائكة المقربين عليهم السلام على ما سمعت عن ابن عباس وقتادة عدل الأكثرون عن الاستدلال بها على ذلك إلى الاستدلال بالأخبار ،
فقد أخرج الامام مالك وعبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد اللّه بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لعمرو بن حزم «ولا تمس القرآن إلا على طهور».
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لا يمس القرآن إلا طاهر»
إلى غير ذلك ، وقال بعضهم : يجوز أن يؤخذ منع مس غير الطاهر القرآن من الآية على الاحتمالين الآخرين أيضا ، وذلك لأنها أفادت تعظيم شأن القرآن وكونه كريما ، والمس بغير طهر مخل بتعظيمه فتأباه الآية وهو كما ترى ، وأطال الإمام الكلام في هذا المقام بما لا يخفى حاله على من راجعه ، نعم لا شك في دلالة الآية على عظم شأن القرآن ومقتضى ذلك الاعتناء بشأنه ولا ينحصر الاعتناء بمنع غير الطاهر عن مسه بل يكون بأشياء كثيرة كالإكثار من تلاوته والوضوء لها وأن لا يقرأه الشخص وهو متنجس الفم فإنه مكروه.
وقيل : حرام كالمس باليد المتنجسة ، وكون القراءة في مكان نظيف ، والقارئ مستقبل القبلة متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه ، والاستياك لقراءته ، والترتيل ، والتدبر ، والبكاء ، أو التباكي ، وتحسين الصوت بالقراءة وأن لا يتخذه معيشة ، وأن يحافظ على أن لا ينسى آية أوتيها منه ،
فقد أخرج أبو داود وغيره «عرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها
، وأن لا يجامع بحضرته فإن أراد ستره ، وأن لا يضع غيره من الكتب السماوية وغيرها فوقه ، وأن لا يقلب أوراقه بأصبع عليها بزاق ينفصل منه شيء فقد قيل بكفر من يفعل ذلك إلى أمور أخر مذكورة في محالها ، وفي وجوب كون القارئ طاهرا من الأحداث خلاف ، فعن ابن عباس في رواية أنه يجوز للجنب قراءة القرآن ، وروي ذلك أيضا عن الإمام أبي حنيفة ، وعن ابن عمر أحب إلي أن لا يقرأ إلا طاهر وكأنهم اعتبروه كسائر الأذكار والفرق مثل الشمس ظاهر.
وقرأ عيسى «المطهرون» اسم مفعول مخففا من أطهر ، ورويت عن نافع وأبي عمرو ، وقرأ سلمان الفارسي رضي اللّه تعالى عنه «المطهّرون» بتخفيف الطاء وتشديد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر أي الْمُطَهَّرُونَ أنفسهم ، أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام ، وعنه أيضا «المطّهّرون» بتشديدهما وأصله المتطهرون فأدغم التاء بعد إبدالها في الطاء ورويت عن الحسن وعبد اللّه بن عون ، وقرىء المتطهرون على الأصل تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة أخرى للقرآن أي منزل ، أو وصف بالمصدر لأنه ينزل نجوما من بين سائر كتب اللّه تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك أجري مجرى بعض أسمائه فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل.
وجوز كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل على الاستئناف ، وقرىء تنزيلا بالنصب على نزل تنزيلا.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 155
[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 إلى 96]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)
فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90)
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أي أتعرضون فبهذا الحديث الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله والإيمان بما تضمنه وأرشد إليه وهو القرآن الكريم أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به ، وأصل الادهان كما قيل : جعل الأديم ونحوه مدهونا بشيء من الدهن ولما كان ذلك ملينا لينا محسوسا يراد به اللين المعنوي على أنه تجوز به عن مطلق اللين أو استعير له ، ولذا سميت المداراة مداهنة وهذا مجاز معروف ولشهرته صار حقيقة عرفية ، ولذا تجوز به هنا عن التهاون أيضا لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه وعن ابن عباس والزجاج مُدْهِنُونَ أي مكذبون وتفسيره بذلك لأن التكذيب من فروع التهاون.
وعن مجاهد أي منافقون في التصديق به تقولون للمؤمنين آمنا به وإذا خلوتم إلى إخوانكم قلتم : إنا معكم والخطاب عليه للمنافقين وما قدمناه أولى ، والخطاب عليه للكفار كما يقتضيه السياق.
وجوز أن يراد بهذا الحديث ما تحدثوا به من قبل في قوله سبحانه : وكانوا يقولون أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة : 47 ، 48] فالكلام عود إلى ذلك بعد رده كأنه قيل : أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به في إنكار البعث أنتم مدهنون أصحابكم أي تعلمون خلافه وتقولونه مداهنة أم أنتم به جازمون وعلى الإصرار عليه عازمون ، ولا يخفى بعده ، وفيه مخالفة لسبب النزول وستعلمه قريبا إن شاء اللّه تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ شكركم
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا ، أخرج ذلك الإمام أحمد والترمذي وحسنه والضياء في المختارة وجماعة عن علي كرم اللّه تعالى وجهه عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم
هو إما إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن في الكلام مضافا مقدرا أي شكر رزقكم أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر ، وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة ازدشنوءة ما رزق فلان فلانا بمعنى شكره ، ونقل عن الكرماني أنه نقل في شرح البخاري أن الرزق من أسماء الشكر واستبعد ذلك ولعله هو ما حكاه الهيثم ، وفي البحر وغيره أن عليا كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس قرآ - شكركم - بدل رِزْقَكُمْ
وحمله بعض شراح البخاري على التفسير من غير قصد للتلاوة وهو خلاف الظاهر ، وقد أخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه «الواقعة» في الفجر فقال : «وتجعلون - شكركم - أنكم تكذبون» فلما انصرف قال : إني قد عرفت أنه سيقول قائل لم قرأها هكذا إني سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقرأ كذلك كانوا إذا أمطروا قالوا : أمطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل اللّه تعالى - وتجعلون - شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون -
ومعنى جعل شكرهم التكذيب جعل التكذيب مكان الشكر فكأنه عينه عندهم فهو من باب.
تحية بينهم ضرب وجيع ومنه قول الراجز :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 156
وكان شكر القوم عند المنن كي الصحيحات وفقء الأعين
وأكثر الروايات أن قوله تعالى : وَتَجْعَلُونَ إلخ نزل في القائلين : مطرنا بنوء كذا من غير تعرض لما قبل.
وأخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : «مطر الناس على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا : هذه رحمة وضعها اللّه وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة : 75] حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
وأخرج نحوه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها وكان ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عروة رضي اللّه تعالى عنه في غزوة تبوك نزلوا الحجر فأمرهم صلّى اللّه عليه وسلم أن لا يحملوا من مائه شيئا ثم ارتحلوا ونزلوا منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقام عليه الصلاة والسلام فصلى ركعتين ثم دعا فأمطروا وسقوا فقال رجل من الأنصار يتهم بالنفاق : إنما مطرنا بنوء كذا فنزل ما نزل
، ولعل جمعا من الكفار قالوا نحو ذلك أيضا بل هم لم يزالوا يقولون ذلك ، والأخبار متضافرة على أن الآية في القائلين بالأنواء ، بل قال ابن عطية : أجمع المفسرون على أنها توبيخ لأولئك ، وظاهر مقابلة الشكر بالكفر في الحديث السابق أن المراد بالكفر كفران النعمة إذا أضيفت لغير موجدها جل جلاله وقد صح ذكره مع الإيمان ،
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما سلم أقبل علينا فقال : هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم فقال : قال : ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي»
والآية على القول بنزولها في قائلي ذلك ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل اللّه تعالى ، والنوء ميقات وعلامة له فإنه ليس بكفر ، وقيل : تسميته كفرا لأنه يفضي إليه إذا اعتقد أنه مؤثر حقيقة.
هذا وقيل : معنى الآية - وتجعلون شكركم - لنعمة القرآن - أنكم تكذبون - به ، ويشير إلى ذلك ما رواه قتادة عن الحسن : بئس ما أخذ القوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب اللّه تعالى إلا التكذيب.
وفي الإرشاد أنه الأوفق لسياق النظم الكريم وسباقه ، وأقول ما قدمناه تفسير مأثور نطقت به السنة المقبولة ، وذهب إليه الجمهور وليس فيه ما يأبى إرادة معنى مطابق لسبب النزول وموافق لسياق النظم الكريم وسباقه ، وذلك بأن يقال : إنه عز وجل بعد أن وصف القرآن بما دل على جلالة شأنه وعزة مكانه وأشعر باشتماله على ما فيه تزكية النفوس وتحليتها بما يوجب كمالها من العقائد الحقة ونحوها حيث قال سبحانه : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فعبر جل وعلا عن ذاته سبحانه بلفظ الرب الدال على التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا.
وقد يستفاد ذلك من وصفه بكريم بناء على أن المراد به نفاع جم المنافع فإنه لا منفعة أجل مما ذكر وكان قد ذكر عز وجل غير بعيد ما يدل على أنه تعالى هو المنزل لماء المطر لا غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا قال عز قائلا :
أفبهذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على العقائد الحقة المرشد إلى ما فيه نفعكم أنتم متهاونون فلا تشكرون اللّه تعالى عليه وتجعلون بدل شكركم أنكم تكذبون به ، ومن ذلك أنكم تقولون إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا وكذا فتسندون إنزال المطر إلى الكواكب وقد أرشدكم غير مرة إلى ما يأبى ذلك من العقائد وهداكم إلى أنه تعالى هو المنزل للمطر لا الكواكب ولا غيرها أصلا - فما جاء من تفسير تكذبون بتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ليس المراد منه إلا بيان نوع

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 157
اقتضاه الحال من التكذيب بالقرآن المنعوت بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار تكذيبا به مما لا ينتطح فيه كبشان ، وهذا لا تمحل فيه ، وقد يقال على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون تُكَذِّبُونَ على معنى تكذبون بكونه - أي المطر - من اللّه تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه ، المعنى أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس والزجاج ومن ذلك أنكم تَجْعَلُونَ موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم تكذبون بكونه من اللّه تعالى وتنسبونه إلى الأنواء ، والتبكيت الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من تُكَذِّبُونَ أو من قوله سبحانه : أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لكن التكذيب به باعتبار التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر غير بدع في القرآن الكريم ، وحال عطف تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ على ما قبله لا يخفى على نبيه ، فتأمل واللّه تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم.
وقرأ المفضل عن عاصم «تكذبون» بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في القرآن إنه - وحاشاه - افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر : إنه من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه ، وقوله تعالى : فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ إلخ تبكيت كما سمعت وذلك باعتبار تكذيبهم بما نطق به قوله تعالى : نَحْنُ خَلَقْناكُمْ إلخ أعني الآيات الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم - ولولا - للتحضيض بإظهار عجزهم ، وإِذا ظرفية ، والْحُلْقُومَ مجرى الطعام وضمير بَلَغَتِ للنفس لانفهامها من الكلام وإن لم يجر لها ذكر قبل ، والمراد بها الروح بمعنى البخار المنبعث عن القلب دون النفس الناطقة فإنها لا توصف بما ذكر وكأنه مبني على القول بتجرد النفس الناطقة وهي المسماة بالروح الأمرية ، وأنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتصف بصفات الأجسام كالصعود والنزول وغيرهما على ما اختاره حجة الإسلام الغزالي وجماعة من المحققين ، ومذهب السلف أن النفس الناطقة وهي الروح المشار إليها بقوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء : 85] جسم لطيف جدا سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو حي بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام وقد رد العلامة ابن القيم قول الغزالي ومن وافقه بأدلة كثيرة ذكرها في كتابه الروح ، ووصفها ببلوغ الحلقوم عليه ظاهر.
وأما على القول بالتجرد وعدم التحيز فقيل : المراد به ضعف التعلق بالبدن وقرب انقطاعه عنه فكأنه قيل : فلولا إذا حان انقطاع تعلق الروح بالبدن وَأَنْتُمْ أيها الخاسرون حول صاحبها حِينَئِذٍ أي حين إذ بلغت الحلقوم ووصلت إليه أو حان انقطاع تعلقها تَنْظُرُونَ إلى ما يقاسيه من الغمرات ، وقيل : تَنْظُرُونَ حالكم ووجهه أنهم يعلمون أن ما جرى عليه يجري عليهم فكأنهم شاهدوا حال أنفسهم وليس بذاك.
وقرأ عيسى حينئذ بكسر النون اتباعا لحركة الهمزة في إذ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي المحتضر المفهوم من الكلام مِنْكُمْ والمراد بالقرب العلم وهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب فإن القرب أقوى سبب للاطلاع والعلم ، وقال غير واحد : المراد القرب علما وقدرة أي نحن أقرب إليه من كل ذلك منكم حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدّة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها الحقيقية ولا أن تقدروا على مباشرة دفعها إلا بما لا ينجع شيئا ونحن المستولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ لا تدركون كوننا أقرب إليه منكم لجهلكم بشؤوننا وقد علمت أن الخطاب

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 158
للكفار ، وقيل : لا تدركون كنه ما يجري عليه على أن الاستدراك من تنظرون والابصار من البصر بالعين تجوّز به عن الإدراك أو هو من البصيرة بالقلب وقيل : أريد بأقربيته تعالى إليه منهم أقربية رسله عز وجل أي ورسلنا الذين يقبضون روحه ويعالجون إخراجها أقرب إليه منهم ولكن لا تبصرونهم فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي غير مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم وتعبدهم ، ومنه قيل للعبد : مدين وللأمة مدينة قال الأخطل :
ربت وربا في حجرها ابن مدينة تراه على مسحاته يتركل
والكلام ناظر إلى قوله تعالى : نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ [الواقعة : 57] ، وقيل : هو من دان بمعنى انقاد وخضع ، وتجوز به عن الجزاء كما في قولهم - كما تدين تدان - أي فلولا إن كنتم غير مجزيين وجعل ناظرا لإنكارهم البعث وليس بشيء تَرْجِعُونَها أي الروح إلى مقرها والقائلون بالتجرد يقولون أي ترجعون تعلقها كما كان أولا.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في اعتقادكم عدم خالقيته تعالى فإن عدم تصديقهم بخالقيته سبحانه لهم عبارة عن تصديقهم بعدمها على مذهبهم ، وفي البحر وغيره إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد ونسبتكم إنزال المطر إلى الأنواء دونه عز وجل ، وترجعون المذكور هو العامل - بإذا - الظرفية في إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وهو المحضض عليه - بلولا - الأولى ، ولولا الثانية تكرير للتأكيد ، ولولا الأولى مع ما في حيزها دليل جواب الشرط الأول أعني إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ والشرط الثاني مؤكد للأول مبين له ، وقدم أحد الشرطين على تَرْجِعُونَها للاهتمام والتقدير - فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين صادقين فيما تزعمونه من الاعتقاد الباطل فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم - وحاصل المعنى أنكم إن كنتم غير مربوبين كما تقتضيه أقوالكم وأفعالكم فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغت الحلقوم وتردونها كما كانت بقدرتكم أو بواسطة علاج للطبيعة ، وقوله تعالى : وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ جملة حالية من فاعل بَلَغَتِ والاسمية المقترنة بالواو لا تحتاج في الربط للضمير لكفاية الواو فلا حاجة إلى القول بأن العائد ما تضمنه حينئذ لأن التنوين عوض عن جملة أي فلولا ترجعونها زمان بلوغها الحلقوم حال نظركم إليه وما يقاسيه من هول النزع مع تعطفكم عليه وتوفركم على إنجائه من المهالك ، وقوله سبحانه : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلخ اعتراض يؤكد ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم بربهم سبحانه منهم ، وفي جواز جعله حالا مقال.
وقال أبو البقاء : تَرْجِعُونَها جواب لولا الأولى ، وأغنى ذلك عن جواب الثانية ، وقيل : عكس ذلك.
وقيل : إِنْ كُنْتُمْ شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدما في التقدير - أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مربوبين فارجعوا الأرواح إلى الأبدان - وما ذكرناه سابقا اختيار جار اللّه وأيّا ما كان فقوله تعالى : فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى آخره شروع في بيان حال المتوفى بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة وضمير كانَ للمتوفى المفهوم مما مر أي فأما إن كان المتوفى الذي بين حاله من السابقين من الأزواج الثلاثة عبر عنهم بأجل أوصافهم فَرَوْحٌ أي فله روح على أنه مبتدأ خبره محذوف مقدم عليه لأنه نكرة ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي فجزاؤه روح أي استراحة ، والفاء واقعة في جواب أما ، قال بعض الأجلة : تقدير هذا الكلام مهما يكن من شيء فروح إلخ إن كان من المقربين فحذف مهما يكن من شيء ، وأقيم أما مقامه ولم يحسن أن يلي الفاء أما ، فأوقع الفصل بين أما والفاء بقوله سبحانه : إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ لتحسين اللفظ كما يقع الفصل بينهما بالظرف والمفعول ، والفاء في فَرَوْحٌ وأخويه جواب أما دون إِنْ ، وقال أبو البقاء : جواب أما فَرَوْحٌ ، وأما إِنْ فاستغنى بجواب أما عن جوابها

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 159
لأنه يحذف كثيرا ، وفي البحر أنه إذا اجتمع شرطان فالجواب للسابق منهما ، وجواب الثاني محذوف ، فالجواب هاهنا لأما ، وهذا مذهب سيبويه.
وذهب الفارسي إلى أن المذكور جواب إِنْ وجواب أما محذوف ، وله قول آخر موافق لمذهب سيبويه.
وذهب الأخفش إلى أن المذكور جواب لهما معا ، وقد أبطلنا المذهبين في شرح التسهيل انتهى ، والمشهور أنه لا بد من لصوق الاسم - لأما - وهو عند الرضي وجماعة أكثري لهذه الآية ، والذاهبون إلى الأول قالوا : هي بتقدير فأما المتوفى إِنْ كانَ وتعقب بأنه لا يخفى أن التقدير مستغنى عنه ولا دليل عليه إلا اطراد الحكم ، ثم إن كون - أما - قائمة مقام مهما يكن أغلبي إذ لا يطرد في نحو أما قريشا فأنا أفضلها إذ التقدير مهما ذكرت قريشا فأنا أفضلها ، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من كتب العربية.
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وآخرون عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقرأ «فروح» بضم الراء
، وبه قرأ ابن عباس وقتادة ونوح القاري والضحاك والأشهب وشعيب وسليمان التيمي والربيع بن خيثم ومحمد بن علي وأبو عمران الجوني والكلبي وفياض وعبيد وعبد الوارث عن أبي عمرو ويعقوب بن حسان وزيد ورويس عنه والحسن وقال :
«الروح» الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم ، أو سبب لحياته الدائمة فإطلاقه عليها من باب الاستعارة أو المجاز المرسل ، وروي هذا عن قتادة أيضا. وقال ابن جني : معنى هذه القراءة يرجع إلى معنى الروح فكأنه قيل : فله ممسك روح وممسكها هو الروح كما تقول : الهواء هو الحياة وهذا السماع هو العيش ، وفسر بعضهم الروح بالفتح بالرحمة أيضا كما في قوله تعالى : وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف : 87] وقيل : هو بالضم البقاء وَرَيْحانٌ أي ورزق كما روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك ، وفي رواية أخرى عن الضحاك أنه الاستراحة ، وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال : هو هذا الريحان أي المعروف.
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : تخرج روح المؤمن من جسده في ريحانة : ثم قرأ فَأَمَّا إِنْ كانَ إلخ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : لم يكن أحد من المقربين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان الجنة فيشمهما ثم يقبض وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي ذات تنعم فالإضافة لامية أو لأدنى ملابسة ، وهذا إشارة إلى مكان المقربين بحيث يلزم منه أن يكونوا أصحاب نعيم.
وأخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن خيثم قال في قوله تعالى : فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ : هذا له عند الموت ، وفي قوله تعالى : وَجَنَّةُ نَعِيمٍ تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث ولينظر ما المراد بالريحان على هذا ، وعن بعض السلف ما يقتضي أن يكون الكل في الآخرة.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف ينبىء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الأخيرين ، وقوله تعالى : فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ قيل : هو على تقدير القول أي فيقال لذلك المتوفى منهم سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله تعالى : لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة : 25 ، 26] فالخطاب لصاحب اليمين ولا التفات فيه مع تقدير القول ، ومِنْ للابتداء كما تقول سلام من فلان على فلان وسلام لفلان منه.
وقال الطبري : معناه فسلام لك أنت من أصحاب اليمين ، فمن أصحاب اليمين خبر مبتدأ محذوف والكلام

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 160
بتقدير القول أيضا ، وكأن هذا التفسير مأخوذ من كلام ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في ذلك : تأتيه الملائكة من قبل اللّه تعالى تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين ، والظاهر أن هذا على هذا المعنى عند الموت ، وأنه على المعنى السابق في الجنة.
وجوز أن يكون المعنى فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم في خير أي كن فارغ البال عنهم لا يهمك أمرهم ، وهذا كما تقول لمن علق قلبه بولده الغائب وتشوش فكره لا يدري ما حاله كن فارغ البال من ولدك فإنه في راحة ودعة ، والخطاب لمن يصلح له أو لسيد المخاطبين صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وعليه قيل : يجوز أن يكون ذلك تسلية له عليه الصلاة والسلام على معنى أنهم غير محتاجين إلى شفاعة وغيرها ، ولا يخفى أن كون جميع أصحاب اليمين غير محتاجين إلى ما ذكر غير مسلم فالشفاعة لأهل الكبائر أمر ثابت عند أهل السنة ولا جائز أن يكونوا من أصحاب الشمال فصرائح الآيات أنهم كفار «وما لهم من ولي ولا شفيع يطاع» وكونهم من أصحاب اليمين أقرب من كونهم من السابقين وجعلهم قسما على حدة قد علمت حاله فتذكر فما في العهد من قدم.
وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة كلام يفيد عظمة حالهم كما يقال فلان ناهيك به وحسبك أنه فلان إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل ، وكأني بك تختار ذلك فإنه حسن لطيف.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى : ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الواقعة : 51] ذمّا لهم بذلك وإشعارا بسبب ما ابتلوا به من العذاب ، ولما وقع هذا الكلام بعد تحقق تكذيبهم ورده على أتم وجه ولم يقع الكلام السابق كذلك قدم وصف التكذيب هنا على عكس ما تقدم ، ويجوز أن يقال في ذلك على تقدير عموم متعلق التكذيب بحيث يشمل تكذيبه صلّى اللّه عليه وسلم في دعوى الرسالة إن هذا الكلام إخبار من جهته سبحانه بأحوال الأزواج الثلاثة لم يؤمر عليه الصلاة والسلام بأن يشافه بكل جمله منه من هي فيه فقدم فيه وصف التكذيب الشامل لتكذيبه عليه الصلاة والسلام المشعر بسبب الابتلاء بالعذاب كرامة له صلّى اللّه عليه وسلم وتنويها بعلو شأنه ، ولما كان الكلام السابق داخلا في حيز القول المأمور عليه الصلاة والسلام بأن يشافه به أولئك الكفرة لم يحسن التقديم للكرامة إذ يكون حينئذ من باب مادح نفسه يقرئك السلام ، ويجوز أن يقال أيضا إن الكلام في حال الكافر المحتضر والتكذيب لكونه مقابل التصديق لا يكون إلا بالقلب وهو لم يتعطل منه تعطل سائر أعضائه فلذا قدم هنا ، ويرشد إلى هذا ما قالوه في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان من وجه تخصيص الإسلام بالإحياء والإيمان بالإماتة.
وقال الإمام في ذلك : إن المراد من الضلال هناك ما صدر عنهم من الإصرار على الحنث العظيم فضلوا عن سبيل اللّه تعالى ولم يصلوا إليه ثم كذبوا رسله ، وقالُوا أَإِذا مِتْنا [المؤمنون : 82] إلخ فكذبوا بالحشر فقال تعالى : أَيُّهَا الضَّالُّونَ الذين أشركتم المكذبون الذين أنكرتم الحشر لآكلون ما تكرهون ، وأما هنا فقال سبحانه لهم : أيها المكذبون الذين كذبتم بالحشر الضالون من طريق الخلاص الذي لا يهتدون إلى النعيم ، وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هناك مع الكفار فقال سبحانه : أيها الذين أشركتم أولا وكذبتم ثانيا ، والخطاب هنا مع النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم يبين له عليه الصلاة والسلام حال الأرواح الثلاثة كما يدل عليه. فسلام لك فقال سبحانه : المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم وأصحاب اليمين في سلامة ، وأما المكذبون الذين كذبوك وضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامته صلى اللّه تعالى عليه وسلم حيث بين أن أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم انتهى.
وعليك بالتأمل والإنصاف والنظر لما قال دون النظر لمن قال ، وقوله تعالى : فَنُزُلٌ بتقدير فله نزل أو فجزاؤه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 161
نزل كائن مِنْ حَمِيمٍ قيل : يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي إدخال في النار ، وقيل : إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وكل ذلك مبني على أن المراد بيان ما لهم يوم القيامة ، وقيل : هذا محمول على ما يجده في القبر من حرارة النار ودخانها لأن الكلام في حال التوفي وعقب قبض الأرواح والأنسب بذلك كون ما ذكر في البرزخ ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : لا يخرج الكافر حتى يشرب كأسا من حميم ، وقرأ أحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو «وتصلية» بالجر عطفا على حَمِيمٍ إِنَّ هذا أي الذي ذكر في السورة الكريمة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ اليقين على ما يفهم من كلام الزمخشري في الجاثية اسم للعلم الذي زال عنه اللبس وبذلك صرح صاحب المطلع وذكر أنه تفسير بحسب المعنى وهو مأخوذ من المقام وإلا فهو العلم المتيقن مطلقا والإضافة بمعنى اللام والمعنى - لهو عين اليقين - فهو على نحو عين الشيء ونفسه ولا يخفى أن الإضافة من إضافة العام إلى الخاص وكونها بمعنى اللام قول لبعضهم ، وقال بعض آخر : إنها بيانية على معنى من ، وقدر بعضهم هنا موصوفا أي لهو حق الخبر اليقين وكونه لا يناسب المقام غير متوجه ، وفي البحر قيل : إن الإضافة من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة كما تقول هذا يقين اليقين وصواب الصواب بمعنى أنه نهاية في ذلك فهما بمعنى أضيف أحدهما إلى الآخر للمبالغة وفيه نظر ، والفاء في قوله تعالى : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لترتيب التسبيح أو الأمر به ، فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب التسبيح عما لا يليق مما ينسبه الكفرة إليه سبحانه قالا أو حالا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وأخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال : «لما نزلت على رسول اللّه
صلى اللّه تعالى عليه وسلم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال : اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال : اجعلوها في سجودكم».
«ومما قاله السادة أرباب الاشارة» متعلقا ببعض هذه السورة الكريمة أن «الواقعة» اسم لقيامة الروح كما أن «الآزفة» اسم لقيامة الخفي ، و«الحاقة» اسم لقيامة السر ، و«الساعة» اسم لقيامة القلب ، وقالوا : إن الواقعة إذا وقعت ترفع صاحبها طورا وتخفضه طورا وتشعل نيران الغيرة وتفجر أنهار المعرفة وتحصل للسالك إذا اشتغل بالسلوك والتصفية ووصل ذكره إلى الروح وهي في البداية مثل ستر أسود يجيء من فوق الرأس عند غلبة الذكر وكلما زاد في النزول يقع على الذاكر هيبة وسكينة وربما يغمى عليه في البداية ويشاهد إذا وقع على عينيه عوالم الغيب فيرى ما شاء اللّه تعالى أن يرى وتكشف له العلوم الروحانية ويرى عجائب وغرائب لا تحصى ، وإذا أفاق فليعرض ما حصل له لمسلكه ليرشده إلى ما فيه مصلحة وقته ويعبر له ما هو مناسب لحوصلته ويقوى قلبه ويأمره بالذكر والتوجه الكلي حتى يكمل بصفو سر الواقعة فيكون سرا منورا فربما يصير السالك بحيث إذا فتح عينيه بعد نزولها في عالم الشهادة يشاهد ما كان مشاهدا له فيها وهي حالة سنية معتبرة عند أرباب السلوك - فليس لوقعتها كاذبة - بل هي صادقة لأن الشيطان يفر عندها والنفس لا تقدر أن تلبس على صاحبها وهي اليقظة الحقيقية وما يعده الناس يقظة هو النوم كما يشير إليه
قول أمير المؤمنين علي كرم اللّه تعالى وجهه : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا
،
ثم إنهم تكلموا على أكثر ما في السورة الجليلة بما يتعلق بالأنفس ، وقالوا في مواقع النجوم : إنها إشارة إلى اللطائف المطهرة لأنها مواقع نجوم الواردات القدسية الخفية من السماء الجبروتية اللاهوتية ، وقيل : في قوله تعالى : لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم يكن طاهر النفس من حدث الميل إلى صغائر الشهوات - وهو الحدث الأصغر - ومن حدث الميل إلى كبائر الشهوات - وهو الحدث الأكبر - أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم كما لا ينبغي

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 162
لمن لم يكن طاهر البدن من الحدثين المعروفين في البدن أن يمس بيد بدنه وجسده ألفاظه المكتوبة ، وقيل : أيضا يجوز أن يقال المعنى لا يصل إلى أدبي حقائق أسرار القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس المخالفات.
وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب المكنون المراد منه اللوح المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام ، وكان المعنى لا يطلع عليه إلا الملائكة عليهم السلام كان في ذلك ردّ على من يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه ، وحمل المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم السلام لا ينفع في البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو هو أنه نظر يوما وهو بين أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع على شيء مما فيه. وقال لهم : إني رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على كذا وكذا فيه ، وكذلك لم يسمع عن أجلة أصحابه الخلفاء الراشدين أنه وقع لهم ذلك ، وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ.
وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها وأن اللوح فوقها بكثير ، وبكل من ذلك نطقت الآثار ، وهو يشعر بعدم اطلاع الأولياء على اللوح ، ومع هذا كله من ادعى وقوع الاطلاع فعليه البيان وأنى به ، وهذا الذي سمعت مبني على ما نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وأما إذا قيل فيه غير ذلك انجر البحث إلى وراء ما سمعت ، واتسعت الدائرة.
ومن ذلك قولهم : إن الألواح أربعة ، لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول ، ولوح القدر أي لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ ، ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقداره - وهو المسمى بالسماء الدنيا - وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه ولوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة ويقولون أيضا ما يقولون وينشد المنتصر له قوله :
وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكراماتهم الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ اللّه تعالى من ذلك ، وطرق إطلاع اللّه تعالى من شاء من أوليائه على من شاء من علمه غير منحصر بإراءته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه وليس الكلام إلا في الوقوع ، وورود ذلك عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأجلة أصحابه كالصديق والفاروق وذي النورين وباب مدينة العلم والنقطة التي تحت الباء رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين ، واللّه تعالى أعلم.
وقالوا في قوله تعالى : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ما بنوه على القول بوحدة الوجود والكلام فيها شائع - وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب غير مرة - ولهم في اليقين وعين اليقين وحق اليقين عبارات شتى ، منها اليقين رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان وقيل : مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار ، وقيل : طمأنينة القلب على حقيقة الشيء من يقن الماء في الحوض إذا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 163
استقر ، وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء به علما وشهودا وحالا لا علما فقط فعلم كل عاقل الموت علم اليقين فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين ، وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين ، وقيل : علم اليقين ظاهر الشريعة ، وعين اليقين الإخلاص فيها ، وحق اليقين المشاهدة فيها ، «وقيل : ، وقيل : » ونحن نسأل اللّه تعالى الهداية إلى أقوم سبيل ، وأن يشرح صدورنا بأنوار علوم كتابه الكريم الجليل وهو سبحانه حسبنا في الدارين ونعم الوكيل.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 164
سورة الحديد
أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له ، فقد قال قوم : إنها مكية ، نعم الجمهور - كما قال ابن الفرس - على ذلك.
وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا ، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد : 7] فأسلم ، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللّه تعالى بهذه الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد : 16] إلا أربع سنين ، وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد اللّه بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم اللّه تعالى بها إلا أربع سنين وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ [الحديد : 16] الآية لكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة.
ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت عليّ يوم الثلاثاء ، وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما بسند ضعيف ، وهي تسع وعشرون آية في العراقي ، وثمان وعشرون في غيره ، ووجه اتصالها - بالواقعة - أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به ، وكان أولها واقعا موقع العلة للأمر به فكأنه قيل : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة : 74 ، 96 ، الحاقة : 52] لأنه سبح له ما في السماوات والأرض ، وجاء في فضلها مع أخواتها ما
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ، وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير
ثم قال : قال يحيى : نراها الآية التي في آخر الحشر.
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 إلى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 165
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ التسبيح على المشهور تنزيه اللّه تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما ، وحيث أسندها هنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما بل المراد بما فيهما الموجودات فيكون أظهر في تناول السماوات والأرض ويتناول أيضا الموجودات المجردة عند القائل بها ، قال الجمهور : المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين ، ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص ، وذهب بعض إلى أن التسبيح على حقيقته المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل ، وقد صرح به جمع من الصوفية فتسبيح كل شيء عندهم قالي وإن تفاوت الأمر ، وقيل : معنى سبح حمل رائيه العاقل على قول سبحان اللّه تعالى ونبهه عليه وهو كما ترى ، ومن يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا لا يحتاج إلى عموم المجاز ، وجوز الطبرسي كون ما للعالم فقط مثلها في قول أهل الحجاز كما حكى أبو زيد عند سماع الرعد - سبحان ما سبحت له ولا يخفى أن عمومها العالم وغيره أولى ، والظاهر أنها في الوجهين موصولة ، وقال بعضهم : إنها نكرة موصوفة وإن أصل الكلام ما في السماوات وما في الأرض ثم حذفت ما الثانية وأقيمت صفتها مقامها ، ولا يحسن أن تكون موصولة لأن الصلة لا تقوم مقام الموصول عند البصريين وتقوم الصفة مقام الموصوف عند الجميع ، والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيه وكون المذكورة موصولة والمحذوفة نكرة موصوفة مما لا وجه له انتهى.
وأنت تعلم أن حذف الموصول الصريح في مثل ذلك أكثر من أن يحصى وجيء باللام مع أن التسبيح متعد بنفسه كما في قوله تعالى : وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح : 9] للتأكيد فهي مزيدة لذلك كما في نصحت له وشكرت له ،

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 166
وقيل : للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه لأجل اللّه تعالى وخالصا لوجهه سبحانه ، وفيه شيء لا يخفى ، وعبر بالماضي هنا وفي بعض الأخوات وبالمضارع في البعض الآخر إيذانا بتحقق التسبيح في جميع الأوقات ، وفي كل دلالة على أن من شأن ما أسند إليه التسبيح أن يسبحه وذلك هجيراه وديدنه ، أما دلالة المضارع عليه فللدلالة على الاستمرار إلى زمان الإخبار وكذلك فيما يأتي من الزمان لعموم المعنى المقتضي للتسبيح وصلوح اللفظ لذلك حيث جرد عن الدلالة على الزمان وأوثر على الاسم دلالة على تجدد تسبيح غبّ تسبيح ، وأما دلالة الماضي فللتجرد عن الزمان أيضا مع التحقيق الذي هو مقتضاه فيشمل الماضي من الزمان ومستقبله كذلك ، وقيل : الإيذان والدلالة على الاستمرار مستفادان من مجموعي الماضي والمضارع حيث دل الماضي على الاستمرار إلى زمان الإخبار والمضارع على الاستمرار في الحال والاستقبال فشملا معا جميع الأزمنة ، وقال الطيبي : افتتحت بعض السور بلفظ المصدر وبعض بالماضي وبعض بالمضارع وبعض بالأمر فاستوعب جميع جهات هذه الكلمة إعلاما بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولا وفعلا طوعا وكرها وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء : 44] وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر الغالب الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم ، وكذا قوله تعالى : لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي
التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات ، وقوله سبحانه : يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يفعل الإحياء والإماتة استئناف مبين لبعض أحكام الملك وإذا جعل خبر مبتدأ محذوف أي هو يحيي ويميت كانت تلك الجملة كذلك وجعله حالا من ضمير له يوهم تقييد اختصاص الملك بهذه الحال ، وقوله تعالى : وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة قَدِيرٌ مبالغ في القدرة تذييل وتكميل لما قبله هُوَ الْأَوَّلُ السابق على جميع الموجودات فهو سبحانه موجود قبل كل شيء حتى الزمان لأنه جل وعلا الموجد والمحدث للموجودات وَالْآخِرُ الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية.
ومن هنا قال ابن سينا : الممكن في حدّ ذاته ليس وهو عن علته أيس فلا ينافي هذا كون بعض الموجودات الممكنة لا تفنى كالجنة والنار ومن فيهما كما هو مقرر مبين بالآيات والأحاديث لأن فناءها في حدّ ذاتها أمر لا ينفك عنها ، وقد يقال : فناء كل ممكن بالفعل ليس بمشاهد ، والذي يدل عليه الدليل إنما هو إمكانه فالبعدية في مثله بحسب التصور والتقدير ، وقيل : هو الأول الذي تبتدئ منه الأسباب إذ هو سبحانه مسببها وَالْآخِرُ الذي تنتهي إليه المسببات فالأولية ذاتية والآخرية بمعنى أنه تعالى المرجع والمصير بقطع النظر عن البقاء الثابت بالأدلة ، وقيل :
الأول خارجا لأنه تعالى أوجد الأشياء فهو سبحانه متقدم عليها في نفس الأمر الخارجي والآخر ذهنا وبحسب التعلق لأنه عز شأنه يستدل عليه بالموجودات الدالة على الصانع القديم كما قيل : ما رأيت شيئا إلا رأيت اللّه تعالى بعده ، وقال حجة الإسلام الغزالي : إن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء ، والآخر يكون آخرا بالإضافة إلى شيء ، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إليها أول إذ كلها استفادت الوجود منه سبحانه وأما هو عز وجل فموجود بذاته وما استفاد الوجود من غيره سبحانه وتعالى عن ذلك ، ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين فهو تعالى آخر إذ هو آخر ما ترتقي إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته تعالى فهي مرقاة إلى معرفته جل وعلا ، والمنزل الأقصى هو معرفة اللّه جل جلاله فهو سبحانه بالإضافة إلى السلوك آخر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 167
وبالإضافة إلى الوجود أول فمنه عز شأنه المبدأ أولا وإليه سبحانه والمرجع والمصير آخر انتهى.
والظاهر أن كونه تعالى أولا وآخرا بالنسبة إلى الموجودات أولى ولعل ما ذكره أوفق بمشرب القوم.
وَالظَّاهِرُ أي بوجوده لأن كل الموجودات بظهوره تعالى ظاهر وَالْباطِنُ بكنهه سبحانه فلا تحوم حوله العقول ، وقال حجة الإسلام : هذان الوصفان من المضافات فلا يكون الشيء ظاهرا لشيء وباطنا له من وجه واحد بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه آخر فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات واللّه تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بالاستدلال والريب من شدة الظهور وكل ما جاوز الحد انعكس إلى الضد ، وإلى تفسير الباطن بغير المدرك بالحواس ذهب الزمخشري ، ثم قال : إن الواو الأولى لعطف المفرد على المفرد فتفيد أنه تعالى الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية والأخيرة أيضا كذلك فتفيد أنه تعالى الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فلعطف المركب على المركب فتفيد أنه جل وعلا الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو تعالى المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية وهو تعالى في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس ، وفي هذا حجة على من جوز إدراكه سبحانه في الآخرة بالحاسة أي وذلك لأنه تعالى ما من وقت يصح اتصافه بالأولية والآخرية إلا ويصح اتصافه بالظاهرية والباطنية معا ، فإذا جوز إدراكه سبحانه بالحاسة في الآخرة فقد نفى كونه سبحانه باطنا وهو خلاف ما تدل عليه الآية ، وأجاب عن ذلك صاحب الكشف فقال : إن تفسير الباطن بأنه غير مدرك بالحواس تفسير بحسب التشهي فإن بطونه تعالى عن إدراك العقول كبطونه عن إدراك الحواس لأن حقيقة الذات غير مدركة لا عقلا ولا حسا باتفاق بين المحققين من الطائفتين ، والزمخشري ممن سلم فهو الظاهر بوجوده والباطن بكنهه وهو سبحانه الجامع بين الوصفين أزلا وأبدا ، وهذا لا ينافي الرؤية لأنها لا تفيد ذلك عند مثبتها انتهى ، وهو حسن فلا تغفل.
وعليه فالتذليل بقوله تعالى : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لئلا يتوهم أن بطونه تعالى عن الأشياء يستلزم بطونها عنه عز وجل كما في الشاهد ، وقال الأزهري : قد يكون الظاهر والباطن بمعنى العلم لما ظهر وبطن وذلك أن من كان ظاهرا احتجب عنه الباطن ومن كان باطنا احتجب عنه الظاهر فإن أردت أن تصفه بالعلم قلت هو ظاهر باطن مثله قوله تعالى : لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور : 35] أي لا شرقية فقط ولا غربية فقط ولكنها شرقية غربية ، وفي التذييل المذكور حينئذ خفاء ، وقريب منه من وجه ما نقل أن الظاهر بمعنى العالي على كل شيء الغالب له من قوله ظهر عليهم إذا علاهم وغلبهم ، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه ، وتعقب بفوات المطابقة بين الظاهر والباطن عليه وأن بطنه بمعنى علم باطنه غير ثابت في اللغة ، لكن قيل في الآثار : ما ينصر تفسير الظاهر بما فسر.
أخرج مسلم والترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة قال : «جاءت فاطمة رضي اللّه تعالى عنها إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم تسأله خادما فقال لها : قولي اللهم رب السماوات السبع ورب العرش الكريم العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر»
وقال الطيبي : المعنى بالظاهر في التفسير النبوي الغالب الذي يغلب ولا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه ، وبالباطن من لا ملجأ ولا منجي دونه يلتجىء إليه ملتجىء ، وبحث فيه بجواز أن يكون المراد أنت الظاهر فليس فوقك شيء في الظهور أي أنت أظهر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 168
من كل شيء إذ ظهور كل شيء بك وأنت الباطن فليس دونك في البطون شيء أي أنت أبطن من كل شيء إذ كل شيء يعلم حقيقته غيره وهو أنت وأنت لا يعلم حقيقتك غيرك ، أو لأن كل شيء يمكن معرفة حقيقته وأنت لا يمكن أصلا معرفة حقيقتك ، وأيضا في دلالة الباطن على ما قال : خفاء جدا على أنه لو كان الأمر كما ذكر ما عدل عنه أجلة العلماء فان الخير صحيح ، وقد جاء نحوه من رواية الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجة ويبعد عدم وقوف أولئك الأجلة عليه ، وأبعد من ذلك أن يكون ما ذكره صلّى اللّه عليه وسلم من أسمائه تعالى غير ما في الآية ، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله : «فليس دونك شي ء» ليس أقرب منك شيء ، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل قال :
بلغنا في قوله تعالى : هُوَ الْأَوَّلُ إلخ هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء والباطن أقرب من كل شيء ، وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه والذي يترجح عندي ما ذكر أولا ، وعن بعض المتصوفة أهل وحدة الوجود أن المراد بقوله سبحانه : هُوَ الْأَوَّلُ إلخ أنه لا موجود غيره تعالى إذ كل ما يتصور موجودا فهو إما أول أو آخر هو سبحانه لا غيره ، وأيدوه بما
في حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة «والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على اللّه» قال أبو هريرة ، ثم قرأ النبي صلّى اللّه عليه وسلم هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وحال القول بوحدة الوجود مشهور وأما الخبر فمن المتشابه ، وقد قال فيه الترمذي : فسر أهل العلم الحديث فقالوا : أي لهبط على علم اللّه تعالى وقدرته وسلطانه ، ويؤيد هذا ذكر التذييل وعدم اقتصاره عليه الصلاة والسلام على ما قبله ، وهذه الآية ينبغي لمن وجد في نفسه وسوسة فيما يتعلق باللّه تعالى أن يقرأها ، فقد أخرج أبو داود عن أبي زميل أن ابن عباس قال له وقد أعلمه أن عنده وسوسة في ذلك : «إذا وجدت في نفسك شيئا فقل هو الأول» الآية.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد رضي اللّه تعالى عنهم عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا اللّه كان قبل كل شيء فماذا كان قبل اللّه فإن قالوا لكم ذلك فقالوا هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم».
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بيان بعض أحكام ملكهما وقد مر تفسيره مرارا يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها مر بيانه في سورة سبأ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا ، وقيل :
المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السباق واللحاق مع استحالة الحقيقة ، وقد أول السلف هذه الآية بذلك ، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها : عالم بكم أينما كنتم.
وأخرج أيضا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال : علمه معكم ، وفي البحر أنه اجتمعت الأمة على هذا التأويل فيها وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر ، وقد تأول هذه الآية وتأول الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض ، ولو اتسع عقله لتأول غير ذلك مما هو في معناه انتهى.
وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على اللّه تعالى من غير علم ولا نؤوّل إلا ما أوّله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه فإن أوّلوا أوّلنا وإن فوضوا فوضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلما لتأويل غيره ، وقد رأيت بعض الزنادقة الخارجين من ربقة الإسلام يضحكون من هذه الآية مع قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ويسخرون من القرآن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 169
الكريم لذلك وهو جهل فظيع وكفر شنيع نسأل اللّه تعالى العصمة والتوفيق.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عبارة عن إحاطته بأعمالهم وتأخير صفة العلم الذي هو من صفات الذات عن الخلق الذي هو من صفات الأفعال مع أن صفات الذات متقدمة على صفات الأفعال لما أن المراد الإشارة إلى ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم ، وقيل : إن الخلق دليل العلم إذ يستدل بخلقه تعالى وإيجاده سبحانه لمصنوعاته المتقنة على أنه عز وجل عالم ومن شأن المدلول التأخر عن الدليل لتوقفه عليه ، وقوله تعالى : لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تكرير للتأكيد وتمهيد لقوله سبحانه المشعر بالإعادة : وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه تعالى وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا ترجع جميع الأمور أعراضها وجواهرها ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج «ترجع» مبنيا للفاعل من رجع رجوعا ، وعلى البناء للمفعول كما في قراءة الجمهور هو من رجع رجعا يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ مر تفسيره مرارا وقوله تعالى : وَهُوَ عَلِيمٌ أي مبالغ في العلم بِذاتِ الصُّدُورِ أي بمكنوناتها اللازمة لها بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها ، وجوز أن يراد بِذاتِ الصُّدُورِ نفسها وحقيقتها على أن الإحاطة بما فيها تعلم بالأولى.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه عز وجل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، عبر جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق فإن من علم أنها للّه تعالى وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه اللّه تعالى من المصاريف هان عليه الإنفاق ، أو جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم ، وفيه أيضا ترغيب في الإنفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان ، وفي الحديث «يقول ابن آدم : مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت»
والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى : لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعليه ما حكي أنه قيل لأعرابي : لمن هذه الإبل؟ فقال : هي للّه تعالى عندي ، ويميل إليه قول القائل :
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع
والآية على ما روي عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا حسبما أمروا به لَهُمْ بسبب ذلك أَجْرٌ كَبِيرٌ وعد فيه من المبالغات ما لا يخفى حيث جعل الجملة اسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب الأمر بأن يقال مثلا آمنوا باللّه ورسوله وأنفقوا تعطوا أجرا كبيرا ، وأعيد ذكر الإيمان والإنفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك فله أجر كبير وعدل عن فللذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير ، ووصف بالكبير ، وقوله عز وجل : وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ استئناف قيل : مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقيق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الإيمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط ، ونظيره قوله تعالى : ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح : 13] وقد يتوجه الإنكار والنفي في مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضا كما في قوله تعالى : وَما لِيَ لا أَعْبُدُ [يس : 22] إلخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الإيمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه ، وقوله تعالى : وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حال من

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 170
ضمير لا تُؤْمِنُونَ مفيدة على ما قيل : لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه ، ولام لِتُؤْمِنُوا صلة - يدعو - وهو يتعدى بها وبإلى أي وأيّ عذر في ترك الايمان وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إليه وينبهكم عليه ، وجوّز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه : وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي وقد أخذ اللّه ميثاقكم بالإيمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعا وماضيا ، وجوز كونه حالا معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير تُؤْمِنُونَ والتخالف بالاسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة ، وأيا ما كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية والتمكين من النظر فقوله تعالى : وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي.
وقال البغوي : هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا - وعليه لا مجاز - والأول اختيار الزمخشري ، وتعقبه ابن المنير فقال : لا عليه أن يحمل العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع وجب الإيمان به ، وروي ذلك عن مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل ، وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الإيمان ونفى أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سببا لإلزامهم الايمان به ، وقال الطيبي : يمكن أن يقال إن الضمير في أَخَذَ إن كان للّه تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دلّ عليه قوله تعالى : قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [البقرة : 38] إلخ لأن المعنى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم ، ويدل على الأول قوله سبحانه : وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا وعلى الثاني هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ إلخ ، وإن كان للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران : 81] على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم ، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد ، ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت بايعنا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعلى أن نقول في اللّه تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى.
ويضيف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر ، وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه.
والخطاب قال صاحب الكشف : عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الإيمان ثم من آمن بعدم الإنفاق في سبيله.
وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين ، وجعل آمنوا أمرا بالثبات على الإيمان ودوامه وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ إلخ على معنى كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة.
وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل ، ولعل ما ذكره صاحب الكشف أولى إلا أنه قيل عليه : إن آمنوا إذا كان خطابا للمتصفين بالإيمان ولغير المتصفين به يلزم استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظرا لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظرا للمتصفين وفيه ما فيه ، ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين ، وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 171
وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده : أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل ، وقرىء وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ باللّه ورسوله ، وقرأ أبو عمرو وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ بالبناء للمفعول ورفع مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل ، والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب ما فهذا موجب لا موجب وراءه ، وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه ، وقال الواحدي : أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان وظهر لكم على يدي محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه وأيا ما كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى : وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ وقال الطبري في ذلك : المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمنوا الآن وقيل : المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما السلام فآمنوا بمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الإيمان به عليه الصلاة والسلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن ، وقيل المراد إن دمتم على الإيمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة ، والكل كما ترى.
وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي ، وقال في هذا الشرط : يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة : 278] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل عليه ما بعد هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ حسبما يعن لكم من المصالح آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات ، والظاهر أن المراد بها آيات القرآن ، وقيل : المعجزات لِيُخْرِجَكُمْ أي اللّه تعالى إذ هو سبحانه المخبر عنه ، أو العبد لقرب الذكر والمراد ليخرجكم بها مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الايمان ، وقرىء في السبعة ينزل مضارعا فبعض ثقل وبعض خفف.
وقرأ الحسن بالوجهين ، وقرأ زيد بن علي والأعمش أنزل ماضيا وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ مبالغ في الرأفة والرحمة حيث أزال عنكم موانع سعادة الدارين وهداكم إليها على أتم وجه ، وقرىء في السبعة لَرَؤُفٌ بواوين ، وقوله عز وجل : وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا توبيخ على ترك الإنفاق إما للمؤمنين الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولا على ترك الإيمان ، وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضا عذر من الأعذار ، و(أن) مصدرية لا زائدة كما قيل ، واقتضاه كلام الأخفش والكلام على تقدير حرف الجر ، فالمصدر المؤول في محل نصب أو جر على القولين وحذف مفعول الإنفاق للعلم به مما تقدم وقوله تعالى : فِي سَبِيلِ اللَّهِ لتشديد التوبيخ ، والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل الاستعارة التصريحية أي أيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى اللّه تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه سبحانه في صرفه إلى ما عينه عز وجل من المصارف ، أو ما انتقل إليكم من غيركم وسينتقل منكم إلى الغير.
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف.
وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما ، واختير الأول أنه يكفي لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا ، والجملة حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة للّه عز وجل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها شيء أقوى في إيجاب الانفاق عليهم من بيان أنها للّه تعالى في الحقيقة ، أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل : ومالكم في ترك إنفاقها في سبيل اللّه تعالى ، والحال أنه لا يبقى لكم ولا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 172
لغيركم منها شيء بل تبقى كلها للّه عز وجل ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة ، وقوله تعالى : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على الإطلاق حثا لهم على تحري الأفضل ، وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الانفاق أصلا وقسيم مَنْ أَنْفَقَ محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره ، وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه ، والفتح فتح مكة على ما روي عن قتادة ، وزيد بن أسلم ومجاهد - وهو المشهور - فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاء وقال الشعبي : هو فتح الحديبية وقد مر وجه تسميته فتحا في سورة الفتح ، وفي بعض الآثار ما يدل عليه.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام : يوشك أن يأتي قوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا : من هم يا رسول اللّه أقريش؟ قال : لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا ، فقلنا : أهم خير منا يا رسول اللّه؟
قال : لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ الآية.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما قَبْلِ بغير مَنْ أُولئِكَ إشارة إلى من أنفق ، والجمع بالنظر إلى معنى مَنْ كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها ، ووضع اسم الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والإشعار بأن مدار الحكم هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم ، ومحله الرفع على الابتداء والخبر قوله تعالى : أَعْظَمُ دَرَجَةً أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدرا.
مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ بعد الفتح وَقاتَلُوا وذهب بعضهم إلى أن فاعل لا يَسْتَوِي ضمير يعود على الانفاق أي لا يستوي هو أي الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه ما هو بعده ، ومَنْ أَنْفَقَ مبتدأ ، وجملة أُولئِكَ أَعْظَمُ خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما تقدم ، ويعلم منه التزاما التفاوت بين الإنفاق قبل الفتح والانفاق بعده ، وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعا من كثرة الغنائم فكان ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقينا بما عند اللّه تعالى وأعظم رغبة فيه ، ولا كذلك الذين أنفقوا بعد وَكُلًّا أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما روي عن مجاهد وقتادة ، وقيل : أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا ، وقرأ ابن عامر وعبد الوارث - وكل - بالرفع ، والظاهر أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله :
وخالد يحمد ساداتنا بالحق لا يحمد بالباطل
يريد يحمده والجملة عطف على أولئك أعظم درجة وبينهما من التطابق ما ليس على قراءة الجمهور ، ومنع البصريون حذف العائد من خبر المبتدأ ، وقالوا : لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من جملة الصفة وهم محجوجون بهذه القراءة ، وقول بعضهم فيها : إن كل خبر مبتدأ تقديره ، وأولئك كل ، وجملة وَعَدَ اللَّهُ صفة - كل - تأويل ركيك ، وفيه زيادة حذف ، على أن بعض النحاة منع وصف - كل - بالجملة لأنه معرفة بتقدير

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 173
وكلهم ، وقال الشهاب : الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر في غير - كل - وما ضاهاها في الافتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه الإجماع وهو محل نزاع.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بظاهره وباطنه ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد ، وفي الآيات من الدلالة على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى ، والمراد بهم المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناء على الخلاف السابق ، والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبي نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه أي بسببه ، وأنت تعلم أن خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم ، فلذلك قال : أُولئِكَ ليشمل غيره رضي اللّه تعالى عنه ممن اتصف بذلك ، نعم هو أكمل الأفراد فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ماله وبذل نفسه معه عليه الصلاة والسلام ولذا
قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ليس أحد أمّن علي بصحبته من أبي بكر»
وذلك يكفي لنزولها فيه ، وفي الكشاف إن أولئك هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فيهم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
قال الطيبي : الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
،
وتعقبه في الكشف بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما أشار في الكشاف إليه وهو مبني على أن الخطاب في لا تسبوا ليس للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى اللّه تعالى عليه وسلم بل لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى : وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام : 27 ، 30] الآية وإلا فقد قيل : إن الخطاب يقتضي الحضور والوجود ولا بد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة.
وأقول شاع الاستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقا بناء على ما قالوا : إن إضافة الجمع تفيد الاستغراق وعليه صاحب الكشف ، واستشكل أمر الخطاب ، وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حدّ خطاب اللّه تعالى الأزلي لكن من بعض الأخبار ما يؤيد أن المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر منهم فتكون الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة.
أخرج أحمد عن أنس قال : «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال لعبد الرحمن ابن عوف : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد - أو مثل الجبال - ذهبا ما بلغتم أعمالهم»
ثم في هذا الحديث تأييد ما لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل الحديبية لأن إسلامه رضي اللّه تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح مكة كما في التقريب وغيره ، والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا تغفل ، قال الجلال المحلي : كون الخطاب في «لا تسبوا» للصحابة السابين ، وقال : نزلهم صلى اللّه تعالى عليه وسلم بسبهم الذي لا يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر وقوله تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ندب بليغ من اللّه تعالى إلى الانفاق في سبيله مؤكد للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه فالاستفهام ليس على حقيقته بل للحث ، والقرض الحسن الانفاق بالإخلاص وتحري أكرم المال وأفضل الجهات ، وذكر بعضهم أن القرض الحسن ما يجمع عشر صفات. أن يكون من الحلال فإن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا. وأن يكون من أكرم ما يملكه المرء. وأن يكون والمرء صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر وأن يضعه في الأحوج الأولى. وأن يكتم ذلك ، وأن لا يتبعه بالمنّ والأذى ، وأن يقصد به وجه اللّه تعالى وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر ، وأن يكون من أحب أمواله إليه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 174
وأن يتوخى في إيصاله للفقير ما هو أسر لديه من الوجوه كحمله إلى بيته. ولا يخفى أنه يمكن الزيادة والنقص فيما ذكر.
وأيما كان فالكلام إما على التجوز في الفعل فيكون استعارة تبعية تصريحية أو التجوز في مجموع الجملة فيكون استعارة تمثيلية وهو الأبلغ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل اللّه تعالى مخلصا متحريا أكرمه وأفضل الجهات رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرضه فَيُضاعِفَهُ لَهُ فيعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا كثيرة من فضله.
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي وذلك الأجر المضموم اليه الإضعاف كريم مرضي في نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون ، ففيه إشارة إلى أن الأجر كما أنه زائد في الكم بالغ في الكيف فالجملة حاليه لا عطف على فَيُضاعِفَهُ ، وجوز العطف والمغايرة ثابتة بين الضعف والأجر نفسه فإن الإضعاف من محض الفضل والمثل فضل هو أجر ، ونصب يضاعفه على جواب الاستفهام بحسب المعنى كأنه قيل : أيقرض اللّه تعالى أحد فيضاعفه له فإن المسئول عنه بحسب اللفظ وإن كان هو الفاعل لكنه في المعنى هو الفعل إذ ليس المراد أن الفعل قد وقع السؤال عن تعيين فاعله كقولك : من جاءك اليوم؟ إذا علمت أنه جاءه جاء لم تعرفه بعينه وإنما أورد على هذا الأسلوب للمبالغة في الطلب حتى كأن الفعل لكثرة دواعيه قد وقع وإنما يسأل عن فاعله ليجازي ولم يعتبر الظاهر لأنه يشترط بلا خلاف في النصب بعد الفاء أن لا يتضمن ما قبل وقوع الفعل نحو لم ضربت زيدا فيجازيك فإنه حينئذ لا يتضمن سبق مصدر مستقبل وعلى هذا يؤول كل ما فيه نصب وما قبل متضمن للوقوع ، وقرأ غير واحد «فيضاعفه» بالرفع على القياس نظرا للظاهر المتضمن للوقع وهو إما عطف على يقرض أو على فهو (يضاعفه) وقرىء فيضعفه بالرفع والنصب يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ظرف لما تعلق به له أو له أو لقوله تعالى : فَيُضاعِفَهُ أو منصوب بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم ، والرؤية بصرية والخطاب لكل من تتأتى منه أو لسيد المخاطبين صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقوله عز وجل : يَسْعى نُورُهُمْ حال من مفعول ترى والمراد بالنور حقيقته على ما ظهر من شموس الأخبار - وإليه ذهب الجمهور - والمعنى يسعى نورهم إذا سعوا.
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال : «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى»
وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط ، وقال بعضهم : يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط ، وفي الأخبار ما يقتضيه كما ستسمعه قريبا إن شاء اللّه تعالى ، والمراد أنه يكون لهم في جهتين جهة الإمام وجهة اليمين وخصا لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم ، وفي البحر الظاهر أن النور قسمان : نور بين أيديهم يضيء الجهة التي يؤمونها. ونور بأيمانهم يضيء ما حواليهم من الجهات ، وقال الجمهور : إن النور أصله بأيمانهم والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك ، وقيل : الباء بمعنى عن أي وعن أيمانهم والمعنى في جميع جهاتهم ، وذكر الأيمان لشرفها انتهى ، ويشهد لهذا المعنى ما
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الرحمن بن جبير بن نضير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقيل : يا رسول اللّه وكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه السلام إلى أمتك؟ قال : غرّ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 175
محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم»
وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة وكذا إيتاء الكتب بالأيمان وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن ،
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : «تبعث ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث اللّه تعالى بالنور للمؤمنين بقدر أعمالهم» الخبر
، وأخرج عنه الحاكم وصححه وابن أبي حاتم من وجه آخر وابن المبارك والبيهقي في الأسماء والصفات خبرا طويلا فيه أيضا ما هو ظاهر في العموم ، وكذا ما
أخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث اللّه تعالى نورا فلما رأى المؤمنين النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا لهم من اللّه عز وجل إلى الجنة
، ولا ينافي هذا الخبر كونهم يمرون بنورهم على الصراط كما لا يخفى ، وكذا إيتاء الكتب بالأيمان ، ففي هداية المريد لجوهرة التوحيد ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاصه يعني أخذ الصحف بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء انتهى.
ويمكن أن يقال : إن ما يكون من النور هذه الأمة أجلى من النور الذي يكون لغيرها أو هو ممتاز بنوع آخر من الامتياز ، وأما إيتاء الكتب بالأيمان فلعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر الأمم تعرف به ، وفي هذا المطلب أبحاث أخر تذكر إن شاء اللّه تعالى في محلها ، وقيل : أريد بالنور القرآن ، وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه ، وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة «وبإيمانهم» بكسر الهمزة ، وخرّج ذلك أبو حيان على أن الظرف يعني أيديهم متعلق بمحذوف والعطف عليه بذلك الاعتبار أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم وهو كما ترى ، ولعله متعلق بالقول المقدر في قوله تعالى : بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي وبسبب إيمانهم يقال لهم ذلك ، وجملة القول ، إما معطوفة على ما قبل أو استئناف أو حال ويجوز على الحالية تقدير الوصف منه أي مقولا لهم ، والقائل الملائكة الذين يتلقونهم.
والمراد بالبشرى ما يبشر به دون التبشير والكلام على حذف مضاف أي ما تبشرون به دخول جنات يصح بدونه أي ما تبشرون به جنات ، ويصح بدونه أي ما تبشرون به جنات ، وما قيل : البشارة لا تكون بالأعيان فيه نظر ، وتقدير المضاف لا يغني عن تأويل البشرى لأن التبشير ليس عين الدخول ، وجملة قوله تعالى : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ في موضع الصفة لجنات : وقوله سبحانه : خالِدِينَ فِيها حال من جنات ، قال أبو حيان : وفي الكلام التفات من ضمير الخطاب في بُشْراكُمُ إلى ضمير الغائب في خالِدِينَ ولو أجرى على الخطاب لكان التركيب خالدا أنتم فيها : ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يحتمل أن يكون من كلامه تعالى فالإشارة إلى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات ، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة عليهم السلام المتلقين لهم ، فالإشارة إلى ما هم فيه من النور وغيره أو إلى الجنات بتأويل ما ذكر أو لكونها فوزا على ما قيل ، وقرىء ذلك الفوز بدون هُوَ.
[سورة الحديد (57) : الآيات 13 إلى 19]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 176
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بدل من يَوْمَ تَرَى ، وجوز أن يكون معمولا لا ذكر.
وقال ابن عطية : يظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم ، ويكون معنى الفوز عليه أعظم كأنه قيل : إن المؤمنين يفوزون يوم يعتري المنافقين والمنافقات كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه مضاده أبدع وأفخم.
وتعقبه في البحر بأن ظاهر تقريره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز إعماله ولو أعمل وصفه وهو العظيم لجاز - أي الفوز الذي عظم - أي قدره يوم انتهى ، وفي عدم جواز إعمال مثل هذا المصدر في مثل هذا المعمول خلاف ، ثم إن تعلق هذا الظرف بشيء من تلك الجملة خلاف الظاهر لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا أي انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به.
وقيل : فيأخذوا شيئا منه يكون معهم تخيلوا تأتّي ذلك فقالوه ، وأصل الاقتباس طلب القبس أي الجذوة من النار ، وجوز أن يكون المعنى انظروا إلينا نقتبس إلخ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به فانظرونا على الحذف والإيصال لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية يتعدى بإلى فإن أريد التأمل تعدى بفي لكن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر وقولهم : للمؤمنين ذلك لأنهم في ظلمة لا يذرون كيف يمشون فيها ، وروي أنه يكون ذلك على الصراط.
وفي الآثار دلالة على أنهم يكون لهم نور فيطفأ فيقولون ذلك ، أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده وأما عند الصراط قال اللّه يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط أطفأ اللّه نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون : انظرونا نقتبس من نوركم ، وقال المؤمنون : أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا».
وفي حديث آخر مرفوع عنه أيضا إن نور المنافق يطفأ قبل أن يأتي الصراط
، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي فاختة يجمع اللّه تعالى الخلائق يوم القيامة ويرسل اللّه سبحانه على الناس ظلمة فيستغيثون ربهم فيؤتي اللّه تعالى كل مؤمن منهم نورا ويؤتي المنافقين نورا فينطلقون جميعا متوجهين إلى الجنة معهم نورهم فبينما هم كذلك إذ أطفأ اللّه نور المنافقين فيترددون في الظلمة ويسبقهم المؤمنون بنورهم بين أيديهم فيقولون انظرونا نقتبس من نوركم الخبر
، والاخبار في إيتاء المنافق نورا ثم إطفائه كثيرة وليس في الآية ما يأباه.
وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة «أنظرونا» بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء من النظرة وهي الامهال يقال أنظر المديون أي أمهله ، وضع انْظُرُونا بمعنى المهلة وإنظار الدائن المديون موضع اتئاد الرفيق ومشيه الهوينا ليلحقه رفيقه على سبيل الاستعارة بعد سبق تشبيه الحالة بالحالة مبالغة في العجز وإظهار الافتقار ، وقيل : هو من أنظر أي أخر ، والمراد اجعلونا في آخركم ولا تسبقونا بحيث تفوتونا ولا نلحق بكم.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 177
وقال المهدوي : «أنظرونا» «وانظرونا» بمعنى وهما من الانتظار تقول العرب : أنظرته بكذا وانتظرته بمعنى واحد والمعنى أمهلونا قِيلَ القائلون على ما روي عن ابن عباس المؤمنون ، وعلى ما روي عن مقاتل الملائكة عليهم السلام.
ارْجِعُوا وَراءَكُمْ قال ابن عباس : أي من حيث جئتم من الظلمة أو إلى المكان الذي قسم فيه النور على ما صح عن أبي أمامة فَالْتَمِسُوا نُوراً هناك ، قال مقاتل : هذا من الاستهزاء بهم كما استهزؤوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا آمنا وليسوا بمؤمنين ، وذلك قوله تعالى : اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة : 15] أي حين يقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ، وقال أبو أمامة : يرجعون حين يقال لهم ذلك إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور وهي خدعة اللّه تعالى التي خدع بها المنافقين حيث قال سبحانه : يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء : 142] ، وقيل : المراد ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا أي بتحصيل سببه وهو الإيمان أو تنحوا عنا والتمسوا نورا غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه ، والغرض التهكم والاستهزاء أيضا.
وقيل : أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكما بهم وهو خلاف الظاهر ، وأيا ما كان فالظاهر أن وراءكم معمول لارجعوا.
وقيل : لا محل له من الإعراب لأنه بمعنى ارجعوا فكأنه قيل : ارجعوا ارجعوا كقولهم وراءك أوسع لك أي ارجع تجد مكانا أوسع لك فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي بين الفريقين ، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فضرب» مبنيا للفاعل أي فضرب هو أي اللّه عز وجل بِسُورٍ أي بحاجز ، قال ابن زيد : هو الأعراف ، وقال غير واحد : حاجز غيره والباء مزيدة لَهُ بابٌ باطِنُهُ أي الباب كما روي عن مقاتل أو السور وهو الجانب الذي يلي مكان المؤمنين أعني الجنة فِيهِ الرَّحْمَةُ الثواب والنعيم الذي لا يكتنه وَظاهِرُهُ الجانب الذي يلي مكان المنافقين أعني النار مِنْ قِبَلِهِ أي من جهته الْعَذابُ وهذا السور قيل : يكون في تلك النشأة وتبدل هذا العالم واختلاف أوضاعه في موضع الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس.
أخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال : كنت مع علي بن عبد اللّه بن عباس عند وادي جهنم يعني المكان المعروف عند بيت المقدس فحدث عن أبيه أنه قال ، وقد تلا قوله تعالى : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ هذا موضع السور عند وادي جهنم ، وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال :
إن السور الذي ذكره اللّه تعالى في القرآن فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ هو سور بيت المقدس الشرقي باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ المسجد وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يعني وادي جهنم وما يليه.
وأخرج عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس الشرقي فبكى فقيل : ما يبكيك؟ فقال : هاهنا أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه رأى جهنم
ولا يخفى أن هذا ونظائره أمور مبنية على اختلاف العالمين وتغاير النشأتين على وجه لا تصل العقول إلى إدراك كيفيته والوقوف على تفاصيله ، فإن صح الخبر لم يسعنا إلا الايمان لعدم خروج الأمر عن دائرة الإمكان ، وأبو حيان حكى عمن سمعت وعن كعب الأحبار أنه الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس واستبعده ثم قال : ولعله لا يصح عنهم يُنادُونَهُمْ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب؟ فقيل : ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات أَلَمْ نَكُنْ في الدنيا مَعَكُمْ يريدون به موافقتهم لهم في الظاهر قالُوا بَلى كنتم معنا كما تقولون وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر وَارْتَبْتُمْ وشككتم في أمور الدين

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 178
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس الإسلام وقال ابن عباس : فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالشهوات واللذات وَتَرَبَّصْتُمْ بالتوبة وَارْتَبْتُمْ قال محبوب الليثي : شككتم في اللّه وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ طول الآمال ، وقال أبو سنان : قلتم سيغفر لنا حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان قال لكم : إن اللّه عفو كريم لا يعذبكم.
وعن قتادة كانوا على خدعة من الشيطان واللّه ما زالوا عليها حتى قذفهم اللّه تعالى في النار.
وقرأ سماك بن حرب الغرور بالضم ، قال ابن جني : وهو كقوله : وغركم باللّه تعالى الاغترار ، وتقديره على حذف المضاف أي وغركم باللّه تعالى سلامة الاغترار «1» ومعناه سلامتكم منه اغتراركم.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيها المنافقون فِدْيَةٌ فداء وهو ما يبذل لحفظ النفس عن النائبة والناصب ليوم الفعل المنفي بلا ، وفيه حجة على من منع ذلك ، وقرأ أبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو لا تؤخذ التاء الفوقية وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ظاهرا وباطنا فيغاير المخاطبين المنافقين ، ثم الظاهر أن المراد بالفدية ما هو من جنس المال ونحوه ، وجوز أن يراد بها ما يعم الإيمان والتوبة فتدل الآية على أنه لا يقبل إيمانهم وتوبتهم يوم القيامة وفيه بعد ، وفي الحديث : إن اللّه تعالى يقول للكافر : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول : نعم يا رب فيقول اللّه تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك
مَأْواكُمُ النَّارُ محل أويكم هِيَ مَوْلاكُمْ أي ناصركم من باب - تحية بينهم ضرب وجيع - والمراد نفي الناصر على البتات بعد نفي أخذ الفدية وخلاصهم بها عن العذاب ، ونحوه قولهم : أصيب بكذا فاستنصر الجزع ، ومنه قوله تعالى : يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف : 29] وقال الكلبي والزجاج والفراء وأبو عبيدة : أي أولى بكم كما في قول لبيد يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد :
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها
أي فغدت كلا جانبيها الخلف والإمام تحسب أنه أولى بأن يكون فيه الخوف ، قال الزمخشري : وحقيقة مولاكم هي على هذا محراكم ومقمنكم أي المكان الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل : هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل : إنه لكريم فأولى نوع من اسم المكان لوحظ فيه معنى أولى إلا أنه مشتق منه كما أن المئنة ليست مشتقة من إن التحقيقية ، وفي التفسير الكبير إن قولهم ذلك بيان لحاصل المعنى وليس بتفسير اللفظ لأنه لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل منهما في مكان الآخر وكان يجب أن يصح هذا أولى فلان كما يقال : هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير ، ثم صرح بأنه أراد بذلك رد استدلال الشريف المرتضى بحديث الغدير من كنت مولاه فعليّ مولاه على إمامة الأمير كرم اللّه تعالى وجهه حيث قال : أحد معاني المولى الاولى.
وحمله في الخبر عليه متعين لأن إرادة غيره يجعل الاخبار عبثا كإرادة الناصر والصاحب وابن العم ، أو يجعله كذبا كالمعتق والمعتق ولا يخفى على المنصف أنه إن أراد بكونه معنى لا تفسير ما أشار إليه الزمخشري من التحقيق فهو لا يرد الاستدلال إذ يكفي للمرتضى أن يقول : المولى في الخبر بمعنى المكان الذي يقال فيه أولى إذ يلزم على
___________
(1) هكذا في الأصل فليتنبه. ادارة.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 179
غيره العبث أو الكذب وإن أراد أن ذلك معنى لازم لما هو تفسير له كأن يكون تفسيره القائم بمصالحكم ونحوه مما يكون ذلك لازما له ففي رده الاستدلال أيضا تردد ، وإن أراد شيئا آخر فنحن لا ندري ما هو - وهو لم يبينه - والحق أنه ولو جعل المولى بمعنى الأولى أو المكان الذي يقال فيه الأولى لا يتم الاستدلال بالخبر على الإمامة التي تدعيها الإمامية للأمير كرم اللّه تعالى وجهه لما بين في موضعه ، وفي التحفة الاثني عشرية ما فيه كفاية لطالب الحق.
وقال ابن عباس أي مصيركم وتحقيقه على ما قال الإمام : إن المولى بمعنى موضع الولي وهو القرب والمعنى هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه ، وأنت تعلم أن الاخبار بذلك بعد الاخبار بأنها مأواهم ليس فيه كثير جدوى على أن وضع اسم المكان للموضع الذي يتصف صاحبه بالمأخذ حال كونه فيه والقرب من النار وصف لأولئك قبل الدخول فيها ولا يحسن وصفهم به بعد الدخول ولو اعتبر مجاز الكون كما لا يخفى ، وجوز بعضهم اعتبار كونه اسم مكان من الولي بمعنى القرب لكن على أن المعنى هي مكان قربكم من اللّه سبحانه ورضوانه على التهكم بهم وقيل : أي متوليكم أن المتصرفة فيكم كتصرفكم فيما أوجبها واقتضاها في الدنيا من المعاصي والتصرف استعارة للإحراق والتعذيب ، وقيل : مشاكلة تقديرية وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي النار وهي المخصوص بالذم المحذوف لدلالة السياق أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا اليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزل خاشعا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى ربه ، وما نقل عن الكلبي ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح ، وقد سمعت صدر السورة الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه.
وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر والأعمش قال : لما قدم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت أَلَمْ يَأْنِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن اللّه تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه : أَلَمْ يَأْنِ الآية ، وفي خبر ابن مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن.
وأخرج عن عائشة قالت : خرج رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه فقال : أتضحكون ولم يأتكم من ربكم بأنه قد غفر لكم وقد نزل علي في ضحككم آية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ إلخ؟ قالوا : يا رسول اللّه فما كفارة ذلك؟ قال : تبكون بقدر ما ضحكتم
، وفي الخبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت ، وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث ، ويَأْنِ مضارع أنى الأمر أنيا وأناء وإناء بالكسر إذا جاء أناه أي وقته ، أي ألم يجىء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز وجل.
وقرأ الحسن وأبو السمال - ألما - بالهمزة ، ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفي متوقع.
وقرأ الحسن يئن مضارع آن أينا بمعنى أني السابق ، وقال أبو العباس : قال قوم : إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينا وأصل الكلمة من الحين وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ أي القرآن وهو عطف على ذكر اللّه فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين نحو :
هو الملك القرم وابن الهمام فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير اللّه تعالى إياهم فالعطف لتغاير

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 180
الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم اللّه تعالى بالمعنى المعروف ، وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى ، وقال الطيبي : يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الحق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما
روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن البراء كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فقال : تلك السكينة تنزل للقرآن.
وفي رواية اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن وللقرآن
انتهى ، ولا يخفى بعد ذلك جدّا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرآن لما يحس مما بعد من نوع تأييد له ، وفسر الخشوع للقرآن بالانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور ، والظاهر أنه اعتبر كون اللام صلة الخشوع ، وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر اللّه تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجوهها ، وفي الآية حض على الخشوع ، وكان ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن المنذر إذا تلاها بكى ثم قال : بلى يا رب بلى يا رب ، وعن الحسن أما واللّه لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرءون فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق ، وروى السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه فقلت : ما هذا؟ فقالوا :
كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب اللّه فخر مغشيا عليه فقلت : ما هي؟ فقيل : قوله تعالى : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول :
أما آن للهجران أن يتصرما وللغصن غصن البان أن يتبسما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى ألم يأن أن يبكى عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي كتابا حكى نقش الوشي المنمنما
ثم قال : إشكال إشكال إشكال فخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت ، وعن أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب ، ولعله أراد رضي اللّه تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي اللّه تعالى عنهم ، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر ، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي اللّه تعالى عنه : أقيلوني فلست بخيركم ، وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره :
معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر ، وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين : إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي اللّه تعالى عنه ، وقرأ غير واحد من السبعة «وما نزّل» بالتشديد ، والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس وعباس عنه «نزّل» مبنيا للمفعول مشددا ، وعبد اللّه - أنزل - بهمزة النقل مبنيا للفاعل.
وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ لا نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع.
وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو في المعنى نهي أيضا ، وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر ، وعن شيبة ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه «ولا تكونوا» بالتاء الفوقية على سبيل الالتفات للاعتناء

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 181
بالتحذير ، وفي لا ما تقدم ، والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة.
فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم ، أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد بهم ، وقيل : أمد انتظار القيامة والجزاء ، وقيل : أمد انتظار الفتح ، وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال الغاية والزمان عام من المبدأ والغاية ، وقرأ ابن كثير في رواية الأمدّ بتشديد الدال أي الوقت الأطول فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ صلبت فهي كالحجارة ، أو أشد قسوة وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية ، قيل : من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال ، وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق ، والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا للّه تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانوا يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل ، والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن اللّه تعالى ، وعن عيسى عليه السلام : لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من اللّه عز وجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر اللّه تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز وجل : اعلموا أنّ اللّه يحيي الأرض بعد موتها فهو تمثيل ذكر استطرادا لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ التي من جملتها هذه الآيات لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ كي تعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي المتصدقين والمتصدقات ، وقد قرأ أبيّ كذلك ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون بتخفيف الصاد من التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا واللاتي صدقن اللّه عز وجل ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، والقراءة الأولى أنسب بقوله تعالى :
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وقيل : الثانية أرجح لأن الإقراض يغني عن ذكر التصديق ، وأنت ستعلم إن شاء اللّه تعالى فائدته ، وعطف أَقْرَضُوا على معنى الفعل من المصدقين على ما اختاره أبو علي والزمخشري لأن أل بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى الفعل فكأنه قيل : إن الذين اصدقوا أو صدقوا على القراءتين وَأَقْرَضُوا وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة بأجنبي وهو المصدقات ، وذلك لا يجوز ، وقال صاحب التقريب : هو محمول على المعنى كأنه قيل : إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن أأقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى بلا فصل ، وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل : إن أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة ، وفيه بعد ، ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر ، ومن هنا قيل : إنه قريب ولا يبعد تأنيثا وتذكيرا لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذي عند عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى ، ومثله ما قيل : هو من باب كل رجل وضيعته أي إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في الثواب والمنزلة ، أو يقدر خبر أي - إن المصدقين والمصدقات يفلحون - وَأَقْرَضُوا في الوجهين ليس عطفا على الصلة بل مستأنف ويضاف بعد صفة قرضا أو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلا عن كلام رب العالمين ، واختار أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل : والذين أقرضوا فيكون مثل قوله

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 182
فمن يهجر رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء
وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون حذف الموصول في مثله ، وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري وأبي علي عليه قال : وأقرب منه أن يقال : إن الْمُصَّدِّقاتِ منصوب على التخصيص كأنه قيل : «إن المصدقين» عاما على التغليب وأخص المتصدقات منهم كما تقول : إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا.
ووجه التخصيص ما
ورد في قوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار»
يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالى أقبل وجزاؤه عنه سبحانه أوفر وأفضل ، ثم قال : ولما لم يكن الإقراض غير ذلك التصدق قيل : وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقا لكينونته وأنهم مثل ذلك ممثلون عند اللّه تعالى بمن يعامل مع أجود الأجودين معاملة برضاه ، ولو قيل : والمقرضين لفاتت هذه النكتة انتهى.
ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر ، وأما ما ذكره في نكتة العدول عن المفروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي علي والزمخشري ، وعلى تخريج أبي حيان ، وقال الخفاجي : القول - أي قول أبي البقاء - بأن أقرضوا إلخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر وأسهل ، وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة ، وزعم أن الجملة حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى معنى وعربية فتدبر يُضاعَفُ لَهُمْ الضمير لجميع المتقدمين الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا ، والجار والمجرور نائب الفاعل ، وقيل : هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف» بتشديد العين ، وقرىء «يضاعف» بالبناء للفاعل أي يضاعف اللّه عز وجل لهم ثواب ذلك وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ قد مر الكلام فيه.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة ، والموصول مبتدأ أول ، وقوله تعالى :
أُولئِكَ مبتدأ ثان ، وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا ، وقوله سبحانه : هُمُ مبتدأ ثالث ، وقوله عز وجل : الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ خبر الثالث ، والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني ، وقوله تعالى : عِنْدَ رَبِّهِمْ متعلق على ما قيل : بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز وجل وفي حكمه وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء.
والمراد أولئك في حكم اللّه تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل اللّه جل جلاله وسمي من قتل مجاهدا في سبيله شهيدا لأن اللّه سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة ، وقيل : لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر ، وقيل : لأن ملائكة الرحمة تشهده ، وقيل : لأنه شهد ما أعد اللّه تعالى له من الكرامة ، وقيل : غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل ، وقوله تعالى لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر. أو لَهُمْ الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير لَهُمْ للموصول ، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء ، والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال ، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل :
أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور. وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام ما للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف ، فالإضعاف هو الذي امتاز به

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 183
الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار اللّه تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة للّه سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم ، وقال بعضهم : وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة : 143] فعند ربهم متعلق بالشهداء ، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة ، وجوز تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل اللّه تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز وجل أو نحو ذلك ، ويشهد لكون الشهداء معطوفا على الصديقين آثار كثيرة.
أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : إن مؤمني أمتي شهداء ، ثم تلا النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده : كلكم صديق وشهيد قيل له : ما تقول يا أبا هريرة؟ قال : اقرؤوا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية ، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال : كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية ، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون ، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال : «جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال : من الصديقين والشهداء»
وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كما في ذلك يعتدّ به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتدّ بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا ، ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي اللّه تعالى عنه ما لكم إذا رأيتم الرجل يخترق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه؟ قالوا : نخاف لسانه قال : ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء ، قال ابن الأثير : أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها ، وكذا
بقوله عليه الصلاة والسلام : اللعانون لا يكونون شهداء
بناء على أحد قولين فيه. وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين ،
أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند اللّه صديقا فإذا مات قبضه اللّه شهيدا وتلا هذه الآية وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ ثم قال هذه فيهم ثم قال :
الفرّارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة»
ويجوز أن يراد من قوله : «هذه فيهم» أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولا أوليا ، ويقال : في
قوله عليه الصلاة والسلام : «مع عيسى في درجته»
المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية.
وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وطلحة والزبير وسعد وزيد رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين ، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى ، وقيل : الشهداء مبتدأ وعِنْدَ رَبِّهِمْ خبره ، وقيل : الخبر لَهُمْ أَجْرُهُمْ والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى : الصِّدِّيقُونَ ، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس والضحاك قالا : وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذه مفصولة سماهم صديقين ، ثم قال : والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.
وروى جماعة عن مسروق ما يوافقه ، واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل : الشهداء في سبيل اللّه تعالى.
وحكي ذلك عن مقاتل بن سليمان ، وقيل : الأنبياء عليهم السلام الذين يشهدون للأمم عليهم ، وحكي ذلك

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 184
عن مسروق ومقاتل بن حيان واختاره الفراء والزجاج ، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر ، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال ، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم ، ثم النور على جميع الأوجه على حقيقته وعن مجاهد وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى.
[سورة الحديد (57) : الآيات 20 إلى 29]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفة القبيحة أَصْحابُ الْجَحِيمِ بحيث لا يفارقونها أبدا [الحديد : 20 - 29] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ بعد ما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال الحياة التي اطمأن بها الفريق الثاني ، وأشير إلى من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الاطمئنان بها بأنها لعب لا ثمرة فيها سوى التعب وَلَهْوٌ تشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه وَزِينَةٌ لا يحصل منها شرف ذاتي كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة وَتَفاخُرٌ بالأنساب والعظام البالية وَتَكاثُرٌ بالعدد والعدد ، وقرأ السلمي «وتفاخر بينكم» بالإضافة ثم أشير إلى أنها مع ذلك

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 185
سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال بقوله سبحانه : كَمَثَلِ غَيْثٍ مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي راقهم نَباتُهُ أي النبات الحاصل به ، والمراد بالكفار إما الحراث على ما روي عن ابن مسعود لأنهم يكفرون أي يسترون البذر في الأرض ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر ، وأما الكافرون باللّه سبحانه ووجه تخصيصهم أنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة موجده عز وجل فأعجب بها ، ولذا قال أبو نواس في النرجس :
عيون من لجين شاخصات على أطرافها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن اللّه ليس له شريك
والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجابا ثُمَّ يَهِيجُ يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له ، وقيل : أي يجف بعد خضرته ونضارته فَتَراهُ يا من تصح منه الرؤية مُصْفَرًّا بعد ما رأيته ناضرا مونقا ، وقرىء مصفارا وإنما لم يقل فيصفر قيل : إيذانا بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب عليه رؤيته كذلك ، وقيل : للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً هشيما متكسرا من اليبس ، ومحل الكاف قيل : النصب على الحالية من الضمير في لَعِبٌ لأنه في معنى الوصف ، وقيل : الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل الحياة كمثل إلخ ، ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل في أقل من سنة جاءت الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها ، وبعد ما بيّن حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا من عذابها الأليم ، وقدم سبحانه ذكر العذاب فقال جل وعلا : وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا وَمَغْفِرَةٌ عظيمة مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ عظيم لا يقادر قدره ، وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب «لن يغلب عسر يسرين».
وفي ترك وصف العذاب بكونه من اللّه تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضا ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها ، روي عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة. فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان اللّه تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة مِنْ رَبِّكُمْ والكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن يبادر من يعمل ما يكون سببا للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله أو يتصف بذلك سابقا على آخر وقيل : المراد سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر وقيل : سابقوا إبليس قبل أن يصدقكم بغروره وخداعه عن ذلك وهو كما ترى.
والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها ، وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال في الآية : كن أوّل داخل المسجد وآخر خارج ،
وقال عبد اللّه : كونوا في أول صف القتال ، وقال أنس : اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل ، واستدل بهذا الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي كعرضهما جميعا لو ألصق أحدهما بالآخر وإذا كان العرض وهو أقصر الامتدادين موصوفا بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى فالاقتصار عليه أبلغ من ذكر الطول معه ، وقيل : المراد بالعرض البسطة ولذا وصف به الدعاء ونحوه مما ليس من ذوي الابعاد وتقدم قول آخر في تفسير نظير الآية من سورة آل عمران وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 186
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي هيئت لهم ، واستدل بذلك عن أن الجنة موجودة الآن لقوله تعالى :
أُعِدَّتْ بصيغة الماضي والتأويل خلاف الظاهر ، وقد صرح بخلافه في الأحاديث الصحيحة وتمام الكلام في علم الكلام ، وعلى أن الإيمان وحده كاف في استحقاق الجنة لذكره وحده فيما في حيز ما يشعر بعلة الإعداد وإدخال العمل في الإيمان المعدّى بالباء غير مسلم كذا قالوا ، ومتى أريد بالذين آمنوا المذكورين من لهم درجة في الايمان يعتد بها ، وقيل : بأنها لا تحصل بدون الأعمال الصالحة على ما سمعته منا قريبا انخدش الاستدلال الثاني في الجملة كما لا يخفى ، وذكر النيسابوري في وجه التعبير هنا - بسابقوا - وفي آية آل عمران - بسارعوا - وبالسماء هنا ، والسماوات هناك - وبكعرض - هنا - وبعرض - بدون أداة تشبيه ثمّ كلاما مبنيا على أن المراد بالمتقين هناك السابقون المقربون ، وبالذين آمنوا هنا من هم دون أولئك حالا فتأمل ذلِكَ أي الذي وعد من المغفرة والجنة فَضْلُ اللَّهِ عطاؤه الغير الواجب عليه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إيتاءه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فلا يبعد منه عز وجل التفضل بذلك على من يشاء وإن عظم قدره ، فالجملة تذييل لإثبات ما ذيل بها.
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي نائبة أيّ نائبة وأصلها في الرمية وهي من أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم خصت بها.
وزعم بعضهم أنها لغة عامة في الشر والخير وعرفا خاصة بالشر ، ومِنْ مزيدة للتأكيد ، وأصاب جاء في الشر كما هنا ، وفي الخير كقوله تعالى : وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ [النساء : 73] وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتبارا بالصوب أي بالمطر وفي الشر اعتبارا بإصابة السهم ، وكلاهما يرجعان إلى أصل وتذكير الفعل في مثل ذلك جائز كتأنيثه ، وعليه قوله تعالى : ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر : 5 ، المؤمنون : 43] والكلام على العموم لجميع الشرور أي مصيبة أيّ مصيبة فِي الْأَرْضِ كجدب وعاهة في الزرع والثمار وزلزلة وغيرها وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ كمرض وآفة كالجرح والكسر إِلَّا فِي كِتابٍ أي إلا مكتوبة مثبتة في اللوح المحفوظ ، وقيل : في علم اللّه عز وجل.
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي نخلقها ، والضمير على ما روي عن ابن عباس وقتادة والحسن وجماعة : للأنفس ، وقيل : للأرض ، واستظهر أبو حيان كونه للمصيبة لأنها هي المحدث عنها ، وذكر الأرض والأنفس إنما هو على سبيل ذكر محلها ، وذكر المهدوي جواز عوده على جميع ما ذكر ، وقال جماعة : يعود على المخلوقات وإن لم يجر لها ذكر ، وقيل : المراد بالمصيبة هنا الحوادث من خير وشر وهو خلاف الظاهر من استعمال المصيبة إلا أن فيما بعد نوع تأييد له وأيا ما كان ففي الأرض متعلق بمحذوف مرفوع أو مجرور صفة لمصيبة على الموضع أو على اللفظ ، وجوز أن يكون ظرفا لأصاب أو للمصيبة ، قيل : وإنما قيدت المصيبة بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأنها غير متناهية ، واللوح متناه وهو لا يكون ظرفا لغير المتناهي ولذا
جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة»
وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه سبحانه لم يذكر أحوال أهل السماوات لعدم تعلق الغرض بذلك مع قلة المصائب في أهلها لا يكاد يصيبهم سوى مصيبة الموت ، وما ذكره في وجه التخصيص الأول لا يتم إذا أريد بالكتاب علمه سبحانه ، وقيل : بأن كتابة الحوادث فيه على نحو كتابتها في القرآن العظيم بناء على ما يقولون : إنه ما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه حتى أسماء الملوك ومددهم وما يقع منهم ولو قيل في وجهه - إن الأوفق بما تقدم من شرح حال الحياة الدنيا إنما هو ذكر المصائب الدنيوية فلذا خصت بالذكر - لكان تاما مطلقا إِنَّ ذلِكَ أي إثباتها في كتاب عَلَى اللَّهِ لا غيره سبحانه يَسِيرٌ لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة ، وإن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 187
أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره لأنه من مقتضيات ذاته عز وجل ، وفي الآية رد على هشام بن الحكم الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها ، وفي الإكليل إن فيها ردا على القدرية ، وجاء ذلك في خبر مرفوع ،
أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر الزمان لا يسدّه شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب من مصيبة» الآية.
وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي اللّه تعالى عنها فقالا :
«إن أبا هريرة يحدث أن نبي اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان يقول إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فقالت :
والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما هكذا كان يقول ، ولكن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول :
كان أهل الجاهلية يقولون : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار
،
ثم قرأت ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ الآية لِكَيْلا تَأْسَوْا أي أخرناكم بذلك لئلا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي أعطاكموه اللّه تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتس ما قدّر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت ، وعلم كون الكل مقدرا مع أن المذكور سابقا المصائب دون النعم وغيرها لأنه لا قائل بالفرق وليس في النظم الكريم اكتفاء كما توهم ، نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم أوضح كما لا يخفى وترك التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأول إلى ضمير الموصول والثاني إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي للأشياء فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إليه عز وجل كما حقق في موضعه. وعليه قول الشاعر :
فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى وعرج على الباقي وسائله لم بقي
ومثل هذه القراءة قراءة عبد اللّه - أوتيتم - مبنيا للمفعول أي أعطيتم وقرأ أبو عمرو - أتاكم - من الإتيان أي جاءكم وعليها بين الفعلين تعادل ، والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر اللّه تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغى الملهى عن الشكر ، وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة اللّه تعالى والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما.
أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال في الآية : ليس أحد إلا هو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا ومن أصابه خير جعله شكرا ، وقوله تعالى : وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والاختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه ، والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالمال والجاه.
وذكر بعضهم أن الاختيال في الفعل والفخر فيه وفي غيره ، والمراد من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عز وجل وأولا بالإثابة والتعذيب ، ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه ، ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله : إذا تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن ، نعم إن هذا الحكم أكثري لا كلي ، وقوله تعالى : الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يدل من كُلَّ مُخْتالٍ بدل لك من كل فإن المختال بالمال يضن به غالبا ويأمر غيره بذلك ، والظاهر أن المراد أنهم يأمرون حقيقة ، وقيل : كانوا قدوة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين إلخ ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن الإنفاق الغني عنه اللّه عز وجل ، ويدل عليه قوله تعالى : وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن اللّه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 188
سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله ، وقيل : تقديره مستغنى عنهم ، أو موعودون بالعذاب أو مذمومون.
وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت - لكل مختال - فإنه مخصص نوعا ما من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا ليس بشيء ، وقال ابن عطية : جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى ما في الجملة من الإشعار بالتهديد لمن تولى ، وقرأ نافع وابن عامر - فإن اللّه الغني - بإسقاط - هو - وكذا في مصاحف المدينة والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل ، قال أبو علي : ولا يحسن أن يكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما بعده صالح لأن يكون خبرا فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا مبني على وجوب توافق القراءتين إعرابا وليس بلازم لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي من بني آدم كما هو الظاهر بِالْبَيِّناتِ أي الحجج والمعجزات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي جنس الكتاب الشامل للكل ، والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان ، وقيل : مقارنة بتنزيل الاتصال منزلة المقارنة وَالْمِيزانَ الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره ، وإنزاله إنزال أسبابه ، ولو بعيدة ، وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته.
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ علة لا نزال الكتاب والميزان والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان ، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشا ومعادا.
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ قال الحسن : أي خلقناه كقوله تعالى : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر : 6] وهو تفسير يلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ما ثبت فيه.
وقال قطرب : هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف فِيهِ بَأْسٌ أي عذاب شَدِيدٌ لأن آلات الحرب تتخذ منه ، وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس ، وقوله تعالى : وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش ، ومن يوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع ، وليتم القيام بالقسط ، كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده ، والجملة الظرفية في موضع الحال ، وقوله سبحانه : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم اللّه تعالى علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له ، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم إلخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقة مقامه ، وقوله تعالى : بِالْغَيْبِ حال من فاعل ينصر ، أو من مفعوله أي غائبا منهم أو غائبين منه ، وقوله عز وجل : إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ اعتراض تذييلي جيء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد.
هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام ، وفسر - البينات - كما فسرنا بناء على الملائكة ترسلبالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر ، وإنزال الميزان بمعنى الآلة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 189
عنده على حقيقته ، قال :
روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام ، وقال : مر قومك يزنوا به
. وفسره كثير بالعدل ، وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان ، وروي أنه نزل ومعه المرّ والمسحاة ، وقيل : نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة ، وفسرت بالمسن ، وتجيء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها ، وقيل : ما تحدّ به الرحى ، وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالباسنة وهي آلات الصناع ، وقيل : سكة الحرث وليس بعربي محض واللّه تعالى أعلم.
واستظهر أبو حيان كون - ليقوم الناس بالقسط - علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى ، وقوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وباللّه لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم.
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب ، وقال ابن عباس : الكتاب الخط بالقلم ، وفي مصحف عبد اللّه - والنبية - مكتوبة بالياء عوض الواو فَمِنْهُمْ أي من الذرية وقيل : أي من المرسل إليهم المدلول عليه بذكر الإرسال والمرسلين مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم ، ولم يقل - ومنهم - ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه ، وعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول وأصل التقفية جعل الشيء خلف القفا ، وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومها. وقيل : لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام.
واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحا فإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره ، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه ، وقيل : للذرية ، وفيه أن الرسل المقفي بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفي والمقفي به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ جعلناه بعد.
وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة والسلام وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ بأن أوحينا إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة : وقرأ الحسن «الإنجيل» بفتح الهمزة ، وقال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له ، قال الزمخشري : وأمره أهون من من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولّد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم ، وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً أي خلقنا أو صيرنا - ففي قلوب - في موضع المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا ، ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح : 29] والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل : إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع ، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرىء رافة على فعالة كشجاعة وَرَهْبانِيَّةً منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية.
ابْتَدَعُوها فهو من باب الاشتغال ، واعترض بأنه يشترط فيه - كما قال ابن الشجري وأبو حيان - أن يكون

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 190
الاسم السابق مختصا يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الابتداء ، ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الاسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم : شر أهر ذا ناب.
ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى أو منصوب بالعطف على ما قبل ، وجملة ابْتَدَعُوها في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم ، وبعضهم جعله معطوفا على ما ذكر ولم يتعرض للحذف ، وقال : الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس ، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي ، وأفعال العباد يتعلق بها جعل اللّه تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد ، والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل : وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناء على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره ، وفائدة فِي قُلُوبِ على هذا التصوير على ما قيل ، ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الإنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا التأويل أو اعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضي للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلا ، ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن ، ويراد في ابْتَدَعُوها وما بعده وليس الداعي للتأويل الاعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل.
وقرىء «رهبانيّة» بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب : يكون واحدا وجمعا فالنسبة إليه باعتبار كونه واحدا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال : إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطى حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال ، وقوله تعالى : ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة ، وقوله سبحانه : إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكن ابتدعوها وألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان اللّه تعالى ، وقوله تعالى : فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر وهو عهد مع اللّه تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز وجل.
واستدل بذلك على أن من اعتاد تطوعا كره له تركه ، وجوز أن يكون قوله تعالى : ما كَتَبْناها إلخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لا نفسه كما في الوجه الأول ، وقوله سبحانه : إِلَّا ابْتِغاءَ إلخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان اللّه تعالى ويستحقوا بها الثواب ، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروي عن قتادة وجماعة ، وهذا مروي عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين ابْتَدَعُوها وما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلخ حيث إن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلا والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان اللّه تعالى لما أشرنا إليه من معنى ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ إلخ ، ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال : الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤول ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أو لا ما
أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس «أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليه فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم»
يعني الآية ، والظاهر أن ضمير فما رعوها

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 191
لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية ، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم ، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في - بنو تميم قتلوا زيدا - والقاتل بعضهم.
وقال الضحاك وغيره : الضمير في فَما رَعَوْها للاخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة ، والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى : فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ الذين آمنوا إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم الايمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم أَجْرَهُمْ أي ما يختص به من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة والسلام ، وليس المراد بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر ، ويجوز أن يقال : إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة والسلام ، قال الزجاج : قوله تعالى : فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها على ضربين : أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم ، والآخر وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة اللّه تعالى فما رعوا تلك الرهبانية ، ودليل ذلك قوله تعالى : فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ إلخ انتهى ، فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والفاسقين في قوله تعالى : وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ على الذين لم يؤمنوا به صلى اللّه تعالى عليه وسلم مقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول اللّه عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام.
ومن الآثار ما يأباه
ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن مسعود «اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين اللّه وعيسى ابن مريم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين اللّه ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال اللّه : وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الذين آمنوا بي وصدقوني وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الذي جحدوا بي وكفروا بي»
وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج ، ويعلم منه أيضا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقا ، والذي تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه ، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء : البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة «1» فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك ، ومن المباحة التبسط في ألوان الاطعمة وغير ذلك ، والحرام والمكروه ظاهران ، فعلم أن
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم «كل بدعة ضلالة»
من العام المخصوص.
___________
(1) هذا التقسيم لا يصح أن يكور للبدع بالمعنى الشرعي إذا ما ذكره دل عليه الكتاب والسنة وإنما يصح للبدع بالمعنى اللغوي وقد أشبع الكلام على ذلك الاعتصام فراجعه اه إدارة الطباعة النيرية.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 192
وقال صاحب جامع الأصول : الابتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر اللّه تعالى به ورسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعا تحت عموم ما ندب اللّه تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف ، ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه في صلاة التراويح : نعمت البدعة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أمته صلى اللّه تعالى عليه وسلم غير أهل الكتاب والآثار تؤيد ذلك ،
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قالا : إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فشهدوا معه أحدا فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا : يا رسول اللّه إنّا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل اللّه تعالى فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله سبحانه : أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص : 52 - 54] فجعل لهم أجرين فلما نزلت هذه الآية قالوا : يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية أي أي رادا عليهم قولهم : ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم.
وفي الكشاف إن قائل ذلك من لم يكن آمن من أهل الكتاب قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون به على المسلمين ، والمعنى يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان اتَّقُوا اللَّهَ اثبتوا على تقواه عز وجل فيما نهاكم عنه.
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ وأثبتوا على الإيمان برسوله الذي أرسله إليكم وهو محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من الدلالة على جلالة قدره عليه الصلاة والسلام يُؤْتِكُمْ بسبب ذلك.
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال أبو موسى الأشعري : ضعفين بلسان الحبشة ، وقال غير واحد : نصيبين ، والمراد إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل : يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم صلى اللّه تعالى عليه وسلم عليهم أجمعين لا تفرقوا بين أحد من رسله.
وقال الراغب : الكفل الحظ الذي فيه الكفاية كأنه تكفل بأمره ، والكفلان هما المرغوب فيهما بقوله تعالى رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة : 201] ولا دلالة على التخصيص.
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يوم القيامة وهو النور المذكور في قوله تعالى : يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد : 12] وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما سلف منكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي مبالغ في المغفرة والرحمة فلا بدع إذا فعل سبحانه ما فعل ، وقوله تعالى : لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قيل :
متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير إن تتقوا اللّه وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا إلخ ، وقيل : متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع ، أو بمقدر كفعل ذلك وأعلمهم ونحوه و(لا) مزيدة مثلها في قوله تعالى : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف : 12] ويجوز زيادتها مع القرينة كثيرا و(أن) مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي إنهم ، وقيل : ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب على أنها مفعول يعلم أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا ينالون شيئا من فضل اللّه من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام فقولهم : من لم يؤمن بكتابكم فله أجر باطل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : لما نزلت أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 193
54] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : لنا أجران ولكم أجر فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب ، وقال الثعلبي : فأنزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه : لِئَلَّا يَعْلَمَ إلخ ، وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عز وجل فيزوره عن المؤمنين ويستبدوا به دونهم ، وقوله تعالى : وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ عطف على أن لا يقدرون داخل معه في حيز العلم ، وقوله سبحانه : يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ خبر ثان لأن أو هو الخبر وما قبله على ما قيل : حال لازمة أو استئناف ، وقوله عز وجل : وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله.
وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو لمن لم يؤمن منهم بعد : فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أي اثبتوا على الإيمان به أو أحدثوا الايمان به عليه الصلاة والسلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيبا على إيمانكم بمن آمنتم به أولا ونصيبا على إيمانكم بمحمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم آخرا ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا مما يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان برسوله صلّى اللّه عليه وسلم. وأيد ذلك بما
في صحيح البخاري «من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران ، وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ، وأيما مملوك أدى حق اللّه تعالى وحق مواليه فله أجران»
ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى ، ولذا قيل : الخطاب لهم لأن ملتهم غير منسوخة قبل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها فيثابون على العمل بها حتى يجب عليه الإيمان بالنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضا فكان لهم ثوابان ، نعم قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به ، ويجاب بأنه لا يبعد أن يثابوا على العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة الإسلام.
وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابي بنبيه وإن كان منسوخ الشريعة فإن الإيمان بكل نبي فرض سواء كان منسوخ الشريعة أم لا ، وقيل : إن (لا) في لِئَلَّا يَعْلَمَ غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمؤمنين أي فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبي صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنون به على شيء من فضل اللّه تعالى الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه ، أو أنهم أي النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون لا يقدرون إلخ ، على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله سبحانه : وَأَنَّ الْفَضْلَ إلخ معطوفا على - أن لا يعلم - داخلا معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل : فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد اللّه فيكون من عطف الغاية على الغاية بناء على المشهور ولتكلف هذا القيل مع مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين ، وقرأ خطاب بن عبد اللّه - لأن لا يعلم - بالإظهار ، وعبد اللّه بن مسعود وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد اللّه بن سلمة على اختلاف ليعلم ، وقرأ الجحدري أيضا - ولييعلم - على أن أصله لئن يعلم فقلبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة ، وروى ابن مجاهد عن الحسن - ليلا - مثل ليلى اسم المرأة «يعلم» بالرفع ، ووجه بأن أصله - لأن لا - بفتح لام الجر وهي لغة عليه قوله :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
فحذفت الهمزة اعتباطا وأدغمت النون في اللام فصار - للا - فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 194
المدغمة ياء نظير ما فعلوا في قيراط ودينار حيث إن الأصل قراط ودنار فأبدوا أحد المثلين فيهما ياء للتخفيف فصار - ليلا - ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع ، وروى قطرب عن الحسن أيضا - ليلا - بكسر اللام ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر وعن ابن عباس كي يعلم ، وعنه أيضا لكيلا يعلم ، وعن عبد اللّه وابن جبير وعكرمة لكي يعلم.
وقرأ عبد اللّه أن لا يقدروا بحذف النون على أن إن هي الناصبة للمضارع ، واللّه تعالى أعلم.
ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ قالوا : هو إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل ، وقالوا في قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ إشارة إلى أنهم لا وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عز وجل ، وقوله تعالى : يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإفاضة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم اللّه تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات.
وقال سبحانه : اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الاشتغال بمداواة القلب الميت فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أوردها الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال والأوقات - ويرجع ما قالوه فيها - على ما قيل - إلى حفظها عن إيقاع خلل فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أي نصيبين نصيبا من معارف الصفات الفعلية ونصيبا من معارف الصفات الذاتية وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً من نور ذاته عز وجل وهو على ما قيل : إشارة إلى البقاء بعد الفناء ، وقيل : هذا النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقيل : هو نور العلم النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات الإلهية كما يشير إليه وصفه بقوله عز وجل :
تَمْشُونَ بِهِ وفي بعض الآثار «من عمل بما علم علمه اللّه تعالى علم ما لم يعلم»
وقال سبحانه : اتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وكل ذلك في الحقيقة فضل اللّه تعالى واللّه عز وجل ذو الفضل العظيم نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من اللّه تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم.
تم بعونه تعالى وتوفيقه الجزء السابع والعشرون ، ويليه الجزء الثامن والعشرون أوله سورة المجادلة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 195
روح المعاني الجزء الثامن والعشرون

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 196

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 197
سورة المجادلة
بفتح الدال وكسرها ، والثاني هو المعروف ، وتسمى سورة - قد سمع - وسميت في مصحف أبيّ رضي اللّه تعالى عنه الظهار ، وهي على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم مدنية وقال الكلبي وابن السائب إلا قوله تعالى : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة : 7] ، وعن عطاء : العشر الأول منها مدني وباقيها مكي ، وقد انعكس ذلك على البيضاوي ، وأنها إحدى وعشرون في المكي والمدني الأخير ، واثنتان وعشرون في الباقي ، وفي التيسير هي عشرون وأربع آيات وهو خلاف المعروف في كتاب العدد.
ووجه مناسبتها لما قبلها أن الأولى ختمت بفضل اللّه تعالى وافتتحت هذه بما هو من ذلك ، وقال بعض الأجلة في ذلك : لما كان في مطلع الأولى ذكر صفاته تعالى الجليلة ، ومنها الظاهر والباطن ، وقال سبحانه : يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد : 4] افتتح هذه بذكر أنه جل وعلا سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى ، ولهذا قالت عائشة فيما رواه النسائي وابن ماجة والبخاري تعليقا حين نزلت : «الحمد للّه الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل اللّه تعالى قَدْ سَمِعَ [المجادلة : 1]» إلخ ، وذكر سبحانه بعد ذلك أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ الآية ، وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر مع تواخيهما في الافتتاح - بسبح - إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأمل.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 إلى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ بإظهار الدال ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن بإدغامها في السين ، قال خلف بن هشام البزار : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع فبين الدال فلسانه أعجمي ليس بعربي ، ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر بل الجمهور على البيان قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 198
أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظهار ، وقرى ء - تحاورك - والمعنى على ما تقدم وتحاولك أي تسائلك وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ عطف على تُجادِلُكَ فلا محل للجملة من الإعراب ، وجوز كونها حالا أي تجادلك شاكية حالها إلى اللّه تعالى ، وفيه بعد معنى ، ومع هذا يقدر معها مبتدأ أي وهي تشتكي لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية ، واشتكاؤها إليه تعالى إظهار بثها وما انطوت عليه من الغم والهم وتضرعها إليه عز وجل وهو من الشكو ، وأصله فتح الشكوة وإظهار ما فيها ، وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء ثم شاع في ذلك ، وهي امرأة صحابية من الأنصار اختلف في اسمها واسم أبيها ، فقيل : خولة بنت ثعلبة بن مالك ، وقيل : بنت خويلد ، وقيل : بنت حكيم ، وقيل : بنت الصامت ، وقيل : خويلة بالتصغير بنت ثعلبة ، وقيل : بنت مالك بن ثعلبة ، وقيل : جميلة بنت الصامت ، وقيل : غير ذلك ، والأكثرون على أنها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية ، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وقيل : هو سلمة بن صخر الانصاري ، والحق أن لهذا قصة أخرى ، والآية نزلت في خولة وزوجها أوس ، وذلك أن زوجها أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه فدخل عليها يوما فراجعته بشيء فغضب ، قال : أنت علي كظهر أمي ، وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه - وكان هذا أول ظهار في الإسلام - فندم من ساعته فدعاها فأبت ، وقالت : والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم اللّه ورسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم فينا ، فأتت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فقالت : يا رسول اللّه إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت بطني - أي كثر ولدي - جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول اللّه تنعشني بها وإياه فحدثني بها؟
فقال عليه الصلاة والسلام : «واللّه ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» ، وفي رواية «ما أراك إلا قد حرمت عليه» قالت :
ما ذكر طلاقا ، وجادلت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام مرارا ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك شدة وحدتي وما يشق علي من فراقه ، وفي رواية قالت : أشكو إلى اللّه تعالى فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك وما برحت حتى نزل القرآن فيها ، فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «يا خولة أبشري قالت : خيرا؟ فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها قَدْ سَمِعَ اللَّهُ الآيات»
وكان عمر رضي اللّه تعالى عنه يكرمها إذا دخلت عليه ويقول : قد سمع اللّه تعالى لها.
وروى ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات أنها لقيته رضي اللّه تعالى عنه وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش على هذه العجوز قال : ويحك أتدري من هذه؟ قال : لا. قال : هذه امرأة سمع اللّه تعالى شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة ، واللّه لو لم تنصرف حتى أتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها ، وفي رواية للبخاري في تاريخه أنها قالت له : قف يا عمر فوقف فأغلظت له القول ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم فقال رضي اللّه تعالى عنه : وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع اللّه تعالى لها فأنزل فيها ما أنزل قَدْ سَمِعَ اللَّهُ الآيات ، والسماع مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية أو كناية عن ذلك ، وقَدْ للتحقيق أو للتوقع ، وهو مصروف إلى تفريج الكرب لا إلى السمع لأنه محقق أو إلى السمع لأنه مجاز أو كناية عن القبول ، والمراد توقع المخاطب ذلك ، وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يتوقع أن ينزل اللّه تعالى حكم الحادثة ويفرج عن المجادلة كربها ، وفي الأخبار ما يشعر بذلك والسمع في قوله تعالى : وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما على ما هو المعروف فيه من

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 199
كونه صفة يدرك بها الأصوات غير صفة العلم ، أو كونه راجعا إلى صفة العلم ، والتحاور المرادة في الكلام ، وجوز أن يراد به الكلام المردد ، ويقال : كلمته فما رجع إلي حوارا وحويرا ومحورة أي ما رد علي بشيء ، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده ، وفي نظمها في سلك الخطاب تغليبا تشريف لها من جهتين ، والجملة استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فإن إلحافها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى اللّه تعالى ومدافعته عليه الصلاة والسلام إياها وعلمه عز وجل بحالهما من دواعي الاجابة ، وقيل : هي حال كالجملة السابقة ، وفيه أيضا بعد ، وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تعليل لما قبله بطريق التحقيق أي إنه تعالى يسمع كل المسموعات ويبصر كل المبصرات على أتم وجه وأكمله ومن قضية ذلك أن يسمع سبحانه تحاورهما ، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع ، والاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بما اشتهر به الاسم الجليل من وصف الألوهية وتأكيد استقلال الجملتين ، وقوله عز وجل :
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ شروع في بيان شأن الظهار في نفسه وحكمه المترتب عليه شرعا ، وفي ذلك تحقيق قبول تضرع تلك المرأة وإشكاؤها بطريق الاستئناف.
والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر ، ويراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظا باختلاف الأغراض ، فيقال : ظاهر زيد عمرا أي قابل ظهره بظهره حقيقة وكذا إذا غايظه ، وإن لم يقابل حقيقة باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة ، وظاهره إذا نصره باعتبار أنه يقال : قوي ظهره إذا نصره ، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر باعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب وظاهر من امرأته إذا قال لها : أنت علي كظهر أمي ، وغاية ما يلزم كون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا ، وهو لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا ، وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات.
وعرفه الحنفية شرعا بأنه تشبيه المنكوحة أو عضوا منها يعبر به عن الكل كالرأس أو جزء شائع منها كالثلث بقريب محرم عليه على التأييد أو بعضو منه يحرم عليه النظر إليه.
وحكي عن الشافعية أنه تشبيهها أو عضو منها بمحرم من نسب أو رضاع أو مصاهرة أو عضو منه لا يذكر للكرامة كاليد والصدر ، وكذا العضو الذي يذكر لها كالعين والرأس إن قصد معنى الظهار ، وهو التشبيه بتحريم نحو الأم لا أن قصد الكرامة أو أطلق في الأصح ، وتخصيص المحرم بالأم قول قديم للشافعي عليه الرحمة ، وتفصيل ذلك في كتب الفقه للفريقين ، وكان الظهار بالمعنى السابق طلاقا في الجاهلية قيل : وأول الإسلام.
وحكى بعضهم أنه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه ، وقيل : لم يكن طلاقا من كل وجه بل لتبقى معلقة لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره ، وذكر بعض الأجلة أنهم كانوا يعدونه طلاقا مؤكدا باليمين على الاجتناب ، ولذا قال الشافعية : إن فيه الشائبتين ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الإشارة إلى حكمه الشرعي وعدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التبعيد ولما سمعت أنه كان طلاقا وهو مبعد ، والظهر في قولهم : أنت علي كظهر أمي قيل : مجاز عن البطن لأنه إنما يركب البطن - فكظهر أمي - أي كبطنها بعلاقة المجاورة ، ولأنه عموده لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات ، وقيل : خص الظهر لأنه محل الركوب والمرأة مركوب الزوج ، ومن ثم سمي المركوب ظهرا ، وقيل : خص ذلك لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حراما فإتيانه أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ ، وإقحام مِنْكُمْ في الآية للتصوير والتهجين لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب ، ومنه يعلم أنه ليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة ظهار الذمي كما حكي عن المالكية ، ومن هنا قال الشافعية : يصح من الذمي

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 200
والحربي لعموم الآية ، وكذا الحنابلة والحنفية يقولون : لا يصح منهما ، وفي رواية عن أبي حنيفة صحته من الذمي ، والرواية المعول عليها عدم الصحة لأنه ليس من أهل الكفارة ، وشنع على الشافعية في قولهم بصحته منه مع اشتراطهم النية في الكفارة والإيمان في الرقبة ، وتعذر ملكه لها لأن الكافر لا يملك المؤمن ، وقال بعض أجلتهم إن في الكفارة شائبة الغرامات ونيتها في كافر كفر بالإعتاق للتمييز كما في قضاء الديون لا الصوم لأنه لا يصح منه لأنه عبادة بدنية لا ينتقل عنه للإطعام لقدرته عليه بالإسلام فإن عجز انتقل ونوى للتمييز أيضا ، ويتصور ملكه للمسلم بنحو إرث أو إسلام قنه ، أو يقول لمسلم : أعتق قنك عن كفارتي ، فيجيب فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو مظاهر موسر منع من الوطء لقدرته على ملكه بأن يسلم فيشتريه انتهى.
وفي كتاب بعض الأصحاب كالبحر وغيره كلام مع الشافعية في هذه المسألة فيه نقض وإبرام لا يخلو عن شيء والسبب في ذلك قلة تتبع معتبرات كتبهم ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو - يظهرون - بشد الظاء والهاء ، والأخوان وابن عامر «يظاهرون» مضارع اظاهر ، وأبي «يتظاهرون» مضار تظاهر ، وعنه أيضا - يتظهرون - مضارع تظهر ، والموصول مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون ، وأقيم دليله وهو قوله تعالى : ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ مقامه أو هو الخبر نفسه أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت.
وقرأ المفضل عن عاصم «أمهاتهم» بالرفع على لغة تميم ، وقرأ ابن مسعود - بأمهاتهم - بزيادة الباء ، قال الزمخشري : في لغة من ينصب أي بما الخبر - وهم الحجازيون - يعني أنهم الذين يزيدون الباء دون التميميين وقد تبع في ذلك أبا علي الفارسي ، ورد بأنه سمع خلافه كقول الفرزدق وهو تميمي :
لعمرك ما معن بتارك حقه ولا منسىء معن ولا متيسر
إِنْ أُمَّهاتُهُمْ أي ما أمهاتهم على الحقيقة إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ فلا يشبه بهن من الحرمة إلا من ألحقها اللّه تعالى بهن كالمرضعات ومنكوحات الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم فدخلن في حكم الأمهات ، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ ينكره الشرع والعقل والطبع أيضا كما يشعر به التنكير ، ومناط التأكيد كونه منكرا ، وإلا فصدور القول عنهم أمر محقق وَزُوراً أي وكذبا باطلا منحرفا عن الحق ، ووجه كون الظهار كذلك عند من جعله إخبارا كاذبا - علق عليه الشارع الحرمة والكفارة - ظاهر ، وأما عند من جعله إنشاء لتحريم الاستمتاع في الشرع - كاطلاق على ما هو الظاهر - فوجهه أن ذلك باعتبار ما تضمنه من إلحاق الزوجة بالأم المنافي لمقتضى الزوجية وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي مبالغ في العفو والمغفرة فيغفر ما سلف منه ويعفو عمن ارتكبه مطلقا أو بالتوبة ، ويعلم من الآيات أن الظهار حرام بل قالوا : إنه كبير لأن فيه إقداما على إحالة حكم اللّه تعالى وتبديله بدون إذنه ، وهذا أخطر من كثير من الكبائر إذ قضيته الكفر لولا خلو الاعتقاد عن ذلك ، واحتمال التشبيه لذلك وغيره ، ومن ثم سماه عز وجل مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ، وإنما كره - على ما ذكره بعض الشافعية أنت على حرام - لأن الزوجية ومطلق الحرمة يجتمعان بخلافها مع التحريم المشابه لتحريم نحو الأم ، ومن ثم وجب هنا الكفارة العظمى.
وثم على ما قالوا : كفارة يمين ، وقوله تعالى : وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا إلخ تفصيل لحكم الظهار بعد بيان كونه أمرا منكرا بطريق التشريع الكلي المنتظم لحكم الحادثة انتظاما أوليا ، والموصول مبتدأ ، وقوله تعالى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة ، أو فاعل فعل مقدر أي فيلزمهم تحرير ، أو خبر مبتدأ مقدر أي فالواجب عليهم «تحرير» ، وعلى التقادير الثلاثة الجملة خبر الموصول ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، و- ما - موصولة أو مصدرية ، واللام متعلقة ب يَعُودُونَ وهو يتعدى بها كما يتعدى - بإلى. وبفي -

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 201
فلا حاجة إلى تأويله بأحدهما كما فعل البعض ، والعود لما قالوا على المشهور عند الحنفية العزم على الوطء كأنه حمل العود على التدارك مجازا لأن التدارك من أسباب العود إلى الشيء ، ومنه المثل عاد غيث على ما أفسد أي تداركه بالإصلاح ، فالمعنى والذين يقولون ذلك القول المنكر ثم يتداركونه ينقضه وهو العزم على الوطء فالواجب عليهم إعتاق رقبة.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي كل من المظاهر والمظاهر منها - والتماس - قيل : كناية عن الجماع فيحرم قبل التكفير على ما تدل عليه الآية ، وكذا دواعيه من التقبيل ونحوه عندنا ، قيل : وهو قول مالك والزهري والأوزاعي والنخعي ، ورواية عن أحمد فإن الأصل أنه إذا حرم حرم بدواعيه إذ طريق المحرم محرم ، وعدم اطراد ذلك في الصوم والحيض لكثرة وجودهما فتحريم الدواعي يفضي إلى مزيد الحرج ، وقال العلامة ابن الهمام : التحقيق أن الدواعي منصوص على منعها في الظهار فإنه لا موجب لحمل التماس في الآية على المجاز لإمكان الحقيقة ، ويحرم الجماع لأنه من أفراد التماس كالمس والقبلة ، وقال غيره : تحرم أقسام الاستمتاع قبل التكفير لعموم لفظ التماس فيشملها بدلالة النص ، ومقتضى التشبيه في قوله : كظهر أمي فإن المشبه به لا يحل الاستمتاع به بوجه من الوجوه فكذا المشبه ، ويحرم عند الشافعية أيضا الجماع قبله ، وكذا يحرم لمس ونحوه من كل مباشرة لا نظر بشهوة في الأظهر كما في المحرر ، وقال الإمام النووي عليه الرحمة : الأظهر الجواز لأن الحرمة ليست لمعنى يخل النكاح فأشبه الحيض ، ومن ثم حرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في هذا المقام.
وحكى البيضاوي عن الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أن نقض القول المراد بالعود بإباحة التمتع بها ولو بنظرة بشهوة ، وحمل ذلك على استباحة التمتع بمباشرته بوجه ما دون عدّه مباحا من غير مباشرة.
ولعله أريد بالمباشرة بوجه ما مباشرة ليست من التماس الذي قالوا بحرمته قبل التكفير ، وأيا ما كان فظاهر تعليق الحكم بالموصول يدل على علية ما في حيز الصلة أعني الظهار والعود له فهما سببان للكفارة وهذا أحد أقوال في المسألة.
قال العلامة ابن الهمام : اختلف في سبب وجوبها فقال في النافع : تجب بالظهار والعود لأن الظهار كبيرة فلا يصلح سببا للكفارة لأنها عبادة ، أو المغلب فيها معنى العبادة ولا يكون المحظور سببا للعبادة فعلق وجوبها بهما ليخف معنى الحرمة باعتبار العود الذي هو إمساك بمعروف فيكون دائرا بين الحظر والإباحة ، وعليه فيصلح سببا للكفارة الدائرة بين العبادة والعقوبة ، وقيل : سبب وجوبها العود والظهار شرطه ، ولفظ الآية أي المذكور يحتملهما فيمكن كون ترتيبها عليهما ، أو على الأخير لكن إذا أمكن البساطة صير إليها لأنها الأصل بالنسبة إلى التركيب فلهذا قال في المحيط :
سبب وجوبها العزم على الوطء والظهار شرطه ، وهو بناء على أن المراد من العود في الآية العزم على الوطء ، واعترض بأن الحكم يتكرر بتكرر سببه لا شرطه والكفارة متكررة بتكرر الظهار لا العزم ، وكثير من مشايخنا على أنه العزم على إباحة الوطء بناء على إرادة المضاف في الآية أي يعودون لضد ما قالوا أو لتداركه ، ويرد عليه ما يرد على ما قبله ، ونص صاحب المبسوط على أن بمجرد العزم لا تتقرر الكفارة حتى لو أبانها أو ماتت من بعد العزم فلا كفارة فهذا دليل على أنها غير واجبة لا بالظهار ولا بالعود إذ لو وجبت لما سقطت بل موجب الظهار ثبوت التحريم ، فإذا أراد رفعه وجب عليه في رفعه الكفارة كما تقول لمن أراد الصلاة النافلة : يجب عليك إن صليتها أن تقدم الوضوء انتهى.
ولا يخفى أن إرادة المضاف غير متعين بناء على ما نقل عن الكثير من المشايخ ، وأن ظاهر الآية يفيد السببية كما ذكرنا آنفا ، ويكون الموجب للكفارة الأمران ، وبه صرح بعض الشافعية وجعل ذلك قياس كفارة اليمين ، ثم قال :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 202
ولا ينافي ذلك وجوبها فورا مع أن أحد سببيها - وهو العود - غير معصية لأنه إذا اجتمع حلال وحرام ولم يمكن تميز أحدهما عن الآخر غلب الحرام ، وظاهر كلام الإمام النووي عليه الرحمة أن موجبها الظهار والعود شرط فيه وهو بعكس ما نقل عن المحيط ، ثم إن من جعل السبب العزم أراد به العزم المؤكد حتى لو عزم ثم بدا له أن لا يطأها لا كفارة عليه لعدم العزم المؤكد لا أنها وجبت بنفس العزم. ثم سقطت - كما قال بعضهم - لأنها بعد سقوطها لا تعود إلا بسبب جديد كذا في البدائع ، وذكر ابن نجيم في البحر عن التنقيح أن سبب الكفارة ما نسبت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة ، ثم قال : إن كون كفارة الظهارة كذلك على قول من جعل السبب مركبا من الظهار والعود ظاهر لكون الظهار محظورا والعود مباحا لكونه إمساكا بالمعروف ونقضا للزور.
وأما على القول بأن المضاف - إليه وهو الظهار سبب - وهو قول الأصوليين فكونه دائرا بين الحظر والإباحة مع أنه منكر من القول وزور باعتبار أن التشبيه يحتمل أن يكون للكرامة فلم يتمحض كونه جناية ، واستظهر بعد أنه لا ثمرة للاختلاف في سببها معللا بأنهم اتفقوا على أنه لو عجلها بعد الظهار قبل العود جاز ولو كرر الظهار تكررت الكفارة وإن لم يتكرر العزم ، ولو عزم ثم ترك فلا وجوب ، ولو عزم ثم أبانها سقطت ولو عجلها قبل الظهار لم يصح ، ثم إنه لا استحالة في جعل المعصية سببا للعبادة التي حكمها أن تكفر المعصية وتذهب السيئة خصوصا إذا صار معنى الزجر فيها مقصودا وإنما المحال أن تجعل سببا للعبادة الموصلة إلى الجنة انتهى ، ولا يخلو عن حسن ما عدا توجيه كون الظهار دائرا بين الحظر والإباحة فإنه كما ترى.
وفسر بعضهم العود بالرجوع واللام بعن كما نقل عن الفراء أي ثم يرجعون عما قالوا : فيريدون الوطء ، قال الزيلعي : وهذا تأويل حسن لأن الظهار موجبه التحريم المؤبد فإذا قصد وطأها وعزم عليه فقد رجع عما قال : ولا يخفى أن جعل اللام بمعنى عن خلاف الظاهر ، وقيل : العود الرجوع ، والمراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار وهو التماس تنزيلا للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى : وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم : 80] والمعنى ثم يريدون العود للتماس ، وفيه تجوزان ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن معنى ثُمَّ يَعُودُونَ ثم يندمون ويتوبون أي يعزمون على التوبة ، وكأنه حمل العود على التدارك والتائب متدارك لما صدر عنه بالتوبة.
واعترض بأنه يقتضي أنه إذا لم يندم لا تلزمه الكفارة وإذا جعلت الكفارة نفس التوبة فأين معنى العود؟ وأيضا لا معنى لقول القائل ثم يعزمون على الكفارة فَتَحْرِيرُ إلخ ، والعود عند الشافعية يتحقق في غير مؤقت ورجعية بأن يمسكها على الزوجية ولو جهلا ونحوه بعد فراغ ظهاره ولو مكرر للتأكيد وبعد علمه بوجود الصفة في المعلق وإن نسي أو جنّ عند وجودها زمن إمكان فرقة شرعا فلا عود في نحو حائض إلا بالإمساك بعد انقطاع دمها لأن تشبيهها بالمحرم يقتضي فراقها فبعدم فعله صار ناقضا له متداركا لما قال ، فلو اتصل بلفظ الظهار فرقه بموت أو فسخ بنحو ردة قبل وطء أو طلاق بائن أو رجعي ، ولم يراجع أو جن أو أغمي عليه عقب اللفظ ولم يمسكها بعد الإفاقة فلا عود للفرقة أو تعذرها أولا عنها في الأصح بشرط سبق القذف ، والرفع للقاضي ظهاره في الأصح ولو راجع من ظاهر منها رجعية أو من طلقها رجعيا عقب الظهار أو ارتد متصلا وهي موطوءة ثم أسلم ، فالمذهب أنه عائد بالرجعة لأن المقصود بها استباحة الوطء لا بالإسلام لأن المقصود به العود للدين الحق والاستباحة أمر يترتب عليه إلا إذا أمسكها بعده زمنا يسع الفرقة ، وفي الظهار المؤقت الواقع كما التزم على الصحيح لخبر صحيح فيه الأصح أن العود لا يحصل بإمساك بل بوطء مشتمل على تغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها في المدة للخبر أيضا ولأن الحل منتظر بعدها ، فالإمساك يحتمل كونه لانتظاره أو للوطء فيها فلم يتحقق الإمساك لأجل الوطء إلا بالوطء فيها فكان المحصل للعود.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 203
واعترض ما قالوه بأن ثُمَّ تدل على التراخي الزماني والإمساك المذكور معقب لا متراخ فلا يعطف - بثم - بل بالفاء ، ورد بأن مدة الإمساك ممتدة ، ومثله يجوز فيه العطف - بثم - والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه ، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بأنها للدلالة على أن العود أشد تبعة وأقوى إثما من نفس الظهار حتى يقال عليه : إنه غير مسلم ، ولا إلى قول الإمام أنه مشترك الإلزام بين الشافعية والحنفية القائلين : بأن العود استباحة الاستمتاع فيمنع أيضا لأن الاستباحة المذكورة عقب الظهار - قولا - نادرة فلا يتوجه ذلك على الحنفية.
واعترض أيضا بأن الظهار لم يوجب تحريم العقد حتى يكون العود إمساكها ، ومن تعليل الشافعية السابق يعلم ما فيه ، وفي التفريع لابن الجلاب المالكي أنه روي عن الامام مالك في المراد بالعود روايتان : إحداهما أنه العزم على إمساكها بعد الظهار منها ، والرواية الأخرى أنه العزم على وطئها ، ثم قال : ومن أصحابنا من قال : العود في إحدى الروايتين عن مالك هو الوطء نفسه ، والصحيح عندي ما قدمته انتهى من مدونه.
وابن حجر نسب القول : بأنه العزم على الوطء إلى الإمام مالك والإمام أحمد ، والقول : بأنه الوطء نفسه إلى الإمام أبي حنيفة ، وذكر أنهما قولان للإمام الشافعي في القديم ، وما حكاه عن الإمام أبي حنيفة لم يحكه عنه فيما نعلم أحد من أصحابه ، وحكاه الزيلعي عن الامام مالك ، ولم يحك عنه غيره ، وحكاه أبو حيان في البحر عن الحسن وقتادة وطاوس والزهري وجماعة ، وأفاد أنه إحدى روايتين عن مالك ، ثانيتهما أنه العزم على الإمساك والوطء.
واعترض القول به ممن كان وكذا القول : بأنه العزم على الوطء بأن الآية لما نزلت ، وأمر صلّى اللّه عليه وسلم المظاهر بالكفارة لم يسأله هل وطئ أو عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك ، والوقائع القولية كهذه يعممها الاحتمال ، وأنها ناصة على وجوب الكفارة قبل الوطء فيكون العدو سابقا عليه ، فكيف يكون هو الوطء؟! وأجاب القائل : بأنه العزم على الوطء عن ترك السؤال بأن ذلك لعلمه عليه الصلاة والسلام به من خولة ، فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي من طريق يوسف بن عبد اللّه بن سلام قال : حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت : فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل اللّه تعالى صدر سورة المجادلة كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب فقال : أنت علي ظهر أمي ، ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قلت : كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فينا ، ثم جئت إلى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فذكرت له ذلك فما برحت حتى نزل القرآن الخبر ، فإن ظاهر قولها : فذكرت له ذلك أنها ذكرت كل ما وقع ، ومنه طلب أوس وطأها المكنى عنه بيريدني عن نفسي ، وذكر ذلك له عليه الصلاة والسلام أهم لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد اللّه بن سلام.
وأجيب من جهة القائل : بأنه الوطء عن الأخير بأن المراد من الآية عند ذلك القائل من قبل أن يباح التماس شرعا ، والوطء أولا حرام موجب للتفكير - وهو كما ترى - ونقل عن الثوري ومجاهد أن معنى الآية والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام ثم يعودون لمثله فكفارة من عاد أن يحرر رقبة ثم يماس المظاهر منها فحملا العود والقول على حقيقتهما ، ثم اعتبار العادة دلالة على أن العدول إلى المضارع في الآية للاستمرار فيما مضى وقتا فوقتا. وأخذ القطع من دلالة ثُمَّ على التراخي وليصح على وجه لا يلزم تعليق وجوب الكفارة بتكرار لفظ الظهار كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى حكايته.
وتعقب ذلك بأن فيه أن الاستمرار ينافي القطع ، ثم إنهم ما كانوا قطعوه بالإسلام لأن الشرع لم يكن ورد بعد بتحريمه ، وظاهر النظم الجليل أنه مظاهرة بعد الإسلام لأنه مسوق لبيان حكمه فيه وعليه ينطبق سبب النزول وهو

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 204
يقتضي أن يكون مجرد الظهار من غير عود موجبا للكفارة ، وهو خلاف ما عليه علماء الأمصار وأجيب عن هذا الأخير بأنهما إن نقل عنهما ذلك اجتهادا فلا يلزمهما موافقة غيرهما وهو المصرح به في كتاب الأحكام وغيره ، وإن لم ينقل عنهما غير تفسير العود في الآية بما أشير إليه ، فيجوز أن يشترطا لوجوب الكفارة شيئا مما مر لكن لا يقولان : إنه المراد بالعود فيها ، وقال أهل الظاهر : المعنى الذين يقولون هذا القول المنكر ثم يعودون له فيكررونه بأن يقول أحدهم :
أنت علي كظهر أمي ثم يعود له ويقوله ثانيا فكفارته تحرير رقبة إلخ فحملوا العود والقول على حقيقتهما أيضا.
وروي ذلك عن أبي العالية وبكير بن عبد اللّه بن الأشج والفراء أيضا ، وحكاه أبو حيان رواية عن الإمام أبي حنيفة ، ولا نعلم أحدا من أصحابه رواه عنه ، وتعقب بأنه لو أريد ذلك لقيل : يعودون له فانه أخصر ولا يبقى لكلمة ثُمَّ حسن موقع ، هذا ولا فقه فيه من حيث المعنى ، والمنزل فيه - أعني قصة خولة - يدفعه إذ لم ينقل التكرار ، ولا سأل عنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وهذا الدفع قوي ، وأما ما قيل : فقد أجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون الفقه فيه أنه ليس صريحا في التحريم فلعله يسبق لفظه به من غير قصد لمعناه.
فإذا كرره تعين أنه قصده وأن العدول عن له إلى لِما قالُوا لقصد التأكيد بالإظهار ، وأن العطف - بثم - لتراخي رتبة الثاني وبعده عن الأول لأنه الذي تحقق به الظهار ، وقول الزيلعي في الاعتراض عليه : إن اللفظ لا يحتمله - لأنه لو أريد ذلك لقيل : يعيدون القول الأول بضم الياء وكسر العين من الإعادة لا من العود - جهل من قلة العود لكلام الفصحاء والرجوع إلى محاوراتهم ، وقال أبو مسلم الأصفهاني : معنى العود أن يحلف أولا على ما قال من الظهار بأن يقول : واللّه أنت علي كظهر أمي وهو عود لما قال وتكرار له معنى لأن القسم لكونه مؤكدا للمقسم عليه يفيد ذلك فلا تلزم الكفارة في الظهار من غير قسم عنده ، وهذا القول إلغاء للظهار معنى لأن الكفارة لحلفه على أمر كذب فيه ، وأيضا المنزل فيه يدفعه إذ لم ينقل الحلف ولا سأل عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والأصل عدمه ، وقيل : عوده تكراره الظهار معنى بأن يقول : أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا ثم يفعله فإنه يحنث وتلزمه الكفارة ، وتعد مباشرته ذلك تكريرا للظهار وليس بشيء كما لا يخفى ، وأما تعليق الظهار فقد ذكر الشافعية أنه يصح لأنه لاقتضاء التحريم كالطلاق والكفارة كاليمين وكلاهما يصح تعليقه ، فإذا قال : إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي فدخلت ولو في حال جنونه أو نسيانه صح لكن لا عود عندهم في الصورة المفروضة حتى يمسكها عقب الإفاقة أو تذكره وعلمه بوجود الصفة قدر إمكان طلاقها ولم يطلقها ، وقد أطالوا في تفاريع التعليق الكلام بما لا يسعه هذا المقام.
وعندنا أيضا يصح تعليقه وكذا تقييده بيوم أو شهر ، ولا يبقى بعد مضي المدة ، نعم لو ظاهر واستثني يوم الجمعة مثلا لم يجز ولو علق الظهار بشرط ثم أبانها ثم وجد الشرط في العدة لا يصير مظاهرا بخلاف الإبانة المعلقة كما بين في محله ، وقال الأخفش : في الآية تقديم وتأخير وتقديرها - والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا : ثم يعودون إلى نسائهم - ولا يذهب إليه إلا أخفش أو أعشى أو أعمش ، وفي قوله تعالى : مِنْ نِسائِهِمْ دليل لنا وكذا للشافعي وأحمد وجمع كثير من الصحابة والتابعين رضي اللّه تعالى عليهم أجمعين على أنه لو ظاهر من أمته الموطوءة أو غيرها لا يصح ، وبيان ذلك أنه يتناول نساءنا والأمة ، وإن صح إطلاق لفظ نسائنا عليها لغة لكن صحة الإطلاق لا تستلزم الحقيقة لأن حقيقة إضافة النساء إلى رجل أو رجال إنما تتحقق مع الزوجات «1» دون الإماء لأنه
___________
(1) قوله : إنما تتحقق مع الزوجات إلخ ، واستدل الإمام على عدم دخول الإماء في النساء المضاف بقوله تعالى : «أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن» للعطف اه منه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 205
المتبادر حتى يصح أن يقال : هؤلاء جواريه لا نساؤه ، وحرمة بنت الأمة ليس لأن أمها من نسائنا مرادة بالنص بل لأنها موطوءة وطأ حلالا عند الجمهور ، وبلا هذا القيد عندنا على أنه لو أريد بالنساء هناك ما تصح به الإضافة حتى يشتمل المعنى الحقيقي وهن الزوجات والمجازي - أعني الإماء بعموم المجاز - لأمكن للاتفاق على ثبوت ذلك الحكم في الإماء كثبوته في الزوجات أما هنا فلا اتفاق ولا لزوم عندنا أيضا ليثبت بطريق الدلالة لأن الإماء لسن في معنى الزوجات لأن الحل فيهن تابع غير مقصود من العقد ولا من الملك حتى يثبتا مع عدمه في الأمة المجوسية والمراضعة بخلاف عقد النكاح لا يصح في موضع لا يحتمل الحل ، واستدل أيضا بأن القياس شأنه أن لا يوجب هذا التشبيه الذي في الظهار سوى التوبة ، وورد الشرع بثبوت التحريم فيه في حق من لها الاستمتاع ولا حق للأمة فيه فيبقى في حقها على أصل القياس ، وبأن الظهار كان طلاقا فنقل عنه إلى تحريم مغيّا بالكفارة ولا طلاق في الأمة ، وهذا ليس بشيء للمتأمل.
ونقل عن مالك والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقا ، وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الموطوءة ، ثم إن الشرط كونها زوجة في الابتداء فلو ظاهر من زوجته الأمة ثم ملكها بقي الظهار فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كما صرحوا به ، والمراد بالزوجة المنكوحة التي يصح إضافة الطلاق إليها فلا فرق بين مدخول بها وغيرها فلا يصح الظهار من مبانة ، ومنه ما سمعت آنفا ولا من أجنبية إلا إذا أضافه إلى التزوج كأن قال لها : إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها فإنه يكون مظاهرا ، نعم في التاتارخانية : لو قال إذا تزوجتك فأنت طالق ، ثم قال : إذا تزوجتك فأنت علي كظهر أمي فتزوجها يقع الطلاق ، ولا يلزم الظهار في قول أبي حنيفة ، وقال صاحباه : لزماه جميعا ، وعن مالك أنه إذا ظاهر من أجنبية ثم نكحها لزم الظهار أضافه إلى التزويج أم لا.
وقال بعض العلماء لا يصح ظهار غير المدخول بها ، وقال المزني : لا يصح ظهار المطلقة الرجعية ، وظاهر الَّذِينَ يُظاهِرُونَ يشمل العبد فيصح ظهاره ، وقد ذكر أصحابنا أنه يصح ظهار الزوج البالغ العاقل المسلم ويكفر العبد بالصوم ، ولا ينصف لما فيه من معنى العبادة كصوم رمضان ، ومثله المحجور عليه بالسفه على قولهما المفتي به.
وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهار العبد ، ولا تدخل المرأة في هذا الحكم فلو ظاهرت من زوجها لم يلزم شيء كما نقل ذلك عن التاتارخانية عن أبي يوسف ، وقال أبو حيان : قال الحسن بن زياد : تكون مظاهرة ، وقال الأوزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت عليّ كظهر فلانة فهي يمين تكفرها ، وقال الزهري : أرى أن تكفر كفارة الظهار ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها انتهى ، والرقبة من الحيوان معروفة ، وتطلق على المملوك ، وذلك من تسمية الكل باسم الجزء كما في المغرب ، وهو المراد هنا.
وفي الهداية هي عبارة عن الذات المرموق من كل وجه فيجزى في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة والذكر والأنثى والكبير والصغير - ولو رضيعا - لأن الاسم ينطلق على كل ذلك ، ومقتضى ذلك إجزاء إعتاق المرتد والمرتدة والمستأمن والحربي ، وفي التاتارخانية أن المرتد يجوز عند بعض المشايخ ، وعند بعضهم لا يجوز ، والمرتدة تجوز بلا خلاف أي لأنها لا تقتل ، وفي الفتح إعتاق الحربي في دار الحرب لا يجزيه في الكفارة ، وإعتاق المستأمن يجزيه ، وفي التاتارخانية لو أعتق عبدا حربيا في دار الحرب إن لم يخل سبيله لا يجوز وإن خلي سبيله ففيه اختلاف المشايخ ، فبعضهم قالوا : لا يجوز - وشمل الرقبة الصحيح والمريض فيجزي كل منهما - واستثنى في الخانية مريضا لا يرجى برؤه فإنه لا يجوز لأنه ميت حكما ، وفي جواز إعتاق حلال الدم كلام : فحكي في البحر أنه إذا أعتق عبدا حلال

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 206
الدم قد قضي بدمه ثم عفى عنه «1» فلو كان أبيض العينين فزال البياض أو كان مرتدا فأسلم لا يجوز.
وفي جامع الفقه جاز المديون والمرهون ومباح الدم ، ويجوز إعتاق الآبق إذا علم أنه حي ، ولا بد أن تكون الرقبة غير المرأة المظاهر منها لما في الظهيرية والتاتارخانية أمة تحت رجل ظاهر منها ثم اشتراها وأعتقها كفارة ظهارها قيل : تجزي ، وقيل : لا تجزي في قول أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف ، ويجوز الأصم استحسانا إذا كان بحيث إذا صحيح عليه يسمع ، وفي رواية النوادر لا يجوز ولا تجزى العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين ، وكذا مقطوع إبهام اليدين ومقطوع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من جانب واحد والمجنون الذي لا يعقل ، ولا يجوز إعتاق المدبر وأم الولد ، وكذا المكاتب الذي أدى بعض المال وإن اشترى أباه أو ابنه ينوي بالشراء الكفارة جاز عنها ، وإن أعتق نصف عبد مشترك وهو موسر فضمن قيمة باقية لم يجز عند الإمام ، وجاز عند صاحبيه ، وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم جامع ثم أعتق باقيه لم يجزه عنده لأن الإعتاق يتجزأ عنده ، وشرط الإعتاق أن يكون قبل المسيس بالنص ، وإعتاق النصف حصل بعده ، وعندهما إعتاق النصف إعتاق الكل فحصل الكل قبل المسيس ، واشترط الشافعي عليه الرحمة كون الرقبة مؤمنة ولو تبعا لأصل أو دار أو ساب حملا للمطلق في هذه الآية على المقيد في آية القتل بجامع عدم الإذن في السبب.
وقال الحنفية : لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة لأنه حينئذ يلزم ذلك لزوما عقليا إذا الشيء لا يكون نفسه مطلوبا إدخاله في الوجود مطلقا ومقيدا كالصوم في كفارة اليمين. ورد مطلقا ومقيدا بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها ، والكلام في تحقيق هذا الأصل في الأصول.
وقالوا على تقدر التنزل إلى أصل الشافعية من الحمل مطلقا : إنه لا يلزم من التضييق في كفارة الأمر الأعظم وهو القتل ثبوت مثله فيما هو أخف منه ليكون التقييد فيه بيانا في المطلق ، وما ذكروه من الجامع لا يكفي ، ووافقوا في كثير مما عدا ذلك ، وخالفوا أيضا في كثير فقالوا : يشترط في الرقبة أن تكون بلا عيب يخل بالعمل والكسب فيجزىء صغير ولو عقب ولادته وأقرع وأعرج يمكنه من غير مشقة لا تحتمل عادة تتابع المشي وأعور لم يضعف نظر سليمته حتى أخل بالعمل إخلالا بيّنا وأصم وأخرس يفهم إشارة غيره ويفهم غيره إشارته مما يحتاج إليه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه وأسنانه وعنين ومجبوب ورتقاء وقرناء وأبرص ومجذوم وضعيف بطش ومن لا يحسن صنعة وولد زنا وأحمق - وهو من يضع الشيء في غير محله مع علمه بقبحه - وآبق ومغصوب وغائب علمت حياته أو بانت وإن جهلت حالة العتق لازمنه وجنين وإن انفصل لدون ستة أشهر من الإعتاق أو فاقد يد أو رجل أو أشل أحدهما أو فاقد خنصر وبنصر معا من يد أو أنملتين من غيرهما أو أنملة إبهام - كما قال النووي عليه الرحمة - ولا هرم عاجز ولا من هو في أكثر وقته مجنون ولا مريض لا يرجى عند العتق برء مرضه - كسلال - فإن برأ بعد إعتاقه بان الإجزاء في الأصح ولا من قدم لقتل بخلاف من تحتم قتله في المحاربة قبل الرفع للإمام ، ولا يجزى شراء أو تملك قريب أصل أو فرع بنية كفارة ولا عتق أم ولد ولا ذو كتابة صحيحة قبل تعجيزه ، ويجزى مدبر ومعلق عتقه بصفة غير التدبير ، وقالوا :
لو أعتق معسر نصفين له من عبدين عن كفارة فالأصح الإجزاء إن كان باقيهما أو باقي أحدهما حرّا إلى غير ذلك.
وفي الإتيان بالفاء في قوله تعالى : فَتَحْرِيرُ إلخ دلالة على ما قال بعض الأجلة : على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار ، فإذا كان له زوجتان مثلا فظاهر من كل منهما على حدة لزمه كفارتان.
___________
(1) هكذا في خط المؤلف ، ولعل هنا سقطا فحرر اه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 207
وفي التلويح لو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثا في مجلس واحد أو مجالس متفرقة لزمه بكل ظهار كفارة ، وفي إطلاقه بحث ، فقد ذكر بعضهم أنه لو قصد التأكيد في المجلس الواحد لم تتعدد ، وفي شرح الوجيز للغزالي ما محصله : لو قال لأربع زوجات : أنتن علي كظهر أمي فإن كان دفعة واحدة ففيه قولان ، وإن كان بأربع كلمات فأربع كفارات ، ولو كررها - والمرأة واحدة - فإما أن يأتي بها متوالية أولا ، فعلى الأول إن قصد التأكيد فواحدة وإلا ففيه قولان : القديم - وبه قال أحمد - واحدة كما لو كرر اليمين على شيء واحد ، والقول الجديد التعدد - وبه قال أبو حنيفة ومالك - وإذا لم تتوال أو قصد بكل واحدة ظهارا أو أطلق ولم ينو التأكيد فكل مرة ظهار برأسه ، وفيه قول : إنه لا يكون الثاني ظهارا إن لم يكفر عن الأول ، وإن قال : أردت إعادة الأول ففيه اختلاف بناء على أن الغالب في الظهار أن معنى الطلاق أو اليمين لما فيه من الشبهين انتهى.
وظاهر بعض عبارات أصحابنا أنه لو قيد الظهار بعدد اعتبر ذلك العدد ، ففي التتارخانية لو قال لأجنبية : إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي مائة مرة فعليه - أي إذا تزوجها - لكل كفارة ، وتدل الآية على أن الكفارة المذكورة قبل المسيس فإن مس أثم ولا يعاود حتى يكفّر ،
فقد روى أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس أن رجلا - وهو سلمة ابن صخر الانصاري كما في حديث أبي داود والترمذي وغيرهما - ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل أن يكفر فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ما حملك على ذلك؟! فقال : رأيت خلخالها في ضوء القمر - وفي لفظ بياض ساقها - قال عليه الصلاة والسلام : فاعتزلها حتى تكفّر»
ولفظ ابن ماجة «فضحك رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وأمره أن لا يقربها حتى يكفّر»
قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب ، وفي كونه صحيحا ردّه المنذري في مختصره بأنه صححه الترمذي ورجاله ثقات مشهور سماع بعضهم من بعض.
وروى الترمذي وقال : حسن غريب عن ابن إسحاق بالسند إلى سلمه المذكور عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال في المظاهر يواقع قبل أن يكفر : «كفارة واحدة تلزمه
، ويردّ به على مجاهد في قوله : يلزمه كفارة أخرى ، ونقل هذا عن عمرو بن العاص ، وقبيصة وسعيد بن جبير والزهري وقتادة ، وعلى من قال تلزمه ثلاث كفارات ، ونقل ذلك عن الحسن والنخعي ، وبه ، وبما تقدم يردّ على ما قيل : من أنه تسقط الكفارة الواجبة عليه ولا يلزمه شيء ولا ترتفع حرمة المسيس إلا بها لا بملك ولا بزوج ثان حتى لو طلقها من بعد الظهار ثلاثا فعادت إليه من بعد زوج آخر أو كانت أمة فملكها بعد ما ظاهر منها لا يحل قربانها حتى يكفر ، وهو واجب على التراخي - على الصحيح - لكون الأمر الدالة عليه الآية مطلقا حتى لا يأثم بالتأخير عن أول أوقات الإمكان ، ويكون مؤديا لا قاضيا ، ويتعين في آخر عمره ، ويأثم بموته قبل الأداء ، ولا تؤخذ من تركته إن لم يوص ولو تبرع الورثة في الاعتاق ، وكذا في الصوم لا يجوز - كذا في البدائع - فإن أوصى كان من الثلث ، وفي التاتارخانية لو كان مريد التكفير مريضا فأعتق عبده عن كفارته وهو لا يخرج من ثلث ماله فمات من ذلك المرض لا يجوز عن كفارته وإن أجازت الورثة ، ولو أنه برىء من مرضه جاز ، وللمرأة مطالبته بالوطء والتكفير وعليها أن تمنعه من الاستمتاع بها حتى يكفّر ، وعلى القاضي أن يجبره على التكفير دفعا للضرر عنها بحبس فإن أبى ضربه ولو قال : قد كفرت صدّق ما لم يكن معروفا عند الناس بالكذب.
هذا وبقيت مسائل أخر مذكورة في كتب الفقه ذلِكُمْ الاشارة إلى الحكم بالكفارة والخطاب للمؤمنين الموجودين عند النزول أو لهم ولغيرهم من الأمة تُوعَظُونَ بِهِ أي تزجرون به عن ارتكاب المنكر ، فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات ، والمراد بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه كذا في الإرشاد ، وهو

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 208
ظاهر في كون الكفارة عقوبة محضة ، وقد تقدم القول بأنها دائرة بين العبادة والعقوبة ، وكلام الزيلعي يدل على أن جهة العبادة فيها أغلب ، وفي شرح منهاج النووي لابن حجر في كتاب كفارة الظهار الكفارة من الكفر وهو الستر لسترها الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه بناء على أن الكفارات زواجر كالتعازير أو جوابر للخلل ، ورجح ابن عبد السلام الثاني لأنها عبادة لافتقارها للنية أي فهي كسجود السهو.
والفرق بينها - على الثاني - وبين الدفن الكفارة للبصق على ما هو المقرر فيه أنه يقطع دوام الإثم أن الدفن مزيل لعين ما به المعصية فلم يبق بعده شيء يدوم إثمه بخلافها هنا فإنها ليست كذلك ، وعلى الأول الممحو هو حق اللّه تعالى من حيث هو حقه ، وأما بالنظر لنحو الفسق بموجبها فلا بد فيه من التوبة نظير نحو الحد انتهى.
ومتى قيل : بأن الإعتاق المذكور كفارة وأن الكفارة تستر الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه لم يكن بدّ من استتباعه الثواب وكون ذلك لا يعدّ ثوابا لا يخلو عن نظر ولعل المراد أن المقصود الأعظم من شرع هذا الحكم الردع والزجر عن مباشرة ما يوجبه دون التعريض للثواب ، وإن تضمنه في الجملة فتأمل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال كالتكفير وما يوجبه من جناية الظهار خَبِيرٌ أي عالم بظواهرها وبواطنها ومجاريكم بها فحافظوا على حدود ما شرع لكم ولا تخلوا بشيء منها.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 4 إلى 7]
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد رقبة فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس ، والمراد - بمن لم يجد - من لم يملك رقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته لأن قدرها مستحق الصرف فصار كالعدم ، وقدر الكفاية من القوت للمحترف قوت يوم. وللذي يعمل قوت شهر - على ما في البحر - ومن له عبد يحتاج لخدمته واجد فلا يجزئه الصوم ، وهذا بخلاف من له مسكن لأنه كلباسه ولباس أهله ، وعند الشافعية المراد به من لم يملك رقبة أو ثمنها فاضلا كل منهما عن كفاية نفسه وعياله العمر الغالب نفقة وكسوة وسكنى وأثاثا لا بد منه ، وعن دينه ولو مؤجلا.
وقالوا : إذا لم يفضل القنّ أو ثمنه عما ذكر لاحتياجه لخدمته لمنصب يأبى خدمته بنفسه أو ضخامة كذلك بحيث يحصل له بعتقه مشقة شديدة لا تحتمل عادة ولا أثر لفوات رفاهية أو مرض به أو بموته فلا عتق عليه لأنه فاقد شرعا - كمن وجد ماء وهو يحتاجه لعطش - وإلى اعتبار كون ذلك فاقدا - كواجد الماء المذكور - ذهب الليث أيضا.
والفرق عندنا على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن أن الماء مأمور بإمساكه لعطشه واستعماله محظور عليه بخلاف الخادم ، واليسار والإعسار معتبران وقت التكفير والأداء ، وبه قال مالك ، وعن الشافعي أقوال في

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 209
وقتها أظهرها كما هو عندنا ، قالوا : لأن الكفارة أعني الاعتاق عبادة لها بدل من غير جنسها كوضوء وتيمم وقيام صلاة وقعودها فاعتبر وقت أدائها ، وغلب الثاني كمذهب أحمد والظاهرية شائبة العقوبة فاعتبر وقت الوجوب - كما لو زنى قنّ ثم عتق فإنه يحدّ حدّ القنّ - والثالث الأغلظ من الوجوب إلى الأداء ، والرابع الأغلظ منهما ، وأعرض عما بينهما.
ومن يملك ثمن رقبة إلا أنه دين على الناس فإن لم يقدر على أخذه من مديونه فهو فاقد فيجزئه الصوم وإن قدر فواجد فلا يجزئه وإن كان له مال ووجب عليه دين مثله فهو فاقد بعد قضاء الدين ، وأما قبله فقيل فاقد أيضا بناء على قول محمد أنه تحل له الصدقة المشير إلى أن ماله لكونه مستحقا الصرف إلى الدين ملحق بالعدم حكما ، وقيل : واجد لأن ملك المديون في ماله كامل بدليل أنه يملك جميع التصرفات فيه.
وفي البدائع لو كان في ملكه رقبة صالحة للتكفير فعليه تحريرها سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه واجد حقيقة ، وحاصله أن الدين لا يمنع تحرير الرقبة الموجودة ، ويمنع وجوب شرائها بما عنده من مثل الدين على أحد القولين ، والظاهر أن الشراء متى وجب يعتبر فيه ثمن المثل ، وصرح بذلك النووي وغيره من الشافعية فقالوا : لا يجب شراء الرقبة بغبن أي زيادة على ثمن مثلها نظير ما يذكر في شراء الماء للطهارة ، والفرق بينهما بتكرير ذلك ضعيف ، وعلى الأول - كما قال الأذرعي وغيره نقلا عن الماوردي واعتمدوه - لا يجوز العدول للصوم بل يلزمه الصبر إلى الوجود بثمن المثل ، وكذا لو غاب ماله فيكلف الصبر إلى وصوله أيضا ، ولا نظر إلى تضررهما بفوات التمتع مدة الصبر لأنه الذي ورط نفسه فيه انتهى.
وما ذكروه فيما لو غاب ماله موافق لمذهبنا فيه ولو كان عليه كفارتا ظهار لامرأتين وفي ملكه رقبة فقط فصام عن ظهار إحداهما ، ثم أعتق عن ظهار الأخرى ففي المحيط في نظير المسألة يقتضي عدم إجزاء الصوم عن الأولى قال : عليه كفارتا يمين ، وعنده طعام يكفي لإحداهما فصام عن إحداهما ثم أطعم عن الأخرى لا يجوز صومه لأنه صام وهو قادر على التكفير بالمال فلا يجزئه ، ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص فمن صام بالأهلّة واتفق أن كل شهر تسعة وعشرون حتى صار مجموع الشهرين ثمانية وخمسين أجزاه ذلك وإن غم الهلال اعتبر - كما في المحيط - كل شهر ثلاثين وإن صام بغير الأهلة فلا بدّ من ستين يوما كما في الفتح القدير ، ويعتبر الشهر بالهلال عند الشافعية أيضا ، وقالوا : إن بدأ في أثناء شهر حسب الشهر بعده بالهلال لتمامه وأتم الأول من الثالث ثلاثين لتعذر الهلال فيه بتلفقه من شهرين ، وعلى هذا يتفق كون صيامه ستين وكونه تسعة وخمسين ، ولا يتعين الأول كما لا يخفى فلا تغفل ، وإن أفطر يوما من الشهرين ولو الأخير بعذر من مرض أو سفر لزم الاستئناف لزوال التتابع وهو قادر عليه عادة ، وقال أبو حيان : إن أفطر بعذر كسفر فقال ابن المسيب والحسن وعطاء وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي في أحد قوليه : يبني اه ، وإن جامع التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا عامدا أو نهارا ناسيا استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف : لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط ، ولهما أن المأمور به صيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما فإذا جامعها في خلالها لم يأت بالمأمور به ، وإن جامع زوجة أخرى غير المظاهر منها ناسيا لا يستأنف عند الإمام أيضا كما لو أكل ناسيا لأن حرمة الأكل والجماع إنما هو للصوم لئلا ينقطع التتابع ولا ينقطع بالنسيان فلا استئناف بخلاف حرمة جماع المظاهرة فإنه ليس للصوم بل لوقوعه
قبل الكفارة ، وتقدمها على المسيس شرط حلها ، فبالجماع ناسيا في أثنائه يبطل حكم الصوم المتقدم في حق الكفارة ، ثم إنه يلزم في الشهرين أن لا يكون فيهما صوم رمضان لأن التتابع منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 210
لما فيه من إبطال ما أوجب اللّه تعالى ، وأن لا يكون فيهما الأيام التي نهى عن الصوم فيها وهي يوما العيدين وأيام التشريق لأن الصوم فيها ناقص بسبب النهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل.
وفي البحر : المسافر في رمضان له أن يصومه عن واجب آخر ، وفي المريض روايتان ، وصوم أيام نذر معينة في أثناء الشهرين بنية الكفارة لا يقطع التتابع ، ومن قدر على الإعتاق في اليوم الأخير من الشهرين قبل غروب الشمس وجب عليه الإعتاق لأن المراد استمرار عدم الوجود إلى فراغ صومهما وكان صومه حينئذ تطوعا ، والأفضل إتمام ذلك اليوم وإن أفطر لاقضاء عليه لأنه شرع فيه مسقطا لا ملتزما خلافا لزفر.
وفي تحفة الشافعية لو بان بعد صومهما أن له مالا ورثه ولم يكن عالما به لم يعتدّ بصومه على الأوجه اعتبارا بما في نفس الأمر أي وهو واجد بذلك الاعتبار ، وليس في بالي حكم ذلك عند أصحابنا ، ومقتضى ظاهر ما ذكروه فيمن تيمم وفي رحله ماء وضعه غيره ولم يعلم به من صحة تيممه الاعتداد بالصوم هاهنا ، وقد صرح الشافعية فيمن أدرج في رحله ماء ولم يقصر في طلبه أو كان بقربه بئر خفية الآثار بعدم بطلان تيممه فلينظر الفرق بين ما هنا وما هناك ، ولعله التغليظ في أمر الكفارة دون التيمم فليراجع فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي صيام شهرين متتابعين ، وذلك بأن لم يستطع أصل الصيام أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ككبر أو مرض لا يرجى زواله كما قيده بذلك ابن همام. وغيره - وعليه أكثر الشافعية - وقال الأقلون منهم - كالإمام ومن تبعه - وصححه في الروضة : يعتبر دوامه في ظنه مدة شهرين بالعادة الغالبة في مثله أو بقول الأطباء ، قال ابن حجر : ويظهر الاكتفاء بقول عدل منهم ، وصرح الشافعية بأن من تلحقه بالصيام أو تتابعه مشقة شديدة لا تحتمل عادة وإن لم تبح التيمم فيما يظهر غير مستطيع ، وكذا من خاف زيادة مرض ، وفي حديث أوس على ما ذكر أبو حيان أن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال : واللّه يا رسول اللّه إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تغشو عيني» الخبر
، وعدّوا من أسباب عدم الاستطاعة الشبق وهو شدة الغلمة.
واستدل له بما
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن سلمة ابن صخر قال : كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها - إلى أن قال - فخرجت فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فأخبرته بخبري فقال : «أنت بذاك؟ قلت : أنا بذاك؟ فقال : أنت بذاك؟ قلت : أنا بذاك وها أنا ذا فامض في حكم اللّه تعالى فإني صابر لذلك قال : أعتق رقبة فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال : فصم شهرين متتابعين ، فقلت : وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ، قال : فأطعم ستين مسكينا» الحديث
فإنه أشار بقوله : «وهل أصابني» إلخ إلى شدة شبقه الذي لا يستطيع معه صيام شهرين متتابعين ، وإنما لم يكن عذرا في صوم رمضان قال ابن حجر : لأنه لا بدل له ، وذكر أن غلبة الجوع ليست عذرا ابتداء لفقده حينئذ فيلزمه الشروع في الصيام فإذا عجز عنه أفطر وانتقل عنه للإطعام بخلاف الشبق لوجوده عند الشروع فيدخل صاحبه في عموم قوله تعالى : فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ.
فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير ، ودقيق كل كأصله ، وكذا السويق ، وذلك لأخبار ذكرها ابن الهمام في فتح القدير ، والصاع أربعة أمداد.
وقال الشافعية : لكل مسكين مدّ لأنه صح في رواية ، وصح في الأخرى صاع ، وهي محمولة على بيان الجواز

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 211
الصادق بالندب لتعذر النسخ «1» فتعين الجمع بما ذكر مما يكون فطرة بأن يكون من غالب قوت محل المكفر في غالب السنة كالأقط - ولو للبلدي - فلا يجزىء نحو دقيق مما لا يجزي في الفطرة عندهم ، ومذهب مالك كما قال أبو حيان مدّ وثلث بالمدّ النبوي ، وروى عنه ابن وهب مدّان.
وقيل : مدّ وثلثا مدّ ، وقيل : ما يشبع من غير تحديد ، ولا فرق بين التمليك والإباحة عندنا فإن غدى الستين وعشاهم أو غدّاهم مرتين أو عشاهم كذلك أو غداهم وسحرهم أو سحرهم مرتين وأشبعهم بخبز بر أو شعير أو نحوه كذرة بإدام أجزأه ، وإن لم يبلغ ما شبعوا به المقدار المعتبر في التمليك ، ويعتبر اتحاد الستين فلو غدّى مثلا ستين مسكينا وعشى ستين غيرهم لم يجز إلا أن يعيد على إحدى الطائفتين غداء أو عشاء ، ولو أطعم مائة وعشرين مسكينا في يوم واحد أكلة واحدة مشبعة لم يجز إلا عن نصف الإطعام فإن أعاده على ستين منهم أجزاه ، واشترط الشافعية التمليك اعتبارا بالزكاة وصدقة الفطر ، وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة ، ونحن نقول :
المنصوص عليه هنا هو الإطعام وهو حقيقة من التمكين من الطعم ، وفي الإباحة ذلك كما في التمليك ، وفي الزكاة الإيتاء ، وفي صدقة الفطر الأداء ، وهما للتمليك حقيقة - كذا في الهداية - قال العلامة ابن الهمام : لا يقال : اتفقوا على جواز التمليك فلو كان حقيقة الإطعام ما ذكر كان مشتركا معمما أو فى حقيقته ومجازه لأنا نقول : جواز التمليك عندنا بدلالة النص ، والدلالة لا تمنع العمل بالحقيقة كما في حرمة الشتم والضرب مع التأفيف فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذ دافع لحاجة الأكل وغيره ، وذكر الواني أن الإطعام جعل الغير طاعما أي آكلا لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته ، والهمزة تعدية إلى المفعول الثاني أي جعلته آكلا ، وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكا بقرينة الحال ، قالوا :
والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة ، هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكا أو إباحة انتهى فلا تغفل.
ويجوز الجمع بين الإباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذا ملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداء وعشاء وكذا لرجل واحد في إحدى روايتين كأن غداه مثلا وأعطاه مدّا وإن أعطى مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سدّ خلة المحتاج ، والحاجة تتجدد في كل يوم ، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره ، وهذا في الإباحة من غير خلاف ، وأما التمليك من مسكين واحد بدفعات فقد قيل : لا يجزيه ، وقيل : يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص ، وخالف الشافعية ، فقالوا : لا بد من الدفع إلى ستين مسكينا حقيقة فلا يجزىء الدفع لواحد في ستين يوما ، وهو مذهب مالك ، والصحيح من مذهب أحمد - وبه أكثر العلماء - لأنه تعالى نص على ستين مسكينا ، ويتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلا لمقتضى النص فلا يجوز ، وأصحابنا أشدّ موافقة لهذا الأصل ، ولذا قالوا : لا يجزي الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أن تفريق الدفع غير مصرح به ، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنه المستلزم ، وغاية ما يعطيه كلامهم أنه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعددا حكما ، وتمامه موقوف على أن ستين مسكينا في الآية مراد به الأعم من الستين حقيقة أو حكما.
___________
(1) قوله : لتعذر النسخ فيه تأمل انتهى منه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 212
ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه ، فإن قلت : المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازا ويندرج فيه التعدد الحكمي ما هو؟ قلت : هو الحاجة فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة ، وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أن العدد مما يقصد لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء - قاله في فتح القدير - وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور ، وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضا من الحنطة وبعضا من الشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع من بر ونصف صاع من شعير ، وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود - وهو الإطعام - ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه ، وهو البر والشعير ودقيق كلّ وسويقه والزبيب والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعا فلو دفع نصف صاع تمر يبلغ قيمة نصف صاع بر لا يجوز ، فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم ، ومن غير المنصوص كالأرز والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلا ، وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنما الاعتبار في غير المنصوص عليه ، ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه اللّه تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقا ، ولا يجوز في الكفارة إعطاء المسكين أقل من نصف صاع من البر مثلا فقط ، ففي التاتارخانية لو أعطى ستين مسكينا كل مسكين مدّا من الحنطة لم يجز ، وعليه أن يعيد مدّا آخر على كل فإن لم يجد الأولين فأعطى ستين آخرين كلا مدّا لم يجز ، ولو أعطى كلا من المساكين مدّا ثم استغنوا ثم افتقروا فأعاد على كل مدّا لم يجز ، وكذا لو
أعطى المكاتبين مدّا مدّا ثم ردوا إلى الرق ومواليهم أغنياء ثم كوتبوا ثانيا ثم أعاد عليهم لم يجز لأنهم صاروا بحال لا يجوز دفع الكفارة إليهم فصاروا كجنس آخر ، وعليه فالمراد - بستين مسكينا - ستون مسكينا لم يعرض لهم في أثناء الإطعام ما ينافي ذلك ، والظاهر أن فاعل إطعام هو المظاهر الغير المستطيع للصيام ، ولا فرق بين أن يباشر ذلك أو يأمر به غيره ، فإن أمر غيره فأطعم أجزاه لأنه استقراض معنى ، فالفقير قابض له أولا ثم يتحقق تملكه ثم تمليكه ، والمراد بالمسكين ما يعم الفقير ، وقد قالوا : المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، ويشترط أن لا يكون المطعم أصله أو فرعه أو زوجته أو مملوكه أو هاشميا لمزيد شرفه فيجل عن هذه الغسالة ، ولا حربيا ولو مستأمنا لمزيد خسته فليس أهلا لأدنى منفعة ، ويجوز أن يكون ذميا ولو دفع بتحرّ فبان أنه ليس بمصرف أجزاه عندهما خلافا لأبي يوسف كما في البدائع.
واستنبط الشافعية من التعبير بعدم الوجود عند الانتقال إلى الصوم ، وبعدم الاستطاعة عند الانتقال إلى الإطعام أنه لو كان له مال غائب ينتظره ولا يصوم ولو كان مريضا يرجى برؤه يطعم ولا ينتظر الصحة ليصوم ، وهو موافق لمذهبنا في الصوم لا في الإطعام كما سمعت ، ثم هذا الحكم في الأحرار أما العبد فلا يجوز له إلا الصوم لأنه لا يملك وإن ملك والإعتاق والإطعام شرطهما الملك فإن أعتق عنه المولى أو أطعم لم يجز ولو بأمره ، ويجب تقديم الإطعام على المسيس فإن قرب المظاهر المظاهرة في خلاله إثم ولم يستأنف لأنه عز وجل ما شرط أن يكون قبل المسيس كما شرط فيما قبل ، ونحن لا نحمل المطلق على المقيد وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين ، والوجوب قيل : لم يثبت إلا لتوهم وقوع الكفارة بعد التماس بيانه أنه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الإطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه فلو جوز للعاجز عنهما القربان قبل الإطعام ، ثم اتفق قدرته فلزم التكفير به لزم أن يقع العتق بعد التماس ، والمفضي إلى الممتنع ممتنع.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 213
وتعقب بأن فيه نظرا فإن القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم ، وباعتبار الأمور الموهومة لا تثبت الأحكام ابتداء بل يثبت الاستحباب ورعا فالأولى الاستدلال على حرمة المسيس قبل الإطعام لمن يتعين كفارة له بما
ورد من حديث «اعتزلها حتى تكفر»
ونحوه ، وما ذكر من أنه لو قدر على العتق مثلا خلال الإطعام لزم التكفير به خالف فيه الشافعية.
قال ابن حجر عليه الرحمة : لا أثر لقدرته على صوم أو عتق بعد الإطعام ولو لمدّ كما لو شرع في صوم يوم من الشهرين فقدر على العتق ، وأجاز بعض المسيس في خلال الإطعام من غير إثم ، ونقل ذلك عن أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه وهو توهم نشأ من عدم إيجابه الاستئناف ، وقد صرح في الكشاف بأنه لا فرق عند أبي حنيفة بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس وإن ترك ذكره عند الإطعام للدلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم.
وجعل بعضهم ذكر القيد فيما قبل وتركه في الإطعام دليلا لأبي حنيفة في قوله : بعدم الاستئناف أي مع الإثم.
وتعقبه ابن المنير في الانتصاف بأن لقائل أن يقول لأبي حنيفة : إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس في بعضها وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها فلم جعلته مؤثرا في أحد الحكمين دون الآخر؟ وهل التخصيص إلا نوع من التحكم؟ ثم قال : وله أن يقول : اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم أعني حرمة المساس قبل التكفير ، وقد نطقت الآية بالتفرقة فلم يمكن صرفها إلى ما وقع الاتفاق على التسوية فيه فتعين صرفه إلى الآخر ، هذا منتهى النظر مع أبي حنيفة وأطال الكلام في هذا المقام بما لا يخلو عن بحث على أصول الإمام.
وإذا عجز المظاهر عن الجميع قال الشافعية : استقرت في ذمته فإذا قدر على خصلة فعلها ولا أثر لقدرته على بعض عتق أو صوم بخلاف بعض الطعام ولو بعض ما يجب لواحد من المساكين فيخرجه ، ثم الباقي إذا أيسر ، والظاهر بقاء حرمة المسيس إلى أن يؤدي الكفارة تماما ولم يبال بإضرار المرأة بذلك لأن الإيسار مترقب كزوال المرض المانع من الجماع ، ولم أراجع حكم المسألة في الظهار عند الحنفية ، وأما في الجماع في نهار رمضان الموجب للكفارة فقد قال ابن الهمام بعد نقل حديث الأعرابي الواقع على امرأته فيه العاجز عن الخصال الثلاثة ، وفيه :
«فأتى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال : تصدق به ، فقال : أعلى أفقر مني يا رسول اللّه؟ فو اللّه ما بين لابيتها أفقر مني ولا أهل بيت أفقر من أهل بيتي ، فضحك صلّى اللّه تعالى عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال : خذه فأطعمه أهلك»
في لفظ لأبي داود - زاد الزهري - وإنما كان هذا رخصة له خاصة ، ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بدّ من التكفير ، وجمهور العلماء على قوله ، وذكر النووي في شرح صحيح مسلم أن للشافعي في هذا العاجز قولين : أحدهما لا شيء عليه - واحتج له بحديث الأعرابي المذكور لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقل له : إن الكفارة ثابته في ذمته بل أذن له في إطعام عياله - والثاني - وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار - أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره ، وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بالعجز عن الخصال ثم أتى عليه الصلاة والسلام بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء فلم يأمره بالإخراج فدل على ثبوتها في ذمته ، وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه محتاج إلى الانفاق عليهم في الحال والكفارة واجبة على التراخي ، وإنما لم يبين عليه الصلاة والسلام بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين فهذا هو الصواب في معنى الحديث ، وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلات أخر ضعيفة انتهى.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 214
ومن الناس من قال : لم يكن هناك تأخير بيان وإنما اكتفى صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بفهم الأعرابي عن التصريح له بالاستقرار ، والأخبار في وقوع مثل ذلك للمظاهر مضطربة كما لا يخفى على من راجع الدر المنثور للسيوطي.
ومسائل الظهار كثيرة والمذاهب في ذلك مختلفة ، ومن أراد كمال الاطلاع فليرجع إلى كتب الفروع ، ولولا التأسي ببعض الأجلة لما ذكرنا شيئا منها ، ومع هذا لا يخلو أكثره عن تعلق بتفسير الآية واللّه تعالى أعلم.
ذلِكَ إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم ، ومحله إما الرفع على الابتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أي ذلك واقع أو فعلنا ذلك لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وتعلموا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم وَتِلْكَ الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ التي لا يجوز تعديها فالزموها وقفوا عندها وَلِلْكافِرِينَ أي الذين يتعدونها ولا يعملون بها عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا لزجره ، ونظير ذلك قوله تعالى : وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران :
97].
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حدّ وجهة غير حدّ الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه ، وقيل : إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما في المحاربة بالحديد كالسيوف والنصال وغيرها والأول أظهر وفي ذكر المحادّة في أثناء ذكر حدود اللّه تعالى دون المعاداة والمشاقة حسن موقع جاوز الحد ، وقال ناصر الدين البيضاوي : أو يضعون أو يختارون حدودا غير حدود اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور.
قال المولى شيخ الإسلام سعد اللّه جبلي : وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورا خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون «1» ، واللّه تعالى المستعان على ما يصفون اه ، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله : وقد صنف العارف باللّه الشيخ بهاء الدين قدس اللّه تعالى روحه رسالة في كفر من يقول : يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما ، وقد قال اللّه تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة : 3] وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل ، وإذا جاء نهر اللّه بطل نهر معقل ، ولكن أين من يعقل؟! انتهى.
وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي فتأمل ، ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية «2» وإذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن
___________
(1) قوله : اليسا هو بياء مثناة تحتية وسين مهملة وضع قانون للمعاملة ، ويقال : يسق لفظ غير عربي كذا قاله الشهاب ، ورأيت في بعض كتب اللغة التركية أن يصاق بفتح الياء والصاد المهملة بعدها ألف بعدها قاف معناه المنع اه منه.
(2) أرسل إلينا الفاضل الأديب الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري مقالة تتعلق بالقوانين السياسية ، وأخبرنا أنه وجدها بهامش نسخة الأصل المخطوطة بخط أحد تلاميذ المؤلف رحمه اللّه تعالى فوضعناها في مكانها إتماما للفائدة.
يقول محمد بهجة الأثري البغدادي :
قوله : ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية - إلى قوله - كما لا يخفى على العارف النبيه ليس للمؤلف وإنما وجدته

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 215
___________
على هامش الأصل بخط أحد تلاميذه وقد كتبه عوضا عن بحث نفيس لصاحب التفسير في «القانون والشرع» لم تسمح السلطة الغاشمة بنشره وإليك نص ذلك نقلا عن خطه ، قال : وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي.
نعم لا شك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول : هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة ، ويتميز غيظا ويتقصف غضبا إذا قيل له في أمر : أمر الشرع فيه كذا كما شاهدنا ذلك في بعض من خذلهم اللّه فأصمهم وأعمى أبصارهم ، وهذا القانون الذي ذكروه قد نقصت منه اليوم أمور وزيدت فيه أمور وسمي بالأصول ، وألفت فيها رسائل وطبعت ونشرت وفرقت وألزم العمل بما حوتها كل أمير ومأمور وعقدت مجالس الشورى عليها ، ورجع في أحكام الأحكام إليها ومن خالفها نكل تنكيلا ، وربما حبس حبسا طويلا ، وكم قد قال لي بعض الولاة : إياك أن تقول في مجلسنا : المسألة شرعا كذا ، وقد أصابني منه عامله اللّه بعدله لعدولي عن قوله مزيد الأذى ، واتفق أن قال لي بعض خاصته يوما : أرى ثلثي الشرع شرا ، فقلت له - وإن كنت عالما أن في أذنيه وقرا. : نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين ، ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الاشارة ، والذي ينبغي أن يقال في ذلك : إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليمهم ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم ، وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن الشارع حد مخصوص بل فرض التأديب عليها إلى رأي الإمام كأنواع التعازير ، وللإمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الإمام حق اللّه تعالى للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في شرح المنهاج ، والقواعد لا تأباه ، نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الإفراط والتفريط ، وقد شاهدنا في العراق مما يسمونه «جزاء» ما القتل أهون منه بكثير. ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير.
وأما ما يتعلق بالحدود الإلهية كقطع السارق. ورجم الزاني المحصن. وما فصل في حق قطاع الطريق من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وغيره مما فصل في آيتهم - إلى غير ذلك - فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي.
وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقا لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه «شرعا» ولا نسميه «قانونا» و«أصولا» وإن لم يكن موافقا لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم - بالكرشته - لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل اللّه عز وجل.
وأما ما يتعلق بحق بيت المال في الأراضي فما كان موافقا لعمل النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفا لعمل الخلفاء الصادر منهم باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظرا إلى زمانهم فهو مما لا بأس فيه ، وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس ، ولا يجري هذا التفصيل فيما وصفه رسول اللّه عليه الصلاة والسلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلا على ما ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصا عليه كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الاراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والإباحة فإن دخل في عمومات الإباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد ، وأمر تكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه ، نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصا لها به ، ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول : وإن تلك الأحكام أصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلها ، وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها ، ويقول كلما ذكرها : الأصول المستحسنة.
وكان يرشح كلامه بنفي رسالة النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله ، ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من اللّه تعالى ، فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة بمقتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضيا بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
[.....]

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 216
به الانتظام ويصلح أمر الخاص والعام ، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام فليس ذلك في المحادّة اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام. ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي ، والذي يستوفيه الامام هو حق اللّه تعالى للمصلحة ، وفي كتاب الخراج للإمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضا ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة : 3] لأن المراد إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصا أو عموما ، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه ، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه ، نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادقا لما نطقت به الشريعة الغراء زائغا عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه ، وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي : إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كأئمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم ، ثم إن الآية - على ما في البحر - نزلت في كفار قريش كُبِتُوا أي أخزوا كما قال قتادة ، أو غيظوا كما قال الفراء أو ردّوا مخذولين - كما قال ابن زيد - أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة والأخفش.
وعن أبي عبيدة أن تاءه بدل من الدال ، والأصل - كبدوا - أي أصابهم داء في أكبادهم وقال السدي : لعنوا ، وقيل : الكبت الكب وهو الإلقاء على الوجه ، وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل ، وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق ، وقيل : إلى ما كان يوم بدر ، وقيل : معنى كُبِتُوا سيكبتون على طريقة قوله تعالى : أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل : 1] وهو بشارة للمؤمنين بالنصر على الكفار وتحقق كبتهم.
كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم الماضية المحادّين للّه عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ حال من واو كُبِتُوا أي كبتوا لمحادّتهم ، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حادّ اللّه تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم ، وقيل : آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به وَلِلْكافِرِينَ أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولا أوليا عَذابٌ مُهِينٌ يذهب بعزهم وكبرهم يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ منصوب بما تعلق به اللام من الاستقرار ، أو - بمهين - أو بإضمار اذكر أي
___________
لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم في أكثر المسائل ، والبلية العظمى انهم يسمون ذلك شرعا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلما فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاة العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك.
ولقد سمعت في كثير أن أحد أسباب وضع الأصول الجديدة هؤلاء القضاة الظلمة حيث اتبعوا الهوى وحكموا بغير ما أنزل المولى جل وعلا ولم يمكن خلاص الشريعة من أيديهم وتطهير المحاكم من أرجاسهم لملاحظات مقبولة أو غير مقبولة فوضعوا ما يهون به في زعم الواضع شرهم ويهن به أمرهم ثم إن باطل أولئك القضاة لا قاعدة له فيتلون تلون الحرباء لأنه تابع لهوى الأنفس وتفاوت الرشا أمور أخرى وباطل غيرهم له قاعدة ما في الأغلب.
وقصارى الكلام أن ما خالف الشرع مردود كائنا ما كان ولا فرق في ذلك بين ما عليه أكثر القضاة اليوم بين الأصول المخالفة :
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها
وإلى اللّه تعالى المشتكى ، وهو عز وجل حسبنا وكفى. انتهى كلامه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 217
اذكر ذلك اليوم تعظيما له وتهويلا ، وقيل منصوب بيكون مضمرا على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء؟
فقيل له : يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ أي يكون يوم إلخ ، وقيل : بالكافرين وليس بشيء ، وقوله تعالى : جَمِيعاً حال جيء به للتأكيد ، والمعنى يبعثهم اللّه تعالى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث ، ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الاشهاد تخجيلا لهم وتشهيرا بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم ، وقوله تعالى : أَحْصاهُ اللَّهُ استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل :
كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض متقضية متلاشية؟ فقيل : أحصاه اللّه تعالى عددا ولم يفته سبحانه منه شيء ، وقوله تعالى : وَنَسُوهُ حينئذ حال من مفعول - أحصى - بإضمار قد أو بدونه ، أو قيل : لم ينبئهم بذلك؟ فقيل : أحصاه اللّه تعالى ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله ، وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لإحصائه تعالى أعمالهم ، وقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ استشهاد على شمول شهادته تعالى أي ألم تعلم أنه عز وجل يعلم ما فيهما من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما.
وقوله تعالى : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إلخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى ، ويَكُونُ من كان التامة ، ومِنْ مزيدة ، ونَجْوى فاعل وهي مصدر بمعنى التناجي وهو المسارّة مأخوذة من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض ، أو لأن السر يصان فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء ، وقيل : أصل ناجيته من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصة أو أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه وهي مضافة إلى ثَلاثَةٍ أي ما يقع من تناجي ثلاثة نفر وقد يقدر مضاف أي من ذوي نجوى ، أو يؤول نجوى بمتناجين - فثلاثة - صفة للمضاف المقدر ، أو لنجوى المؤوّل بما ذكر.
وجوز أن يكون بدلا أيضا والتأويل والتقدير المذكوران ليتأتى الاستثناء الآتي من غير تكلف ، وفي القاموس النجوى السر والمسارون اسم مصدر ، وظاهره أن استعماله في كل حقيقة فإذا أريد المسارون لم يحتج إلى تقدير أو تأويل لكن قال الراغب : إن النجوى أصله المصدر كما في الآيات بعد ، وقد يوصف به فيقال : هو نجوى ، وهم نجوى ، قال تعالى : وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الإسراء : 47] وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل.
وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبة - ما تكون - بالتاء الفوقية لتأنيث الفاعل ، والقراءة بالياء التحتية قال الزمخشري :
على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي ، ومِنْ فاصلة أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى ، واختار في الكشف الثاني ، فقال : هو الوجه لأن المؤنث وحده لم يجعل فاعلا لفظا لوجود مِنْ ولا معنى لأن المعنى شيء منها ، فالتذكير هو الوجه لفظا ومعنى ، وهو قراءة العامة انتهى ، وإلى نحوه يشير كلام صاحب اللوامح ، وصرح بأن الأكثر في هذا الباب التذكير ، وتعقبه أبو حيان بالمنع وأن الأكثر التأنيث وأنه القياس قال تعالى : وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ [الأنعام : 4] ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر : 5 ، المؤمنون : 43] فتأمل ، وقوله سبحانه : إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، والرابع لإضافته إلى غير مماثله هنا بمعنى الجاعل المصير لهم أربعة أي ما يكونون في حال من الأحوال إلا في حال تصيير اللّه تعالى لهم أربعة حيث إنه عز وجل يطلع أيضا على نجواهم ، وكذا قوله تعالى : وَلا خَمْسَةٍ أي ولا نجوى خمسة إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى أي ولا نجوى أدنى مِنْ ذلِكَ أي مما ذكر كالاثنين والأربعة وَلا أَكْثَرَ كالستة وما فوقها.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 218
إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعلم ما يجري بينهم أَيْنَ ما كانُوا من الأماكن ، ولو كانوا في بطن الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربا وبعدا ، وفي الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة ، وجهان : أحدهما أن قوما من المنافقين تخلفوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة ، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك ولا أدنى من عددهم ولا أكثر إلا واللّه تعالى معهم يعلم ما يقولون. فالآية تعريض بالواقع على هذا ، وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما يتحدثون فقال أحدهم : أترى أن اللّه يعلم ما نقول؟ فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا ، وقال الثالث : إن كان يعلم بعضا فهو يعلمه كله أي لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم ، والثاني أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والجالسين في خلوة للشورى والمنتدبون لذلك إنما هم طائفة مجتباة من أولي الأحلام والنهى ، وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال ، وحكم به الاستصواب ، فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة ، وقال سبحانه : وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ فدل على الاثنين والأربعة ، قال تعالى : وَلا أَكْثَرَ فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه كذا في الكشاف.
وفي الكشف في خلاصة الوجه الثاني أنه خص العددان على المعتاد من عدد أهل النجوى فإنهم قليلو العدد غالبا فلزم أن يخص بالذكر نحو الثلاثة والأربعة إلى الثمانية والتسعة فأوثر الثلاثة ليكون قوله تعالى : وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ دالا على ما تحتها إذ لو أوثر الأربعة والستة مثلا كان الأدنى الثلاثة دون الاثنين إلا على التوسع ولما أوثرت جيء بالخمسة لتناسب الوترين وكان الأمر دائرا بين الثلاثة والخمسة والأربعة والستة فأوثرا بالتصريح لذلك ، ولأنه تعالى وتر يحب الوتر انتهى.
وقد يقال : إن التناجي يكون في الغالب للشورى وهي لا تكون إلا بين عدد وأهلها قليلو العدد غالبا ، والأليق أن يكون وترا من الأعداد كالثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ليتحقق عند الاختلاف طرف يترجح بالزيادة على الطرف الآخر فيرجع إليه دونه كما هو العادة اليوم عند اختلاف أهل الشورى.
وجعل عمر رضي اللّه تعالى عنه الشورى في ستة لانحصار الأمر فيهم كما يدل على قوله لهم : نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم ، وقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وهو عنكم راض ، ومع هذا أمر ابنه عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه أن يحضر معهم وإن لم يكن له من أمر الخلافة شيء ، فدار الأمر بعد اعتبار ما ذكر من وترية العدد وقلته بين الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة فاختيرت الثلاثة لأنها أول الأوتار العددية وإذا ضربت في نفسها حصل منتهاها من الآحاد ولا يخلو منها اعتبار كل ممكن حتى أن المطالب الفكرية للمتناجين مثلا لا تتم بدون ثلاثة أشياء : الموضوع والمحمول والحدّ الأوسط بل القضية التي يتناجى لها لا بد فيها من ثلاثة أجزاء ، والخمسة لأنها عدد دائر لا تنعدم بالضرب في نفسها ، وكذا بضرب الحاصل في نفسه إلى ما لا يتناهى فلها شبه بالثلاثة من حيث إنها دائرة مع مراتب الضرب لا تنعدم أصلا كما أن الثلاثة دائرة مع اعتبارات الممكن لا تنعدم أصلا ، ومع ذلك هي عدد المشاعر التي يحتاج إليها التناجي ، وكذا عدد الحواس الظاهرة ، ويدخل ما عداهما في عموم قوله تعالى : وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ولا يدخل في العموم الواحد لأن التناجي للمشاورة لا بد فيه من اثنين فأكثر ، ومن أدخله لم يعتبر التناجي لها ولا يضر دخول الأشفاع فيه لأن أليقية كون المتناجين وترا إنما كانت نكتة للتصريح بالعددين السابقين ولا تأبى تحقق النجوى في الأشفاع كما لا يخفى.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 219
وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سرارا ، وقال ابن عيسى : كل سرار نجوى ، وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها إلا العالمون فليتأمل.
وقرأ ابن أبي عبلة «ثلاثة» و«خمسة» بالنصب على الحال بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى ، أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبهما من المستكن فيه ، وفي مصحف عبد اللّه - إلا اللّه رابعهم ولا أربعة إلا اللّه خامسهم ولا خمسة إلا اللّه سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا اللّه معهم إذا انتجوا - وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع قال الزمخشري : على أنه معطوف على محل - لا أدنى - كقولك : لا حول ولا قوة إلا باللّه بفتح الحول ورفع القوة ، ويجوز أن يعتبر «أدنى» مرفوعا على هذه القراءة ورفعهما على الابتداء ، والجملة التي بعد إِلَّا هي الخبر ، أو على العطف على محل مِنْ نَجْوى كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم ، وأَكْثَرَ على قراءة الجمهور يحتمل أن يكون مجرورا بالفتح معطوفا على لفظ نَجْوى كأنه قيل :
ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم ، وأن يكون مفتوحا لأن لا لنفي الجنس ، وقرأ كل من الحسن ويعقوب أيضا ومجاهد والخليل بن أحمد - ولا أكبر - بالباء الموحدة والرفع وهو على ما سمعت ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم.
وقرىء «ينبئهم» بالتخفيف والهمز ، وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء.
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لأن نسبة ذاته المقتضي للعلم إلى الكل على السواء ، وقد بدأ اللّه تعالى في هذه الآيات بالعلم حيث قال سبحانه : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إلخ ، وختم جل وعلا بالعلم أيضا حيث قال اللّه تعالى :
أَنَّ اللَّهَ إلخ ، ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في البين من قوله عز وجل : رابِعُهُمْ وسادِسُهُمْ ومَعَهُمْ أن المراد به كونه تعالى كذلك بحسب العلم مع أنهم الذين لا يؤوّلون ، وكأنهم لم يعدّوا ذلك تأويلا لغاية ظهوره واحتفافه بما يدل عليه دلالة لا خفاء فيها ، ويعلم من هذا أن ما شاع من أن السلف لا يؤولون ليس على إطلاقه.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 إلى 22]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 220
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما :
نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا لمثل فعلهم ، وقال مجاهد : نزلتفي اليهود.
وقال ابن السائب : في المنافقين ، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم ، وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة ، وقوله تعالى : وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عطف عليه داخل في حكمه أي ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعدّ على المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين - وإليه صلّى اللّه عليه وسلم - لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم.
وقرأ حمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ودويس - وينتجون - بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى ، وقرأ أبو حيوة - العدوان - بكسر العين حيث وقع ، وقرى ء - معصيات - بالجمع ونسبت فيما بعد إلى الضحاك وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ
صح من رواية البخاري ومسلم وغيرها عن عائشة «أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة والسلام :
وعليكم ، قالت عائشة : وقلت : عليكم السام ولعنكم اللّه وغضب عليكم»
وفي رواية «عليكم السام والذام واللعنة ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا عائشة إن اللّه لا يحب الفاحش ولا المتفحش ، فقلت : ألا تسمعهم يقولون : السام؟! فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : أو ما سمعت أقول : وعليكم؟! فأنزل اللّه تعالى وَإِذا جاؤُكَ» الآية.
وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا اللّه بما نقول فنزلت هذه الآية وَإِذا جاؤُكَ إلخ ، والسام قال ابن الأثير : المشهور فيه ترك الهمز ويعنون به الموت ،

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 221
وجاء في رواية مهموزا ومعناه أنكم تسأمون دينكم ، وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني ، ولم يذكر فيه الهمز وتركه.
وقال الطبرسي : من قال : السام الموت فهو من سأم الحياة بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز ، وجعل البيضاوي من التحية التي لم يحيه بها اللّه تعالى تحيتهم له عليه الصلاة والسلام بأنعم صباحا وهي تحية الجاهلية كعم صباحا ولم نقف على أثر في ذلك ، وقوله تعالى : وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهم ، وجوّز إبقاؤه على ظاهره لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلا يعذبنا اللّه تعالى بسبب ذلك لو كان محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم نبيا - أي لو كان نبيا عذبنا اللّه تعالى بسبب ما نقول من التحية - أوفق بالأول لأن أنعم صباحا دعاء بخير والعدول إليه عن تحية الإسلام التي حيا اللّه تعالى بها رسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وأشير إليها بقوله تعالى : سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات : 181] وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل : 59] وما جاء في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته» ليس فيه كثير إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيرا وإعلانا بعدم الاكتراث ، ولعل قائل ذلك هم المنافقون من المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود ، وحكم التحية به اليوم أنها خلاف السنة ، والقول بالكراهة غير بعيد.
وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدى بنحو صبحك اللّه بالخير أو قواك اللّه جوابا ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام انتهى ، وأنعم صباحا نحو صبحك اللّه بالخير ، غاية ما في الباب أنه مجلسه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه عليه الصلاة والسلام فإن لكل أجد منهم مجلسا ، وفي أخبار سبب النزول ما يؤيد كلا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان «كان صلّى اللّه عليه وسلم يوم جمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته فرد النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ويا فلان فأقام نفرا مقدار من قدم فشق ذلك عليهم وعرفت كراهيته في وجوههم ، وقال المنافقون : ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه وأحب قربه لمن تأخر عن الحضور فأنزل اللّه تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»
إلخ ، وكان ذلك ممن لم يفسح تنافسا في القرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها بذلك.
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة يتشاحون في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ ، والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام في مجلسه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم والضنة بالقرب منه وترك التفسح لمقبل وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه الصلاة والسلام ومصاف القتال وغير ذلك ، وقرىء في - المجلس - بفتح اللام ، فإما أن يراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ في الاستعمال ، وإما أن يراد به المصدر ، والجار متعلق - بتفسحوا - أي إذا قيل لكم توسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي في رحمته أو في منازلكم في الجنة أو في قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم أقوال.
وقال بعضهم : المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدون الفسح فيه أي مما ذكر وغيره ، وأنت تعلم أن الفسح يختلف المراد منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا أي انهضوا

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 222
للتوسعة على المقبلين فَانْشُزُوا فانهضوا ولا تتثبطوا ، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض فإن مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع ، أو لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن وقتادة والضحاك : المعنى إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا ، وقيل : إذا دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقوموا ، وهذا لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في أمر الإسلام أو لأداء وظائف تخصه صلّى اللّه تعلى عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكمل بدون الانفراد ، وعمم الحكم فقيل : إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه : قوموا ينبغي أن يجاب ، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه ، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه ،
فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا».
وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وجمع من السبعة - انشزوا فانشزوا - بكسر الشين منهما.
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ جواب الأمر كأنه قيل : إن تنشزوا يرفع عز وجل المؤمنين منكم في الآخرة دعاء كان يستعمل تحية في الجاهلية ، نعم تحيتهم به له عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها يدخلونها أو يقاسون حرها أو يصطلون بها.
فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ في أنديتكم وفي خلواتكم.
فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ كما يفعله المنافقون ، فالخطاب للخلّص تعريضا بالمنافقين ، وجوز جعله لهم وسموا مؤمنين باعتبار ظاهر أحوالهم.
وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس - فلا تنتجوا - مضارع انتجى ، وقرأ ابن محيصن - فلا تناجوا - بإدغام التاء في التاء ، وقرىء بحذف إحداهما وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى بما يتضمن خبر المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وَاتَّقُوا فيما تأتون وما تذرون اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا تُحْشَرُونَ فيجازيكم على ذلك إِنَّمَا النَّجْوى المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان والمعصية مِنَ الشَّيْطانِ لا من غيره باعتبار أنه هو المزين لها والحامل عليها ، وقوله تعالى : لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم ، وقرىء «ليحزن» بفتح الياء والزاي - فالذين - فاعل وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ أي ليس الشيطان أو التناجي بضار المؤمنين شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الضرر إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إلا بإرادته ومشيئته عز وجل ، وذلك بأن يقضي سبحانه الموت أو الغلبة على أقاربهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا يبالوا بنجواهم.
وحاصله أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين إن وقع فبإرادة اللّه تعالى ومشيئته لا دخل لهم فيه فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم وليتوكلوا على اللّه عز وجل ولا يحزنوا منه ، فهذا الكلام لإزالة حزنهم ، ومنه ضعف ما أشار إليه الزمخشري من جواز أن يرجع ضمير - ليس بضارهم - للحزن ، وأجيب بأن المقصود يحصل عليه أيضا فإنه إذا قيل : إن هذا الحزن لا يضرهم إلا بإرادة اللّه تعالى اندفع حزنهم ، هذا ومن الغريب ما قيل : إن الآية نازلة في المنامات التي يراها المؤمن في النوم تسوؤه ويحزن منها فكأنها نجوى يناجى بها ، وهذا على ما فيه لا يناسب السباق والسياق كما لا يخفى ، ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه ،
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه»
ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان يحزنه ذلك ، ولما نهى

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 223
سبحانه عن التناجي والسرار علم منه الجلوس مع الملأ فذكر جل وعلا آدابه بعده بقوله عز من قائل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ إلخ ولما نهى عز وجل عما هو سبب للتباغض والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب للتواد والتوافق أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان : توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في المجالس ولا تتضاموا فيها ، من قولهم : افسح عني أي تنح ، والظاهر تعلق فِي الْمَجالِسِ بتفسحوا ، وقيل : متعلق - بقيل ..
وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى - تفاسحوا - وقرأ الأخيران وعاصم في المجالس ، والجمهور في - المجلس - بالإفراد ، فقيل : على إرادة الجنس لقراءة الجمع ، وقيل : على إرادة العهد ، والمراد به جزاء للامتثال وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الشرعي دَرَجاتٍ أي كثيرة جليلة كما يشعر به المقام ، وعطف - الذين أوتوا العلم - على الَّذِينَ آمَنُوا من عطف الخاص على العام تعظيما لهم بعدّهم كأنهم جنس آخر ، ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم ، وقد أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
وأخرج الدارمي عن عمر بن كثير عن الحسن قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة»
وعنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة»
وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء»
، فأعظم بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وعن ابن عباس «خيّر سليمان عليه السلام بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطاه اللّه تعالى الملك والمال تبعا له».
وعن الأحنف «كاد العلماء يكونون أربابا» وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير ، وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟ وأي شيء فاته من أدرك العلم؟ والدال على فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى ، وأرجى حديث عندي في فضلهم ما
رواه الإمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «يجمع اللّه العلماء يوم القيامة فيقول : إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم».
وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة بالأولية ، ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال : ما خص اللّه تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية - فضل اللّه الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات - وجعل بعضهم العطف عليه للتغاير بالذات بحمل الَّذِينَ آمَنُوا على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم ، وفي رواية أخرى عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن اللّه تعالى يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم.
وادعى بعضهم أن في كلامه رضي اللّه تعالى عنه إشارة إلى أن - الذين أوتوا - معمول لفعل محذوف والعطف من عطف الجمل أي ويرفع اللّه تعالى الذين أوتوا العلم خاصة درجات ، ونحوه كلام ابن عباس فقد أخرج عنه ابن المنذر والبيهقي في المدخل والحاكم وصححه أنه قال في الآية : يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات.
وقال بعض المحققين : لا حاجة إلى تقدير العامل ، والمعنى على ذلك من غير تقدير ، واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات معمولا لذلك المقدر ، وقال : يضمر للمذكور أحط منه مما يناسب المقام نحو أن يقال : يرفع اللّه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 224
الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما يليق بهم من غرف الجنات ، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيما لهم ، وجوز كون المراد بالموصولين واحدا والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات ، فالمعنى يرفع اللّه المؤمنين العالمين درجات ، وكون العطف من عطف الخاص على العام هو الأظهر ، وفي الانتصاف في الجزاء برفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسيح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه من الجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله : من تواضع للّه تعالى رفعه اللّه تعالى ، ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا للّه عز وجل.
وقيل : إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص عليه من رفعة المجالس وحبهم للتصدير ، وهذا من مغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في ذلك.
والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الانتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم ، ولا أظن - بالذين أوتوا العلم - المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرّض بهم الخفاجي ، نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير من علماء آخر الزمان كعلماء زمانه وكعلماء زماننا - لكن كثير من هؤلاء - إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته ، ومع ذلك قد امتلأ قلبه من حب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز ، هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العلم ولو باهليا شابا على الجاهل ولو هاشميا شيخا ، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين وأن اللّه تعالى يرفعه يوم القيامة عليه ، ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل.
وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم : معنى الآية يرفع اللّه تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى.
وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن المتعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمال بعيد ، ويظهر منه أيضا أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جوابا عن السؤال عن علة الأمر السابق مع أن الأمرليس كذلك ، ويحتمل أنه علم أنه مجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه الامتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره ، وقرىء بما - يعملون - بالياء التحتانية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة والسلام لأمر ما من الأمور فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي فتصدقوا قبلها ، وفي الكلام استعارة تمثيلية ، وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبيه النجوى بالإنسان ، وإثبات اليدين تخييل ، وفي بَيْنَ ترشيح على ما قيل ، ومعناه قبل ، وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ونفع للفقراء وتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم من غير حاجة مهمة ،
فقد روي عن ابن عباس وقتادة أن قوما من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلّى اللّه عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية.
وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلّى اللّه عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره عليه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 225
الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت
، واختلف في أن الأمر للندب أو للجواب لكنه نسخ بقوله تعالى :
أَأَشْفَقْتُمْ إلخ ، وهو وإن كان متصلا به تلاوة لكنه غير متصل به نزولا ، وقيل : نسخ بآية الزكاة والمعول عليه الاول ، ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل ،
أخرج الترمذي وحسنه وجماعة عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ إلخ قال لي النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «ما ترى في دينار؟ قلت : لا يطيقونه ، قال :
نصف دينار؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : فكم؟ قلت : شعيرة ، قال : فإنك لزهيد» فلما نزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «خفف اللّه عن هذه الأمة»
ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم اللّه تعالى وجهه ،
أخرج الحاكم وصححه وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهم عنه كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : إن في كتاب اللّه تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ إلخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية
، قيل : وهذا على القول بالوجوب محمول على أنه لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم ، واختلف في مدة بقائه ، فعن مقاتل أنها عشرة ليال ، وقال قتادة : ساعة من نهار ، وقيل : إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح أنفا.
وقرى ء - صدقات - بالجمع لجمع المخاطبين ذلِكَ أي تقديم الصدقات خَيْرٌ لَكُمْ لما فيه من الثواب وَأَطْهَرُ وأزكى لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الاكتراث بالمال وإضعاف علاقة حبه المدنس لها ، وفيه إشارة إلى أن في ذلك إعداد النفس لمزيد الاستفاضة من رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم عند المناجاة.
وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن لم يجد حيث رخص سبحانه له في المناجاة بلا تقديم صدقة أظهر إشعارا بالوجوب.
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول أَشْفَقْتُمْ محذوف ، وأَنْ على إضمار حرف التعليل ، ويجوز أن يكون المفعول أَنْ تُقَدِّمُوا فلا حذف أي أخفتم تقديم الصدقات لتوهم ترتيب الفقر عليه ، وجمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر ، وتقديم صَدَقاتٍ وهذا أولى مما قيل : إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به وشق عليكم ذلك وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة ، وفيه على ما قيل : إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز اللّه تعالى عنه لما رؤي منهم من الانقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام نوبتهم و(إذ) على بابها أعني أنها ظرف لما مضى ، وقيل : إنها بمعنى - إذ - الظرفية للمستقبل كما قوله تعالى : إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غافر : 71].
وقيل : بمعنى إن الشرطية كأنه قيل : فإن لم تفعلوا فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ والمعنى على الأول إنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، واعتبرت المثابرة لأن المأمورين مقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة ، وعدل عن فصلوا إلى فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ليكون المراد المثابرة على توفية حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كما لها لا على أصل فعلها فقط ، ولما عدل عن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه ولم يقل وزكوا لئلا يتوهم أن المراد الأمر بتزكية النفس كذا قيل فتدبر وَأَطِيعُوا اللَّهَ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 226
وَرَسُولَهُ
أي في سائر الأوامر ، ومنها ما تقدم في ضمن قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآيات وغير ذلك. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا وباطنا.
وعن أبي عمرو و«يعملون» بالتحتية أَلَمْ تَرَ تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ، وفيه على ما قال الخفاجي : تلوين للخطاب بصرفه عن المؤمنين إلى الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا أي والوا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود ما هُمْ أي الذين تولوا مِنْكُمْ معشر المؤمنين وَلا مِنْهُمْ أي من أولئك القوم المغضوب عليهم أعني اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك ، وفي الحديث «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين - أي المترددة بين قطيعين - لا تدري أيهما تتبع».
وجوز ابن عطية أن يكون هُمْ للقوم ، وضمير مِنْهُمْ للذين تولوا ، ثم قال : فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم تولوا مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابا :
والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة ، وجوز كونها حالا من فاعل تَوَلَّوْا ورد بعدم الواو ، وأجيب بأنهم صرحوا بأن الجملة الاسمية المثبتة أو المنفية إذا وقعت حالا تأتي بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معا ، وما هاهنا أتت بالضمير أعني هم ، وعلى ما قال ابن عطية : في موضع الصفة لقوم.
وذكر المولى سعد اللّه أن في مِنْكُمْ التفاتا ، وتعقب بأنه إن غلب فيه خطاب الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فظاهر أنه لا التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله ، وفي جعله التفاتا على رأي السكاكي نظر وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ عطف على تَوَلَّوْا داخل في حيز التعجيب ، وجوز عطفه على جملة ما هُمْ مِنْكُمْ وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف ، وقوله تعالى : وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فاعل - يحلفون - مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح ، واستدل به على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي النظام والجاحظ إذ عليهما لا حاجة اليه ، وبحث فيه أنه يجوز أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ بمعنى يعلمون خلافه فيكون جملة حالية مؤكدة لا مقيدة ، نعم التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين ، والاحتمال يبطل الاستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الإسلام حقيقة ، وقيل : إنهم ما شتموا النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بناء على ما
روي «أنه كان رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين ، فقال : إنكم سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة والسلام حين رآه : علام تشتمني أنت وأصحابك فقال : ذرني آتك بهم فانطلق فدعاهم فحلفوا» فنزلت ، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن آخره «فأنزل اللّه يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة : 18]» الآية
والتي بعدها ، ولعله يؤيد أيضا اعتبار كون الكذب دعواهم أنهم ما شتموا.
وفي البحر رواية نحو ذلك عن السدي ومقاتل ، وهو - أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد اللّه بن نبتل وكان أزرق أسمر خفيف اللحية فقال صلّى اللّه عليه وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف باللّه ما فعل فقال له : فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما سبوه - فنزلت
، واللّه تعالى أعلم بصحته.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 227
وعبد اللّه هذا هو الرجل المبهم في الخبر الأول ، وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحارث بن قيس الأنصاري الأوسي ذكره ابن الكلبي والبلاذري في المنافقين ، وذكره أبو عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر : إنه اطلع على أنه تاب ، وأما قوله في القاموس : عبد اللّه بن نبيل - كأمير - من المنافقين فيحتمل أنه هو هذا ، واختلف في ضبط اسم أبيه ويحتمل أنه غيره أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ذلك عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة جُنَّةً وقاية وسترة عن المؤاخذة ، وقرأ الحسن - إيمانهم - بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وخلص المؤمنين ، قال في الإرشاد : والاتخاذ على هذا عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل : تستروا بما أظهروه من الإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم ، وعلى قراءة الجمهور عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية ، وعن سببها أيضا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى : فَصَدُّوا أي الناس.
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم ، وقيل : فصدوا المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل اللّه تعالى فيهم ، وقيل : (صدوا) لازم ، والمراد فأعرضوا عن الإسلام حقيقة وهو كما ترى فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم ، وقيل : الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة ، ويشعر به وصفه بالإهانة المقتضية للظهور فلا تكرار.
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قد سبق مثله في سورة آل عمران ، وسبق الكلام فيه فمن أراده فليرجع إليه يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً تقدم الكلام في نظيره غير بعيد فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي للّه تعالى يومئذ قائلين : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام : 23] كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا أنهم مسلمون مثلكم ، والتشبيه بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناء على ما قدمنا من سبب النزول وَيَحْسَبُونَ في الآخرة أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الفاجرة عَلى شَيْءٍ من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب ، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروّج الكذب لديه عز وجل كما تروّجه عند المؤمنين اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستوليا عليهم ، وقال الراغب : الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال : حاذ الإبل يحوذها أي ساقها سوقا عنيفا ، وقوله تعالى : اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي استاقهم مستوليا عليهم ، أو من قولهم : استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها اه.
وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع ، وفي القاموس تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الاستيلاء ، ومثله الأحواذ والأحوذي ، وهو كما قال الأصمعي : المشمر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء ، ومنه قول عائشة في عمر رضي اللّه تعالى عنهما كان أحوذيا نسيج وحده مأخوذ من ذلك ، واستحوذ مما جاء على الأصل في عدم إعلاله على القياس إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفا كما سمع فيه قليلا ، وقرأ به هنا أبو عمرو فجاء مخالفا للقياس - كاستنوق واستصوب - وإن وافق الاستعمال المشهور فيه ، ولذا لم يخلّ استعماله بالفصاحة ،

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 228
وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ في معنى لم يمكنهم من ذكره عز وجل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من القبائح حِزْبُ الشَّيْطانِ أي جنوده وأتباعه.
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم ، وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايقين معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين ، وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران حزب الشيطان عبر عنهم بالموصول ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر فِي الْأَذَلِّينَ أي في جملة من هو أذل خلق اللّه عز وجل من الأولين والآخرين معدودون في عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة اللّه عز وجل غير متناهية كانت ذلة من حادّه كذلك كَتَبَ اللَّهُ استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم ، وعن قتادة قال : وأيا ما كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه : لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما ، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم السلام في أزمنتهم غالبا فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم ، والحرب بين نبينا صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وبين المشركين وإن كان سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة والسلام وكذا لأتباعهم بعدهم لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا للّه عز وجل لا لطلب ملك وسلطنة وأغراض دنيوية فلا تكاد تجد مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا ، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لا طرادها وهو خلاف الظاهر ، ويبعده سبب النزول ، فعن مقاتل لما فتح اللّه تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها قالوا : نرجو أن يظهرنا اللّه تعالى على فارس والروم فقال عبد اللّه بن أبيّ : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ، واللّه إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر رسله عَزِيزٌ لا يغلب على مراده عز وجل.
وقرأ نافع وابن عامر «ورسلي» بفتح الياء لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ خطاب للنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له ، وتَجِدُ إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى : يُوادُّونَ إلخ مفعوله الثاني ، وإما متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة ، وقيل : صفة أخرى له أي قوما جامعين بين الإيمان باللّه تعالى واليوم الآخر وبين موادّة أعداء اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم وليس بذاك ، والكلام على ما في الكشاف من باب التخييل خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوادّون المشركين. والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء اللّه تعالى ، وحاصل هذا على ما في الكشف أنه من فرض غير الواقع واقعا محسوسا حيث نفى الوجدان على الصفة وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان ، وإنما الواقع نفي الانبغاء فخيل أنه هو «1» فالتصوير في
___________
(1) قيل : يجعل ما لا يليق كالعدم لمشاركته له في عدم الاعتداد به فتأمل اه منه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 229
جعل ما لا يمتنع ممتنعا ، وقيل : المراد لا تجد قوما كاملي الإيمان على هذه الحال ، فالنفي باق على حقيقته ، والمراد بموادة المحادّين موالاتهم ومظاهرتهم ، والمضارع قيل : لحكاية الحال الماضية ، ومَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ظاهر في الكافر وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق ، والاخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان : يرون أن الآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان ، وفي حديث طويل أخرجه الطبراني والحاكم والترمذي عن واثلة بن الأسقع مرفوعا «يقول اللّه تبارك وتعالى : وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي».و
أخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا ، أوثق الإيمان الحب في اللّه والبغض في اللّه.
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «اللهم لا تجعل لفاجر - وفي رواية - ولا لفاسق علي يدا ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت فيما أوحيت إلي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
وحكى الكواشي عن سهل أنه قال : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء ، ومن داهن مبتدعا سلبه اللّه تعالى حلاوة السنن ، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضا منها أذله اللّه تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ومن ضحك إلى مبتدع نزع اللّه تعالى نور الإيمان من قلبه ، ومن لم يصدق فليجرب انتهى.
ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة - وليس منهم ولا قلامة ظفر - يوالي الظلمة بل من لا علاقة له بالدين منهم وينصرهم بالباطل ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس ، وإذا تليت عليه آيات اللّه تعالى وأحاديث رسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول : سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته - إن كانت - بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته ، وهذا لعمري هو الضلال البعيد ، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء وَلَوْ كانُوا أي من حادّ اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ، والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبل باعتبار لفظها آباءَهُمْ أي الموادين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ فإن قضية الإيمان باللّه تعالى واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن يهجروا الجميع بالمرة ، وليس المراد بمن ذكر خصوصهم وإنما المراد الأقارب مطلقا ، وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف ، وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم ، وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون لهم :
أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وختم بالعشيرة لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الإخوان غالبا :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وقرأ أبو رجاء «وعشائرهم» بالجمع أُولئِكَ إشارة إلى الذين لا يوادّونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحما بهم وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبته اللّه تعالى فيها ولما كان الشيء يراد أولا ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبدأ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 230
بالمنتهى للتأكيد والمبالغة ، وفيه دليل على خروج العمل من مفهوم - الإيمان - فإن جزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعا ، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه.
وقرأ أبو حيوة والمفضل عن عاصم «كتب» مبنيا للمفعول «الإيمان» بالرفع على النيابة عن الفاعل.
وَأَيَّدَهُمْ أي قواهم بِرُوحٍ مِنْهُ أي من عنده عز وجل على أن من ابتدائية ، والمراد بالروح نور القلب وهو نور يقذفه اللّه تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق ، وتسميته روحا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية ، وجوز كونه استعارة ، وقول بعض الأجلة : إن نور القلب ما سماه الأطباء روحا وهو الشعاع اللطيف المتكون من القلب - وبه الإدراك - فالروح على حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى ، أو المراد به القرآن على الاحتمالين السابقين ، واختيرت الاستعارة أو جبريل عليه السلام وذلك يوم بدر ، وإطلاق الروح عليه شائع أقوال.
وقيل : ضمير مِنْهُ للإيمان ، والمراد بالروح الإيمان أيضا ، والكلام على التجريد البديعي - فمن - بيانية أو ابتدائية على الخلاف فيها ، وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر وقوله تعالى : وَيُدْخِلُهُمْ إلخ بيان لآثار رحمته تعالى الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة.
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين ، وقوله تعالى : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار رحمته عز وجل العاجلة والآجلة ، وقوله تعالى وَرَضُوا عَنْهُ بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا ، وقوله تعالى : أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ تشريف لهم ببيان اختصاصهم به تعالى وقوله سبحانه : أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين والكلام في تحلية الجملة - بإلا. وإن - على ما مر في أمثالها ، والآية قيل : نزلت في أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلّى اللّه عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط فذكر ذلك للنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : أفعلت يا أبا بكر؟ قال : نعم ، قال : لا تعد ، قال : واللّه لو كان السيف قريبا مني لضربته - وفي رواية - لقتلته فنزلت لا تَجِدُ قَوْماً الآيات.
وقيل : في أبي عبيدة بن عبد اللّه بن الجراح ، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد اللّه بن شوذب قال : جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت لا تَجِدُ إلخ ، وفي الكشاف أن أبا عبيدة قتل أباه عبد اللّه بن الجراح يوم أحد ، وقال الواقدي في قصة قتله إياه : كذلك يقول أهل الشام ، وقد سألت رجالا من بني فهر فقالوا : توفي أبوه قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل ظهور الإسلام انتهى.
والحق أنه قتله في بدر ، أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال : كان - أي أبو عبيدة - قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر بيده لما سمع منه في رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ما يكره ونهاه فلم ينته ، وقيل : نزلت فيه حيث قتل أباه. وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال لرسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : دعني أكون في الرعلة الأولى - وهي القطعة من الخيل - قال : «متعنا بنفسك يا أبا بكر ما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري»
وفي معصب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي كرم اللّه تعالى وجهه وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر.
وتفصيل ذلك ما
رواه أبو داود عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : لما كان يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 231
ابنه وأخوه فنادى من يبارز - إلى قوله - فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث»
فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.
هذا ورتب بعض المفسرين وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومعصب وعلي كرم اللّه تعالى وجهه ومن معه ، وقيل : إن قوله تعالى : لا تَجِدُ قَوْماً إلخ نزل في حاطب ابن أبي بلتعة ، والظاهر على ما قيل : إنه متصل بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود ، وأيا ما كان فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى ، واللّه تعالى أعلم.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 232
سورة الحشر
قال البقاعي : وتسمى سورة - بني النضير - وأخرج البخاري وغيره عن ابن جبير قال : قلت لابن عباس سورة الحشر ، قال : قل : سورة بني النضير ، قال ابن حجر : كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد هاهنا إخراج بني النضير.
وهي مدنية ، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة : 21] وفي أول هذه فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر :
2] وفي آخر تلك ذكر من حادّ اللّه ورسوله ، وفي أول هذه ذكر من شاقّ اللّه ورسوله ، وأن في الأولى ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا ، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا ، فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعت في التوراة لا تردّ له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل ، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فعصمه اللّه تعالى ، وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل : أمر صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها : الزهرة فسار المسلمون معه عليه الصلاة والسلام وهو على حمار مخطوم بليف.
وقيل : على جمل واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى إذا نزل صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب ، وقيل : استمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ودس المنافقون عبد اللّه بن أبيّ وأضرابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : اخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة والسلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع إلى الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 233
يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم - على ما قال ابن هشام في سيرته - ست ليال ، وقيل :
إحدى وعشرين ليلة فقذف اللّه تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيّ قد قال لهم : معي ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلّى اللّه تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان فأنزل اللّه تعالى قوله عز وجل :
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 إلى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إلى قوله تعالى : وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر : 6] وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في صدر سورة الحديد ، وكرر الموصول هاهنا لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح ، وقوله تعالى : هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق ، والمراد - بالذين كفروا - بنو النضير - بوزن الأمير - وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة ، ويقال للحيين : الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في البحر ، ويقال : إنهم نزلوا قريبا من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه اللّه تعالى.
وقيل : إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق ، وقال لهم : لا تستحيوا منهم أحدا فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل : أنتم عصاة اللّه تعالى واللّه لا دخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ما كان ، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى ، والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب ، والثاني متعلق - باخرج - وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا ، وضمير هُوَ راجع إليه تعالى بعنوان العزة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 234
والحكمة إما بناء على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام ، أو على جعله مستعارا لاسم الإشارة كما في قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام : 46] أي بذلك فكأنه قيل : ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج إلخ ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة ، وقوله تعالى : لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلق - بأخرج - واللام لام التوقيت كالتي في قولهم : كتبته لعشر خلون. ومآلها إلى معنى - في - الظرفية ، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا : إنها بمعنى - في - إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات ، وقيل : إنها للتعليل وليس بذاك ، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا ، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناء على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم ، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام ، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام ، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر ، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي اللّه تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام ، وقيل : آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام.
وعن عكرمة من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية ، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى الأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل ، وهو يوم القيامة من القبور ، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة وفي البحر عن عكرمة والزهري أنهما قالا : المعنى لأول موضوع الحشر وهو الشام ، وفي الحديث أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال لهم : «اخرجوا قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر»
ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا ، وقيل : آخر حشرهم أن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب ، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره ، وهو كما ترى ، وقيل : المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلّى اللّه عليه وسلم أو حشره اللّه عز وجل لقتالهم لأنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم ، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى ، ولذا قيل : إنه الظاهر ، وتعقب بأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر ، وقيل : لأول جمعهم للمقاتلة من المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل ، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحربأو لا ، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير ، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخت ، ولا يجوز إلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم.
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس اللّه تعالى - فحصونهم - مبتدأ ومانِعَتُهُمْ خبر مقدم ، والجملة خبر أَنْ وكان الظاهر لمقابلة ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للإشعار بتفاوت الظنين ، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجي ء - بمانعتهم. وحصونهم - مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم ، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، فجيء بضمير - هم - وصير اسما - لأن - وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي ، وفي كون ذلك من باب التقوى بحث ، ومنع

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 235
بعضهم جواز الاعراب السابق بناء على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا ، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل ، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون «حصونهم» فاعلا - لمانعتهم - لاعتماده على المبتدأ.
وجوز كون مانِعَتُهُمْ مبتدأ خبره حُصُونُهُمْ ، وتعقب بأن فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية ، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل ، وكانت حُصُونُهُمْ على ما قيل أربعة : الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة ، وزاد بعضهم الوخدة «1» وبعضهم شقا ، والذي في القاموس أنه موضع بخيبر أو واد به فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أمره سبحانه ، وقدره عز وجل المتاح لهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ولم يخطر ببالهم وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة ، وقيل : ضمير فَأَتاهُمُ ولَمْ يَحْتَسِبُوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر اللّه من حيث لم يحتسبوا ، وفيه تفكيك الضمائر.
وقرىء فآتاهم اللّه ، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين ثانيهما محذوف. أي فآتاهم اللّه العذاب أو النصر وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذ ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب ، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد ، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة ، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم ، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم ، وبهذا الاعتبار عطفت أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ على - أيديهم - وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم - فيخربون - على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز ، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير قُلُوبِهِمُ أو لا محل لها من الإعراب ، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب؟ أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها.
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول ، وجوز أن يكون في الفاعل ، وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ، وأخرب ترك الموضوع خرابا وذهب عنه ، فالإخراب يكون أثر التخريب ، وقيل : هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار ، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي ، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير اللّه تعالى - الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين - إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه.
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي ، قالوا : إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور
___________
(1) قوله : الكتيبة التاء المثناة والتصغير. والوطيح بفتح الواو وكسر الطاء وبالمهملة. والسلالم بضم السين ، وقيل : بفتحها. ويقال فيه :
السلاليم. والنطاة من النطو. والوخدة بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة اه منه.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 236
والانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع ، ولذا قال ابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية ، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر - وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب - ثبتت مشروعية العمل بالقياس ، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق ، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران : 13 ، النور : 44] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [النحل : 66] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال :
إنه غير معتبر ، ولو كان القياس هو الاعتبار - لم يصح هذا السلب - سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة - فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي - سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم : إنه إذا قال لوكيله : أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم ، وإن كان أسود ، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم ، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم : اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال - وهو القياس. والآيتان على ذلك - ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا ، وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة ، وأطلق النفي نظرا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به ، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها ، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة ، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه ، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع ، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق.
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال : قالوا : إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه ، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي ، وسوق الآية الاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة ، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم ، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم ، وجلوا عنها خرجوا أو برزوا ، ويقال أيضا : جلاهم وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة ، ويقال فيه : الجلأ مهموزا من غير ألف كالنبأ ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة ، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف ، وقد صرح بذلك الرضي ، وقوله تعالى : وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف غير متعلق بجواب لَوْلا أي إنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة فليس تمتعهم أياما قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع ، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار ، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 237
أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم المقارنة.
ذلِكَ أي ما نزل بهم وما سينزل بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وفعلوا ما فعلوا من القبائح وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال ، والاقتصار على ذكر مشاقته عز وجل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة والسلام ، وفيه من تهويل أمرها ما فيه ، وليوافق قوله تعالى : فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وهذه الجملة إما نفس الجزاء ، وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه اللّه فإن اللّه شديد العقاب ، وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل : ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب بسبب مشاقتهم للّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وكل من يشاق اللّه تعالى كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذا لهم عقاب شديد ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ هي النخلة مطلقا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة ، وتجمع على ألوان ، وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة ، وقال أبو عبيدة وسفيان : ما تمرها لون وهو نوع من التمر ، قال سفيان : شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج ، وقال أبو عبيدة أيضا : هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني ، وقال جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه : هي العجوة
، وقال الأصمعي : هي الدقل ، وقيل : هي النخلة القصيرة ، وقال الثوري : الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين ، وجاء جمعها ليانا كما في قول امرئ القيس :
وسالفة كسوق الليا ن أضرم فيه القويّ السعر
وقيل : هي أغصان الأشجار للينها ، وهو قول شاذ ، وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة :
كأن قنودي فوقها عش طائر على لينة سوقاء تهفو جنوبها
ويمكن أن يقال : أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى ، وما شرطية منصوبة - بقطعتم - ومِنْ لِينَةٍ بيان لها ، ولذا أنث الضمير في قوله تعالى :
أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء ما ، وجواب الشرط قوله سبحانه : فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر اللّه تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل ، وقرأ عبد اللّه والأعمش وزيد بن علي - قوما - على وزن فعل كضرب جمع قائم ، وقرى ء - قائما - اسم فاعل مذكر على لفظ ما ، وأبقى أصولها على التأنيث ، وقرى ء - أصلها - بضمتين ، وأصله أُصُولِها فحذفت الواو اكتفاء بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف.
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلق بمقدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك ، وجوز فيه أن يكون معطوفا على قوله تعالى : بإذن اللَّهِ وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه ، والمراد - بالفاسقين - أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب ، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بعلة الحكم ، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف.
قال بعضهم : وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاؤوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 238
صاحبه غير الغارس له ، وقد سمعت بعض الغارسين يقول : السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي ، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر ، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة ، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلّى اللّه عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار ، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين ، وكان ذلك أول نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم ، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنزلت الآية ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ إلخ ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه ، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضا فلتقرير عدم كون القطع فسادا لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذانا بتساويهما في ذلك.
واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم ، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى ، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة ، وقوله تعالى : وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده اللّه تعالى إلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم من أولئك الكفرة - وهم بنو النضير - وما موصولة مبتدأ ، والجملة بعدها صلة ، والعائد محذوف كما أشرنا إليه ، والجملة المتقرنة بالفاء بعد خبر ، ويجوز كونها شرطية ، والجملة بعد جواب ، والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد جلائهم ، والمراد بإعادتها عليه الصلاة والسلام تحويلها إليه ، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلّى اللّه عليه وسلم نظير ما قيل في قوله تعالى : أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف : 88 ، إبراهيم : 13] ظاهر وإن اقتضى سبق الحصول كان فيما ذكر مجازا ، وفيه إشعار بأنها كانت حرية بأن تكون له صلّى اللّه عليه وسلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها اللّه تعالى إلى مستحقها ، وكذا شأن جميع أموال الكفرة التي تكون فيئا للمؤمنين لأن اللّه عز وجل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين ، ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة : فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع ، ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيها على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل ، وأَفاءَ على ما في البحر بمعنى المضارع أما إذا كانت ما شرطية فظاهر ، وأما إذا كانت موصوله فلأنها إذا كانت الفاء في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فان كانت
الآية نازلة قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب ، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صلّى اللّه عليه وسلم كانت بيانا لما يستقبل ، وحكم الماضي حكمه ، والذي يدل عليه الإخبار أنها نزلت بعد ، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ إلخ فكانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خاصة ، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل اللّه تعالى.
وقال الضحاك : كانت له صلّى اللّه عليه وسلم خاصة فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة أعطاهم لفقرهم ، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 239
الأولين ولم يذكر الحارث ، وكذا لم يذكره ابن سيد الناس ، وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفا لابن أبي الحقيق كان له ذكر عندهم ، ومعنى ما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير ، وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب :
ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم إليك ولولا أنت لم توجف الركب
وقال ابن هشام : «أوجفتم» حركتم وأتعبتم في السير ، وأنشد قول تميم بن مقبل :
مذاويد بالبيض الحديث صقالها عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا
والمآل واحد ، ومِنْ في قوله تعالى : مِنْ خَيْلٍ زائدة في المفعول للتنصيص على الاستغراق كأنه قيل - فما أوجفتم عليه - فردا من أفراد الخيل أصلا وَلا رِكابٍ ولا ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح : راكب لمن كان على فرس أو حمار ونحوه بل يقال : فارس ونحوه ، وإن كان ذلك عاما لغيره وضعا ، وإنما لم يعملوا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بني النضير رجالا إلا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فإنه كان على الحمار. أو على جمل - كما تقدم - لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدا منها ، وكان المراد أن ما حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتدّ به منكم ، ولهذا لم يعط صلّى اللّه تعالى عليه وسلم الأنصار إلا من سمعت ، وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونهم غرباء فنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد ، ولما أشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عز وجل : وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي ولكن سنته عز وجل جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم تسليطا خاصا ، وقد سلط رسوله محمدا صلّى اللّه تعالى عليه وسلم على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم ، ويكون أمرها مفوضا إليه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة ، وأخرى على غيرها ، وقيل : الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحت به الأخبار ، والواقع من القتال شيء لا يعتد به.
[سورة الحشر (59) : الآيات 7 إلى 10]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ بيان لحكم ما أفاءه اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم من قرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه من بني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عمر بن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 240
الخطاب رضي اللّه تعالى عنه ، ويشعر به كلامه رضي اللّه تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم اللّه تعالى وجهه والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم فالجملة جواب سؤال مقدر ناشىء مما فهم من الكلام السابق فكأن قائلا يقول : قد علمنا حكم ما أفاء اللّه تعالى من بني النضير فما حكم ما أفاء عز وجل من غيرهم؟ فقيل : ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى إلخ ، ولذا لم يعطف على ما تقدم ، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه ، والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن ما تضمنته حكم الفيء لا الغنيمة ولا الأعم ، وفرقوا بينهما قالوا : الفيء ما حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة ، وما صولحوا عليه من غير نحو قتال وما جلوا عنه خوفا قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة ، وما لمرتد قتل أو مات على ردته ، وذمي أو معاهد أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق ، والغنيمة ما حصل من كفار أصليين حربيين بقتال ، وفي حكمه تقابل الجيشين أو إيجاف منا لا من ذميين فإنه لهم ولا يخمس وحكمها مشهور.
وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضا نقلا عن المغرب وغيره فقالوا : الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أن تخمس ، وباقيها للغانمين خاصة. والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام ، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالحهم ونقل هذا الحكم ابن حجر عمن عدا الشافعي رضي اللّه تعالى عنه من الأئمة الثلاثة ، والتخميس عنه استدلالا بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن كلا راجع إلينا من الكفار ، واختلاف السبب بالقتال وعدمه لا يؤثر ، والذي نطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي اللّه تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية ، واعتبرها عامة للمسلمين محتجا بها على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه ، ووافقه على ما أراد علي وعثمان وطلحة والأكثرون بل المخالفون أيضا بعد أن قال خاطبا : اللهم اكفني بلالا وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة ، وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين ، ولذا قال بعض الشافعية : إن عمر رضي اللّه تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا حقهم فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق ، وما جعله اللّه تعالى من ذلك لمن تضمنه قوله تعالى : فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إلى ابْنِ السَّبِيلِ هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية ، ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم : لمن ذكر اللّه عز وجل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد ، وذكره تعالى - كما روي عن ابن عباس والحسن بن محمد بن الحنفية - افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن للّه ما في السماوات وما في الأرض ، وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقال أبو العالية : سهم اللّه تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته - وهو الكعبة المشرفة - إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس ، ويلزمه أن السهام كانت ستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك ، وسهم الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع - وهو خمس الخمس - وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤونة سنة أي لبعض زوجاته ويصرف الباقي في مصالح المسلمين ، وسقط عندنا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قالوا : لأن عمل الخلفاء الراشدين على ذلك - وهم أمناء اللّه تعالى على دينه - ولأن الحكم معلق بوصف مشتق - وهو الرسول - فيكون مبدأ الاشتقاق - وهو الرسالة - علة ولم توجد في أحد بعده ، وهذا كما سقط الصفي.
ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه لإمامته دون رسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ ، والأكثرون من الشافعية أن ما كان له صلّى اللّه تعالى عليه وسلم من خمس

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 241
الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور ، وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدئين ، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء ، وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم ، وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه ، ويقدم الأهم فالأهم وجوبا وأهمها سد الثغور ، ورد سهمه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه
قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح : «مالي مما أفاء اللّه تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم»
صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها على سائر الأصناف ، ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك ، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس ، والمراد بذي القربى قرابته صلّى اللّه عليه وسلم ، والمراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب لأنه صلّى اللّه عليه وسلم وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس ، ومن ذريته عثمان وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك
بقوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «نحن وبنو المطلب شيء واحد»
وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلّى اللّه تعالى عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما ، وكأنه لمزيد تعصبهم وتواقفهم - حتى كأنهم على قلب رجل واحد - قيل : لذي القربى دون لذوي بالجمع.
قال الشافعية : يشترك في هذا السهم الغني والفقير لإطلاق الآية ولإعطائه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم العباس وكان غنيا ، بل قيل : كان له عشرون عبدا يتجرون له ، والنساء لأن فاطمة وصفية عمة أبيها رضي اللّه تعالى عنهما كانا يأخذان منه ، ويفضل الذكر كالإرث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظّي الأنثى ، ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما ، ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالارث ، ويثبت كون الرجل هاشميا أو مطلبيا بالبينة ، وذكر جمع أنه لا بد معها من الاستفاضة ، وبقول الشافعي قال أحمد ، وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم وإن كان أمره أهم من أمرهم.
وقال المزني والثوري : يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاصي والداني ممن له قرابة ، والغني والفقير سواء لإطلاق النص ، ولأن الحكم المعلق بوصف مشتق معلل بمبدأ الاشتقاق ، وعندنا ذو القربى مخصوص ببني هاشم وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم سهم مستقل ولا يعطون مطلقا ، وإنما يعطى مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهم لاندراجه في الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لكن يقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهما مخصوصا ، وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم : سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل ، وعلي كرم اللّه تعالى وجهه في خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل ، ويحمل على الرجوع إلى رأيهم إن صح عنه أنه كان يقول : سهم ذوي القربى على ما حكي عن الشافعي ، وفائدة ذكرهم على القول بأن استحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلا لا يستحق شيئا لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم ، ومن تتبع الأخبار وجد فيها اختلافا كثيرا ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوا يسهمونهم مطلقا ، وهو رأي علماء أهل البيت ، واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أن كلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الاقتصار عندنا على صنف واحد كأن يعطى تمام الخمس لابن السبيل وحده مثلا.
والكلام مستوفى في شروح الهداية ، والمراد باليتامى الفقراء منهم قال الشافعية : اليتيم هو صغير لا أب له وإن كان له جد ، ويشترط إسلامه وفقره ، أو مسكنته على المشهور أن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة ، وفائدة ذكرهم مع شمول المساكين لهم عدم حرمانهم لتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس كامل ويدخل فيهم ولد الزنا ، والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غني بنفقته في بيت المال ، ولا بد في ثبوت اليتيم والإسلام

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 242
والفقر هنا من البينة ، ويكفي في المسكين وابن السبيل قولهما ولو بلا يمين وإن اتهما ، نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة انتهى ، واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي.
هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب الكشف - وهو شافعي - بعد أن اختار جعل لِلْفُقَراءِ بدلا من ذي الْقُرْبى وما عطف عليه من تضمنه قوله تعالى : وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى قوله سبحانه :
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره ، وقال : إنها للمقاتلين الآن على الأصح ، وفي تحفة ابن حجر أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهم ما لم يوجد تبرع ، والمرتزقة الأجناد المرصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعده صلّى اللّه عليه وسلم ، وصرح في التحفة بأن الأكثرين على أن هذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة والسلام مع خمس الخمس ، فجملة ما كان يأخذه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهما من خمسة وعشرين ، وكان على ما قال الروياني : يصرف العشرين التي له عليه الصلاة والسلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوبا في قول وندبا في آخر ، وقال الغزالي : كان الفيء كله له صلّى اللّه عليه وسلم في حياته ، وإنما خمس بعد وفاته.
وقال الماوردي : كان له صلّى اللّه تعالى عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها ، وقال الزمخشري : إن قوله تعالى : ما أَفاءَ اللَّهُ إلخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى : وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ما يصنع بما أفاء اللّه تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة ، وظاهره أن الجملة استئناف بياني ، والسؤال عن مصارف ما أفاء اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم من بني النضير الذي أفادت الجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالا معتدا به ، وأخذت عنوة وقهرا كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأن ما يوضع موضع الخمس من الغنائم هو الكل لا أن خمسة كذلك والباقي - وهو أربعة أخماسه - لمن تضمنه قوله تعالى : وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى قوله سبحانه : وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على ما سمعت سابقا ، وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في مِنْهُمْ أعني بني النضير ، وعدل عن الضمير إلى ذلك - على ما في الإرشاد - إشعارا بشمول ما في ما أَفاءَ اللَّهُ لعقاراتهم أيضا ، واعترض صاحب الكشف ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم ، ووجه الآية بما أيد به مذهبه ، ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر.
وقال ابن عطية أَهْلِ الْقُرى المذكورون في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى ، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير فإن تلك كلها له صلّى اللّه تعالى عليه وسلم خاصة ، وهذه قسمها كغيرها ، وقيل : المراد بما أفاء اللّه على رسوله خيبر ، وكان نصفها للّه تعالى ورسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي للّه سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام من ذلك الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة ، وكان الذي للمسلمين الشق ، وكان ثلاثة عشر سهما ، ونطاة وكانت خمسة أسهم ، ولم يقسم عليه الصلاة والسلام من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية ، ولم يأذن صلّى اللّه تعالى عليه وسلم لأحد تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد اللّه بن عمرو الأنصاري ، وروي هذا عن ابن عباس ، وخص بعضهم ما أفاء اللّه تعالى بالجزية والخراج.
وعن الزهري أنه قال : بلغني أنه ذلك ، وأنت قد سمعت أن عمر رضي اللّه تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 243
إبقاء سواد العراق بأيادي أهله ، وضرب الخراج والجزية عليهم ردا على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكن ليس ذلك إلا لأن وصول نفع ما أفاء اللّه تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم.
وفي إعادة اللام في الرسول وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الاعتناء ، وفيه على ما قيل : تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهميهما ، ووجه إفراد ذي القربى - قد ذكرناه غير بعيد - ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قبل : وَابْنِ السَّبِيلِ بالإفراد كما قيل : وَلِذِي الْقُرْبى وعلى ذلك قوله :
أيا جارتا إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب
كَيْ لا يَكُونَ تعليل للتقسيم ، وضمير يَكُونَ لما أفاء اللّه تعالى أي كي لا يكون الفيء دُولَةً هي بالضم ، وكذا بالفتح ما يدول أي ما يدور للإنسان من الغناء والجد والغلبة ، وقال الكسائي وحذاق البصرة : - الدولة - بالفتح في الملك بالضم ، و- الدولة - بالضم في الملك بالكسر ، أو بالضم في المال وبالفتح في النصرة قيل : وفي الجاه وقيل : هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف وبالفتح مصدر بمعنى التداول ، والراغب وعيسى بن عمر وكثير أنهما بمعنى واحد ، وجمهور القراء قرؤوا بضم الدال والنصب ، وبالياء التحتية في يكون على أن اسم يَكُونَ الضمير ، ودُولَةً الخبر أي كي لا يكون الفيء جدّا بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي بينهم خاصة يتكاثرون به ، أو كي لا يَكُونَ دُولَةً وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عزيز ، وقيل :
المعنى كي لا يكون شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحدا من الفقراء.
وقرأ عبد اللّه «تكون» بالتاء الفوقية على أن الضمير على ما باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال ، وقرأ أبو جعفر وهشام كذلك ورفع «دولة» بضم الدال على أن كان تامة ، و«دولة» فاعل أي كي لا يقع دولة ، وقرأ علي والسلمي كذلك أيضا ، ونصب «دولة» بفتح الدال على أن كان ناقصا اسمها ما سمعت ، «دولة» خبرها ، ويقدر مضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه ، ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء ، وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانه كان للتيمن عند الأكثرين لا لأن له عز وجل سهما ، وكذا يجل رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم عن أن يسمى فقيرا ، وما اشتهر من
قوله عليه الصلاة والسلام : «الفقر فخري»
لا أصل له ، وكيف يتوهم مثله والدنيا كلها لا تساوي عند اللّه تعالى جناح بعوضة ، وهو صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أحب خلقه إليه سبحانه حتى قال بعض العارفين : لا يقال له صلى اللّه تعالى عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه الصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلا عن طلبها اللازم للترك ، وقيل : إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الانقطاع عن السوي بالمرة إلى اللّه عز وجل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتباره فيمن بعد لا محذور فيه حتى أنه ربما يكون دليلا على القول بأنه لا يعطى أغنياء ذوي القربى ، وإنما يعطى فقراؤهم ، وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكون فيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر ، ولا يلزم أن كل من يدفع إليه شيء منه فقيرا وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي ما أعطاكم من الفيء فَخُذُوهُ لأنه حقكم الذي أحله اللّه تعالى لكم وَما نَهاكُمْ عَنْهُ أي عن أخذه منه فَانْتَهُوا عنه وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته عليه الصلاة والسلام إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقب من يخالفه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام ، وفي الكشاف الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى اللّه تعالى عليه وسلم ونهى عنه ، وأمر الفيء داخل في العموم ، وذلك لعموم لفظ ما على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل ، ولذلك عقب بقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ تعميما على تعميم فيتناول كل ما

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 244
يجب أن يتقى ويدخل ما سبق له الكلام دخولا أوليا كدخوله في العموم الأول ، وروي ذلك عن ابن جريج.
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال : «لعن اللّه تعالى الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق اللّه تعالى» فبلع ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن : فأتته فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : مالي لا ألعن من لعن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وهو في كتاب اللّه عز وجل ، فقالت : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ، قال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، أما قرأت قوله تعالى : وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت : بلى ، قال : فإنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قد نهى عنه
. وعن الشافعي أنه قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب اللّه تعالى وسنة نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، فقال عبد اللّه بن محمد بن هارون : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال : قال اللّه تعالى : وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عنه حذيفة بن اليمان قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر».
وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور ، وهذا من غريب الاستدلال ، وفيه على علاته - ككلام ابن مسعود - حمل ما في الآية على العموم ، وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضا ، قيل : والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه ، والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكم له ، قيل : والأول أقرب لأنه لا يقال : أعطاه الأمر بمعنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى ، واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمرا ولا نهيا لا يجب تركه لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ قال الزمخشري :
بدل من قوله تعالى : لِذِي الْقُرْبى والمعطوف عليه ، والذي منع الإبدال من فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وما بعد وإن كان المعنى لرسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أن اللّه عز وجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله سبحانه : ويَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وأنه يترفع برسول اللّه عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم اللّه عز وجل ، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لفظا لأن فيه سوء أدب انتهى.
وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر ، قال الإمام : فكأنه قيل : أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين ، وما ذكر من الإبدال من لِذِي الْقُرْبى وما بعده مبني على قوله الحنفية إنه لا يعطى الغني من ذوي القربى وإنما يعطى الفقير ، ومن يرى كالشافعي أنه يعطى غنيهم كما يعطى فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده ، وقيل : يجوز ذلك أيضا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقر بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنيا شيئا منه ، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر.
وفي الكشف أن لِلْفُقَراءِ ليس للقيد بل بيانا للواقع من حال المهاجرين وإثباتا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل : للّه وللرسول وللمهاجرين ، وقال ابن عطية : لِلْفُقَراءِ إلخ بيان لقوله تعالى : الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورا بها لتبيين أن البدل هو منها ، وقيل : اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى : كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ كأنه قيل : ولكن يكون للفقراء المهاجرين.
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال بناء على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 245
الخروج فخرجوا منها ، وهذا وصف باعتبار الغالب ، وقيل : كان هؤلاء مائة رجل يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة ، وصفوا أولا بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال ، وقيد ذلك ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلّام وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عطف على يَبْتَغُونَ فهي حال مقدرة أي ناوين لنصرة اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الصفات الجليلة هُمُ الصَّادِقُونَ أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله ، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك.
وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك في الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، واللّه تعالى قد شهد بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي اللّه تعالى عنه صحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي اللّه تعالى عنه بإجماع الصحابة ، ومنهم علي كرم اللّه تعالى وجهه ، ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضا وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين ، والمراد بهم الأنصار ، والتبوّؤ النزول في المكان ، ومنه المباءة للمنزل ، ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر ، وأما نسبته إلى الايمان فباعتبار جعله مستقرا ومتوطنا على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية ، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارا وهي التي أعدها اللّه تعالى لهم ليكون تبوؤهم إياها مدحا لهم.
وقال غير واحد : الكلام من باب :
علفتها تبنا وماء باردا أي تبوؤوا الدار وأخلصوا الإيمان ، وقيل : التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل : لزموا الدار والإيمان وقيل : في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد ، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة. وفي وَالْإِيمانَ حذف مضاف أي ودار الإيمان فكأنه قيل : تبوؤوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدينة ، والعطف كما في قولك : رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيدا ، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف ، وقيل :
إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى ، وقيل : الواو للمعية والمراد تبوؤوا الدار مع إيمانهم أي تبوؤوها مؤمنين ، وهو أيضا ليس بشيء ، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا ، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة ، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك.
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على ذلك مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل المهاجرين ، والجار متعلق بتبوءوا ، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين ، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال : إن الأمر بالعكس ، وجوز أن لا يقدر مضاف ، ويقال : ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.
وقيل : الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير تبوؤوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبويء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة هاهنا وقيل : لا حاجة إلى

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 246
شيء مما ذكر ، وقصارى ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوؤىء الأنصار وإيمانهم على تبويء المهاجرين وإيمانهم ، ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو هاهنا تبوؤ الدار ، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصلح أن يقال :
بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهم على تبويء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ في موضع الحال من الموصول ، وقيل : استئناف ، والكلام قيل : كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم ، وقيل : على ظاهره أي يحبون المهاجر إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ أي ولا يعلمون في أنفسهم.
حاجَةً أي طلب محتاج إليه مِمَّا أُوتُوا أي مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره ، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز ، - والحاجة - بمعنى المحتاج إليه ، وهو استعمال شائع يقال : خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته ، ومِنْ تبعيضية ، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب ، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس.
ويجوز أن يكون المعنى - لا يجدون في أنفسهم ما يحصل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون - على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها ، قيل : على أنه كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم ، وما تقدم أولى ، وقول بعضهم : أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب ، ومِنْ في قوله تعالى : مِمَّا أُوتُوا تعليلية وَيُؤْثِرُونَ أي يقدمون المهاجرين عَلى أَنْفُسِهِمْ في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم ، ويجوز أن لا يعتبر مفعول - يؤثرون - خصوص المهاجرين ،
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه أصابني الجهد فأرسل إليه نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال عليه الصلاة والسلام : «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه اللّه؟ فقال رجل من الأنصار - وفي رواية - فقال أبو طلحة : أنا يا رسول اللّه فذهب به إلى أهله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قالت : واللّه ما عندي إلا قوت الصبية قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : لقد عجب اللّه الليلة من فلان وفلانة وأنزل اللّه تعالى فيهما وَيُؤْثِرُونَ»
إلخ.
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ، قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح ، والجملة في موضع الحال ، وقد تقدم وجه ذلك مرارا وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال :
يمارس نفسا بين جنبيه كزة إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا
وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، وقال الراغب : الشح بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة ، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب والحاكم

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 247
وصححه وجماعة عن ابن مسعود أن رجلا قال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت قال : وما ذاك؟ قال : إني سمعت اللّه تعالى يقول : وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود : ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل ، وإن الشح الذي ذكره اللّه تعالى أن تأكل مال أخيك ظلما ، وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له ، ولم أر لأحد من اللغويين شيئا من هذه التفاسير للشح ، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون ، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلما أن تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ومن يوقّ» بشدّ القاف ، وقرأ ابن عمر وابن عمر وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين ، وجاء فيه لغة الفتح أيضا ، ومعنى الكل واحد ، ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق اللّه تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه ، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولا أوليا ، وفي الإفراد أولا والجمع ثانيا رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عددا وكثرتهم معنى :
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا
ويفهم من الآية ذم الشح جدا ، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه ،
أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا «ما محق الإسلام محق الشح شيء قط»
، وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعا «لا يجتمع غبار في سبيل اللّه ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا».
وأخرج أبو داود والترمذي - وقال غريب - والبخاري في الأدب وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا «خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق»
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والخطيب عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «خلق اللّه تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها :
انطقي فقالت : قد أفلح المؤمنون فقال اللّه عز وجل : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه عليه الصلاة والسلام قال : «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم»
إلى غير ذلك من الأخبار ، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جوادا بكل شيء ،
فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى والطبراني والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعا «بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة».
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه ما يقرب منه ، وكذا ابن جرير والبيهقي عن أنس ، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه
، وقوله تعالى : وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين ، والمراد بهؤلاء قيل : الذين هاجروا حين قوي الإسلام ، فالمجيء حسي وهو مجيئهم إلى المدينة ، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للمهاجرين الأولين ، وقيل : هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 248
القيامة ، فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان ، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للفريقين المهاجرين والأنصار ، وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي اللّه تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريح فيه ، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين ، وجملة قوله تعالى : يَقُولُونَ إلخ حالية ، وقيل : استئناف رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا ، وقرىء غمرا لِلَّذِينَ آمَنُوا على الإطلاق رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي مبالغ في الرأفة والرحمة. فحقيق بأن تجيب دعاءنا ، وفي الآية حث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وجماعة عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية وَالَّذِينَ جاؤُ إلخ.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه فقرأ عليه لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الآية ، ثم قال : هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الآية ، ثم قال : هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية ، ثم قال : أفمن هؤلاء أنت؟ قال : أرجو قال : لا واللّه ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.
وفي رواية أن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنه بلغه أن رجلا نال من عثمان رضي اللّه تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال ، وقال الإمام مالك : من كان له في أحد من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم قول سيء أو بغض فلا حظّ له في الفيء أخذا من هذه الآية ، وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين ، وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي والنسائي عن أنس رضي اللّه تعالى عنه «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : في أيام ثلاثة يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من الأنصار فبات معه عبد اللّه بن عمرو بن العاص ثلاث ليال
مستكشفا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه اللّه تعالى إياه فقال له عبد اللّه : هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق - وفي رواية - أنه قال : لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيتها لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال عبد اللّه : لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي شاة لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها واللّه لقد فضلك اللّه تعالى علينا فضلا بيّنا» هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى : وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ مبتدأ ، وجملة يُحِبُّونَ إلخ خبره ، والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار ، وجوز كون ذلك معطوفا على أُولئِكَ فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق ، وجملة يُحِبُّونَ إلخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال من ضمير تَبَوَّؤُا وإلى أن قوله تعالى : وَالَّذِينَ جاؤُ إلخ مبتدأ ، وجملة يَقُولُونَ إلخ خبره ، والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة لمدح الأنصار.
واستدل لعدم عطف الَّذِينَ تَبَوَّؤُا على الْمُهاجِرِينَ بما
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة كما تقدم ، وقال عليه الصلاة والسلام لهم : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا : بل نقسم لهم - أي للمهاجرين - من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها» فنزلت الآية وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ إلى آخره
، وبعض القائلين بالعطف يقولون : إن قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 249
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره وأن الأنصار مصرف من المصارف ، ولكن قد اختار صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لهم ، وهم اختاروا ما اختاروا إيثارا منهم ، وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفا بل في قوله تعالى : وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ رمز إليه على أن في الأخبار ما هو أصح وأصرح في الدلالة على عطفهم على ما تقدم ، وأنهم يعطون من الفيء ، وكذا عطف - الذين جاؤوا من بعدهم - فقد اخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان وغيرهم عن مالك بن أوس بن الحدثان في حديث طويل أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال - أي في قضاء بين علي كرم اللّه تعالى وجهه وعمه العباس رضي اللّه تعالى عنه في فدك ، وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد اللّه تعالى على أن يعملا فيها بما كان رسول اللّه عليه الصلاة والسلام يعمل به فيها فتنازعا - إن اللّه تعالى قال : ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكانت لرسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم خاصة ، ثم قال سبحانه :
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى إلى آخر الآية ، ثم واللّه ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى : لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، ثم واللّه ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه : وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا إلى قوله تعالى : رَحِيمٌ فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر ، ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه ، وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمهاجرين سهما غير السهام السابقة فلا يكون لِلْفُقَراءِ بدل من - لذي القربى - وما بعده ولا مما بعده دونه ، وكذا ظاهر ما في مصحف عبد اللّه وزيد بن ثابت كما أخرجه ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش - ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل اللّه - على أن الإبدال يقتضي ظاهرا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات ، وفي صدق ذلك عليهم بعد ، وكذا يقتضي كون ابن السبيل كذلك ، وفيه نوع بعد أيضا كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني ، وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى : فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أن المذكورين مصرف الخمس ولم يعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا : فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية أو فلمن يكون الباقي؟ فقيل : تكون الأخماس الاربعة الباقية أو يكون الباقي لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل ، واللّه تعالى الهادي إلى أحسن المسالك.
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 إلى 24]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 250
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها بعد حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلاف طبقاتهم. والخطاب لرسول اللّه عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والآية كما أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس في رهط من بني عوف منهم عبد اللّه بن أبيّ بن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله تعالى : يَقُولُونَ إلخ.
وقال السدي : أسلم ناس من بني قريظة والنضير وكان فيهم منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص اللّه تعالى ، والمعول عليه الأول ، وقوله سبحانه : يَقُولُونَ استئناف لبيان المتعجب منه ، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم ، أو لاستحضار صورته ، واللام في قوله عز وجل : لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبليغ والمراد بإخوتهم الإخوة في الدين واعتقاد الفكرة أو الصداقة ، وكثر جمع الأخ مرادا به ما ذكر على إخوان ، ومرادا به الأخوة في النسب على إخوة ، وقل خلاف ذلك ، واللام في قوله تعالى : لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ موطئة للقسم وقوله سبحانه لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ جواب القسم أي واللّه لئن أخرجتم من دياركم قسرا لنخرجن من ديارنا معكم البتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ في شأنكم أَحَداً يمنعنا من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن يمنعوا منه أَبَداً وإن طال الزمان ، وقيل : لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم ، قال في الإرشاد : وليس بذاك لأن تقدير القتال مترقب بعد ، ولأن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس مجرد عدم طاعتهم لمن يدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى : وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانت عند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم ، ولا ريب في أن ما يفعله عليه الصلاة والسلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم ، وأما الخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدّعوا أن

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 251
خروجهم معهم لما بينهم من الصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين ، ونوقش في ذلك ، وجواب إِنْ محذوف ، ولَنَنْصُرَنَّكُمْ جواب قسم محذوف قبل إِنْ الشرطية ، وكذا يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم القسم على الشرط وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان ، وقوله تعالى : لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ إلى آخره تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وكان الأمر كذلك ، والإخبار عن خلفهم في الميعاد قيل : من الإخبار بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز ، وهذا مبني على أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير ، وكلام أهل الحديث والسير على ما قيل : يدل على خلافه.
وقال بعض الأجلة : إن قوله تعالى : يَقُولُونَ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ إلخ من باب الإخبار بالغيب بناء على ما روي أن عبد اللّه بن أبيّ دس إليهم لا يخرجوا فأطلع اللّه تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام على ما دسه وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على سبيل الفرض والتقدير لَيُوَلُّنَّ أي المنافقون الْأَدْبارَ فرارا ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك أي يهلكهم اللّه تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم ، أو لَيُوَلُّنَّ أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم ولينهزمن ، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين ، وقيل : الضمير المرفوع في نَصَرُوهُمْ لليهود ، والمنصوب للمنافقين أي ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس بشيء ، وكأنه دعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاة بين لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الوجه السابق ، وقد أشرنا إلى دفع ذلك من غير حاجة إلى هذا التوجيه الذي لا يخفى حاله لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً أي أشد مرهوبية على أن رَهْبَةً مصدر من المبني للمفعول لأن المخاطبين وهم المؤمنين مرهوب منهم لا راهبون فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة اللّه عز وجل وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من اللّه عز وجل ، ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من اللّه تعالى ولشدة البأس والتشجع ما كانوا يظهرون ذلك ، قيل : إن فِي صُدُورِهِمْ على الوجه الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني ذلِكَ أي ما ذكر من كونكم أشد رهبة في صدورهم من اللّه تعالى بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ شيئا حتى يعلموا عظمة اللّه عز وجل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى ، والمراد بهؤلاء اليهود ، وقيل :
المنافقون وقيل : الفريقان لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود والمنافقون ، وقيل : اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم جَمِيعاً أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب والخنادق ونحوها أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم لقذف اللّه تعالى الرعب في قلوبهم ومزيد رهبتهم منكم.
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن وثاب «جدر» بإسكان الدال تخفيفا ، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير في الرواية المشهورة وكثير من المكيين جدار بكسر الجيم وألف بعد الدال وهي مفرد الجدر ، والقصد فيه إلى الجنس ، أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان.
وقرأ جمع من المكيين وهارون عن ابن كثير «جدر» بفتح الجيم وسكون الدال ، قال صاحب اللوامح :
وهو الجدار بلغة اليمن ، وقال ابن عطية : معناه أصل بنيان كسور وغيره ، ثم قال : ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المصافة بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 252
إليكم بما قذف اللّه تعالى في قلوبهم من الرعب تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أي مجتمعين ذوي إلفة واتحاد وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى جمع شتيت أي متفرقة لا إلفة بينها يعني أن بينهم إحنا وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون عن قوس واحدة ، وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.
وقرأ مبشر بن عبيد «شتى» بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق ، وعبد اللّه - وقلوبهم أشت - أي أكثر أو أشد تفرقا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ شيئا حتى يعلموا طرق الألفة وأسباب الاتفاق ، وقيل : لا يَعْقِلُونَ أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم المركوزة فيهم بحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم وليس بذاك ، وقوله تعالى : كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود بني النضير ، أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل بدر - كما قال مجاهد - أو كبني قينقاع - كما قال ابن عباس - وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالى المدينة غزاهم النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهرا من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة والسلام إلى أذرعات على ما فصل في كتب السير.
وقيل : أي مثل هؤلاء المنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية قَرِيباً ظرف لقوله تعالى : ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم.
وقيل : انتصاب قَرِيباً - بمثل - إذ التقدير كوقوع مثل الذين ، وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن في الكلام مضافا هو العامل حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه لقيامه مقامه ، ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل ، وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثل فكأنه قيل : مثلهم كمثل الذين من قبلهم الواقع قريبا ، وفيه أن ذلك التقدير ركيك وما ذكر لا يدفع الركاكة ، والقول بتقدير مضاف في جانب المبتدأ أيضا أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم قريبا فيكون قد شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي أن يرتكب في الفصيح.
وقيل : إن العامل فيه التشبيه أي يشبهونهم في زمن قريب ، وقيل : متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع ، وكلا القولين كما ترى ، ولا يبعد تعلقه بما تعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب فيفيد أن قبليتهم قبلية قريبة ، ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل ، ويكون هذا مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في أهل بدر أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه ، وجملة ذاقُوا مفسرة للمثل لا محل لها من الإعراب ، ويتعين تعلق قَرِيباً بما بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقو الأمم الماضية فتدبر وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره ، والجملة قيل : عطف على الجملة السابقة وإن اختلفا فعلية واسمية ، وقيل : حال مقدرة من ضمير ذاقُوا وأيا ما كان فهو داخل في حيز المثل ، وقيل : عطف على جملة - مثلهم كمثل الذين من قبلهم - ولا يخفى بعده ، وقوله تعالى : كَمَثَلِ الشَّيْطانِ جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضا أي مثلهم كمثل الشيطان على أن ضمير - مثلهم - هاهنا للمنافقين وفيما تقدم لبني النضير ، وقال بعضهم : ضمير - مثلهم - المقدر في الموضعين للفريقين ، وجعله بعض المحققين خبرا ثانيا للمبتدأ المحذوف في قوله تعالى : كَمَثَلِ الَّذِينَ على أن الضمير هناك للفريقين إلا أن المثل الأول يخص بني

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 253
النضير ، والثاني يخص المنافقين ، وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضميرهما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوص ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل : مثل أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل واستعارة فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال سبحانه : فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها أبد الآبدين وَذلِكَ أي الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ على الإطلاق دون المذكورين خاصة ، والجمهور على أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله : إِنِّي أَخافُ إلخ.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس ، وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم حتى وقعوا فيما وقعوا قال : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف اللّه الآية ، وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة ، وذلك أنه لما شبه أولا حال إخوان المنافقين من أهل الكتاب بحال أهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر ، ومعنى اكْفُرْ على تخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعض ، وقال الخفاجي : لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل.
وأخرج أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه وغيرهم عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أن رجلا كان يتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال : اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم تبرأ منه وقال له ما قال ، فذلك قوله تعالى : كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ الآية
، وهذا الرجل هو برصيصا الراهب ، وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلا مما ذكر وهي مشهورة في القصص ، وفي البحر إن قول الشيطان : «إني أخاف اللّه» كان رياء وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم وقرىء أنا بريء ، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم ابن أرقم - فكان عاقبتهما - بالرفع على أنه اسم كان ، وأنهما إلخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور.
وقرأ عبد اللّه وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة - خالدان - بالألف على أنه خبر إن ، وَفِي النَّارِ متعلق به ، وقدم للاختصاص ، وفيها تأكيد له وإعادة تضميره ، وجوز أن يكون «في النار» خبر إن ، و- خالدان - خبر ثانيا وهو في قراءة الجمهور حال من الضمير في الجار والمجرور يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من أمسه ، أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده يكون فيها أحوال غير الأحوال السابقة ، وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل : «لغد» لا يعرف كنهه لغاية عظمه ، وأما تنكير نَفْسٌ فلاستقلال الأنفس النواظر كأنه قيل : ولتنظر نفس واحدة في ذلك ، وفيه حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل فلا أحد خلص منها ، ومنه ظهر - كما في الكشف - أن جعله من قبيل قوله تعالى : عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير : 14] غير مطابق للمقام أي فهو كما
في الحديث «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة»
لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل من القليل ، والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور لا ينظر إليه ما لم يأتمر ، وجوز ابن عطية أن يراد بغد يوم الموت ، وليس بذاك ، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن الحارث - ولتنظر - بكسر اللام ، وروي ذلك عن حفص عن عاصم ، وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 254
جعلها لام كي ، وكان المعنى ولكي تنظر نفس ما قدمت لغد أمرنا بالتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد ، أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذا في ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي من المعاصي ، وهذا الوجه الثاني أرجح لفضل التأسيس على التأكيد ، وفي ورود الأمرين مطلقين من الفخامة ما لا يخفى ، وقيل : إن التقوى شاملة لترك ما يؤثم ولا وجه وجيه للتوزيع والمقام مقام الاهتمام بأمرها ، فالتأكيد أولى وأقوى ، وفيه منع ظاهر ، وكيف لا والمتبادر مما قدمت أعمال الخير كذا قيل ، ولعل من يقول بالتأكيد يقول : إن قوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ إلخ يتضمن الوعد والوعيد ويعمم ما قدمت أيضا ، ولعلك مع هذا تميل للتأسيس.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي نسوا حقوقه تعالى شأنه : وما قدروا اللّه حق قدره ولم يراعوا مواجب أمره سبحانه ونواهيه عز وجل حق رعايتها فَأَنْساهُمْ اللّه تعالى بسبب ذلك أَنْفُسَهُمْ أي جعلهم سبحانه ناسين لها حتى لم يسعوا بما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلّصها ، أو أراهم جل جلاله يوم القيامة من أهوال ما أنساهم أنفسهم أي أراهم أمرا هائلا وعذابا أليما ، ونسيان النفس حقيقة قيل : مما لا يكون لأن العلم بها حضوري ، وفيه نظر وإن نص عليه ابن سينا وأشياعه أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسوق.
وقرأ أبو حيوة - ولا يكونوا - بياء الغيبة على سبيل الالتفات ، وقال ابن عطية : كناية عن نفس المراد بها الجنس لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الذين نسوا للّه تعالى فاستحقوا الخلود في النار وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ الذين اتقوا اللّه فاستحقوا الخلود في الجنة ، ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص ، وعليه قوله تعالى : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد : 16] إلى غير ذلك.
ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر : 9] لأن صفته ملكة لصفة المفضول الإعدام مسبوقة بملكاتها ، والمراد بعدم الاستواء عدم الاستواء في الأحوال الأخروية كما ينبىء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة ، وكذا قوله تعالى : أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بينهما أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه ، والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه ، وهذا كما تقول لمن عق أباه : هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف ، ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر ، وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا : لما حث سبحانه على التقوى فعلا وتركا وزجر عز وجل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان اللّه تعالى ترشيحا للتقريع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء ما ، وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين ، فالمقام يقتضي التباين في حكمي الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في الدار التي هي المدار ، وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام ذلك في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة. إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون : إن العموم مدلول نفي المساواة لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 255
فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيا وهو خلاف مقتضى اللفظ ، وقول الحنفية : إن الاستواء مطلقا أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه ، والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعرا بأحد القسمين الخاصين.
وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع ، ألا ترى أن من قال : ما رأيت حيوانا وكان قد رأى إنسانا مثلا عد كاذبا؟ وتمام ذلك في كتب الأصول ، والإنصاف أن كون المراد هنا نفي الاستواء في الأمور الأخروية ظاهر جدا فلا ينبغي الاستدلال بها على ما ذكر.
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ العظيم الشأن المنطوي على فنون القوارع عَلى جَبَلٍ من الجبال أو جبل عظيم لَرَأَيْتَهُ مع كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي متشققا منها.
وقرأ أبو طلحة مصدعا بإدغام التاء في الصاد ، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر ، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع ، ويشير إلى كونه تمثيلا قوله تعالى : وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فإن الإشارة فيه إلى قوله تعالى : لَوْ أَنْزَلْنا إلخ وإلى أمثاله ، فالكلام بتقدير وقوع تلك ، أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في الأغلب تمثيلات متخيلة هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده سبحانه عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما لم يتعلق به علم مخلوق وإحساسه أصلا وهو الغيب المطلق وَالشَّهادَةِ وهو ما يشاهده مخلوق.
قال الراغب : الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يعتبر الحضور مفردا لكن الشهود بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى ، وحمل الغيب على المطلق هو المتبادر ، وأل فيه للاستغراق إذ لا قرينة للعهد ، ومقام المدح يقتضيه مع قوله تعالى : عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة : 109 ، 116 ، التوبة :
78 ، سبأ : 48] فيشمل كل غيب واجبا كان أو ممكنا موجودا أو معدوما أو ممتنعا لم يتعلق به علم مخلوق ، ويطلق الغيب على ما لم يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف أي الغيب بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو على ما قيل : مراد الفقهاء في قولهم : مدعي علم الغيب كافر ، وهذا قد يكون من عالم الشهادة كما لا يخفى ، وذكر الشهادة مع أنه إذا كان كل غيب معلوما له تعالى كان كل شهادة معلوما له سبحانه بالطريق الأولى من باب قوله عز وجل : لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف : 49] ، وقيل : الغيب ما لا يقع عليه الحس من المعدوم أو الموجود الذي لا يدرك ، والشهادة ما يقع عليه الإدراك بالحس.
وقال الإمام أبو جعفر رضي اللّه تعالى عنه : الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان
،
وقال الحسن : الغيب السر والشهادة العلانية ، وقيل : الأول الدنيا بما فيها والثاني الآخرة بما فيها ، وقيل : الأول الجواهر المجردة وأحوالها والثاني الأجرام والأجسام وأعراضها ، وفيه أن في ثبوت المجردات خلافا قويا ، وأكثر السلف على نفيها ، وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على العلم بالشهادة ، وقيل : لتقدمه على الشهادة فإن كل شهادة فإن كل شهادة كان غيبا وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب ، وصاحب القيل الأخير يقول : إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به ، واستدل بالآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، ووجهه ما أشرنا إليه ، وتتضمن على ما قيل : دليلا آخر عليه لأنها تدل على أنه لا معبود إلا هو ويلزمه أن يكون سبحانه خالقا لكل شيء بالاختيار كما هو الواقع في نفس الأمر ، والخلق بالاختيار يستحيل بدون العلم ، ومن هنا قيل : الاستدلال بها على هذا المطلب أولى من الاستدلال بقوله تعالى : وَاللَّهُ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 256
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[البقرة : 282 ، النساء : 176 ، النور : 35 ، 64 ، الحجرات : 16 ، التغابن : 11] هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ برحمة تليق بذاته سبحانه ، والتأويل وإن ذكره علماء أجلاء من الماتريدية والأشاعرة لا يحتاج إليه سلفي كما حقق في التمييز وغيره.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرر لإبراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد الْمَلِكُ المتصرف بالأمر والنهي ، أو المالك لجميع الأشياء الذي له التصرف فيها ، أو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الاذلال ، أو الذي يولي ويعزل ولا يتصور عليه تولية ولا عزل ، أو المنفرد بالعز والسلطان ، أو ذو الملك والملك خلقه ، أو القادر أقوال حكاها الآمدي ، وحكي الأخير عن القاضي أبي بكر الْقُدُّوسُ البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا ، أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به ، أو الذي لا يحدّ ولا يتصور ، وقرأ أبو السمال وأبو دينار الأعرابي «القدّوس» بفتح القاف وهو لغة فيه لكنها نادرة ، فقد قالوا : فعول بالضم كثير ، وأما بالفتح فيأتي في الأسماء - كسمور وتنور وهبود - اسم جبل باليمامة ، وأما في الصفات فنادر جدا ، ومنه سبوح بفتح السين السَّلامُ ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة ، وعن الجبائي هو الذي ترجى منه السلامة ، وقيل : أي الذي يسلم على أوليائه فيسلمون من كل مخوف الْمُؤْمِنُ قيل : المصدق لنفسه ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه إما بالقول أو بخلق المعجزة ، أو واهب عبادة الأمن من الفزع الأكبر أو مؤمنهم منه إما بخلق الطمأنينة في قلوبهم أو بإخبارهم أن لا خوف عليهم ، وقيل : مؤمن الخلق من ظلمه ، وقال ثعلب : المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا ، وقال النحاس : في شهادتهم على الناس يوم القيامة وقيل : ذو الأمن من الزوال لاستحالته عليه سبحانه ، وقيل : غير ذلك ، وقرأ الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهم - وقيل - أبو جعفر المدني «المؤمن» بفتح الميم
على الحذف والإيصال كما في قوله تعالى : وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف : 155] أي المؤمن به.
وقال أبو حاتم : لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما لا يليق به سبحانه إذ المؤمن المطلق من كان خائفا وآمنه غيره ، وفيه أنه متى كان ذلك قراءة ولو شاذة لا يصح هذا لأن القراءة ليست بالرأي الْمُهَيْمِنُ الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن بقلب همزته هاء ، وإليه ذهب غير واحد ، وتحقيقه كما في الكشف أن أيمن على فيعل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء ، وإذا قلت : أمن الراعي الذئب على الغنم مثلا دل على كمال حفظه ورقبته ، فاللّه تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملكه لإحاطة علمه وكمال قدرته عز وجل ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء من ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ كما قال تعالى :
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة : 48] وجعله من ذاك أولى من جعله من الأمانة نظرا إلى أن الأمين على الشيء حافظ له إذ لا ينبىء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة ، وجعله في الصحاح اسم فاعل من آمنه الخوف على الأصل فأبدلت الهمزة الأصلية ياء كراهة اجتماع الهمزتين وقلبت الأولى هاء كما في هراق الماء ، وقولهم في إياك : هياك كأنه تعالى بحفظه المخلوقين صيرهم آمنين ، وحرف الاستعلاء - كمهيمنا عليه - لتضمين معنى الاطلاع ونحوه ، وأنت تعلم أن الاشتقاق على ما سمعت أولا أدل والخروج عن القياس فيه أقل ، وظاهر كلام الكشف أنه ليس من التصغير في شيء.
وقال المبرد : إنه مصغر ، وخطىء في ذلك فإنه لا يجوز تصغير أسمائه عز وجل الْعَزِيزُ الغالب.
وقيل : الذي لا مثل له ، وقيل : الذي يعذب من أراد ، وقيل : الذي عليه ثواب العاملين ، وقيل : الذي لا يحط عن منزلته ، وقيل : غير ذلك الْجَبَّارُ الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه : ويقال في فعله : أجبر ، وأمثلة المبالغة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 257
تصاغ من غير الثلاثي لكن بقلة ، وقيل : إنه من جبره بمعنى أصلحه ، ومنه جبرت العظم فانجبر فهو الذي جبر أحوال خلقه أي أصلحها ، وقيل : هو المنيع الذي لا ينال يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدي : جبارة ، وقيل : هو الذي لا ينافس في فعله ولا يطالب بعلة ولا يحجر عليه في مقدوره.
وقال ابن عباس : هو العظيم ، وقيل : غير ذلك الْمُتَكَبِّرُ البليغ الكبرياء والعظمة لأنه سبحانه بريء من التكليف الذي تؤذن به الصيغة فيرجع إلى لازمه من أن الفعل الصادر عن تأنق أقوى وأبلغ ، أو الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه اللّه تعالى عما يشركون به سبحانه ، أو عن إشراكهم به عز وجل إثر تعداد صفاته تعالى التي لا يمكن أن يشارك سبحانه في شيء منها أصلا هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة ، أو مبدع الأشياء من غير أصل ولا احتذاء ، ويفسر الخلق بإيجاد الشيء الْبارِئُ الموجد لها بريئة من تفاوت ما تقتضيه بحسب الحكمة والجبلة ، وقيل : المميز بعضها عن بعض بالاشكال المختلفة الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد.
وقال الراغب : الصورة ما تنتقش بها الأعيان وتتميز بها عن غيرها ، وهي ضربان : محسوسة تدركها العامة والخاصة بل الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الفرس المشاهدة. ومعقولة تدركها الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خص بها شيء بشيء ، وإلى الصورتين أشار بقوله سبحانه :
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف : 11] إلى آيات أخر انتهى فلا تغفل.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع «المصور» بفتح الواو والنصب على أنه مفعول للبارىء ، وأريد به جنس المصور ، وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول
نحو الضارب الغلام ، وفي الخانية إن قراءة «المصور» بفتح الواو هنا تفسد الصلاة ولعله أراد إذا أجراه حينئذ على اللّه سبحانه ، وإلا ففي دعوى الفساد بعد ما سمعت نظر.
لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدالة على محاسن المعاني يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات بلسان الحال لما تضمنته من الحكم والمصالح التي يضيق عن حصرها نطاق البيان ، أو بلسان المقال الذي أوتيه كل منها حسبما يليق به على ما قاله كثير من العارفين ، وقد تقدم الكلام فيه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى كمال القدرة المؤذن به الْعَزِيزُ بناء على تفسيره بالغالب وإلى كمال العلم المؤذن به الْحَكِيمُ بناء على تفسيره بالفاعل بمقتضى الحكمة ، وفي ذلك إشارة إلى التحلية بعد التخلية كما في قوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى : 11] فتأمل ولا تغفل.
ولهذه الآيات فضل عظيم كما دلت عليه عدة روايات ، وأخرج الإمام أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «من قال :
حين يصبح ثلاث مرات أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل اللّه به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة»
. وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا «اسم اللّه الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر».
وأخرج أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري في فوائده عن محمد بن الحنفية أن البراء بن عازب قال لعلي بن أبي طالب كرم اللّه تعالى وجهه : أسألك باللّه إلا ما خصصتني بأفضل ما خصك به رسول اللّه عليه الصلاة

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 258
والسلام مما خصه به جبريل مما بعث به الرحمن عز وجل ، قال : يا براء إذا أردت أن تدعو اللّه باسمه الأعظم فاقرأ من أول الحديد عشر آيات وآخر الحشر ، ثم قل : يا من هو هكذا وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا فو اللّه يا براء لو دعوت عليّ لخسف بي.
وأخرج الديلمي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا إلى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام أنه قال في قوله تعالى : لَوْ أَنْزَلْنا إلى آخر السورة هي رقية الصداع
، وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال : أنبأنا أبو عبيد الحافظ أنبأ أبو الطيب محمد بن أحمد بن يوسف بن جعفر المقرئ البغدادي - يعرف بغلام ابن شنبوذ - أنبأ إدريس بن عبد الكريم الحداد قال : قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعمش فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا ضع يدك على رأسك فإنا قرأنا على عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه فلما بلغنا هذه الآية قال ضعا أيديكما على رؤوسكما فإني قرأت على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي : «ضع يدك على رأسك فإن جبريل عليه السلام لما نزل بها إلي قال : ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت»
إلى غير ذلك من الآثار ، واللّه تعالى أعلم.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 259
سورة الممتحنة
قال ابن حجر : المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها ، وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة : الفاضحة ، وفي جمال القراء تسمى أيضا سورة الامتحان وسورة المودة ، وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم القول بمدنيتها ، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة ، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق.
ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب ، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين ، وبسط الكلام فيه أتم بسط وقيل في ذلك أيضا : إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية ، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الافتتاح - بسبح - .
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 إلى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 260
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلتعة - وهو مولى عبد اللّه بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى -
أخرج الإمام أحمد والبخاري مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا : أخرجي الكتاب قالت : ما معي من كتاب قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فإذا فيه : من خاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام ما هذا يا حاطب؟! قال : لا تعجل عليّ يا رسول اللّه إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : دعني يا رسول اللّه أضرب عنقه فقال عليه الصلاة والسلام : إنه شهد بدرا وما يدريك لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ»
إلخ.
وفي رواية ابن مردويه عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام بعث عمر وعليا رضي اللّه تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما لصاحبه : واللّه ما كذبنا ولا كذبنا ارجع بنا إليها فرجعا فسلا سيفيهما وقالا : واللّه لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت ثم قالت : أدفعه إليكما على أن لا ترداني إلى رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسها
،
وفيه - على ما في الدر المنثور - أن المرأة تدعى أم سارة كانت مولاة لقريش ، وفي الكشاف يقال لها : سارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي ابن هاشم ، وفي صحة خبر أنس تردد ، وما تضمنه من رجوع الإمامين رضي اللّه تعالى عنهما بعيد ، وقيل : إن المبعوثين في أثرها عمر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وأبو مرثد وكانوا فرسانا ، والمعول عليه ما قدمنا ، والذين كانوا له في مكة بنوه وإخوته على ما روي عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن حاطب المذكور ، وفي رواية لأحمد عن جابر أن حاطبا قال : كانت والدتي معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته.
وصورة الكتاب - على ما في بعض الروايات - أن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم باللّه لو سار إليكم وحده لنصره اللّه عليكم فإنه منجز له ما وعده ، وفي الخبر السابق على ما قيل : دليل على جواز قتل الجاسوس لتعليله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدرا - وفيه بحث - وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى ضميره عز وجل تغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب اللّه تعالى بهم ، وفيه رمز إلى معنى قوله :
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد ، ونصب أَوْلِياءَ على أنه مفعول ثان - لتتخذوا - وقوله تعالى : تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل لها من الاعراب ، والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة : 195] وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها ، وتفسيره بالإيصال أي توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز.

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 261
وقيل : الباء للتعدية لكون المعنى تفضون إليهم بالمودة ، وأفضى يتعدى بالباء كما في الأساس ، وقيل : هي للسببية والإلقاء مجاز عن الإرسال أي ترسلون إليهم أخبار النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم ، وعن البصريين أن الجار متعلق بالمصدر الدال عليه الفعل ، وفيه حذف المصدر مع بقاء معموله ، وجوز كون الجملة حالا من فاعل لا تَتَّخِذُوا أو صفة - لأولياء - ولم يقل - تلقون إليهم أنتم - بناء على أنه لا يجب مثل هذا الضمير مع الصفة الجارية على غير من هي له أو الحال أو الخبر أو الصلة سواء في ذلك الاسم والفعل كما في شرح التسهيل لابن مالك إذا لم يحصل إلباس نحو زيد هند ضاربها أو يضربها بخلاف زيد عمرو ضاربه أو يضربه فإنه يجب معه هو لمكان الإلباس.
وزعم بعضهم أن الإبراز في الصفات الجارية على غير من هي له إنما يشترط في الاسم دون الفعل كما هنا ومنع ذلك ، وتعقب الوجهان بأنهما يوهمان أنه تجوز الموالاة عند عدم الإلقاء فيحتاج إلى القول بأنه لا اعتبار للمفهوم للنهي عن الموالاة مطلقا في غير هذه الآية ، أو يقال : إن الحال والصفة لازمة ولذا كانت الجملة مفسرة وقوله تعالى :
وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ حال من فاعل لا تَتَّخِذُوا وهي حال مترادفة إن كانت جملة تُلْقُونَ حالية أيضا أو من فاعل تُلْقُونَ وهي متداخلة على تقدير حاليتها ، وجوز كونه حالا من المفعول وكونه مستأنفا.
وقرأ الجحدري والمعلى عن عاصم - لما - باللام أي لأجل ما جاءكم بمعنى جعل ما هو سبب للإيمان سبب الكفر يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أي من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي لإيمانكم أو كراهة إيمانكم باللّه عز وجل ، والجار متعلق - بيخرجون - والجملة قيل : حال من فاعل كَفَرُوا أو استئناف كالتفسير لكفرهم كأنه قيل :
كيف كفروا؟ وأجيب بأنهم كفروا أشد الكفر بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين لإيمانهم خاصة لا لغرض آخر ، وهذا أرجح من الوجه الاول لطباقه للمقام وكثرة فوائده ، والمضارع لاستحضار الحال الماضية لما فيها من مزيد الشناعة ، والاستمرار غير مناسب للمعنى ، وفي تُؤْمِنُوا قيل : تغليب للمؤمنين ، والالتفات عن ضمير المتكلم بأن يقال : بي إلى ما في النظم الجليل للإشعار بما يوجب الايمان من الألوهية والربوبية إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي متعلق بقوله تعالى : لا تَتَّخِذُوا إلخ كأنه قيل : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي فجواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدم ، وجعله الزمخشري حالا من فاعل لا تَتَّخِذُوا ولم يقدر له جوابا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والحال أنكم خرجتم لأجل الجهاد وطلب مرضاتي ، واعترض بأن الشرط لا يقع حالا بدون جواب في غير إن الوصلية ، ولا بد فيها من الواو وأن ترد حيث يكون ضد المذكور أولى - كأحسن إلى زيد وإن أساء إليك - وما هنا ليس كذلك.
وأجيب بأن ابن جني جوزه ، وارتضاه جار اللّه هنا لأن البلاغة وسوق الكلام يقتضيانه فيقال لمن تحققت صداقته من غير قصد للتعليق والشك : لا تخذلني إن كنت صديقي تهييجا للحمية ، وفيه من الحسن ما فيه فلا يضر إذا خالف المشهور ، ونصب المصدرين على ما أشرنا إليه على التعليل ، وجوز كونهما حالين أي مجاهدين ومبتغين ، والمراد بالخروج إما الخروج للغزو وإما الهجرة ، فالخطاب للمهاجرين خاصة لأن القصة صدرت منهم كما سمعت في سبب النزول ، وقوله تعالى : تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ استئناف بياني كأنهم لما استشعروا العتاب مما تقدم سألوا ما صدر عنا حتى عوتبنا؟ فقيل : تُسِرُّونَ إلخ ، وجوز أن يكون بدلا من تُلْقُونَ بدل كل من كل إن أريد بالإلقاء الإلقاء خفية ، أو بدل بعض إن أريد الأعم لأن منه السر والجهر.
وقال أبو حيان : هو شبيه ببدل الاشتمال ، وجوز ابن عطية كونه خبر مبتدأ محذوف أي أنتم تُسِرُّونَ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 262
والكلام استئناف للإنكار عليهم ، وأنت تعلم أن الاستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف والكلام في الباء هنا على ما يقتضيه ظاهر كلامهم كالباء فيما تقدم ، وقوله تعالى : وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ في موضوع الحال ، وأَعْلَمُ أفعل تفضيل ، والمفضل عليه محذوف أي منكم ، وأجاز ابن عطية كونه مضارعا ، والعلم قد يتعدى بالباء أو هي زائدة ، وما موصولة أو مصدرية ، وذكر ما أَعْلَنْتُمْ مع الاستغناء عنه للإشارة إلى تساوي العلمين في علمه عز وجل ، ولذا قدم بِما أَخْفَيْتُمْ وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودة إليهم كأنه قيل : تسرون إليهم بالمودة والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار؟ وَمَنْ يَفْعَلْهُ أي الإسرار.
وقال ابن عطية وجمع : أي الاتخاذ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة سَواءَ من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ونصبه على المفعول به - لضل - وهو يتعدى كأضل ، وقيل : لا يتعدى وسَواءَ ظرف كقوله :
كما عسل الطريق الثعلب إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي إن يظفروا بكم ، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ، ومنه رجل ثقف لقف ، وتجوز به عن الظفر والإدراك مطلقا يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي عداوة يترتب عليها ضرر بالفعل بدليل قوله تعالى :
وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم فكأنه عطف تفسيري ، فوقوع يَكُونُوا إلخ جواب الشرط بالاعتبار الذي أشرنا إليه وإلا فكونهم أعداء للمخاطبين أمر متحقق قبل الشرط بدليل ما في صدر السورة ، ومثله قول بعضهم : أي يظهروا ما في قلوبهم من العداوة ويرتبوا عليها أحكامها ، وقيل : المراد بذلك لازم العداوة وثمرتها وهو ظهور عدم نفع التودد فكأنه قيل : إن يثقفوكم يظهر لكم عدم نفع إلقاء المودة إليهم والتودد لهم ، وقوله تعالى : وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ عطف على الجواب وهو مستقبل معنى كما هو شأن الجواب ، ويؤول كما أول سابقه بأن يقال - على ما في الكشف - المراد ودادة يترتب عليها القدرة على الرد إلى الكفر ، أو يقال - على ما قال البعض - المراد إظهار الودادة وإجراء ما تقتضيه ، والتعبير بالماضي وإن كان المعنى على الاستقبال للإشعار بأن ودادتهم كفرهم قبل كل شيء وأنها حاصلة وإن لم يثقفوهم.
وتحقيق ذلك أن الودادة سابقة بالنوع متأخرة باعتبار بعض الأفراد ، فعبر بالماضي نظرا للأول وجعلت جوابا متأخرا نظرا للثاني ، وآثر الخطيب الدمشقي العطف على مجموع الجملة الشرطية كقوله تعالى : ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر : 12] في السورة قبل فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف : 34] عند جمع قال : لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في التقييد بالشرط فائدة ، وإلى ذلك ذهب أبو حيان ، وجوابه يعلم مما ذكرنا ، وقريب منه ما قيل : إن ودادة كفرهم بعد الظفر لما كانت غير ظاهرة لأنهم حينئذ سبي وخدم لا يعتدّ بهم فيجوز أن لا يتمنى كفرهم فيحتاج إلى الإخبار عنه بخلاف الودادة قبل الظفر فيكون للتقييد فائدة لأنها ودادة أخرى متأخرة. وقال بعض الأفاضل : إن المعطوف على الجزاء في كلام العرب على أنحاء : الأول أن يكون كل منهما جزاء وعلة نحو إن تأتني آتك وأعطك. الثاني أن يكون الجزاء أحدهما وإنما ذكر الآخر لشدة ارتباطه به لكونه مسببا له مثلا نحو إذا جاء الأمير استأذنت وخرجت لاستقباله ونحو حبست غريمي لأستوفي حقي وأخليه.
الثالث أن يكون المقصود جمع أمرين وحينئذ لا ينافي تقدم أحدهما نحو كخرجت مع الحجاج لأرافقهم في الذهاب ولا أرافقهم في الإياب. ومنه قوله تعالى : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 263
[الفتح : 1 ، 2] الآية ، وما في النظم الجليل هنا قيل : محتمل للأول لاستقبال الودادة من بعض الاعتبارات كما تقدم ، وعبر بالماضي اعتبارا للتقدم الرتبي من حيث إن الرد عند الكفرة أشق المضار لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من أرواحهم لأنهم باذلون لها دونه ، وأهم شيء عند العدو أن يقصد أهم شيء عند صاحبه ومحتمل للثالث بأن يكون المراد المجموع بتأويل يريدون لكم مضار الدنيا والآخرة ، قيل : وللثاني أيضا بأن يكون الجزاء هو - يبسطوا - وذكرت عداوتهم وودادتهم الرد لشدة الارتباط لما هناك من السببية والمسببية وهو كما ترى وجعل الطيبي المجموع مجازا من إطلاق السبب وإرادة المسبب وهو مضار الدارين ، وذكر أن الجواب في الحقيقة مقدر أي يريدوا لكم مضار الدنيا والدين ، وما ذكر دليله أقيم مقامه ، وقيل : عبر في الودادة بالماضي لتحققها عند المؤمنين أتم من تحقق ما قبلها ، وحمل عليه كلام لصاحب المفتاح.
وعن بعضهم أن الواو واو الحال لا واو العطف ، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه ، ولا يخفى أن العطف هو المتبادر ، وكونه على الجزاء أبعد مغزى ، وإخراج الشرط والجزاء على نحو ذلك أكثر من أن يحصى.
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ دفع لما عسى أن يتخيلوا كونه عذرا نافعا من أن الداعي للاتخاذ وإلقاء المودّة صيانة الأرحام والأولاد من أذى أولئك. والرحم في الأصل رحم المرأة ، واشتهر في القرابة حتى صار كالحقيقة فيها ، فإما أن يراد به ذلك أو يجعل مجازا عن القريب ، أو يعتبر معه مضاف أي ذوو أرحامكم ، ويؤيد التأويل عطف قوله تعالى : وَلا أَوْلادُكُمْ أي لن ينفعكم قراباتكم أو أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بدفع ضر أو جلب نفع يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ استئناف لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد يومئذ أي يفرق اللّه تعالى بينكم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى : يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس : 34] الآية فلا ينبغي أن يرفض حق اللّه تعالى وتوالي أعداؤه سبحانه لمن هذا شأنه ، وما أشرنا إليه من تعلق يوم القيامة بالفعل قبله هو الظاهر ، وجوز تعلقه - بيفصل - بعده.
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب - يفصل - بضم الياء وتشديد الصاد مبنيا للفاعل ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما خففا ، وطلحة والنخعي - نفصل النون مضمومة والتشديد والبناء للفاعل ، وهما أيضا وزيد بن علي بالنون مفتوحة مخففا مبنيا للفاعل ، وأبو حيوة أيضا بالنون مضمومة.
وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر «يفصّل» بالياء والتشديد والبناء للمفعول ، وجمهور القراء كذلك إلا أنهم خففوا ، ونائب الفعل إما بَيْنَكُمْ وهو مبني على الفتح لإضافته إلى متوغل في البناء كما قيل ، وإما ضمير المصدر المفهوم من الفاعل أي يفصل هو أي الفصل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم به.
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ تأكيد لأمر الإنكار عليهم والتخطئة في موالاة الكفار بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه ليعلم أن الحب في اللّه تعالى والبغض فيه سبحانه من أوثق عرا الإيمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما ، والأسوة بضم الهمزة وكسرها وهما لغتان ، وبالكسر قرأ جميع القراء إلا عاصما وهي بمعنى الائتساء والاقتداء ، وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها. وعلى نفس الشخص المؤتسى به ، ففي زيد أسوة من باب التجريد نحو :
وللضعفاء في الرحمن كاف وفي البيضة عشرون منا حديد وكل من ذلك قيل : محتمل في الآية ، ورجح إرادة الخصلة لان الاستثناء الآتي عليها أظهر ، ولَكُمْ للبيان متعلق بمحذوف كما في سقيا لك ، أو هو متعلق بكان على رأى من

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 264
يجوز تعلق الظرف بها ، وأُسْوَةٌ اسمها وحَسَنَةٌ صفته ، وفِي إِبْراهِيمَ خبرها ، أو لَكُمْ هو الخبر ، وفِي إِبْراهِيمَ صفة بعد صفة - لأسوة - أو خبر بعد خبر - لكان - أو حال من المستكن في لَكُمْ على ما قيل ، أو في حَسَنَةٌ ولم يجوز كونه صلة أُسْوَةٌ بناء على أنها مصدر ، أو اسمه وهو إذا وصف لا يعمل مطلقا لضعف شبهه بالفعل ، قيل : وإذا قلنا : إنها ليست مصدرا ولا اسمه ، أو قلنا : إنه يغتفر عمله وإن وصف قبل العمل في الظرف للاتساع فيه جاز ذلك.
والظاهر أن المراد - بالذين معه - عليه السلام أتباعه المؤمنون لكن قال الطبري وجماعة : المراد بهم الأنبياء الذين كانوا قريبا من عصره عليه وعليهم الصلاة والسلام لأنه عليه السلام لم يكن معه وقت مكافحته قومه وبراءته منهم أتباع مؤمنون كافحوهم معه وتبرؤوا منهم ، فقد روي أنه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجرا من بلد نمروذ : ما على الأرض من يعبد اللّه تعالى غيري وغيرك ، وأنت تعلم أنه لا يلزم وجود الاتباع المؤمنين في أول وقت المكافحة بل اللازم وجودهم ولو بعد ، ولا شك في أنهم وجدوا بعد فليحمل من معه عليهم ، ويكون التبري المحكي في قوله تعالى : إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إلخ وقت وجودهم ، وإِذْ قيل : ظرف لخبر كانَتْ والعامل الجار والمجرور أو المتعلق ، أو - لكان - نفسها على ما مر ، أو بدل من أُسْوَةٌ وبُرَآؤُا جمع بريء كظريف وظرفاء.
وقرأ الجحدري «براء» كظراف جمع ظريف أيضا ، وقرأ أبو جعفر «برّاء» بضم الباء كتؤام وظؤار ، وهو اسم جمع الواحد بريء وتوام وظئر ، وقال الزمخشري : إن ذلك على إبدال الضم من الكسر كرخال بضم الراء جمع رخل ، وتعقب بأنه ضم أصلي ، والصيغة من أوزان أسماء الجموع ، وليس ذلك جمع تكسير فتكون الضمة بدلا من الكسرة ورويت هذه القراءة عن عيسى ، قال أبو حاتم : زعموا أنه عيسى الهمداني وعنه «براء» على فعال كالذي في قوله تعالى :
إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ في [الزخرف : 26] ، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد وغيره ، وتأكيد الجملة لمزيد الاعتناء بشأنها ، أو لأن قومهم المشركون مستبعدون ذلك شاكون فيه حيث يحسبون أنفسهم على شيء وكأنهم استشعروا ذلك منهم فقالوا لهم : إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ.
وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والكواكب وغيرها كَفَرْنا بِكُمْ بيان لقوله سبحانه : إِنَّا بُرَآؤُا إلى آخره فهو على معنى كفرنا بكم وبما تعبدون من دون اللّه ، ويكون المراد بِكُمْ القوم ومعبوديهم بتغليب المخاطبين ، والكفر بذلك مجاز أو كناية عن عدم الاعتداد فكأنه قيل : إنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم وما أنتم عندنا على شيء.
وفي الكشف أن الأصل كفرنا بما تعبدون ثم كفرنا بكم وبما تعبدون لأن من كفر بما أتى به الشخص فقد كفر به ، ثم اكتفى - بكفرنا بكم - لتضمنه الكفر بجميع ما أتوا به وما تلبسوا به لا سيما وقد تقدمه إِنَّا بُرَآؤُا فسر بأنا لا نعتد إلخ تنبيها على أنه تهكم بهم فإن ذلك لا يسمى كفرا لغة وعرفا وإنما هو اسم يقع على أدخل الأشياء في الاستهجان والذم ، وما ذكرناه أقرب ، وهو معنى ما في الكشاف دونه ، وأما ما قيل : إن في الكلام معطوفا على الجار والمجرور محذوفا أي بكم وبما تعبدون ، وحذف اكتفاء بدلالة السياق فليس بشيء.
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً أي هذا دأبنا معكم لا نتركه حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة ، وفسر الفيروزآبادي الْبَغْضاءُ بشدة البغض ضد الحب ، وأفاد أن العداوة ضد الصداقة ، وفم قلبا ، وقال : البغض نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب ، ثم قال :

روح المعاني ، ج 14 ، ص : 265
يقال : بغض الشيء بغضا وبغضة وبغضاء ، وهو نحو كلام الفيروزابادي ، والذي يفهم من كلام غير واحد أنه كثيرا ما يعتبر في العداوة التخاذل دون البغضاء فليراجع هذا المطلب.
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء من قوله تعالى : أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ كما قاله قتادة. وجماعة وهو على تقدير التجريد أو تفسيرا - لأسوة - بالاقتداء منقطع بلا ريب ، وأما على تقدير أن يراد بها ما يؤتسى به فقيل :
هو متصل وقيل : منقطع ، وإليه ذهب الأكثر ، وتوجيه الاستثناء إلى العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار المحكي عنه عليه السلام بقوله تعالى : وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء : 86] الآية مع أنه المراد قيل : لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه ، ويعلم من ذلك استثناء نفس الاستغفار بطريق الأولى ، وجعلها بعضهم كناية عن الاستغفار لأن عدة الكريم خصوصا مثل إبراهيم عليه السلام لا سيما إذا أكدت بالقسم يلازمها الإنجاز وليس بلازم كما لا يخفى ، وكأن هذه العدة غير العدة السابقة في سورة [مريم : 47] في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام : سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الآية ولعلها وقعت منه عليه السلام بعد تلك تأكيدا لها وحكيت هاهنا على سبيل الاستثناء.
وفي الإرشاد تخصيصها بالذكر دون ما وقع في سورة مريم لورودها على طريق التوكيد القسمي ، واستثناء ذلك في الأسوة الحسنة قيل : لأن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر بمعنى أن يوفقه اللّه تعالى للتوبة ويهديه سبحانه للإيمان وإن كان جائزا عقلا وشرعا لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم وأنه يموت على الكفر كما دل عليه ما في سورة التوبة لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسى به أصلا إذ المراد به ما يجب الائتساء به حتما لورود الوعيد على الإعراض عنه بقوله تعالى بعد : وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فاستثناؤه عما سبق إنما يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان والمغفرة للكافر المرجوّ إيمانه ، وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل ، وأما عدم جوازه فلا دلالة للاستثناء عليه قطعا ، وزعم الإمام علي ما نقل عنه دلالة الآية على ذلك ، ولا يلزم أن يكون الاستغفار منه عليه السلام معصية لأن كثيرا من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز التأسي به لأنه أبيح لهم خاصة وهو كما ترى إذ هو ظاهر في أن ذلك الاستغفار الذي وقع منه عليه السلام لو فرض واقعا من غيره لكان معصية وليس كذلك بل هو مباح ممن وقع.
وعن الطيبي ما حاصله : إن إبراهيم عليه السلام لما أجاب قول أبيه : لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم : 46] بقوله : سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي رحمة ورأفة به ، ولم يكن عارفا بإصراره على الكفر وفى بوعده ، وقال : وَاغْفِرْ لِأَبِي فلما تبين إصراره ترك الدعاء وتبرأ منه ، فظهر أن استغفاره لم يكن منكرا ، وهو في حياته بخلاف ما نحن فيه فإنه فصل عداوتهم وحرصهم على قطع أرحامهم بقوله تعالى : لَنْ تَنْفَعَكُمْ إلخ وسلاهم عن القطيعة بقصة إبراهيم عليه السلام ثم استثنى منها ما ذكر كأنه قيل : لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة كما فعل إبراهيم لأنه لم يتبين له كما تبين لكم انتهى ، وفيه رمز إلى احتمال أن يكون المستثنى نفس العدة من حيث دلالتها على الرأفة والرحمة ، ومآل ذلك استثناء الرأفة والرحمة ، وعلل بعض الأجلة عدم كون استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر مما لا ينبغي أن يؤتسى به بأنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه وتعقب الثاني بأن الوعد بالمحظور لا يرفع حظره ، والأول بأنه مبني على تناول النهي لاستغفاره عليه السلام له مع أن النهي إنما ورد في شأن الاستغفار بعد تبين الأمر ، وقد كان استغفاره عليه السلام قبله ، ومنبىء عن كون الاستغفار مؤتسى به لو لم ينه عنه مع أن ما يؤتسى به ما يجب الائتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة ، وأجيب بما لا يرفع القال والقيل فالأولى التعليل بما سبق.
واستظهر أبو حيان أن الاستثناء من مضاف لإبراهيم مقدر في نظم الآية الكريمة أي لقد كان لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ إلخ ، وجزم باتصال الاستثناء عليه ، وكذا جزم الطيبي==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...