الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج27.و28.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

27. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 93
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أي أنظرتم فأبصرتم أو تأملتم فعلمتم أي شيء استدمتم على عبادته أو أي شيء تعبدونه أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ والكلام إنكار وتوبيخ يتضمن بطلان آلهتهم وعبادتها وأن عبادتها ضلال قديم لا فائدة في قدمه إلا ظهور بطلانه كما يؤذن بهذا وصف آبائهم بالأقدمين. وقوله تعالى : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي قيل : تعليل لما يفهم من ذلك من إني لا أعبدهم أو لا تصح عبادتهم وقيل : خبر لما كنتم إذا المعنى أفأخبركم وأعلمكم بمضمون هذا. واختار بعض الأجلة أنه بيان وتفسير لحال ما يعبدونه التي لو أحاطوا بها علما لما عبدوه أي فاعلموا أنهم أعداء لعابديهم الذين يحبونهم كحب اللّه تعالى لما أنهم يتضررون من جهتهم تضرر الرجل من جهة عدوه فإطلاق العدو عليهم من باب التشبيه البليغ.
وجوز أن يكون من باب المجاز العقلي بإطلاق وصف السبب على المسبب من حيث إن المغري والحامل على عبادتهم هو الشيطان الذي هو عدو مبين للإنسان والأول أظهر. والداعي للتأويل أن الأصنام لكونها جمادات لا تصلح للعداوة. وما قيل : إن الكلام على القلب والأصل فإني عدو لهم ليس بشيء.
وقال النسفي : العدو اسم للمعادي والمعادي جميعا فلا يحتاج إلى تأويل ويكون كقوله : وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء : 57] وصور الأمر في نفسه تعريضا لهم كما في قوله تعالى : وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 94
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
[يس : 22] ليكون أبلغ في النصح وأدعى للقبول. ومن هنا استعمل الأكابر التعريض في النصح.
ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه أن رجلا واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب.
وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم. وضمير (إنهم) عائد على ما وجمع مراعاة لمعناها وإفراد العدو مع أنه خبر عن الجمع إما لأنه مصدر في الأصل فيطلق على الواحد المذكر وغيره أو لاتحاد الكل في معنى العداوة أو لأن الكلام بتقدير فإن كلا منهم أو لأنه بمعنى النسب أي ذو كذا فيستوي فيه الواحد وغيره كما قيل.
وقوله سبحانه : إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع من ضمير «إنهم» عند جماعة منهم الفراء واختاره الزمخشري أي لكن رب العالمين ليس كذلك فإنه جل وعلا ولي من عبده في الدنيا والآخرة لا يزال يتفضل عليه بالمنافع.
وقال الزجاج : هو استثناء متصل من ذلك الضمير العائد على ما تَعْبُدُونَ ويعتبر شموله للّه عز وجل وفي آبائهم الأقدمين من عبد اللّه جل وعلا من غير شك أو يقال : إن المخاطبين كانوا مشركين وهم يعبدون اللّه تعالى والأصنام. وتخصيص الأصنام هنا بالذكر للرد لا لأن عبادتهم مقصورة عليها ولو سلّم أنه لذلك فهو باعتبار دوام العكوف وذلك لا ينافي عبادتهم إياه عز وجل أحيانا ، وقال الجرجاني : إن الاستثناء من ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ وإِلَّا بمعنى دون وسوى وفي الآية تقديم وتأخير والأصل أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين أي دون رب العالمين فإنهم عدو لي ولا يخفى ما فيه الَّذِي خَلَقَنِي صفة لرب العالمين. ووصفه تعالى بذلك وبما عطف عليه مع اندراج الكل تحت ربوبيته تعالى للعالمين زيادة في الإيضاح في مقام الإرشاد ، وقيل : تصريحا بالنعم الخاصة به عليه السلام وتفصيلا لها لكونها أدخل في اقتضاء تخصيص العبادة به تعالى وقصر الالتجاء في جلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضار العاجلة والآجلة عليه تعالى.
فَهُوَ يَهْدِينِ عطف على الصلة أي فهو يهديني وحده جل شأنه إلى كل ما يهمني ويصلحني من أمور المعاش والمعاد هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح متجددة على الاستمرار كما ينبىء عنه الفاء وصيغة المضارع فإنه تعالى يهدي كل ما خلقه لما خلق له هداية متدرجة من مبتدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب منافعه ودفع مضاره إما طبعا وإما اختيارا مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين لامتصاص دم الطمث في المشهور ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بنعيمها المقيم ، وجوز الحوفي وغيره كون الموصول مبتدأ وجملة هو يَهْدِينِ خبره ودخلت الفاء في خبره لتضمنه معنى الشرط نحو الذي يأتيني فله درهم.
وتعقبه أبو حيان بأن الفاء إنما يؤتى بها في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط إذا كان عاما وهنا لا يتخيل فيه العموم فليس ما نحن فيه نظير المثال. وأيضا الفعل الذي هو خلق مما لا يمكن فيه تجدد بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام فلعل ذلك على مذهب الأخفش من جواز زيادة الفاء في الخبر مطلقا نحو زيد فاضربه ، وأجيب بأن اشتراط العموم غير مسلم كما فصله الرضي وإنما هو أغلبي. وبأن مطلق الخلق مما يمكن فيه التجدد وهو ممكن الإرادة وإن ظهر في صورة المخصوص وتسبب الخلق للهداية بمقتضى الحكمة ، وقيل : إنه سبب للإخبار بها لتحققها وليس بشيء ويلزم على الإعراب المذكور أن يكون الموصول في قوله سبحانه : وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده. ولا يخفى ما في ذلك لفظا ومعنى فاللائق بجزالة التنزيل الإعراب

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 95
الأول وعليه يكون الموصول عطفا على الموصول الأول ، وإنما كرر الموصول في المواضع الثلاثة مع كفاية عطف ما في حيز الصلة من الجمل الست على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى مستقل في استيجاب الحكم حقيق بأن تجري عليه عز وجل بحيالها ولا تجعل من روادف غيرها ، والظاهر أن المراد إطعام الطعام المعروف وسقي الشراب المعهود وجيء بهو هنا دون الخلق لشيوع إسناد الإطعام والسقي إلى غير عز وجل بخلاف الخلق وعلى هذا القياس فيما جيء فيه بهو وما ترك مما يأتي إن شاء اللّه تعالى.
وعن أبي بكر الوراق أن المعنى يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب كما جاء «إني أبيت يطعمني ربي ويسقين» وهو مشرب صوفي. وأتى بهذين الصفتين بعد ما تقدم لما أن دوام الحياة وبقاء نظام خلق الإنسان بالغذاء والشراب ما سلك فيهما مسلك العدل وهو أشد احتياجا إليهما منه إلى غيرهما ألا ترى أن أهل النار وهم في النار لم يشغلهم ما هم فيه من العذاب عن طلبهما فقالوا : «أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه».
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ عطف على «يطعمني ويسقين» نظم معهما في سلك الصلة لموصول واحد لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالبا :
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
وقالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا : التخم ونسبة المرض الذي هو نقمة إلى نفسه والشفاء الذي هو نعمة إلى اللّه جل شأنه لمراعاة حسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام : فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف : 79] وقال : فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [الكهف : 82] ولا يرد إسناده الإماتة وهي أشد من المرض إليه عز وجل في قوله : وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ لإمكان الفرق بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من اللّه عز وجل على سائر البشر وحكم عام لا يخص ولا كذلك المرض فكم من معافى منه إلى أن يبغته الموت فالتأسي بعموم الموت يسقط أثر كونه نقمة فيسوغ الأدب نسبته إليه تعالى. وأما المرض فلما كان يخص به بعض البشر دون بعض كان نقمة محققة فاقتضى العلو في الأدب أن ينسبه الإنسان إلى نفسه باعتبار السبب الذي لا يخلو منه.
ويؤيد ذلك أن كل ما ذكر مع غير المرض أخبر عن وقوعه بتا وجزما لأنه أمر لا بد منه وأما المرض فلما كان قد يتفق وقد لا أورده مقرونا بشرط إذا فقال : وَإِذا مَرِضْتُ وكان يمكنه أن يقول : والذي أمرض فيشفيني كما قال في غيره فما عدل عن المطابقة والمجانسة المأثورة إلا لذلك كذا قاله ابن المنير.
وقال الزمخشري : إنما قال : مرضت دون أمرضني لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك وكأنه إنما عدل في التعليل عن حسن الأدب لما رأى أنه عليه السلام أضاف الإماتة إليه عز وجل وهي أشد من المرض ولم يخطر له الفرق بما مر أو نحوه وغفل عن أن المعنى الذي أبداه في المرض ينكسر بالموت أيضا فإن المرض كما يكون بسبب تفريط الإنسان في المطعم وغيره كذلك الموت الناشئ عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الإنسان وقد أضاف عليه السلام الإماتة مطلقا إليه عز شأنه.
وقال بعض الأجلة بعد التعليل بحسن الأدب في وجه إسناد الإماتة إليه تعالى : إنها حيث كانت معظم خصائصه عز وجل كالإحياء بدءا وإعادة وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمهما في سمط واحد في قوله : وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ على أن الموت لكونه ذريعة إلى نيله عليه السلام للحياة الأبدية بمعزل من أن يكون غير مطبوع عنده عليه السلام انتهى ، وأولى من هذه العلاوة ما قيل : إن الموت لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 96
الأبدية التي يستحقر دونها الحياة الدنيوية. وفيه تخليص العاصي من اكتساب المعاصي ، ثم إن حمل المرض والشفاء على ما هو الظاهر منهما هو الذي ذهب إليه المفسرون. وعن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه أن المعنى وإذا مرضت بالذنوب فهو يشفيني بالتوبة
ولعله لا يصح وإن صح فهو من باب الإشارة لا العبارة ، وثُمَّ في قوله : ثُمَّ يُحْيِينِ للتراخي الزماني لأن المراد بالإحياء الإحياء للبعث وهو متراخ عن الإماتة في الزمان في نفس الأمر وإن كان كل آت قريب ، وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يَهْدِيَنِي وما بعده وهي رواية عن نافع وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ استعظم عليه السلام ما عسى يندر منه من فعل خلاف الأولى حتى سماه خطيئة.
وقيل : أراد بها قوله : إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات : 89] وقوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء : 63] ، وقوله لسارة هي أختي ، ويدل على أنه عليه السلام عدها من الخطايا ما ورد في حديث الشفاعة من امتناعه عليه السلام من أن يشفع حياء من اللّه عز وجل لصدور ذلك عنه. وفيه أنه وإن صح عدها من الخطايا بالنظر إليه عليه السلام لما قالوا : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين إلا أنه لا يصح إرادتها هنا لما أنها إنما صدرت عنه عليه السلام بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه ، أما الثالثة فظاهرة لوقوعها بعد مهاجرته عليه السلام إلى الشام وأما الأوليان فلأنهما وقعتا مكتنفتين بكسر الأصنام ، ومن البين أن جريان هذه المقالات فيما بينهم كان في مبادئ الأمر ، وهذا أولى مما قيل :
إنها من المعاريض وهي لكونها في صورة الكذب يمتنع لها من تصدر عنه من الشفاعة ولكونها ليست كذبا حقيقة لا تفتقر إلى الاستغفار فلا يصح إرادتها هنا لأن ذلك الامتناع ليس إلا لعده إياها من الخطايا ومتى عدت منها افتقرت إلى الاستغفار ، وقيل : أراد بها ما صدر عنه عند رؤية الكوكب والقمر والشمس من قوله : هذا رَبِّي [الأنعام : 76] وكان ذلك قبل هذه المقاولة كما لا يخفى ، وقد تقدم أن ذلك ليس من الخطيئة في شيء ، وقيل : أراد بها ما عسى يندر منه من الصغائر وهو قريب مما تقدم ، وقيل : أراد بها خطيئة من يؤمن به عليه السلام كما قيل نحوه في قوله تعالى : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح : 2] ، وهو كما ترى والطمع على ظاهره ولم يجزم عليه السلام لعلمه أن لا وجوب على اللّه عز وجل. وعن الحسن أن المراد به اليقين وليس بذاك. والظرفان متعلقان بيغفر.
والإتيان بالأول للإشارة إلى أن نفع مغفرته تعالى إنما يعود إليه عليه السلام. وتعليق المغفرة بيوم الدين مع أن الخطيئة إنما تغفر في الدنيا لأن أثرها يتبين يومئذ ولأن في ذلك تهويلا لذلك اليوم. وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه إن لم تغفر. وفي هذه الجملة من التلطف بأبيه وقومه في الدعوة إلى الإيمان ما فيها. وقرأ الحسن «خطاياي» على الجمع رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً لما ذكر لهم من صفاته عز وجل مما يدل على كمال لطفه تعالى به ما ذكر حمله ذلك على مناجاته تعالى ودعائه لربط العتيد وجلب المزيد. والمراد بالحكم على ما اختاره الإمام الحكمة التي هي كمال القوة العلمية بأن يكون عالما بالخير لأجل العمل به. وقيل : الأولى أن يفسر بكمال العلم المتعلق بالذات والصفات وسائر شؤونه عز وجل وأحكامه التي يتعبد بها. وقيل : هي النبوة ورد بأنها كانت حاصلة له عليه السلام. فالمطلوب إما عين الحاصل وهو محال ضرورة امتناع تحصيل الحاصل أو غيره وهو محال أيضا لأن الشخص الواحد لا يكون نبيا مرتين.
وأجيب بمنع كونها حاصلة وقت الدعاء سلمنا ذلك إلا أنه لا محذور لجواز أن يكون المراد طلب كمالها ويكون بمزيد القرب والوقوف على الأسرار الإلهية والأنبياء عليهم السلام متفاوتون في ذلك. وجوز أن يكون المراد طلب الثبات ولا يجب على اللّه تعالى شيء. والمراد بقوله : وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ طلب كمال القوة العملية بأن يكون موفقا لأعمال ترشحه للانتظام في زمرة الكاملين الراسخين في الصلاح المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها. وقدم الدعاء الأول على الثاني لأن القوة العلمية مقدمة على القوة العملية لأنه يمكن أن يعلم الحق وإن لم يعمل به وعكسه غير

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 97
ممكن ، ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن فكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أشرف من العمل ، وقيل : المراد بالحكم الحكمة التي هي الكمال في العلم والعمل. والمراد بقوله : وَأَلْحِقْنِي إلخ طلب الكمال في العمل ، وذكره بعد ذلك تخصيص بعد تعميم اعتناء بالعمل من حيث إنه النتيجة والثمرة للعلم. وقيل : المراد بالأول ما يتعلق بالمعاش وبالثاني ما يتعلق بالمعاد. وقيل : المراد بالحكم رياسة الخلق وبالإلحاق بالصالحين التوفيق للعدل فيما بينهم مع القيام بحقوقه تعالى. وقيل : المراد بهذا الجمع بينه عليه السلام وبين الصالحين في الجنة ، وأنت تعلم أنه لا يحسن بعد هذا الدعاء طلبه أن يكون من ورثة جنة النعيم والأولى عندي أن يفسر الحكم بالحكمة بمعنى الكمال في العلم والعمل والإلحاق بالصالحين بجعل منزلته كمنزلتهم عنده عز وجل والمراد بطلب ذلك أن يكون علمه وعمله مقبولين إذ ما لم يقبلا لا يلحق صاحبهما بالصالحين ولا تجعل منزلته كمنزلتهم. وكأنه لذلك عدل عن قول : رب هب لي حكما وصلاحا أو رب هب لي حكما واجعلني من الصالحين إلى ما في النظم الكريم فتأمل ولا تغفل وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي اجعل لنفعي ذكرا صادقا في جميع الأمر إلى يوم القيامة ، وحاصله خلد صيتي وذكري الجميل في الدنيا وذلك بتوفيقه للآثار الحسنة والسنن المرضية لديه تعالى المستحسنة التي يقتدي بها الآخرون ويذكرونه بسببها بالخير وهم صادقون.
فاللسان مجاز عن الذكر بعلاقة السببية واللام للنفع ومنه يستفاد الوصف بالجميل ، وتعريف الْآخِرِينَ للاستغراق والكلام مستلزم لطلب التوفيق للآثار الحسنة التي أشرنا إليها وكأنه المقصود بالطلب على أبلغ وجه ولا بأس بأن يريد تخليد ذكره بالجميل ومدحه بما كان عليه عليه السلام في زمانه ولكون الثناء الحسن مما يدل على محبة اللّه تعالى ورضائه كما ورد في الحديث يحسن طلبه من الأكابر من هذه الجهة والقصد كل القصد هو الرضا.
ويحتمل أن يراد بالآخرين آخر أمة يبعث فيها نبي وأنه عليه السلام طلب الصيت الحسن والذكر الجميل فيهم ببعثة نبي فيهم يجدد أصل دينه ويدعو الناس إلى ما كان يدعوهم إليه من التوحيد معلما لهم أن ذلك ملة إبراهيم عليه السلام فكأنه طلب بعثة نبي كذلك في آخر الزمان لا تنسخ شريعته إلى يوم القيامة وليس ذلك إلا نبينا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وقد طلب بعثته عليهما الصلاة والسلام بما هو أصرح مما ذكر أعني قوله : وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ [البقرة : 129] إلخ ، ولذا
قال صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «أنا دعوة إبراهيم عليه السلام».
وقيل إذا أريد ذلك فلا بد من تقدير مضاف في كلامه عليه السلام أي اجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين أو جعل اللسان مجازا عن الداعي بإطلاق الجزء على الكل لأن الدعوة باللسان فكأنه قال : اجعل لي داعيا إلى الحق صادقا في الآخرين ، ولا يخفى أن فيما ذكرناه غني عن ذلك كله ، وفي تعليقات شيخ مشايخنا العلامة صبغة اللّه الحيدري طاب ثراه على تفسير البيضاوي في هذه الآية كلام ناشىء من قلة إمعان النظر فلا تغتر به.
واستدل الإمام مالك بهذه الآية على أنه لا بأس أن يحب الرجل أن يثني عليه صالحا ، وفائدة ذلك بعد الموت على ما قال بعض الأجلة انصراف الهمم إلى ما به يحصل له عند اللّه تعالى زلفى وأنه قد يصير سببا لاكتساب المثنى أو غيره نحو ما أثنى به فيثاب فيشاركه فيه المثنى عليه كما هو مقتضى
«من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»
ولا يخفى عليك أن الأمور بمقاصدها وَاجْعَلْنِي في الآخرة مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ قد مر معنى وراثة الجنة فتذكر. واستدل بدعائه عليه السلام بهذا بعد ما تقدم من الأدعية على أن العمل الصالح لا يوجب دخول الجنة وكذا كون العبد ذا منزلة عند اللّه عز وجل وإلا لاستغنى عليه السلام بطلب الكمال في العلم والعمل وكذا بطلب الإلحاق بالصالحين ذوي الزلفى عنده تعالى عن طلب ذلك ، وأنت تعلم أنه تحسن الإطالة في مقام

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 98
الابتهال ولا يستغني بملزوم عن لازم في المقال فالأولى الاستدلال على ذلك بغير ما ذكر وهو كثير مشتهر ، هذا وفي بعض الآثار ما يدل على مزيد فضل هذه الأدعية.
أخرج ابن أبي الدنيا في الذكر وابن مردويه من طريق الحسن عن سمرة بن جندب قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا توضأ العبد لصلاة مكتوبة فأسبغ الوضوء ثم خرج من باب داره يريد المسجد فقال حين يخرج بسم اللّه الذي خلقني فهو يهدين هداه اللّه تعالى للصواب
- ولفظ ابن مردويه - لصواب الأعمال والذي هو يطعمني ويسقين أطعمه اللّه تعالى من طعام الجنة وسقاه من شراب الجنة وإذا مرضت فهو يشفين شفاه اللّه تعالى وجعل مرضه كفارة لذنوبه والذي يميتني ثم يحيين أحياه اللّه تعالى حياة السعداء وأماته ميتة الشهداء والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين غفر اللّه تعالى له خطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين وهب اللّه تعالى له حكما وألحقه بصالح من مضى وصالح من بقي واجعل لي لسان صدق في الآخرين كتب في ورقة بيضاء أن فلان بن فلان من الصادقين ثم يوفقه اللّه تعالى بعد ذلك للصدق واجعلني من ورثة جنة النعيم جعل اللّه تعالى له القصور والمنازل في الجنة»
وكان الحسن رضي اللّه تعالى عنه يزيد فيه واغفر لوالدي كما ربياني صغيرا وكأنه أخذ من قوله : وَاغْفِرْ لِأَبِي قال ابن عباس كما أخرج عنه ابن أبي حاتم أي امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك ، وحاصله وفقه للإيمان كما يلوح به تعليله بقوله : إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وهذا ظاهر إذا كان هذا الدعاء قبل موته وإن كان بعد الموت فالدعاء بالمغفرة على ظاهره وجاز الدعاء بها لمشرك واللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به لأنه لم يوح إليه عليه السلام بذلك إذ ذاك والعقل لا يحكم بالامتناع ، وفي شرح مسلم للنووي «1» أن كونه عز وجل لا يغفر الشرك مخصوص بهذه الأمة وكان قبلهم قد يغفر وفيه بحث ، وقيل : لأنه كان يخفي الإيمان تقية من نمروذ ولذلك وعده بالاستغفار فلما تبين عداوته للإيمان في الدنيا بالوحي أو في الآخرة تبرأ منه.
وقوله على هذا : مِنَ الضَّالِّينَ بناء على ما ظهر لغيره من حاله أو معناه من الضالين في كتم إيمانه وعدم اعترافه بلسانه تقية من نمروذ ، والكلام في هذا المقام طويل وقد تقدم شيء منه فتذكر وَلا تَحْزَنِي بتعذيب أبي أو ببعثه في عداد الضالين بعدم ترفيقه للإيمان أو بمعاتبتي على ما فرطت أو بنقص رتبتي عن بعض الوراث أو بتعذيبي.
وحيث كانت العاقبة مجهولة وتعذيب من لا ذنب له جائز عقلا صح هذا الطلب منه عليه السلام ، وقيل : يجوز أن يكون ذلك تعليما لغيره وهو من الخزي بمعنى الهوان أو من الخزاية بفتح الخاء بمعنى الحياء يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي الناس كافة ، والإضمار وإن لم يسبق ذكرهم لما في عموم البعث من الشهرة الفاشية المغنية عنه ، وقيل : الضمير للضالين والكلام من تتمة الدعاء لأبيه كأنه قال : لا تخزني يوم يبعث الضالون وأبي فيهم ، ولا يخفى أنه يجوز على الأول أن يكون من تتمة الدعاء لأبيه أيضا ، واستظهر ذلك لأن الفصل بالدعاء لأبيه بين الدعوات لنفسه خلاف الظاهر ، وعلى ما ذكر يكون قد دعا لأشد الناس التصاقا به بعد أن فرغ من الدعاء لنفسه.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ بدل من يَوْمَ يُبْعَثُونَ جيء به تأكيدا لتهويل ذلك اليوم وتمهيدا لما يعقبه من الاستثناء وهو إلى قوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ من كلام إبراهيم عليه السلام ، وابن عطية بعد أن أعرب الظرف بدلا من الظرف الأول قال : إن هذه الآيات عندي منقطعة عن كلام إبراهيم عليه السلام وهي أخبار من اللّه عز وجل تتعلق بصفة ذلك اليوم الذي طلب إبراهيم أن لا يخزيه اللّه تعالى فيه ، ولا يخفى عدم صحة ذلك مع البدلية ،
___________
(1) نقله الشهاب ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 99
والمراد بالنون معناه المتبادر ، وقيل : المراد بهم جميع الأعوان ، وقيل : المعنى يوم لا ينفع شيء من محاسن الدنيا وزينتها ، واقتصر على ذكر المال والبنين لأنهما معظم المحاسن والزينة ، وقوله تعالى : إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ استثناء من أعم المفاعيل ، ومَنْ محل نصب أي يوم لا ينفع مال وإن كان مصروفا في الدنيا إلى وجوه البر والخيرات ولا بنون وإن كانوا صلحاء مستأهلين للشفاعة أحدا إلا من أتى اللّه بقلب سليم عن مرض الكفر والنفاق ضرورة اشتراط نفع كل منهما بالإيمان ، وفي هذا تأييد لكون استغفاره عليه السلام لأبيه طلبا لهدايته إلى الإيمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافرا مع علمه عليه السلام بعدم نفعه لأنه من باب الشفاعة ، وقيل : هو استثناء من فاعل يَنْفَعُ ومن في محل رفع بدل منه والكلام على تقدير مضاف إلى من أي لا ينفع مال ولا بنون إلا مال وبنون من أتى اللّه بقلب سليم حيث أنفق ماله في سبيل البر وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عبادا للّه تعالى مطيعين شفعاء له يوم القيامة ، وقيل : هو استثناء مما دل عليه المال والبنون دلالة الخاص على العام أعني مطلق الغنى والكلام بتقدير مضاف أيضا كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى اللّه بقلب سليم وغناه سلامة قلبه وهو من الغنى الديني وقد أشير إليه في بعض الأخبار.
أخرج أحمد والترمذي : وابن ماجة عن ثوبان قال : لما نزلت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة : 34] الآية قال بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لو علمنا أي المال خير اتخذناه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه»
وقيل : هو استثناء منقطع من مالٌ والكلام أيضا على تقدير مضاف أي لا ينفع مال ولا بنون إلا حال من أتى اللّه بقلب سليم ، والمراد بحاله سلامة قلبه ، قال الزمخشري : ولا بد من تقدير المضاف ولو لم يقدر لم يحصل للاستثناء معنى ، ومنع ذلك أبو حيان بأنه لو قدر مثلا لكن من أتى اللّه بقلب سليم يسلم أو ينتفع يستقيم المعنى. وأجاب عنه في الكشف بأن المراد أنه على طريق الاستثناء من مال لا يتحصل المعنى بدون تقدير المضاف ، وما ذكره المانع استدراك من مجموع الجملة إلى جملة أخرى وليس من المبحث في شيء ، ولما لم يكن هذا مناسبا للمقام جعله الزمخشري مفروغا عنه فلم يلم عليه بوجه ، وقد جوز اتصال الاستثناء بتقدير الحال على جعل الكلام من باب :
تحية بينهم ضرب وجيع ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون فقال ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب بدلا عن ذلك ، هذا وكون المراد من القلب السليم القلب السليم عن مرض الكفر والنفاق هو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن سيرين وغيرهم ، وقال الإمام : هو الخالي عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها ويتبع ذلك الأعمال الصالحات إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها في الجوارح.
وقال سفيان : هو الذي ليس فيه غير اللّه عز وجل ، وقال الجنيد قدس سره : هو اللديغ من خشية اللّه تعالى القلق المنزعج من مخافة القطيعة وشاع إطلاق السليم في لسان العرب على اللديغ ، وقيل : هو الذي سلّم من الشرك المعاصي وسلّم نفسه لحكم اللّه تعالى وسالم أولياءه وحارب أعداءه وأسلم حيث نظر فعرف واستسلم وانقاد للّه تعالى وأذعن لعبادته سبحانه ، والأنسب بالمقام المعنى المأثور وما ذكر من تأويلات الصوفية ، وقال في الكشاف فيما نقل عن الجنيد قدس سره وما بعده : إنه من بدع التفاسير وصدقه أبو حيان بذلك في شأن الأول.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ عطف على لا يَنْفَعُ وصيغة الماضي فيه وفيما بعده من الجمل المنتظمة معه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 100
في سلك العطف للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره كما أن صيغة المضارع في المعطوف عليه للدلالة على الاستمرار وهو متوجه إلى النفع فيدل الكلام على استمرار انتفاء النفع واستمراره حسبما يقتضيه مقام التهويل أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر ، وقيل : عنه وعن سائر المعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم المحشرون إليها.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ الضالين عن طريق الحق وهو التقوى والإيمان أي جعلت بارزة لهم بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأحوال الهائلة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها ، وفي اختلاف الفعلين على ما ذكره بعض المحققين ترجيح لجانب الوعد لأن التعبير بالإزلاف وهو غاية التقريب يشير إلى قرب الدخول وتحققه ولذا قدم لسبق رحمته تعالى بخلاف الإبراز وهو الإراءة ولو من بعد فإنه مطمع في النجاة كما قيل من العمود إلى العمود فرج ، وقال ابن كمال : في اختلاف الفعلين دلالة على أن أرض الحشر قريبة من الجحيم ، وحاصله أن الجنة بعيدة من أرض المحشر بعدا مكانيا والنار قريبة منها قربا مكانيا فلذا سند الإزلاف أي التقريب إلى الجنة دون الجحيم ، قيل : ولعله مبني على أن الجنة في السماء وأن النار تحت الأرض وأن تبديل الأرض يوم القيامة بمدها وإذهاب كريتها إذ حينئذ يظهر أمر البعد والقرب لكن لا يخفى أن كون الجنة في السماء مما يعتقده أهل السنة وليس في ذلك خلاف بينهم يعتد به وأما كون النار تحت الأرض ففيه توقف ، قال الجلال السيوطي في إتمام الدراية : نعتقد أن الجنة في السماء ونقف عن النار ونقول : محلها حيث لا يعلمه إلا اللّه تعالى فلم يثبت عندي حديث أعتمده في ذلك ، وقيل تحت الأرض انتهى ، وكون تبديل الأرض بمدها وإذهاب كريتها قول لبعضهم ، واختار الإمام القرطبي بعد أن نقل في التذكرة أحاديث كثيرة أن تبديل الأرض بمعنى أن اللّه سبحانه يخلق أرضا أخرى بيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام ولا جرى فيها ظلم قط ، والأولى أن يقال في بعد الجنة وقرب النار من أرض المحشر : إن الوصول إلى الجنة بالعبور على الصراط وهو منصوب على متن جهنم كما نطقت به الأخبار فالوصول إلى جهنم أولا وإلى الجنة آخرا بواسطة العبور وهو ظاهر في القرب والبعد ، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن الجنة تنقل عن مكانها اليوم يوم القيامة إذ التقريب
يستدعي النقل وليس في الأحاديث على ما نعلم ما يدل على ذلك نعم جاء فيها ما يدل على نقل النار.
ففي التذكرة أخرج مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك»
، والظاهر أن معنى يؤتى بها يجاء بها من المحل الذي خلقها اللّه تعالى فيه وقد صرح بذلك في التذكرة ، وقال أبو بكر الرازي في أسئلته فإن قيل : قال اللّه تعالى : وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أي قربت والجنة لا تنتقل عن مكانها ولا تحول قلنا : معناه وأزلفت المتقون إلى الجنة وهذا كما يقال الحاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا ، وقيل : معناه أنها كانت محجوبة عنهم فلما رفعت الحجب بينها وبينهم كان ذلك تقريبا انتهى ، ويرد على الأخير أنه يمكن أن يقال مثله في الجحيم وحينئذ يسأل عن وجه اختلاف الفعلين.
ويرد على القول بأن الجنة لا تنتقل عن مكانها أنه خلاف ظاهر الآية ولا يلزم لصحة القول به نقل حديث يدل على نقلها يومئذ فلا مانع من القول به وتفويض الكيفية إلى علم من لا يعجزه شيء وهو بكل شيء عليم وإذا أريد التأويل فليكن ذلك بحمل التقريب على التقريب بحسب الرؤية وإن لم يكن هناك نقل فقد يرى الشيء قريبا وإن كان في نفس الأمر في غاية البعد كما يشاهد ذلك في النجوم ، وقد يقرب البعيد في الرؤية بواسطة المناظر والآلات الموضوعة لذلك وقد ينعكس الحال بواسطتها أيضا فيرى القريب بعيدا ومتى جاز وقوع ذلك بواسطة الآلات في هذه النشأة جاز أن يقع في النشأة الأخرى بما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير فتأمل واللّه تعالى أعلم.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 101
وقرأ الأعمش «فبرزت» بالفاء ، وقرأ مالك بن دينار «وبرزت» بالفتح والتخفيف «والجحيم» بالرفع على الفاعلية وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْبُدُونَ تستمرون على عبادته مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين آلهتكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاؤكم في هذا الموقف هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع ما تشاهدون من الجحيم وما فيها من العذاب أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفع ذلك عن أنفسهم ، وهذا سؤال تقريع لا يتوقع له جواب ولذلك قيل : فَكُبْكِبُوا فِيها أي ألقوا في الجحيم على وجوههم مرة بعد أخرى إلى أن يستقروا في قعرها فالكبكبة تكرير الكب وهو مما ضوعف فيه الفاء كما قال الزجاج وجمهور البصريين ، وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني فأصل كبكب عندهم كبب فأبدل من الباء الثانية كاف وضمير الجمع لما يعبدون من دون اللّه وهم الأصنام وأكد بالضمير المنفصل أعني هُمْ وكلا الضميرين للعقلاء واستعملا في الأصنام تهكما أو بناء على إعطائها الفهم والنطق أي كبكب فيها الأصنام وَالْغاوُونَ الذين عدوها.
والتعبير عنهم بهذا العنوان دون العابدون للتسجيل عليهم بوصف الغواية ، وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم يؤخرون في الكبكبة عنها ليشاهدوا سوء حالها فينقطع رجاؤهم قبل دخول الجحيم.
وعن السدي أن ضمير (كبكبوا) ومؤكده لمشركي العرب والغاوون سائر المشركين وقيل : الضمير للمشركين مطلقا ويراد بهم التبعة والغاوون هم القادة المتبعون ، وقيل : الضمير لمشركي الإنس مطلقا والْغاوُونَ الشياطين والكل كما ترى ويبعد الأخير. قوله تعالى : وَجُنُودُ إِبْلِيسَ فإن الظاهر أن المراد منه الشياطين وإنه عطف على ما قبله والعطف يقتضي المغايرة بالذات في الأغلب ولا حاجة إلى تخريجه على الأقل وجعله من باب :
إلى الملك الندب وابن الهمام وقيل : المراد بجنود إبليس متبعوه من عصاة الثقلين ، واختار بعض الأجلة الأول وادعى أنه الوجه لأن السياق والسباق في بيان سوء حال المشركين في الجحيم وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام لقومه المشركين فلا وجاهة لذكر حال قوم آخرين في هذا الحال بل لا وجود لهم في القصة وذكر الشياطين مع المشركين لكونهم المسولين لهم عبادة الأصنام ، ولا يخفى أن للتعميم وجها أيضا من حيث إنّ فيه مزيد تهويل لذلك اليوم ، وقوله تعالى : أَجْمَعُونَ تأكيد للضمير وما عطف عليه.
وقوله سبحانه : قالُوا إلخ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عما قبله كأنه لما قيل كبكب الآلهة والغاوون عبدتها والشياطين الداعون إليها قيل : فما وقع؟ فقيل : قالوا أي العبدة الغاوون وَهُمْ أي الغاوون فِيها يَخْتَصِمُونَ أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين ، والجملة في موضع الحال ، والمراد قالوا معترفين بخطئهم وانهماكهم في الضلالة متحسرين معيرين لأنفسهم والحال أنهم بصدد مخاصمة من معهم مخاطبين لآلهتهم حيث يجعلها اللّه تعالى أهلا للخطاب تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنْ مخففة من المثقلة واسمها على ما قيل ضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية كما ذهب إليه البصريون أي إنه أي الشأن كنا في ضلال مبين ، وذهب الكوفيون إلى أن أن نافية واللام بمعنى إلا أي ما كنا إلا في ضلال واضح لا خفاء فيه ، ووصفهم له بالوضوح للمبالغة في إظهار ندمهم وتحسرهم وبيان خطئهم في رأيهم مع وضوح الحق كما ينبىء عنه تصديرهم قسمهم بحرف التاء المشعرة بالتعجب على ما قيل.
وقوله سبحانه : إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ظرف لكونهم في ضلال مبين ، وقيل : لمحذوف دل عليه الكلام أي ضللنا ، وقيل : للضلال المذكور وإن كان فيه ضعف صناعي من حيث إن المصدر الموصوف لا يعمل بعد

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 102
الوصف ، ويهون أمر ذلك كون المعمول ظرفا ، وقيل : ظرف لمبين ، وجوز أن تكون إِذْ تعليلية كما قيل به في قوله تعالى : وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف : 39] وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية أي تاللّه لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أو لأنا سويناكم أيها الأصنام في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأذلهم وأعجزهم وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ الظاهر بناء على ما تقدم من أن الاختصام مع الأصنام والشياطين أن يكون المراد بالمجرمين الشياطين ليكون ذلك من الاختصام معهم وإن لم يورد على وجه الخطاب كما أن ما تقدم من الاختصام مع الأصنام ، وكون المراد بهم ذلك مروي عن مقاتل ، وفي إرشاد العقل السليم أنه بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافهم بصدوره عنهم ، والمراد بالمجرمين رؤساؤهم وكبراؤهم ، وفي قوله تعالى : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب : 67]. وعن السدي هم الأولون الذين اقتدوا بهم ، وقيل : من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس.
وعن ابن جريج أنهم إبليس وابن آدم القاتل لأنه أول من سن القتل والمعاصي ، والقصر قيل بالنسبة إلى الأصنام ، ولعلهم أرادوا بنفي الإضلال عنها إهانتها بأنها لا قدرة لها وفيه تأكيد لكونهم في ضلال مبين ، ولعل الأولى كونه قصرا حقيقيا بادعاء أنهم الأوحديون في سببية الإضلال حتى إن سببية غيرهم له كلا سببية ، وهذا واضح في الشياطين لأن إضلال غيرهم من الكبراء ونحوهم بواسطة إضلالهم لأنهم الذين يزينون الباطل المتبوع والتابع ، ويمكن أن يعتبر في غيرهم بضرب من التأويل وذلك إذا أريد بالمجرمين غيرهم ، ثم إن المشركين لا يزالون في حيرة يوم القيامة لا يدرون بم يتشبثون فلا يضر إسنادهم الإضلال تارة إلى شيء وأخرى إلى غيره على أن الإسناد إلى كل باعتبار هذا.
وجوز أن يكون الاختصام بين العبدة بعضهم مع بعض ، والخطاب في نُسَوِّيكُمْ للأصنام من غير التزام القول بجعلهم أهلا له بل هو كخطاب المضطر للحجر والشجر ، وفيه مبالغة في التحسر والندامة ، والمعنى أن العبدة مع تخاصم بعضهم مع بعض بأن يقول أحدهم للآخر : أنت مبدأ ضلالي ولولا أنت لكنت مؤمنا اعترفوا بجرمهم وتعجبوا وبينوا سببه ، وجوز أيضا أن يكون من الأصنام ينطقهم اللّه تعالى فيخاصمون العبدة فضمير هُمْ عائد عليهم ، والمعنى قال العبدة معترفين بضلالهم متعجبين منه مبينين سببه : إن كنا إلخ والحال إن الأصنام يخاصمونهم قائلين : نحن جمادات متبرئون عن جميع المعاصي وأنتم اتخذتمونا إلهة فألقيتمونا في هذه الورطة. وهذا كله على تقدير كون جملة قالُوا مستأنفة كما هو الظاهر ، وجوز أن يكون جُنُودُ إِبْلِيسَ مبتدأ وجملة قالُوا إلخ خبره وضمير قالُوا وكذا ما بعده عائد عليه.
وأنت تعلم أنه مع كونه خلاف الظاهر لا يتسنى على تقدير أن يراد بجنود إبليس الشياطين لما أن المقول المذكور لا يصح أن يكون منهم وإذا أريد بهم متبعوه من عصاة الثقلين عبادة الأصنام وغيرهم يرد أن المقول المذكور قول فرقة منهم وهي العبدة فإسناده إلى الجميع خلاف الظاهر ويبعد كل البعد بل لو قيل بفساده لم يبعد احتمال كون كل شخص سواء كان من عبدة الأصنام أو غيره يخاصم مع كل من يصادفه من غير صلاحية الآخر للاختصام ويقول ما ذكر للأصنام لغاية الحيرة والضجرة ، نعم لو أريد بجنود إبليس على تقدير كونه مبتدأ ورجوع الضمائر إليه الغاوون بعينهم وتكون الإضافة للعهد ، والتعبير عنهم بهذا العنوان بعد التعبير عنهم بالعنوان السابق لتذليلهم لم يبعد جدا. ومن الناس من جوز الابتدائية والخبرية المذكورتين وفسر الجنود بالعصاة مطلقا. وجعل ضمير قالُوا للغاوون وضمير هُمْ ويَخْتَصِمُونَ للجنود أو للأصنام وفيه مع خروج الآية عليه عن حسن الانتظام ما لا يخفى على ذوي الأفهام.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 103
وقوله تعالى : فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ مرتب على ما اعترفوا به من عظم الجناية وظهور الضلالة. والمراد التلهف والتأسف على فقد شفيع يشفع لهم مما هم فيه أو صديق شفيق يهمه ذلك وقد ترقوا لمزيد انحطاط حالهم في التأسف حيث نفوا أولا أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعته ونفوا ثانيا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلصهم وأتى بالشافع في سياق النفي جمعا وإن كان حكم هذا الجمع في الاستغراق لمكان من الزائدة حكم المفرد بلا خلاف إنما الخلاف فيما إذا لم تزد من بعد النفي داخلة على الجمع رعاية لما كانوا يأتون به في الإثبات من الجمع.
وقال في الكشاف : جمع الشافع لكثرة الشفعاء ووحد الصديق لقلته ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلدة رحمة له وحسبة إن لم تسبق له بأكثرهم معرفة وأما الصديق الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فهو أعز من بيض الأنوق ، ويجوز أن يريد بالصديق الجمع أي فإنه يطلق عليه لما أنه على زنة المصدر بخلاف الشافع. وذكر البيضاوي في توحيد الصديق وجها آخر أيضا ، وهو أن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء ، وحاصله أن الواحد في معنى الجمع بحسب العادة فلذا اكتفي به لما فيه من المطابقة المعنوية كما قيل :
الناس ألف منهمو كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا
وقال بعض الكلمة : إن إيراد الشافعين بصيغة الجمع لمجرد مصلحة الفاصلة ، وأما إيراد الصديق مفردا فلأن المقام مقام المفرد ومصلحة الفاصلة حصلت قبله وهو كما ترى ، وقال سعد أفندي : لا يبعد أن يكون جمع الأول وإفراد الثاني إشارة إلى أنه لا فرق بين الاستغراقين ، وفيه أن إيثار صيغة لإفادة مسألة عربية ليس من دأب القرآن المجد ، والذي أميل إليه أن الإفراد على الأصل والجمع وإن أدى مؤداه على سنن ما كانوا يقولونه ويزعمونه في الدنيا من تعدد الشفعاء ولا يضر في ذلك كون المنفي هنا أعم من المثبت هناك من حيث شموله للأصنام والكبراء والملائكة والأنبياء عليهم السلام كما هو المتبادر إلى الفهم ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة عن ابن جريج أن المعنى فما لنا من شافعين من أهل السماء ولا صديق حميم من أهل الأرض.
وزعم بعضهم أنهم عنوا بالشافعين هنا ما عنوا بالمجرمين من كبرائهم وساداتهم وفرعوا النفي على قولهم ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فكأنهم قالوا : سادتنا وكبراؤنا الذين أضلونا مجرمون معذبون مثلنا فلم يقدروا على السعي في نفعنا والشفاعة لنا ، وفي الكشاف فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين ولا صديق كما نرى لهم أصدقاء فإنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون قال تعالى : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف : 67] أو فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند اللّه تعالى وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع لأن ما لا ينفع حكمه حكم المعدوم انتهى.
والظاهر على هذا الأخير أن الكلام كناية عن شدة الأمر بحيث لا ينفع فيه أحد ولو أدنى نفع وهو وجه وجيه ، والوجه الأول لا يكاد يتسنى على مذهب المعتزلة الذين لا يجوزون الشفاعة في الخلاص من النار بعد دخولها أو قبله لأن الظاهر من قولهم فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين فما لنا من شافعين

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 104
يخلصونا من النار كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين يخلصونهم منها فارتضاء الزمخشري لهذا الوجه غريب اللهم إلا أن يقال : المراد التشبيه باعتبار مطلق الشفاعة والمعتزلة يجوزون بعض أصنافها كالشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لكن لا يخلو عن بعد واللّه تعالى أعلم ، و(لو) في قوله تعالى : فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً مستعملة في التمني بدليل نصب قوله سبحانه : فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في جوابها وأصلها لو الامتناعية وحيث إن التمني يكون لما يمتنع أريد بها ذلك مجازا مرسلا أو استعارة تبعية ثم شاع حتى صارت كالحقيقة في ذلك ، وقيل : هي حقيقة فيما ذكر وقيل : أصلها المصدرية وليس بشيء.
والمعنى فليت لنا رجعة إلى الدنيا فإن نكون من المؤمنين فلا ينالنا إذا متنا فبعثنا مثل ما نحن فيه من العذاب الذي لا ينفع فيه أحد ، وجوز كون لو شرطية وجوابها محذوف والتقدير لفعلنا من الخيرات كيت وكيت أو لخلصنا من العذاب أو لكان لنا شفعاء وأصدقاء أو ما أضلنا المجرمون ، والتقدير الأول أجزل ، ويقدر المحذوف بعد فَنَكُونَ إلخ لأن المصدر المتحصل منه معطوف على كَرَّةً أي فلو أن لنا كرة فنكونا من المؤمنين لفعلنا إلخ.
وتعقب شيخ الإسلام ذلك بأنه إنما يفيد تحقق مضمون الجواب على تقدير تحقق كرتهم وإيمانهم معا من غير دلالة على استلزام الكرة للإيمان أصلا مع أنه المقصود حتما ، وفي قوله : من غير دلالة إلخ بحث على ما قيل حيث يمكن أن يقال : حاصل الآية إن تيسر لنا الرجعة والإيمان المتعقب إياها لفعلنا من عبادات أهل الإيمان ما يقصر عنه العبارة ، والتزام ثمرات الإيمان التزام للإيمان أولا ، ومقصودهم بيان استلزام الرجعة لفعل الخيرات كلها ، وأما نفس الإيمان بعد هذه المشاهدة فلا يحتاج إلى البيان.
وقال بعض الناس : إن قولهم فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بمعنى فنكون من المقبول إيمانهم وقبول اللّه تعالى إيمانهم لا يترتب على رجعتهم البتة بل يجوز أن يتخلف فلا بد أن يكون مرادهم إن تيسر لنا الرجعة وإن قبل إيماننا لفعلنا إلخ فليس المقصود الدلالة على استلزام الكرة للإيمان كما زعم شيخ الإسلام ، ونوقش فيه بأن تيسر الرجعة إنما يكون لرحمة اللّه تعالى وعفوه وهي تستلزم قبول إيمانهم ، والحق أنه لا ينبغي الالتفات إلى احتمال شرطية لو والتكلف له مع جزالة المعنى الظاهر المتبادر ، والكلام في قوله تعالى :
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قد تقدم آنفا فلا حاجة إلى إعادته وقد علمت مختارنا في ذلك فتذكر فما في العهد من قدم ، ولشيخ الإسلام كلام في هذه الآية لا يخفى ما فيه على المتأمل فتأمل كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ القوم كما في المصباح يذكر ويؤنث وكذلك كل اسم جمع لا واحد له من لفظه نحو رهط ونفر ولذا يصغر على قويمة ، وقيل : هو مذكر ولحقت فعله علامة التأنيث على إرادة الأمة والجماعة منه وتكذيبهم المرسلين باعتبار إجماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والإعصار ، وجوز أن يراد بالمرسلين نوح عليه السلام بجعل اللام للجنس فهو نظير قولك : فلان يركب الدواب ويلبس البرود وما له إلا دابة واحدة وبرد واحد ، وإِذْ في قوله تعالى : إِذْ قالَ لَهُمْ ظرف للتكذيب على أنه عبارة عن زمان مديد وقع فيه ما وقع من الجانبين إلى تمام الأمر كما أن تكذيبهم عبارة عما صدر منهم من حين ابتداء دعوته عليه السلام إلى انتهائها ، وزعم بعضهم أن إِذْ للتعليل أي كذبت لأجل أن قال لهم : أَخُوهُمْ نُوحٌ أي نسيبهم كما يقال : يا أخا العرب ويا أخا تميم ، وعلى ذلك قوله :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 105
والضمير لقوم نوح ، وقيل : هو للمرسلين والأخوة المجانسة وهو خلاف الظاهر أَلا تَتَّقُونَ اللّه عز وجل حيث تعبدون غيره إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من اللّه تعالى أرسلني لمصلحتكم أَمِينٌ مشهور بالأمانة فيما بينكم ، وقيل : أمين على أداء رسالته جل شأنه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به من التوحيد والطاعة للّه تعالى ، وقدم الأمر بتقوى اللّه تعالى على الأمر بالطاعة لأن تقوى اللّه تعالى سبب لطاعته عليه السلام وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على ما أنا متصد له من الدعا والنصح مِنْ أَجْرٍ أي ما أطلب منكم على ذلك أجرا أصلا لا مالا ولا غيره إِنْ أَجْرِيَ فيما أتولاه إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فهو سبحانه الذي يؤجرني في ذلك تفضلا منه لا غيره ، والفاء في قوله تعالى :
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزهه عليه السلام من الطمع كما أن نظيرتها السابقة لترتيب ما بعدها على كونه رسولا من اللّه تعالى بما فيه نفع الدارين مع أمانته ، والتكرير للتأكيد والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة فكيف إذا اجتمعا ، وقرىء «إن أجري» بسكون الياء وهو والفتح لغتان مشهورتان في مثل ذلك اختلف النحاة في أيتهما الأصل.
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ أي وقد اتبعك على أن الجملة في موضع الحال وقد لازمة فيها إذا كان فعلها ماضيا وكثير من الأجلة لا يوجب ذلك ، وقرأ عبد اللّه وابن عباس والأعمش وأبو حيوة والضحاك وابن السميقع وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري وطلحة ويعقوب «وأتباعك» جمع تابع كصاحب وأصحاب ، وقيل : جمع تبيع كشريف وأشراف ، وقيل : جمع تبع كبطل وأبطال ، وهو مرفوع على الابتداء والْأَرْذَلُونَ خبره ، والجملة في موضع الحال أيضا ، وقيل : معطوف على الضمير المستتر في نُؤْمِنُ وحسن ذلك للفصل بلك والْأَرْذَلُونَ صفته ، ولا يخفى أنه ركيك معنى ، وعن اليماني «وأتباعك» بالجر عطفا على الضمير في لَكَ وهو قليل وقاسه الكوفيون والْأَرْذَلُونَ رفع بإضمارهم ، وهو جمع الأرذل على الصحة والرذالة الخسة والدناءة ، والظاهر أنهم إنما استرذلوا المؤمنين به عليه السلام لسوء أعمالهم يدل عليه قوله في الجواب «1» :
قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر وبناء الأحكام عليها دون التجسس والتفتيش عن البواطن ، وما استفهامية ، وقال الحوفي والطبرسي : نافية ، وعليه يكون في الكلام حذف أي وما علمي بما كانوا يعملون ثابت إِنْ حِسابُهُمْ أي ما محاسبتهم على ما يعملون إِلَّا عَلى رَبِّي فاعتبار البواطن من شؤونه عز وجل وهو المطلع عليها لَوْ تَشْعُرُونَ أي بشيء من الأشياء أو لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك لكنكم لستم كذلك فلذا قلتم ما قلتم ، وأل على هذا الوجه للجنس ، وقال جمع : إن استرذالهم إياهم لقلة نصيبهم من الدنيا ، وقيل : لكونهم من أهل الصناعات الدنيئة ، وقد كانوا كما روي عن عكرمة حاكة وأساكفة ، وقيل : لاتضاع نسبهم ، ومنشأ ذلك على الجميع سخافة عقولهم وقصور أنظارهم لأن الفقر ليس من الرذالة في شي :
قد يدرك المجد الفتى ورداؤه خلق وجيب قميصه مرقوع
وكذا خسة الصناعة لا تزري بالشرف الأخروي ولا تلحق التقي نقيصة عند اللّه عز وجل ، وقد أنشد أبو العتاهية :
وليس على عبد تقي نقيصة إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم
___________
(1) في الأصل قوله في الجواب «وما علمي» والتلاوة قال وما علمي فصححناه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 106
ومثلها صفة النسب فقد قيل :
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وما ذكره الفقهاء في باب الكفاءة مبني على عرف العامة لانتظام أمر المعاش ونحوه على أنه روي عن الإمام مالك عدم اعتبار شيء من ذلك أصلا وأن المسلمين كيفما كانوا أكفاء بعضهم لبعض ، وأل على هذه الأقوال للعهد.
والجواب بما ذكر عما أشاروا إليه بقولهم ذلك من أن إيمانهم لم يكن عن نظر وبصيرة وإنما كان لحظ نفساني كحصول شوكة بالاجتماع ينتظمون بها في سلك ذوي الشرف ويعدون بها في عدادهم ، وحاصله وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر دون الشق عن القلوب والتفتيش عما في السرائر فما يضرني عدم إخلاصهم في إيمانهم كما تزعمون وجوز أن يقال : إنهم لما قالوا : وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ وعنوا الذين لا نصيب لهم من الدنيا أو الذين اتضعت أنسابهم أو كانوا من أهل الصنائع الدنيئة تغابى عليه السلام عن مرادهم وخيل لهم أنهم عنوا بالأرذلين من لا إخلاص له في العمل ولم يؤمن عن نظر وبصيرة فأجابهم بما ذكر كأنه ما عرف من الأرذلين إلا ذلك ، ولو جعل هذا نوعا من الأسلوب الحكيم لم يبعد عندي ، وفيه من لطف الرد عليهم وتقبيح ما هم عليه ما لا يخفى ، وزعم بعضهم أنهم عنوا بالأرذلين نساءه عليه السلام وبنيه وكناته وبني بنيه واسترذالهم لعضة النسب لا يتصور في جميعهم حقيقة كما لا يخفى فلا بد عليه من اعتبار التغليب ونحوه ، وقرأ الأعرج وأبو زرعة وعيسى بن عمر الهمداني «يشعرون» بياء الغيبة وقوله تعالى :
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك حيث جعلوا أتباعهم مانعا عنه ، وقد نزلوا لذلك منزلة من يدعي أنه عليه السلام ممن يطرد المؤمنين وأنه ممن يشترك معه فيه فقدم المسند إليه وأولى حرف النفي لإفادة أن ذلك ليس شأنه بل شأن المخاطبين.
وجوز أن يكون التقديم للتقوى وهو أقل مؤنة كما لا يخفى ، وقيل : إنهم طلبوا منه عليه السلام طردهم فأجابهم بذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم طرد من آمن به من الضعفاء فنزلت وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الأنعام : 52] الآية ، وقوله تعالى : إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كالعلة له أي ما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين وزجرهم عما لا يرضيه سبحانه وتعالى سواء كانوا من الأشرفين أو الأرذلين فكيف يتسنى لي طرد من زعمتم أنهم أرذلون.
وحاصله أنا مقصور على إنذار المكلفين لا أتعداه إلى طرد الأرذلين منهم أو ما عليّ إلا إنذاركم بالبرهان الواضح وقد فعلته وما عليّ استرضاء بعضكم بطرد الآخرين ، وحاصله أنا مقصور على إنذاركم لا أتعداه إلى استرضائكم.
وقيل : إن مجموع الجملتين جواب وإن إيلاء الضمير حرف النفي يدل على أنهم زعموا أنه عليه السلام موصوف بصفتين ، إحداهما اتباع أهوائهم بطرد المؤمنين لأجل أن يؤمنوا ، وثانيتهما أنه نذير مبين فقصر الحكم على الثاني دون الأول ولا يخلو عن بحث قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما أنت عليه لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي المرميين بالحجارة كما روي عن قتادة ، وهو توعد بالقتل كما روي عن الحسن ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن المعنى من المشتومين على أن الرجم مستعار للشتم كالطعن ، وفي إرشاد العقل السليم أنهم قاتلهم اللّه تعالى قالوا ذلك في أواخر الأمر ، ومعنى قوله تعالى : قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ استمروا على تكذيبي وأصروا عليه بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ولم يزدهم دعائي إلا فرارا. وهذا ليس بإخبار بالاستمرار على التكذيب لعلمه عليه السلام أن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 107
عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد إظهار ما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم به في قولهم : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ تلطفا في فتح باب الإجابة ، وقيل : لدفع توهم الخلق فيه المتجاوز أو الحدة ، وقيل : إنه خبر لم يقصد منه الإعلام أصلا وإنما أورد لغرض التحزن والتفجع كما في قوله :
قومي هم قتلوا أميم أخي فلئن رميت يصيبني سهمي
ويبعد ذلك في الجملة تفريع الدعاء عليهم بقوله تعالى : فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً على ذلك أي أحكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا من الفتاحة بمعنى الحكومة ، وفَتْحاً مصدر ، وجوز أن يكون مفعولا به على أنه بمعنى مفتوحا وهذه حكاية إجمالية لدعائه عليه السلام المفصل في سورة نوح وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من قصدهم أو شؤم أعمالهم ، وفيه إشعار بحلول العذاب بهم فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ على حسب دعائه عليه السلام فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي المملوء بهم وبما يحتاجون إليه حالا كالطعام أو مالا كالحيوان.
والفلك يستعمل واحدا وجمعا ، وحيث أتى في القرآن الكريم فاصلة استعمل مفردا أو غير فاصلة استعمل جمعا كما في البحر ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي بعد إنجائهم ، وثُمَّ للتفاوت الرتبي ، ولذا قال سبحانه بعد الْباقِينَ أي من قومه.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الكلام فيه نظير الكلام فيما تقدم ، وكذا الكلام في قوله تعالى كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ بيد أن تأنيث الفعل هنا باعتبار أن المراد بعاد القبيلة وهو اسم أبيهم الأقصى ، وكثيرا ما يعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة بالأب وقد يعبر عنها ببني أو بآل مضافا إليه فيقال :
بنو فلان أو آل فلان ، وكذا الكلام في قوله سبحانه :
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وحكاية الأمر بالتقوى والإطاعة ونفي سؤال الأجر في القصص الخمس وتصديرها بذلك للتنبيه على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب وأن الأنبياء عليهم السلام مجتمعون على ذلك وإن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة والإعصار وأنهم عليهم السلام منزهون عن المطامع الدنيوية بالكلية.
ولعله لم يسلك هذا المسلك في قصتي موسى وإبراهيم عليهما السلام تفننا مع ذكر ما يشعر بذلك ، وقيل : إن ما ذكر ثمة أهم وكانت منازل عاد بين عمان وحضرموت وكانت أخصب البلاد وأعمرها فجعلها اللّه تعالى مفاوز ورمالا ، ويشير إلى عمارتها قوله تعالى أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ أي طريق كما روي عن ابن عباس وقتادة.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن الريع الفج بين الجبلين وعن أبي صخر أنه الجبل والمكان المرتفع عن الأرض وعن عطاء أنه عين الماء والأكثرون على أنه المكان المرتفع وهو رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، ومنه ريع النبات وهو ارتفاعه بالزيادة والنماء.
وقرأ ابن أبي عبلة «ريع» بفتح الراء آيَةً أي علما كما روى عن الحبر رضي اللّه تعالى عنه ، وقيل : قصرا عاليا مشيدا كأنه علم وإليه ذهب النقاش وغيره واستظهره ابن المنير ويمكن حمل ما روي عن الحبر عليه وحينئذ فقوله تعالى : تَعْبَثُونَ على معنى تعبثون ببنائها لما أنهم لم يكونوا محتاجين إليها وإنما بنوها للفخر بها. والبعث مالا فائدة فيه حقيقة أو حكما ، وقد ذم رفع البناء لغير غرض شرعي في شريعتنا أيضا ، وقيل : إن عبثهم في ذلك من حيث إنهم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 108
بنوها ليهتدوا بها في أسفارهم والنجوم تغني عنها. واعترض بأن الحاجة تدعو لذلك لغيم مطبق أو ما يجري مجراه.
وأجيب بأن الغيم نادر لا سيما في ديار العرب مع أنه لو احتيج إليها لم يحتج إلى أن تجعل في كل ريع فيكون بناؤها كذلك عبثا.
وقال الفاضل اليمني : إن أماكنها المرتفعة تغني عنها فهي عبث ، وقيل : كانوا يبنون ذلك ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم : وروي ذلك عن الكلبي والضحاك ، وعن مجاهد وابن جبير أن الآية برج الحمام كانوا يبنون البروج في كل ريع ليلعبوا بالحمام ويلهوا به ، وقيل : بيت العشار يبنونه بكل رأس طريق فيجلسون فيه ليعشروا مال من يمر بهم. وله نظير في بلادنا اليوم ، ولا مستعان إلا باللّه العلي العظيم.
والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة على بعض الأقوال وَتَتَّخِذُونَ أي تعملون مَصانِعَ أي مآخذ للماء ومجاري تحت الأرض كما روي عن قتادة ، وفي رواية أخرى عنه أنها برك الماء. وعن مجاهد أنها القصور المشيدة ، وقيل : الحصون المحكمة. وأنشدوا قول لبيد :
وتبقى جبال بعدنا ومصانع وليس بنص في المدعي لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي راجين أن تخلدوا في الدنيا أو عاملين عمل من يرجو الخلود فيها فلعل على بابها من الرجاء ، وقيل : هي للتعليل وفي قراءة عبد اللّه كي تخلدون.
وقال ابن زيد : هي للاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم أي هل أنتم تخلدون ، وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي ، وقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : المعنى كأنكم خالدون وقرىء بذلك كما روي عن قتادة ، وفي حرف أبي «كأنكم تخلدون» وظاهر ما ذكر أن لعل هنا للتشبيه ، وحكي ذلك صريحا الواقدي عن البغوي.
وفي البرهان هو معنى غريب لم يذكره النحاة. ووقع في صحيح البخاري أن لعل في الآية للتشبيه انتهى.
وقرأ قتادة «تخلدون» مبنيا للمفعول مخففا ويقال : خلد الشيء وأخلده غيره ، وقرأ أبي وعلقمة «تخلّدون» مبنيا للمفعول مشددا كما قال الشاعر :
وهل يعمن إلا سعيد مخلد قليل هموم ما يبيت بأوجال
وَإِذا بَطَشْتُمْ أي أردتم البطش بسوط أو سيف بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ مسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العاقبة. وأول الشرط بما ذكر ليصح التسبب وتقييد الجزاء بالحال لا يصححه لأن المطلق ليس سببا للمقيد ، وقيل : لا يضر الاتحاد لقصد المبالغة ، وقيل : الجزائية باعتبار الإعلام والأخبار وهو كما ترى. ونظير الآية قوله :
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ودل توبيخه عليه السلام إياهم بما ذكر على استيلاء حب الدنيا والكبر على قلوبهم حتى أخرجهم ذلك عن حد العبودية فَاتَّقُوا اللَّهَ واتركوا هذه الأفعال وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أي بالذي تعرفونه من النعم فما موصولة والعائد محذوف والعلم بمعنى المعرفة ، وقوله تعالى : أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ منزل منزلة بدل البعض كما ذكره غير واحد من أهل المعاني ، ووجهه عندهم أن المراد التنبيه على نعم اللّه تعالى والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لكونه مطلوبا في نفسه أو ذريعة إلى غيره من الشكر بالتقوى ، وقوله سبحانه :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 109
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ إلخ أو في بتأدية ذلك المراد لدلالته على النعم بالتفصيل من غير إحالة على علم المخاطبين المعاندين فوزانه وزان - وجهه - في أعجبني زيد وجهه لدخول الثاني في الأول لأن ما تَعْلَمُونَ يشمل الأنعام وما بعدها من المعطوفات ، ولا يخفى ما في التفصيل بعد الإجمال من المبالغة ، وفي البحر إن قوله تعالى : بِأَنْعامٍ على مذهب بعض النحويين بدل من قوله سبحانه : بِما تَعْلَمُونَ وأعيد العامل كقوله تعالى : اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً [يس : 20 ، 21] والأكثرون لا يجعلون مثل هذا أبدالا وإنما هو عندهم من تكرار الجمل وإن كان المعنى واحدا ويسمى التتبيع ، وإنما يجوز أن يعاد العامل عندهم إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به نحو مررت بزيد بأخيك انتهى.
ونقل نحوه عن السفاقسي ، وقال أبو حيان : الجملة مفسرة لما قبلها ولا موضع لها ، وبدأ بذكر الأنعام لأنها تحصل بها الرياسة والقوة على العدو والغنى الذي لا تكمل اللذة بالبنين وغيرهم في الأغلب إلا به وهي أحب الأموال إلى العرب ثم بالبنين لأنهم معينوهم على الحفظ والقيام عليها ومن ذلك يعلم وجه قرنهما ، ووجه قرن الجنات والعيون في قوله تعالى : وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ظاهر وكذا وجه قرنهما مع الأنعام ، وقوله سبحانه : إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إلخ في موضع التعليل أي إني أخاف عليكم إن لم تتقوا وتقوموا بشكر هذه النعم : عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا والآخرة فإن كفران النعمة مستتبع للعذاب كما أن شكرها مستلزم لزيادتها قال تعالى : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم : 7] وعلل بما ذكر دون استلزام التقوى للزيادة لأن زوال النعمة يحزن فوق ما تسر زيادتها ودرء المضار مقدم على جلب المنافع :
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فإنا لا نرعوي عما نحن عليه قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به عليه السلام ، وعدلوا عن أم لم تعظ الذي يقتضيه الظاهر للمبالغة في بيان قلة اعتدادهم بوعظه عليه السلام لما في كلامهم على ما في النظم الجليل من استواء وعظه والعدم الصرف البليغ وهو عدم كونه من عداد الواعظين وجنسهم ، وقيل : في وجه المبالغة إفادة كان الاستمرار والْواعِظِينَ الكمال واعتبارهما بقرينة المقام بعد النفي أي سواء علينا أوعظت أم استمر انتفاء كونك من زمرة من يعظ انتفاء كاملا بحيث لا يرجى منك نقيضه ، وقال في البحر : إن المقابلة بما ذكر لأجل الفاصلة كما في قوله تعالى : سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف : 193] وكثيرا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه وليس بشيء كما لا يخفى. وروي عن أبي عمرو والكسائي إدغام الظاء في التاء في «وعظت» وبالإدغام قرأ ابن محيصن. والأعمش إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ «أوعظتنا» وينبغي أن يكون إخفاء لأن الظاء مجهورة مطبقة والتاء مهموسة منفتحة فالظاء أقوى منها والإدغام إنما يحسن في المتماثلين أو في المتقاربين إذا كان الأول أنقص من الثاني.
وأما إدغام الأقوى في الأضعف فلا يحسن ، وإذا جاء شيء من ذلك في القرآن بنقل الثقات وجب قبوله وإن كان غيره أفصح وأقيس. وقوله تعالى : إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تعليل لما ادعوه من المساواة أي ما هذا الذي جئتنا به الإعادة الأولين يلفقون مثله ويدعون إليه أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة الأولين الذين تقدمونا من الآباء وغيرهم ونحن بهم مقتدون ، وقرأ أبو قلابة والأصمعي عن نافع «خلق» بضم الخاء وسكون اللام ، والمعنى عليه كما تقدم.
وقرأ عبد اللّه وعلقمة والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكسائي «خلق» بفتح الخاء وسكون اللام أي ما

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 110
هذا إلا اختلاق الأولين وكذبهم ، ويؤيد هذا المعنى ما روى علقمة عن عبد اللّه أنه قرأ «إلا اختلاق الأولين» ويكون هذا كقول سائر الكفرة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام : 25 وغيرها] أو ما خلقنا هذا إلا خلق الأولين نحيي كما حيوا ونموت كما ماتوا ، ومرادهم إنكار البعث والحساب المفهوم من تهديدهم بالعذاب ، ولعل قولهم : وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي على ما نحن عليه من الأعمال أصرح في ذلك فَكَذَّبُوهُ أي أصروا على تكذيبه عليه السلام فَأَهْلَكْناهُمْ بسببه بريح صرصر.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ هو اسم عجمي عند بعض والأكثرون على أنه عربي وترك صرفه لأنه اسم قبيلة ، وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائة لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفد مادة ماله أو ما يبقى في الجلد أو ما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف. وفي القاموس ثمود قبيلة ويصرف وتضم الثاء وقرىء به أيضا. وفي سبائك الذهب أنه في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم نقل وجعل اسما لها ، ووجه تأنيث الفعل هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى : «كذبت عاد» وكذا الكلام في قوله سبحانه :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 142 إلى 212]
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166)
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 111
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ كالكلام فيما تقدم وقوله تعالى : أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ إنكار لأن يتركوا فيما هم فيه من النعمة آمنين عن عذاب يوم عظيم فالاستفهام مثله في قوله تعالى السابق : أَتَبْنُونَ وقوله تعالى اللاحق : أَتَأْتُونَ وكأن القوم اعتقدوا ذلك فأنكره عليه السلام عليهم ، وجوز أن يكون الاستفهام للتقرير تذكيرا للنعمة في تخليته تعالى إياهم وأسباب نفعهم آمنين من العدو ونحوه واستدعاء لشكر ذلك بالإيمان.
وفي الكشف أن هذا أوفق في هذا المقام ، وما موصولة وهاهُنا إشارة إلى المكان الحاضر القريب أي أتتركون في الذي استقر في مكانكم هذا من النعمة ، وقوله تعالى : فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ بدل من - ما هاهنا - بإعادة الجار كما قال أبو البقاء وغيره ، وفي الكلام إجمال وتفصيل نحو ما تقدم في قصة عاد.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 112
وجوز أن يكون ظرفا لآمنين الواقع حالا وليس بذاك ، والهضيم الداخل بعضه في بعض كأنه هضم أي شدخ.
وسأل عنه نافع بن الأزرق بن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فقال له : المنضم بعضه إلى بعض فقال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم أما سمعت قول امرئ القيس :
دار لبيضاء العوارض طفلة مهضومة الكشحين ريا المعصم
وقال الزهري : هو اللطيف أول ما يخرج ، وقال الزجاج : هو الذي رطبه بغير نوى وروي عن الحسن. وقيل :
هو المتدلي لكثرة ثمره ، وقيل : هو النضيج من الرطب وروي عن عكرمة ، وقيل : الرطب المذنب وروى عن يزيد بن أبي زياد ، فوصف الطلع بالهضيم إما حقيقة أو مجاز وهو حقيقة وصف لثمره ، وجعل بعضهم على بعض الأقوال الطلع مجازا عن الثمر لأوله إليه ، والنخل اسم جنس جمعي يذكر كما في قوله تعالى : كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر : 20] ويؤنث كما هنا ، وليس ذلك لأن المراد به الإناث فإنه معلوم بقرينة المقام ولو ذكر الضمير.
وإفراده بالذكر مع دخوله في الجنات لفضله على سائر أشجارها أو لأن المراد بها غيره من الأشجار.
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ أي أشرين بطرين كما روي عن ابن عباس ومحمد بن العلاء ، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس تفسيره بنشطين مهتمين ، وقال أبو صالح : أي حاذقين وبذلك فسره الراغب.
وقال ابن زيد : أي أقوياء ، وأنت تعلم أن هذه الجملة داخلة في حيز الاستفهام السابق والأوفق به على القول الأول وعلى القول الثاني كل من الأقوال الباقية وكلها سواء في ذلك إلا أنه يفهم من كلام بعضهم أن الفراهة حقيقة في النشاط مجاز في غيره وعليه يترجح تفسيره بنشطين إذا أريد التذكير.
وقرأ أبو حيوة وعيسى والحسن «تنحتون» بفتح الحاء. وقرىء «تنحاتون» بألف بعد الحاء إشباعا ، وعن عبد الرحمن بن محمد عن أبيه أنه قرأ «ينحتون» بالياء آخر الحروف وكسر الحاء ، وعن أبي حيوة والحسن أيضا أنهما قرآ بالياء التحتية وفتح الحاء وقرأ عبد اللّه وابن عباس وزيد بن علي والكوفيون وابن عامر «فارهين» بألف بعد الفاء ، وقراءة الجمهور أبلغ لما ذكروا في حاذر وحذر وقرأ مجاهد «متفرهين» فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ كأنه عنى بالخطاب جمهور قومه بالمسرفين كبراءهم وأعلامهم في الكفر والإضلال وكانوا تسعة رهط ونسبة الإطاعة إلى الأمر مجاز وهي للآمر حقيقة وفي ذلك من المبالغة ما لا يخفى وكونه لا يناسب المقام فيه بحث. ويجوز أن تكون الإطاعة مستعارة للامتثال لما بينهما من الشبه في الإفضاء إلى فعل ما أمر به أو مجازا مرسلا عنه للزومه له.
ويحتمل أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية ، وجوز عليه أن يكون الأمر واحد الأمور وفيه من البعد ما فيه والإسراف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر ، والمراد به هنا زيادة الفساد وقد أوضح ذلك على ما قيل بقوله تعالى : الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ولعل المراد ذمهم بالضلال في أنفسهم بالكفر والمعاصي وإضلالهم غيرهم بالدعوة لذلك ، وللإيماء إلى عدم اختصاص شؤم فعلهم بهم حثا على امتثال النهي قيل فِي الْأَرْضِ والمراد بها أرض ثمود ، وقيل : الأرض كلها ولما كان يُفْسِدُونَ لا ينافي إصلاحهم أحيانا أردف بقوله تعالى : وَلا يُصْلِحُونَ لبيان كمال إفسادهم وأنه لم يخالطه إصلاح أصلا قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقولهم ، وقيل : أي من ذوي السحر أي الرئة فهو كناية عن كونه من الأناسي فقوله تعالى : ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا على هذا تأكيد له وعلى الأول هو مستأنف للتعليل أي أنت مسحور لأنك بشر مثلنا لا تميز لك علينا فدعواك إنما هي لخلل في عقلك فَأْتِ بِآيَةٍ أي بعلامة على صحة دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيها قالَ هذِهِ ناقَةٌ أي بعد ما أخرجها اللّه تعالى بدعائه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 113
روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من صخرة عينوها ثم تلد سقبا فقعد عليه السلام يتذكر فقال له :
جبريل عليه السلام صل ركعتين وسل ربك ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم فعند ذلك قال لهم : هذه ناقة
لَها شِرْبٌ أي نصيب مشروب من الماء كالسقي وألقيت للنصيب من السقي والقوت وكان هذا الشرب من عين عندهم.
وفي مجمع البيان عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أن تلك العين أول عين نبعت في الأرض وقد فجرها اللّه عز وجل لصالح عليه السلام
وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها.
وقرأ ابن أبي عبلة «شرب» بضم الشين فيهما ، واستدل بالآية على جواز قسمة ماء نحو الآبار على هذا الوجه وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ كضرب وعقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ وصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه وهو أبلغ من عظم العذاب وهذا من المجاز في النسبة ، وجعل عَظِيمٍ صفة عَذابُ والجر للمجاورة نحو هذا جحر ضب خرب ليس بشيء فَعَقَرُوها نسب العقر إليهم كلهم مع أن عاقرها واحد منهم وهو قدار بن سالف وكان نساجا على ما ذكره غير واحد ، وجاء في رواية أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ثم ضربها قدار
لما
روي أن عاقرها قال : لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقول : أترضين؟ فتقول : نعم وكذلك الصبيان فرضوا جميعا
، وقيل : لأن العقر كان بأمرهم ومعاونتهم جميعا كما يفصح عنه قوله تعالى : فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر : 29] وفيه بحث فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ خوفا من حلول العذاب كما قال جمع ، وتعقب بأنه مردود بقوله تعالى : وَقالُوا أي بعد ما عقروها : يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وأجيب بأن قوله بعد ما عقروها في حيز المنع إذ الواو لا تدل على الترتيب فيجوز أن يريدوا بما تعدنا من المعجزة أو الواو حالية أي والحال أنهم طلبوها من صالح ووعدوه الإيمان بها عند ظهورها مع أنه يجوز ندم بعض وقول بعض آخر ذلك بإسناد ما صدر من البعض إلى الكل لعدم نهيهم عنه أو نحو ذلك أو ندموا كلهم أولا خوفا ثم قست قلوبهم وزال خوفهم أو على العكس ، وجوز أن يقال : إنهم ندموا على عقرها ندم توبة لكنه كان عند معاينة العذاب وعند ذلك لا ينفع الندم ، وقيل : لم ينفعهم ذلك لأنهم لم يتلافوا ما فعلوا بالإيمان المطلوب منهم.
وقيل : ندموا على ترك سقبها ولا يخفى بعده ، ومثله ما قيل : إنهم ندموا على عقرها لما فاتهم به من لبنها ،
فقد روي أنه إذا كان يوما أصدرتهم لبنا ما شاؤوا
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود وكان صيحة خمدت لها أبدانهم وانشقت قلوبهم وماتوا عن آخرهم وصب عليهم حجارة خلال ذلك.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ وكانوا من أصهاره عليه السلام أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ إنكار وتوبيخ والإتيان كناية عن الوطء. والذُّكْرانَ جمع ذكر مقابل الأنثى ، والظاهر أن مِنَ الْعالَمِينَ متصل به أي أتأتون الذكران من أولاد بني آدم على فرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة إناثهم على ذكرانهم كأن الإناث قد أعوزتكم فالمراد بالعالمين الناس لأن المأتي الذكور منهم خاصة والقرينة إيقاع الفعل والجمع بالواو والنون من غير نظر إلى تغليب. وأما خروج الملك والجن فمن الضرورة العقلية. ويجوز أن يكون متصلا بتأتون أي أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم فالمراد بالعالمين كل من يتأتى منه الإتيان. والعالم على هذا ما يعلم به الخالق سبحانه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 114
والجمع للتغليب وخروج غيره لما مر. ولا يضر كون الحمار والخنزير يأتيان الذكور في أمر الاختصاص للندرة أو لإسقاطهما عن حيز الاعتبار ، وجوز أن يراد بالعالمين على الوجه الثاني الناس أيضا ، وإذا قيل بشمولهم لمن تقدم من العالمين تفيد الآية أنهم أول من سن هذه السنة السيئة كما يفصح عنه قوله تعالى : ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الأعراف : 80 ، العنكبوت : 28].
وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ لأجل استمتاعكم ، وكلمة مِنْ في قوله تعالى : مِنْ أَزْواجِكُمْ للبيان إن أريد بما جنس الإناث ، ولعل في الكلام حينئذ مضافين محذوفين أي وتذرون إتيان فروج ما خلق لكم أو للتبعيض إن أريد بما العضو المباح من الأزواج. ويؤيده قراءة ابن مسعود «ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم» وحينئذ يكتفي بتقدير مضاف واحد أي وتذرون إتيان ما خلق ويكون في الكلام على ما قيل تعريض بأنهم كانوا يأتون نساءهم أيضا في محاشهن ولم يصرح بإنكاره كما صرح بإنكار إتيان الذكران لأنه دونه في الإثم.
وهو على المشهور عند أهل السنة حرام بل كبيرة ، وقيل : هو مباح ، وقد تقدم الكلام «1» في ذلك مبسوطا عند الكلام في قوله تعالى : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة : 223] وقيل : ليس في الكلام مضاف محذوف أصلا ، والمراد ذمهم بترك ما خلق لهم وعدم الالتفات إليه بوجه من الوجوه فضلا عن الإتيان ، وأنت تعلم أن المعنى ظاهر على التقدير ، وقوله تعالى : بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ إضراب انتقالي والعادي المتعدي في ظلمه المتجاوز فيه الحد ومتعلقه مقدر وهو إما عام أو خاص أي بل أنتم قوم متعدون متجاوزون الحد في جميع المعاصي وهذا من جملتها أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم على سائر الناس بل أكثر الحيوانات.
وقيل : متجاوزون الحد في الظلم حيث ظلمتم بإتيان ما لم يخلق للإتيان وترك إتيان ما خلق له ، وفي البحر أن تصدير الجملة بضمير الخطاب تعظيما لفعلهم وتنبيها على أنهم مختصمون بذلك كأنه قيل : بل أنتم قوم عادون لا غيركم قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن توبيخنا وتقبيح أمرنا أو عما أنت عليه من دعوى الرسالة ودعوتنا إلى الإيمان وإنكار ما أنكرته من أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي من المنفيين من قريتنا المعهودين ، وكأنهم كانوا يخرجون من غضبوا عليه بسبب من الأسباب ، وقيل : بسبب إنكار تلك الفاحشة من بينهم على عنف وسوء حال ، ولهذا هددوه عليه السلام بذلك ، وعدلوا عن لنخرجنك الأخصر إلى ما ذكر ولا يخفى ما في الكلام من التأكيد.
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي من المبغضين غاية البغض ، قال الراغب : يقال قلاه ويقليه فمن جعله من الواو فهو من القلو أي الرمي من قولهم : قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقلة إذا رميتها فكأن المقلو بقذفه القلب من بغضه فلا يقبله. ومن جعله من الياء فهو من قليت السويق على المقلاة فكأن شدة البغض تقلي الفؤاد والكبد
___________
(1) بيد أني وقفت عند كتابتي في هذا الموضع على كلام العز بن عبد السلام في أماليه في هذا المبحث حاصله أن حرمة إتيان الزوجة في المحل المكروه ليست إجماعية إلا أن معظم أهل الإسلام على تحريمه كما قال الطرسوسي والخلاف فيه يسير جدا كالذي لا عبرة به. ويذكر أن ابن عبد الحكم نقل حله عن الشافعي وأن الربيع قال : كذب واللّه ابن عبد الحكم. وقد نص الإمام على تحريمه في ست كتب ولم يحفظ عن مالك شيء في إباحته البتة ونقله من كتاب السر غير صحيح بل في كتاب البيان والتحصيل لابن رشد الأندلسي النص على خلاف ذلك. ورواية الطحاوي عن أبي الفرج عن ابن القاسم حله لا يعول عليها ولا تصح. وأما إباحة زيد ابن أسلم ونافع لذلك فلا يؤخذ بها فنافع إمام في القراءات وليس معدودا في الفقهاء أهل الحل والعقد ، وأما زيد فصاحب تفسير لا يعتد لخلافه فليحفظ اه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 115
وتشويهما ، فقول أبي حيان : إن قلى بمعنى أبغض يائي ، والذي بمعنى طبخ وشوى واوي ناش من قلة الاطلاع ، والعدول عن قالي إلى ما في النظم الجليل لأنه أبلغ فإنه إذا قيل : قالي لم يفد أكثر من تلبسه بالفعل بخلاف قوله : مِنَ الْقالِينَ إذ يفيد أنه مع تلبسه من قوم عرفوا واشتهروا به فيكون راسخ القدم عريق العرف فيه ، وقد صرح بذلك ابن جني وغيره ، واللام في «لعملكم» قيل للتبيين كما في سقيا لك فهو متعلق بمحذوف أعني - أعني. ، وقيل : هي للتقوية ومتعلقها عند من يرى تعلق حرف التقوية محذوف أي إني من القالين لعملكم من القالين. وقيل : هي متعلقة بالقالين المذكور ويتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها فتقدم حيث لا يقدم غيرها ، والمراد بعملهم إما ما أنكره عليه السلام عليهم من إتيان الذكران وترك ما خلق ربهم سبحانه لهم وإما ما يشمل ذلك وسائر ما نهاهم عنه وأمرهم بضده من الأعمال القلبية والقالبية ، وقابل عليه السلام تهديدهم ذلك بما ذكر تنبيها على عدم الاكتراث به وأنه راغب في الخلاص من سوء جوارهم لشدة بغضه لعملهم ولذلك أعرض عن محاورتهم وتوجه إلى اللّه تعالى قائلا : رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من شؤم عملهم أو الذي يعملونه وعذابه الدنيوي. وقيل : يحتمل أن يكون دعاء بالنجاة من التلبس بمثل عملهم وهو بالنسبة إلى الأهل دونه عليه السلام إذ لا يخشى تلبسه بذلك لمكان العصمة. واعترض بأن العذاب كذلك إذ لا يعذب من لم يجن وفيه منع ظاهر. كيف وقد قال سبحانه : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال : 25]. وقيل : قد يدعو المعصوم بالحفظ عن الوقوع فيما عصم عنه كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم : 35] وهو مسلم إلا أن الظاهر أن المراد النجاة مما ينالهم بسبب عملهم من العذاب الدنيوي.
ويؤيده ظاهر قوله تعالى : فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ.
والظاهر أن المراد بأهله أهل بيته. وجوز أن يكون المراد بهم من تبع دينه مجازا فيشمل أهل بيته المؤمنين وسائر من آمن به. وقيل : لا حاجة إلى هذا التعميم إذ لم يؤمن به عليه السلام إلا أهل بيته. والمراد بهذه العجوز امرأته عليه السلام وكانت كافرة مائلة إلى القوم راضية بفعلهم. والتعبير عنها بالعجوز للإيماء إلى أنه مما لا يشق أمر هلاكها على لوط عليه السلام وسائر أهله بمقتضى الطبيعة البشرية. وقيل : للإيماء إلى أنها قد عسيت في الكفر ودامت فيه إلى أن صارت عجوزا ، والغابر الباقي بعد مضي من معه. وأنشد ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في ذلك قول عبيد بن الأبرص :
ذهبوا وخلفني المخلف فيهم فكأنني في الغابرين غريب
والمراد فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلا عند مشارفة حلوله بهم إلا عجوزا مقدرة في الباقين في العذاب بعد سلامة من خرج. وإنما اعتبر البقاء في العذاب دون البقاء في الدار لما روي أنها خرجت مع لوط عليه السلام فأصابها حجر في الطريق فهلكت ، وقيل : المراد من الباقين في الدار بناء على أنها لهلاكها كأنها ممن بقي فيها أو أنها خرجت ثم رجعت فهلكت كما في بعض الروايات أو أنها لم تخرج مع لوط عليه السلام أصلا كما في البعض الآخر منها. وقيل : الغابر طويل العمر وكأنه إنما أطلق عليه ذلك لبقائه مع مضي من كان معه. والمراد وصف العجوز بأنها طاعنة في السن وقرأ عبد اللّه كما روى عنه مجاهد «وواعدنا أن نؤتيه أهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين» ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه وكان ذلك الائتفاك. والظاهر العطف على (نجينا) والتدمير متراخ عن التنجية من مطلق العذاب فلا حاجة إلى القول بأن المراد أردنا تنجيته أو حكمنا بها أو معنى فَنَجَّيْناهُ فاستجبنا دعاءه في تنجيته وكل ذلك خلاف الظاهر.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 116
وجوز الطيبي كون ثُمَّ للتراخي في الرتبة وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي نوعا من المطر غير معهود فقد كان حجارة من سجيل كما صرح به في قوله تعالى : فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود : 82].
وجمع الأمران لهم زيادة في إهانتهم. وقيل : كان الائتفاك لطائفة والأمطار لأخرى منهم. وكانت هذه على ما روى عن مقاتل للذين كانوا خارجين من القرية لبعض حوائجهم ولعله مراد قتادة بالشذاذ فيما روي عنه فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ اللام فيه للجنس وبه يتسنى وقوع المضاف إليه فاعل ساء بناء على أنها بمعنى بئس. والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم وإذا لم تكن ساء كذلك جاز كونها للعهد.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ الأيكة الغيضة التي تنبت ناعم الشجر وهي غيضة من ساحل البحر إلى مدين يسكنها طائفة وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام وكان أجنبيا منهم ولذلك قيل. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ولم يقل أخوهم ، وقيل : الْأَيْكَةِ الشجر الملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل ، وعلى القولين أَصْحابُ الْأَيْكَةِ غير أهل مدين ، ومن غريب النقل عن ابن عباس أنهم هم أصحاب مدين.
وقرأ الحرميان وابن عامر «ليكة» بلام مفتوحة بعدها ياء بغير ألف ممنوع الصرف هنا ، وفي ص قال أبو عبيدة :
وجدنا في بعض كتب التفسير أن «ليكة» اسم للقرية والْأَيْكَةِ البلاد كلها كمكة وبكة ، ورأيتها في الإمام مصحف عثمان رضي اللّه تعالى عنه في [الحجر : 78] و[ق : 14] الْأَيْكَةِ وفي [الشعراء : 176 ، وص : 13] ليكة واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد ذلك ولم تختلف ، وفي الكشاف من قرأ بالنصب ، وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة هنا وفي «ص» بغير ألف ، وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف الخط المصطلح عليه وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ كما يكتب أصحاب النحو الآن لأن والأولى لولى لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة على أن «ليكة» اسم لا يعرف انتهى ، وتعقب بأنه دعوى من غير ثبت وكفى ثبتا للمخالف ثبوت القراءة في السبعة وهي متواترة كيف وقد انضم إليه ما سمعت عن بعض كتب التفسير. وإن لم تعول عليه فما روى البخاري في صحيحه الْأَيْكَةِ وليكة الغيضة ، هذا وإن الأسماء المرتجلة لا منع منها ، وفي البحر أن كون مادة ل ي ك مفقودة في لسان العرب كما تشبث به من أنكر هذه القراءة المتواترة إن صح لا يضر وتكون الكلمة عجمية ومواد كلام العجم مخالفة في كثير مواد كلام العرب فيكون قد اجتمع على منع صرفها العلمية والعجمة والتأنيث ، وبالجملة إنكار الزمخشري صحة هذه القراءة يقرب من الردة والعياذ باللّه تعالى. وقد سبقه في ذلك المبرد وابن قتيبة والزجاج والفارسي والنحاس ، وقرىء «ليكة» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام والجر بالكسرة وتكتب على حكم لفظ اللافظ بدون همزة وعلى الأصل بالهمزة وكذا نظائرها.
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ أي أتموه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي حقوق الناس بالتطفيف ولعل المبالغة المستفادة من التركيب متوجهة إلى النهي أو أنه لا يعتبر المفهوم لنحو ما قيل في قوله تعالى : لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران : 130] وأيا ما كان ففي النهي المذكور تأكيد للأمر السابق عليه وَزِنُوا الموزونات.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 117
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي بالميزان السوي ، وقيل : القسطاس القبان وروي ذلك عن الحسن ، وهو عند بعض معرب رومي الأصل ومعناه العدل وروي ذلك عن مجاهد وعند آخرين عربي فقيل : هو من القسط ووزنه فعلاع بتكرير العين شذوذا إذ هي لا تكرر وحدها مع الفصل باللام ، وقيل : من قسطس وهو رباعي ووزنه فعلال ، والمراد الأمر بوفاء الوزن وإتمامه والنهي عن النقص دون النهي عن الزيادة ، والظاهر أنه لم ينه عنها ولم يؤمر بها في الكيل والوزن ، وكأن ذلك دليل على أن من فعلها فقد أحسن ومن لم يفعلها فلا عليه.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن معنى وَزِنُوا إلخ وعدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله اللّه تعالى لعباده ، والظاهر إذ عادل سبحانه به أَوْفُوا الْكَيْلَ
[الأنعام : 152] ما تقدم.
وقرأ أكثر السبعة «بالقسطاس» بضم القاف وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوهم شيئا من حقوقهم أي حق كان فإضافة أشياء جنسية ويجوز أن تكون للاستغراق ، والمراد مقابلة الجمع بالجمع فيكون المعنى لا تبخسوا أحدا شيئا ، وجوز أن يكون الجمع للإشارة إلى الأنواع فإنهم كانوا يبخسون كل شيء جليلا كان أو حقيرا ، وهذا تعميم بعد تخصيص بعض المراد بالذكر لغاية انهماكهم فيه ، وقيل : المراد بأشيائهم الدراهم والدنانير وبخسها بالقطع من أطرافها ولولاه لم يجمع. وبخس مما يتعدى إلى اثنين فالمنصوبان مفعولاه ، وقيل هو متعد لواحد فالثاني بدل اشتمال وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بالقتل والغارة وقطع الطريق ونحو ذلك ، والعثو الفساد أو أشده و«مفسدين» حال مؤكدة ، وجوز أن يكون المراد مفسدين آخرتكم فتكون حالا مؤسسة وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي وذوي الجبلة أي الخلقة والطبيعة أو والمجبولين على أحوالهم التي بنوا عليها وسبلهم التي قيضوا لسلوكها المتقدمين عليكم من الأمم ، وجاء في رواية عن ابن عباس أن الجبلة الجماعة إذا كانت عشرة آلاف كأنها شبهت على ما قيل بالقطعة العظيمة من الجبل ، وقيل : هي الجماعة الكثيرة مطلقا كأنها شبهت بما ذكر أيضا.
وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن بخلاف عنه «الجبلّة» بضم الجيم والباء وشد اللام وقرأ السلمي «الجبلة» بكسر الجيم وسكون الباء كالخلقة ، وفي نسخة عنه بفتح الجيم وسكون الباء قيل وتشديد اللام في القراءتين للمبالغة قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا الكلام فيه نظير ما تقدم في قصة ثمود بيد أنه أدخل الواو بين الجملتين هنا للدلالة على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة فكيف إذا اجتمعا وأرادوا بذلك المبالغة في التكذيب ، ولم تدخل هناك حيث لم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا ثم قرر بكونه بشرا مثلهم كذا في الكشاف ، وفي الكشف أن فيه ما يلوح إلى اختصاص كل بموضعه وإن الكلام هنالك في كونه مثلهم غير ممتاز بما يوجب الفضيلة ولهذا عقبوه بقولهم : فَأْتِ بِآيَةٍ [الشعراء : 154] فدل على أنهم لم يجعلوا البشرية منافية للنبوة وإنما جعلوا الوصف تمهيدا للاشتراك وأنه أبدع في دعواه ، وهاهنا ساقوا ذلك مساق ما ينافي النبوة فجعلوا كل واحد صفة مستقلة في المنافاة ليكون أبلغ.
وجعلوا إنكار النبوة أمرا مفروغا ولذا عقبوه بقولهم : وَإِنْ نَظُنُّكَ إلخ ، وقال النيسابوري في وجه الاختصاص : إن صالحا عليه السلام قلل في الخطاب فقللوا في الجواب وأكثر شعيب عليه السلام في الخطاب ولهذا قيل له : خطيب الأنبياء فأكثروا في الجواب ، ولعله أراد أن شعيبا عليه السلام بالغ في زجرهم فبالغوا في تكذيبه ولا كذلك صالح عليه السلام مع قومه فتأمل ، وإِنْ في قوله سبحانه : وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ هي المخففة من الثقيلة واللام في لَمِنَ هي الفارقة ، وقال الكوفيون : إن نافية واللام بمعنى إلا وهو خلاف مشهور أي وإن الشأن نظنك من الكاذبين في الدعوى أو ما نظنك إلا من الكاذبين فيها ، ومرادهم أنه عليه السلام وحاشاه راسخ القدم في الكذب في دعواه الرسالة أو فيها وفي دعوى نزول العذاب الذي يشعر به الأمر بالتقوى من التهديد.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 118
وظاهر حالهم أنهم عنوا بالظن الإدراك الجازم ، وقوله عز وجل : فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ من الاقتراح الذي تحته كل الإنكار على نحو إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال : 32] ولعلهم قابلوا به ما أشعر به الأمر بالتقوى مما ذكرنا ، وكِسَفاً أي قطعا كما روي عن ابن عباس وقتادة جمع كسفة كقطعة.
وقرأ الأكثرون «كسفا» بكسر الكاف وسكون السين وهو أيضا جمع كسفة مثل سدرة وسدر ، وقيل : الكسف والكسفة كالريع والريعة وهي القطعة ، والمراد بالسماء إما المظلة وهو الظاهر وإما السحاب ، والظاهر أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله وتعلقه بأسقط في غاية السقوط ، وجوز عليه أن يراد بالسماء جهة العلو ، وجواب أن محذوف دل عليه فأسقط ، ومن جوز تقدم الجواب جعله الجواب.
قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي هو تعالى أعلم بأعمالكم من الكفر والمعاصي وبما تستوجبون عليها من العذاب فسينزله عليكم حسبما تستوجبون في وقته المقدر له لا محالة فَكَذَّبُوهُ فاستمروا على تكذيبه وكذبوه تكذيبا بعد تكذيب فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وذلك على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس أن اللّه تعالى بعث عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم فخرجوا منها هرابا إلى البرية فبعث اللّه تعالى عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس وهي الظلة فوجدوا لها بردا ولذة فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقطها اللّه عز وجل عليهم نارا فأكلتهم جميعا. وجاء في كثير من الروايات أن اللّه عز وجل سلط عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم كان ما كان من الخروج إلى البرية وما بعده وكان ذلك على نحو ما اقترحوه لا سيما على القول بأنهم عنوا بالسماء السحاب ، وفي إضافة العذاب إلى يوم الظلة دون نفسها إيذان بأن لهم عذابا آخر غير عذاب الظلة وفي ترك بيانه تعظيم لأمره.
وقد أخرج ابن جرير والحاكم وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : من حدثك من العلماء ما عذاب يوم الظلة فكذبه ، وكأنه أراد بذلك مجموع عذاب الظلة الذي ذكر في الخبر السابق والعذاب الآخر الذي آذنت به الإضافة إلى اليوم إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي في الشدة والهول وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ هذا آخر القصص السبع التي سيقت لما علمته سابقا ، ولعل الاقتصار على هذا العدد على ما قيل لأنه عدد تام وأنا أفوض العلم بسر ذلك وكذا العلم بسر ترتيب القصص على هذا الوجه لحضرة علام الغيوب جل شأنه ، وقوله سبحانه : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ إلخ عود لما في مطلع السورة الكريمة من التنويه بشأن القرآن ، العظيم ، ورد ما قال المشركون فيه فالضمير راجع إلى القرآن ، وقيل : هو تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فإن الأخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من اللّه عز وجل ، فالضمير لما ذكر من الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص المحكية ، وجوز أن يكون للقرآن الذي هي من جملته والإخبار عن ذلك بتنزيل للمبالغة والمراد أنه لمنزل من اللّه تعالى ووصفه سبحانه بربوبية العالمين للإيذان بأن تنزيله من أحكام تربيته عز وجل ورأفته بالكل نَزَلَ بِهِ أي أنزله على أن الباء للتعدية.
وقال أبو حيان وابن عطية : هي للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال كما في قوله تعالى : وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ [المائدة : 61] أي نزل مصاحبا له الرُّوحُ الْأَمِينُ يعني جبرائيل عليه السلام ، وعبر عنه بالروح

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 119
لأنه يحيي به الخلق في باب الدين أو لأنه روح كله لا كالناس الذين في أبدانهم روح ، ووصف عليه السلام بالأمين لأنه أمين وحيه تعالى وموصوله إلى من شاء من عباده جل شأنه من غير تغيير وتحريف أصلا. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر نزل به الروح الأمين بتشديد الزاي ونصب الروح والْأَمِينُ أي جعل اللّه تعالى الروح الأمين نازلا به عَلى قَلْبِكَ متعلق بنزل لا بالأمين. والمراد بالقلب إما الروح وهو أحد إطلاقاته كما قال الراغب :
وكون الإنزال عليه على ما قال غير واحد لأنه المدرك والمكلف دون الجسد. وقد يقال : لما كان له صلّى اللّه عليه وسلّم جهتان جهة ملكية يستفيض بها وجهة بشرية يفيض بها جعل الإنزال على روحه صلّى اللّه عليه وسلّم لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين.
وللإشارة إلى ذلك قيل عَلى قَلْبِكَ دون عليك الأخصر. وقيل : إن هذا لأن القرآن لم ينزل في الصحف كغيره من الكتب ، وأما العضو المخصوص وهو الإطلاق المشهور. وتخصيصه بالإنزال عليه قيل للإشارة إلى كمال تعقله صلّى اللّه عليه وسلّم وفهمه ذلك المنزل حيث لم تعتبر واسطة في وصوله إلى القلب الذي هو محل العقل كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث ويشهد له العقل على ما لا يخفى على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وقد أطال في الانتصار لذلك الإمام في تفسيره.
ورد على من ذهب إلى أن الدماغ محل العقل ، وقيل : للإشارة إلى صلاح قلبه عليه الصلاة والسلام وتقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم منه حال سائر أجزائه صلّى اللّه عليه وسلّم فإن القلب رئيس جميع الأعضاء وملكها ومتى صلح الملك صلحت الرعية وفي الحديث : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»
،
وقد يقال : يجوز أن يكون التخصيص لأن اللّه تعالى جعل لقلب رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرآن تمييزا لشأنه على سائر ما يسمعه ويعيه على حد ما قيل وذكره النووي في شرح صحيح مسلم في قوله تعالى : ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم : 11] من أن اللّه عز وجل جعل لفؤاده عليه الصلاة والسلام بصرا فرآه به سبحانه ليلة المعراج. وهذا كله على القول بأن جبرائيل عليه السلام ينزل بالألفاظ القرآنية المحفوظة له بعد أن نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة أو التي يحفظها من اللوح عند الأمر بالإنزال أو التي يوحى بها إليه أو التي يسمعها منه سبحانه على ما قاله بعض أجلة السلف عنده فيلقيها إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على ما هي عليه من غير تغيير أصلا. وكذا على القول بأن جبرائيل عليه السلام ألقى عليه المعاني القرآنية وأنه عبر عنها بهذه الألفاظ العربية ثم نزل بها كذلك فألقاها إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. وأما على القول بأنه عليه السلام إنما نزل بالمعاني خاصة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأنه عليه الصلاة والسلام علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب فقيل : إن القلب بمعنى العضو المخصوص لا غير وتخصيصه لأن المعاني إنما تدرك بالقوة المودعة فيه ، وقيل : يجوز أن يراد به الروح وروحه عليه الصلاة والسلام لغاية تقدسها وكمالها في نفسها تدرك المعاني من غير توسط آلة. ومن الناس من ذهب إلى هذا القول وجعل الآية دليلا له وهو قول مرجوح. ومثله القول بأن جبرائيل عليه السلام ألقى عليه المعاني فعبر عنها بألفاظ فنزل بما عبر هو به. والقول الراجح أن الألفاظ منه عز وجل كالمعاني لا مدخل لجبرائيل عليه السلام فيها أصلا.
وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يسمعها ويعيها بقوى إلهية قدسية لا كسماع البشر إياها منه عليه الصلاة والسلام وتنفعل عند ذلك قواه البشرية ، ولهذا يظهر على جسده الشريف صلّى اللّه عليه وسلّم ما يظهر ويقال لذلك : برجاء الوحي حتى يظن في بعض الأحايين أنه أغمي عليه عليه الصلاة والسلام. وقد يظن أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أغفي.
وعلى هذا
يخرج ما رواه مسلم عن أنس قال : «بينا رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم بين أظهرنا إذ أغفى

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 120
إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول اللّه؟ فقال : أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر : 1 - 3]
ولا يحتاج من قال : إن الأشبه أن القرآن كله نزل في اليقظة إلى تأويل هذا الخبر بأنه عليه الصلاة والسلام خطر له في تلك الإغفاءة سورة الكوثر التي نزلت قبلها في اليقظة أو عرض عليه الكوثر الذي أنزلت فيه السورة فقرأها عليهم ، ثم إنه على ما قيل من أن بعض القرآن نزل عليه عليه الصلاة والسلام وهو نائم استدلالا بهذا الخبر يبقى ما قلناه من سماعه عليه الصلاة والسلام ما ينزل إليه صلّى اللّه عليه وسلّم ووعيه إياه بقوى إلهية قدسية ونومه عليه الصلاة والسلام لا يمنع من ذلك كيف وقد صح عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «تنام عيني ولا ينام قلبي».
وقد ذكر بعض المتصدرين في محافل الحكمة من المتأخرين في بيان كيفية نزول الكلام وهبوط الوحي من عند اللّه تعالى بواسطة الملك على قلب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن الروح الإنساني إذا تجرد عن البدن ، وخرج عن وثاقة من بيت قالبه وموطن طبعه مهاجرا إلى ربه سبحانه لمشاهدة آياته الكبرى وتطهر عن درن المعاصي واللذات والشهوات والوساوس العادية والمتعلقات لاح له نور المعرفة والإيمان باللّه تعالى وملكوته الأعلى وهذا النور إذا تأكد وتجوهر كان جوهرا قدسيا يسمى في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعال وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي وبهذا النور الشديد العقلي يتلألأ فيه أسرار ما في الأرض والسماء ويتراءى منه حقائق الأشياء كما يتراءى بالنور الحسي البصري الأشباح المثالية في قوة البصر إذا لم يمنع حجاب ، والحجاب هاهنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذه الأولى فإذا عريت النفس عن دواعي الطبيعة والاشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحس والتخيل وتوجهت بوجهها شطر الحق وتلقاء عالم الملكوت الأعلى اتصلت بالسعادة القصوى فلاح لها سر الملكوت وانعكس عليها قدس اللاهوت ورأت عجائب آيات اللّه تعالى الكبرى ، ثم إن هذه الروح إذا كانت قدسية شديدة القوى قوية الآثار لقوة اتصالها بما فوقها فلا يشغلها شأن عن شأن ولا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها فتضبط الطرفين وتسع قوتها الجانبين لشدة تمكنها في الحد المشترك بين الملك والملكوت كالأرواح الضعيفة التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن المشعر الآخر وإذا توجهت هذه الروح القدسية التي لا يشغلها شأن عن شأن ولا تصرفها نشأة عن نشأة وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلم بشري بل من اللّه تعالى يتعدى تأثيرها إلى قواها ويتمثل لروحه البشري صورة ما شاهده بروحه القدسي وتبرز منها إلى ظاهر الكون فتتمثل للحواس الظاهرة سيما
السمع والبصر لكونهما أشرف الحواس الظاهرة فيرى ببصره شخصا محسوسا في غاية الحسن والصباحة ويسمع بسمعه كلاما منظوما في غاية الجودة والفصاحة ، فالشخص هو الملك النازل بإذن اللّه تعالى الحامل للوحي الإلهي ، والكلام هو كلام اللّه تعالى وبيده لوح فيه كتاب هو كتاب اللّه تعالى ، وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن والتخيل كما يقوله من لا حظ له من علم الباطن ولا قدم له في أسرار الوحي والكتاب كبعض أتباع المشائين معاذ اللّه تعالى عن هذه العقيدة الناشئة عن الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل ثم قال : إنارة قلبية وإشارة عقلية عليك أن تعلم أن للملائكة ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى ما دونها إضافة النفس إلى البدن الكائن في النشأة الآخرة فأما ذواتها الحقيقية فإنما هي أمرية قضائية قولية وأما ذواتها الإضافية فإنما هي خلقية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية وأعظمهم إسرافيل عليه السلام وهؤلاء الملائكة اللوحية يأخذون الكلام الإلهي والعلوم اللدنية من الملائكة القلمية ويثبتونها في صحائف ألواحهم القدرية الكتابية ، وإنما كان يلاقي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في معراجه الصنف الأول من الملائكة ويشاهد روح القدس في اليقظة فإذا اتصلت الروح النبوية بعالمهم عالم الوحي الرباني يسمع كلام اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 121
وهو إعلام الحقائق بالمكالمة الحقيقة وهي الإفاضة والاستفاضة في مقام قاب قوسين أو أدنى وهو مقام القرب ومقعد الصدق ومعدن الوحي والإلهام ، وكذا إذا عاشر النبي الملائكة الأعلين يسمع صريف أقلامهم وإلقاء كلامهم وهو كلام اللّه تعالى النازل في محل معرفتهم وهي ذواتهم وعقولهم لكونهم في مقام القرب ، ثم إذا نزل عليه الصلاة والسلام إلى ساحة الملكوت السماوي يتمثل له صورة ما عقله وشاهده في لوح نفسه الواقعة في عالم الأرواح القدرية السماوية ثم يتعدى منه الأثر إلى الظاهر ، وحينئذ يقع للحواس شبه دهش ونوم لما أن الروح القدسية لضبطها الجانبين تستعمل المشاعر الحسية لكن لا في الأغراض الحيوانية بل في سبيل السلوك إلى الرب سبحانه فهي تشائع الروح في سبيل معرفته تعالى وطاعته فلا جرم إذا خاطبه اللّه تعالى خطابا من غير حجاب خارجي سواء كان الخطاب بلا واسطة أو بواسطة الملك واطلع على الغيب فانطبع في فص نفسه النبوية نقش الملكوت وصورة الجبروت تنجذب قوة الحس الظاهر إلى فوق ويتمثل لها صورة غير منفكة
عن معناها وروحها الحقيقي لا كصورة الأحلام والخيالات العاطلة عن المعنى فيتمثل لها حقيقة الملك بصورته المحسوسة بحسب ما يحتملها فيرى ملكا على غير صورته التي كانت له في عالم الأمر لأن الأمر إذا نزل صار خلقا مقدرا فيرى صورته الخلقية القدرية ويسمع كلاما مسموعا بعد ما كان وحيا معقولا أو يرى لوحا بيده مكتوبا فالموحى إليه يتصل بالملك أولا بروحه العقلي ويتلقى منه المعارف الإلهية ويشاهد ببصره العقلي آيات ربه الكبرى ويسمع بسمعه العقلي كلام رب العالمين من الروح الأعظم. ثم إذا نزل عن هذا المقام الشامخ الإلهي يتمثل له الملك بصورة محسوسة بحسبه ثم ينحدر إلى حسه الظاهر ثم إلى الهواء وهكذا الكلام في كلامه فيسمع أصواتا وحروفا منظومة مسموعة يختص هو بسماعها دون غيره فيكون كل من الملك وكلامه وكتابه قد تأدى من غيبه إلى شهادته ومن باطن سره إلى مشاعره ، وهذه التأدية ليست من قبيل الانتقال والحركة للملك الموحي من موطنه ومقامه إذ كل له مقام معلوم لا يتعداه ولا ينتقل عنه بل مرجع ذلك إلى انبعاث نفسي النبي عليه الصلاة والسلام من نشأة الغيب إلى نشأة الظهور ، ولهذا كان يعرض له شبه الدهش والغشي ثم يرى ويسمع ثم يقع منه الإنباء والإخبار فهذا معنى تنزيل الكتاب وإنزال الكلام من رب العالمين انتهى. وفيه ما تأباه الأصول الإسلامية مما لا يخفى عليك وقد صرح غير واحد من المحدثين والمفسرين وغيرهم بانتقال الملك وهو جسم عندهم ولم يؤول أحد منهم نزوله فيما نعلم ، نعم أولوا نزول القرآن وإنزاله.
قال الأصفهاني في أوائل تفسيره : اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام اللّه تعالى منزل واختلفوا في معنى الإنزال ، فمنهم من قال : إظهار القراءة ، ومنهم من قال : إن اللّه تعالى الهم كلامه جبريل عليه السلام وهو في السماء وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان وفي ذلك طريقتان ، إحداهما أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل عليه السلام ، وثانيتهما أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم منه ، والأولى أصعب الحالين انتهى وقال الطيبي : لعل نزول القرآن على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتلقفه الملك تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه.
وقال القطب في حواشي الكشاف الإنزال في اللغة الإيواء وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل وكلاهما لا يتحققان في الكلام فهو مستعمل بمعنى مجازي فمن قال : القرآن معنى قائم بذات اللّه تعالى فإنزاله أن توجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ. ومن قال : القرآن هو الألفاظ الدالة على المعنى القائم بذاته تعالى فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ ، وهذا المعنى مناسب لكونه مجازا عن أول المعنيين اللغويين.
ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ وهذا مناسب للمعنى

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 122
الثاني ، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من اللّه تعالى تلقفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم انتهى وفيه بحث لا يخفى ، وعندي أن إنزاله إظهاره في عالم الشهادة بعد أن كان في عالم الغيب ، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن جميع القرآن نزل به الروح الأمين على قلبه الشريف صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وهذا ينافي ما قيل : إن آخر سورة البقرة كلمه اللّه تعالى بها ليلة المعراج حيث لا واسطة احتجاجا بما
أخرجه مسلم عن ابن مسعود «لما أسري برسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم انتهى إلى سدرة المنتهى» الحديث
وفيه : «فأعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته باللّه تعالى شيئا المقحمات» ،
وأجيب بعد تسليم أن يكون ما ذكر دليلا لذلك يجوز أن يكون قد نزل جبريل عليه السلام بما ذكر أيضا تأكيدا وتقريرا أو نحو ذلك ، وقد ثبت نزوله عليه السلام بالآية الواحدة مرتين لما ذكر ، وجوز أن تكون الآية باعتبار الأغلب ، واعتبر بعضهم كونها كذلك لأمر آخر وهو أن من القرآن ما نزل به إسرافيل عليه السلام وهو ما كان في أول النبوة وفيه أن ذلك لم يثبت أصلا.
وفي الإتقان أخرج الإمام أحمد في تاريخه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال : أنزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه فنزل عليه القرآن على لسانه عشر سنين انتهى ، وهو صريح في خلاف ذلك وإن كان فيه ما يخالف الصحيح المشهور من أن جبريل عليه السلام هو الذي نزل عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي من أول الأمر إلا أنه نزل عليه صلّى اللّه عليه وسلّم غيره عليه السلام من الملائكة أيضا ببعض الأمور ، وكثيرا ما ينزلون لتشييع الآيات القرآنية مع جبريل عليه وعليهم السلام.
ومن الناس من اعتبر كونها باعتبار الأغلب لأن إنزال جبريل عليه السلام قد لا يكون على القلب بناء على ما ذكره الشيخ محيي الدين قدس سره في الباب الرابع عشر من الفتوحات من قوله : اعلم أن الملك يأتي النبي عليه الصلاة والسلام بالوحي على حالين تارة ينزل بالوحي على قلبه وتارة يأتيه في صورة جسدية من خارج فيلقى ما جاء به إلى ذلك النبي على أذنه فيسمعه أو يلقيه على بصره فيبصره فيحصل له من النظر ما يحصل من السمع سواء.
وتعقب بأنه لا حاجة إلى ما ذكر ، وما نقل عن محيي الدين قدس سره لا يدل على أن نزول الوحي إلى كل نبي يكون على هذين الحالين فيجوز أن يكون نزول الوحي إلى نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم على الحال الأولى فقط سلمنا دلالته على العموم وأن نزول الوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام قد يكون بتمثل الملك بناء على بعض الأخبار الصحيحة في ذلك لكن لا نسلم أنه يدل على أن نزول الوحي إذا كان الموحى قرآنا يكون على الحال الثانية سلمنا دلالته على ذلك لكن لا نسلم صحة جعله مبنى لتأويل الآية ، وكي يؤول كلام اللّه تعالى لكلام مناف لظاهره صدر من غير معصوم ، ويكفي محيي الدين قدس سره من علماء الشريعة أن يؤولوا كلامه ليوافق كلام اللّه عز وجل فيسلم من الطعن ، ولعل من يؤول في مثل ذلك يحسن الظن بمحيي الدين قدس سره ويقول : إنه لم يقل ذلك إلا لدليل شرعي فقد قال قدس سره في الكلام على الإذن من الفتوحات : اعلم أني لم أقرر بحمد اللّه تعالى في كتابي هذا ولا غيره قط أمرا غير مشروع وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء من تصانيفي ، وقال في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الكتاب المذكور جميع ما أتكلم به في مجالسي وتأليفي إنما هو من حضرة القرآن العظيم فإني أعطيت مفاتيح العلم فيه فلا أستمد قط في علم من العلوم إلا منه كل ذلك حتى لا أخرج عن مجالسة الحق تعالى في مناجاته بكلامه أو بما تضمنه كلامه سبحانه إلى غير ذلك فالداعي للتأويل في الحقيقة ذلك الدليل لا نفس كلامه قدس سره العزيز وهو اللائق بالمسلمين الكاملين.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 123
وقوله تعالى : لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ متعلق بنزل أي نزل به لتنذرهم بما في تضاعيفه من العقوبات الهائلة.
وإيثار ما في النظم الكريم للدلالة على انتظامه صلّى اللّه عليه وسلّم في سلك أولئك المنذرين المشهورين في حقية الرسالة وتقرر العذاب المنذر به ، وكذا قوله سبحانه : بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ متعلق بنزل عند جمع من الأجلة ويكون حينئذ على ما قال الشهاب بدلا من بِهِ بإعادة العامل ، وتقديم لِتَكُونَ إلخ للاعتناء بأمر الإنذار ولئلا يتوهم أن كونه عليه الصلاة والسلام من جملة المنذرين المذكورين متوقف على كون الإنزال بلسان عربي مبين ، واستحسن كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير بِهِ أي نزل به ملتبسا بلغة عربية واضحة المعنى ظاهرة المدلول لئلا يبقى لهم عذر ، وقيل : بلغة مبينة لهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم على أن مُبِينٍ من أبان المتعدي ، والأول أظهر.
وجوز أن تعلق الجار والمجرور بالمنذرين أي لتكون من الذين أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وزاد بعضهم خالد بن سنان وصفوان بن حنظلة عليهما السلام. وتعقب بأنه يؤدي إلى أن غاية الإنذار كونه عليه السلام من جملة المنذرين باللغة العربية فقط من هود وصالح وشعيب عليهم السلام ، ولا يخفى فساده كيف لا ، والطامة الكبرى في باب الإنذار ما أنذره نوح وموسى عليهما السلام ، وأشد الزواجر تأثيرا في قلوب المشركين ما أنذره إبراهيم عليه السلام لانتمائهم إليه وادعائهم أنهم على ملته عليه السلام ، وذكر بعضهم أن المراد على هذا الوجه أنك أنذرتهم كما أنذر آباؤهم الأولون وأنك لست بمبتدع بهذا فكيف كذبوك ، والحق أن الوجه المذكور دون الوجه السابق ، وأما أنه فاسد معنى كما يقتضيه كلام المتعقب فلا.
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي وإنّ ذكر القرآن لفي الكتب المتقدمة على أن الضمير للقرآن والكلام على حذف مضاف وهذا كما يقال : إن فلانا في دفتر الأمير. وقيل : المراد وإن معناه لفي الكتب المتقدمة وهو باعتبار الأغلب فإن التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات وكثيرا من المواعظ والقصص مسطور في الكتب السابقة فلا يضران منه ما ليس في ذلك بحسب الظن الغالب كقصة الإفك وما كان في نكاح امرأة زيد وما تضمنه صدر سورة التحريم وغير ذلك. واشتهر عن الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أنه جوز قراءة القرآن بالفارسية والتركية والهندية وغير ذلك من اللغات مطلقا استدلالا بهذه الآية. وفي رواية تخصيص الجواز بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية لخبر لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدري. وفي رواية أخرى أنها إنما تجوز بالفارسية إذا كان ثناء كسورة الإخلاص أما إذا كان غيره فلا تجوز ، وفي أخرى أنها إنما تجوز بالفارسية في الصلاة إذا كان المصلي عاجزا عن العربية وكان المقروء ذكرا وتنزيها أما القراءة بها في غير الصلاة أو في الصلاة وكان القارئ يحسن العربية أو في الصلاة وكان القارئ عاجزا عن العربية لكن كان المقروء من القصص والأوامر والنواهي فإنها لا تجوز ، وذكر أن هذا قول صاحبيه.
وكان رضي اللّه تعالى عنه قد ذهب إلى خلافه ثم رجع عنه إليه. وقد صحح رجوعه عن القول بجواز القراءة بغير العربية مطلقا جمع من الثقات المحققين. وللعلامة حسن الشر نبلالي رسالة في تحقيق هذه المسألة سماها النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية فمن أراد التحقيق فليرجع إليها. وكان رجوع الإمام عليه الرحمة عما اشتهر عنه لضعف الاستدلال بهذه الآية عليه كما لا يخفى على المتأمل.
وفي الكشف أن القرآن كان هو المنزل للإعجاز إلى آخر ما يذكر في معناه فلا شك أن الترجمة ليست بقرآن وإن كان هو المعنى القائم بصاحبه فلا شك أنه غير ممكن القراءة ، فإن قيل : هو المعنى المعبر عنه بأي لغة كان قلنا لا شك في اختلاف الأسامي باختلاف اللغات وكما لا يسمى القرآن بالتوراة لا يسمى التوراة بالقرآن فالأسماء لخصوص

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 124
العبارات فيها مدخل لا أنها لمجرد المعنى المشترك اه ، وفيه بحث فإن قوله تعالى : وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا [فصلت : 44] يستلزم تسميته قرآنا أيضا لو كان أعجميا فليس لخصوص العبارة العربية مدخل في تسميته قرآنا ، والحق أن قرآنا المنكر لم يعهد فيه نقل عن المعنى اللغوي فيتناول كل مقروء ، أما القرآن باللام فالمفهوم منه العربي في عرف الشرع فلخصوص العبارة مدخل في التسمية نظرا إليه ، وقد جاء كذلك في الآية الدالة على وجوب القراءة أعني قوله سبحانه : فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل : 20] وبذلك تم المقصود ، وجعل من فيه للتبعيض وإرادة المعنى من هذا البعض لا يخفى ما فيه ، وقيل : ضمير إِنَّهُ عائد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وليس بواضح ، وقرأ الأعمش «زبر» بسكون الباء.
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً الهمزة للتقرير أو للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل :
أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين وإنه لفي زبر الأولين على أن لَهُمْ متعلق بالكون قدم على اسمه وخبره للاهتمام أو بمحذوف هو حال من آيَةً قدمت عليها لكونها نكرة وآيَةً خبر للكون قدم على اسمه الذي هو قوله تعالى : أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، والعلم بمعنى المعرفة والضمير للقرآن أي ألم يكن لهم آية معرفة علماء بني إسرائيل القرآن بنعوته المذكورة في كتبهم ، وعن قتادة أن الضمير للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : العلم على معناه المشهور والضمير للحكم السابق في قوله تعالى :
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ إلخ وفيه بعد كما لا يخفى ، وذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي فقالوا : هذا زمانه وذكروا نعته وخلطوا في أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت الآية في ذلك ، وهو ظاهر في أن الضمير له عليه الصلاة والسلام ويؤيده كون الآية مكية. وقال مقاتل : هي مدنية ، وعلماء بني إسرائيل عبد اللّه بن سلام ونحوه كما روي عن ابن عباس ومجاهد ، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم ، وقيل أنبياؤهم فإنهم نبهوا على ذلك وهو خلاف الظاهر ، ولعل أظهر الأقوال كون المراد به معاصريه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم من علماء أهل الكتابين المسلمين وغيرهم.
وقرأ ابن عامر والجحدري «تكن» بالتأنيث و«آية» بالرفع وجعلت اسم تكن وأَنْ يَعْلَمَهُ خبرها. وضعف بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة ، ولا يدفعه كون النكرة ذات حال بناء على أحد الاحتمالين في لَهُمْ ، وجوز أن يكون آيَةً الاسم ولَهُمْ متعلقا بمحذوف هو الخبر و«أن يعلمه» بدلا من الاسم أو خبر مبتدأ محذوف ، وأن يكون الاسم ضمير القصة ولَهُمْ آيَةً مبتدأ وخبر والجملة خبر تكن وأَنْ يَعْلَمَهُ بدلا أو خبر مبتدأ محذوف وأن يكون الاسم ضمير القصة وآيَةً خبر أَنْ يَعْلَمَهُ والجملة خبر تكن وأن تكون تكن تامة. وآيَةً فاعلا وأَنْ يَعْلَمَهُ بدلا أو خبرا لمحذوف ولَهُمْ إما حالا أو متعلقا بتكن وقرأ ابن عباس «تكن» بالتأنيث وآيَةً بالنصب كقراءة من قرأ «ثم لم تكن» بالتأنيث فتنتهم بالنصب «إلا أن قالوا» وكقول لبيد يصف العير والأتان :
فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت إقدامها
وذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر ، وإما لتأويل «أن يعلمه» بالمعرفة وتأويل أن قالوا بالمقالة وتأويل الأقدام بالمتقدمة ، ودعوى اكتساب التأنيث فيه من المضاف إليه ليس بشيء لفقد شرطه المشهور.
وقرأ الجحدري تعلمه بالتأنيث على أن المراد جماعة علماء بني إسرائيل وكتب في المصحف «علمؤا» بواو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 125
بين الميم والألف ووجه ذلك بأنه على لغة من يميل ألف علماء إلى الواو كما كتبوا الصلوات والزكات والربو بالواو على تلك اللغة وَلَوْ نَزَّلْناهُ أي القرآن كما هو بنظمه الرائق المعجز عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية ، وهو جمع أعجمي كما في التحرير وغيره إلا أنه حذف ياء النسب منه تخفيفا. ومثله الأشعرين جمع أشعري في قول الكميت :
ولو جهزت قافية شرودا لقد دخلت بيوت الأشعرينا
وقد قرأه الحسن وابن مقسم بياء النسب على الأصل ، وقال ابن عطية : هو جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب والعجمي هو الذي نسبته في العجم خلاف العرب وإن كان أفصح الناس انتهى.
واعترض بأن أعجم مؤنثة عجماء وفعل فعلاء لا يجمع جمع سلامة ، وأجيب بأن الأعجم في الأصل البهيمة العجماء لعدم نطقها ثم نقل أو تجوز به عما ذكر وهو بذلك المعنى ليس له مؤنث على فعلاء فلذلك جمع جمع السلامة ، وتعقب بأنه قد صرح العلامة محمد بن أبي بكر الرازي في كتابه غرائب القرآن بأن الأعجم هو الذي لا يفصح والأنثى العجماء ولو سلّم أنه ليس له بذلك المعنى مؤنث فالأصل مراعاة أصله. وفيه أن كون ارتفاع المانع لعارض مجوزا مما صرح به النحاة. ثم إن كون أفعل فعلاء لا يجمع جمع سلامة مذهب البصريين والفراء وغيره من الكوفيين يجوزونه فلعل من قال : إنه جمع أعجم قاله بناء على ذلك. وظاهر الجمع المذكور يقتضي أن يكون المراد به العقلاء ، وعن بعضهم أنه جمع أعجم مرادا به ما لا يعقل من الدواب العجم وجمع جمع العقلاء لأنه وصف بالتنزيل عليه وبالقراءة في قوله تعالى : فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ فإن الظاهر رجوع ضمير الفاعل إلى بعض الأعجمين وهما من صفات العقلاء ، والمراد بيان فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة كأنه قيل : ولو نزلناه بهذا النظم الرائق المعجز على من لا يقدر على التكلم بالعربية أو على ما ليس من شأنه التكلم أصلا من الحيوانات العجم فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قراءة صحيحة خارقة للعادة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء ، وقيل : المراد بالأعجمين جمع أعجم أعم من أن يكون عاقلا أو غيره ، ونقل ذلك الطبرسي عن عبد اللّه بن مطيع ، وذكر أنه روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية وهو على بعير فأشار إليه وقال : هذا من الأعجمين.
والطبري على ما في البحر يروي نحو هذا عن ابن مطيع ، والمراد أيضا بيان فرط عنادهم ، وقيل : هو جمع أعجم مرادا به ما لا يعقل وضمير الفاعل في (قرأه) للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وضمير عَلَيْهِمْ لبعض الأعجمين وكذا ضمير كانُوا والمعنى لو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم فقرأه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم على أولئك البهائم ما كانوا أي أولئك البهائم مؤمنين به فكذلك هؤلاء لأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، ولا يخفى ما فيه ، وقيل : المراد ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين لعدم فهمهم ما فيه ، وأخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة وهو بعيد عما يقتضيه مقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد. واستند بعضهم بالآية عليه في منع أخذ العربية في مفهوم القرآن إذ لا يتصور على تقدير أخذها فيه تنزيله بلغة العجم إذ يستلزم ذلك كون الشيء الواحد عربيا وعجميا وهو محال.
وأجيب بأن ضمير نزلناه ليس راجعا إلى القرآن المخصوص المأخوذ في مفهومه العربية بل إلى مطلق القرآن ويراد منه ما يقرأ أعم من أن يكون عربيا أو غيره ، وهذا نحو رجوع الضمير للعام في ضمن الخاص في قوله تعالى : ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر : 11] الآية فإن ضمير عمره راجع إلى شخص بدون وصفه بمعمر إذ لا يتصور نقص عمر المعمر كما لا يخفى.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 126
وقال بعضهم في الجواب : إن الكلام على حذف مضاف ، والمراد وَلَوْ نَزَّلْناهُ معناه بلغة العجم على بعض الأعجمين فتدبر وفي لفظ بَعْضِ على كل الأقوال إشارة إلى كون ذلك المفروض تنزيله عليه واحدا من عرض تلك الطائفة كائنا من كان وبِهِ متعلق بمؤمنين ، ولعل تقديمه عليه للاهتمام وتوافق رؤوس الآي.
والضمير في قوله تعالى : كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ على ما يقتضيه انتظام الضمائر السابقة واللاحقة في سلك واحد للقرآن وإليه ذهب الرماني وغيره ، والمعنى على ما قيل مثل ذلك السلك البديع المذكور سلكناه أي أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين ففهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه خارج عن القوى البشرية وقد انضم إليه علم أهل الكتابين بشأنه وبشارة الكتب المنزلة بإنزاله فقوله تعالى : لا يُؤْمِنُونَ بِهِ جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنهم لا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان به بل يستمرون على ما هم عليه حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الإيمان به وحينئذ لا ينفعهم ذلك.
والمراد بالمجرمين المشركون الذين عادت عليهم الضمائر من لَهُمْ وعَلَيْهِمْ وكانُوا وعدل عن ضميرهم إلى ما ذكر تأكيدا لذمهم ، وقال الزمخشري في معنى ذلك : أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وهكذا مكناه وقررناه فيها وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها فكيف ما فعل بهم وصنع ، وعلى أي وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده وإنكاره كما قال سبحانه : وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام : 7] وموقع قوله تعالى لا يُؤْمِنُونَ بِهِ إلخ مما قبله موقع الموضح والملخص لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالا أي سلكناه فيها غير مؤمن به اه.
وتعقب بأن الأول هو الأنسب بمقام بيان غاية عنادهم ومكابرتهم مع تعاضد أدلة الإيمان وتناجد مبادئ الهداية والإرشاد وانقطاع أعذارهم بالكلية ، وقد يقال : إن هذا التفسير أوفق بتسليته صلّى اللّه عليه وسلّم التي هي كالمبنى لهذه السورة الكريمة وبها صدرت حيث قال سبحانه : لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء : 3] كأنه جل وعلا بعد أن ذكر فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة وهو تفسير واضح في نفسه فهو عندي أولى مما تقدم.
وفي المطلع أن الضمير للتكذيب والكفر المدلول عليه بقوله تعالى : ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وبه قال يحيى بن سلام ، وروى عن ابن عباس والحسن ، والمعنى وكذلك سلكنا التكذيب بالقرآن والكفر به في قلوب مشركي مكة ومكناه فيها ، وقوله تعالى : لا يُؤْمِنُونَ إلخ واقع موقع الإيضاح لذلك ولا يظهر على هذا الوجه كونه حالا ولا أرى لهذا المعنى كثرة بعد عن قول من قال أي على مثل هذا السلك سلكنا القرآن وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه في قلوبهم ، وحاصل الأول كذلك سلكنا التكذيب بالقرآن في قلوبهم.
وحاصل هذا وكذلك سلكنا القرآن بصفة التكذيب به في قلوبهم فتأمل ، وجوز جعل الضمير للبرهان الدال عليه قوله تعالى : أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ وهو بعيد لفظا ومعنى ، هذا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمجرمين غير الكفرة المتقدمين الذين عادت عليهم الضمائر وهم مشركو مكة من المعاصرين لهم ومن يأتي بعدهم وذلك إشارة إلى السلك في قلوب أولئك المشركين أي مثل ذلك السلك في قلوب مشركي مكة سلكناه في قلوب المجرمين غيرهم لاشتراكهم في الوصف ، وقوله سبحانه : لا يُؤْمِنُونَ بِهِ إلخ بيان لحال المشركين

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 127
المتقدمين الذين اعتبروا في جانب المشبه به أو إيضاح لحال المجرمين وبيان لما يقتضيه التشبيه وهو كما ترى ونقل في البحر عن ابن عطية أنه أريد مجرمي كل أمة أي إن سنة اللّه تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم ، وهذا على جهة المثال لقريش أي هؤلاء كذلك ، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر انتهى ، وكأنه جعل ضمير سَلَكْناهُ لمطلق الكفر لا للكفر بالقرآن ، وضمير بِهِ للّه تعالى أو لما أمروا بالإيمان به للقرآن وإلا فلا يكاد يتسنى ذلك ، وعلى كل حال لا ينبغي أن يعول عليه.
فَيَأْتِيَهُمْ أي العذاب بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بإتيانه فَيَقُولُوا أي تحسرا على ما فات من الإيمان وتمنيا للإمهال لتلافي ما فرطوه هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي مؤخرون ، والفاء في الموضعين عاطفة وهي كما يدل عليه كلام الكشاف للتعقيب الرتبي دون الوجودي كأنه قيل : حتى يكون رؤيتهم للعذاب الأليم فما هو أشد منها وهو مفاجأته فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة نظير ما في قولك إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك اللّه تعالى ، فلا يرد أن البغت من غير شعور لا يصح تعقبه للرؤية في الوجود ، وقال سري الدين المصري عليه الرحمة في توجيه ما تدل عليه الفاء من التعقيب : إن رؤية العذاب تكون تارة بعد تقدم أماراته وظهور مقدماته ومشاهدة علاماته وأخرى بغتة لا يتقدمها شيء من ذلك فكانت رؤيتهم العذاب محتاجة إلى التفسير فعطف عليها بالفاء التفسيرية قوله تعالى :
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وصح بينهما معنى التعقيب لأن مرتبة المفسر في الذكر أن يقع بعد المفسر كما فعل في التفصيل بالقياس إلى الإجمال كما يستفاد من تحقيقات الشريف في شرح المفتاح. ويمكن أن تكون الآية من باب القلب كما هو أحد الوجوه في قوله تعالى : وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف : 4] للمبالغة في مفاجأة رؤيتهم العذاب حتى كأنهم رأوه قبل المفاجأة. والمعنى حتى يأتيهم العذاب الأليم بغتة فيروه انتهى. وجعلها بعضهم للتفصيل ، واعترض على ما قال صاحب الكشاف بأن العذاب الأليم منطو على شدة البغت فلا يصح الترتيب والتعقيب الرتبي وهو وهم كما لا يخفى.
والظاهر أن جملة وهم لا يشعرون حال مؤكدة لما يفيده بَغْتَةً فإنها كما قال الراغب مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب.
ثم إن هذه الرؤية وما بعدها إن كانت في الدنيا كما قيل فإتيان العذاب الأليم فيها بغتة مما لا خفاء فيه لأنه قد يفاجئهم فيها ما لم يكن يمر بخاطرهم على حين غفلة. وإن كانت في الآخرة فوجه إتيانه فيها بغتة على ما زعمه بعضهم أن المراد به أن يأتيهم من غير استعداد له وانتظار فافهم ، واختار بعضهم أن ذلك أعم من أن يكون في الدنيا أو في الآخرة.
وقرأ الحسن وعيسى «تأتيهم» بتاء التأنيث ، وخرج ذلك الزمخشري على أن الضمير للساعة ، وأبو حيان عن أنه للعذاب بتأويل العقوبة ، وقال أبو الفضل الرازي : للعذاب وأنث لاشتماله على الساعة فاكتسى منها التأنيث وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيبا بها انتهى وهو في غاية الغرابة وكأنه اعتبر إضافة العذاب إلى الساعة معنى بناء على أن المراد بزعمه حتى يروا عذاب الساعة الأليم ، وقال : باكتسائه التأنيث منها بسبب إضافته إليها لأن الإضافة إلى المؤنث قد تكسى المضاف المذكر التأنيث كما في قوله :
كما شرقت صدر القناة من الدم ولم أر أحدا سبقه إلى ذلك. وقرأ الحسن «بغتة» بالتحريك ، وفي حرف أبي رضي اللّه تعالى عنه «ويروه بغتة»

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 128
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي يطلبونه قبل أوانه وذلك قولهم : أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وقولهم :
فائتنا بما تعدنا ونحوهما أَفَرَأَيْتَ أي فاخبر إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ أي مدة من الزمان بطول الأعمال وطيب المعاش أو عمر الدنيا على ما روي عن عكرمة. وعبر عن ذلك بما ذكر إشارة إلى قلته ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ أي الذين كانوا يوعدونه من العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ أي أي شيء أو أي غناء أغنى عنهم ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي كونهم ممتعين ذلك التمتيع المديد على أن ما مصدرية كما هو الأولى أو الذي كانوا يمتعونه من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها. وأيا ما كان فالاستفهام للنفي والإنكار.
وقيل : ما نافية أي لم يغن عنهم ذلك في دفع العذاب أو تخفيفه ، والأول أولى لكونه أوفق لصورة الاستخبار وأدل على انتفاء الإغناء على أبلغ وجه وآكده وفي ربط النظم الكريم ثلاثة أوجه كما في الكشاف ، الأول أن قوله سبحانه : أَفَرَأَيْتَ إلخ متصل بقوله تعالى : هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ وقوله جل وعلا : أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ معترض للتبكيت وإنكار أن يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها ، والمعنى على هذا كما في الكشف أنه لما ذكر أنهم لا يؤمنون دون مشاهدة العذاب قال سبحانه : إن هذا العذاب الموعود وإن تأخر أياما قلائل فهو لاحق بهم لا محالة وهنالك لا ينفعهم ما كانوا فيه من الاغترار المثمر لعدم الإيمان ، وأصل النظم الكريم لا يؤمنون حتى يروا العذاب وكيت وكيت فإن متعناهم سنين ثم جاءهم هذا العذاب الموعود فأي شيء أو فأي غناء يغني عنهم تمتيعهم تلك الأيام القلائل فجيء بفعل الرؤية والاستفهام ليكون في معنى أخبر إفادة لمعنى التعجب والإنكار وأن من حق هذه القصة أن يخبر بها كل أحد حتى يتعجب.
ووسط أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ للتبكيت والهمزة فيه للإنكار ، وجيء بالفاء دلالة على ترتبه على السابق كأنه لما وصف العذاب قيل : أيستعجل هذا العذاب عاقل. وفي الإرشاد اختيار أن قوله تعالى : أَفَرَأَيْتَ متصل بقوله سبحانه : هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ وجعل الفاء لترتيب الاستخبار على ذلك القول وهي متقدمة على الهمزة معنى وتأخيرها عنها صورة لاقتضاء الهمزة الصدارة وإن أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ معترض للتوبيخ والتبكيت وجعل الفاء فيه للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون إلخ ، وصاحب الكشف بعد أن قرر كما ذكرنا قال : إن العطف على مقدر في هذا الوجه لا وجه له ، ولعل المنصف يقول : لكل وجهة.
والثاني أن قوله تعالى : أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ كلام يوبخون به يوم القيامة عند قولهم فيه هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ حكى لنا لطفا ويَسْتَعْجِلُونَ عليه في معنى استعجلتم إذ كذلك يقال لهم ذلك اليوم ، وكأن أمر الترتيب أو العطف على مقدر ، وارتباط أَفَرَأَيْتَ إلخ بقولهم : هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ على نحو ما تقدم في الوجه السابق.
والثالث أن قوله تعالى : أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ متصل بما بعده غير مترتب على ما قبله وذلك أن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة. وأمن فقال عز وجل :
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل ثم قال سبحانه : هب أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم.
وعلى هذا يكون فَبِعَذابِنا إلخ عطفا على مقدر بلا خلاف نحو أيستهزئون فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 129
وقوله تعالى : أَفَرَأَيْتَ إلخ تعجبا من حالهم مترتبا على الاستهزاء والاستعجال ، والكلام نظير ما تقول لمخاطبك : هل تغتر بكثرة العشائر والأموال فاحسب أنها بلغت فوق ما تؤمل أليس بعده الموت وتركهما على حسرة.
وهذا الوجه أظهر من الوجه الذي قبله ، وأيا ما كان فقوله سبحانه : (بعذابنا) متعلق بيستعجلون قدم عليه للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به عذابه جل جلاله مع ما فيه على ما قيل من رعاية الفواصل.
وقرىء «يمتعون» من الامتاع وفي الآية موعظة عظيمة لمن له قلب. روي عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى المهلكة إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ قد أنذروا أهلها إلزاما للحجة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما ومُنْذِرُونَ مبتدأ ، والجملة في موضع الحال من قَرْيَةٍ قاله أبو حيان ثم قال :
الأعراب أن يكون لَها في موضع الحال وارتفع مُنْذِرُونَ بالجار والمجرور أي إلا كائنا لها منذرون فيكون من مجيء الحال مفردا لا جملة ، ومجيء الحال من المنفي كقولك ما مررت بأحد إلا قائما فصبح انتهى ، وفي الوجهين مجيء الحال من النكرة. وحسن ذلك على ما قيل عمومها لوقوعها في حيز النفي مع زيادة من قبلها ، وكأن هذا القائل جعل العموم مسوغا لمجيء الحال قياسا على جعلهم إياه مسوغا للابتداء بالنكرة لاشتراك العلة. وذهب الزمخشري إلى أن «لها منذرون» جملة في موضع الصفة لقرية ولم يجوز أبو حيان كون الجملة الواقعة بعد إلا صفة ثم قال :
مذهب الجمهور إنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو ما جاءني أحد إلا راكب وإذا سمع خرج على البدل أي إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت بأحد إلا قائما ولا يحفظ من كلامها ما مررت بأحد إلا قائم فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة لورد المفرد بعد إلا صفة لها فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد إلا نحو ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو فإن التقدير ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد انتهى فتذكر. وايا ما كان فضمير «لها» للقرية التي هي لما سمعت في معنى الجمع فكأنه قيل وما أهلكنا القرى إلا لها منذرون على معنى أن للكل منذرين أعم من أن يكون لكل قرية منها منذر واحد أو أكثر.
وقوله تعالى : ذِكْرى منصوب على الحال من الضمير في مُنْذِرُونَ عند الكسائي وعلى المصدر عند الزجاج فعلى الحال إما أن يقدر ذوي ذكرى أو يقدر مذكرين أو يبقى على ظاهره اعتبارا للمبالغة. وعلى المصدر فالعامل مُنْذِرُونَ لأنه في معنى مذكرون فكأنه قيل : مذكرون ذكرى أي تذكرة. وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولا له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. وأن يكون مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى ، والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى أو مذكرين أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها ، وجوز أيضا أن يكون متعلقا بأهلكنا على أنه مفعول له. والمعنى ما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم ثم قال :
وهذا هو الوجه المعول عليه. وبين ذلك في الكشف بقوله : لأنه وعيد للمستهزئين وبأنهم يستحقون أن يجعلوا نكالا وعبرة لغيرهم كالأمم السوالف حيث فعلوا مثل فعلهم من الاستهزاء والتكذيب فجوزوا بما جوزوا وحينئذ يتلاءم الكلام انتهى ، وتعقب بأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا له غير معتمد على الأداة والمفعول له ليس واحدا من هذه الثلاثة فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا. ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش وإن كانا لم ينصبا على المفعول له هنا وكان ذلك لما في نصبه عليه من التكلف وأمر الالتئام سهل كما لا يخفى وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي ليس شأننا أن يصدر عنا بمقتضى الحكمة ما هو في صورة الظلم لو صدر من

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 130
غيرنا بأن نهلك أحدا قبل إنذاره أو بأن نعاقب من لم يظلم. ولإرادة نفي أن يكون ذلك من شأنه عز شأنه قال : وَما كُنَّا دون وما نظلم وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ متعلق بقوله تعالى : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ إلخ وهو رد لقول مشركي قريش إن لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة وأن القرآن مما ألقاه إليه عليه الصلاة والسلام.
والتعبير بالتفعيل لأن النزول لو وقع لكان بالاستراق التدريجي ، وقرأ الحسن وابن السميقع «الشياطون» فقال أبو حاتم :
هو غلط من الحسن أو عليه ، وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين. وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية ، وقال الفراء : غلط الشيخ ظن أنها النون التي على هجائين ، وقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه ، وقال يونس بن حبيب.
سمعت أعرابيا يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن انتهى. ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين وقد قيل فيهما يبرون وفلسطون أجرى فيه نحو ما أجرى فيهما فقيل الشياطون.
وحقه على هذا على ما في الكشاف أن يشتق من الشيطوطة وهي الهلاك ، وفي البحر نقلا عن بعضهم إن كان اشتقاقه من شاط أي احترق يشيط شوطة كان لقراءتهما وجه. قيل : ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط وجمعه الشياطون فخففا الياء وقد روى عنهما التشديد وقرأ به غيرهما ، وقال بعض : إنه جمع شياط مصدر شاط كخاط خياطا كأنهما ردا الوصف إلى المصدر بمعناه مبالغة ثم جمعا والكل كما ترى ، وقال صاحب الكشف. لا وجه لتصحيح هذه القراءة البتة.
وقد أطنب ابن جني في تصحيحها ثم قال : وعلى كل حال فالشياطون غلط وأبو حيان لا يرضى بكونه غلطا ويقول :
قرأ به الحسن. وابن السميقع والأعمش ولا يمكن أن يقال. غلطوا لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان واللّه تعالى أعلم.
والذي أراه أنه متى صح رفع هذه القراءة إلى هؤلاء الأجلة لزم توجيهها فإنهم لا يقرؤون إلا عن رواية كغيرهم من القراء في جميع ما يقرؤنه عندنا ، وزعم المعتزلة أن بعض القراءات بالرأي.
وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي وما يصح وما يستقيم لهم ذلك وَما يَسْتَطِيعُونَ أي وما يقدرون على ذلك أصلا.
إِنَّهُمْ أي الشياطين عَنِ السَّمْعِ لما يتكلم به الملائكة عليهم السلام في السماء لَمَعْزُولُونَ أي ممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكنين كما يدل عليه قوله تعالى : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن : 8 ، 9] والمراد تعليل ما تقدم على أبلغ وجه لأنهم إذا كانوا ممنوعين عن سماع ما تتكلم به الملائكة في السماء كانوا ممنوعين من أخذ القرآن المجيد من اللوح المحفوظ أو من بيت العزة أو من سماعه إذ يظهره اللّه عز وجل لمن شاء في سمائه من باب أولى ، وقيل : المعنى إنهم لمعزولون عن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام لأنه مشروط بالمشاركة في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن الكريم مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة عليهم السلام ، وتعقب بأنه إن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام مطلقا مشروط بصفات هم متصفون بنقائضها فهو غير مسلم كيف وقد ثبت أن الشياطين كانوا يسترقون السمع وظاهر الآيات أنهم إلى اليوم يسترقونه ويخطفون الخطفة فيتبعهم شهاب ثاقب وأيضا لو كان ما ذكر شرطا للسمع وهو منتف فيهم فأي فائدة للحرس ومنعهم عن السمع بالرجوم.
وأيضا لو صح ما ذكر لم يتأت لهم سماع القرآن العظيم من الملائكة عليهم السلام سواء كان مشتملا على

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 131
الحقائق والمغيبات أم لا فما فائدة في قوله : والقرآن مشتمل إلخ إلى غير ذلك. وإن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام إذا كان وحيا منزلا على الأنبياء عليهم السلام مشروط بما ذكر فهو مع كونه خلاف ظاهر الكلام غير مسلم أيضا كيف وقد ثبت أن جبريل عليه السلام حين ينزل بالقرآن ينزل معه رصد حفظا للوحي من الشيطان وقد قال عز وجل : فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الجن : 26 - 28] وأيضا ظاهر العزل عن السمع يقتضي أنهم كانوا ممكنين منه قبل ثم منعوا عنه فيلزم على ما ذكر أنهم كانوا يسمعون الوحي من قبل مع أن نفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات فيبطل كون المشاركة المذكورة شرطا للسمع ، فإن ادعى أن الشرط كان موجودا إذ ذاك ثم فقد والتزم القول بجواز تغير ما بالذات فهو مما لم يقم عليه دليل وقياس جميع الشياطين على إبليس عليه اللعنة مما لا يخفى حاله فتدبر.
وبالجملة الذي أميل إليه في معنى الآية ما ذكرته أولا. وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ما يتعلق بذلك ، وجوز كون ضمير إِنَّهُمْ للمشركين. والمراد أنهم لا يصغون للحق لعنادهم ، وفي الآية شمة من قوله تعالى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة : 257] وهو بعيد جدا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 إلى 227]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ خوطب به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع استحالة صدور المنهي عنه عليه الصلاة والسلام تهييجا وحثا لازدياد الإخلاص فهو كناية عن أخلص في التوحيد حتى لا ترى معه عز وجل سواه. وفيه لطف لسائر المكلفين ببيان أن الإشراك من القبح والسوء بحيث ينهي عنه من لم يمكن صدوره عنه فكيف بمن عداه.
وكأن الفاء فصيحة أي إذا علمت ما ذكر فلا تدع مع اللّه إلها آخر وَأَنْذِرْ العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي ذوي القرابة القريبة أو الذين هم أكثر قربا إليك من غيرهم.
والعشيرة على ما قال الجوهري : رهط الرجل الأدنون. وقال الراغب هم أهل الرجل الذين يتكثر بهم أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل وهو العشرة. واشتهر أن طبقات الأنساب ست ، الأولى الشعب بفتح الشين وهو النسب الأبعد كعدنان ، الثانية القبيلة وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر الثالثة العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة الرابعة البطن وهو ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم الخامسة الفخذ وهو ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية السادسة الفصيلة وهي ما انقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس وبني عبد المطلب وليس دون الفصيلة إلا الرجل وولده.
وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 132
مقام العمارة في ذكرها بعد القبيلة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يحك ما يخالفه ولم يذكر في الترتيبين العشيرة ، وفي البحر أنها تحت الفخذ فوق الفصيلة ، والظاهر أن ذلك على الترتيب الأول.
وحكى بعضهم بعد أن نقل الترتيب المذكور عن النووي عليه الرحمة أنه قال في تحرير التنبيه : وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة ، ويفهم من كلام البعض أن العشيرة إذا وصفت بالأقرب اتخذت مع الفصيلة التي هي سادسة الطبقات ، وأنت تعلم أن الأقربية إذا كانت مأخوذة في مفهومها كما يفهم من كلام الجوهري تستغني دعوى الاتحاد عن الوصف المذكور.
وفي كليات أبي البقاء كل جماعة كثيرة من الناس يرجعون إلى أب مشهور بأمر زائد فهو شعب كعدنان ودونه القبيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب الشعب كربيعة ومضر ، ثم العمارة وهي ما انقسمت فيها أنساب القبيلة كقريش وكنانة ، ثم البطن وهي ما انقسمت فيها أنساب العمارة كبني عبد مناف. وبني مخزوم ، ثم الفخذ وهي ما انقسمت فيها أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية ثم العشيرة وهي ما انقسمت فيها أنساب الفخذ كبني العباس وبني أبي طالب والحي يصدق على الكل لأنه للجماعة المتنازلين بمربع منهم انتهى. ولم يذكر فيه الفصيلة وكأنه يذهب إلى اتحادها بالعشيرة ، ووجه تخصيص عشيرته صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم الأقربين بالذكر مع عموم رسالته عليه الصلاة والسلام دفع توهم المحاباة وأن الاهتمام بشأنهم أهم وأن البداءة تكون بمن يلي ثم من بعده كما قال سبحانه : قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة : 123] وفي كيفية الإنذار أخبار كثيرة ، منها ما
أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ [المسد : 1 ، 2]»
ومنها ما
أخرجه أحمد وجماعة عن أبي هريرة قال : «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قريشا وعم وخص فقال : يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا ألا إن لكم رحما وسأبلها ببلالها».
وجاء في بعض الروايات أنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم لما نزلت الآية جمع عليه الصلاة والسلام بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ثم أطلع عليهم فأنذرهم
، وجاء في بعض آخر منها أنه عليه الصلاة والسلام أمر عليا كرّم اللّه تعالى وجهه أن يصنع طعاما ويجمع له بني عبد المطلب ففعل وجمعهم وهم يومئذ أربعون رجلا فبعد أن أكلوا أراد صلّى اللّه عليه وسلّم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم فتفرقوا ثم دعاهم من الغد إلى مثل ذلك ثم بدرهم بالكلام فقال : يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من اللّه تعالى والبشير قد جئتكم بما لم يجىء به أحد جئتكم بالدنيا والآخرة ، فأسلموا تسلموا وأطيعوا تهتدوا
إلى غير ذلك من الأخبار والروايات وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الإنذار.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 133
ومن الروايات ما يتمسك به الشيعة فيما يدعونه في أمر الخلافة وهو مؤول أو ضعيف أو موضوع وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أمر له صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم بالتواضع على سبيل الاستعارة أو التمثيلية أو المجاز المرسل وعلاقته اللزوم ، ويستعمل في التكبر رفع الجناح وعلى ذلك جاء قول الشاعر :
وأنت الشهير بخفض الجناح فلا تك في رفعه أجدلا
ومِنَ قيل : بيانية لأن من اتبع في أصل معناه أعم ممن اتبع لدين أو غيره ففيه إبهام وبذكر المؤمنين المراد بهم المتبعون للدين زال ذلك ، وقيل : للتبعيض بناء على شيوع من اتبع فيمن اتبع للدين وحمل المؤمنين على من صدق باللسان ولو نفاقا ولا شك أن المتبعين للدين بعض المؤمنين بهذا المعنى ، وجوز أن يحمل على من شارف وإن لم يؤمن ولا شك أيضا أن المتبعين المذكورين بعضهم وفي الآية على القولين أمر بالتواضع لمن اتبع للدين.
وقال بعضهم : على تقدير كونها بيانية أن المؤمنين يراد بهم الذين لم يؤمنوا بعد وشارفوا لأن يؤمنوا كالمؤلفة مجاز باعتبار الأول وكان - من اتبعك - شائعا في من آمن حقيقة. ومن آمن مجازا فبين بقوله تعالى : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إن المراد بهم المشارفون أي تواضع للمشارفين استمالة وتأليفا ، وعلى تقدير كونها تبعيضية يراد بالمؤمنين الذين قالوا آمنا وهم صنفان : صنف صدق واتبع وصنف ما وجد منهم إلا التصديق فقيل : من المؤمنين وأريد بعض الذين صدقوا واتبعوا أي تواضع لبعض المؤمنين وهم الذين اتبعوك محبة ومودة. وعلى هذا يكون الذين أمر صلّى اللّه عليه وسلّم بالتواضع لهم على تقدير البيان غير الذي أمر عليه الصلاة والسلام بالتواضع لهم على تقدير التبعيض. وقال بعض الأجلة الاتباع والإيمان توأمان إذ المتبادر من اتباع عليه الصلاة والسلام اتباعه الديني وكذا المتبادر من الإيمان الإيمان الحقيقي ، وذكر مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لإفادة التعميم كذكر يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام : 38] بعد طائر في قوله تعالى : وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وتفيد الآية الأمر بالتواضع لكل من آمن من عشيرته صلّى اللّه عليه وسلّم وغيرهم.
وقال الطيبي : الإجراء على أفانين البلاغة أن يحمل الكلام على أسلوب وضع المظهر موضع المضمر وإن الأصل وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك منهم فعدل إلى المؤمنين ليعم ويؤذن أن صفة الإيمان هي التي يستحق أن يكرم صاحبها ويتواضع لأجلها من اتصف بها سواء كان من عشيرتك أو غيرهم وليس هذا بالبعيد لكني أختار كون من بيانية وإن عموم من اتبعك باعتبار أصل معناه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ بدأ صلّى اللّه عليه وسلّم بأهل بيته وفصيلته فشق ذلك على المسلمين فأنزل اللّه تعالى :
«واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين».
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ الظاهر أن الضمير المرفوع في عَصَوْكَ عائد على من أنذر صلّى اللّه عليه وسلّم بإنذارهم وهم العشيرة أي فإن عصوك ولم يتبعوك بعد إنذارهم فقل : إني بريء من عملكم أو الذي تعملونه من دعائكم مع اللّه تعالى إلها آخر ، وجوز أن يكون عائدا على الكفار المفهوم من السياق ، وقيل : هو عائد على من اتبع من المؤمنين أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم فقل : إني بريء مما تعملون من المعاصي أي أظهر عدم رضاك بذلك وإنكاره عليهم. وذكر على هذا أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لو أمر بالبراءة منهم ما بقي شفيعا للعصاة يوم القيامة ، والآية على غير هذا القول منسوخة.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : أمره سبحانه بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم ، وفي البحر هذه موادعة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 134
نسختها آية السيف وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ فهو سبحانه يقهر من يعصيك منهم ومن غيرهم بعزته وينصرك برحمته ، وتقديم وصف العزة قيل لأنه أوفق بمقام التسلي عن المشاق اللاحقة من القوم إليه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وجوز أن يكون ذلك لأن العزة كالعلة المصححة للتوكل والرحمة كالعلة الداعية إليه ، وفسره غير واحد بتفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على أن ينفعه ويضره. وقالوا : المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية للّه تعالى ، وذكر بعضهم أن هذا من أحط مراتب التوكل وأدناها ، ونقل عن بعض العارفين أنه فيما بين الناس على ثلاث درجات.
الأولى التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس ونفع الخلق وترك الدعوى ، والثانية التوكل مع إسقاط الطلب وغض العين عن السبب اجتهادا في تصحيح التوكل وقمع تشرف النفس تفرغا إلى حفظ الواجبات والثالثة التوكل مع معرفة التوكل النازعة إلى الخلاص من علة التوكل. وذلك أن يعلم أن اللّه تعالى لم يترك أمرا مهملا بل فرغ من الأشياء كلها وقدرها وشأنه سبحانه سوق المقادير إلى المواقيت ، فالمتوكل من أراح نفسه من كد النظر ومطالعة السبب سكونا إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين وهو أن يعلم أن الطلب لا ينفع والتوكل لا يمنع ومتى طلع بتوكله عوضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا وإذا خلص من رق الأسباب ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق اللّه تعالى كفاه اللّه تعالى كل مهم. وبين العلامة الطيبي إن في قوله تعالى : «وتوكل» إلخ إشارة إلى المراتب الثلاث بما فيه خفاء.
وفي مصاحف أهل المدينة والشام «فتوكل» بالفاء وبه قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وخرج على الإبدال من جواب الشرط. وجعل في الكشاف الفاء للعطف وما بعده معطوفا على فَقُلْ أو فَلا تَدْعُ وما ذكر أولا أظهر الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
أي إلى الصلاة وَتَقَلُّبَكَ أي ويرى سبحانه تغيرك من حال كالجلوس والسجود إلى آخر كالقيام فِي السَّاجِدِينَ أي فيما بين المصلين إذا أممتهم ، وعبر عنهم بالساجدين لأن السجود حالة مزيد قرب العبد من ربه عز وجل وهو أفضل الأركان على ما نص عليه جمع من الأئمة ، وتفسير هذه الجملة بما ذكر مروي عن ابن عباس وجماعة من المفسرين إلا أن منهم من قال : المراد حين تقوم إلى الصلاة بالناس جماعة ، وقيل : المعنى يراك حين تقوم للتهجد ويرى تقلبك أي ذهابك ومجيئك فيما بين المتهجدين لتتصفح أحوالهم وتطلع عليهم من حيث لا يشعرون وتستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت النحل لما سمع لها من دندنتهم بذكر اللّه تعالى والتلاوة. وعن مجاهد أن المراد بقوله سبحانه : وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ تقلب بصره عليه الصلاة والسلام فيمن يصلي خلفه فإنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم كان يرى من خلفه ،
ففي صحيح البخاري عن أنس قال : «أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري».
وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم كان يقول : «استووا استووا استووا والذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي»
ولا يخفى بعد حمل ما في الآية على ما ذكر.
وقيل : المراد بالساجدين المؤمنون ، والمعنى يراك حين تقوم لأداء الرسالة ويرى تقلبك وترددك فيما بين المؤمنين أو معهم فيما فيه إعلان أمر اللّه تعالى وإعلاء كلمته سبحانه ، وتفسير الساجدين بالمؤمنين مروي عن ابن عباس وقتادة إلا أن كون المعنى ما ذكر لا يخلو عن خفاء.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 135
وعن ابن جبير أن المراد بهم الأنبياء عليهم السلام ، والمعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك من الأنبياء عليهم السلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه وهو كما ترى ، وتفسير الساجدين بالأنبياء رواه جماعة منهم الطبراني والبزار وأبو نعيم عن ابن عباس أيضا إلا أنه رضي اللّه تعالى عنه فسر التقلب فيهم بالتنقل في أصلابهم حتى ولدته أمه عليه الصلاة والسلام ، وجوز على حمل التقلب على التنقل في الأصلاب أن يراد بالساجدين المؤمنون ، واستدل بالآية على إيمان أبويه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم كما ذهب إليه كثير من أجلة أهل السنة ، وأنا أخشى الكفر على من يقول فيهما رضي اللّه تعالى عنهما على رغم أنف على القارئ وأضرابه بضد ذلك إلا أني لا أقول بحجية الآية على هذا المطلب ، ورؤية اللّه تعالى انكشاف لائق بشأنه عز شأنه غير الانكشاف العلمي ويتعلق بالموجود والمعدوم الخارجي عند العارفين ، وقالوا : إن رؤية اللّه تعالى للمعدوم نظير رؤية الشخص القيامة ونحوها في المنام وكثير من المتكلمين أنكروا تعلقها بالمعدوم ، ومنهم من أرجعها إلى صفة العلم وتحقيق ذلك في محله ، وفي وصفه تعالى برؤيته حاله صلّى اللّه عليه وسلّم التي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بما تقدم تحقيق للتوكل وتوطين لقلبه الشريف عليه الصلاة والسلام عليه.
وقرأ جناح بن حبيش «ويقلّبك» مضارع قلب مشددا وخرج ذلك أبو حيان على العطف على يراك وجوز العطف على تَقُومُ.
وفي الكلام على هذه القراءة إشارة إلى وقوع تقلبه صلّى اللّه عليه وسلّم في الساجدين على وجه الكمال وكمال التقلب في الصلاة كونه بخشوع يغفل معه عما سوى اللّه تعالى إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بكل ما يصح تعلق السمع به ويندرج فيه ما يقوله صلّى اللّه عليه وسلّم الْعَلِيمُ بكل ما يصح تعلق العلم به ويندرج فيه ما يعمله أو ينويه عليه الصلاة والسلام ، وفي الجملة الاسمية إشارة إلى أنه سبحانه متصف بما ذكر أزلا وأبدا ولا توقف لذلك على وجود المسموعات والمعلومات في الخارج ، والحصر فيها حقيقي أي هو تعالى كذلك لا غيره سبحانه وتعالى.
وكأن الجملة متعلقة بالجملتين الواقعتين في حيز الجزاء جيء بها للتح ريض على القول السابق والتوكل ، وجوز أن تكون متعلقة بما في حيز الصلة والمراد منها التحريض على إيقاع الأقوال والأفعال التي في الصلاة على أكمل وجه فتأمل.
وقوله تعالى : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ إلخ مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد بيان امتناع تنزلهم بالقرآن ، وهذه الجملة وقوله تعالى : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ إلخ وقوله سبحانه :
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ إلخ أخوات وفرق بينهن بآيات ليست في معناهن ليرجع إلى المجيء بهن وتطرية ذكر ما فيهن كرة بعد كرة فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت عناية اللّه تعالى بها ، ومثاله أن يحدث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه ، والاستفهام للتقرير وعَلى مَنْ متعلق بتنزل قدم عليه لصدارة المجرور وتقديم الجار لا يضر كما بين في النحو ، وقال الزمخشري في ذلك : إن من متضمنة معنى الاستفهام وليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا معنى الاسم ومعنى الحرف وإنما معناه أن الأصل أمن فحذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه كما حذف من هل والأصل أهل كما قال :
سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
فإذا أدخلت حرف الجر على من فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك كأنك تقول : أعلى من تنزل الشياطين كقولك : أعلى زيد مررت اه. وتعقبه صاحب الفرائد بقوله : يشكل ما ذكر بقولهم : من أين أنت ومن أين جئت وقوله تعالى : مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس : 18] وقوله فيم : وبم ومم وحتام ونحوها. وأجاب صاحب

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 136
الكشف بأنه لا إشكال في نحو من أين أنت؟ لأن التقدير أمن البصرة أم من الكوفة مثلا ولا يخفى أنه لا يحتاج على ما حققه النحاة إلى جميع ذلك ، وجملة عَلى مَنْ تَنَزَّلُ إلخ في موضع نصب بأنبئكم لأنه معلق بالاستفهام وهي إما سادة مسد المفعول الثاني إن قدرت الفعل متعديا لاثنين ومسد مفعولين إن قدرته متعديا لثلاثة ، والمراد هل أعلمكم جواب هذا الاستفهام - أعني على من تنزل الشياطين - وأصل تنزل تتنزل فحذف إحدى التاءين. والكلام على معنى القول عند أبي حيان كأنه قيل : قل يا محمد هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أي كثير الإفك وهو الكذب أَثِيمٍ كثير الإثم ، وكُلِّ للتكثير وجوز أن تكون للإحاطة ولا بعد في تنزلها على كل كامل في الإفك والإثم كالكهنة نحو شق بن رهم بن نذير وسطيح بن ربيعة بن عدي ، والمراد بواسطة التخصيص في معرض البيان أو السياق أو مفهوم المخالفة عند القائل به قصر تنزلهم على كل من اتصف بما ذكر من الصفات وتخصيص له بهم لا يتخطاهم إلى غيرهم وحيث كانت ساحة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منزهة عن أن يحوم حولها شائبة شيء من تلك الأوصاف اتضح استحالة تنزلهم عليه عليه الصلاة والسلام يُلْقُونَ أي الأفاكون السَّمْعَ أي سمعهم إلى الشياطين ، وإلقاء السمع مجاز عن شدة الإصغاء للتلقي فكأنه قيل : يصغون أشد إصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون وَأَكْثَرُهُمْ أي الأفاكين كاذِبُونَ فيما يقولونه من الأقاويل ، والأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم وإنما هم في أكثرها كاذبون ومآله وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقين على الإطلاق ويلتزم لذلك كون الأكثر بمعنى الكل.
وليس معنى الأفاك من لا ينطق إلا بالإفك حتى يمتنع منه الصدق بل من يكثر الإفك فلا ينافيه أن يصدق نادرا في بعض الأحايين ، وجوز أن يكون السمع بمعنى المسموع وإلقاؤه مجاز عن ذكره أن يلقى الأفاكون إلى الناس المسموع من الشياطين وأكثرهم كاذبون فيما يحكون عن الشياطين ولم يرتضه بعضهم لبعده أو لقلة جدواه على ما قيل. واختلف في سبب كون أكثر أقوالهم كاذبة فقيل : هو بعد البعثة كونهم يتلقون منهم ظنونا وأمارات إذ ليس لهم من علم الغيب نصيب وهم محجوبون عن خبر السماء ولعدم صفاء نفوسهم قلما تصدق ظنونهم مع ذلك يضم الأفاكون إليها لعدم وفائها بمرادهم على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها الواقع ، وقبل البعثة إذ كانوا غير محجوبين عن خبر السماء وكانوا يسمعون من الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه من الأخبار الغيبية يحتمل أن يكون كثرة غلط الأفاكين في الفهم لقصور فهمهم عنهم ، ويحتمل أن يكون ضمهم إلى ما يفهمونه من الحق أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع ، ويحتمل أن يكون كثرة غلط الشياطين الذين يوجون إليهم في الفهم عن الملائكة عليهم السلام لقصور فهمهم عنهم ، ويحتمل أن يكون ضم الشياطين إلى ما يفهمونه من الحق من الملائكة عليهم السلام أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع ، ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر. وقيل : هو قبل البعثة يحتمل أن يكون أحد هذه الأمور وأما بعد البعثة فهو كثرة خلطهم الكذب فيما تخطفه الشياطين عند استراقهم السمع من الملائكة ويلقونه إليهم.
فقد أخرج البخاري ومسلم وابن مردويه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : «سأل أناس النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الكهان فقال : إنهم ليسوا بشيء فقالوا : يا رسول اللّه إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا قال : تلك الكلمة من الحق «1» يحفظها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة
، وقيل : هو قبل البعثة وبعدها كثرة
___________
(1) ورواية من الجن بجيم ونون بدله رواية صحيحة ا ه منه بزيادة.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 137
خلط الأفاكين الكذب فيما يتلقونه من الشياطين ، أما كثرته قبل البعثة فلظاهر الخبر المذكور ، وأما كثرته بعد البعثة فلما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية : كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتستمع ثم تنزل إلى الكهنة فتخبرهم فتحدث الكهنة بما أنزلت به الشياطين من السمع وتخلط به الكهنة كذبا كثيرا فيحدثون به الناس فأما ما كان من سمع السماء فيكون حقا وأما ما خلطوه به من الكذب فيكون كذبا ، ولا يخفى أن القول بأن الشياطين بعد البعثة يلقون ما يسترقونه من السمع إلى الكهنة غير مجمع عليه ، ومن القائلين به من يجوز أن يكون ضمير يُلْقُونَ في الآية راجعا إلى الشياطين ، والمعنى يلقي الشياطين المسموع من الملأ الأعلى قبل أن يرجموا من بعض المغيبات إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم ، إذ لا يسمعونهم على نحو ما تكلمت به الملائكة عليهم السلام لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم ، وقيل :
المعنى عليه ينصت الشياطين ويستمعون إلى الملأ الأعلى قبل الرجم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إلى أوليائهم بعد لشرارتهم أو لأنهم لا يسمعون في أنفسهم أو لا يسمعون أولياءهم بعد ذلك السمع كلام الملائكة عليهم السلام على وجهه ، وجملة يُلْقُونَ على تقدير كون الضمير للأفاكين صفة لِكُلِّ أَفَّاكٍ لأنه في معنى الجمع سواء أريد بإلقاء السمع الإصغاء إلى الشياطين أو إلقاء المسموع إلى الناس ، وجوز أن تكون استئنافا إخبارا لحالهم على كلا التقديرين لما أن كلا من تلقيهم من الشياطين وإلقائهم إلى الناس يكون بعد التنزل ، واستظهر تقدير المبتدأ على هذا ، وأن تكون استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل : ما يفعلون عند تنزل الشياطين أو ما يفعلون بعد تنزلهم؟ فقيل : يلقون إليهم أسماعهم ليحفظوا ما يوحون به إليهم أو يلقون ما يسمعونه منهم إلى الناس ، وجوز أن تكون حالا منتظرة على التقديرين أيضا.
وهي على تقدير كون الضمير للشياطين ، والمعنى ما سمعت أولا قيل : تحتمل أن تكون استئنافا مبينا للغرض من التنزل مبنيا على السؤال عنه كأنه قيل لم تنزل عليهم؟ فقيل : يلقون إليهم ما سمعوه ، وأن تكون حالا منتظرة من ضمير الشياطين أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما يسمعونه من الملأ الأعلى إليهم وعلى ذلك التقدير والمعنى ما سمعت ثانيا قيل : لا يجوز أن تكون استئنافا نظير ما ذكر آنفا ولا أن تكون حالا أيضا لأن الفاء السمع بمعنى الإنصات مقدم على التنزل المذكور فكيف يكون غرضا منه أو حالا مقارنة أو منتظرة ويتعين كونها استئنافا للإخبار بحالهم.
وتعقب بأنه غير سديد لأن ذكر حالهم السابقة على تنزلهم المذكور قبله غير خليق بجزالة التنزيل ، ومن هنا قيل : إن جعل الضمير للشياطين وحمل إلقاء السمع على إنصاتهم وتسمعهم إلى الملأ الأعلى مما لا سبيل إليه وفيه نظر ، وجملة أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ استئنافية أو تحتمل الاستئنافية والحالية ، هذا واعلم أن هاهنا إشكالا واردا على بعض الاحتمالات في الآية لأنها عليه تفيد أن الشياطين يسمعون من الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه ويلقونه إلى الأفاكين. وقد تقدم ما يدل على منعهم عن السمع أعني قوله تعالى : إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء : 212].
وأجيب بأن المراد بالسمع فيما تقدم السمع المعتد به وفيما هاهنا السمع في الجملة ويراد به الخطفة المذكورة في قوله سبحانه : إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ [الصافات : 10] والكلمة المذكورة في خبر الصحيحين وابن مردويه السابق آنفا ، واعترض بأن من خطف لا يبقى حيا إلى أن يوصل ما خطفه إلى وليه لظاهر قوله تعالى : إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ فإن ظاهره أنه يهلك بالشهاب الذي لحقه.
وأجيب بأن نفي بقائه حيا غير مسلم ، ولا نسلم أن الآية ظاهرة فيما ذكر إذ ليس فيها أكثر من اتباع الشهاب

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 138
الثاقب إياه وهو يحتمل الزجر كما يحتمل الإهلاك فليرد اتباعه للزجر مع بقائه حيا فإن الخبر المذكور يقتضي بقاءه كذلك. وجاء عن ابن عباس أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السماوات وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون إلى الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلّى اللّه عليه وسلّم منعوا من السماوات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب وهو الشعلة من النار فلا يخطىء أبدا فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البراري ، وقيل : إن المراد بالسمع فيما تقدم سمع الوحي وفيما هنا سمع المغيبات غيره وهم غير ممنوعين عنه قبل البعثة وبعدها ، وهذا مأخوذ من كلام عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة تاريخه التي لم ينسج على منوالها وإن كان للطعن فيها مجال قال : إن الآيات إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة ولم يمنعوا مما سوى ذلك ، بل ربما يقال : إن في كلامه بعد إشعارا ما بأن المنع إنما كان بين يدي النبوة فقط. لا قبل ذلك ولا بعده.
ولا يخفى أن الظواهر تشهد بمنعهم مطلقا إلى يوم القيامة ، بل قد يدعي أن في الآيات ما يدل على أن حفظ السماء بالكواكب لم يحدث وإن خلقها لذلك وهو ظاهر في أنهم كانوا ممنوعين أيضا قبل ولادته صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم من خبر السماء ، ويشكل هذا على ظاهر العزل إلا أن يدعي أن المنع قبل لم يكن بمثابة المنع بعد فالعزل عما كان يجعل المنع شديدا بالنسبة إليه. وفي اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر لمولانا عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة الصحيح أن الشياطين ممنوعون من السمع منذ بعث رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم إلى يوم القيامة وبتقدير استراقهم فلا يتوصلون إلى الإنس ليخبروهم بما استرقوه بل تحرقهم الشهب وتفنيهم انتهى.
قيل ويلزم القائلين بهذا حمل ما في خبر الصحيحين على كهان كانوا قبل البعثة وقد أدركهم السائلون وهو الذي يقتضيه كلام القاضي أيضا. فقد نقل النووي عنه في شرحه صحيح مسلم أنه قال : كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب ، أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث نبينا صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم إلى آخر ما قال. وهو ظاهر كلام البوصيري حيث يقول :
بعث اللّه عند مبعثه الشه ب حراسا وضاق عنها الفضاء
تطرد الجن عن مقاعد للسم ع كما يطرد الذئب الرعاء
فمحت آية الكهانة آيا ت من الوحي ما لهن انمحاء
وقد قيل في الجواب عن الإشكال نحو هذا وهو أن تنزل الشياطين وإلقاءهم ما يسمعونه من السماء إلى أوليائهم حسبما تفيده الآية المذكورة في أحد محاملها إنما كان قبل البعثة حيث لم يكن حينئذ منع أو كان لكنه لم يكن شديدا. والمنع من السمع الذي يفيده قوله تعالى : إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ إنما كان بعد البعثة وكان على أتم وجه ، وهذا مشكل عندي بابن الصياد وما كان منه فإنهم عدوه من الكهان ، وقد صح أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام حين سأله عن أمره : يأتيني صادق وكاذب وأن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم امتحنه فأضمر له آية الدخان وهي قوله تعالى : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدخان : 10] وقال صلّى اللّه عليه وسلم : خبأت لك خبأ
فقال ابن الصياد : هو الدخ أي الدخان وهي لغة فيه كما ذهب إليه الجمهور
فقال له النبيّ صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «اخسأ فلن تعدو قدرك».
وقد قال القاضي كما نقل النووي عنه أيضا : أصح الأقوال إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها النبي عليه الصلاة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 139
والسلام إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ويدل عليه
قوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «اخسأ فلن تعدو قدرك»
أي القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء وما لا يبين منه حقيقته ولا يصل به إلى بيان وتحقيق أمور الغيب ، وقد يقال في دفع هذا الإشكال : إن ابن الصياد كان من الضرب الثاني من الكهان وهم الذين تخبرهم الشياطين بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنهم مما قرب أو بعد ، والصحيح جواز وجودهم بعد البعثة خلافا للمعتزلة وبعض المتكلمين حيث قالوا باستحالة وجود هذا الضرب ، وكذا الضرب السابق آنفا ، وأنه يحتمل أن يكون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد أسر إلى بعض أصحابه الذين كانوا معه ما أضمره أو كانت سورة الدخان مكتوبة في يده صلّى اللّه عليه وسلّم أو كتب الآية وحدها في يده عليه الصلاة والسلام ، وكلا القولين الأخيرين حكاهما الداودي عن بعض العلماء كما في شرح صحيح مسلم.
وأيا ما كان يكون ابن الصياد قد أخبر بأمر طارئ تطلع عليه الشياطين بدون استراق السمع من السماء وليس ذلك من الإطلاع على ما في القلب في شيء ، ومع ذلك لم يخبر به تاما بل أخبر به على نحو إخبار الكهان السابقين على زمن البعثة الذين هم من الضرب الأول في النقص.
ولعل مراد القاضي بقوله : إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها صلّى اللّه عليه وسلّم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف إلخ تشبيه حاله مع أنه من الضرب الثاني بحال من تقدمه من الكهان الذين هم من الضرب الأول وإلا لأشكل كلامه هذا مع ما نقلناه عنه أولا كما لا يخفى ، وكأنه يقول برجم المسترقين للسمع قبل البعثة أيضا إلا أنه لم يكن بمثابة ما كان بعد البعثة ، وقد ذهب إلى هذا جمع من المحدثين.
ومن الناس من قال : إن الشيطان إذا خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب ألقى ما يخطفه إلى من تحته قبل أن يدركه الشهاب ثم إن من تحته يوصل ذلك إلى الكاهن ولا يكاد يصح ذلك ، وقيل : إن ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة بعد البعثة هو ما يسمعونه من الملائكة عليهم السلام في العنان وهو المراد بقوله تعالى : يُلْقُونَ السَّمْعَ وما هم ممنوعون عنه هو السمع من الملائكة عليهم السلام في السماء وهو المراد بقوله تعالى : إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ واستدل لذلك بما
أخرجه البخاري وابن المنذر عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر في الأرض فيسمع الشيطان الكلمة فيقرها في أذن الكاهن كما يقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة
، ولا يخفى أنه ليس في الخبر تعرض للسمع من الملائكة عليهم السلام في السماء بالمعنى المعروف لا نفيا ولا إثباتا ، وقد يختار القول بأن الشياطين إنما منعوا بعد البعثة عن سمع ما يعتد به من علم الغيب من ملائكة السماء أو العنان ومن خطف خطفة يعتد بها من ذلك اتبعه الشهاب وأهلكه ولم يدعه يوصلها بوجه من الوجوه إلى الكهنة ، وأما سمع ما لا يعتد به فقد يقع لهم ويوصلونه إلى الكهنة فيخلطون به من الكذب ما يخلطون ، فحيث حكم عليهم بالعزل عن السمع أريد بالسمع السمع الكامل المعتد به وحيث حكم عليهم بإلقاء السمع أريد بالسمع السمع في الجملة وأدنى ما يصدق عليه أنه سمع ، والظاهر أن ما حصل لابن الصياد كان من هذا السمع ولا يكاد يعدل عن ذلك ، ويقال : إنه كان من الضرب الثاني للكهانة إلا إن ثبت أحد الشقوق الثلاثة وفي ثبوت ذلك كلام ، نعم
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «خبأت»
ظاهر في أن هناك ما يخبأ في كف أو كم أو نحوهما والآية ما لم تكتب لا تكون كذلك ، ولهذا احتاج القائلون بأنه صلّى اللّه عليه وسلّم إنما أضمر له الآية في قلبه إلى تأويل خبأت بأضمرت. ويمكن أن يقال على بعد : إن الشياطين قد منعوا بعد البعثة عن السمع مطلقا بالشهب المحرقة لهم ، وإرجاع ضمير يُلْقُونَ إلى الشياطين ضعيف لأن المقام في بيان من يتنزلون عليه لا بيان حالهم أو إلقاء سمعهم بمعنى إصغائهم إلى الملأ الأعلى وأَكْثَرُهُمْ

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 140
بمعنى كلهم والتعبير به للإشارة إلى أن الأكثرية المذكورة كافية في المقصود. والمراد يصغون ليسمعوا فلا يسمعون إلا أنه أقيم وأكثرهم كاذبون مقام لا يسمعون أو إلقاء السمع بمعنى إلقاء ما يسمعه الناس من الأفاكين إليهم ولا يلزم من ذلك أن يكونوا سمعوه من الملائكة عليهم السلام إذ يجوز أن يكونوا اخترعوه من عند أنفسهم ظنا وتخمينا وألقوه إلى أوليائهم ولا يبعد صدقهم في بعضه. والأمر في تسميته مسموعا هين. وما ورد في حديث الصحيحين وابن مردويه محمول على ما كان قبل البعثة ، ويقال : إنهم كانوا يسمعون في الجملة وقد يحمل ما في الآية على ذلك وإليه ذهب بعضهم ، وحمل خطف الكلمة فيه على حدسها بواسطة بعض الأوضاع الفلكية ونحو ذلك ليجوز اعتبار كونه بعد البعثة مما لا أظن أحدا يرتضيه ، وليس في قصة ابن الصياد ما هو نص في أن ما قاله كان عن سمع من الملائكة عليهم السلام ألقاه الشيطان إليه. وكأني بك تستبعد تحدث الملائكة عليهم السلام في السماء بما أضمره صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وصعود الشياطين حين السؤال من غير ريث واستراقهم ونزولهم في أسرع وقت بما أجاب به ابن الصياد وما هو إلا ضرب من ضروب الكهانة.
وتحقيق أمرها على ما ذكره الفاضل عبد الرحمن بن خلدون أن للنفس الإنسانية استعدادا للانسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها. ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الأتقياء بما فطروا عليه من ذلك ولا يحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور ويعطي التقسيم العقلي إن هاهنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل وهو صنف من البشر مفطور على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عند ما يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه فيتشبث لأعمال الحيلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوان وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان ويديم ذلك الإحساس والتخيل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها الجزئيات أكثر من إدراكها الكليات وتكون مشتغلة بها غافلة عن الكليات ولذلك كثيرا ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة وهي لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني ، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوي في الجملة على ذلك الانسلاخ الناقص فيهجس في قلبه من تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذف على لسانه وربما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم أمر نقصه بأجنبي عن ذات المدارك ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعا ويكون غير موثوق به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصا على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويها على السائلين ، ولما كان انسلاخ النبي عليه
الصلاة والسلام عن البشرية واتصاله بالملأ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي كان صادقا في جميع ما يأتي به وكان الصدق من خواص النبوة ، ولهذا
قال صلّى اللّه عليه وسلّم لابن الصياد حين سأله كاشفا عن حاله بقوله عليه الصلاة والسلام : «كيف يأتيك هذا الأمر؟ فقال : يأتيني صادق وكاذب : خلط عليك الأمر»
يريد عليه الصلاة والسلام نفي النبوة عنه بالإشارة إلى أنها مما لا يعتبر فيه الكذب بحال ، وإنما قيل : أرفع أحوال هذا الصنف السجع لأن معين السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات وتدل خفة المعين على قرب ذلك الانسلاخ والاتصال والبعد فيه عن العجز في الجملة ، ولا انحصار لعلوم الكهان فيما يكون من الشياطين بل كما تكون من الشياطين تكون من أنفسهم بانسلاخها انسلاخا غير تام واتصالها في الجملة بواسطة بعض الأسباب بعالم لا تحجب عنه الحوادث

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 141
المستقبلة وغيرها فانقطاع خبر السماء بعد البعثة عن الشياطين بالرجم إن سلم لا يدل على انقطاع الكهانة.
ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة ولا يصدهم عن الإيمان ويدعوهم إلى العناد إلا وساوس المطامع بحصول النبوة لهم كما وقع لامية ابن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يكون نبيا وكذا وقع لابن الصياد ومسيلمة وغيرهما ، وربما تنقطع تلك الأماني فيؤمنون أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي.
وقارب بن الأسود وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الإيمان ، وذكر في بيان استعداد بعض الأشخاص أعم من أن يكونوا كهانا أو غيرهم للإخبار بالأمور الغيبية قبل ظهورها كلاما طويلا ، حاصلة أن النفس الإنسانية ذات روحانية ولها بذاتها الإدراك من غير واسطة لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها لأن الحواس أبدا جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الإدراك الجسماني وربما تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إما بالخاصة التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصة الموجودة في بعض الأشخاص كالكهنة أهل السجع وأهل الطرق بالحصى والنوى والناظرين في الأجسام الشفافة من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وقد يلحق بهم المجانين أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود وتلك الذوات إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علما ، وربما وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المتعادة ثم تراجع الحس بما أدركت إما مجردا أو في قوالبه فتخبر به انتهى ، ولا يخفى أن فيه ذهابا إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى وكثيرا ما يسمونه عالم المجردات وقد يسمونه عالم العقول وهي محصورة في المشهور عنهم في عشرة ولا دليل لهم على هذا الحصر ولذا قال بعض متأخريهم بأنها لا تكاد تحصى ، وللمتكلمين والمحققين من السلف في ذلك كلام لا يتسع هذا الموضع لذكره ، وأنا أقول ولا ينكره إلا جهول : للّه عز وجل خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ولا يبعد بعد انقطاع خبر السماء عن الشياطين بالرجم أن يجعل لبعض النفوس الإنسانية خاصية التكلم
بما يصدق كلا أو بعضا مع اطلاع وكشف يفيد العلم بما أخبر به أو بدون ذلك بأن ينطقه سبحانه بشيء فيتكلم به من غير علم بالمخبر به ويوافق الواقع.
وقد اتفق لي ذلك وعمري نحو خمس سنين وذلك أني رجعت من الكتاب إلى البيت وشرعت ألعب فيه على عادة الأطفال فنهتني والدتي رحمها اللّه تعالى عن ذلك وأمرتني بالنوم لأستيقظ صباحا فأذهب إلى الكتاب فقلت لها :
غدا يقتل الوزير ولا أذهب إلى الكتاب وهو مما لا يكاد يمر بفكر فلم تلتفت إلى ذلك وأنامتني فلما أصبحت تأهبت للذهاب فجاء ابن أخت لها وأسر إليها كلاما لم أسمعه فتغير حالها ومنعتني عن الذهاب ولا أدري لم ذلك فأردت الخروج إلى الدرب لألعب مع أمثالي فمنعتني أيضا فقعدت وهي مضطربة البال تطلب أحدا يخبرها عن حال والدي عليه الرحمة حيث ذهب قبيل طلوع الشمس إلى المدرسة فخرجت إلى الدرب على حين غفلة منها فوجدت الناس بين راكض ومسرع يتحدثون بأن الوزير قتله بعض خدمه وهو في صلاة الفجر فرجعت إليها مسرعا مسرورا بصدق كلامي وكنت قد أنسيته ولم يخطر ببالي حتى سمعت الناس يتحدثون بذلك. وفي اليواقيت والجواهر للشعراني عليه الرحمة في بحث الفرق بين المعجزة والكهانة أن الكهانة كلمات تجري على لسان الكاهن ربما توافق وربما تخالف وفيه شمة مما ذكرنا هذا واللّه تعالى أعلم.
والظاهر على ما قيل أن قوله تعالى : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ إلخ كلام مسوق منه تعالى لبيان تنزيه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن أن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 142
يكون وحاشاه ممن تنزل عليه الشياطين وإبطال لقولهم في القرآن إنه من قبيل ما يلقى إلى الكهنة ، وفي البحر ما هو ظاهر في أنه على معنى القول أي قل يا محمد هل أنبئكم إلخ وهو مسوق للتنزيه والإبطال المذكورين ، وقوله تعالى :
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ مسوق لتنزيهه عليه الصلاة والسلام أيضا عن أن يكون وحاشاه من الشعراء وإبطال زعم الكفرة أن القرآن من قبيل الشعر. والمتبادر منه الكلام المنظوم المقفى ولذلك قال كثير من المفسرين : إنهم رموه عليه الصلاة والسلام بكونه آتيا بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن مما يكون موزونا بأدنى تصرف كقوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [الإسراء : 33] ويكون بهذا الاعتبار شطرا من الطويل وكقوله سبحانه :
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى [القصص : 76] ويكون من «1» المديد ، وكقوله عز وجل : فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف : 25] ويكون من البسيط ، وقوله تبارك وتعالى : أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هود : 60] ويكون من الوافر ، وقوله جل وعلا : صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب : 56] ويكون من الكامل إلى غير ذلك مما استخرجوه منه من سائر البحور ، وقد استخرجوا منهما يشبه البيت التام كقوله تعالى : وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة : 14].
وتعقب ذلك بأنهم لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به صلّى اللّه عليه وسلّم إذ لا يخفى على الأغبياء من العجم فضلا عن بلغاء العرب إن القرآن الذي جاء به صلّى اللّه عليه وسلّم ليس على أساليب الشعر وهم ما قالوا فيه عليه الصلاة والسلام شاعر إلا لما جاءهم بالقرآن واستخراج ما ذكر ونحوه منه ليس إلا لمزيد فصاحته وسلاسته ولم يؤت به لقصد النظم. ولو اعتبر في كون الكلام شعرا إمكان استخراج كلام منظوم منه لكان كثير من الأطفال شعرا. فإن كثيرا من كلامهم يمكن فيه ذلك ، والظاهر أنهم إنما قصدوا رميه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم بأنه وحاشاه ثم حاشاه يأتي بكلام مخيل لا حقيقة له ، ولما كان ذلك غالبا في الشعراء الذين يأتون بالمنظوم من الكلام عبروا عنه عليه الصلاة والسلام بشاعر وعما جاء به بالشعر ، ومعنى الآية والشعراء يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن الحائرون فيما يأتون وما يذرون ولا يستمرون على وتيرة واحدة في الأفعال والأقوال والأحوال لا غيرهم من أهل الرشد المهتدين إلى طريق الحق الثابتين عليه ، والحصر مستفاد من بناء يَتَّبِعُهُمُ إلخ على الشعراء عند الزمخشري كما قرره في تفسير قوله تعالى : اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة : 15] وقوله سبحانه : وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [المزمل : 20] ومن لا يرى الحصر في مثل هذا التركيب يأخذه من الوصف المناسب أعني أن الغواية جعلت علة للاتباع فإذا انتفت انتفى وقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له. والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية للإشارة إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا يختص برؤيته راء دون راء.
وضمير الجمع للشعراء أي ألم تر أن الشعراء في كل واد من أودية القيل والقال وفي كل شعب من شعاب الوهم والخيال وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال يهيمون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين من السبل بل يتحيرون في سباسب الغواية والسفاهة ويتيهون في تيه الصلف والوقاحة ديدنهم تمزيق الأعراض المحمية والقدح في الأنساب الطاهرة السنية والنسيب بالحرم والغزل والابتهار والتردد بين طرفي الإفراط والتفريط في المدح والهجاء وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ من الأفاعيل غير مكترثين بما يستتبعه من اللوم فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ويلحق بهم وينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة
___________
(1) قوله من المديد كذا بخطه وهو من الخفيف كما لا يخفى اه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 143
واتصف بمحاسن الصفات الجليلة وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة وحاز جميع الكمالات القدسية وفاز بجملة الملكات السنية الإنسية مستقرا على أقوم منهاج مستمرا على صراط مستقيم لا يرى له العقل السليم من هاج ناطقا بكل أمر رشيد داعيا إلى صراط اللّه تعالى العزيز الحميد مؤيدا بمعجزات قاهرة وآيات ظاهرة مشحونة بفنون الحكم الباهرة وصنوف المعارف الباهرة مستقلة بنظم رائق وأسلوب فائق أعجز كل منطيق ماهر وبكت كل مفلق ساحر ، هذا وقد قيل في تنزيهه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم عن أن يكون من الشعراء : إن اتباع الشعراء الغاوون واتباعه عليه الصلاة والسلام ليسوا كذلك. وتعقب بأنه لا ريب في أن تعليل عدم كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم منهم بكون اتباعه عليه الصلاة والسلام غير غاوين مما لا يليق بشأنه العالي ، وقيل : ضمير الجمع للغاوين ، وتعقب بأن المحدث عنهم الشعراء ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الغاوين هم الرواة الذين يحفظون شعر الشعراء ويروونه عنهم مبتهجين به. وفي رواية أخرى عنه أنهم الذين يستحسنون أشعارهم وإن لم يحفظوها ، وعن مجاهد وقتادة أنهم الشياطين.
وروي عن ابن عباس أيضا أن الآية نزلت في شعراء المشركين عبد اللّه بن الزبعري وهبيرة بن وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة الجمحي وأمية بن أبي الصلت قالوا : نحن نقول مثل قول محمد وكانوا يهجونه ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم وهم الغاوون الذين يتبعونهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا أنه قال : تهاجى رجلان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فأنزل اللّه تعالى وَالشُّعَراءُ الآيات وفي القلب من صحة الخبر شيء ، والظاهر من السياق أنها نزلت للرد على الكفرة الذين قالوا في القرآن ما قالوا.
وقرأ عيسى بن عمرو «الشعراء» بالنصب على الاشتغال. وقرأ السلمي والحسن بخلاف عنه «يتبعهم» مخففا.
وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو «يتّبعهم» بالتشديد وتسكين العين تخفيفا وقد قالوا : عضد بسكون الضاد فغيروا الضمة واقعة بعد الفتحة فلأن يغيروها واقعة بعد الكسرة أولى ، وروى هارون فتح العين عن بعضهم ، واستشكله أبو حيان ، وقيل : إنه للتخفيف أيضا ، واختياره على السكون لحصول الغرض به مع أن فيه مراعاة الأصل في الجملة لما بين الحركتين من المشاركة الجنسية ولا كذلك ما بين الضم والسكون وهو غريب كما لا يخفى.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر اللّه عز وجل ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على اللّه سبحانه وتعالى والحث على الطاعة والحكمة والموعظة والزهد في الدنيا والترهيب عن الركون إليها والاغترار بزخارفها والافتتان بملاذها الفانية والترغيب فيما عند اللّه تعالى ونشر محاسن رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ومدحه وذكر معجزاته ليتغلغل حبه في سويداء قلوب السامعين وتزداد رغباتهم في اتباعه ونشر مدائح آله وأصحابه وصلحاء أمته لنحو ذلك ولو وقع منهم في بعض الأوقات هجو وقع بطريق الانتصار ممن هجاهم من غير اعتداء ولا زيادة كما يشير إليه قراءة بعضهم «وانتصروا بمثل ما ظلموا» ، وقيل : المراد بالمستثنين شعراء المؤمنين الذين كانوا ينافحون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويكافحون هجاة المشركين ، واستدل لذلك بما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة إن هذه الآية نزلت في رهط من الأنصار هاجوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، منهم كعب بن مالك وعبد اللّه بن رواحة وحسان بن ثابت وعن السدي نحوه ، وبما
أخرج جماعة عن أبي حسن سالم البراد أنه قال : لما نزلت وَالشُّعَراءُ الآية جاء عبد اللّه بن رواحة وحسان بن ثابت

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 144
وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا : يا رسول اللّه لقد أنزل اللّه تعالى هذه الآية وهو يعلم أنّا شعراء هلكنا فأنزل اللّه تعالى : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ فدعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتلاها عليهم.
وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قرأ قوله تعالى : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخر الصفات فقال : هم أبو بكر وعمر وعلي وعبد اللّه بن رواحة ولعله من باب الاقتصار على بعض ما يدل عليه اللفظ فقد جاء عنه في بعض الروايات ما يشعر بالعموم ، هذا واستدل بالآية على ذم الشعر والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم انتصارا كذا قيل. واعلم أن الشعر باب من الكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، وفي الحديث : «إن من الشعر لحكمة»
وقد سمع رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم الشعر وأجاز عليه وقال عليه الصلاة والسلام لحسان رضي اللّه تعالى عنه : - اهجهم - يعني المشركين فإن روح القدس سيعينك ، وفي رواية «اهجهم وجبريل معك».
وأخرج ابن سعد عن ابن بريدة أن جبريل عليه السلام أعان حسانا على مدحته النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بسبعين بيتا ، وأخرج أحمد والبخاري في التاريخ وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم إن اللّه تعالى أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل
، وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين «قال : رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم ليلة وهم في سفر أين حسان بن ثابت فقال : لبيك يا رسول اللّه وسعديك قال : خذ فجعل ينشده ويصغي إليه حتى فرغ من نشيده فقال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : لهذا أشد عليهم من وقع النبل»
، ويروى عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم بني لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ينشد عليه الشعر
. وأخرج الديلمي عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم اللّه تعالى أن يقولوا شعرا يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار
، وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين الشعر ، وكذا كثير من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، فمن شعر أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه :
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث أرقت وأمر في العشيرة حادث
ترى من لؤي فرقة لا يصدها عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا عليه وقالوا لست فينا بماكث
ولما دعوناهم إلى الحق أدبروا وهروا هرير المجحرات اللواهث
فكم قد مثلنا فيهم بقرابة وترك التقى شيء لهم غير كارث
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم فما طيبات الحل مثل الخبائث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم فليس عذاب اللّه عنهم بلابث
ونحن أناس من ذؤابة غالب لنا العز منها في الفروع الأثائث
فأولى برب الراقصات عشية حراجيج تخدي في السريح الرثائث
كأدم ظباء حول مكة عكف يردن حياض البئر ذات النبائث
لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم ولست إذا آليت يوما بحانث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق تحرم أطهار النساء الطوامث

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 145
تغادر قتلى يعصب الطير حولهم ولا ترأف الكفار رأف ابن
حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة وكل كفور يبتغي الشر
باحث فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم فإني من أعراضكم غير شاعث
ومن شعر عمر رضي اللّه تعالى عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة :
توعدني كعب ثلاثا يعدها ولا شك أن القول ما قاله كعب
وما بي خوف الموت إني لميت ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب
وقوله ويروى للأعور الثني :
هون عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيها ولا قاصر عنك مأمورها
ومنه وقد لبس بردا جديدا فنظر الناس إليه ، ويروى لورقة بن نوفل من أبيات :
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه والخلد حاوله عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والإنس والجن فيما بينها ترد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوما كما وردوا
ومن شعر عثمان رضي اللّه تعالى عنه :
غنى النفس يغني النفس حتى يكفها وإن عضها حتى يضر بها الفقر
ومن شعر علي كرّم اللّه تعالى وجهه وكان مجودا حتى قيل : إنه أشعر الخلفاء رضي اللّه تعالى عنهم يذكر همدان ونصرهم إياه في صفين :
ولما رأيت الخيل تزحم بالقنا نواصيها حمر النحور دوامي وأعرض نقع في السماء كأنه عجاجة دجن ملبس بقتام ونادى ابن هند في الكلاع وحمير وكندة في لخم وحي جذام تيممت همدان الذين هم هم إذا ناب دهر جنتي وسهامي فجاوبني من خيل همدان عصبة فوارس من همدان غير لئام فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام فلو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقد جمعوا ما نسب إليه رضي اللّه تعالى عنه من الشعر في ديوان كبير ولا يصح منه إلا اليسير ، ومن شعر ابنه الحسن رضي اللّه تعالى عنهما ، وقد خرج على أصحابه مختضبا :
نسود أعلاها وتأبى أصولها فليت الذي يسود منها هو الأصل
ومن شعر الحسين رضي اللّه تعالى عنه وقد عاتبه أخوه الحسن رضي اللّه تعالى عنه في امرأته :
لعمرك إنني لأحب دارا تحل بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل جل مالي وليس للائمي عندي عتاب

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 146
ومن شعر فاطمة رضي اللّه تعالى عنها قالته يوم وفاة أبيها عليه الصلاة والسلام :
ماذا على من شم تربة أحمد أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت عليّ مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن لياليا
ومن شعر العباس رضي اللّه تعالى عنه يوم حنين يفتخر بثبوته مع رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم :
ألا هل أتى عرسي مكري وموقفي بوادي حنين والأسنة تشرع
وقولي إذا ما النفس جاشت لها قرى وهام تدهدى والسواعد تقطع
وكيف رددت الخيل وهي مغيرة بزوراء تعطي باليدين وتمنع
نصرنا رسول اللّه في الحرب سبعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
ومن شعر ابنه عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما :
إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى وأعمل فكر الليل والليل عاكر
وباكرني في حاجة لم يجد لها سواي ولا من نكبة الدهر ناصر
فرجت بمالي همه من مقامه وزايله هم طروق مسامر
وكان له فضل عليّ بظنه بي الخير أني للذي ظن شاكر
وهلم جرا إلى حيث شئت ، وليس من بني عبد المطلب كما قيل رجالا ولا نساء من لم يقل الشعر حاشا النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلّم ليكون ذلك أبلغ في أمره عليه الصلاة والسلام ، ولأجلة التابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وفقهاء المسلمين شعر كثير أيضا ، ومن ذلك قول الشافعي رضي اللّه تعالى عنه :
ومتعب العيس مرتاح إلى بلد والموت يطلبه في ذلك البلد
وضاحك والمنايا فوق هامته لو كان يعلم غيبا مات من كمد
من كان لم يؤت علما في بقاء غد فما «1» يفكر في رزق لبعد غد
والاستقصاء في هذا الباب يحتاج إلى إفراده بكتاب وفيما ذكر كفاية ، وقد مدحه أيضا غير واحد من الأجلة فعن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب ، وعن علي كرّم اللّه تعالى وجهه الشعر ميزان العقول.
وكان ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يقول : إذا قرأتم شيئا من كتاب اللّه تعالى فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان العرب ، وما
أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن أبي سعيد رضي اللّه تعالى عنه قال : بينما نحن نسير مع رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلىء شعرا»
حمله الشافعي عليه الرحمة على الشعر المشتمل على الفحش ، وروي نحوه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها ،
فقد أخرج الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة أنه بلغها أن أبا هريرة يروي عن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا»
من الشعر الذي هجيت به يعني نفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام ذكر ذلك المرشدي في فتاواه نقلا عن كتاب بستان
___________
(1) في نسخة ماذا يفكر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 147
الزاهدين ، ولا يخفى أنه يبعد الحمل المذكور التعبير بيمتلىء فإن الكثير والقليل مما فيه فحش أو هجو لسيد الخلق صلى اللّه تعالى عليه وسلم سواء ، وما أحسن قول الماوردي : الشعر في كلام العرب مستحب ومباح ومحظور فالمستحب ما حذر من الدنيا ورغب في الآخرة وحث على مكارم الأخلاق والمباح ما سلم من فحش أو كذب والمحظور نوعان كذب وفحش وهما جرح في قائله وأما منشده فإن حكاه اضطرارا لم يكن جرحا أو اختيارا جرح ، وتبعه على ذلك الروياني وجعل الروياني ما فيه الهجو لمسلم سواء كان بصدق أو كذب من المحظور أيضا ، ووافقه جماعة إلا أن إثم الصادق أخف من إثم الكاذب كما قال القمولي. وإثم الحاكي على ما قال الرافعي دون إثم المنشد ، وقال الأذرعي : ليس هذا على إطلاقه بل إذا استوى الحاكي والمنشد أما إذا أنشده ولم يذعه فأذاعه الحاكي فإثمه أشد بلا شك ، واحترز بقيد المسلم عما فيه الهجو لكافر فإن فيه تفصيلا.
وفصل بعضهم ما فيه الهجو لمسلم أيضا وذلك أن كثيرا من العلماء أطلقوا جواز هجو الكافر استدلالا بأمره صلى اللّه تعالى عليه وسلّم حسانا ونحوه بهجو المشركين ، وقال بعضهم : محل ذلك الكفار على العموم وكذا المعين الحربي ميتا كان أو حيا حيث لم يكن له قريب معصوم يتأذى به ، وأما الذمي أو المعاهد أو الحربي الذي له قريب ذمي أو مسلم يتأذى به فلا يجوز هجوه كما قاله الأذرعي وابن العماد وغيرهما وقالوا : إن هجو حسان وإن كان في معين لكنه في حربي ، وعلى التنزل فهو ذب عن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فيكون من القرب فضلا عن المباحات ، وألحق الغزالي وتبعه جمع المبتدع بالحربي فيجوز هجوه ببدعته لكن لمقصد شرعي كالتحذير من جهته ، وجوز ابن العماد هجو المرتد دون تارك الصلاة والزاني المحصن. وما قاله في المرتد واضح لأنه كالحربي بل أقبح وفي الأخيرين محله حيث لم يتجاهر أما المتجاهر بفسقه فيجوز هجوه بما تجاهر به فقط لجواز غيبته بذلك فقط.
وقال البلقيني : الأرجح تحريم هجو المتجاهر المذكور لا لقصد زجره لأنه قد يتوب وتبقى وصمة الشعر السائر عليه ولا كذلك الكافر إذا أسلم. ورد بأن مجاهرته بالمعصية وعدم مبالاته بالناس وكلامهم فيه صيراه غير مجترم ولا مراعى فهو المهدر لحرمة نفسه بالنسبة لما تجاهر به فلم يبال ببقاء تلك الوصمة عليه.
نعم لو قيل بحرمة إنشاده بعد التوبة إذا كان يتأذى به هو أو قريبه المسلم أو الذي أو بعد موته إذا كان يتأذى به من ذكر لم يبعد ، وذكر جماعة أن من جملة المحظور أيضا ما فيه تشبيب بغلام ولو غير معين مع ذكر أنه يعشقه أو بامرأة أجنبية معينة وإن لم يذكرها بفحش أو بامرأة مبهمة مع ذكرها بالفحش ولم يفرقوا بين إنشاء ذلك وإنشاده ، واعتبر بعضهم التعيين في الغلام كالمرأة فلا يحرم التشبيب بمبهم.
قال الأذرعي وهو الأقرب والأول ضعيف جدا ، وقال أيضا : يجب القطع بأنه إذا شبب بحليلته ولم يذكر سوى المحبة والشوق أو ذكر شيئا من التشبيهات الظاهرة أنه لا يضر وكذا إذا ذكر امرأة مجهولة ولم يذكر سوءا.
وفي الإحياء في حرمة التشبيب بنحو وصف الخدود والأصداغ وسائر أوصاف النساء نظر ، والصحيح أنه لا يحرم نظمه ولا إنشاده بصوت وغير صوت. وعلى المستمع أن «1» ينزله على امرأة معينة فإن نزله على حليلته جاز أو على غيرها فهو العاصي بالتنزيل ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع ، وذكر بعض الفضلاء أن ما يحرم إنشاؤه قد لا تحرم روايته فإن المغازي روي فيها قصائد الكفار الذين هاجوا فيها الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ولم ينكر ذلك
___________
(1) قوله أن ينزله إلخ كذا بخطه ولعل المناسب أن لا ينزله بحرف النفي ا ه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 148
أحد ، وقد روى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يومي بدر ، وأحد وغيرهما إلا قصيدة ابن أبي الصلت الحائية
انتهى ، قال الأذرعي : ولا شك في هذا إذا لم يكن فيه فحش ولا أذى لحي ولا ميت من المسلمين ولم تدع حاجة إليه ، وقد ذم العلماء جريرا ، والفرزدق في تهاجيهما ولم يذموا من استشهد بذلك على إعراب وغيره من علم اللسان ، ويجب حمل كلام الأئمة على غير ذلك مما هو عادة أهل اللعب والبطالة وعلى إنشاد شعر شعراء العصر إذا كان إنشاؤه حراما إذ ليس فيه إلا أذى أو وقيعة في الإحياء أو إساءة الأحياء في أمواتهم أو ذكر مساوئ الأموات وغير ذلك وليس مما يحتج به في اللغة ولا غيرها فلم يبق إلا اللعب بالأعراض ، وزاد بعض حرمة شعر فيه تعريض وجعل التعريض في الهجو كالتصريح وله وجه وجيه.
وقال آخر : إن ما فيه فخر مذموم وقليله ككثيره ، والحق إن ذلك أن تضمن غرضا شرعيا فلا بأس به ، وللسلف شعر كثير من ذلك وقد تقدم لك بعض منه ، وحمل الأكثرون الخبر السابق على ما إذا غلب عليه الشعر وملك نفسه حتى اشتغل به عن القرآن والفقه ونحوهما ولذلك ذكر الامتلاء ، والحاصل أن المذموم امتلاء القلب من الشعر بحيث لا يتسع لغيره ولا يلتفت إليه. وليس في الخبر ذم إنشائه ولا إنشاده لحاجة شرعية وإلا لوقع التعارض بينه وبين الأخبار الصحيحة الدالة على حل ذلك وهي أكثر من أن تحصى وأبعد من أن تقبل التأويل كما لا يخفى.
وما روي عن الإمام الشافعي من قوله :
ولو لا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
محمول على نحو ما حمل الأكثرون الخبر عليه وإلا فما قاله شعر ، وفي معناه قول شيخنا علاء الدين علي أفندي تغمده اللّه تعالى برحمته مخاطبا خاتمة الوزراء في الزوراء داود باشا من أبيات :
ولو لداعيه يرضى الشعر منقبة لقمت ما بين منشيه ومنشده
هذا وسيأتي إن شاء اللّه تعالى كلام يتعلق بهذا البحث أيضا عند الكلام في قوله تعالى : وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس : 69] ومن اللطائف أن سليمان بن عبد الملك سمع قول الفرزدق :
فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام
فقال له قد وجب عليك الحد فقال يا أمير المؤمنين : قد درأ اللّه تعالى عني الحد بقوله سبحانه : وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ تهديد شديد ووعيد أكيد لما في سَيَعْلَمُ من تهويل متعلقه وفي الَّذِينَ ظَلَمُوا من الإطلاق والتعميم ، وقد كان السلف الصالح يتواعظون بها ، وختم بها أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه وصيته حين عهد لعمر رضي اللّه تعالى عنه وذلك أنه أمر عثمان رضي اللّه تعالى عنه أن يكتب في مرض موته حينئذ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقى فيها الفاجر ويصدق فيها الكاذب إني قد استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وأن يجر ويبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ، وتفسير الظلم بالكفر وإن كان شائعا في عدة مواضع من القرآن الكريم إلا أن الأنسب على ما قيل هنا الإطلاق لمكان قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وقال الطيبي : سياق الآية بعد ذكر المشركين الذين آذوا رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وما لقي منهم من الشدائد كما مر من أول السورة يؤيد تفسير الظلم بالكفر.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 149
وروى محيي السنة الذين ظلموا أشركوا وهجوا رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وقرأ ابن عباس وابن أرقم عن الحسن «أي منفلت ينفلتون» بالفاء والتاء الفوقية من الانفلات بمعنى النجاة ، والمعنى إن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا من عذاب اللّه تعالى وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وَسَيَعْلَمُ هنا معلقة وأي استفهام مضاف إلى مُنْقَلَبٍ والناصب له يَنْقَلِبُونَ ، والجملة سادة مسد المفعولين كذا في البحر.
وقال أبو البقاء : أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف والعامل يَنْقَلِبُونَ أي ينقلبون انقلابا أي منقلب ولا يعمل فيه يعلم لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله : وتعقب بأنه تخليط لأن أيا إذا وصف بها لم تكن استفهاما. وقد صرحوا بأن الموصوف بها قسيم الاستفهامية ، وتحقيق انقسام - أي - يطلب من كتب النحو واللّه تعالى أعلم.
ومما قيل في بعض الآيات من باب الإشارة طسم قال الجنيد : الطاء طرب التائبين في ميدان الرحمة.
والسين سرور العارفين في ميدان الوصلة والميم مقام المحبين في ميدان القربة ، وقيل : الطاء طهارة القدم من الحدثان والسين سناء صفاته تعالى التي تكشف في مرايا البرهان والميم مجده سبحانه الذي ظهر بوصف البهاء في قلوب أهل العرفان. وقيل : الطاء طهارة قلب نبيه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم عن تعلقات الكونين والسين سيادته صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام. والميم مشاهدته عليه الصلاة والسلام جمال رب العالمين ، وقيل :
الطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وقيل غير ذلك لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إلخ فيه إشارة إلى كمال شفقته صلّى اللّه عليه وسلّم على أمته وإن الحرص على إيمان الكافر لا يمنع سوابق الحكم وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ إلى آخر القصة فيه إشارة إلى حسن التعاضد في المصالح الدينية والتلطف بالضال في إلزامه بالحجج القطعية وأنه لا ينبغي عدم الاحتفال بمن ربيته صغيرا ثم رأيته وقد منحه اللّه تعالى ما منحه من فضله كبيرا ، وقال بعضهم : إن فيه إشارة إلى ما في الأنفس وجعل موسى إشارة إلى موسى القلب وفرعون إشارة إلى فرعون النفس وقومه إشارة إلى الصفات النفسانية وبني إسرائيل إشارة إلى الصفات الروحانية والفعلة إشارة إلى قتل قبطي الشهوة والعصا إشارة إلى عصا الذكر أعني لا إله إلا اللّه واليد إشارة إلى يد القدرة وكونها بيضاء إشارة إلى كونها مؤيدة بالتأييد الإلهي والناظرين إشارة إلى أرباب الكشف الذين ينظرون بنور اللّه تعالى والسحرة إشارة إلى الأوصاف البشرية والأخلاق الردية والناس إشارة إلى الصفات الناسوتية والأجر إشارة إلى الحظوظ الحيوانية والحبال إشارة إلى حبال الحيل والعصي إشارة إلى عصي التمويهات والمخيلات والمدائن إشارة إلى أطوار النفس وهكذا.
وعلى هذا الطريق سلكوا في الإشارة في سائر القصص. فجعلوا إبراهيم إشارة إلى القلب وأباه وقومه إشارة إلى الروح وما يتولد منها والأصنام إشارة إلى ما يلائم الطباع من العلويات والسفليات وهكذا مما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وللشيخ الأكبر قدس سره في هذه القصص كلام عجيب من أراده فليطلبه في كتبه وهو قدس سره ممن ذهب إلى أن خطيئة إبراهيم عليه السلام التي أرادها بقوله : وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ كانت إضافة المرض إلى نفسه في قوله : وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وقد ذكر قدس سره إنه اجتمع مع إبراهيم عليه السلام فسأله عن مراده بها فأجابه بما ذكر. وقال في باب أسرار الزكاة من الفتوحات إن قول الرسول إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ لا يقدح في كمال عبوديته فإن قوله : ذلك لأن يعلم أن كل عمل خالص يطلب الأجر بذاته وذلك لا يخرج العبد عن أوصاف العبودية فإن العبد في صورة الأجير وليس بأجير حقيقة إذ لا يستأجر السيد عبده بل يستأجر الأجنبي وإنما العمل نفسه يقتضي الأجرة وهو لا يأخذها العامل وهو العبد فهو قابض الأجرة من اللّه تعالى فأشبه الأجير في قبض الأجرة وخالفه بالاستئجار ا ه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 150
وحقق أيضا ذلك في الباب السادس عشر والثلاثمائة من الفتوحات ، وذكر في الباب السابع عشر والأربعمائة منها أن أجر كل نبي يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فيه إشارة إلى أنه ليس للشيطان قوة حمل القرآن لأنه خلق من نار وليس لها قوة حمل النور ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند مرور المؤمن عليها وتقول : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ولنحو ذلك ليس له قوة على سمعه ، وهذا بالنسبة إلى أول مراتب ظهوره فلا يرد أنه يلزم على ما ذكر أن الشياطين لا يسمعون آيات القرآن إذا تلوناها ولا يحفظونها وليس كذلك.
نعم ذكر أنهم لا يقدرون أن يسمعوا آية الكرسي. وآخر البقرة وذلك لخاصية فيهما وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فيه إشارة إلى أن النسب إذا لم ينضم إليه الإيمان لا ينفع شيئا ، ولما كان حجاب القرابة كثيفا أمر صلّى اللّه عليه وسلّم بإنذار عشيرته الأقربين وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هم أهل النسب المعنوي الذي هو أقرب من النسب الصوري كما أشار إليه ابن الفارض قدس سره بقوله :
نسب أقرب في شرع الهوى بيننا من نسب من أبوي
وأنا أحمد اللّه تعالى كما هو أهله على أن جعلني من الفائزين بالنسبين حيث وهب لي الإيمان وجعلني من ذرية سيد الكونين صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فها أنا من جهة أم أبي من ذرية الحسن ومن جهة أبي من ولد الحسين رضي اللّه تعالى عنهما :
نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمودا
واللّه عز وجل هو ولي الإحسان المتفضل بصنوف النعم على نوع الإنسان والصلاة والسلام على سيد العالمين وآله وصحبه أجمعين.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 151
سورة النّمل
وتسمى أيضا كما في الدر المنثور سورة سليمان ، وهي مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم ، وذهب بعضهم إلى مدنية بعض آياتها كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وعدد آياتها خمس وتسعون آية حجازي وأربع بصري وشامي وثلاث كوفي ، ووجه اتصالها بما قبلها أنها كالتتمة لها حيث زاد سبحانه فيها ذكر داود وسليمان وبسط فيها قصة لوط عليه السلام أبسط مما هي قبل وقد وقع فيها إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النمل : 7] إلخ وذلك كالتفصيل لقوله سبحانه فيما قبل : فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ الشعراء : 21] وقد اشتمل كل من السورتين على ذكر القرآن وكونه من اللّه تعالى وعلى تسليته صلّى اللّه عليه وسلّم إلى غير ذلك ، وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص.
[سورة النمل (27) : الآيات 1 إلى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12)
طس قرىء بالإمالة وعدمها ، والكلام فيه كالكلام في نظائره من الفواتح.
تِلْكَ إشارة إلى السورة المذكورة ، وأداة البعد للإشارة إلى بعد المنزلة في الفضل والشرف أو إلى الآيات التي تتلى بعد نظير الإشارة في قوله تعالى : الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة : 1 ، 2] أو إلى مطلق الآيات ، ومحله الرفع

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 152
على الابتداء خبره قوله تعالى : آياتُ الْقُرْآنِ والجملة مستأنفة أو خبر لقوله تعالى : طس وإضافة آياتُ إلى الْقُرْآنِ لتعظيم شأنها فإن المراد به المنزل المبارك المصدق لما بين يديه الموصوف بالكمالات التي لا نهاية لها ، ويطلق على كل المنزل عليه صلّى اللّه عليه وسلّم للإعجاز وعلى بعض منه ، وجوز هنا إرادة كل من المعنيين وإذا أريد الثاني فالمراد بالبعض جميع المنزل عند نزول السورة ، وقوله تعالى : وَكِتابٍ مُبِينٍ عطف على الْقُرْآنِ والمراد به القرآن وعطفه عليه مع اتحاده معه في الصدق كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما في قولهم : هذا فعل السخي والجواد الكريم ، وتنوينه للتفخيم ، و«المبين» إما من أبان المتعدي أي مظهر ما في تضاعيفه من الحكم والأحكام وأحوال القرون الأولى وأحوال الآخرة التي من جملتها الثواب والعقاب أو سبيل الرشد والغيّ أو نحو ذلك ، والمشهور في أمثال هذا الحذف أنه يفيد العموم. وأما من أبان اللازم بمعنى بأن أي ظاهر الإعجاز أو ظاهر الصحة للإعجاز وهو على الاحتمالين صفة مادحة لكتاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة.
ولما كان في التنكير نوع من الفخامة وفي التعريف نوع آخر وكان الغرض الجمع للاستيعاب الكامل عرف القرآن ونكر الكتاب وعكس في الحجر ، وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ، ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هاهنا قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنزل على محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم للإعجاز كذا في الكشف.
وقال بعض الأجلة : قدم الوصف الأول هاهنا نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية وعكس هنالك لأن المراد تفخيمه من حيث اشتماله على كمال جنس الكتب الإلهية حتى كأنه كلها ومن حيث كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه والإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة ، وفي هذا حمل أل على الجنس في الكتاب.
والظاهر أنها في الْقُرْآنِ للعهد فيختلف معناها في الموضعين وإليه يشير ظاهر كلام الكشاف كما قيل ، واعتذر له بأنه إذا رجع المعنيان إلى التفخيم فلا بأس بمثل هذا الاختلاف ، وجوز أن تكون في الموضعين للعهد وأن تكون فيهما للجنس فتأمل ، وقيل : إن اختصاص كل من الموضعين بما اختص به من تعيين الطريق.
وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة فهو يبينه للناظرين فيه ، وتأخيره هنا عن القرآن باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر عليه باعتبار الوجود الخارجي فإن القرآن بمعنى المقروء لنا مؤخر عن اللوح المحفوظ ولا يخفى أن إرادة غير اللوح من الكتاب أظهر. وقال بعضهم : لا يساعد إرادة اللوح منه هاهنا إضافة الآيات إليه إذ لا عهد باشتماله على الآيات ولا وصفه بالهداية والبشارة إذ هما باعتبار إبانته فلا بد من اعتبارها بالنسبة إلى الناس الذين من جملتهم المؤمنون لا إلى الناظرين فيه.
وقرأ ابن أبي عبلة «وكتاب مبين» برفعهما ، وخرج على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وآيات كتاب ، وقيل : يجوز عدم اعتبار الحذف والكتاب لكونه مصدرا في الأصل يجوز الإخبار به عن المؤنث ، وقيل : رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا ألا ترى أنهم حظروا جاءتني زيد وأجازوا جاءتني هند وزيد ، وقوله تعالى : هُدىً وَبُشْرى في حيز النصب على الحالية من آياتُ على إقامة المصدر مقام الفاعل فيه للمبالغة كأنها نفس الهدى والبشارة ، والعامل معنى الإشارة وهو الذي سمته النحاة عاملا معنويا.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 153
وجوز أبو البقاء على قراءة الرفع في كِتابٍ كون الحال منه ثم قال : ويضعف أن يكون من المجرور ويجوز أن يكون حالا من الضمير في مُبِينٍ على القراءتين ، وجوز أبو حيان كون النصب على المصدرية أي تهدي هدي وتبشر بشرى أو الرفع على البدلية من آياتُ ، واشتراط الكوفيين في إبدال النكرة من المعرفة شرطين اتحاد اللفظ وأن تكون النكرة موصوفة نحو قوله تعالى : لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق : 15 ، 16] غير صحيح كما في شرح التسهيل لشهادة السماع بخلافه أو على أنه خبر بعد خبر لتلك أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي هدى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون قيدا للهدى والبشرى معا ، ومعنى هداية الآيات لهم وهم مهتدون أنها تزيدهم هدى قال سبحانه : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة : 124] وأما معنى تبشيرها إياهم فظاهر لأنها تبشرهم برحمة من اللّه تعالى ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم كذا قيل ، وفي الحواشي الشهابية أن الهدى على هذا الاحتمال ، إما بمعنى الاهتداء أو على ظاهره وتخصيص المؤمنين لأنهم المنتفعون به وإن كانت هدايتها عامة ، وجعل المؤمنين بمعنى الصائرين للإيمان تكلف كحمل هداهم على زيادته ، ويحتمل أن يكون قيدا للبشرى فقط ويبقى الهدى على العموم وهو بمعنى الدلالة والإرشاد أي هدى لجميع المكلفين وبشرى للمؤمنين الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة مادحة للمؤمنين ، وكنى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عن عمل الصالحات مطلقا ، وخصا لأنهما على ما قيل إما العبادة البدنية والمالية ، والظاهر أنه حمل الزكاة على الزكاة المفروضة.
وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة ، وقيل كان في مكة زكاة مفروضة إلا أنها لم تكن كالزكاة المفروضة بالمدينة فلتحمل في الآية عليها ، وقيل : الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق وهو خلاف المشهور في الزكاة المقرونة بالصلاة ويبعده تعليق الإيتاء بها ، وقوله تعالى : وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يحتمل أن يكون معطوفا على جملة الصلة ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من ضمير الموصول ، ويحتمل أن يكون استئنافا جيء به للقصد إلى تأكيد ما وصف المؤمنون به من حيث إن الإيقان بالآخرة يستلزم الخوف المستلزم لتحمل مشاق التكليف فلا بد من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقد أقيم الضمير فيه مقام اسم الإشارة المفيد لاكتساب الخلافة بالحكم باعتبار السوابق فكأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، وسمى الزمخشري هذا الاستئناف اعتراضا وكونه لا يكون إلا بين شيئين يتعلق أحدهما بالآخر كالمبتدأ والخبر غير مسلم عنده.
واختار هذا الاحتمال فقال : إنه الوجه ويدل عليه أنه عقد الكلام جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق انتهى. وأنكر ابن المنير إفادة نحو هذا التركيب الاختصاص وادعى أن تكرار الضمير للنظرية لمكان الفصل بين الضميرين بالجار والمجرور ، والحق أنه يفيد ذلك كما صرحوا به في نحو هو عرف ، وكذا يفيد التأكيد لما فيه من تكرار الضمير.
وزعم أبو حيان أن فيما ذكره الزمخشري دسيسة الاعتزال ، ولا يخفى أنه ليس في كلامه أكثر من الإشارة إلى أن المؤمن العاصي لم يوقن بالآخرة حق الإيقان ، ولعل جعل ذلك دسيسة مبني على أنه بنى ذلك على مذهبه في أصحاب الكبائر وقوله فيهم بالمنزلة بين المنزلتين. وأنت تعلم أن القول بما اختاره في الآية لا يتوقف على القول المذكور وتغيير النظم الكريم على الوجهين الأولين لما لا يخفى ، وتقديم بِالْآخِرَةِ في جميع الأوجه لرعاية الفاصلة ، وجوز أن يكون للحصر الإضافي كما في الحواشي الشهابية إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بيان لأحوال

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 154
الكفرة بعد أحوال المؤمنين أي لا يؤمنون بها وبما فيها من الثواب على الأعمال الصالحة والعقاب على الأعمال السيئة حسبما ينطق به القرآن زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة بما ركبنا فيهم من الشهوات والأماني حتى رأوها حسنة فَهُمْ يَعْمَهُونَ يتحيرون ويترددون والاستمرار في الاشتغال بها والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها. والفاء لترتيب المسبب على السبب. ونسبة التزيين إليه عز وجل عند الجماعة حقيقة وكذا التزيين نفسه ، وذهب الزمخشري إلى أن التزيين إما مستعار للتمتيع بطول العمر وسعة الرزق وإما حقيقة وإسناده إليه سبحانه وتعالى مجاز وهو حقيقة للشيطان كما في قوله تعالى : زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الأنفال : 48].
والمصحح لهذا المجاز إمهاله تعالى الشيطان وتخليته حتى يزين لهم. والداعي له إلى أحد الأمرين إيجاب رعاية الأصلح عليه عز وجل. ونسب إلى الحسن أن المراد بالأعمال الأعمال الحسنة وتزيينها بيان حسنها في أنفسها حالا واستتباعها لفنون المنافع مآلا أي زينا لهم الأعمال الحسنة فهم يترددون في الضلال والإعراض عنها.
والفاء عليه لترتيب ضد المسبب على السبب كما في قولك : وعظته فلم يتعظ ، وفيه إيذان بكمال عتوهم ومكابرتهم وتعكيسهم الأمور ، وتعقب هذا القول بأن التزيين قد ورد غالبا في غير الخير نحو قوله تعالى : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمران : 14] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا [البقرة : 212] زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام : 137] إلخ ووروده في الخير قليل نحو قوله تعالى : حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات : 7] ويبعد حمل الأعمال على الأعمال الحسنة إضافتها إلى ضميرهم وهم لم يعملوا حسنة أصلا. وكون إضافتها إلى ذلك باعتبار أمرهم بها ، وإيجابها عليهم لا يدفع البعد.
وذكر الطيبي أنه يؤيد ما ذكر أولا أن وزان فاتحة هذه السورة إلى هاهنا وزان فاتحة البقرة فقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله سبحانه : زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ كقوله جل وعلا : خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة : 7].
وقد سبق بيان وجه دلالة ذلك على مذهب الجماعة هناك وإن التركيب من باب تحقيق الخبر وإن المعنى استمرارهم على الكفر وإنهم بحيث لا يتوقع منهم الإيمان ساعة فساعة أمارة لرقم الشقاء عليهم في الأزل والختم على قلوبهم وأنه تعالى زين لهم سوء أعمالهم فهم لذلك في تيه الضلال يترددون وفي بيداء الكفر يعمهون ، ودل على هذا التأويل إيقاع لفظ المضارع في صلة الموصول والماضي في خبره وترتيب قوله تعالى : فَهُمْ يَعْمَهُونَ بالفاء عليه ، واختصاص الخطاب بما يدل على الكبرياء والجبروت من باب تحقيق الخبر نحو قول الشاعر :
إن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول
وفي الأخبار الصحيحة ما ينصر هذا التأويل أيضا أُوْلئِكَ إشارة إلى المذكورين الموصوفين بالكفر والعمه وهو مبتدأ خبره الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ يحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدنيا بأن يقتلوا أو يؤسروا أو تشدد عليهم سكرات الموت لقوله تعالى : وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ويحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدارين وهو الذي استظهره أبو حيان ويكون قوله تعالى : وَهُمْ إلخ لبيان أن ما في الآخرة أعظم العذابين بناء على أن «الأخسرين» أفعل تفضيل ، والتفضيل باعتبار حاليهم في الدارين أي هم في الآخرة أخسر منهم في الدنيا لا غيرهم كما يدل عليه تعريف الجزأين على معنى أن خسرانهم في الآخرة أعظم من خسرانهم في الدنيا من حيث إن عذابهم في الآخرة غير منقطع أصلا وعذابهم في الدنيا منقطع ولا كذلك غيرهم من عصاة المؤمنين لأن خسرانهم في الآخرة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 155
ليس أعظم من خسرانهم في الدنيا من هذه الحيثية فإن عذابهم في الآخرة ينقطع ويعقبه نعيم الأبد حتى يكادوا لا يخطر ببالهم أنهم عذبوا كذا قيل.
وقال بعضهم : إن التفضيل باعتبار ما في الآخرة أي هم في الآخرة أشد الناس خسرانا لا غيرهم لحرمانهم الثواب واستمرارهم في العقاب بخلاف عصاة المؤمنين ، ويلزم من ذلك كون عذابهم في الآخرة أعظم من عذابهم في الدنيا ويكفي هذا في البيان ، وقال الكرماني : إن أفعل هنا للمبالغة لا للشركة ، قال أبو حيان : كأنه يقول : ليس للمؤمن خسران البتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه ولم يتفطن لكون المراد أن خسران الكافر في الآخرة أشد من خسرانه في الدنيا فالاشتراك الذي يدل عليه أفعل إنما هو بين ما في الآخرة وما في الدنيا اه كلامه. وكأنه يسلم أن ليس للمؤمن خسران البتة وفيه بحث لا يخفى ، وتقديم فِي الْآخِرَةِ إما للفاصلة أو للحصر ، وقوله تعالى : وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ كلام مستأنف سيق بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم تمهيدا لما يعقبه من الأقاصيص ، وتصديره بحرفي التأكيد لإبراز كمال العناية بمضمونه وبنى الفعل للمفعول وحذف الفاعل وهو جبريل عليه السلام للدلالة عليه في قوله تعالى : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء : 143] ولقي المخفف يتعدى لواحد والمضاعف يتعدى لاثنين وهما هنا نائب الفاعل والقرآن ، والمراد وإنك لتعطي القرآن تلقنه مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي أي حكيم وأي عليم ، وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على علو طبقته عليه الصلاة والسلام في معرفته والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق ، والحكمة كما قال الراغب من اللّه عز وجل معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الأحكام ، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وجمع بينها وبين العلم مع أنه داخل في معناها لغة كما سمعت لعمومه إذ هو يتعلق بالمعدومات ويكون بلا عمل ودلالة الحكمة على أحكام العمل وإتقانه وللإشعار بأن ما في القرآن من العلوم منها ما هو حكمة كالشرائع ومنها ما هو ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية.
وقوله تعالى : إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وأمر بتلاوة بعض من القرآن الذي تلقاه صلّى اللّه عليه وسلّم من لدنه عز وجل تقريرا لما قبله وتحقيقا له أي اذكر لهم وقت قول موسى عليه السلام لأهله ، وجوز أن تكون إِذْ ظرفا لعليم. وتعقبه في البحر بأن ذلك ليس بواضح إذ يصير الوصف مقيدا بالمعمول ، وقال في الكشف : ما يتوهم من دخل التقييد بوقت معين مندفع إذ ليس مفهوما معتبرا عند المعتبر ولأنه لما كان تمهيد القصة حسن أن يكون قيدا لها كأنه قيل : ما أعلمه حيث فعل بموسى عليه السلام ما فعل ، ولما كان ذلك من دلائل العلم والحكمة على الإطلاق لم يضر التقييد بل نفع لرجوعه بالحقيقة إلى نوع من التعليل والتذكير ا ه. ولا يخفى أن الظاهر مع هذا هو الوجه الأول ثم إن قول موسى عليه السلام إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ كان في أثناء سيره خارجا من مدين عند وادي طوى وكان عليه السلام قد حاد عن الطريق في ليلة باردة مظلمة فقدح فاصلد زنده فبدا له من جانب الطور نار ، والمراد بالخبر الذي يأتيهم به من جهة النار الخبر عن حال الطريق لأن من يذهب لضوء نار على الطريق يكون كذلك ولم يجرد الفعل عن السين إما للدلالة على بعد مسافة النار في الجملة حتى لا يستوحشوا إن أبطأ عليه السلام عنهم أو لتأكيد الوعد بالإتيان فإنها كما ذكره الزمخشري تدخل في الوعد لتأكيده وبيان أنه كائن لا محالة وإن تأخر ، وما قيل من أن السين للدلالة على تقريب المدة دفعا للاستيحاش إنما ينفع على ما قيل في اختياره على سوف دون التجريد الذي يتبادر من الفعل معه الحال الذي هو أتم في دفع الاستيحاش.
ولعل الأولى اعتبار كونه للتأكيد ، لا يقال : إنه عليه السلام لم يتكلم بالعربية وما ذكر من مباحثها لأنا نقول : ما

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 156
المانع من أن يكون في غير اللغة العربية ما يؤدي مؤداها بل حكاية القول عنه عليه السلام بهذه الألفاظ يقتضي أنه تكلم في لغته بما يؤدي ذلك ولا بد ، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه عليه السلام غير امرأته للتعظيم وهو الوجه في تسمية اللّه تعالى شأنه امرأة موسى عليه السلام بالأهل مع أنه جماعة الأتباع أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها فقبس صفة شهاب أو بدل منه ، وهذه قراءة الكوفيين ويعقوب ، وقرأ باقي السبعة والحسن «بشهاب قبس» بالإضافة واختارهاأبو الحسن وهي إضافة بيانية لما بينهما من العموم والخصوص كما في ثوب خز فإن الشهاب يكون قبسا وغير قبس ، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في سورة طه فلا تدافع بين ما وقع هنا وما وقع هناك ، والترديد للدلالة على أنه عليه السلام إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما بناء على ظاهر الأمر وثقة بسنة اللّه عز وجل أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبد.
وقيل : يجوز أن يقال الترديد لأن احتياجه عليه السلام إلى أحدهما لا لهما لأنه كان في حال الترحال وقد ضل عن الطريق فمقصوده أن يجد أحدا يهدي إلى الطريق فيستمر في سفره فإن لم يجده يقتبس نارا ويوقدها ويدفع ضرر البرد في الإقامة.
وتعقب بأنه قد ورد في القصة أنه عليه السلام كان قد ولد له عند الطور ابن في ليلة شاتية وظلمة مثلجة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته فرأى النار فقال لأهله ما قال وهو يدل على احتياجه لهما معا لكنه تحرى عليه السلام الصدق فأتى بأو لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي رجاء أو لأجل أن تستدفئوا بها ، والصلاة بكسر الصاد والمد ويفتح بالقصر الدنو من النار لتسخين البدن وهو الدفء ويطلق على النار نفسها أو هو بالكسر الدفء وبالفتح النار فَلَمَّا جاءَها أي النار التي قال فيها إِنِّي آنَسْتُ ناراً وقيل : الضمير للشجرة وهو كما ترى ، وما ظنه داعيا ليس بداع لما أشرنا إليه نُودِيَ أي موسى عليه السلام من جانب الطور أَنْ بُورِكَ معناه أي بورك على أن أن مفسرة لما في النداء من معنى القول دون حروفه.
وجوز أن تكون أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، ومنعه بعضهم لعدم الفصل بينها وبين الفعل بقد أو السين أو سوف أو حرف النفي وهو مما لا بد منه إذا كانت مخففة لما في الحجة لأبي علي الفارسي أنها لما كانت لا يليها إلا الأسماء استقبحوا أن يليها الفعل من غير فاصل. وأجيب بأن ما ذكر ليس على إطلاقه. فقد صرحوا بعدم اشتراط الفصل في مواضع ، منها ما يكون الفعل فيه دعاء فلعل من جوز كونها المخففة هاهنا جعل بُورِكَ دعاء على أنه يجوز أن يدعي أن الفصل بإحدى المذكورات في غير ما استثنى أغلبي لقوله :
علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا بأعظم سؤل
وجوز أن تكون المصدرية الناصبة للأفعال وبُورِكَ حينئذ إما خبر أو إنشاء للدعاء. وادعى الرضي أن بورك إذا جعل دعاء فإن مفسرة لا غير لأن المخففة لا يقع بعدها فعل إنشائي إجماعا وكذا المصدرية وهو مخلف لما ذكره النحاة ، ودعوى الإجماع ليست بصحيحة ، والقول بأن يفوت معنى الطلب بعد التأويل بالمصدر قد تقدم ما فيه ، وفي الكشف يمنع عن جعلها مصدرية عدم سداد المعنى لأن بُورِكَ إذ ذاك ليس يصلح بشارة وقد قالوا : إن تصدير الخطاب بذلك بشارة لموسى عليه السلام بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة وهذا بخلاف ما إذا كان بُورِكَ تفسيرا للشأن ا ه وفيه نظر ، وعلى الوجهين الكلام على حذف حرف الجر أي نودي بأن إلخ ، والجار والمجرور متعلق بما عنده وليس نائب الفاعل بل نائب الفاعل ضمير موسى عليه السلام ، وقيل : هو نائب الفاعل ولا ضمير.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 157
وقال بعضهم في الوجه الأول أيضا إن الضمير القائم مقام الفاعل ليس لموسى عليه السلام بل هو لمصدر الفعل أي نودي هو أي النداء ، وفسر النداء بما بعده ، والأظهر في الضمير رجوعه لموسى وفي أن أنها مفسرة وفي بُورِكَ أنه خبر وهو من البركة وقد تقدم معناها ، وقيل : هنا المعنى قدس وطهر وزيد خيرا مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ذهب جماعة إلى أن في الكلام مضافا مقدرا في موضعين أي من في مكان النار ومن حول مكانها قالوا : ومكانها البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص : 30] وتدل على ذلك قراءة أبي «تباركت الأرض ومن حولها» واستظهر عموم من لكل مَنْ في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء عليهم السلام وكفاتهم أحياء وأمواتا ولا ولا سيما تلك البقعة التي كلم اللّه تعالى موسى عليه السلام فيها.
وقيل : من في النار موسى عليه السلام ومن حولها الملائكة الحاضرون عليهم السلام ، وأيد بقراءة أبي فيما نقل أبو عمرو الداني وابن عباس ومجاهد وعكرمة «ومن حولها من الملائكة» وهي عند كثير تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه ، وقيل : الأول الملائكة والثاني موسى عليهم السلام ، واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازا عن القرب التام ، وذهب إلى القول الثاني في المراد بالموصولين ، وأيا ما كان فالمراد بذلك بشارة موسى عليه السلام ، والمراد بقوله تعالى على ما قيل : وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تعجيب له عليه السلام من ذلك وإيذان بأن ذلك مريده ومكونه رب العالمين تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون ، ومن أحكام تربيته تعالى للعالمين أو خبر له عليه السلام بتنزيهه سبحانه لئلا يتوهم من سماع كلامه تعالى التشبيه بما للبشر أو طلب منه عليه السلام لذلك.
وجوز أن يكون تعجبا صادرا منه عليه السلام بتقدير القول أي وقال سبحان اللّه إلخ ، وقال السدي : هو من كلام موسى عليه السلام قاله لما سمع النداء من الشجرة تنزيها للّه تعالى عن سمات المحدثين ، وكأنه على تقدير القول أيضا ، وجعل المقدر عطفا على نُودِيَ. وقال ابن شجرة : هو من كلام اللّه تعالى ومعناه وبورك من سبح اللّه تعالى رب العالمين ، وهذا بعيد من دلالة اللفظ جدا ، وقيل : هو خطاب لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم مراد به التنزيه وجعل معترضا بين ما تقدم وقوله تعالى : يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فإنه متصل معنى بذلك والضمير للشأن ، وقوله سبحانه : أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ نعتان للاسم الجليل ممهران لما أريد إظهاره على يده من المعجزة أي أنا اللّه القوي القادر على ما لا تناله الأوهام من الأمور العظام التي من جملتها أمر العصا واليد الفاعل كل ما أفعله بحكمة بالغة وتدبير رصين ، والجملة خبر إن مفسرة لضمير الشأن.
وجوز أن يكون الضمير راجعا إلى ما دل عليه الكلام وهو المكلم المنادي وأَنَا خبر أي إن مكلمك المنادي لك أنا ، والاسم الجليل عطف بيان لأنا ، وتجوز البدلية عند من جوز إبدال الظاهر من ضمير المتكلم بدل كل ، ويجوز أن يكون أَنَا توكيدا للضمير واللَّهُ الخبر. وتعقب أبو حيان إرجاع الضمير للمكلم المنادى بأنه إذا حذف الفاعل وبنى فعله للمفعول لا يجوز عود ضمير على ذلك المحذوف لأنه نقض للغرض من حذفه والعزم على أن لا يكون محدثا عنه ، وفيه أنه لم يقل أحد إنه عائد على الفاعل المحذوف بل على ما دل عليه الكلام ولو سلّم فلا امتناع في ذلك إذا كان في جملة أخرى وأيضا قوله والعزم على أن لا يكون محدثا عنه غير صحيح لأنه قد يكون محدثا عنه ويحذف للعلم به وعدم الحاجة إلى ذكره ، ثم إن الحمل مفيد من غير رؤية لأنه عليه السلام علمه سبحانه علم اليقين بما وقر في قلبه فكأنه رآه عز وجل ، هذا وفي قوله تعالى : أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ إلخ أقوال أخر ، الأول

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 158
أن المراد بمن في النار نور اللّه تعالى وبمن حولها الملائكة عليهم السلام وروي ذلك عن قتادة. والزجاج.
والثاني أن المراد بمن في النار الشجرة التي جعلها اللّه محلا للكلام وبمن حولها الملائكة عليهم السلام أيضا ونقل هذا عن الجبائي وفي ما ذكر إطلاق مَنْ على غير العالم.
والثالث ما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس. قال في قوله تعالى : أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها يعني الملائكة عليهم السلام ، واشتهر عنه كون المراد بمن في النار نفسه تعالى وهو مروي أيضا عن الحسن وابن جبير وغيرهما كما في البحر.
وتعقب ذلك الإمام بأنا نقطع بأن هذه الرواية عن ابن عباس موضوعة مختلقة.
وقال أبو حيان : إذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف أي بورك من قدرته وسلطانه في النار ، وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني في رسالته تنبيه العقول على تنزيه الصوفية عن اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول إلى صحة الخبر عن الحبر رضي اللّه تعالى عنه وعدم احتياجه إلى التأويل المذكور فإن الذي دعا المؤولين أو الحاكمين بالوضع إلى التأويل أو الحكم بالوضع ظن دلالته على الحلول المستحيل عليه تعالى وليس كذلك بل ما يدل عليه هو ظهوره سبحانه في النار وتجليه فيها وليس ذلك من الحلول في شيء فإن كون الشيء مجلى لشيء ليس كونه محلا له فإن الظاهر في المرآة مثلا خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه ثم إن تجليه تعالى وظهوره في المظاهر يجامع التنزيه. ومعنى الآية عنده فلما جاءها نودي أن بورك أي قدس أو نحو ذلك من تجلى وظهر في صورة النار لما اقتضته الحكمة لكونها مطلوبة لموسى عليه السلام ومن حولها من الملائكة أو منهم ومن موسى عليهم السلام ، وقوله تعالى : وَسُبْحانَ اللَّهِ دفع لما يتوهمه التجلي في مظهر النار من التشبيه أي وسبحان اللّه عن التقيد بالصورة والمكان والجهة وإن ظهر فيها بمقتضى الحكمة لكونه موصوفا بصفة رب العالمين الواسع القدوس الغني عن العالمين ومن هو كذلك لا يتقيد بشيء من صفات المحدثات بل هو جل وعلا باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق في حال تجليه وظهوره فيما شاء من المظاهر.
ولهذا
ورد في الحديث الصحيح «سبحانك حيث كنت»
فأثبت له تعالى التجلي في الحيث ونزهه عن أن يتقيد بذلك «يا موسى» إنه أي المنادي المتجلي في النار أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ فلا أتقيد بمظهر للعزة الذاتية لكني الحكيم ومقتضى الحكمة الظهور في صورة مطلوبك. وذكر أن تقدير المضاف كما فعل بعض المفسرين عدول عن الظاهر لظن المحذور فيه. وقد تبين أن لا محذور فلا حاجة إلى العدول انتهى ، وكأني بك تقول : هذا طور ما وراء طور العقول. ثم إنه لا مانع على أصول الصوفية أن يريدوا بمن حولها اللّه عز وجل أيضا إذ ليس في الدار عندهم غيره سبحانه ديار ، ولا بعد في أن تكون الآية عند ابن عباس إن صح عنه ما ذكر من المتشابه والمذاهب فيه معلومة عندك. والأوفق بالعامة التأويل بأن يقال : المراد أن بورك من ظهر نوره في النار.
ولعل في خبر الحبر السابق ما يشير إليه. وإضافة النور إليه تعالى لتشريف المضاف وهو نور خاص كان مظهرا لعظيم قدرته تعالى وعظمته ، وسمعت من بعض أجلة المشايخ يقول : إن هذا النور لم يكن عينا ولا غيرا على نحو قول الأشعري في صفاته عز وجل الذاتية وهو أيضا منزع صوفي يرجع بالآخرة إلى حديث التجلي والظهور كما لا يخفى فتأمل.
وَأَلْقِ عَصاكَ عطف على بُورِكَ منتظم معه في سلك تفسير النداء أي نودي أن بورك وأن ألق عصاك.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 159
ويدل عليه قوله تعالى : وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ بعد قوله سبحانه : أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ بتكرير أن فإن القرآن يفسر بعضه بعضا وهذا ما اختاره الزمخشري. وأورد عليه أن تجديد النداء في قوله تعالى : يا مُوسى إلخ يأباه. ورد بأنه ليس بتجديد نداء لأنه من جملة تفسير النداء المذكور ، وقيل : لا يأباه لأنه جملة معترضة وفيه بحث ، واعترض أيضا بأن بُورِكَ إخبار وَأَلْقِ إنشاء ولا يعطف الإنشاء على الإخبار ، ومن هنا قيل : إن العطف على ذلك بتقدير وقيل له : ألق أو العطف على مقدر أي افعل ما آمرك وألق ، وفيه إنه في مثل هذا يجوز عطف الإنشاء على الإخبار لكون النداء في معنى القول بل أجاز سيبويه جاء زيد ومن عمرو بالعطف.
ولا يرد هذا أصلا على من يجعل «بورك» إنشاء ، ويرد على من جعل العطف على أفعل محذوفا أن الظاهر حينئذ فألق بالفاء ، واختار أبو حيان كون العطف على جملة إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ولم يبال باختلاف الجملتين اسمية وفعلية وإخبارية وإنشائية لما ذكر أن الصحيح عدم اشتراط تناسب الجملتين المتعاطفتين في ذلك لما سمعت آنفا عن سيبويه ، والفاء في قوله تعالى : فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقه بظهورها ودلالة على سرعة وقوع مضمونها كأنه قيل : فألقاها فانقلبت حية فلما أبصرها تتحرك بشدة اضطرب ، وجملة تَهْتَزُّ في موضع الحال من مفعول رأى فإنها بصرية كما أشرنا إليه لا علمية كما قيل.
وقوله تعالى : كَأَنَّها جَانٌّ في موضع حال أخرى منه أو هو حال من ضمير تَهْتَزُّ على طريقة التداخل ، والجان الحية الصغيرة السريعة الحركة شبهها سبحانه في شدة حركتها واضطرابها مع عظم جثتها بصغار الحيات السريعة الحركة فلا ينافي هذا قوله تعالى في موضع آخر : فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف : 107 ، الشعراء : 32].
وقيل : يجوز أن يكون الإخبار عنها بصفات مختلفة باعتبار تنقلها فيها ، وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد :
«جأن» بهمزة مفتوحة هربا من التقاء الساكنين وإن كان على حده كما قيل : دأبة وشأبة.
وَلَّى مُدْبِراً أي انهزم وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ولم يرجع على عقبه من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال الشاعر :
فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
وهذا مروي عن مجاهد ، وقريب منه قول قتادة : أي لم يلتفت وهو الذي ذكره الراغب ، وكان ذلك منه عليه السلام لخوف لحقه ، قيل : لمقتضى البشرية فإن الإنسان إذ رأى أمرا هائلا جدا يخاف طبعا أو لما أنه ظن أن ذلك لأمر أريد وقوعه به ، ويدل على ذلك قوله سبحانه : يا مُوسى لا تَخَفْ أي من غيري أي مخلوق كان حية أو غيرها ثقة بي واعتمادا عليّ أو لا تخف مطلقا على تنزيل الفعل منزلة اللازم ، وهذا إما لمجرد الإيناس دون إرادة حقيقة النهي وإما للنهي عن منشأ الخوف وهو الظن الذي سمعته ، وقوله تعالى :
إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ تعليل للنهي عن الخوف ، وهو على ما قيل يؤيد أن الخوف كان للظن المذكور وأن المراد لا تَخَفْ مطلقا ، والمراد من لَدَيَّ في حضرة القرب مني وذلك حين الوحي.
والمعنى أن الشأن لا ينبغي للمرسلين أن يخافوا حين الوحي إليهم بل لا يخطر ببالهم الخوف وإن وجد ما يخاف منه لفرط استغراقهم إلى تلقي الأوامر وانجذاب أرواحهم إلى عالم الملكوت ، والتقييد بلديّ لأن المرسلين في سائر الأحيان أخوف الناس من اللّه عز وجل فقد قال تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر : 28] ولا أعلم منهم باللّه تعالى شأنه ، وقيل : المعنى لا تخف من غيري أو لا تخف مطلقا فإن الذي ينبغي أن يخاف منه أمثالك

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 160
المرسلون إنما هو سوء العاقبة وأن الشأن لا يكون للمرسلين عندي سوء عاقبة ليخافوا منه.
والمراد بسوء العاقبة ما في الآخرة لا ما في الدنيا لئلا يرد قتل بعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام ، والمراد بلديّ على ما قال الخفاجي : عند لقائي وفي حكمي على ما قال ابن الشيخ ، وأيا ما كان يلزم مما ذكر أن المرسلين عليهم السلام لا يخافون سوء العاقبة لأن اللّه تعالى آمنهم من ذلك فلو خافوا لزم أن لا يكونوا واثقين به عز وجل وهذا هو الصحيح كما في الحواشي الشهابية عند الأشعري ، وظاهر الآثار يقتضي أنهم عليهم السلام كانوا يخافون ذلك ،
فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يكثر أن يقول : «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقالت له عائشة رضي اللّه تعالى عنها يوما : يا رسول اللّه إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى؟ فقال صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد يقلب قلب عبده»
وظاهر بعض الآيات يقتضي ذلك أيضا مثل قوله تعالى : فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف : 99] وكون اللّه تعالى آمنهم من ذلك إن أريد به ما جاء في ضمن تبشيرهم بالجنة فقد صرح أن المبشرين بالجنة من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم كانوا يخافون من سوء العاقبة مع علمهم ببشارته تعالى إياهم بالجنة ، ويعلم منه أن الخوف يجتمع مع البشارة ، ولا يلزم من ذلك عدم الوثوق به عز وجل لأنه لاحتمال أن يكون هناك شرط لم يظهره اللّه تعالى لهم للابتلاء ونحوه من الحكم الإلهية ، وإن أريد به ما كان بصريح آمنتكم من سوء العاقبة كان هذا الاحتمال قائما أيضا فيه ويحصل الخوف من ذلك ، وإن أريد به ما اقتضاه جعله تعالى إياهم معصومين من الكفر ونحوه ورد أن الملائكة عليهم السلام جعلهم اللّه تعالى معصومين من ذلك أيضا وهم يخافون.
ففي الأثر لما مكر بإبليس بكى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام فقال اللّه عز وجل لهما : ما يبكيكما؟ قالا : يا رب ما نأمن مكرك فقال تعالى : هكذا كونا لا تأمنا مكري
، ولعل ذلك لأن العصمة عندنا على ما يقتضيه أصل استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء كما في المواقف وشرحه الشريف الشريفي أن لا يخلق اللّه تعالى في الشخص ذنبا ، وعند الحكماء بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالإيجاب واعتبار استعداد القوابل ملكة تمنع الفجور وتحصل ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي وهي بكلا المعنيين لا تقتضي استحالة الذنب ، أما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الأول فلأن عدم خلقه تعالى إياه ليس بواجب عليه سبحانه ليكون خلقه مستحيلا عليه تعالى ومتى لم يكن الخلق مستحيلا عليه تعالى فكيف يحصل الأمن من المكر ، وأما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الثاني فلأن زوال تلك الملكة ممكن أيضا واقتضاء العلم بالمثالب والمناقب إياها ابتداء وتأكدها بتتابع الوحي ليس من الضرورات العقلية ومتى كان الأمر كذلك لا يحصل الأمن بمجرد حصول الملكة ، نعم قال قوم : العصمة تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه ، وقد يستند إليه من يقول بالأمن ، ولا يخفى أنه لو سلّم تمام الاستدلال به على هذا المطلب فهو في حد ذاته غير صحيح.
ففي المواقف وشرحه أنه يكذب هذا القول أنه لو كان صدور الذنب ممتنعا لما استحق النبي عليه الصلاة والسلام المدح بترك الذنب إذ لا مدح بترك ما هو ممتنع لأنه ليس بمقدور داخلا تحت الاختيار ، وأيضا فالإجماع على أن الأنبياء عليهم السلام مكلفون بترك الذنوب مثابون به ولو كان صدور الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك ، وأيضا فقوله تعالى : قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف : 110] يدل على مماثلتهم عليهم السلام لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما لا يمتنع صدوره عن سائر البشر ا ه ، وذكر الخفاجي في شرح الشفاء عن ابن الهمام أنه قال في التحرير : العصمة عدم القدرة على المعصية وخلق مانع عنها

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 161
غير ملجىء ، ثم قال : وهو مناسب لقول الماتريدي العصمة لا تزيل المحنة أي الابتلاء المقتضي لبقاء الاختيار ، ومعناه كما في الهداية أنها لا تجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية بل هي لطف من اللّه تعالى تحمله على فعله وتزجره عن الشر مع بقاء الاختيار وتحقيق للابتلاء اه ، وهو ظاهر على عدم الاستحالة الذاتية لصدور الذنب ، ولعل ما وقع في كلام بعض الأجلة من استحالة وقوع الذنب منهم عليهم السلام محمول على الاستحالة الشرعية كما يؤذن به كلام العلامة ابن حجر في شرح الهمزية ، وبالجملة الذي تقتضيه الظواهر ويشهد له العقل أن الأنبياء عليهم يخافون ولا يأمنون مكر اللّه تعالى لأنه وإن استحال صدور الذنب عنهم شرعا لكنه غير مستحيل عقلا بل هو من الممكنات التي يصح تعلق قدرة اللّه تعالى بها ومع ملاحظة إمكانه الذاتي وأن اللّه تعالى لا يجب عليه شيء وقيام احتمال تقييد المطلق بما لم يصرح به لحكمة كالمشيئة لا يكاد يأمن معصوم من مكر الملك الحي القيوم فالأنبياء والملائكة كلهم خائفون ومن خشيته سبحانه عز وجل مشفقون ، وليس لك أن تخص خوفهم بخوف الإجلال إذ الظاهر العموم ولا دليل على الخصوص يعول عليه عند فحول الرجال ، نعم قد يقال بإمكان حصول الأمن من المكر وذلك بخلق اللّه تعالى علما ضروريا في العبد بعدم تحقق ما يخاف منه في وقت من الأوقات أصلا لعلم اللّه تعالى عدم تحققه كذلك وإن كان ممكنا ذاتيا ، ولعله يحصل لأهل الجنة لتتم لذتهم فيها فقد قيل :
فإن شئت أن تحيا حياة هنية فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
ولا يبعد حصوله لمن شاء اللّه تعالى من عباده يوم القيامة قبل دخولها أيضا ، ولم تقم أمارة عندي على حصوله في هذه النشأة لأحد واللّه تعالى أعلم فتأمل ذاك واللّه تعالى يتولى هداك ، وروى الإمام عن بعضهم أنه قال معنى الآية :
إني إذا أمرت المرسلين بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة.
وقوله تعالى : إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ الاستثناء فيه منقطع عند كثير إلا أنه روي عن الفراء والزجاج وغيرهما أن المراد بمن ظلم من أذنب من غير الأنبياء عليهم السلام ، قال صاحب المطلع : والمعنى عليه لكن من ظلم من سائر العباد ثم تاب فإني أغفر له ، وقال جماعة : إن المراد به من فرطت منه صغيرة ما وصدر منه خلاف الأولى بالنسبة إلى شأنه من المرسلين عليهم السلام.
والمراد استدراك ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم وفيهم من صدر منه ذلك ، والمعنى عليه لكن من صدر منهم ما هو في صورة الظلم ثم تاب فإني أغفر له فلا ينبغي أن يخاف أيضا ، وهو شامل على ما قيل لمن فعل منهم شيئا من ذلك قبل رسالته ، وخصه بعضهم بمن صدر منه شيء من ذلك قبل النبوة وقال : يؤيده لفظه ثُمَّ فإنها ظاهرة في التراخي الزماني ، ولعل الظاهر كونه خاصا بمن صدر منه بعد الرسالة لظهور المرسل في المتلبس بالرسالة لا فيمن يتلبس بها بعد أو الأعم ، وكأن فيما ذكر على الوجهين الأولين تعريضا بما وقع من موسى عليه السلام من وكزه القبطي واستغفاره ، وتسميته ظلما مشاكلة
لقوله عليه السلام ظلمت نفسي
، ولم يجعلوه على هذا متصلا مع دخول المستثني في المستثنى منه أعني المرسلين مطلقا لأنه لو كان متصلا لزم إثبات الخوف لمن فرطت منه صغيرة ما منهم لاستثنائه من الحكم وهو نفي الخوف عنهم ونفي النفي إثبات وذلك خلاف المراد فلا يكون متصلا بل هو شروع في حكم آخر.
ورجح الطيبي ما قاله الجماعة بأن مقام تلقي الرسالة وابتداء المكالمة مع الكليم يقتضي إزالة الخوف بالكلية وهو ظاهر على ما قالوه ، وروى عن الحسن ومقاتل وابن جريج والضحاك ما يقتضي أنه استثناء متصل والظاهر أنهم أرادوا بمن من أراده الجماعة وفي اتصاله على ما سمعت خفاء. وربما يقال : إن من يطلق الاتصال عليه في رأي

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 162
الجماعة يكتفي في الاتصال بمجرد كون المستثني من جنس المستثنى منه فإن كفى فذاك وإلا يلتزم إثبات الخوف ويجعل «بدل» عطفا على مستأنف محذوف كأنه قيل : إلا من فرطت منه صغيرة فإنه يخاف فمن فرط ثم تاب غفر له فلا يخاف. وحاصله إلا من ظلم فإنه يخاف أولا ويزول عنه الخوف بالتوبة آخرا ، وعن الفراء في رواية أخرى عنه أنه استثناء متصل من جملة محذوفة والتقدير وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم. ورده النحاس بأن الاستثناء من محذوف لا يجوز ولو جاز هذا لجاز أن يقال : لا تضرب القوم إلا زيدا على معنى وإنما اضرب غيرهم إلا زيدا وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه انتهى وهو كما قال : ولا يجدي نفعا القول باعتبار مفهوم المخافة. وقالت فرقة : إن إلا بمعنى الواو والتقدير ولا من ظلم إلخ.
وتعقبه في البحر بأنه ليس بشيء للمباينة التامة بين إلا والواو فلا تقع أحداهما موقع الأخرى. وحسن الظن يجوز أنهم لم يصرحوا بكون إلا بمعنى الواو وإنما فهم من نسبه إليهم من تقديرهم وهو يحتمل أن يكون تقدير معنى لا إعراب فلا تغفل ، والظاهر انقطاع الاستثناء ، ولعل الأوفق بشأن المرسلين أن يراد بمن ظلم من ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا من غيرهم ، وثُمَّ يحتمل أن تكون للتراخي الزمان فتفيد الآية المغفرة لمن بدل على الفور من باب أولى ، ويحتمل أن تكون للتراخي الرتبي وهو ظاهر بين الظلم والتبديل المذكور والتبديل قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه نحو بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء : 56] وقد يتعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بالباء أو بمن وهو المذهوب به والمبدل منه نحو بدله بخوفه أو من خوفه أمنا وقد يتعدى إلى واحد نحو بدلت الشيء أي غيرته. وَمِنْهُ فمن بدل بعد ما سمعه والمعنى هنا على المتعدي إلى مفعولين. وقد تعدى إلى أحدهما. وهو المبدل منه بالباء أو بمن فكأنه قيل : ثم بدل بظلمه أو من ظلمه حسنا ، ويشير إليه قوله تعالى : بَعْدَ سُوءٍ وحاصله ثم ترك الظلم وأتى بحسن ، والمراد به التوبة.
فيكون المعنى في الآخرة إلا من ظلم ثم تاب وعدل عنه إلى ما في النظم الجليل لأنه أوفق بمقام الإيناس كذا قيل ، والظاهر عليه أن إسناد التبديل إلى من ظلم حقيقي ، وقيل : إن المعنى ثم رفع الظلم والسوء ومحاه من صحيفة أعماله ووضع مكانه الحسن بسبب توبته نظير ما في قوله تعالى : يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان : 70] ، وإسناد التبديل إلى من ظلم على هذا مجازي لأنه سبب لتبديل اللّه تعالى له بتوبته ، وكأني بك تختار الأول ، ومحل «من» على كل من تقديري انقطاع الاستثناء واتصاله ظاهر. والظاهر أنها موصولة في التقديرين. ولا يخفى أنها إذا اعتبرت منصوبة المحل على الاستثناء أو مرفوعته على البدل تكون جملة «فإني» إلخ مستأنفة. ومن قدر في الكلام محذوفا عطف عليه بَدَّلَ ، وقال : التقدير من ظلم ثم بدل جعل الجملة خبر من ، وجوز بعضهم أن تكون شرطية وجملة فَإِنِّي إلخ جوابها فتأمل ولا تغفل. وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم «ألا من ظلم» بفتح الهمزة وتخفيف اللام على أن إِلَّا حرف استفتاح. وجعل أبو حيان مَنْ على هذه القراءة شرطية ولا أراه واجبا وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني «حسنى» على وزن فعلى ممنوع الصرف. وقرأ ابن مقسم «حسنا» بضم الحاء والسين منونا.
وقرأ مجاهد وأبو حيوة وابن أبي علي والأعمش وأبو عمرو في رواية الجعفي وعصمة وعبد الوارث وهارون وعياش «حسنا» بفتح الحاء والسين مع التنوين وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي جيب قميصك وهو مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر لا ما يوضع فيه الدراهم ونحوها كما هو معروف الآن لأنه مولد ، ولم يقل سبحانه في كمك لأنه عليه السلام كان لابسا إذ ذاك مدرعة من صوف لا كم لها ، وقيل : الجيب القميص نفسه لأنه يجاب أي يقطع فهو فعل بمعنى مفعول ، وقال السدي : فِي جَيْبِكَ أي تحت إبطك.
ولعل مراده أن المعنى أدخلها في جيبك وضعها تحت إبطك ، وكانت مدرعته عليه السلام على ما روى عن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 163
ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لا أزرار لها ، وقد ورد في بعض الآثار أن نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم كان مطلق القميص في بعض الأوقات ،
ففي سنن أبي داود باب في حل الأزرار لم أخرج فيه من طريق معاوية بن قرة قال : حدثني أبي قال : أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في رهط من مزينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق ،
وفي رواية البغوي في معجم الصحابة لمطلق الأزرار قال : فبايعه ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم ، قال عروة فما رأيت معاوية ولا أباه قط إلا مطلقي أزرارهما ، ولا يزرانها أبدا
وجاء أيضا عليه الصلاة والسلام أمر بزر الأزرار.
فقد أخرج الطبراني عن زيد بن أبي أوفى «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نظر إلى عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه فإذا أزراره محلولة فزرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيده وقال : اجمع عطفي ردائك على نحرك»
وفي هذين الأثرين ما هو ظاهر في أن جيب القميص كان إذ ذاك على الصدر كما هو اليوم عند العرب. وهو يبطل القول بأنه خلاف السنة وأنه من شعائر اليهود ، وأمره تعالى إياه عليه السلام بإدخال يده في جيبه مع أنه سبحانه قادر على أن يجعلها بيضاء من غير إدخال للامتحان وله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء ، والظاهر أن قوله تعالى :
تَخْرُجْ جواب الأمر لأن خروجها مترتب على إدخالها ، وقيل : في الكلام حذف تقديره وأدخل يدك في جيبك تدخل وأخرجها تخرج فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول فيكون في الكلام صنعة الاحتباك وهو تكلف لا حاجة إليه ، وقوله تعالى : بَيْضاءَ حال وكذا قوله تعالى : مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وهو احتراس وقد تقدم الكلام فيه. وكذا قوله سبحانه : فِي تِسْعِ آياتٍ أي آية معدودة من جملة تسع آيات أو معجزة لك معها على أن التسع هي : الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة وهي جعل أسبابهم حجارة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الجدب والنقصان في المزارع واحدا ولا يعد الفلق منها لأنه عليه السلام لم يبعث به إلى فرعون وإن تقدمه بيسير ، ومن عده يقول : يكفي معاينته له في البعث به أو هو بعث به لمن آمن من قومه ولم تخلف من القبط ولم يؤمن ، وفي التقريب أن الطمسة والجدب والنقصان يرجع إلى شيء واحد فالتسع هذا الواحد. والعصا واليد وما بقي من المذكورات.
وذهب صاحب الفرائد إلى أن الجراد. والقمل واحد ، والجدب. والنقصان واحد ، وجوز أن يكون في تسع منقطعا عما قبله متعلقا بمحذوف أي اذهب في تسع آيات. ويدل على ذلك قوله تعالى بعد : فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا وفي بمعنى مع ، ونظير هذا الحذف ما في قوله :
أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
وقلت إلى الطعام فقال منهم فريق يحسد الإنس الطعاما
فإن التقدير هلموا إلى الطعام. ويتعلق بهذا المحذوف قوله تعالى : إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وعلى ما تقدم يتعلق بمحذوف وقع حالا أي مبعوثا أو مرسلا إلى فرعون ، وأيا ما كان فقوله تعالى : إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل لم أرسلت إليهم بما ذكر؟ فقيل : إنهم إلخ ، والمراد بالفسق إما الخروج عما ألزمهم الشرع إياه إن قلنا بأنهم قد أرسل قبل موسى عليه السلام من يلزمهم اتباعه وهو يوسف عليه السلام ، وإما الخروج عما ألزمه العقل واقتضاء الفطرة إن قلنا بأنه لم يرسل إليهم أحد قبله عليه السلام.
[سورة النمل (27) : الآيات 13 إلى 21]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 164
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا أي ظهرت لهم على يد موسى عليه السلام ، فالمجيء مجاز عن الظهور وإسناده إلى الآيات حقيقي ، وقال بعض الأجلة : المجيء حقيقة وإسناده إلى الآيات مجازي وهو حقيقة لموسى عليه السلام ولما بينهما من الملابسة لكونها معجزة له عليه السلام ساغ ذلك.
ولعل النكتة في العدول عن - فلما جاءهم موسى بآياتنا - إلى ما في النظم الجليل الإشارة إلى أن تلك الآيات خارجة عن طوقه عليه السلام كسائر المعجزات وأنه لم يكن له عليه السلام تصرف في بعضها وكونه معجزة له لإخباره به ووقوعه بدعائه ونحوه ، ولا ينافي هذا الإسناد إليه لكونها جارية على يديه للإعجاز في قوله سبحانه : فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا [القصص : 36] في محل آخر ، وقد بين بعضهم وجها لاختصاص كل منهما بمحله بأن ثمة ذكر مقاولته عليه السلام ومجادلتهم معه فناسب الإسناد إليه ، وهنا لما لم يكن كذلك ناسب الإسناد إليها لأن المقصود بيان جحودهم بها ، وإضافة الآيات للعهد ، وفي إضافتها إلى ضمير العظمة ما لا يخفى من تعظيم شأنها مُبْصِرَةً حال من الآيات أي بينة واضحة ، وجعل الإبصار لها وهو حقيقة لمتأمليها للملابسة بينها وبينهم لأنهم إنما يبصرون بسبب تأملهم فيها فالإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب ، ويجوز أن يراد مبصرة كل من نظر إليها من العقلاء أو من فرعون وقومه لقوله تعالى : وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي جاعلته بصيرا من أبصره المتعدي بهمزة النقل من بصر والإسناد أيضا مجازي.
ويجوز أن تجعل الآيات كأنها تبصر فتهدي لأن العمي لا تقدر على الاهتداء فضلا أن تهدي غيرها فيكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية مرشحة ، قال في الكشف : وهذا الوجه أبلغ ، وقيل : إن فاعلا أطلق للمفعول فالمجاز إما في الطرف أو في الإسناد فتأمل.
وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما مُبْصِرَةً بفتح الميم والصاد على وزن مسبعة
،
وأصل هذه الصيغة أن تصاغ في الأكثر لمكان كثر فيه مبدأ الاشتقاق فلا يقال : مسبعة مثلا إلا لمكان يكثر فيه السباع لا لما فيه سبع واحد ثم تجوز بها عما هو سبب لكثرة الشيء وغلبته كقولهم : الولد مجبنة ومبخلة أي سبب لكثرة جبن الوالد وكثرة بخله وهو المراد هنا أي سببا لكثرة تبصر الناظرين فيها ، وقال أبو حيان هو مصدر أقيم مقام الاسم وانتصب على الحال أيضا قالُوا هذا أي الذي نراه أو نحوه سِحْرٌ مُبِينٌ أي واضح سحريته على أن مُبِينٌ من أبان اللازم وَجَحَدُوا بِها أي وكذبوا بها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي علمت علما يقينيا أنها آيات من عند اللّه تعالى ، والاستيقان أبلغ من الإيقان.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 165
وفي البحر أن استفعل هنا بمعنى تفعل كاستكبر بمعنى تكبر ، والأبلغ أن تكون الواو للحال والجملة بعدها حالية إما بتقدير قد أو بدونها ظُلْماً أي للآيات كقوله تعالى : بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [الأعراف : 9] وقد ظلموا بها أي ظلم حيث حطوها عن رتبتها العالية وسموها سحرا ، وقيل : ظلما لأنفسهم وليس بذاك وَعُلُوًّا أي ترفعا واستكبارا عن الإيمان بها كقوله تعالى : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها [الأعراف : 36] وانتصابهما إما على العلية من جَحَدُوا وهي على ما قيل باعتبار العاقبة والادعاء كما في قوله :
لدوا للموت وابنوا للخراب وأما على الحال من فاعله أي جحدوا بها ظالمين عالين ، ورجح الأول بأنه أبلغ وأنسب بقوله تعالى : فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي ما آل إليه فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الهائل الذي هو عبرة للظالمين ، وإنما لم يذكر تنبيها على أنه عرضة لكل ناظر مشهور لدى كل باد وحاصر. وأدخل بعضهم في العاقبة حالهم في الآخرة من الإحراق والعذاب الأليم. وفي إقامة الظاهر مقام الضمير ذم لهم وتحذير لأمثالهم.
وقرأ عبد اللّه وابن وثاب والأعمش وطلحة وأبان بن تغلب «وعليا» بقلب الواو ياء وكسر العين واللام ، وأصله فعول لكنهم كسروا العين اتباعا ، وروى ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة.
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من أنه عليه السلام تلقى القرآن من لدن حكيم عليم كقصة موسى عليه السلام ، وتصديره بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه أي آتينا كل واحد منهما طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والأحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس ومنطق الطير ، وخصها مقاتل بعلم القضاء ، وابن عطاء بالعلم باللّه عز وجل ، ولعل الأولى ما ذكر أو علما سنيا غزيرا فالتنوين على الأول للتقليل وهو أوفق بكون القائل هو اللّه عز وجل فإن كل علم عنده سبحانه قليل وعلى الثاني للتعظيم والتكثير وهو أوفق بامتنانه جل جلاله فإنه سبحانه الملك العظيم فاللائق بشأنه الامتنان بالعظيم الكثير فلكل وجهة ، وربما يرجح الثاني ، ومما ينبغي أن لا يلتفت إليه كون التنوين للنوعية أي نوعا من العلم والمراد به علم الكيمياء وَقالا أي قال كل منهما شكرا لما أوتيه من العلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بما آتانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازا ، وحكاية الأقوال المتعددة سواء كانت صادرة عن المتكلم أو عن غيره بعبارة جامعة للكل مما ليس بعزيز ، ومن ذلك قوله تعالى : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون : 51] قيل وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو دون الفاء إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمل كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط.
وتعقب بأنه إذا سلّم ما ذكر فالعطف بالواو أيضا يتبادر معه كون حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما فما يمنع من ذلك مع الواو يمنع نحوه مع الفاء ، وقال العلامة الزمخشري : عطف بالواو دون الفاء مع أن الظاهر العكس كما في قولك : أعطيته فشكر إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قال سبحانه : ولقد آتيناهما علما فعملا فيه وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة ، وقالا :
الحمد للّه الذي فضلنا ، وحاصله أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح يستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر فجيء بالواو لأنها تستدعي إضمارا فيضمر ما يقتضيه موجب الشكر من قوله : فعملا به وعلماه فإنه شكر فعلي ، وقوله :
وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة فإنه شكر قلبي ، وبقوله تعالى : وَقالا إلخ تتم أنواع الشكر لأنه شكر لساني ، وفي

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 166
الطي إيماء بأن المطوي جاوز حد الإحصاء ، ويعلم مما ذكر أن هذا الوجه لاختيار العطف بالواو أولى مما ذهب إليه السكاكي من تفويض الترتب إلى العقل لأن المقام يستدعي الشكر البالغ وهو ما يستوعب الأنواع وعلى ما ذهب إليه يكون بنوع القولي منها وحده ، وهو أولى مما قيل أيضا : إنه لم يعطف بالفاء لأن الحمد على نعم عظيمة من جملتها العلم ولو عطف بالفاء لكان الحمد عليه فقط لأن السياق ظاهر في أن الحمد عليه لا على ما يدخل هو في جملته ، وهل هناك على ما ذكره العلامة تقدير حقيقة أم لا قولان ، وممن ذهب إلى الأول من يسمى هذه الواو الواو الفصيحة ، والظاهر أن المراد من الكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما عليهما السلام ، وقيل : ذاك ومن لم يؤت علما أصلا.
وتعقب بأنه يأباه تبيين الكثير بعبادة تعالى المؤمنين فإن خلوهم عن العلم بالمرة مما لا يمكن ، وفي تخصيصهما الكثير بالذكر إشارة إلى أن البعض مفضلون عليهما كذا قيل ، والمتبادر من البعض القليل ، وفي الكشاف أن في قوله تعالى : عَلى كَثِيرٍ أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وتعقب بأن فيه نظرا إذ يدل بالمفهوم على أنهما لم يفضلا على القليل فإما أن يفضل القليل عليهما أو يساوياه فلا بل يحتمل الأمرين.
ورده صاحب الكشف بأن الكثير لا يقابله القليل في مثل هذا المقام بل يدل على أن حكم الأكثر بخلافه ، ولما بعد تساوي الأكثر من حيث العادة لا سيما والأصل التفاوت حكم صاحب الكشاف بأنه يدل على أنه فضل عليهما أيضا كثير على أن العرف طرح التساوي في مثله عن الاعتبار وجعل التقابل بين المفضل والمفضل عليه ، ألا ترى أنهم إذا قالوا : لا أفضل من زيد فهم أنه أفضل من الكل انتهى.
وفي الآية أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه مما أوتياه من الملك العظيم وتحريض للعلماء على أن يحمدوا اللّه تعالى على ما آتاهم من فضله وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن في عباد اللّه تعالى من يفضلهم في العلم ، ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه حين نهى على المنبر عن التغالي في المهور فاعترضت عليه عجوز بقوله تعالى : وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [النساء :
20] الآية : كل الناس أفقه من عمر ، وفيه من جبر قلب العجوز وفتح باب الاجتهاد ما فيه ، وجعل الشيعة له من المثالب من أعظم المثالب وأعجب العجائب. ولعل في الآية إشارة إلى جواز أن يقول العالم : أنا عالم. وقال قال ذلك جملة من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم منهم أمير المؤمنين علي كرّم اللّه تعالى وجهه. وعبد اللّه بن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وما شاع من حديث : «من قال أنا عالم فهو جاهل» إنما يعرف من كلام يحيى بن أبي كثير موقوفا عليه على ضعف في إسناده ، ويحيى هذا من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده ، وقد وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وتحقيقه في أعذب المناهل للجلال السيوطي.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي قام مقامه في النبوة والملك وصار نبيا ملكا بعد موت أبيه داود عليهما السلام فوراثته إياه مجاز عن قيامه مقامه فيما ذكر بعد موته ، وقيل : المراد وراثة النبوة فقط ، وقيل : وراثة الملك فقط ، وعن الحسن ونسبه الطبرسي إلى أئمة أهل البيت أنها وراثة المال ، وتعقب بأنه
قد صح «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
وقد ذكره الصديق. والفاروق رضي اللّه تعالى عنهما بحضرة جمع من الصحابة وهم الذين لا يخافون في اللّه تعالى لومة لائم ولم ينكره أحد منهم عليهما.
وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم يقول : إن العلماء

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 167
ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» وروى محمد بن يعقوب الرازي في الكافي عن أبي البحتري عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق أنه قال ذلك أيضا
،
ومما يدل على أن هذه الوراثة ليست وراثة المال ما روى الكليني عن أبي عبد اللّه أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وأيضا وراثة المال لا تختص بسليمان عليه السلام فإنه كان لداود عدة أولاد غيره كما رواه الكليني عنه أيضا ، وذكر غيره أنه عليه السلام توفي عن تسعة عشر ابنا فالأخبار بها عن سليمان ليس فيه كثير نفع وإن كان المراد الأخبار بما يلزمها من بقاء سليمان بعد داود عليهما السلام فما الداعي للعدول عما يفيده من غير خفاء مثل وقال سليمان بعد موت أبيه داود «يا أيها الناس» إلخ.
وأيضا السياق والسباق يأبيان أن يكون المراد وراثة المال كما لا يخفى على منصف ، والظاهر أن الرواية عن الحسن غير ثابتة وكذا الرواية عن أئمة أهل البيت رضي اللّه تعالى عنهم ، فقد سمعت في رواية الكليني عن الصادق رضي اللّه تعالى عنه ما ينافي ثبوتها ، ووراثة غير المال شائعة في الكتاب الكريم فقد قال عز من قائل : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ [فاطر : 32] ، وقال سبحانه : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ [الأعراف : 169] ولا يضر تفاوت القرينة فافهم.
وكان عمره يوم توفي داود عليهما السلام اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة وكان داود قد أوصى له بالملك فلما توفي ملك وعمره ما ذكر ، وقيل : إن داود عليه السلام ولاه على بني إسرائيل في حياته حكاه في البحر.
وَقالَ تشهيرا لنعمة اللّه تعالى وتعظيما لقدرها ودعاء للناس إلى التصديق بنبوته بذكر المعجزات الباهرات التي أوتيها لا افتخارا يا أَيُّهَا النَّاسُ الظاهر عمومه جميع الناس الذين يمكن عادة مخاطبتهم.
وقال بعض الأجلة : المراد به رؤساء مملكته وعظماء دولته من الثقلين وغيرهم ، والتعبير عنهم بما ذكر للتغليب ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال : الناس عندنا أهل العلم عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي نطقه وهو في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا أو مركبا ، وقد يطلق على كل ما يصوت به على سبيل الاستعارة المصرحة ، ويجوز أن يعتبر تشبيه المصوت بالإنسان ويكون هناك استعارة بالكناية وإثبات النطق تخييلا ، وقيل يجوز أيضا أن يراد بالنطق مطلق الصوت على أنه مجاز مرسل وليس بذاك.
ويحتمل الأوجه الثلاثة قوله :
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال
وقد يطلق على ذلك للمشاكلة كما في قولهم : الناطق والصامت للحيوان والجماد ، والذي علمه عليه السلام من منطق الطير هو على ما قيل ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه ، ويحكى أنه عليه السلام مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول؟ قالوا : اللّه تعالى ونبيه أعلم قال : يقول أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاوس فقال يقول كما تدين تدان ، وصاح هدهد فقال : يقول استغفروا اللّه تعالى يا مذنبون ، وصاح طيطوى فقال : يقول كل حي ميت وكل جديد بال ، وصاح خطاف فقال : يقول قدّموا خيرا تجدوه ، وصاحت رخمة فقال : يقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى ، وقال الحدأ : يقول كل شيء هالك إلا اللّه تعالى ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء يقول : ويل لمن الدنيا همه والديك يقول : اذكروا اللّه تعالى يا غافلون. والنسر يقول : يا ابن آدم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 168
عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس والقنبرة تقول : اللهم العن مبغض محمد وآل محمد ، والزرزور يقول : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق والدراج يقول :
الرحمن على العرش استوى
انتهى. ونظم الضفدع في سلك المذكورات من الطير ليس في محله ، ومع هذا اللّه تعالى أعلم بصحة هذه الحكاية. وقيل : كانت الطير تكلمه عليه السلام معجزة له نحو ما وقع من الهدهد في القصة الآتية.
وقيل : علم عليه السلام ما تقصده الطير في أصواتها في سائر أحوالها فيفهم تسبيحها ووعظها وما تخاطبه به عليه السلام وما يخاطب به بعضها بعضا. وبالجملة علم من منطقها ما علم الإنسان من منطق بني صنفه ، ولا يستبعد أن يكون للطير نفوس ناطقة ولغات مخصوصة تؤدي بها مقاصدها كما في نوع الإنسان إلا أن النفوس الإنسانية أقوى وأكمل ، ولا يبعد أن تكون متفاوتة تفاوت النفوس الإنسانية الذي قال به من قال.
ويجوز أن يعلم اللّه تعالى منطقها من شاء من عباده ولا يختص ذلك بالأنبياء عليهم السلام ، ويجري ما ذكرناه في سائر الحيوانات وذهب بعض الناس إلى أن سليمان عليه السلام علم منطقها أيضا إلا أنه نص على الطير لأنها كانت جندا من جنوده يحتاج إليها في التظليل من الشمس وفي البعث في الأمور ، ولا يخفى أن الآية لا تدل على ذلك فيحتاج القول به إلى نقل صحيح ، وزعم بعضهم أنه عليه السلام علم أيضا منطق النبات فكان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها ، ولم أجد في ذلك خبرا صحيحا. وكثير من الحكماء من يعرف خواص النبات بلونه وهيئته وطعمه وغير ذلك. ولا يحتاج في معرفتها إلى نطقه بلسان القال. والضمير في عُلِّمْنا وأُوتِينا قيل : له ولأبيه عليهما السلام وهو خلاف الظاهر. والأولى كونه له عليه السلام ، ولما كان ملكا مطاعا خاطب رعيته على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة من التمهيد لما يراد من الرعية من الطاعة والانقياد في الأوامر والنواهي ولم يكن ذلك تعاظما وتكبرا منه عليه السلام ، ومراعاة قواعد السياسة للتوصل بها إلى ما فيه رضا اللّه عز وجل من الأمور المهمة.
وقد أمر نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم العباس بحبس أبي سفيان حتى تمر عليه الكتائب يوم الفتح لذلك ، وكُلِّ في الأصل للإحاطة وترد للتكثير كثيرا نحو قولك : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء وهي كناية في ذلك أو مجاز مشهور ، وهذا المعنى هو المراد هنا إذا جعلت مِنْ صلة وهو المناسب لمقام التحدث بالنعم ، وإن لم تجعل صلة فهي على أصلها فيما قيل. وأنت تعلم أنه لا يتسنى ذلك إلا إذا أريد الكل المجموعي وهو كما ترى.
وفي البحر أن قوله تعالى : عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ إشارة إلى النبوة. وقوله سبحانه : وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إشارة إلى الملك ، والجملتان كالشرح للميراث وعن مقاتل أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما هو ما يهمه عليه السلام من أمر الدنيا والآخرة. وقد يقال : إنه ما يحتاجه الملك من آلات الحرب وغيرها إِنَّ هذا إشارة إلى ما ذكر من التعليم والإيتاء لَهُوَ الْفَضْلُ والإحسان من اللّه تعالى الْمُبِينُ الواضح الذي لا يخفى على أحد أو أن هذا الفضل الذي أوتيته لهو الفضل المبين. فيكون من كلامه عليه السلام قطعا ذيل به ما تقدم منه ليدل على أنه إنما قال ما قال على سبيل الشكر كما
قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»
بالراء المهملة آخره كما في الرواية المشهورة أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا.
ويقرب من هذا المعنى ولا فخر بالزاي كما في الرواية الغير المشهورة.
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ أي جمع له عساكره من الأماكن المختلفة مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ بيان للجنود في البحر وغيره. ولا يلزم من ذلك أن يكون الجنود المحشورون له عليه السلام جميع الجن وجميع الإنس

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 169
وجميع الطير إذ يأبى ذلك مع قطع النظر عن العقل قصة بلقيس الآتية بعد ، وكذا قصة الهدهد.
ونقل عن بعضهم أنه عليه السلام كان يأتيه من كل صنف من الطير واحد وهو نص في أن المحشور ليس جميع الطير. ولا يكاد يصح إرادة الجميع في الجميع على ما ذكره الإمام في الآية أيضا وهو أن المعنى أنه جعل اللّه تعالى كل هذه الأصناف جنوده لأنه وإن لم يستدع الحضور والاجتماع في موضع واحد بل يكفي فيه مجرد الانقياد والدخول في حيطة تصرفه والاتباع له حيث كانوا لأباء قصة بلقيس أيضا عنه فإن المناسب الإخبار بهذا الجعل بعد الإخبار بدخولها ومن معها في حيطة تصرفه.
والظاهر أن هذا الحشر ليس إلا جمع العساكر ليذهب بهم إلى محاربة من لم يدخل في ربقة طاعته عليه السلام. وكونه ليذهب بهم إلى مكة شكرا على ما وفق له من بناء بيت المقدس خلاف الظاهر. لكن إذا صح فيه خبر قبل ، وأن المجموع من الأنواع المذكورة ما يليق بشأنه وأبهته وعظمته سواء جعلت مِنَ بيانية أو تبعيضية. وكونه عليه السلام أحد المؤمنين اللذين ملكا المعمورة بأسرها إذا سلمنا صحة الخبر الدال عليه وسلامته من المعارض وأنه نص في المطلوب لا يستدعي سوى دخول سكان المعمورة في عداد رعيته وحيطة ملكته وليس ذلك دفعيا بل هو إن صح كان بحسب التدريج. وقد ذكر بعض المؤرخين أن بلقيس إنما دخلت تحت طاعته في السنة الخامسة والعشرين من ملكه ، وكانت مدة ملكه عليه السلام أربعين سنة وكذا كانت مدة ملك أبيه داود عليهما السلام.
والظاهر أن الحاشر لكل نوع من الأنواع الثلاثة أشخاص منهم فيكون من كل نوع أشخاص مأمورون بذلك معدون له. ولا تستعبد ذلك في الطير إذا كنت من المؤمنين بقصة الهدهد ، ولا يلزمك التزام ما قاله الإمام من أن اللّه تعالى جعل للطير عقلا في أيام سليمان عليه السلام ولم يجعل لها ذلك في أيامنا فما عليك بأس إذا قلت بأنها على حالة واحدة اليوم وذلك اليوم. ولا نعني بعقلها إلا ما تهتدي به لأغراضها ، ووجود ذلك اليوم فيها وكذا في غيرها من سائر الحيوانات مما لا ينكره إلا مكابر ، وما علينا أن نقول : إن عقولها من حيث هي كعقول الإنسان من حيث هي.
ولعل فيها من يهتدي إلى ما لا يهتدي إليه الكثير من بني آدم كالنحل ، ولعمري أنها لو كانت خالية من العقل كما يقال وفرض وجود العقل فيها لا أظن أنها تصنع بعد وجوده أحسن مما تصنعه اليوم. وهي خالية منه ولا يجب أن يكون كل عاقل مكلفا فلتكن الطيور كسائر العقلاء الذين لم يبعث إليهم نبي يأمرهم وينهاهم ، ويجوز أيضا أن تكون عارفة بربها مؤمنة به جل وعلا من غير أن يبعث إليها نبي كمن ينشأ بشاهق جبل وحده ويكون مؤمنا بربه سبحانه بل كونها مؤمنة باللّه تعالى مسبحة له وكذا سائر الحيوانات مما تشهد له ظواهر الآيات والأخبار ، وقد قدمنا بعضا من ذلك وليس عندنا ما يجب له التأويل ، وبالغ بعضهم فزعم أنها مكلفة وفيها وكذا في غيرها من الحيوانات أنبياء لهم شرائع خاصة واستدل عليه بما استدل والمشهور إكفار من زعم ذلك. وقد نص على إكفاره جمع من الفقهاء ، وتخصيص الأنواع الثلاثة بالذكر ظاهر في أنه عليه السلام لم يسخر له الوحش. وفي خبر أخرجه الحاكم عن محمد ابن كعب ما هو ظاهر في تسخيره له عليه السلام أيضا ، وسنذكره قريبا إن شاء اللّه تعالى لكنه لا يعول عليه ، وتقديم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه عليه السلام وعزة سلطانه من أول الأمر لما أن الجن طائفة عاتية وقبيلة طاغية ماردة بعيدة من الحشر والتسخير. ولم يقدم الطير على الإنس مع أن تسخيرها أشق أيضا وأدل على قوة الملك وعزة السلطان لئلا يفصل بين الجن والإنس المتقابلين والمشتركين في كثير من الأحكام.
وقيل في تقديم الجن : إن مقام التسخير لا يخلو من تحقير وهو مناسب لهم وليس بشيء لأن التسخير للأنبياء

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 170
عليهم السلام شرف لأنه في الحقيقة للّه عز وجل الذي سخر كل شيء. وإذا اعتبر في نفسه فالتعليل بذلك غير مناسب للمقام ويكفي هذا في عدم قبوله فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة ، ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف كما هو المعتاد في العساكر والأول أولى وفيه مع الدلالة على الكثرة والإشعار بكمال مسارعتهم إلى السير الدلالة على أنهم كانوا مسوسين غير مهملين لا يتأذى أحد بهم. وأصل الوزع الكف والمنع ، ومنه قول عثمان رضي اللّه تعالى عنه : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. وقول الحسن لا بد للقاضي من وزعة ، وقول الشاعر :
ومن لم يزعه لبه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع
وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضا لأن في ذلك شفقة على الطائفتين ، أما الأوائل فمن جهة أن يستريحوا في الجملة بالوقوف عن السير ، وأما الأواخر فمن جهة أن لا يجهدوا أنفسهم بسرعة السير ، وقيل : إن ذلك لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع ، وأخرج الطبراني ، والطستي في مسائله عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير واللّه تعالى أعلم بصحة الخبر. والظاهر أن هذا الوزع إذا لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو ، والأخبار في قصته عليه السلام كثيرة.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كان يوضع لسليمان ثلاثمائة ألف كرسي فيجلس مؤمني الإنس مما يليه ومؤمني الجن من ورائهم ثم يأمر الطير فتظله ثم يأمر الريح فتحمله فيمرون على السنبلة فلا يحركونها ،
وأخرج الحاكم عن محمد بن كعب قال : بلغنا أن سليمان عليه السلام كان معسكره مائة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاطف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به. وأوحى اللّه عز وجل إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدتك في ملكك إنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح إليك وألقته في سمعك
. ويروى أن الجن نسجت له عليه السلام بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ومنبره في وسطه من ذهب فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر.
وأخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن وهب بن منبه قال : مر سليمان عليه السلام وهو في ملكه وقد حملته الريح على رجل حراث من بني إسرائيل فلما رآه قال : سبحان اللّه لقد أوتي آل داود ملكا فحملتها الريح فوضعتها في أذنه فقال : ائتوني بالرجل قال : ماذا قلت؟ فأخبره فقال سليمان : إني خشيت عليك الفتنة لثواب سبحان اللّه عند اللّه يوم القيامة أعظم مما رأيت. آل داود أوتوا فقال الحراث أذهب اللّه تعالى همك كما أذهبت همي.
وفي بعض الروايات أنه عليه السلام نزل ومشى إلى الحراث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال :
لتسبيحة واحدة يقبلها اللّه تعالى خير مما أوتي آل داود
،
وأكثر الأخبار في هذا الشأن لا يعول عليها فعليك بالإيمان بما نطق به القرآن ودلت عليه الأخبار الصحيحة وإياك من الانتصار لما لا صحة له مما يذكره كثير من القصاص والمؤرخين مما فيه مبالغات شنيعة بمجرد أنها أمور ممكنة يصح تعلق قدرته عز وجل بها فتفتح بذلك باب السخرية بالدين والعياذ باللّه تعالى ، ولا يبعد أن يكون أكثر ما تضمن مثل ذلك من وضع الزنادقة يريدون به التنفير عن دين

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 171
الإسلام حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ حتى هي التي يبتدأ بها الكلام ومع ذلك هي غاية لما قبلها وهي هاهنا غاية لما ينبىء عنه قوله تعالى : فَهُمْ يُوزَعُونَ من السير كأنه قيل : فساروا حتى إذا أتوا إلخ ، ووادي النمل واد بأرض الشام كثير النمل على ما روي عن قتادة ومقاتل ، وقال كعب : هو وادي السدير من أرض الطائف ، وقيل : واد بأقصى اليمن وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها ، وقيل : هو واد تسكنه الجن والنمل مراكبهم وهذا عندي مما لا يلتفت إليه.
وتعدية الفعل إليه بكلمة على مع أنه يتعدى بنفسه أو بإلى إما لأن إتيانهم كان من جانب عال فعدي بها للدلالة على ذلك كما قال المتنبي :
ولشدما جاوزت قدرك صاعدا ولشدما قربت عليك الأنجم
لما كان قرب الأنجم وإن أراد بها أبيات شعره من فوق ، وإما لأن المراد بالإتيان عليه قطعه وبلوغ آخره من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره. ثم الإتيان عليه بمعنى قطعه مجاز عن إرادة ذلك وإلا لم يكن للتحذير من الحطم الآتي وجه إذ لا معنى له بعد قطع الوادي الذي فيه النمل ومجاوزته ، والظاهر على الوجهين أنهم أتوا عليه مشاة ، ويحتمل أنهم كانوا يسيرون في الهواء فأرادوا أن ينزلوا هناك فأحست النملة بنزولهم فأنذرت النمل قالَتْ نَمْلَةٌ جواب إذا. والظاهر أنها صوتت بما فهم سليمان عليه السلام منه معنى يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وهذا كما يفهم عليه السلام من أصوات الطير ما يفهم ، ولا يقدح في ذلك أنه عليه السلام لم يعلم إلا منطق الطير إما لأنها كانت من الطير ذات جناحين كما أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي وهو وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة ، وكم رأينا نملة لها جناحان تطير بهما ، وكون ذلك لا يقتضي عدها من الطير محل نظر وإما لأن فهم ما ذكر وقع له عليه السلام هذه المرة فقط ولم يطرد كفهم أصوات الطير ، وليس في الآية السابقة ولا في الأخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد ، وقال ابن بحر : إنها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليه السلام كما نطق الضب والذراع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، قال مقاتل : وقد سمع عليه السلام قولها من ثلاثة أميال ، ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة والسمع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت إليه أو لأن اللّه تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها إلا أن إحساس النملة من تلك المسافة بعيد ، والمشهور عند العرب بالإحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل.
وأنت تعلم أنه لا ضرر في إنكار صحة هذا الخبر ، وقيل : إنه عليه السلام لم يسمع صوتا أصلا وإنما فهم ما في نفس النملة إلهاما من اللّه تعالى ، وقال الكلبي : أخبره ملك بذلك وإلى أنه لم يسمع صوتا يشير قول جرير :
لو كنت أوتيت كلام الحكل علم سليمان كلام النمل
فإنه أراد بالحكل ما لا يسمع صوته وقال بعضهم : كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها وصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولا له فيكون الكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية ، ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية.
وأنت تعلم أنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك. ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 172
فإنه يقطع الواحدة منهما أربع قطع ولا يكتفي بشقها نصفين لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق. وهذا وأمثاله يحتاج إلى علم كلي استدلالي وهو يحتاج إلى نفس ناطقة ، وقد برهن شيخ الأشراف على ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات. وظواهر الآيات والأخبار الصحيحة تقتضيه كما سمعت قديما وحديثا فلا حاجة بك إلى أن تقول : يجوز أن يكون اللّه تعالى قد خلق في النملة إذ ذاك النطق وفيما عداها من النمل العقل والفهم وأما اليوم فليس في النمل ذلك.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أن الظاهر أن علم النملة بأن الآتي هو سليمان عليه السلام وجنوده كان عن إلهام منه عز وجل وذلك كعلم الضب برسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم حين تكلم معه وشهد برسالته عليه الصلاة والسلام ، والظاهر أيضا أنها كانت كسائر النمل في الجثة ، وفيه اليوم ما يقرب من الذبابة ويسمى بالنمل الفارسي ، وبالغ بعض القصاص في كبرها ولا يصح له مستند.
وفي بعض الآثار أنها كانت عرجاء واسمها طاخية ، وقيل : جرمى ، وفي البحر اختلف في اسمها العلم ما لفظه وليت شعري من الذي وضع لها لفظا يخصها أبنو آدم أم النمل انتهى ، والذي يذهب إلى أن للحيوانات نفوسا ناطقة لا يمنع أن تكون لها أسماء وضعها بعضها لبعض لكن لا بألفاظ كألفاظنا بل بأصوات تؤدى على نحو مخصوص من الأداء ولعله يشتمل على أمور مختلفة كل منها يقوم مقام حرف من الحروف المألوفة لنا إذا أراد أن يترجم عنها من عرفها من ذوي النفوس القدسية ترجمها بما نعرف ، ويقرب هذا لك أن بعض كلام الإفرنج وأشباههم لا نسمع منه إلا كما نسمع من أصوات العصافير ونحوها وإذا ترجم لنا بما نعرفه ظهر مشتملا على الحروف المألوفة ، والظاهر أن تاء نَمْلَةٌ للوحدة فتأنيث الفعل لمراعاة ظاهر التأنيثفلا دليل في ذلك على أن النملة كانت أنثى قاله بعضهم.
وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم - وكان أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه حاضرا وهو غلام حدث - فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكر أم أنثى؟ فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة : كانت أنثى فقيل له : من أين عرفت؟ فقال من كتاب اللّه تعالى وهو قوله تعالى : «قالت نملة» ولو كان ذكرا لقال سبحانه قال نملة ، وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي كذا في الكشاف ، وتعقبه ابن المنير فقال : لا أدري العجب منه أم من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه ، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس فيقال : نملة ذكر ونملة أنثى كما يقولون : حمامة ذكر وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث ومعناها محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل ، ألا ترى
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يضحى بعوراء ولا عمياء ولا عجفاء»
كيف أخرج عليه الصلاة والسلام هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني صلّى اللّه عليه وسلّم الإناث من الأنعام خاصة فحينئذ قوله تعالى : قالت نملة روعي فيه تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل التذكير والتأنيث على حد سواء ، وكيف يسأل أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه بهذا ويفحم به قتادة مع غزارة علمه ، والأشبه أن ذلك لا يصح عنهما ا ه.
وقال ابن الحاجب عليه الرحمة : التأنيث اللفظي هو أن لا يكون بإزائه ذكر في الحيوان كظلمة وعين ، ولا فرق بين أن يكون حيوانا أو غيره كدجاجة وحمامة إذا قصد به مذكر فإنه مؤنث لفظي ، ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى : قالَتْ نَمْلَةٌ أنثى لورود تاء التأنيث في قالَتْ وهما لجواز أن يكون مذكرا في الحقيقة ، وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي نحو جاءت الظلمة. وأجاب بعض فضلاء ما وراء النهر وقال : لعمري إنه قد تعسف هاهنا ابن الحاجب وترك الواجب حيث اعترض على إمام أهل الإسلام ، واعتراضه يقوله : وورود تاء التأنيث كورودها إلخ ليس بشيء إذ لو كان جائزا أن يؤتى بتاء التأنيث في الفعل لمجرد صورة التأنيث في الفاعل المذكر

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 173
الحقيقي لكان ينبغي جواز أن يقال : جاءتني طلحة مع أنه لا يجوز ، وجوابه عن ذلك في شرحه بقوله : وليس ذلك كتأنيث أسماء الأعلام فإنها لا يعتبر فيها إلا المعنى دون اللفظ خلافا للكوفيين. والسر فيه هو أنهم نقلوها عن معانيها إلى مدلول آخر فاعتبروا فيها المدلول الثاني ، ولو اعتبروا تأنيثها لكان اعتبارا للمدلول الأول فيفسد المعنى فلذلك لا يقال : أعجبتني طلحة تناقض محض كأنه نسي ما أمضى في صدر كتابه من قوله فإن سمى به مذكر فشرطه الزيادة يعني فإن سمي بالمؤنث المعنوي فشرطه الزيادة على ثلاثة أحرف فلا يخفى على من له أدنى مسكة أن عقرب مع أن علامة التأنيث فيه مقدرة العلمية لا تمنعها عن اعتبار تأنيثها حتى تمنع من الصرف فكيف تمنع العلمية عن اعتبار التأنيث في طلحة مع أن علامة التأنيث فيه لفظية فإذن ليس طرح التاء عن الفعل إلا لأن التاء إنما يجاء بها علامة لتأنيث الفاعل ، والفاعل هاهنا مذكر حقيقي فكذا النملة لو كان مذكرا لكان هو مع طلحة حذو القذة بالقذة.
وينصر قول أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ما نقل عن ابن السكيت هذا بطة ذكر وهذا حمامة ذكر وهذا شاة إذا عنيت كبشا وهذا بقرة إذا عنيت ثورا فإن عنيت به أنثى قلت : هذه بقرة ا ه. وارتضاه الطيبي ثم قال فظهر أن القول ما قالت حذام والمذهب ما سلكه الإمام. وفي الكشف أن التاء في نملة للوحدة فهي في حكم المؤنث اللفظي جاز أن تعامل معاملته كتمر وتمرة على ما نص عليه في المفصل ، ولا يشكل بنحو طلحة حيث لم يجز إلحاق فعله التاء لأن أسماء الأعلام يعتبر فيها المعنى دون اللفظ خلافا للكوفيين إلى آخر ما ذكره ابن الحاجب ، ولا نقض باعتبار التأنيث في عقرب أن سمي به مذكر ولا في طلحة نفسه باعتبار منع الصرف على ما ظنه بعض فضلاء ما وراء النهر.
وصوبه شيخنا الطيبي لأن اعتبار المعنى هو فيما يرجع إلى المعنى لا فيما يرجع إلى اللفظ ، وإلحاق العلامة باعتبار الفاعل إما للتأنيث الحقيقي وإما لشبه التأنيث من الوحدة أو الجمعية ونحوها فإذا لم يبق المعنى أعني التأنيث وشبه التأنيث فلا وجه للإلحاق. وأما منع الصرف فلا نظر فيه إلى معنى التأنيث بل إلى هذه الزيادة لفظا أو تقديرا وذلك غاير مختلف في المنقول والمنقول عنه ، وكفاك دليلا لاعتبار اللفظ وحده في هذا الحكم تفرقتهم في سقر بين تسمية المذكر به والمؤنث دون عقرب فلو تأمل المناقض لكان ما أورده عليه لا له هذا ، وإن الإمام رضي اللّه تعالى عنه كوفي والقاعدة على أصله مهدومة انتهى. وهو كلام متين.
والحزم القول بعدم صحة هذه الحكاية فأبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه من عرفت وإن كان إذ ذاك غلاما حدثا.
وقتادة بن دعامة السدوسي بإجماع العارفين بالرجال كان بصيرا بالعربية فيبعد كل البعد وقوع ما ذكر منهما واللّه تعالى أعلم.
والحطم الكسر والمراد به الإهلاك. والنهي في الظاهر لسليمان عليه السلام وجنوده وهو في الحقيقة نهي على طريق الكناية للنمل عن التوقف حتى تحطم لأن الحطم غير مقدور لها نحو قولك : لا أرينك هاهنا فإنه في الظاهر نهي للمتكلم عن رؤية المخاطب والمقصود نهي المخاطب عن الكون بحيث يراه المتكلم فالجملة استئناف أو بدل اشتمال من جملة ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ، وقول بعضهم : إذا كان المعنى النهي عن التوقف حتى تحطم يحصل الاتحاد بين الجملتين يقتضي أنه بدل كل من كل بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده وعلى ما ذكر لا حاجة إليه وبالجملة اعتراض أبي حيان على وجه الإبدال باختلاف مدلولي الجملتين ليس في محله ، وجوز الزمخشري كون لا يحطمنكم جوابا للأمر ، أعني - ادخلوا - ولا حينئذ نافية وتعقب بأن دخول النون في جواب الشرط مخصوص بضرورة الشعر كقوله :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 174
مهما تشأ منه فزارة تعطه ومهما تشأ منه فزارة يمنعا
وفي الكتاب وهو قليل في الشعر شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما غير واجب. وأرادت النملة على ما في الكشاف لا يحطمنكم جنود سليمان فجاءت بما هو أبلغ. ونحوه قوله :
عجبت من نفسي ومن إشفاقها حيث أراد عجبت من إشفاق نفسي فجاء بما هو أبلغ للإجماع والتفصيل. وتعقب ذلك في البحر بأن فيه القول بزيادة الأسماء وهي لا تجوز بل الظاهر إسناد الحطم إليه عليه السلام وإلى جنوده والكلام على حذف مضاف أي خيل سليمان وجنوده أو نحو ذلك مما يصح تقديره وللبحث فيه مجال وجملة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من مجموع المتعاطفين والضمير لهما.
وجوز أن تكون حالا من الجنود والضمير لهم ، وأيا ما كان ففي تقييد الحطم بعدم الشعور بمكانهم المشعر بأنه لو شعروا بذلك لم يحطموا ما يشعر بغاية أدب النملة مع سليمان عليه السلام وجنوده ، وليت من طعن في أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ورضي اللّه تعالى عنهم تأسى بها فكف عن ذلك وأحسن الأدب ، وروي أن سليمان عليه السلام لما سمع قول النملة : يا أَيُّهَا النَّمْلُ إلخ قال ائتوني بها فأتوا بها فقال لم حذرت النمل ظلمي؟ أما علمت أني نبي عدل فلم قلت : لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وجنوده فقالت : أما سمعت قولي : وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ومع ذلك إني لم أرد حطم النفوس وإنما أردت حطم القلوب خشيت أن يروا ما أنعم اللّه تعالى به عليك من الجاه والملك العظيم فيقعوا في كفران النعم فلا أقل من أن يشتغلوا بالنظر إليك عن التسبيح فقال لها سليمان عظيني فقالت أعلمت لم سمي أبوك داود؟ قال :
لا قالت : لأنه داوى جراحة قلبه وهل تدري لم سميت سليمان؟ قال : لا قالت : لأنك سليم القلب والصدر. ثم قالت :
أتدري لم سخر اللّه تعالى لك الريح؟ قال : لا قالت : أخبرك اللّه تعالى بذلك أن الدنيا كلها ريح فمن اعتمد عليها فكأنما اعتمد على الريح
. وهذا ظاهر الوضع كما لا يخفى وفيه ما يشبه كلام الصوفية واللّه تعالى أعلم بصحة ما روى من أنها أهدت إليه نبقة وأنه عليه السلام دعا للنمل بالبركة.
وجوز أن تكون جملة هُمْ لا يَشْعُرُونَ في موضع الحال من النملة والضمير للجنود كالضمائر السابقة في قوله تعالى : فَهُمْ يُوزَعُونَ وقوله سبحانه : حَتَّى إِذا أَتَوْا وهي من كلامه تعالى أي قالت ذلك في حال كون الجنود لا يشعرون به وليس بشيء وقد يقرب منه ما قيل إنه يجوز أن تكون الجملة معطوفة على مقدر وهي من كلامه عز وجل كأنه قيل : فهم سليمان ما قالت والجنود لا يشعرون بذلك. وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان وأبو سليمان التيمي نملة بضم الميم كسمرة وكذلك النمل كالرجل والرجل لغتان ، وعن أبي سليمان التيمي نملة ونمل بضم النون والميم. وقرأ شهر بن حوشب «مسكنكم» على الإفراد. وعن أبي «أدخلن مساكنكن لا يحطمنكن» مخففة النون التي قبل الكاف.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي. ونوح القاضي بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون مضارع حطم مشددا. وعن الحسن بفتح الياء «1» وإسكان الحاء وشد الطاء وعنه كذلك مع كسر الحاء وأصله يحتطمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة ويعقوب وأبو عمرو في رواية عبيد كقراءة الجمهور إلا
___________
(1) قوله وإسكان الحاء كذا بخطه ولعله سبق قلم ففي الكشاف وقرىء لا يَحْطِمَنَّكُمْ بفتح الحاء وكسرها وأصله يحتطمنكم ا ه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 175
أنهم سكنوا نون التأكيد ، وقرأ الأعمش بحذف النون وجزم الميم. ولا خلاف على هذه القراءة في جواز أن يكون الفعل مجزوما في جواب الأمر فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها تفريع على ما تقدم فلا حاجة إلى تقدير معطوف عليه أي فسمعها فتبسم وجعل الفاء فصيحة كما قيل. ولعله عليه السلام إنما تبسم من ذلك سرورا بما ألهمت من حسن حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة وابتهاجا بما خصه اللّه تعالى به من إدراك ما هو همس بالنسبة إلى البشر وفهم مرادها منه.
وجوز أن يكون ذلك تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها : والأول أظهر مناسبة لما بعد من الدعاء. وانتصب ضاحِكاً على الحال أي شارعا في الضحك أعني قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك أو مقدر الضحك بناء على أنه حال مقدرة كما نقله الطيبي عن بعضهم. وقال أبو البقاء هو حال مؤكدة وهو يقتضي كون التبسم والضحك بمعنى والمعروف الفرق بينهما قال ابن حجر التبسم مبادئ الضحك من غير صوت والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي فإن كان فيه صوت يسمع من بعد فهو القهقهة ، وكأن من ذهب إلى اتحاد التبسم والضحك خص ذلك بما كان من الأنبياء عليهم السلام فإن ضحكهم تبسم ، وقد قال البوصيري في مدح نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم :
سيد ضحكه التبسم والم شي الهوينا ونومه الإغفاء
وروى البخاري عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت : ما رأيته صلّى اللّه عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا
أي مقبلا على الضحك بكليته إنما كان يتبسم ، والذي يدل عليه مجموع الأحاديث إن تبسمه عليه الصلاة والسلام أكثر من ضحكه وربما ضحك حتى بدت نواجذه. وكونه ضحك كذلك مذكور
في حديث آخر أهل النار خروجا منها وأهل الجنة دخولا الجنة. وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
وكذا في حدب أخرجه البخاري في المواقع أهله في رمضان ، وليس في حديث عائشة السابق أكثر من نفيها رؤيتها إياه صلّى اللّه عليه وسلّم مستجمعا ضاحكا وهو لا ينافي وقوع الضحك منه في بعض الأوقات حيث لم تره.
وأول الزمخشري ما روى من أنه صلّى اللّه عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه بأن الغرض منه المبالغة في وصف ما وجد منه عليه الصلاة والسلام من الضحك النبوي وليس هناك ظهور النواجذ وهي أواخر الأضراس حقيقة ، ولعله إنما لم يقل سبحانه : فتبسم من قولها بل جاء جل وعلا بضاحكا نصبا على الحال ليكون المقصود بالإفادة التجاوز إلى الضحك بناء على أن المقصود من الكلام الذي فيه قيد إفادة القيد نفيا أو إثباتا ، وفيه إشعار بقوة تأثير قولها فيه عليه السلام حيث أداه ما عراه منه إلى أن تجاوز حد التبسم آخذا في الضحك ولم يكن حاله التبسم فقط.
وكأنه لما لم يكن قول فضحك من قولها في إفادة ما ذكرنا مثل ما في النظم الجليل لم يؤت به ، وفي البحر أنه لما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب كما يقولون : تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئ وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح أتى سبحانه بقوله تعالى : ضاحِكاً لبيان أن التبسم لم يكن استهزاء ولا غضبا انتهى.
ولا يخفى أن دعوى أن الضحك لا يكون إلا للسرور والفرح يكذبها قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين : 29] فإن هذا الضحك كان من مشركي قريش استهزاء بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وغيرهم كما ذكره المفسرون ولم يكن للسرور والفرح. وكذا قوله تعالى : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين : 34] كما هو الظاهر. وإن هرعت إلى التأويل قلنا الواقع يكذبها فإن أنكرت ضحك

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 176
منك أولو الألباب ، وفيه أيضا غير ذلك فتأمل واللّه تعالى الهادي إلى صوب الصواب ، وقرأ ابن السميقع «ضحكا» على أنه مصدر في موضع الحال ، وجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول مطلق نحو شكرا في قولك حمد شكرا.
وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أي اجعلني أزع شكر نعمتك أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني وهو مجاز عن ملازمة الشكر والمداومة عليه فكأنه قيل : رب اجعلني مداوما على شكر نعمتك ، وهمزة أوزع للتعدية ، ولا حاجة إلى اعتبار التضمين. وكون التقدير رب يسر لي أن أشكر نعمتك وازعا إياه وعن ابن عباس أن المعنى اجعلني أشكر. وقال ابن زيد : أي حرضني. وقال أبو عبيدة أي أولعني. وقال الزجاج فيما قيل أي ألهمني. وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء التي تباعدني عنك. قال الطيبي فعلى هذا هو كناية تلويحية فإنه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به تقيد النعمة من الشكر. وإضافة النعمة للاستغراق أي جميع نعمك. وقرىء «أوزعني» بفتح الياء الَّتِي أَنْعَمْتَ أي أنعمتها ، وأصله أنعمت بها إلا أنه اعتبر الحذف والإيصال لفقد شرط حذف العائد المجرور وهو أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا ، ومن لا يقول باطراد ذلك لا يعتبر ما ذكر ولا أرى فيه بأسا عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أدرج ذكر والديه تكثيرا للنعمة فإن الأنعام عليهما أنعام عليه من وجه مستوجب للشكر أو تعميما لها فإن النعمة عليه عليه السلام يرجع نفعها إليهما ، والفرق بين الوجهين ظاهر ، واقتصر على الثاني في الكشاف وهو أوفق بالشكر.
وكون الدعاء المذكور بعد وفاة والديه عليهما السلام قطعا ، ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى : اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ : 13] بعد قوله سبحانه : وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ : 10] إلخ ، وقوله تعالى : وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [الأنبياء : 81 ، سبأ : 12] إلخ فتدبر فإنه دقيق وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً عطف على أَنْ أَشْكُرَ فيكون عليه السلام قد طلب جعله مداوما على عمل العمل الصالح أيضا. وكأنه عليه السلام أراد بالشكر الشكر باللسان المستلزم للشكر بالجنان وأردفه بما ذكر تتميما له لأن عمل الصالح شكر بالأركان ، وفي البحر أنه عليه السلام سأل أولا شيئا خاصا وهو شكر النعمة وثانيا شيئا عاما وهو عمل الصالح ، وقوله تعالى : تَرْضاهُ قيل صفة مؤكدة أو مخصصة إن أريد به كمال الرضا ، واختير كونه صفة مخصصة. والمراد بالرضا القبول وهو ليس من لوازم العمل الصالح أصلا لا عقلا ولا شرعا وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي في جملتهم.
والكلام عن الزمخشري كناية عن جعله من أهل الجنة. وقدر بعضهم الجنة مفعولا ثانيا لأدخلني ، وعلى كونه كناية لا حاجة إلى التقدير ، والداعي لأحد الأمرين على ما قيل دفع التكرار مع ما قبل لأنه إذا عمل عملا صالحا كان من الصالحين البتة إذ لا معنى للصالح إلا العامل عملا صالحا ، وأردف طلب المداومة على عمل الصالح بطلب إدخاله الجنة لعدم استلزام العمل الصالح بنفسه إدخال الجنة ،
ففي الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه تعالى برحمته»
وكأن في ذكر بِرَحْمَتِكَ في هذا الدعاء إشارة إلى ذلك.
ولا يأبى ما ذكر قوله تعالى : تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف : 72] لأن سببية العمل للإيراث برحمة اللّه تعالى.
وقال الخفاجي : لك أن تقول إنه عليه السلام عد نفسه غير صالح تواضعا أي فلا يحتاج إلى التقدير ولا إلى نظم الكلام في سلك الكناية ، ولا يخفى أن هذا لا يدفع السؤال بإغناء الدعاء بالمداومة على عمل الصالح عنه.
وقيل : المراد أن يجعله سبحانه في عداد الأنبياء عليهم السلام ويثبت اسمه مع أسمائهم ولا يعزله عن منصب النبوة الذي هو منحة إلهية لا تنال بالأعمال ولذا ذكر الرحمة في البين ، ونقل الطبرسي عن ابن عباس ما يلوح بهذا المعنى.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 177
وقيل : المراد أدخلني في عداد الصالحين واجعلني أذكر معهم إذا ذكروا ، وحاصله طلب الذكر الجميل الذي لا يستلزمه عمل الصالح إذ قد يتحقق من شخص في نفس الأمر ولا يعده الناس في عداد الصالحين. وفي هذا الدعاء شمة من دعاء إبراهيم عليه السلام وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء : 84] ومقاصد الأنبياء في مثل ذلك أخروية ، وقيل : يحتمل أنه أراد بعمل الصالح القيام بحقوق اللّه عز وجل وأراد بالصلاح في قوله : فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ القيام بحقوقه تعالى وحقوق عباده فيكون من قبيل التعميم بعد التخصيص. وتعيين ما هو الأولى من هذه الأقوال مفوض إلى فكرك واللّه تعالى الهادي ، وكان دعاؤه عليه السلام على ما في بعض الآثار بعد أن دخل النمل مساكنهن ،
قال في الكشاف : روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ أي أراد معرفة الموجود منها من غيره ، وأصل التفقد معرفة الفقد ، والظاهر أنه عليه السلام تفقد كل الطير وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا لا سيما الضعفاء منها قيل وكان يأتيه من كل صنف واحد فلم ير الهدهد ، وقيل : كانت الطير تظله من الشمس وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن فمسته الشمس فنظر إلى مكان الهدهد فلم يره ، وعن عبد اللّه بن سلام أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها وكان الهدهد يرى الماء في باطن الأرض فيخبر سليمان بذلك فيأمر الجن فتسلخ الأرض عنه في ساعة كما تسلخ الشاة فاحتاجوا إلى الماء فتفقد لذلك الطير فلم يرد الهدهد فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ وهو طائر معروف منتن يأكل الدم فيما قيل ويكنى بأبي الأخبار وأبي الربيع وأبي ثمامة وبغير ذلك مما ذكره الدميري ، وتصغيره على القياس هديهد ، وزعم بعضهم أنه يقال في تصغيره هداهد بقلب الياء ألفا ، وأنشدوا :
كهداهد كسر الرماة جناحه ونظير ذلك دوابه وشوابه في دويبه وشويبه.
والظاهر أن قوله عليه السلام ذلك مبني على أنه ظن حضوره ومنع مانع له من رؤيته أي عدم رؤيتي إياه مع حضوره لأي سبب ألساتر أم لغيره ثم لاح له أنه غائب فاضرب عن ذلك وأخذ يقول : أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له ، فأم هي المنقطعة كما في قولهم إنها لإبل أم شاء. وقال ابن عطية : مقصد الكلام الهدهد غاب ولكنه أخذ اللازم من مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله : ما لِيَ ناب مناب الهمزة التي تحتاجها أم انتهى.
وظاهره أن أم متصلة والهمزة قائمة مقام همزة الاستفهام فالمعنى عنده أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته والحق ما تقدم ، وقيل في الكلام قلب والأصل ما للهدهد لا أراه ، ولا يخفى أنه لا ضرورة إلى ادعاء ذلك ، نعم قيل هو أوفق بكون التفقد للعناية ، وذكر أن اسم هذا الهدهد يعفور ، وكون الهدهد يرى الماء تحت الأرض رواه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وأخرج ابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عن يوسف بن ماهك أن ابن عباس حين قال ذلك اعترض عليه نافع بن الأزرق كعادته بأنه كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ ويوضع فيه الحبة وتستر بالتراب فيصطاد فقال رضي اللّه تعالى عنه إن البصر ينفع ما لم يأت القدر فإذا جاء القدر حال دون البصر فقال ابن الأزرق : لا أجادلك

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 178
بعدها بشيء ، ولا مانع من أن يقال : يجوز أن يرى الحبة أيضا إلا أنه لا يعرف أن التقاطها من الفخ يوجب اصطياده ، وكثير من الطيور وسائر الحيوانات يصطاد بما يراه بنوع حيلة.
ويجوز أيضا أن يراها ويعرف المكيدة في وضعها إلا أن القدر يغلب عليه فيظن أنه ينجو إذا التقطها بأحد وجوه يتخيلها فيكون نظير من يخوض المهالك لظن النجاة مع مشاهدة هلاك الكثير ممن خاضها قبله وإذا أراد اللّه تعالى بقوم أمرا سلب من ذوي العقول عقولهم ، نعم إن رؤيته الماء تحت الأرض وإن جاز على ما تقتضيه أصول الأشاعرة أمر يستبعده العقل جدا ولا جزم لي بصحة الخبر السابق ، وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند المحدثين بما تعلم ، ومثله ما تقدم عن ابن سلام وكذا غيره من الأخبار التي وقفت عليها في هذا الشأن ، وليس في الآية إشارة إلى ذلك بل الظاهر بناء على ما يقتضيه حال سليمان عليه السلام أن التفقد كان منه عليه السلام عناية بأمور ملكه واهتماما بضعفاء جنده ، وكأنه عليه السلام أخرج كلامه كما حكاه النظم الجليل لغلبة ظنه أنه لم يصبه ما أهلكه وليكون ذلك مع التفقد من باب الجمع بين صفتي الجمال والجلال وهو الأكمل في شأن الملوك ، ولعل ما وقع من حديث النملة كان كالحالة المذكرة له عليه السلام للتفقد.
وعلى ما تقدم عن ابن سلام أن الحالة المذكرة بل الداعية هي النزول في المفازة التي لا ماء فيها ، وكون الهدهد قنا قنه ، ويحكون في ذلك أن سليمان عليه السلام حين تم له بناء بيت المقدس تجهز ليحج بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كل يوم طول مقامه خمسة آلاف بقرة وخمسة آلاف ناقة وعشرين ألف شاة وقال لأشراف من معه إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا يعطي النصر على من عداه وينصر بالرعب من مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء في الحق لا تأخذه في اللّه تعالى لومة لائم قالوا : فبأي دين يدين يا نبي اللّه؟
فقال : بدين الحنيفية فطوبى لمن آمن به وأدركه فقالوا : كم بيننا وبين خروجه؟ قال : مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل عليهم السلام ، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلي فلم يجدوا الماء فكان ما كان.
وفي بعض الآثار ما يعارض حكاية الحج ، فقد روي عن كعب الأحبار أن سليمان عليه السلام سار من إصطخر يريد اليمن فمر على مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال : هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان طوبى لمن اتبعه ، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناما تعبد فجاوزه فبكى البيت فأوحى اللّه تعالى إليه ما يبكيك؟ قال يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا عليّ ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى اللّه تعالى إليه لا تبك فإني سوف أبكيك وجوها سجدا وأنزل فيك قرآنا جديدا وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ واجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني وأفرض عليهم فريضة يرفون إليك رفيف النسر إلى وكره ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان ، ثم مضى سليمان حتى أتى على وادي النمل ، ولا يظهر الجمع بين الخبرين ، ولعل المقدار الذي يصح من الأخبار أنه عليه السلام لما تم له بناء بيت المقدس حج وأكثر من تقريب القرابين وبشر بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقصد اليمن وتفقد الطير فلم ير الهدهد فتوعده بقوله : لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً قيل بنتف ريشه وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج.
والظاهر أن المراد جميع ريشه ، وقال يزيد بن رومان بنتف ريش جناحيه ، وقال ابن وهب بنتف نصف ريشه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 179
وزاد بعضهم مع النتف إلقاءه للنمل وآخر تركه في الشمس ، وقيل : ذلك بطليه بالقطران وتشميسه وقيل بحبسه في القفص ، وقيل بجمعه مع غير جنسه ، وقيل بإبعاده من خدمة سليمان عليه السلام ، وقيل بالتفريق بينه وبين إلفه ، وقيل بإلزامه خدمة أقرانه. وفي البحر الأجود أن يجعل كل من الأقوال من باب التمثيل وهذا التعذيب للتأديب. ويجوز أن يبيح اللّه تعالى له ذلك لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة كما أباح سبحانه ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر من أجله إلا بالتأديب والسياسة جاز أن يباح له ما يستصطلح به. وفي الإكليل للجلال السيوطي قد يستدل بالآية على جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي أو إسراعها أو نحو ذلك. وعلى جواز نتف ريش الحيوان لمصلحة بناء على أن المراد بالتعذيب المذكور نتف ريشه.
وذكر فيه أن ابن العربي استدل بها على أن العذاب على قدر الذنب لا على قدر الجسد. وعلى أن الطير كانوا مكلفين إذ لا يعاقب على ترك فعل إلا من كلف به ا ه فلا تغفل أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ كالترقي من الشديد إلى الأشد فإن في الذبح تجريع كأس المنية. وقد قيل :
كل شيء دون المنية سهل أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة تبين عذره في غيبته. وما ألطف التعبير بالسلطان دون الحجة هنا لما أن ما أتى به من العذر انجر إلى الإتيان ببلقيس وهي سلطان. ثم إن هذا الشق وإن قرن بحرف القسم ليس مقسما عليه في الحقيقة وإنما المقسم عليه حقيقة الأولان وأدخل هذا في سلكهما للتقابل. وهذا كما في الكشف نوع من التغليب لطيف المسلك ، ومآل كلامه عليه السلام ليكونن أحد الأمور على معنى إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما فاو في الموضعين للترديد. وقيل : هي في الأول للتخيير بين التعذيب والذبح وفي الثاني للترديد بينهما وبين الإتيان بالسلطان وهو كما ترى.
وزعم بعضهم أنها في الأول للتخيير وفي الثاني بمعنى إلا وفيه غفلة عن لام القسم ، وجوز أن تكون الأمور الثلاثة مقسما عليها حقيقة ، وصح قسمه عليه السلام على الإتيان المذكور لعلمه بالوحي أنه سيكون أو غلبة ظنه بذلك لأمر قام عنده يفيدها وإلا فالقسم على فعل الغير في المستقبل من دون علم أو غلبة ظن به لا يكاد يسوغ في شريعة من الشرائع ، وتعقب بأن قوله : سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النمل : 27] ينافي حصول العلم وما حكاه له. ودفع المنافاة بأنه يجوز أن يأتي بحجة لا يعلم سليمان عليه السلام ولا يظن صدقها وكذبها غير سديد إذ قوله : مُبِينٍ يأباه. وبالجملة الوجه ما ذكر أو لا فتأمل. وقرأ عيسى بن عمر «ليأتينّ» بنون مشددة مفتوحة بغير ياء ، وكتب في الإمام «لا أذبحه» بزيادة ألف بين الذال والألف المتصلة باللام ولا يعلم وجهه كأكثر ما جاء فيه مما يخالف الرسم المعروف ، وقيل : هو التنبيه على أن الذبح لم يقع.
وقال ابن خلدون في مقدمة تاريخه : إن الكتابة العربية كانت في غاية الإتقان والجودة في حمير ومنهم تعلمها مضر إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لبعدهم عن الحضارة وكان الخط العربي أول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإتقان والجودة وإلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع وما وقع في رسم المصحف من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم من الرسوم المخالفة لما اقتضته أقيسة رسوم الخط وصناعته عند أهلها كزيادة الألف في «لا أذبحنه» من قلة الإجادة لصنعة الخط واقتفاء السلف رسمهم ذلك من باب التبرك. وتوجيه بعض المغفلين تلك المخالفة بما وجهه بها ليس بصحيح والداعي له إلى ذلك تنزيه الصحابة عن النقص لما زعم أن الخط كمال ولم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 180
يتفطن لأن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية وذلك ليس بكمال في حقهم إذ الكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ونحوه وإنما يعود على أسباب المعاش. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أميا وكان ذلك كمالا في حقه وبالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام. ومثل الأمية تنزه عليه الصلاة والسلام عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران ولا يعد ذلك كمالا في حقنا إذ هو صلّى اللّه عليه وسلّم منقطع إلى ربه عز وجل ونحن متعاونون على الحياة الدنيا ومن هنا
قال عليه الصلاة والسلام : «أنتم أعلم بأمور دنياكم»
انتهى ملخصا.
وأنت تعلم أن كون زيادة الألف في «لا أذبحنه» لقلة إجادتهم رضي اللّه تعالى عنهم صنعة الكتابة في غاية البعد ، وتعليل ذلك بما تقدم من التنبيه على عدم وقوع الذبح كذلك وإلا لزادوها في لَأُعَذِّبَنَّهُ لأن التعذيب لم يقع أيضا. وما أشار إليه من أن الإجادة في الخط ليس بكمال في حقهم أن أراد به أن تحسين الخط وإخراجه على صور متناسبة يستحسنها الناظر وتميل إليها النفوس كسائر النقوش المستحسنة ليس بكمال في حقهم ولا يضر بشأنهم فقده فمسلم لكن هذا شيء وما نحن فيه شيء ، وإن أراد به أن الإتيان بالخط على وجهه المعروف عند أهله من وصل ما يصلونه وفصل ما يفصلونه ورسم ما يرسمونه وترك ما يتركونه ليس بكمال فهذا محل بحث ألا ترى أنه لا يعترض على العالم بقبح الخط وخروجه عن الصور الحسنة والهيئات المستحسنة ويعترض عليه بوصل ما يفصل وفصل ما يوصل ورسم ما لا يرسم وعدم رسم ما يرسم ونحو ذلك إن لم يكن ذلك لنكتة.
والظاهر أن الصحابة الذين كتبوا القرآن كانوا متقنين رسم الخط عارفين ما يقتضي أن يكتب وما يقتضي أن لا يكتب. وما يقتضي أن يوصل. وما يقتضي أن لا يوصل إلى غير ذلك لكن خالفوا القواعد في بعض المواضع لحكمة ويستأنس لذلك بما أخرجه ابن الأنباري في كتابه التكملة عن عبد اللّه بن فروخ قال : قلت لابن عباس يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث اللّه تعالى محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام والنون؟ قال : نعم قلت : وممن أخذتموه؟ قال : من حرب بن أمية قلت : وممن أخذه حرب؟ قال : من عبد اللّه بن جدعان قلت : وممن أخذه عبد اللّه بن جدعان؟ قال : من أهل الأنبار قلت : وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال : من طار طرأ عليهم من أهل اليمن قلت : وممن أخذ ذلك الطارئ؟ قال : من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام وهو الذي يقول :
في كل عام سنة تحدثونها ورأي على غير الطريق يعبر
وللموت خير من حياة تسبنا بهاجرهم فيمن يسب وحمير
انتهى ، وفي كتاب محاصرة الأوائل ومسامرة الأواخر أن أول من اشتهر بالكتابة في الإسلام من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت رضي اللّه تعالى عنهم ، والظاهر أنهم لم يشتهروا في ذلك إلا لإصابتهم فيها. والقول بأن هؤلاء الأجلة وسائر الصحابة لم يعرفوا مخالفة رسم الألف هنا لما يقتضيه قوانين أهل الخط وكذا سائر ما وقع من المخالفة مما لا يقدم عليه من له أدنى أدب وإنصاف.
ومثل هذا القول بأنه يحتمل أنه عرف ذلك من عرف منهم إلا أنه ترك تغييره إلى الموافق للقوانين أو وافقه على الغلط للتبرك ، ومن الناس من جوز أن يكون ما وقع من الصحابة من الرسم المخالف بسبب قلة مهارة من أخذوا عنه صنعة الخط فيكون هو الذي خالف في مثل ذلك ولم يعلموا أنه خالف فالقصور إن كان ممن أخذوا عنه وإما هم فلا قصور فيهم إذ لم يخلوا بالقواعد التي أخذوها وإخلالهم بقواعد لم تصل إليهم ولم يعلموا بها لا يعد قصورا ، وهذا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 181
قريب مما تقدم إلا أنه ليس فيه ما فيه من البشاعة ، ثم إن الإنصاف بعد كل كلام يقتضي الإقرار بقوة دعوى أن المخالفة لضعف صناعة الكتابة إذ ذاك إن صح أنها وقعت أيضا في غير الإمام من المكاتبات وغيرها ولعله لم يصح وإلا لنقل فتأمل واللّه تعالى يتولى هداك.
[سورة النمل (27) : الآيات 22 إلى 37]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ الظاهر أن الضمير للهدهد وبَعِيدٍ صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل : ما مضى من غيبته بعد التهديد؟ فقيل : مكث غير بعيد أي مكث زمانا غير مديد ، ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان عليه السلام وليعلم كيف كان الطير مسخرا له ، وقيل : الضمير لسليمان وهو كما ترى ، وقيل :
بَعِيدٍ صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان ، وجعله صفة الزمان أولى ، ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهدا واسمه فيما قيل عفير واقعا فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس ، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر ، وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : علي به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها اللّه تعالى وقال : بحق اللّه الذي قواك وأقدرك عليّ ألا رحمتني فتركته وقالت : ثكلتك أمك إن نبي اللّه تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال : وما استثنى؟ قالت : بلى قال : أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فقال : نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال : يا نبي اللّه تعالى اذكر وقوفك بين يدي اللّه عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه ،
وعن عكرمة أنه إنما عفا عنه لأنه كان بارا بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما ، ثم سأله :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 182
فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علما ومعرفة وحفظته من جميع جهاته ، وابتداء كلامه بذلك لترويجه عنده عليه السلام وترغيبه في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبئ عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل ، وأيد ذلك بقوله : وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ حيث فسر إبهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه السلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبإ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه ، وقال الزمخشري : إن اللّه تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ليتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفا به في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى ، وتعقب بأن ما أحاط به من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف إدراكها الأعلى مجرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وماذا صدر عنه عليه السلام مع ما حكى عنهما حكي من الحمد والشكر والدعاء حتى يليق بالحكمة الإلهية تنبيهه عليه السلام على تركه ، واعترض بأن قوله :
أَحَطْتُ إلخ ظاهر في أنه كلام مدل بعلمه مصغر لما عند صاحبه وأن العلم بالأمور المحسوسة وإن لم يكن فضيلة إلا أن فقده بالنسبة إلى سليمان عليه السلام وملكه وإلقاء الريح الأخبار في سمعه يدل على ما يدل ، وفي التنبيه المذكور تثبيت منه تعالى له عليه السلام على الحمد والشكر وهو مما يناسب دعاؤه السابق بقوله : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ، ولعل الأولى والأظهر مع هذا ما ذكر أولا. وسَبَإٍ منصرف على أنه لحي من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وفي حديث فروة وغيره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن سبأ اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة والستة «1» حمير وكندة والأزد وأشعر وخثعم ، والأربعة لخم وجذام وعاملة وغسان
وقيل : سبأ لقب لأبي هذا الحي من قحطان واسمه عبد شمس ، وقيل : عامر ، ولقب بذلك لأنه أول من سبى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «من سبأ» بفتح الهمزة غير مصروف على أنه اسم للقبيلة ثم سميت به مأرب سبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ، وجوز أن يراد به على الصرف الموضع المخصوص وعلى منع الصرف المدينة المخصوصة ، وأنشدوا على صرفه قوله :
الواردون وتيم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقرأ قنبل من طريق النبال بإسكان الهمزة وخرج على إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقال مكي : الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي ، وقرأ الأعمش «من سبإ» بكسر الهمزة من غير تنوين حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية ، وخرجت على أن الجر بالكسرة لرعاية ما نقل عنه فإنه في الأصل اسم الرجل أو مكان مخصوص وحذف التنوين لرعاية ما نقل إليه فإنه جعل اسما للقبيلة أو للمدينة وهو كما ترى ، وقرأ ابن كثير في رواية «من سبى» بتنوين الباء على وزن رحى جعله مقصورا مصروفا ، وذكر أبو معاذ أنه قرأ «من سبأي» بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة على وزن فعلى فهو ممنوع من الصرف للتأنيث اللازم.
وروى ابن حبيب عن اليزيدي «من سبأ» بألف ساكنة كما في قولهم : تفرقوا أيدي سبأ وقرأت فرقة «بنبإ» بالألف عوض الهمزة وكأنها قراءة من قرأ سبا بالألف لتتوازن الكلمتان كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمزة المكسورة
___________
(1) قوله والستة حمير إلخ المذكور في عبارته خمسة ويؤخذ السادس من حديث آخر أورده في شرح القاموس وهو مذحج كمجلس.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 183
والتنوين ، وفي التحرير أن مثل «من سبا بنبإ» يسمى تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل من الكلمتين بحرف كما في قوله تعالى : ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر : 75] وحديث : «الخيل معقود بنواصيها الخير».
وقال الزمخشري : إن قوله تعالى : «من سبأ بنبإ» من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعا أو يصيغه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى ألا ترى لو وضع مكان بِنَبَإٍ بخبر لكان المعنى صحيحا ، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال ا ه. وهذه الزيادة كون الخبر ذا شأن ، وكون النبأ بمعنى الخبر الذي له شأن مما صرح به غير واحد من اللغويين. والظاهر أنه معنى وضعي له. وزعم بعضهم أنه ليس بوضعي وليس بشيء ، وقول المحدثين : أنبأنا أحط درجة من أخبرنا غير وارد لأنه اصطلاح لهم. وقرأ الجمهور «فمكث» بضم الكاف ، والفتح قراءة عاصم وأبي عمرو في رواية الجعفي وسهل وروح وقرأ أبي «فمكث ثم قال».
وعبد اللّه «فمكث فقال» ، وكلتا القراءتين في الحقيقة على ما في البحر تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف.
وقرىء في السبعة أَحَطْتُ بإدغام التاء في الطاء مع بقاء صفة الإطباق وليس بإدغام حقيقي.
وقرأ ابن محيصن بإدغام حقيقي. واعترض ابن الحاجب القراءة الأولى بأن الإطباق وهو رفع اللسان إلى ما يحاذيه من الحنك للتصويت بصوت الحرف المخرج لا يستقيم إلا بنفس الحرف وهو الطاء هنا والإدغام يقتضي إبدالها تاء وهو ينافي وجود ذلك لأنه يقتضي أن تكون موجودة وغير موجودة وهو تناقض فالتحقيق إن نحو أحطت بالإطباق ليس فيه إدغام ولكنه لما أمكن النطق بالثاني مع الأول من غير ثقل على اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل فأطلق عليه الإدغام توسعا قاله الطيبي. وفي النشر أن التاء تدغم في الطاء في قوله تعالى : أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود : 114] وفي التسهيل أنه إذا أدغم المطبق يجوز إبقاء الإطباق وعدمه. وقال سيبويه : كل كلامعربي كذا الحواشي الشهابية فتأمل.
وفي قوله تعالى : أَحَطْتُ إلخ دليل بإشارة النص والإدماج على بطلان قول الرافضة إن الإمام ينبغي أن لا يخفى عليه شيء من الجزئيات ، ولا يخفى أنهم إن عنوا بذلك أنه يجب أن يكون الإمام عالما على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها وأن يكون مستحضرا الجواب الصحيح عن كل ما يسأل عنه فبطلان كلامهم في غاية الظهور ، وقد سئل علي كرّم اللّه تعالى وجهه وهو على منبر الكوفة عن مسألة فقال : لا أدري فقال السائل : ليس مكانك هذا مكان من يقول : لا أدري فقال الإمام علي كرّم اللّه تعالى وجهه. بلى واللّه هذا مكان من يقول لا أدري وأما من لا يقول ذلك فلا مكان له
يعني به اللّه عز وجل وإن عنوا أنه يجب أن يكون عالما بجميع القواعد الشرعية وبكثير من الفروع الجزئية لتلك القواعد بحيث لو حدثت حادثة ولا يعلم حكمها يكون متمكنا من استنباط الحكم فيها على الوجه الصحيح فذاك حق وهو في معنى قول الجماعة يجب أن يكون الإمام مجتهدا. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. وقوله تعالى : إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ أي تتصرف بهم ولا يعترض عليها أحد استئناف لبيان ما جاء به من النبأ. وتفصيل له إثر إجمال وعنى بهذه المرأة بلقيس «1» بنت شراحيل بن مالك ابن ريان من نسل يعرب بن قحطان ، ويقال : من نسل تبع الحميري.
___________
(1) بكسر الباء معرب وهو قبل التعريب بفتحها اه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 184
وروى ابن عساكر عن الحسن أن اسم هذه المرأة ليلى وهو خلاف المشهور ، وقيل : اسم أبيها السرج بن الهداهد.
ويحكى أنه كان أبوها ملك أرض اليمن كلها وورث الملك من أربعين أبا ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة. وفي بعض الآثار أنه لما مات أبوها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون فملكوا عليهم رجلا يقال : إنه ابن عمها وكان خبيثا فأساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يفجر بنساء رعيته فأرادوا خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا الياس منك قالت : لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم فاجمع رجال أهلي وأخطبني فجمعهم وخطبها فقالوا : لا نراها تفعل فقال : بلى إنها رغبت في فذكروا لها ذلك فقالت : نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت مع أناس كثير من حشمها وخدمها فلما خلت به سقته الخمر حتى سكر فقتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرّعتهم ، وقالت : أما كان فيكم من يأنف من الفجور بكرائم عشيرته ثم أرتهم إياه قتيلا ، وقالت : اختاروا رجلا تملكوه عليكم فقالوا : لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها واشتهر أن أمها جنية.
وقد أخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد والحكيم الترمذي وابن مردويه عن عثمان بن حاضر أن أمها امرأة من الجن يقال لها بلقمة بنت شيصا وابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أن أمها فارعة الجنية وفي التفسير الخازني أن أباها شراحيل كان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج فيهم فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن وسبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم على ما قيل إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن وهم على صور الظباء فيخلى عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا فخطب ابنته فزوجه إياها. وقيل : إنه خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت فأطلقها فلما رجع إلى داره جلس وحده منفردا فإذا هو معه شاب جميل فخاف منه فقال : لا تخف أنا الحية البيضاء الذي أحييتني والأسود الذي قتله هو عبد لنا تمرد علينا وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال : لا حاجة لي به ولكن إن كان لك بنت فزوجينها فزوجه ابنته فولدت له بلقيس انتهى ، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحد أبوي بلقيس كان جنيا»
والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر ، وفي البحر قد طولوا في قصصها يعني بلقيس بما لم يثبت في القرآن ولا الحديث الصحيح وأن ما ذكر من الحكايات أشبه شيء بالخرافات فإن الظاهر على تقدير وقوع التناكح بين الإنس والجن الذي قيل يصفع السائل عنه لحماقته وجهله أن لا يكون توالد بينهما ، وقد ذكر عن الحسن فيما روى ابن عساكر أنه قيل بحضرته : إن ملكة سبأ أحد أبويها جني فقال : لا يتوالدون أي إن المرأة من الإنس لا تلد من الجن والمرأة من الجن لا تلد من الإنس. نعم روي عن مالك ما يقتضي صحة ذلك.
ففي الأشباه والنظائر لابن نجيم روى أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال : كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا : إن هاهنا رجلا من الجن زعم أنه يريد الحلال فقال : ما أرى بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها : من زوجك؟ قالت : من الجن فيكثر الفساد في الإسلام بذلك انتهى ، ولعله لم يثبت عن مالك لظهور ما يرد على تعليل الكراهة ، ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى والحمل على كثافته فيرى أو يكون الحمل لطيفا مثلها فلا يريان فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 185
متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها وكل من الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى ، وإيثار وَجَدْتُ على رأيت لما أشير إليه فيما سبق من الإيذان بكونه عند غيبته بصدد خدمته عليه السلام بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوالها ويتعرفها كأنها طلبته وضالته ليعرضها على سليمان عليه السلام ، وقيل : للإشعار بأن ما ظفر به أمر غير معلوم أولا لأن الوجدان بعد الفقد وفيه رمز بغرابة الحال ، وضمير تَمْلِكُهُمْ لسبأ على أنه اسم للحي أو لأهلها المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنها اسم لها. وليس في الآية ما يدل على جواز أن تكون المرأة ملكة ولا حجة في عمل قوم كفرة على مثل هذا المطلب. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»
ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح عنه. وفي الأشباه لا ينبغي أن تولى القضاء وإن صح منها بغير الحدود والقصاص ، وذكر أبو حيان أنه نقل عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنها تقضي فيما تشهد فيه لا على الإطلاق ولا أن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم وإنما ذلك على سبيل التحكيم لها وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من الأشياء التي تحتاج إليها الملوك بقرينة تَمْلِكُهُمْ ، وقد يقال : ليس الغرض إلا إفادة كثرة ما أوتيت.
والجملة تحتمل أن تكون عطفا على جملة تَمْلِكُهُمْ وأن تكون حالا من ضمير تملكهم المرفوع بتقدير قد أو بدونه وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ قال ابن عباس كما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر أي سرير كريم من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن ، وروي عنه أيضا أنه كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا وكان طوله في السماء ثلاثين ذراعا أيضا ، وقيل : كان طوله ثمانين في ثمانين وارتفاعه ثمانين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه سرير من ذهب وصفحتاه مرصعتان بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا في عرض أربعين ذراعا ، وقيل : كان من ذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق ، وقيل : غير ذلك واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وبالجملة فالظاهر أن المراد بالعرش السرير ، وقال أبو مسلم : المراد به الملك ولا داعي إليه. واستعظام الهدهد لعرشها مع ما كان يشاهده من ملك سليمان عليه السلام إما بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك ، وجوز أن يكون ذلك لأنه لم يكن لسليمان عليه السلام مثله وإن كان عظيم الملك فإنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هم تحت طاعته. وأيا ما كان فوصفه بذلك بين يديه عليه السلام لما ذكر أولا من ترغيبه عليه السلام في الإصغاء إلى حديثه وفيه توجيه لعزيمته عليه السلام نحو تسخيرها ولذلك عقبه بما يوجب غزوها من كفرها وكفر قومها حيث قال : وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يعبدونها متجاوزين عبادة اللّه تعالى.
قال الحسن كانوا مجوسا يعبدون الأنوار ، وقيل : كانوا زنادقة.
والظاهر أن هذه الجملة استئناف كلام وأن الوقف على عَظِيمٌ قال صاحب المرشد ولا يوقف على عرش وقد زعم بعضهم جوازه وقال معناه عظيم عند الناس. وقد أنكر هذا الوقف أبو حاتم وغيره من المتقدمين ونسبوا القائل به إلى الجهل ، وقول من قال معناه عظيم عبادتهم للشمس من دون اللّه تعالى قول ركيك لا يعتد به وليس في الكلام ما يدل عليه ، وفي الكشاف من نوكى القصاص من وقف على عَرْشٌ يريد عظيم إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب اللّه تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي ، والجملة تحتمل العطف على جملة يَسْجُدُونَ والحالية من الضمير على نحو ما مر

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 186
آنفا فَصَدَّهُمْ أي الشيطان ، وجوز كون الضمير للتزيين المفهوم من الفعل أي فصدهم تزيين الشيطان عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الحق والصواب فَهُمْ بسبب ذلك لا يَهْتَدُونَ إليه وقوله تعالى أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي لئلا يسجدوا واللام للتعليل وهو متعلق بصدهم أو بزين. والفاء في فَصَدَّهُمْ لا يلزم أن تكون سببية لجواز كونها تفريعية أو تفصيلية أي فصدهم عن ذلك لأجل أن لا يسجدوا للّه عز وجل أو زين لهم ذلك لأجل أن لا يسجدوا له تعالى ، وجوز أن تكون أن وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من أعمالهم وما بينهما اعتراض كأنه قيل وزين لهم الشيطان عدم السجود للّه تعالى ، وتعقب بأنه ظاهر في عد عدم السجود من الأعمال وهو بعيد ، وجوز أن يكون ذلك بدلا من السبيل و(لا) زائدة مثلها في قوله تعالى : لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد : 29] كأنه قيل فصدهم عن السجود للّه تعالى ، وجوز أن يكون بتقدير إلى و(لا) زائدة أيضا والجار والمجرور متعلق بيهتدون كأنه قيل فهم لا يهتدون إلى السجود له عز وجل ، وأنت تعلم أن زيادة - لا - وإن وقعت في الفصيح خلاف الظاهر ، وجوز أن لا يكون هناك تقدير والمصدر خبر مبتدأ محذوف أي دأبهم عدم السجود ، وقيل : التقدير هي أي أعمالهم عدم السجود وفيه ما مر آنفا ، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري والسلمي والحسن وحميد والكسائي «ألا» بالتخفيف على أنها للاستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف أي ألا يا قوم اسجدوا كما في قوله :
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد ونظائره الكثيرة. وسقطت ألف يا وألف الوصل في (اسجدوا) وكتبت بالياء متصلة بالسين على خلاف القياس. ووقف الكسائي في هذه القراءة على ياء وابتدأ باسجدوا وهو وقف اختيار ، وفي البحر الذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء والمنادى محذوف لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء وانحذف فاعله لحذفه فلو حذفنا المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء وحذف متعلقه وهو المنادى وإذا لم نحذفه كان دليلا على العامل فيه وهو جملة النداء وليس حرف الندا حرف جواب كنعم وبلى ولا وأجل فيجوز حذف الجملة بعده كما يجوز حذفها بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجملة المحذوفة. فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به (ألا) التي للتنبيه وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد. وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله :
فأصبحن لا يسألنني عن بما به والمتفقي اللفظ العاملين أيضا في قوله :
فلا واللّه لا يلفى لما بي ولا للما بهم أبدا دواء
وجاز ذلك وإن عدّوه ضرورة أو قليلا فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزا. وليس - يا - في قوله :
يا لعنة اللّه والأقوام كلهم حرف نداء عندي بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ وليس مما حذف فيه المنادى لما ذكرناه انتهى ، وللبحث فيه مجال. وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام استئنافا من كلام الهدهد إما خطابا لقوم سليمان عليه السلام للحث على عبادة اللّه تعالى أو لقوم بلقيس لتنزيلهم منزلة المخاطبين. ويحتمل أن يكون استئنافا من جهة اللّه عز وجل أو من سليمان عليه السلام كما قيل وهو حينئذ بتقدير القول.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 187
ولعل الأظهر احتمال كونه استئنافا من جهته عز وجل خاطب سبحانه به هذه الأمة. والجملة معترضة ويوقف على هذه القراءة على يَهْتَدُونَ استحسانا ويوجب ذلك زيادة عدة آيات هذه السورة على ما قالوه فيها عند بعض ، وقيل : لا يوجبها فإن الآيات توقيفية ليس مدارها على الوقف وعدمه فتأمل. والفرق بين القراءتين معنى أن في الآية على الأولى ذما على ترك السجود وفيها على الثانية أمرا بالسجود. وأيا ما كان فالسجود واجب عند قراءة الآية ، وزعم الزجاج وجوبه على القراءة الثانية وهو مخالف لما صرح به الفقهاء ولذا قال الزمخشري إنه غير مرجوع إليه. وقرأ الأعمش : «هلا يسجدون» على التحضيض وإسناد الفعل إلى ضمير الغائبين. وفي قراءة أبي «ألا تسجدون» على العرض وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين ، وفي حرف عبد اللّه «ألا هل تسجدون» بألا الاستفتاحية وهل الاستفهامية. وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين قاله ابن عطية وفي الكشاف ما فيه مخالفة ما له والعالم بحقيقة الحال هو اللّه عز وجل.
الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يظهر الشيء المخبوء فيهما كائنا ما كان فالخبء مصدر أريد به اسم المفعول. وفسره بعضهم هنا بالمطر والنبات ، وروي ذلك عن ابن زيد. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنه فسره بالماء والأولى التعميم كما روي ذلك جماعة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما.
وفِي السَّماواتِ متعلق بالخبء ، وعن الفراء أن فِي بمعنى من فالجار والمجرور على هذا متعلق بيخرج والظاهر ما تقدم. واختيار هذا الوصف لما أنه أوفق بالقصة حيث تضمنت ما هو أشبه شيء بإخراج الخبء وهو إظهار أمر بلقيس وما يتعلق به. وعلى هذا القياس اختيار ما ذكر بعد من صفاته عز وجل ، وقيل : إن تخصيص هذا الوصف بالذكر لما أن الهدهد أرسخ في معرفته والإحاطة بأحكامه بمشاهدة آثاره التي من جملتها ما أودعه اللّه تعالى في نفسه من القدرة على معرفة الماء تحت الأرض. وأنت تعلم أن كون الهدهد أودع فيه القدرة على ما ذكر مما لم يجيء فيه خبر يعول عليه ، وأيضا التعليل المذكور لا يتسنى على قراءة ابن عباس والستة الذين معه أَلَّا يَسْجُدُوا بالتخفيف إذا جعل الكلام استئنافا من جهته عز وجل أو من جهة سليمان عليه السلام. وقرأ أبي وعيسى «الخب» بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة. وحكى ذلك سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد.
وقرأ عكرمة بألف بدل الهمزة فلزم فتح ما قبلها وهي قراءة عبد اللّه ومالك بن دينار وخرجت على لغة من يقول في الوقف هذا الخبو ومررت بالخبي ورأيت الخبا وأجرى الوصل مجرى الوقف. وأجاز الكوفيون أن يقال في المرأة والكمأة المرأة والكماة بإبدال الهمزة ألفا وفتح ما قبلها. وذكر أن هذا الإبدال لغة.
وجوز أن يكون الْخَبْءَ من ذلك ومنعه الزمخشري مدعيا أن ذلك لغة ضعيفة مسترذلة. وعلل بأن الهمزة إذا سكن ما قبلها فطريق تخفيفها الحذف لا القلب كما يقال في الكمء كمه. وتعقبه في الكشف فقال : تخريجه على الوقف فيه ضعفان لأن الوقف على ذلك الوجه ليس من لغة الفصحاء وإجراء الوصل مجرى الوقف فيما لا يكثر استعماله كذلك. وأما تلك اللغة فعن الكوفيين أنها قياس انتهى. وزعم أبو حاتم أن الخبا بالألف لا يجوز أصلا وهو من قصور العلم ، قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه. وأشير بعطف قوله تعالى : وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ على يُخْرِجُ إلى أنه تعالى يخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخبايا لما أن المراد يظهر ما تخفونه من الأحوال فيجازيكم بها وذكر ما تعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي كذا قيل. ويشعر كلام بعضهم بأنه أشير بما تقدم إلى كمال قدرته تعالى وبهذا إلى كمال علمه عز وجل وأنه استوى فيه الباطن والظاهر. وقدم ما

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 188
تُخْفُونَ
لذلك مع مناسبته لما قبله من الخبء وقدم وصفه تعالى بإخراج الخبء من السماوات لأنه أشد ملاءمة للمقام ، والخطاب على ما قيل إما للناس أو لقوم سليمان أو لقوم بلقيس. وفي الكلام التفات.
وقرأ الحرميان والجمهور «ما يخفون وما يعلنون» بياء الغيبة ، وفي الكشاف عن أبي أنه قرأ «ألا تسجدون للّه الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون».
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ في معنى التعليل لوصفه عز وجل بكمال القدرة وكمال العلم. والْعَظِيمِ بالجر صفة العرش وهو نهاية الأجرام فلا جرم فوقه ، وفي الآثار من وصف عظمه ما يبهر العقول ويكفي في ذلك أن الكرسي الذي نطق الكتاب العزيز بأنه وسع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة في فلاة ، وهو عند الفلاسفة محدد الجهات وذهبوا إلى أنه جسم كري خال عن الكواكب محيط بسائر الأفلاك محرك لها قسرا من المشرق إلى المغرب ولا يكاد يعلم مقدار ثخنه إلا اللّه تعالى ، وفي الأخبار الصحيحة ما يأبى بظاهره بعض ذلك. وأيا ما كان فبين عظمه وعظم عرش بلقيس بون عظيم.
وقرأ ابن محيصن وجماعة «العظيم» بالرفع فاحتمل أن يكون صفة للعرش مقطوعة بتقدير هو فتستوي القراءتان معنى. واحتمل أن يكون صفة للرب قالَ استئناف بياني كأنه قيل : فماذا فعل سليمان عليه السلام عند قوله ذلك؟
فقيل قال : سَنَنْظُرُ أي فيما ذكرته من النظر بمعنى التأمل والتفكر ، والسين للتأكيد أي سنتعرف بالتجربة البتة أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ جملة معلق عنها الفعل للاستفهام. وكان مقتضى الظاهر أم كذبت وإيثار ما عليه النظم الكريم للإيذان بأن كذبه في هذه المادة يستلزم انتظامه في سلك الموسومين بالكذب الراسخين فيه فإن مساق هذه الأقاويل الملفقة مع ترتيب أنيق يستميل قلوب السامعين نحو قبولها من غير أن يكون لها مصداق أصلا لا سيما بين يدي نبي عظيم تخشى سطوته لا يكاد يصدر إلا عمن رسخت قدمه في الكذب والإفك وصار سجية له حتى لا يملك نفسه عنه في أي موطن كان ، وزعم بعضهم أن ذاك لمراعاة الفاصلة وليس بشيء أصلا ، وفي الآية على ما في الإكليل قبول الوالي عذر رعيته ودرء العقوبة عنهم وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به ، وقوله تعالى : اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ استئناف مبين لكيفية النظر الذي وعده عليه السلام بعد ما كتب كتابه في ذلك المجلس أو بعده.
فهذا إشارة إلى الحاضر وتخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة ولئلا يبقى له عذر أصلا ، وفي الآية دليل على جواز إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام لإبلاغ الدعوة والدعاء إلى الإسلام. وقد كتب رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك العرب ، وقرىء في السبعة «فألقه» بكسر الهاء وياء بعدها وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء ، وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء وواو بعدها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح وحمل على ذلك لأن التولي بالكلية ينافي قوله : فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ إلا أن يحمل على القلب كما زعم ابن زيد وأبو علي وهو غير مناسب.
وأمره عليه السلام إياه بالتنحي من باب تعليم الأدب مع الملوك كما روي عن وهب.
والنظر بمعنى التأمل والتفكر وما ذا إما كلمة استفهام في موضع المفعول ليرجعون ورجع تكون متعدية كما تكون لازمة أو مبتدأ وجملة يَرْجِعُونَ خبره. وإما أن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبره وجملة يَرْجِعُونَ صلة الموصول والعائد محذوف. وأيا ما كان فالجملة معلق عنها فعل القلب فمحلها النصب على إسقاط الخافض ، وقيل : النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى : انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد : 13] فلا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 189 تعليق بل كلمة ماذا موصول في موضع المفعول كذا قيل ، والظاهر أنه بمعنى التأمل وأن المراد فتأمل وتعرف ماذا يرد بعضهم على بعض من القول. وهذا ظاهر في أن اللّه تعالى أعطى الهدهد قوة يفهم بها ما يسمعه من كلامهم ، والتعبير بالإلقاء لأن تبليغه لا يمكن بدونه. وجمع الضمير لأن المقصود تبليغ ما فيه لجميع القوم والكشف عن حالهم بعده.
قالَتْ أي بعد ما ذهب الهدهد بالكتاب فألقاه إليهم وتنحى عنهم حسبما أمر به ، وإنما طوى ذكره إيذانا بكمال مسارعته إلى إقامة ما أمر به من الخدمة وإشعارا بالاستغناء عن التصريح به لغاية ظهوره.
روي أنه عليه السلام كتب كتابه وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد فذهب به فوجدها راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية
،
وفي رواية بين ثدييها ، وقيل : نقرها فانتبهت فزعة ، وقيل : أتاها والقادة والجنود حواليها فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت فقالت ما قالت ، وقيل : كانت في البيت كوة تقع الشمس منها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسدها بجناحيه فرأت ذلك وقامت إليه فألقى الكتاب إليها وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل يعرب بن قحطان واشتهر أنها من نسل تبع الحميري وكان الخط العربي في غاية الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة وهو المسمى بالخط الحميري وكان بحمير كتابة تسمى المسند حروفها مفصلة وكانوا يمنعون من تعليمها إلا بإذنهم ومن حمير تعلم مضر ، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.
واختار ابن خلدون القول بأنه تعلم الكتابة العربية من التبابعة وحمير أهل الحيرة وتعلمها منهم أهل الحجاز.
وظاهر كون بلقيس من العرب وأنها قرأت الكتاب يقتضي أن الكتاب كان عربيا ، ولعل سليمان عليه السلام كان يعرف العربي وإن لم يكن من العرب ، ومن علم منطق الطير لا يبعد أن يعلم منطق العرب الذي هو أشرف منطق ، ويحتمل أن يكون عنده من يعرف ذلك وكذا من يعرف غيره من اللغات كعادة الملوك يكون عندهم من يتكلم بعدة لغات ليترجم لهم ما يحتاجونه ، ويجوز أن يكون الكتاب غير عربي بل بلغة سليمان عليه السلام وقلمه وكان قلمه كما نقل عن الإمام أحمد البوني كاهنيا وكان عند بلقيس من ترجمه لها وأعلمها بما فيه فجمعت أشراف قومها وأخبرتهم بذلك واستشارتهم كما حكى سبحانه عنها بقوله جل وعلا قالت : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إلخ ، وأقدم سليمان عليه السلام على كتابة الكتاب إليها كذلك قول الهدهد : وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل : 23] والمترجم من الأشياء التي يحتاج إليها الملك وأن اللائق بشأنه وعظمته أن لا يترك لسانه ويتشبه بها في لسانها ، ويحتمل أنها كانت بنفسها تعرف تلك الكتابة فقرأت الكتاب لذلك ، ورجح احتمال أن يكون الكتاب غير عربي بأن الكتابة لها بالعربية تستدعي الوقوف على حالها وهو عليه السلام ما وقف عليه بعد.
وتعقب بأنه دله على كونها عربية قول الهدهد : جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل : 22 ، 23] فإنه عليه السلام ممن لا يخفى عليه كون سبأ من العرب والظاهر كون ملكتهم منهم ، ووصفت الكتاب بالكرم لكونه مختوما
ففي الحديث : «كرم الكتاب ختمه»
،
وفي شرح أدب الكاتب يقال أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته ، وقال ابن المقنع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به ، وقد فسر ابن عباس وقتادة وزهير بن محمد «الكريم» هنا بالمختوم ، وفيه كما قيل استحباب ختم الكتاب لكرم مضمونه وشرفه أو لكرم مرسله وعلو منزلته وعلمت ذلك بالسماع أو بكون كتابه مختوما باسمه على عادة الملوك والعظماء أو بكون رسوله به الطير أو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 190
لبداءته باسم اللّه عز وجل أو لغرابة شأنه ووصوله إليها على منهاج غير معتاد ، وقيل : إن ذلك لظنها إياه بسبب أن الملقى له طير أنه كتاب سماوي وليس بشيء. وبناء أُلْقِيَ للمفعول لعدم الاهتمام بالفاعل ، وقيل : لجهلها به أو لكونه حقيرا. وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الفصوص : من حكمة بلقيس كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب وما ذاك إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها. وفي ذلك سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها وبهذا استحقت التقديم عليهم انتهى ، وتأكيد الجملة للاعتناء بشأن الحكم ، وأما التأكيد في قوله تعالى : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فلذاك أيضا أو لوقوعه في جواب سؤال مقدر كأنه قيل :
ممن هذا الكتاب وما ذا مضمونه؟ فقيل : إنه من سليمان إلخ ، ويحسن التأكيد بأن في جواب السؤال ولا أرى فرقا في ذلك بين المحقق والمقدر ، ويعلم مما ذكر أن ضمير إِنَّهُ الأول للكتاب وضمير إِنَّهُ الثاني للمضمون وإن لم يذكر ، وليس في الآية ما يدل على أنه عليه السلام قدم اسمه على اسم اللّه عز وجل ، وعلمها بأنه من سليمان يجوز أن يكون لكتابة اسمه بعد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن رومان أنه قال : كتب سليمانبسم اللّه الرحمن الرحيم
من سليمان بن داود إلى بلقيس ابنة ذي شرح وقومها - أن لا تعلوا
- إلخ ، وجوز أن يكون لكتابته في ظاهر الكتاب وكان باطن الكتاب بِسْمِ اللَّهِ إلخ ، وقيل : ضمير إِنَّهُ الأول للعنوان وأنه عليه السلام عنوان الكتاب باسمه مقدما له فكتب من سليمان بِسْمِ اللَّهِ إلخ واستظهر هذا أبو حيان ثم قال : وقدم عليه السلام اسمه لاحتمال أن يبدر منها ما لا يليق إذ كانت كافرة فيكون اسمه وقاية لاسم اللّه عز وجل وهو كما ترى ، وكتابة البسملة في أوائل الكتب مما جرت به سنة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية بلا خلاف ، وأما قبله فقد قيل إن كتبه عليه الصلاة والسلام لم تفتتح بها ، فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم فكتب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أول ما كتب باسمك اللهم حتى نزلت بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود : 41] فكتب بسم اللّه ثم نزلت ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء : 110] فكتب بسم اللّه الرحمن ثم نزلت آية النمل إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ الآية فكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم. وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك قال : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يكتب باسمك اللهم فلما نزلت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ الآية كتب بسم اللّه
إلخ ، وروي نحو ذلك عن ميمون بن مهران وقتادة ، وهذا عندي مما لا يكاد يتسنى مع القول بنزول البسملة قبل نزول هذه الآية وهذا القول مما لا ينبغي أن يذهب إلى خلافه ، فقد قال الجلال السيوطي في إتقانه اختلف في أول ما نزل من القرآن على أقوال ، أحدها وهو الصحيح اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق : 1] واحتج له بعده أخبار منها خبر الشيخين في بدء الوحي وهو مشهور ، وثانيها يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر : 1] وثالثها سورة الفاتحة ، ورابعها البسملة ثم قال وعندي أن هذا لا يعد قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق ا ه.
وهو يقوي ما قلناه فإن البسملة إذا كانت أول آية نزلت كانت هي المفتتح لكتاب اللّه تعالى وإذا كانت كذلك كان اللائق بشأنه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يفتتح بها كتبه كما افتتح اللّه تعالى بها كتابه وجعلها أول المنزل منه.
والقول بأنها نزلت قبل إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم مشروعيتها في أوائل الكتب والرسائل حتى نزلت هذه الآية المتضمنة لكتابة سليمان عليه السلام إياها في كتابه إلى أهل سبأ مما لا يقدم عليه إلا جاهل بقدره عليه الصلاة والسلام ، وذكر بعض الأجلة أنها إذا كتبت في الكتب والرسائل فالأولى أن تكتب سطرا وحدها.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 191
وفي أدب الكتاب للصولي أنهم يختارون أن يبدأ الكاتب بالبسملة من حاشية القرطاس ثم يكتب الدعاء مساويا لها ويستقبحون أن يخرج الكلام عن البسملة فاضلا بقليل ولا يكتبونها وسطا ويكون الدعاء فاضلا ا ه.
وما ذكر من كتابة الدعاء بعدها لم يكن في الصدر الأول وإنما كان فيه كتابة من فلان إلى فلان.
وتقديم اسم الكاتب على اسم المكتوب له مشروع وإن كان الأول مفضولا والثاني فاضلا ، ففي البحر عن أنس ما كان أحد أعظم حرمة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتابا بدؤوا بأنفسهم.
وقال أبو الليث في البستان له : ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه انتهى.
وظاهر الآية أن البسملة ليست من الخصوصيات ، وقال بعضهم : إنها منها لكن باللفظ العربي والترتيب المخصوص ، وما في كتاب سليمان عليه السلام لم تكن باللفظ العربي وترجمت لنا به وليس ذلك بعيد.
وقرأ عبد اللّه «وإنه من سليمان» بزيادة واو ، وخرجه أبو حيان على أنها عاطفة للجملة بعدها على جملة إِنِّي أُلْقِيَ ، وقيل : هي واو الحال والجملة حالية ، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة «أنه من سليمان وأنه» بفتح همزة أن في الموضعين ، وخرج على الإبدال من كِتابٌ أي ألقي إلي أنه إلخ أو على أن يكون التقدير لأنه إلخ كأنها عللت كرم الكتاب بكونه من سليمان وبكونه مصدرا باسم اللّه عز وجل ، وقرأ أبي «أن من سليمان وأن بسم اللّه» بفتح الهمزة وسكون النون ، وخرج على أن أن هي المفسرة لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول أو على أنها المخففة من الثقيلة وحذفت الهاء. و(أن) في قوله تعالى : أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ يحتمل أن تكون مفسرة ولا ناهية. ويحتمل أن تكون مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية ، وقيل : يجوز كونها ناهية أيضا ، ومحل المصدر الرفع على أنه بدل من كِتابٌ أو خبر لمبتدأ مضمر يليق بالمقام أي مضمونه أن لا تعلوا عليّ أي أن لا تتكبروا عليّ كما يفعل جبابرة الملوك ، وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي «أن لا تغلوا» بالغين المعجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد أي أن لا تتجاوزا حدكم وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ عطف على ما قبله فإن كانت فيه لا ناهية فعطف الأمر عليه ظاهر وإن كانت نافية وأن مصدرية فعطفه عليه من عطف الإنشاء على الأخبار والكلام فيه مشهور ، والأكثرون على جوازه في مثل هذا. والمراد بالإسلام الإيمان أي وأتوني مؤمنين ، وقيل : المراد به الانقياد أي ائتوني منقادين مستسلمين. والدعوة على الأول دعوة النبوة وعلى الثاني دعوة الملك واللائق بشأنه عليه السلام هو الأول.
وفي بعض الآثار كما ستعلم إن شاء اللّه تعالى ما يؤيده. ولا يرد أنه يلزم عليه أن يكون الأمر بالإيمان قبل إقامة الحجة على رسالته فيكون استدعاء للتقليد لأن الدعوة المذكورة هي الدعوة الأولى التي لا تستدعي إظهار المعجزة وإقامة الحجة ، وعادة الأنبياء عليهم السلام الدعوة إلى الإيمان أولا فإذا عورضوا أقاموا الدليل وأظهروا المعجزة وفيما نحن فيه لم يصدر معارضة ، وقيل : إن الدعوة ما كانت إلا مقرونة بإقامة الحجة لأن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة التي ذكرت فيما مر أولا معجزة باهرة دالة على رسالته عليه السلام دلالة بينة. وتعقب بأن كون الإلقاء المذكور معجزة غير واضح خصوصا وهي لم تقارن التحدي ورجح الثاني بأن قولها : إِنَّ الْمُلُوكَ إلخ صريح في دعوة الملك والسلطنة.
وأجيب بأن ذاك لعدم تيقنها رسالته عليه السلام حينئذ أو هو من باب الاحتيال لجلب القوم إلى الإجابة بإدخال الروع عليهم من حيثية كونه عليه السلام ملكا وهذا كما ترى ، والظاهر أنه لم يكن في الكتاب أكثر مما قص اللّه تعالى وهو إحدى الروايتين عن مجاهد ، وثانيتهما أن فيه - السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 192
وفي بعض الآثار أن نسخة الكتاب - من عبد اللّه سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ السلام على من اتبع الهدى
- إلى آخر ما ذكر ، ولعلها على ما هو الظاهر عرفت أنهم المعنيون بالخطاب من قرائن الأحوال ، وقد تضمن ما قصه سبحانه البسملة التي هي هي في الدلالة على صفاته تعالى صريحا والتزاما والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل فيا له كتاب في غاية الإيجاز ونهاية الإعجاز ، وعن قتادة كذلك كانت الأنبياء عليهم السلام تكتب جملا لا يطيلون ولا يكثرون.
هذا ولم أر في الآثار ما يشعر بأنه عليه السلام كتب ذلك على الكاغد أو الرق أو غيرهما ، واشتهر على ألسنة الكتاب أن الكتاب كان من الكاغد المعروف وأن الهدهد أخذه من طرفه بمنقاره فابتل ذلك الطرف بريقه وذهب منه شيء وكان ذلك الزاوية اليمنى من جهة أسفل الكتاب ، وزعموا أن قطعهم شيئا مر القرطاس من تلك الزاوية تشبيها لما يكتبونه بكتاب سليمان عليه السلام وهذا مما لا يعول عليه ولسائر أرباب الصنائع والحرف حكايات من هذا القبيل وهي عند العقلاء أحاديث خرافة.
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي كررت حكاية قولها للإيذان بغاية اعتنائها بما في حيزها ، والإفتاء على ما قال صاحب المطلع الإشارة على المستفتي فيما حدث له من الحادثة بما عند المفتي من الرأي والتدبير وهو إزالة ما حدث له من الإشكال كالإشكاء إزالة الشكوى ، وفي المغرب اشتقاق الفتوى من الفتى لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل ، وأيا ما كان فالمعنى أشيروا عليّ بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث لي وذكرت لكم خلاصته ، وقصدت بما ذكرت استعطافهم وتطييب نفوسهم ليساعدوها ويقوموا معها وأكدت ذلك بقولها : ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ أي ما أقطع أمرا من الأمور المتعلقة بالملك إلا بمحضركم وبموجب آرائكم ، والإتيان بكان للإيذان بأنها استمرت على ذلك أو لم يقع منها غيره في الزمن الماضي فكذا في هذا وحَتَّى تَشْهَدُونِ غاية للقطع.
واستدل بالآية على استحباب المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة ، وفي قراءة عبد اللّه «ما كنت قاضية أمرا» قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولها كأنه قيل : فماذا قالوا في جوابها؟ فقيل قالوا : نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ في الأجساد والعدد وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي نجدة وشجاعة مفرطة وبلاء في الحرب قيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلا كل واحد على عشرة آلاف ، وروي ذلك عن قتادة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان لصاحبة سليمان اثنا عشر ألف قيل تحت يد كل قيل مائة ألف ، وقيل : كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد كل قائد تحت يده اثنا عشر ألف مقاتل ، وهذه الأخبار إلى الكذب أقرب منها إلى الصدق ، ولعمري إن أرض اليمن لتكاد تضيق عن العدد الذي تضمنه الخبران الأخيران ، وليت شعري ما مقدار عدد رعيتها الباقين الذين تحتاج إلى هذا العسكر والقواد والوزراء لسياستهم وضبط أمورهم وتنظيم أحوالهم وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ تسليم للأمر إليها بعد تقديم ما يدل على القوة والشجاعة حتى لا يتوهم أنه من العجز. والأمر بمعناه المعروف أو المعنى الشأن وهو مبتدأ وإِلَيْكِ متعلق بمحذوف وقع خبرا له ويقدر مؤخرا ليفيد الحصر المقصود لفهمه من السياق أي والأمر إليك موكول.
فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ من الصلح والمقاتلة نطعك ونتبع رأيك ، وقيل : أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 193
أبناء الرأي والمشورة وإليك الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نكن في الخدمة فلما أحست منهم الميل إلى الحرب والعدول عن السنن الصواب شرعت في تزييف مقالتهم المنبئة عن الغفلة عن شأن سليمان عليه السلام حسبما تعتقده ، وذلك قوله تعالى : قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً من القرى على منهاج المقاتلة والحرب أَفْسَدُوها بتخريب عماراتها وإتلاف ما فيها من الأموال.
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة والإذلال ، ولم يقل وأذلوا أعزة أهلها مع أنه أخصر للمبالغة في التصيير والجعل وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ تصديق لها من جهته عز وجل على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أو هو من كلامها جاءت به تأكيدا لما وصفت من حالهم بطريق الاعتراض التذييلي وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة فالضمير للملوك ، وقيل : هو لسليمان ومن معه فيكون تأسيسا لا تأكيدا. وتعقب بأن التأكيد لازم على ذلك أيضا للاندراج تحت الكلية وكأنها أرادت على ما قيل : إن سليمان ملك والملوك هذا شأنهم وغلبتنا عليه غير محققة ولا اعتماد على العدد والعدة والشجاعة والنجدة فربما يغلبنا فيكون ما يكون فالصلح خير ، وقيل : إنها غلب على ظنها غلبته حيث رأت أنه سخر له الطير فجعل يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب فأشارت لهم إلى أنه يغلب عليهم إذا قاتلوه فيفسد القرى ويذل الأعزة وأفسدت بذلك رأيهم وما أحسته منهم من الميل إلى مقاتلته عليه السلام وقررت رأيها بقولها : وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ حتى أعمل بما يقتضيه الحال ، وهذا ظاهر في أنها لم تثق بقبوله عليه السلام هديتها.
وروي أنها قالت لقومها : إن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك وإن كان نبيا لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه ، والهدية اسم لما يهدى كالعطية اسم لما يعطى ، والتنوين فيها للتعظيم و(ناظرة) عطف على مُرْسِلَةٌ وبِمَ متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أنه متعلق بناظرة وهو وهم فاحش كما في البحر ، والنظر معلق والجملة في موضع المفعول به له والجملة الاسمية الدالة على الثبات المصدرة بحرف التحقيق للإيذان بأنها مزمعة على رأيها لا يلويها عنه صارف ولا يثنيها عاطف.
واختلف في هديتها فعن ابن عباس أنها كانت مائة وصيف ومائة وصيفة ، وقال وهب. وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة وشنوفا مرصعة بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجوهر وعليه أغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من ذهب ولبنات من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت وأرسلت بالمسك والعنبر والعود وعمدت إلى حق فجعلت فيه درة عذراء وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بني عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتابا تذكر فيه الهدية وقالت فيه : إن كنت نبيا ميز بين الغلمان والجواري وأخبر بما في الحق قبل أن تفتحه ثم قالت للرسول : فإن أخبر فقل له اثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج أنس ولا جن وقالت للغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث وتخنث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري أن يكلموه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال ، ثم قالت للرسول : انظر إلى الرجل إذا دخلت فإن نظر إليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبي فتفهم منه قوله ورد الجواب فانطلق الرجل بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر فأمر عليه السلام الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 194
تسع فراسخ وأن يفرشوا فيه لبن الذهب والفضة وأن يخلوا قدر تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حول الميدان حائطا مشرفا من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال : أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا : يا نبي اللّه ما رأينا أحسن من دواب في البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص قال عليّ بها الساعة فأتوه بها قال : شدوها عن يمين الميدان وشماله وقال للجن : عليّ بأولادكم فاجتمع منهم خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان وعلى شماله وأمر الجن والإنس والشياطين والوحوش والسباع والطير ثم قعد في مجلسه على سريره ووضع أربعة آلاف كرسي على يمينه وعلى شماله وأمر جميع الإنس والجن والشياطين والوحوش والسباع والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان عليه السلام ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تصاغرت إليهم أنفسهم وخبؤوا ما كان معهم من الهدايا ، وقيل : إنهم لما رأوا ذلك الموضع الخالي من اللبنات خاليا خافوا أن يتهموا بذلك فوضعوا ما معهم من اللبن فيه ولما نظروا إلى الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين : جوزوا لا بأس عليكم وكانوا يمرون على كراديس الجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم ملقى حسنا وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا فيه وأعطاه الكتاب فنظر فيه وقال : أين الحق فأتى به فحركه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما فيه فقال لهم : إن فيه درة غير مثقوبة وجزعة معوجة الثقب قال الرسول : صدقت فأثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان عليه السلام من لي بثقبها وسأل الجن والإنس فلم يكن عندهم علم ذلك ثم سأل الشياطين فقالوا نرسل إلى الأرضة فلما جاءت أخذت شعرة بفيها ونفذت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها : ما حاجتك؟ قالت : تصير رزقي في
الشجر فقال : لك ذلك ثم قال : من لهذه الخرزة؟ فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا نبي اللّه فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال : ما حاجتك؟ قالت : يكون رزقي في الفواكه فقال : لك ذلك ثم ميز بين الغلمان والجواري أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب بها الأخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويضرب به وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعديها والغلام على ظاهره ثم رد سليمان عليه
السلام الهدية كما أخبر اللّه تعالى ، وقيل : إنها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير وقالت : أريد أن تعرفني رأسها من أسفلها وبقدح ماء وقالت : تملؤه ماء رواء ليس من الأرض ولا من السماء فأرسل عليه السلام العصا إلى الهواء وقال أي الطرفين سبق إلى الأرض فهو أصلها وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها وقال : هذا ليس من ماء الأرض ولا من ماء السماء ا ه. وكل ذلك أخبار لا يدرى صحتها ولا كذبها ، ولعل في بعضها ما يميل القلب إلى القول بكذبه واللّه تعالى أعلم.
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ في الكلام حذف أي فأرسلت الهدية فلما جاء إلخ ، وضمير جاءَ للرسول ، وجوز أن يكون لما أهدت إليه والأول أولى ، وقرأ عبد اللّه «فلما جاؤوا» أي المرسلون قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ خطاب للرسول والمرسل تغليبا للحاضر على الغائب وإطلاقا للجمع على الاثنين ، وجوز أن يكون للرسول ومن معه وهو أوفق بقراءة عبد اللّه ، ورجح الأول لما فيه من تشديد الإنكار والتوبيخ المستفادين من الهمزة على ما قيل وتعميمهما لبلقيس وقومها ، وأيد بمجيء قوله تعالى : ارْجِعْ إِلَيْهِمْ بالإفراد وتنكير (مال) للتحقير.
وقرأ جمهور السبعة «تمدونن» بنونين وأثبت بعض الياء. وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم. وقرأ المسيبي عن نافع بنون واحدة خفيفة والمحذوف نون الوقاية ، وجوز أن يكون الأولى فرفعه بعلامة مقدرة كما قيل في قوله :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 195
أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
فَما آتانِيَ اللَّهُ أي من النبوة والملك الذي لا غاية وراءه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي من المال الذي من جملته ما جئتم به ، وقيل : عنى بما آتاه المال لأنه المناسب للمفضل عليه والأول أولى لأنه أبلغ ، والجملة تعليل للإنكار والكلام كناية عن عدم القبول لهديتهم ، وليس المراد منه الافتخار بما أوتيه فكأنه قيل : أنكر إمدادكم إياي بمال لأن ما عندي خير منه فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي ، والظاهر أن الخطاب المذكور كان أول ما جاؤوه كما يؤذن به قوله تعالى : فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ إلخ. ولعل ذلك لمزيد حرصه على إرشادهم إلى الحق ، وقيل : لعله عليه السلام قال لهم ما ذكر بعد أن جرى بينهم وبينه ما جرى مما في خبر وهب وغيره ، واستدل بالآية على استحباب هدايا المشركين.
والظاهر أن الأمر كذلك إذا كان في الرد مصلحة دينية لا مطلقا ، وإنما لم يقل : وما آتاني اللّه خير مما آتاكم لتكون الجملة حالا لما أن مثل هذه الحال وهي الحال المقررة للإشكال يجب أن تكون معلومة بخلاف العلة وهي هنا ليست كذلك ، وقوله تعالى : بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ إضراب عما ذكر من إنكار الإمداد بالمال وتعليله إلى بيان ما حملهم عليه من قياس حاله عليه السلام على حالهم وهو قصور همتهم على الدنيا والزيادة فيها فالمعنى أنتم تفرحون بما يهدى إليكم لقصور همتكم على الدنيا وحبكم الزيادة فيها ، ففي ذلك من الحط عليهم ما لا يخفى ، والهدية مضافة إلى المهدي إليه وهي تضاف إلى ذلك كما تضاف إلى المهدي أو إضراب عن ذلك إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه عليه السلام فرح افتخار وامتنان واعتداد بها ، وفائدة الإضراب التنبيه على أن إمداده عليه السلام بالمال منكر قبيح ، وعد ذلك مع أنه لا قدر له عنده عليه السلام مما يتنافس فيه المتنافسون أقبح والتوبيخ به أدخل ، قيل : وينبىء عن اعتدادهم بتلك الهدية التنكير في قول بلقيس : وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بعد عدها إياه عليه السلام ملكا عظيما.
وكذا ما تقدم في خبر وهب وغيره من حديث الحق والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك ، وقيل :
فرحهم بما أهدوه إليه عليه السلام من حيث توقعهم به ما هو أزيد منه فإن الهدايا للعظماء قد تفيد ما هو أزيد منها مالا أو غيره كمنع تخريب ديارهم هنا ، وقيل : الكلام كناية عن الرد ، والمعنى أنتم من حقكم أن تفرحوا بأخذ الهدية لا أنا فخذوها وافرحوا وهو معنى لطيف إلا أن فيه خفاء ارْجِعْ أمر للرسول ولم يجمع الضمير كما جمعه فيما تقدم من قوله : أَتُمِدُّونَنِ إلخ لاختصاص الرجوع به بخلاف الإمداد نحوه ، وقيل : هو أمر للهدهد محملا كتابا آخر وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن زهير بن زهير.
وتعقب بأنه ضعيف دراية ورواية وقرأ عبد اللّه «ارجعوا» على أنه أمر للمرسلين والفعل هنا لازم أي انقلب وانصرف إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ أي فو اللّه لنأتينهم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي لا طافة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وأصل القبل المقابلة فجعل مجازا أو كناية عن الطاقة والقدرة عليها. وقرأ عبد اللّه «بهم» وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ عطف على جواب القسم مِنْها أي من سبأ أَذِلَّةً أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا فيه من العز والتمكين ، وفي جمع القلة تأكيد لذلتهم ، وقوله تعالى : وَهُمْ صاغِرُونَ حال أخرى ، والصغار وإن كان بمعنى الذل إلا أن المراد به هنا وقوعهم في أسر واستعباد فيفيد الكلام أن إخراجهم بطريق الأسر لا بطريق الإجلاء وعدم وقوع جواب القسم لأنه كان معلقا بشرط قد حذف عند الحكاية ثقة بدلالة الحال عليه كأنه قيل : ارجع إليهم فليأتوني مسلمين وإلا فلنأتنيهم إلخ.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 196
[سورة النمل (27) : الآيات 38 إلى 55]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ في الكلام حذف أي فرجع الرسول إليها وأخبرها بما أقسم عليه سليمان فتجهزت للمسير إليه إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتاله ، فروي أنها أمرت عند خروجها فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في جوف بعض في آخر قصر من قصورها وغلقت الأبواب ووكلت به حراسا يحفظونه وتوجهت إلى سليمان في أقيالها وأتباعهم وأرسلت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، قال عبد اللّه بن شداد : فلما كانت على فرسخ من سليمان قال : أيكم يأتيني بعرشها.
وعن ابن عباس كان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال : ما هذا؟ فقالوا : بلقيس فقال : أيكم إلخ
،
ومعنى مسلمين على ما روي عنه طائعين ، وقال بعضهم : هو بمعنى مؤمنين ، واختلفوا في مقصوده عليه السلام من استدعائه عرشها ، فعن ابن عباس وابن زيد أنه عليه السلام استدعى ذلك

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 197
ليريها القدرة التي هي من عند اللّه تعالى وليغرب عليها. ومن هنا قال في الكشاف : لعله أوحى إليه عليه السلام باستيثاقها من عرشها فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه اللّه تعالى : من إجراء العجائب على يده مع اطلاعها على عظيم قدرة اللّه تعالى وعلى ما يشهد لنبوة سليمان عليه السلام ويصدقها انتهى وتقييد الإتيان بقوله :
قَبْلَ إلخ لما أن ذلك أبدع وأغرب وأبعد من الوقوع عادة وأدل على عظيم قدرة اللّه عز وجل وصحة نبوته عليه السلام وليكون اطلاعها على بدائع المعجزات في أول مجيئها.
وقال الطبري : أراد عليه السلام أن يختبر صدق الهدهد في قوله : وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل : 23] واستبعد ذلك لعدم احتياجه عليه السلام إلى هذا الاختبار فإن أمارة الصدق في ذلك غاية الوضوح لديه عليه السلام لا سيما إذا صح ما روي عن وهب وغيره. وقيل : أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختبارا لعقلها.
وقال قتادة وابن جريج : إنه عليه السلام أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإيمان ويمنع أخذ أموالهم. قال في الكشف : فيه أن حل الغنائم مما اختص به نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقال في التحقيق لا يناسب رد الهدية. وتعليله بقوله : فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ. وأجيب بأن هذا ليس من باب أخذ الغنائم وإنما هو من باب أخذ مال الحربي. والتصريف بغير رضاه مع أن الظاهر أنه بوحي فيجوز أنه من خصوصياته لحكمة ولم يكن ذلك هدية لها حتى لا يناسب الرد السابق وفيه بحث ، ولعل الألصق بالقلب أن ذاك لينكره فيمتحنها اختبارا لعقلها مع إراءتها بعض خوارقه الدالة على صحة نبوته وعظيم قدرة اللّه عز وجل. ثم الظاهر أن هذا القول بعد رد الهدية وهو الذي عليه الجمهور.
وفي رواية عن ابن عباس أنه عليه السلام قال ذلك حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال : وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير وأظن أنه لا يصح هذا عن ابن عباس قالَ عِفْرِيتٌ أي خبيث مارد مِنَ الْجِنِّ بيان له إذ يقال للرجل الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ، وقرأ أبو حيوة «عفريت» بفتح العين وقرأ أبو رجاء وأبو السمال وعيسى ورويت عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه «عفرية» بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء بعدها ياء مفتوحة بعدها تاء التأنيث ، وقال ذو الرمة :
كأنه كوكب في إثر عفرية مصوب في سواد الليل منقضب
وقرأت فرقة «عفر» بلا ياء ولا تاء ويقال في لغة طيىء وتميم : عفراة بألف بعدها تاء التأنيث ، وفيه لغة سادسة عفارية وتاء عفريت زائدة للمبالغة في المشهور. وفي النهاية الياء في عفرية وعفارية للإلحاق بشرذمة وعذافرة والهاء فيهما للمبالغة والتاء في عفريت للإلحاق بقنديل ا ه. واسم هذا العفريت على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس صخر.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شعيب الجبائي أن اسمه كوزن. وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد ابن رومان أن اسمه كوزي. وقيل : اسمه ذكوان أَنَا آتِيكَ بِهِ أي بعرشها ، وآتي يحتمل أن يكون مضارعا وأن يكون اسم فاعل.
قيل : وهو الأنسب بمقام ادعاء الإتيان به في المدة المذكورة في قوله تعالى : قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي من مجلسك الذي تجلس فيه للحكومة وكان عليه السلام يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم قاله قتادة ومجاهد ووهب وزهير بن محمد وقيل : أي قبل أن تستوي من جلوسك قائما وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ لا ينتقل على حمله.
والقوة صفة تصدر عنها الأفعال الشاقة ويطيق بها من قامت به لتحمل الأجرام العظيمة ولذا اختير قوي على قادر هنا ، وظاهر كلام بعضهم أن في الكلام حذفا فمنهم من قال : أي على حمله ومنهم قال : أي على الإتيان به ، ورجح الثاني

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 198
بالتبادر نظرا إلى أول الكلام. والأول بأنه أنسب بقوله لقوي : أَمِينٌ لا أقتطع منه شيئا ولا أبدله قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ فصله عما قبله للإيذان بما بين القائلين ومقالتيهما وكيفيتي قدرتيهما على الإتيان به من كمال التباين أو لإسقاط الأول عن درجة الاعتبار. واختلف في تعيين هذا القائل فالجمهور ومنهم ابن عباس ويزيد بن رومان والحسن على أنه آصف بن برخيا بن شمعيا بن منكيل ، واسم أمه باطورا من بني إسرائيل كان وزير سليمان على المشهور ، وفي مجمع البيان أنه وزيره وابن أخته وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم ، وقيل كان كاتبه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه رجل اسمه اسطوم ، وقيل : أسطورس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه رجل يقال له ذو النور. وأخرج هو أيضا عن ابن لهيعة أنه الخضر عليه السلام ، وعن قتادة أن اسمه مليخا وقيل : ملخ ، وقيل : تمليخا ، وقيل : هود ، وقالت جماعة هو ضبة بن أد جد بني ضبة من العرب وكان فاضلا يخدم سليمان كان على قطعة من خيله ، وقال النخعي هو جبريل عليه السلام ، وقيل : هو ملك آخر أيد اللّه تعالى به سليمان عليه السلام ، وقال الجبائي : هو سليمان نفسه عليه السلام.
ووجه الفصل عليه واضح فإن الجملة حينئذ مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما قال سليمان عليه السلام حين قال العفريت ذلك؟ فقيل : قال إلخ ويكون التعبير عنه بما في النظم الكريم للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه ، ويكون الخطاب في قوله : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت وإنما لم يأت به أولا بل استفهم القوم بقوله : أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ثم قال ما قال وأتى به قصدا لأن يريهم أنه يتأتى له ما لا يتهيأ لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم. وتخصيص الخطاب بالعفريت لأنه الذي تصدى لدعوى القدرة على الإتيان به من بينهم ، وجعله لكل أحد كما في قوله تعالى : ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النساء : 3] غير ظاهر بالنسبة إلى ما ذكر.
وآثر هذا القول الإمام وقال إنه أقرب لوجوه. الأول أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب والشخص المعلوم بأن عنده علم الكتاب هو سليمان وقد تقدم في هذه السورة ما يستأنس به لذلك فوجب إرادته وصرف اللفظ إليه وآصف وإن شاركه في مضمون الصلة لكن هو فيه أتم لأنه نبي وهو أعلم بالكتاب من أمته ، الثاني إن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لأحد من أمته دونه لاقتضى تفضيل ذلك عليه السلام وأنه غير جائز ، الثالث أنه لو افتقر في إحضاره إلى أحد من أمته لاقتضى قصور حاله في أعين الناس.
الرابع أن ظاهر قوله عليه السلام فيما بعد هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي إلخ يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره اللّه تعالى بدعائه عليه السلام ا ه. وللمناقشة فيه مجال. واعترض على هذا القول بعضهم بأن الخطاب في آتِيكَ يأباه فإن حق الكلام عليه أن يقال : أنا آتي به قبل أن يرتد إلى الشخص طرفه مثلا ، وقد علمت دفعه. وبأن المناسب أن يقال فيما بعد - فلما أتى به - دون فَلَمَّا رَآهُ إلخ. وأجيب عن هذا بأن قوله ذاك للإشارة إلى أنه لا حول ولا قوة له فيه ، ولعل الأظهر أن القائل أحد أتباعه ، ولا يلزم من ذلك أنه عليه السلام لم يكن قادرا على الإتيان به كذلك فإن عادة الملوك تكليف أتباعهم بمصالح لهم لا يعجزهم فعلها بأنفسهم فليكن ما نحن فيه جاريا على هذه العادة ، ولا يضر في ذلك كون الغرض مما يتم بالقول وهو الدعاء ولا يحتاج إلى أعمال البدن وأتعابه كما لا يخفى.
وفي فصوص الحكم كان ذلك على يد بعض أصحاب سليمان عليه السلام ليكون أعظم لسليمان في نفوس الحاضرين ، وقال القيصري : كان سليمان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم وكان آصف وزيره وكان كاملا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 199
وخوارق العادات قلما تصدر من الأقطاب والخلفاء بل من ورّاثهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلي فلا يتصرفون لأنفسهم في شيء ، ومن منن اللّه تعالى عليهم أن يرزقهم صحبة العلماء الأمناء يحملون منهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم ا ه ، وما في الفصوص أقرب لمشرب أمثالنا على أن ما ذكر لا يخلو عن بحث على مشرب القوم أيضا.
وفي مجمع البيان روى العياشي بإسناده قال : التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيى بن أكثم فسأله عن مسائل منها : هل كان سليمان محتاجا إلى علم آصف؟ فلم يجب حتى سأل أخاه علي بن محمد فقال : اكتب له لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه عليه السلام أحب أن يعرف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده ، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر اللّه ففهمه اللّه تعالى ذلك لئلا يختلف في إمامته كما فهم سليمان في حياة داود لتعرف إمامته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق
ا ه وهو كما ترى. والمراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب المنزلة وقيل : اللوح المحفوظ ، وكون المراد به ذلك على جميع الأقوال السابقة في الموصول بعيد جدا ، وقيل : المراد به الذي أرسل إلى بلقيس ، ومن ابتدائية وتنكير عِلْمٌ للتفخيم والرمز إلى أنه علم غير معهود ، قيل : كان ذلك العلم باسم اللّه تعالى الأعظم الذي إذا سئل به أجاب ، وقد دعا ذلك العالم به فحصل غرضه ، وهو يا حي يا قيوم ، وقيل يا ذا الجلال والإكرام ، وقيل اللّه الرحمن وقيل : هو بالعبرانية آهيا شراهيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الزهري أنه دعا بقوله : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها
، والطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر إلى شيء ثم تجوز به عن النظر وارتداده انقطاعه بانضمام الأجفان ولكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد ، فالمعنى آتيك به قبل أن ينضم جفن عينك بعد فتحه ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار التجوز في الطرف إذ المراد قبل ارتداد تحريك الأجفان بطبقها بعد فتحها وفيه نظر ، والكلام جار على حقيقته وليس من باب التمثيل للسرعة ،
فقد روي أن آصف قال لسليمان عليه السلام : مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد طرفه فنظر نحو اليمن فقبل أن يرتد إليه حضر العرش عنده.
وقيل : هو من باب التمثيل فيحتمل أن يكون قد أتى به في مدة طلوع درجة أو درجتين أو نحو ذلك.
وعن ابن جبير وقتادة أن الطرف بمعنى المطروف أي من يقع إليه النظر ، وأن المعنى قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى إذا نظرت أمامك وهو كما ترى فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي فلما رأى سليمان عليه السلام العرش ساكنا عنده قارّا على حاله التي كان عليها قالَ تلقيا للنعمة بالشكر جريا على سنن إخوانه الأنبياء عليهم السلام وخلص عباد اللّه عز وجل هذا أي الإتيان بالعرش أو حضوره بين يدي في هذه المدة القصيرة ، وقيل : أي التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي تفضله جل شأنه على من غير استحقاق ذاتي لي له ولا عمل مني يوجبه عليه سبحانه وتعالى ، وفي الكلام حذف أي فأتاه به فرآه فلما رآه إلخ وحذف ما حذف للدلالة على كمال ظهوره واستغنائه عن الإخبار به وللإيذان بكمال سرعة الإتيان به كأنه لم يقع بين الوعد به ورؤيته عليه السلام إياه شيء ما أصلا ، وفي تقييد رؤيته باستقراره عنده تأكيد لهذا المعنى لإيهامه أنه لم يتوسط بينهما ابتداء الإتيان أيضا كأنه لم يزل موجودا عنده. فمستقرا منتصب على الحال وعِنْدَهُ متعلق به. وهو على ما أشرنا إليه كون خاص ولذا ساغ ذكره. وظن بعضهم أنه كون عام فأشكل عليهم ذكره مع قول جمهور النحاة : إن متعلق الظرف إذا كان كونا عاما وجب حذفه فالتزم بعضهم لذلك كون الظرف متعلقا برآه لا به. ومنهم من ذهب كابن مالك إلى أن حذف ذلك أغلبي وأنه قد يظهر كما في هذه الآية. وقوله :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 200
لك العز إن مولاك عز وإن يهن فأنت لدي بحبوحة الهون كائن
وأنت تعلم أنه يمكن اعتبار ما في البيت كونا خاصا كالذي في الآية. وفي كيفية وصول العرش إليه عليه السلام حتى رآه مستقرا عنده خلاف. فأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس أنه قال لم يجر عرش صاحبة سبأ بين السماء والأرض ولكن انشقت به الأرض فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان وإلى هذا ذهب مجاهد وابن سابط وغيرهما وقيل نزل بين يدي سليمان عليه السلام من السماء وكان عليه السلام إذ ذاك في أرض الشام على ما قيل رجع إليها من صنعاء وبينها وبين مأرب محل العرش نحو من مسافة شهرين. وعلى القول بأنه كان في صنعاء فالمسافة بين محله ومحل العرش نحو ثلاثة أيام ، وأيا ما كان فقطعه المسافة الطويلة في الزمن القصير أمر ممكن وقد أخبر بوقوعه الصادق فيجب قبوله ، وقد اتفق البر والفاجر على وقوع ما هو أعظم من ذلك وهو قطع الشمس في طرفة عين آلافا من الفراسخ مع أن نسبة عرش بلقيس إلى جرمها نسبة الذرة إلى الجبل ، وقال الشيخ الأكبر قدس سره إن آصف تصرف في عين العرش فأعدمه في موضعه وأوجده عند سليمان من حيث لا يشعر أحد بذلك إلا من عرف الخلق الجديد الحاصل في كل آن وكان زمان وجوده عين زمان عدمه وكل منهما في آن وكان عين قول آصف عين الفعل في الزمان فإن القول من الكامل بمنزلة كن من اللّه تعالى.
ومسألة حصول العرش من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه من الإيجاد والإعدام فما قطع العرش مسافة ولا زويت له أرض ولا خرقها اه ملخصا. وله تتمة ستأتي إن شاء اللّه تعالى ، وما ذكره من أنه كان بالإعدام والإيجاد مما يجوز عندي وإن لم أقل بتجدد الجواهر تجدد الأعراض عند الأشعري إلا أنه خلاف ظاهر الآية. واستدل بها على ثبوت الكرامات.
وأنت تعلم أن الاحتمال يسقط الاستدلال. وعلل عليه السلام تفضله تعالى بذلك عليه بقوله : لِيَبْلُوَنِي أي ليعاملني معاملة المبتلى أي المختبر أَشْكُرُ على ذلك بأن أراه محض فضله تعالى من غير حول من جهتي ولا قوة وأقوم بحقه أَمْ أَكْفُرُ بأن أجد لنفسي مدخلا في البين أو أقصر في إقامة مواجبه كما هو شأن سائر النعم الفائضة على العباد ، وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن جريج أن المعنى ليبلوني أأشكر إذا أتيت بالعرش أم أكفر إذا رأيت من هو أدنى مني في الدنيا أعلم مني ، ونقل مثله في البحر عن ابن عباس والظاهر عدم صحته ، وأبعد منه عن الصحة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال لما رآه مستقرا عنده جزع وقال : رجل غيري أقدر على ما عند اللّه عز وجل مني ، ولعل الحق الجزم بكذب ذلك ، وجملة أَأَشْكُرُ إلخ في موضع نصب على أنها مفعول ثان لفعل البلوى وهو معلق بالهمزة عنها إجراء له مجرى العلم وإن لم يكن مرادفا له.
وقيل : محله النصب على البدل من الياء وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي لنفعها لأنه يربط به القيد ويستجلب المزيد ويحط به عن ذمته عبء الواجب ويتخلص عن وصمة الكفران وَمَنْ كَفَرَ أي لم يشكر فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ بترك تعجيل العقوبة والأنعام مع عدم الشكر أيضا ، والظاهر أن من شرطية والجملة المقرونة بالفاء جواب الشرط ، وجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما قبله من قسيمه والمذكور قائم مقامه أي ومن كفر فعلى نفسه أي فضرر كفرانه عليها. وتعقب بأنه لا يناسب قوله : كَرِيمٌ وجوز أيضا أن تكون من موصولة ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط قالَ أي سليمان عليه السلام كررت الحكاية مع كون المحكي سابقا ولاحقا من كلامه عليه السلام تنبيها على ما بين السابق واللاحق من المخالفة لما أن الأول من باب الشكر للّه عز وجل والثاني أمر لخدمه نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي اجعلوه بحيث لا يعرف ولا يكون ذلك إلا بتغييره عما كان

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 201
عليه من الهيئة والشكل ، ولعل المراد التغيير في الجملة. روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك إنه كان بالزيادة فيه والنقص منه ، وقيل : بنزع ما عليه من الجواهر ، وقيل : بجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره ، ولام لَها للبيان كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف : 23] فيدل على أنها المرادة خاصة بالتنكير نَنْظُرْ بالجزم على أنه جواب الأمر.
وقرأ أبو حيوة بالرفع على الاستئناف أَتَهْتَدِي إلى معرفته أو إلى الجواب اللائق بالمقام. وقيل : إلى الإيمان باللّه تعالى ورسوله عليه السلام إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليه الحراس والحجاب وحكاه الطبرسي عن الجبائي ، وفيه أنه لا يظهر مدخلية التنكير في الإيمان أَمْ تَكُونُ أي بالنسبة إلى علمنا مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي إلى ما ذكر من معرفة عرشها أو الجواب اللائق بالمقام فإن كونها في نفس الأمر منهم وإن كان أمرا مستمرا لكن كونها منهم عند سليمان عليه السلام وقومه أمر حادث يظهر بالاختبار فَلَمَّا جاءَتْ شروع في حكاية التجربة التي قصدها سليمان عليه السلام أي فلما جاءت بلقيس سليمان وقد كان العرش منكرا بين يديه قِيلَ أي من جهة سليمان بالذات أو بالواسطة أَهكَذا عَرْشُكِ أي أمثل هذا العرش الذي ترينه عرشك الذي تركتيه ببلادك ، ولم يقل : أهذا عرشك لئلا يكون تلقينا لها فيفوت ما هو المقصود من الأمر بالتنكير من إبراز العرش في معرض الإشكال والاشتباه حتى يتبين لديه عليه السلام حالها وقد ذكرت عنده عليه السلام بسخافة العقل.
وفي بعض الآثار أن الجن خافوا من أن يتزوجها فيرزق منها ولدا يحوز فطنة الإنس وخفة الجن حيث كانت لها نسبة إليهم فيضبطهم ضبطا قويا فرموها عنده بالجنون وأن رجليها كحوافر البهائم فلذا اختبرها بهذا وبما يكون سببا للكشف عن ساقيها ، ومن لم يقل بنسبتها إلى الجن : يقول لعلها رماها حاسد بذلك فأراد عليه السلام اختبارها ليقف على حقيقة الحال ، ومنهم من يقول : ليس ذاك إلا ليقابلها بمثل ما فعلت هي حيث نكرت الغلمان والجواري وامتحنته عليه السلام بالدرة العذراء والجزعة المعوجة الثقب وكون ذلك في عرشها الذي يبعد كل البعد إحضاره مع بعد المسافة وشدة محافظتها له أتم وأقوى ويتضمن أيضا من إظهار المعجزة ما لا يخفى ، وهذا عندي ألصق بالقلب من غيره قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ أجابت بما أنبأ عن كمال عقلها حيث لم تجزم بأنه هو لاحتمال أن يكون مثله بل أتت بكأن الدالة كما قيل على غلبة الظن في اتحاده معه مع الشك في خلافه وليست كأن هنا للدلالة على التشبيه كما هو الغالب فيها.
وذكر ابن المنير في الانتصاف ما يدل على أنها تفيد قوة الشبه فقال : الحكمة في عدول بلقيس في الجواب عن هكذا هو المطابق للسؤال إلى كَأَنَّهُ هُوَ إن كَأَنَّهُ هُوَ عبارة من قوي عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين وكاد يقول هو هو وتلك حال بلقيس ، وأما هكذا هو فعبارة جازم بتغاير الأمرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير فلا تطابق حالها فلذا عدلت عنها إلى ما في النظم الجليل.
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ من تتمة كلامها على ما اختاره جمع من المفسرين كأنها استشعرت مما شاهدته اختبار عقلها وإظهار معجزة لها ولما كان الظاهر من السؤال هو الأول سارعت إلى الجواب بما أنبأ عن كمال رجاحة عقلها ، ولما كان إظهار المعجزة دون ذلك في الظهور ذكرت ما يتعلق به آخرا وهو قولها :
وَأُوتِينَا إلخ وفيه دلالة على كمال عقلها أيضا ، ومعناه وأوتينا العلم بكمال قدرة اللّه تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة بما شاهدناه من أمر الهدهد وما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك وكنا مؤمنين من ذلك الوقت فلا حاجة إلى إظهار هذه المعجزة ، ولك أن تجعله من تتمة ما يتعلق بالاختبار وحاصلة لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل وهذا كاف في الدلالة على كمال عقلي.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 202
وجوز أن يكون لبيان منشأ غلبة الظن بأنه عرشها والداعي إلى حسن الأدب في محاورته عليه السلام أي وأوتينا العلم بإتيانك بالعرش من قبل الرؤية أو من قبل هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار وكنا من ذلك الوقت مؤمنين ، والتعبير بنون العظمة جار على سنن تعبيرات الملوك وفيه تعظيم لأمر إسلامها وليس ذاك لإرادة نفسها ومن معها من قومها إذ يبعده قوله تعالى : وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهو بيان من جهته عز وجل لما كان يمنعها من إظهار ما ادعت من الإسلام إلى الآن أي صدها عن إظهار ذلك يوم أوتيت العلم الذي يقتضيه عبادتها القديمة للشمس ، فما مصدرية والمصدر فاعل صد ، وجوز كونها موصولة واقعة على الشمس وهي فاعل أيضا والإسناد مجازي على الوجهين.
وقوله تعالى : إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ تعليل لسببية عبادتها المذكورة للصد أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر فلذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بين ظهرانيهم إلى أن حضرت بين يدي سليمان عليه السلام. وقرأ سعيد بن جبير وابن أبي عبلة «أنها» بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل أي لأنها أو جعل المصدر بدلا من فاعل صد بدل اشتمال. وقيل : قوله تعالى : وَأُوتِينَا إلخ من كلام قوم سليمان عليه السلام كأنهم لما سمعوها أجابت السؤال بقولها : كَأَنَّهُ هُوَ قالوا. قد أصابت في جوابها فطبقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة اللّه عز وجل وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها وعطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا العلم باللّه تعالى وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده سبحانه قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام ، وكان هذا منهم شكرا للّه تعالى على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم باللّه تعالى والإسلام قبلها ، ويومىء إلى هذا المطوي جعل علمهم وإسلامهم قبلها ، وقوله تعالى : وَصَدَّها إلخ على هذا يحتمل أن يكون من تتمة كلام القوم.
ويحتمل أن يكون ابتداء أخبار من جهته عز وجل. وعن مجاهد وزهير بن محمد أن وَأُوتِينَا من كلام سليمان عليه السلام ، وفي وَصَدَّها إلخ عليه أيضا احتمال ، ولا يخفي ما في جعل وَأُوتِينَا إلخ من كلام القوم أو من كلام سليمان عليه السلام من البعد والتكلف وليس في ذلك جهة حسن سوى اتساق الضمائر المؤنثة.
وقيل : إن وَأُوتِينَا إلخ من تتمة كلامها. وقوله تعالى : وَصَدَّها إلخ ابتداء أخبار من جهته تعالى لبيان حسن حالها وسلامة إسلامها عن شوب الشرك بجعل فاعل صدها ضميره عز وجل أو ضمير سليمان عليه السلام.
وما مصدرية أو موصولة قبلها حرف جر مقدر أي صدها اللّه تعالى أو سليمان عن عبادتها من دون اللّه أو عن الذي تعبده من دونه تعالى. ونقل ذلك أبو حيان عن الطبري وتعقبه بقوله : وهو ضعيف لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله :
تمرون الديار ولم تعوجوا وليس من مواضع حذف حرف الجر.
وأنت تعلم أن المعنى مع هذا مما لا ينشرح له الصدر ، وأبعد بعضهم كل البعد فزعم أن قوله تعالى :
وَصَدَّها إلخ متصل بقوله سبحانه : أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ والواو فيه للحال وقد مضمرة وفي البحر أنه قول مرغوب عنه لطول الفصل بينها ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. ولعمري من أنصف رأى أن ما ذكر مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام اللّه تعالى المجيد ، وأنا أقول بعد القيل والقال : إن وجه ربط هذه الجمل مما يحتاج إلى تدقيق النظر فليتأمل واللّه تعالى الموفق.
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
استئناف بياني كأنه قيل فماذا قيل لها بعد الامتحان المذكور؟ فقيل : يلَ لَهَا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 203
ادْخُلِي
إلخ ولم يعطف على قوله تعالى : أَهكَذا عَرْشُكِ لئلا يفوت هذا المعنى. وجيء بلها هنا دون ما مر لمكان أمرها ، وصَّرْحَ
القصر وكل بناء عال. ومنه ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر : 36] وهو من التصريح وهو الإعلان البالغ ، وقال مجاهدصَّرْحَ
هنا البركة وقال ابن عيسى الصحن وصرحة الدار ساحتها وروي أن سليمان عليه السلام أمر الجن قبل قدومها فبنوا له على طريقها قصرا من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره. وفي رواية أنهم بنوا له صرحا وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنها الماء وجعلوا في باطن الطوابيق كل ما يكون من الدواب في البحر ثم أطبقوه ، وهذا أوفق بظاهر الآية - ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس وفعل ذلك امتحانا لها أيضا على ما قيل ، وقيل : ليزيدها استعظاما لأمره وتحقيقا لنبوته وثباتا على الدين ، وقيل لأن الجن قالوا له عليه السلام إنها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فأراد الكشف عن حقيقة الحال بذلك ، وقال الشيخ الأكبر قدس سره ما حاصله إنه أراد أن ينبهها بالفعل على أنها صدقت في قولها في العرش «كأنه هو» حيث إنه انعدم في سبأ ووجد مثله بين يديه فجعل لها صرحا في غاية اللطف والصفاء كأنه ماء صاف وليس به ، وهذا غاية الإنصاف منه عليه السلام ولا أظن الأمر كما قال واللّه تعالى أعلم. واستدل بالآية على القول بأن أمرها بدخول الصرح ليتوصل به إلى كشف حقيقة الحال على إباحة النظر قبل الخطبة وفيه تفصيل مذكور في كتب الفقه.
َمَّا رَأَتْهُ
أي رأت صحنه بناء على أن الصرح بمعنى القصرسِبَتْهُ لُجَّةً
أي ظنته ماء كثيرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لئلا تبتل أذيالها كما هو عادة من يريد الخوض في الماء ، وقرأ ابن كثير برواية قنبل «سأقيها» بهمز ألف ساق حملا له على جمعه سؤق وأسؤق فإنه يطرد في الواو المضمومة هي أو ما قبلها قلبها همزة فانجر ذلك بالتبعية إلى المفرد الذي في ضمنه.
وفي البحر حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد :
أحب المؤقدين إلى مؤسى وفي الكشف الظاهر أن الهمز لغة في ساق ويشهد له هذه القراءة الثابتة في السبعة. وتعقب بأنه يأباه الاشتقاق.
وأيا ما كان فقول من قال : إن هذه القراءة لا تصح لا يصح الَ
أي سليمان عليه السلام حين رأى ما اعتراها من الدهشة والرعب ، وقيل : القائل هو الذي أمرها بدخول الصرح وهو خلاف الظاهرنَّهُ
أي ما حسبته لجةرْحٌ مُمَرَّدٌ
أي مملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر في وجهه وشجرة مرداء لا ورق عليها ورملة مرداء لا تنبت شيئا والمراد المتعري من الخيرنْ قَوارِيرَ
من الزجاج وهو جمع قارورة.
لَتْ
حين عاينت هذا الأمر العظيم بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
أي بما كنت عليه من عبادة الشمس ، وقيل : بظني السوء بسليمان عليه السلام حيث ظنت أنه يريد إغراقها في اللجة وهو بعيد. ومثله ما قيل أرادت ظلمت نفسي بامتحاني سليمان حتى امتحنني لذلك بما أوجب كشف ساقي بمرأى منه أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
تابعة له مقيدة به ، وما في قوله تعالى : لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
من الالتفات إلى الاسم الجليل لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى وتفرده باستحقاق العبادة وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس ، وكأن هذا القول تجديد لإسلامها على أتم وجه وقد أخرجته مخرجا لا أنانية فيه ولا كبر أصلا كما لا يخفى. واختلف في أمرها بعد الإسلام فقيل إنه عليه السلام تزوجها وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 204
وأخرج ابن عساكر عن سلمة بن عبد اللّه بن ربعي أنه عليه السلام أمهرها بعلبك ،
وذكر غير واحد أنها حين كشفت عن ساقيها أبصر عليهما شعرا كثيرا فكره أن يتزوجها كذلك فدعا الإنس فقال : ما يذهب بهذا؟ فقالوا : يا رسول اللّه المواسي فقال : المواسي تقطع ساقي المرأة
. وفي رواية أنه قيل لها ذلك فقالت لم يمسسني الحديد قط فكره سليمان المواسي وقال : إنها تقطع ساقيها ثم دعا الجن فقالوا مثل ذلك ثم دعا الشياطين فوضعوا له النورة
، قال ابن عباس وكان ذلك اليوم أول يوم رؤيت فيه النورة ، وعن عكرمة أن أول من وضع النورة شياطين الإنس وضعوها لبلقيس وهو خلاف المشهور ، ويروى أن الحمام وضع يومئذ.
وفي تاريخ البخاري عن أبي موسى الأشعري قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أول من صنعت له الحمامات سليمان»
وأخرج الطبراني. وابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا قال : قال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام : «أول من دخل الحمام سليمان فلما وجد حره قال أوه من عذاب اللّه تعالى»
وروي عن وهب أنه قال : زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري رجلا من قومك أزوجكه فقالت : أمثلي يا نبي اللّه تنكح الرجال وقد كان في قومي من الملك والسلطان ما كان؟ قال : نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك وما ينبغي لك أن تحرمي ما أحل اللّه تعالى لك فقالت : زوجني إن كان لا بد من ذلك ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال : اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها حتى مات سليمان فلما أن حال الحول وتبين الجن موته عليه السلام أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان عليه السلام.
وقال عون بن عبد اللّه : سأل رجل عبد اللّه بن عتبة هل تزوج سليمان بلقيس فقال انتهى أمرها إلى قولها : سْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
قيل :
يعني لا علم لنا وراء ذلك.
والمشهور أنه عليه السلام تزوجها وإليه ذهب جماعة من أهل الأخبار وأخرج البيهقي في الزهد عن الأوزاعي قال : كسر برج من أبراج تدمر فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدمجة كأن أعطافها طي الطوامير عليها عمامة طولها ثمانون ذراعا مكتوب على طرف العمامة بالذهب «بسم اللّه الرحمن الرحيم أنا بلقيس ملكة سبأ زوجة سليمان بن داود عليهما السلام ملكت من الدنيا كافرة ومؤمنة ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي صار مصيري إلى الموت فاقصروا يا طالبي الدنيا» واللّه تعالى أعلم بصحة الخبر ، وكم في هذه القصة من أخبار اللّه تعالى أعلم بالصحيح منها ، والقصة في نفسها عجيبة وقد اشتملت على أشياء خارقة للعادة بل يكاد العقل يحيلها في أول وهلة ، ومما يستغرب وللّه تعالى فيه سر خفي خفاء أمر بلقيس على سليمان عدة سنين كما قاله غير واحد مع أن المسافة بينه وبينها لم تكن في غاية البعد وقد سخر اللّه تعالى له من الجن والشياطين والطير والريح ما سخر وهذا أغرب من خفاء أمر يوسف على يعقوب عليهما السلام بمراتب ، وسبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات وفي الأرض ، وهذا وللصوفية في تطبيق ما في هذه القصة على ما في الأنفس كلام طويل ، ولعل الأمر سهل على من له أدنى ذوق بعد الوقوف على بعض ما مر من تطبيقاتهم ما في بعض القصص على ذلك واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا عطف على قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً مسوق لما سيق هو له ، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وباللّه لقد أرسلنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً وإنما أقسم على ذلك اعتناء بشأن الحكم ، وصالِحاً بدل من أَخاهُمْ أو عطف بياني ، وأن في قوله تعالى : أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مفسرة لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 205
وجوز كونها مصدرية حذف منها حرف الجر أي بأن ، وقيل لأن ووصلها بالأمر جائز لا ضير فيه كما مر.
وقرىء بضم النون اتباعا لها للباء فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي فاجأ إرسالنا تفرقهم واختصامهم فآمن فريق وكفر فريق وكان ما حكى اللّه تعالى في محل آخر بقوله سبحانه : قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف : 75] الآية. فإذا فجائية والعامل فيها مقدر لا يَخْتَصِمُونَ خلافا لأبي البقاء لأنه صفة فَرِيقانِ كما قال ومعمول الصفة لا يتقدم على الموصوف ، وقيل : هذا حيث لا يكون المعمول ظرفا ، وضمير يَخْتَصِمُونَ لمجموع الفريقين ولم يقل يختصمان للفاصلة ، ويوهم كلام بعضهم أن الجملة خبر ثان وهو كما ترى ، وهُمْ راجع إلى ثمود لأنه اسم للقبيلة ، وقيل : إلى هؤلاء المذكورين ليشمل صالحا عليه السلام والفريقان حينئذ أحدهما صالح وحده وثانيهما قومه.
والحامل على هذا كما ذكره ابن عادل العطف بالفاء فإنها تؤذن أنهم عقيب الإرسال بلا مهلة صاروا فريقين ولا يصير قومه عليه السلام فريقين إلا بعد زمان. وفيه أنه يأباه قوله تعالى : اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ وتعقيب كل شيء بحسبه على أنه يجوز كون الفاء لمجرد الترتيب. ولعل فريق الكفرة أكثر ولذا ناداهم بقوله يا قوم كما حكي عنه في قوله تعالى : قالَ يا قَوْمِ لجعله في حكم الكل أي قال عليه السلام للفريق الكافر منهم بعد ما شاهد منهم ما شاهد من نهاية العتو والعناد حتى بلغوا من المكابرة إلى أن قالوا له عليه السلام يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين متلطفا بهم يا قوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالعقوبة التي تسوءكم قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي التوبة فتؤخرونها إلى حين نزولها حيث كانوا من جهلهم وغوايتهم يقولون إن وقع إبعاده تبنا حينئذ وإلا فنحن على ما نحن عليه لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي هلا تستغفرونه تعالى قبل نزولها لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبولها إذ سنة اللّه تعالى عدم القبول عند النزول. وقد خاطبهم عليه السلام على حسب تخمينهم وجهلهم في ذلك بأن ما خمنوه من التوبة إذ ذاك فاسدة وأن استعجالهم ذلك خارج من المعقول. والتقابل بين السيئة والحسنة بالمعنى الذي سمعت حاصل من كون أحدهما حسنا والآخر سيئا ، وقيل : المراد بالسيئة تكذيبهم إياه عليه السلام وكفرهم به وبالحسنة تصديقهم وإيمانهم ، والمراد من قوله : لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ إلخ لومهم على المسارعة إلى تكذيبهم إياه وكفرهم به وحضهم على التوبة من ذلك بترك التكذيب والإيمان. وحاصله لومهم على إيقاع التكذيب عند الدعوة دون التصديق وحضهم على تلافي ذلك.
وإيهام الكلام انتفاء اللوم على إيقاع التكذيب بعد التصديق مما لا يكاد يلتفت إليه. ولا يخفى بعد طي الكشح عن المناقشة فيما ذكر أن المناسب لما حكى اللّه تعالى عن القوم في سورة الأعراف ولما جاء في الآثار هو المعنى الأول.
ومن هنا ضعف ما روي عن مجاهد من تفسير الحسنة برحمة اللّه تعالى لتقابل السيئة المفسرة بعقوبته عز وجل ويكون المراد من استعجالهم بالعقوبة قبل الرحمة طلبهم إياها دون الرحمة فتأمل قالُوا اطَّيَّرْنا أصله تطيرنا وقرىء به فأدغمت التاء في الطاء وزيدت همزة الوصل ليتأتى الابتداء ، والتطير التشاؤم عبر عنه بذلك لما أنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فيمرون بطائر يزجرونه فإن مر سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسرة تيمنوا وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إل الميامن تشاءموا لأنه لا يمكن للمار به كذلك أن يرميه حتى ينحرف فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببا لهما من قدر اللّه تعالى وقسمته عز وجل أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنعمة أي تشاءمنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد - وقد كانوا قحطوا - ولم نزل في اختلاف وافتراق مذ اخترعتم دينكم ، وتشاؤمهم يحتمل أن يكون من المجموع وأن يكون من كل من المتعاطفين.
قالَ طائِرُكُمْ أي سببكم الذي منه ينالكم ما ينالكم من الشر عِنْدَ اللَّهِ وهو قدره سبحانه أو عملكم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 206
المكتوب عنده عز وجل بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ إضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه أي بل أنتم قوم تختبرون بتعاقب السراء والضراء أو تعذبون أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة ، وجاء تُفْتَنُونَ بتاء الخطاب على مراعاة أَنْتُمْ وهو الكثير في لسان العرب ، ويجوز في مثل هذا التركيب «يفتنون» بياء الغيبة على مراعاة لفظ قَوْمٌ وهو قليل في لسانهم وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ أي مدينة ثمود وقريتهم وهي الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ هو اسم جمع يطلق على العصابة دون العشرة كما قال الراغب وفي الكشاف هو من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة ، وقيل : بل يقال إلى الأربعين وليس بمقبول ، وأصله على ما نقل عن الكرماني من الترهيط وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل ، وقد أضيف العدد إليه. وقد اختلف في جواز إضافته إلى اسم الجمع فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور ، وقد صرح سيبويه أنه لا يقال ثلاث غنم.
وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس وهو مع ذلك قليل ، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجميع للقليل كرهط ونفر وذود فيجوز أن يضاف إليه إجراء له مجرى جمع القلة أو للكثير أو يستعمل لهما فلا يجوز إضافته إليه بل إذا أريد تمييزه به جيء به مقرونا بمن كخمسة من القوم ، وقال تعالى : فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة : 260] وهو قول المازني. واختار غير واحد أن إضافة تسعة إلى رهط هاهنا باعتبار أن رهطا لكونه اسم جمع للقليل في حكم أشخاص ونحوه من جموع القلة وهي يضاف إليها العدد كتسعة أشخاص وتسع أنفس وهذا معنى قولهم : إن وقوع رهط تمييزا لتسعة باعتبار المعنى فكأنه قيل تسعة أشخاص ، وقيل : أي تسعة أنفس ، وتأنيث العدد لأنه المذكور في النظم الكريم رَهْطٍ وهو مذكر فليس ذاك من غير الفصيح كقوله ثلاثة أنفس وثلاث ذود ، نعم تقدير ما تقدم أسلم من المناقشة ، وأما ما قيل أي تسعة رجال ففيه الغفلة عما أشرنا إليه ، ثم إنه ليس المراد أن الرهط بمعنى الشخص أو بمعنى النفس بل إن التسعة من الأشخاص أو من الأنفس هي الرهط فليس المعدود بالتسعة ما دل عليه الرهط من الجماعة ليكون هناك تسع جماعات لا تسعة أفراد.
وقال الإمام : الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة ، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفاتهم وأحوالهم لا لاختلاف النسب ا ه ، وقيل : كان هؤلاء التسعة رؤساء مع كل واحد منهم رهط ، ولذا قيل تسعة رهط وأسماؤهم عن وهب الهذيل بن عبد رب وغنم بن غنم ودباب ابن مهرج وعمير بن كردية وعاصم بن مخزمة وسبيط بن صدقة وسمعان بن صفي وقدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح ومن أبناء أشرافهم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أسماءهم دعمي ودعيم وهرمي وهريم ودواب وصواب ودياب ومسطح وقدار وهو الذي عقر الناقة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ لا في المدينة فقط إفسادا بحتا لا يخالطه شيء من الصلاح كما ينطق به قوله تعالى : وَلا يُصْلِحُونَ أي لا يفعلون شيئا من الإصلاح أو لا يصلحون شيئا من الأشياء ، والمراد أن عادتهم المستمرة ذلك الإفساد كما يؤذن به المضارع ، والجملة في موضع الصفة لرهط أو لتسعة.
قالُوا استئناف ببيان بعض ما فعلوا من الفساد أي قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه السلام. وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس بعد أن عقروا الناقة أنذرهم بالعذاب ، وقوله : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود : 65] إلخ تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أمر من التقاسم أي التحالف وقع مقول القول وهو قول الجمهور.
وجوز أن يكون فعلا ماضيا بدلا من قالُوا أو حالا من فاعله بتقدير قد أو بدونها أي قالوا متقاسمين ومقول

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 207
القول لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ إلخ ، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون باللّه من جملة المقول. والبيات مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا وهو غافل ، وأرادوا قتله عليه السلام وأهله ليلا وهم غافلون ، وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال :
ليس من آيين الملوك استراق الظفر.
وقرأ ابن أبي ليلى «تقسموا» بغير ألف وتشديد السين ، والمعنى كما في قراءة الجمهور وقرأ الحسن وحمزة والكسائي «لتبيتنه» بالتاء على خطاب بعضهم لبعض. وقرأ مجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش «ليبيتنه» بياء الغيبة. وتَقاسَمُوا على هذه القراءة لا يصح إلا أن يكون خبرا بخلافه عن القراءتين الأوليين فإنه يصح أن يكون خبرا كما يصح أن يكون أمرا. وذلك لأن الأمر خطاب والمقسم عليه بعده لو نظر إلى الخطاب وجب تاء الخطاب ولو نظر إلى صيغة قولهم عند الحلف وجب النون فأما ياء الغائب فلا وجه له. وإما إذا جعل خبرا فهو على الغائب كما تقول حلف ليفعلن ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي لولي صالح والمراد به طالب ثأره من ذوي قرابته إذا قتل. وقرأ «لتقولن» بالتاء من قرأ «لتبيتنه» كذلك. وقرأ «ليقولن» بياء الغيبة من قرأ بها فيما تقدم ، وقرأ حميد بن قيس الأول بياء الغيبة وهذا بالنون ، قيل :
والمعنى على ذلك قالوا متقاسمين باللّه ليبيتنه قوم منا ثم لنقولن جميعنا لوليه ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي ما حضرنا هلاكهم على أن مَهْلِكَ مصدر كمرجع أو مكان هلاكهم على أنه للمكان أو زمان هلاكهم على أنه للزمان.
والمراد نفي شهود الهلاك الواقع فيه ، واختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم إياهم قصدا للمبالغة كأنهم قالوا ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى إهلاكهم. ويعلم من ذلك نفي قتلهم صالحا عليه السلام أيضا لأن من لم يقتل اتباعه كيف يقتله ، وقيل في الكلام حذف أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه ، واستظهره أبو حيان ثم قال وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح كقوله تعالى : سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل : 81] أي والبرد ، وقال الشاعر :
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل
أي بين الخير وبيني اه وفيه ما لا يخفى. وقيل : الضمير في أَهْلَهُ يعود على الولي. والمراد بأهل الولي صالح وأهله. واعترض بأنه لو أريد أهل الولي لقيل أهلك أو أهله. ومنع بأن ذلك غير لازم. فقد قرىء «قل للذين كفروا ستغلبون» بالخطاب والغيبة ووجه ذلك ظاهر. نعم رجوع الضمير إلى الولي خلاف الظاهر كما لا يخفى ، وقرأ الجمهور «مهلك» بضم الميم وفتح اللام من أهلك وفيه الاحتمالات الثلاث. وقرأ أبو بكر «مهلك» بفتحهما على أنه مصدر وَإِنَّا لَصادِقُونَ عطف على ما شَهِدْنا كما ذهب إليه الزجاج ، والمعنى ونحلف وإنا لصادقون ، وجوز أن تكون الواو للحال أي والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا واستشكل ادعاؤهم الصدق في ذلك وهم عقلاء ينفرون عن الكذب ما أمكن. وأجيب بأن حضور الأمر غير مباشرته في العرف لأنه لا يقال لمن قتل رجلا أنه حضر قتله وإن كان الحضور لازما للمباشرة فحلفوا على المعنى العرفي على العادة في الإيمان وأوهموا الخصم أنهم أرادوا معناه اللغوي فهم صادقون غير حانثين ، وكونهم من أهل التعارف أيضا لا يضر بل يفيد فائدة تامة ، وقال الزمخشري. كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ، ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. وتعقب بأن من فعل أمرين وجحد أحدهما لم يكن في كذبه شبهة وإنما تتم الحيلة لو فعلوا أمرا واحدا وادعى عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع.
ولذا لم يختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا فضرب زيدا وعمرا كان حانثا بخلاف من حلف لا أضرب زيدا وعمرا ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما فإنه محل خلاف للعلماء في الحنث وعدمه ، والحق أن تبرئتهم من الكذب فيما ذكر غير لازمة حتى يتكلف لها وهم الذين كذبوا على اللّه تعالى ورسوله عليه السلام وارتكبوا ما هو أقبح من الكذب فيما ذكر ، ومقصود الزمخشري تأييد

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 208
ما يزعمه وهو وقومه من قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل بموافقة قوم صالح عليها ولا يكاد يتم له ذلك وَمَكَرُوا مَكْراً بهذه المواضعة وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي أهلكناهم إهلاكا غير معهود أو جازينا مكرهم من حيث لا يحتسبون فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ شروع في بيان ما ترتب على ما باشروه من المكر ، والظاهر أن كَيْفَ خبر مقدم لكان وعاقِبَةُ الاسم أي كان عاقبة مكرهم واقعة على وجه عجيب يعتبر به ، والجملة في محل نصب على أنها مفعول انظر وهي معلقة لمكان الاستفهام ، والمراد تفكر في ذلك.
وقوله تعالى : أَنَّا دَمَّرْناهُمْ في تأويل مصدر وقع بدلا من «عاقبة مكرهم» أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير العاقبة ، والجملة مبينة لما في عاقبة مكرهم من الإبهام أي هو أوهى تدميرنا وإهلاكنا إياهم وَقَوْمَهُمْ الذين لم يكونوا منهم في مباشرة التبييت أَجْمَعِينَ بحيث لم يشذ منهم شاذ أو هو على تقدير الجار أي لتدميرنا إياهم أو بتدميرنا إياهم ويكون ذلك تعليلا لما ينبىء عنه الأمر بالنظر في كيفية عاقبة أمرهم من الهول والفظاعة. وجوز بعضهم كونه بدلا من كَيْفَ ، وقال آخرون : لا يجوز ذلك لأن البدل عن الاستفهام يلزم فيه إعادة حرفه كقولك كيف زيد أصحيح أم مريض؟.
وجوز أن يكون هو الخبر لكان وتكون كَيْفَ حينئذ حالا والعامل فيها كان أو ما يدل عليه الكلام من معنى الفعل ، ويجوز أن تكون كان تامة وكَيْفَ عليه حال لا غير والاحتمالات الجائزة في أَنَّا دَمَّرْناهُمْ لا تخفى.
وقرأ الأكثر إنا بكسر الهمزة فكيف خبر كان وعاقِبَةُ اسمها وجملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ استئناف لتفسير العاقبة ، وجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف. قال الخفاجي : الظاهر أنه الشأن أو ضميره لا شيء آخر مما يحتاج للعائد ليعترض عليه بعدم العائد. ولا يرد عليه أن ضمير الشأن المرفوع منع كثير من النحويين حذفه فإنه غير مسلم ، ويجوز أن تكون كانَ تامة وكَيْفَ حال كما تقدم ولم يجوز الجمهور كونها ناقصة والخبر جملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ لعدم الرابط ، وقيل : يجوز ويكفي للربط وجود ما يرجع إلى متعلق المبتدأ إذ رجوعه إليه نفسه غير لازم وهو تكلف وإنما يتمشى على مذهب الأخفش القائل إذا قام بعض الجملة مقام مضاف إلى العائد اكتفى به ، وغيره من النحاة يأباه ، وجوز أبو حيان على كلتا القراءتين أن تكون كانَ زائدة وعاقِبَةُ مبتدأ وكَيْفَ خبر مقدم له.
وقرأ أبي «أن دمرناهم» بأن التي من شأنها أن تنصب المضارع ويجري في المصدر الاحتمالات السابقة فيه على قراءة «أنا» بفتح الهمزة. هذا وفي كيفية التدمير خلاف ، فروى أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا بعد ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث اللّه تعالى صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم وعذب اللّه تعالى كلا منهم في مكانه ونجى صالحا ومن معه ، وقيل : جاؤوا بالليل شاهري سيوفهم ، وقد أرسل اللّه تعالى ملائكة ملء دار صالح عليه السلام فرموهم بالحجارة يرونها ولا يرون راميا وهلك سائر القوم بالصيحة وقيل : إنهم عزموا على تبييته عليه السلام وأهله فأخبر اللّه تعالى بذلك صالحا فخرج عنهم ثم أهلكهم بالصيحة وكان ذلك يوم الأحد فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ جملة مقررة لما قبلها.
وقوله تعالى : خاوِيَةً أي خالية أو ساقطة متهدمة أعاليها على أسافلها كما روي عن ابن عباس بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم المذكور حال من بُيُوتُهُمْ والعامل فيها معنى الإشارة. وقرأ عيسى بن عمر «خاوية» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي خاوية أو خبر بعد خبر لتلك أو خبر لها وبُيُوتُهُمْ بدل وبيوتهم هذه هي التي
قال فيها

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 209
صلّى اللّه عليه وسلّم لأصحابه عام تبوك «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين» الحديث.
وهي بوادي القرى بين المدينة والشام إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من التدمير العجيب بظلمهم لَآيَةً لعبرة عظيمة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي ما من شأنه أن يعلم من الأشياء أو لقوم يتصفون بالعلم ، وقيل : لقوم يعلمون هذه القصة وليس بشيء ، وفي هذه الآية على ما قيل دلالة على الظلم يكون سببا لخراب الدور.
وروي عن ابن عباس أنه قال أجد في كتاب اللّه تعالى أن الظلم يخرب البيوت وتلا هذه الآية ، وفي التوراة ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك ، قيل وهو إشارة إلى هلاك الظالم إذ خراب بيته متعقب هلاكه ، ولا يخفى أن كون الظلم بمعنى الجور والتعدي على عباد اللّه تعالى سببا لخراب البيوت مما شوهد كثيرا في هذه الأعصار ، وكونه بمعنى الكفر كذلك ليس كذلك. نعم لا يبعد أن يكون على الكفرة يوم تخرب فيه بيوتهم إن شاء اللّه تعالى وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا صالحا ومن معه من المؤمنين وَكانُوا يَتَّقُونَ من الكفر والمعاصي اتقاء مستمرا فلذا خصوا بالنجاة ، روي أن الذين آمنوا به عليه السلام كانوا أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت وحين دخلها مات ولذلك سميت بهذا الاسم وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها حاضورا ، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر وَلُوطاً منصوب بمضمر معطوف على «أرسلنا» في صدر قصة صالح عليه السلام داخل معه في حيز القسم أي وأرسلنا لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف للإرسال على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأحوال والأقوال. وجوز أن يكون منصوبا بإضمار اذكر معطوفا على ما تقدم عطف قصة على قصة وإِذْ بدل منه بدل اشتمال وليس بذاك.
وقيل : هو معطوف على صالِحاً. وتعقب بأنه غير مستقيم لأن صالحا بدل أو عطف بيان لأخاهم وقد قيد بقيد مقدم عليه وهو «إلى ثمود» فلو عطف عليه تقيد به ولا يصح لأن لوطا عليه السلام لم يرسل إلى ثمود وهو متعين إذا تقدم القيد بخلاف ما لو تأخر ، وقيل إن تعينه غير مسلم إذ يجوز عطفه على مجموع القيد والمقيد لكنه خلاف المألوف في الخطابيات وارتكاب مثله تعسف لا يليق ، وجوز أن يكون عطفا على الذين آمنوا.
وتعقب بأنه لا يناسب أساليب سرد القصص من عطف إحدى القصتين على الأخرى لا على تتمة الأولى وذيلها كما لا يخفى أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي أتفعلون الفعلة المتناهية في القبح والسماجة ، والاستفهام إنكاري.
وقوله تعالى : وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ جملة حالية من فاعل تَأْتُونَ مفيدة لتأكيد الإنكار فإن تعاطي القبيح من العالم بقبحه أقبح وأشنع ، وتُبْصِرُونَ من بصر القلب أي أتفعلونها والحال أنتم تعلمون علما يقينيا كونها كذلك. «1»
ويجوز أن يكون من بصر العين أي وأنتم ترون وتشاهدون كونها فاحشة على تنزيل ذلك لظهوره منزلة المحسوس ، وقيل : مفعول تُبْصِرُونَ من المحسوسات حقيقة أي وأنتم تبصرون آثار العصاة قبلكم أو وأنتم ينظر بعضكم بعضا لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك لعدم اكتراثكم به ، ووجه إفادة الجملة على الاحتمالين تأكيد الإنكار أيضا ظاهر ، وقوله تعالى : أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً تثنية للإنكار وبيان لما يأتونه من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام ، وتحلية الجملة بحرفي التأكيد للإيذان بأن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد لكمال شناعته ، وإيراد المفعول بعنوان الرجولية دون الذكورية لتربيته التقبيح وبيان اختصاصه ببني آدم ، وتعليل الإتيان بالشهوة تقبيح على تقبيح لما أنها ليست في محلها ، وفيه إشارة إلى أنهم مخطئون في محلها فعلا ، وفي قوله تعالى : مِنْ دُونِ النِّساءِ
___________
(1) تم الجزء التاسع عشر من تفسير روح المعاني ويليه إن شاء اللّه تعالى الجزء العشرون وأوله فما كان جواب قومه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 210
أي متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة إشارة إلى أنهم مخطؤن فيه تركا ، ويعلم مما ذكرنا أن شَهْوَةً مفعول له للإتيان ، وجوز أن يكون حالا.
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي تفعلون فعل الجاهلين بقبح ذلك أو يجهلون العاقبة أو الجهل بمعنى السفاهة والمجون أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون كذا في الكشاف ، وأيا ما كان فلا ينافي قوله تعالى : وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ولم يرتض ذلك الطيبي وزعم أن كلمة الإضراب تأباه : ووجه الآية بأنه تعالى لما أنكر عليهم فعلهم على الإجمال وسماه فاحشة وقيده بالحال المقررة لجهة الإشكال تتميما للإنكار بقوله تعالى : وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أراد مزيد ذلك التوبيخ والإنكار فكشف عن حقيقة تلك الفاحشة وأشار سبحانه إلى ما أشار ثم أضرب عن الكل بقوله سبحانه : بَلْ أَنْتُمْ إلخ أي كيف يقال لمن يرتكب هذه الفحشاء وأنتم تعلمون فأولى حرف الإضراب ضمير أَنْتُمْ وجعلهم قوما جاهلين والتفت في تَجْهَلُونَ موبخا معيرا اه وفيه نظر. والقول بالالتفات هنا مما قاله غيره أيضا وهو التفات من الغيبة التي في قَوْمٌ إلى الخطاب في تَجْهَلُونَ وتعقبه الفاضل السالكوتي بأنه وهم إذ ليس المراد بقوم قوم لوط حتى يكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا كما هو شرط الالتفات بل معنى كلي حمل على قوم لوط عليه السلام.
وقال بعض الأجلة : إن الخطاب فيه مع أنه صفة لقوم - وهو اسم ظاهر - من قبيل الغائب لمراعاة المعنى لأنه متحد مع أَنْتُمْ لحمله عليه ، وجعله غير واحد مما غلب فيه الخطاب ، وأورد عليه أن في التغليب تجوزا ولا تجوز هنا. وأجيب بأن نحو تَجْهَلُونَ موضوع للخطاب مع جماعة لم يذكروا بلفظ غيبة وهنا ليس كذلك فكيف لا يكون فيه تجوز ، وقيل قولهم إن في التغليب تجوزا خارج مخرج الغالب ، وقال الفاضلالسالكوتي إن قوله تعالى : بَلْ أَنْتُمْ إلخ من المجاز باعتبار ما كان فإن المخاطب في تَجْهَلُونَ باعتبار كون القوم مخاطبين في التعبير بأنتم فلا يرد أن اللفظ لم يستعمل فيه في غير ما وضع له ولا الهيئة التركيبية ولم يسند الفعل إلى غير ما هو له فيكون هناك مجاز فافهم.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 211
الجزء العشرون

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 212

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 213
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة النمل (27) : الآيات 56 إلى 68]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي من اتبع دينه وإخراجه عليه السلام يعلم من باب أولى. وقال بعض المحققين : المراد بآل لوط هو عليه السلام ومن تبع دينه كما يراد من بني آدم آدم وبنوه ، وأيا ما كان فلا تدخل امرأته عليه السلام فيهم ، وقوله سبحانه : إِلَّا إلخ استثناء مفرغ واقع في موقع اسم كان ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «جواب» بالرفع فيكون ذاك واقعا موقع الخبر ، وقد مر تحقيق الكلام في مثل هذا التركيب ، وفي قوله تعالى : مِنْ قَرْيَتِكُمْ بإضافة القرية إلى - كم - تهوين لأمر الإخراج ، وقوله جل وعلا : إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ تعليل للأمر على وجه يتضمن الاستهزاء أي إنهم أناس يزعمون التطهر والتنزه عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا وهم متكلفون بإظهار ما ليس فيهم ، والظاهر أن هذا الجواب صدر عنهم في المرة الأخيرة من مراتب مواعظه عليه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 214
السلام بالأمر والنهي لا أنه لم يصدر عنهم كلام آخر غيره فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي بعد إهلاك القوم فالفاء فصيحة إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها أي قدرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب ، وقدر المضاف لأن التقدير يتعلق بالفعل لا بالذات ، وجاء في آية أخرى ما يقتضي ذلك ، وهو قوله تعالى : قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ [الحجر : 60].
وقرأ أبو بكر «قدرناها» بتخفيف الدال وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً غير معهود فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس مطر المنذرين مطرهم ، وقد مر مثل هذا فارجع إلى ما ذكرناه عنده.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى إثر ما قص سبحانه وتعالى على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم قصص الأنبياء المذكورين وأخبارهم الناطقة بكمال قدرته تعالى وعظم شأنه سبحانه وبما خصهم به من الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على جلالة أقدارهم وصحة أخبارهم ، وقد بين على ألسنتهم صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الكفر والإشراك وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى ، وشرح صدره الشريف صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم بما في تضاعيف تلك القصص من فنون المعارف الربانية ، ونور قلبه بأنوار الملكات السبحانية الفائضة من عالم القدس ، وقرر بذلك فحوى قوله تعالى : وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل : 6].
أمر صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أن يحمده بأتم وجه على تلك النعم ويسلم على كافة الأنبياء عليهم السلام الذين من جملتهم من قصت أخبارهم وشرحت آثارهم عرفانا لفضلهم وأداء لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين ، فالمراد بالعباد المصطفين الأنبياء عليهم السلام لدلالة المقام ، وقوله تعالى في آية أخرى : وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات : 181] ، وقيل : هذا أمر له صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم بحمده تعالى على هلاك الهالكين من كفار الأمم ، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين صلّى اللّه تعالى عليهم وسلم ، والسلام على غير الأنبياء عليهم السلام إذا لم يكن استقلالا مما لا خلاف في جوازه ، ولعل المنصف لا يرتاب في جوازه على عباد اللّه تعالى المؤمنين مطلقا ، وقيل : أمر له عليه الصلاة والسلام بالحمد على ما خصه جل وعلا به من رفع عذاب الاستئصال عن أمته ومخالفتهم لمن قبلهم ممن ذكرت قصته من الأمم المستأصلة بالعذاب ، وبالسلام على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة.
فالمراد بالمصطفين الأنبياء خاصة ، وأخرج عبد بن حميد والبزار وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس أنه قال فيهم :
هم أصحاب محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم اصطفاهم اللّه تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سفيان الثوري أنه قال في وَسَلامٌ إلخ : نزلت في أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة. وهذا ظاهر في القول بجواز السلام على غير الأنبياء استقلالا كما هو مذهب الحنابلة وغيرهم ، والكلام على جميع هذه الأقوال متصل بما قبله ، وجعله الزمخشري من باب الاقتضاب كأنه خطبة مبتدأة حيث قال : أمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته تعالى وقدرته على كل شيء وحكمته أعني قوله سبحانه :
آللَّهُ إلخ ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع ، ولقد توارثت العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب فحمدوا اللّه تعالى وصلوا على رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أمام كل علم مفاد وقبل كل موعظة وتذكرة وفي مفتتح كل خطبة ، وتبعهم المتراسلون فآجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 215
شأن انتهى ، ولعل جعل ذلك تخلصا من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما جرى له صلى اللّه تعالى عليه وسلّم مع المشركين أولى ، وأبعد الأقوال باتصاله بما قبله ، وجعل ذلك أمرا للوط عليه السلام بأن يحمده تعالى على إهلاك كفرة قومه ، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة عن الهلاك لعدم ملاءمته لما بعده واحتياجه إلى تقدير وقلنا له ، وعزا هذا القول ابن عطية للفراء ، وقال : هذه عجمة من الفراء ، والظاهر أن سَلامٌ مبتدأ وما بعده خبره ، والجملة معطوفة على الْحَمْدُ لِلَّهِ داخلة معه في حيز القول.
وقرأ أبو السمال «الحمد للّه» بفتح اللام آللَّهُ بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفا والأصل أاللّه. خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ والظاهر أن (ما) موصولة والعائد محذوف أي (الله) الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم الذي يشركونه من الأصنام ، وخَيْرٌ أفعل تفضيل ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته عز وجل وتسفيه آرائهم الركيكة والتهكم بهم إذ من البين أن ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض ، وقيل : خَيْرٌ ليست للتفضيل مثلها في قولك : الصلاة خير تعني خيرا من الخيور ، والمختار الأول ، واستظهره أبو حيان ، وقال : كثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركة هناك ، وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على الخطأ ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر ، واستظهر أيضا كون المراد بالخيرية الخيرية في الذات ، وقيل : الخيرية فيما يتعلق بها ، وفي الكلام حذف في موضعين ، والتقدير أعبادة اللّه تعالى خير أم عبادة ما يشركون ، وقيل : (ما) مصدرية والحذف في موضع واحد ، والتقدير أتوحيد اللّه خير أم إشراكهم ولا داعي لجميع ذلك ، وأيا ما كان فضمير الغائب لقريش ونحوهم من المشركين ، وقيل : لأولئك المهلكين وليس بشيء ، وقرأ الأكثرون - تشركون - بالتاء الفوقانية على توجيه الخطاب لمن ذكرنا من الكفرة وهو الأليق بما بعده من سياق النظم الكريم ، وجعل أبو البقاء هذه الجملة من جملة القول المأمور به ، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى : فَأَنْبَتْنا إلخ فإنه صريح في أن التبكيت من قبله عز وجل بالذات ، وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة والسلام لما أمر به بعبادته كما في قوله سبحانه : قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر : 53] ، تعسف ظاهر من غير داع إليه ، وفي بعض الآثار أنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال : بل اللّه خير وأبقى وأجل وأكرم
، و(أم) في قوله تعالى : أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ منقطعة لا متصلة كالسابقة ، وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن وقتادة وعاصم وأبي عمرو للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضا إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد ، وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية ، والهمزة لحملهم على الإقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الإقرار به ، ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا - أن تشركون - المقدر هاهنا بتاء الخطاب على القراءتين معا ، وهكذا في المواضع الأربعة الآتية ، والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما وَأَنْزَلَ لَكُمْ التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأول لتشديد التبكيت والإلزام ، واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم مِنَ السَّماءِ ماءً أي نوعا منه وهو المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ بمقتضى الحكمة لا أن الإنبات موقوف عليه عقلا ، وقيل : أي أنبتنا عنده حَدائِقَ جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا ، وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق لابن الأزرق بالبساتين ولم يقيد ، وقال الزمخشري : هي البستان عليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة ، وهو مروي عن الضحاك ، وقال الراغب :
هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها ، ولعل الأظهر ما في

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 216
البحر وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الأحداق وتنظر إليها ذاتَ بَهْجَةٍ أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر ما كانَ لَكُمْ أي ما صح وما أمكن لكم أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها فضلا عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون ، وتقدير الخبر هكذا هو ما اختاره الزمخشري وتبعه غيره.
وقال ابن عطية : يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا في المعنى ، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له : ولا بد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه ، والتقدير أم من خلق السماوات والأرض كمن لم يخلق ، وكذلك يقدر في أخواتها ، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل : 17] انتهى ، ولعل الأولى ما اختاره جار اللّه وكذا يقال فيما بعد.
وقرأ الأعمش «أمن» بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام ، ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر ، والالتفات إلى التكلم بنون العظمة لتأكيد اختصاص الفعل بحكم المقابلة بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع ما لها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده عز وجل ورشح ذلك بقوله تعالى : ما كانَ لَكُمْ إلخ سواء كان صفة لحدائق أو حالا أو استئنافا ، وتوحيد وصفها السابق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة ، وهذا شائع في جمع التكسير كقوله تعالى : أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة : 25 ، النساء : 57 ، آل عمران : 15] وكذا الحال في ضمير شجرها.
وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات» بالجمع «بهجة» بفتح الهاء أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي أإله آخر كائن مع اللّه تعالى الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة ، وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به عز وجل في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فإن أحدا ممن له أدنى تمييز كما لا يقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لا يكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأسا لا سيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه عز وجل ، وكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية ، وقيل : المراد نفي أن يكون معه تعالى إله آخر في الخلق ، وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط فإنهم لا ينكرونه حسبما يدل عليه قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان :
25 ، الزمر : 38] بل بإشراكهم به تعالى ما يعترفون بعدم مشاركته له سبحانه فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل : أإله آخر مع اللّه في خواص الألوهية حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادة ، وقيل : المعنى أغيره يقرن به سبحانه ويجعل له شريكا في العبادة مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين. فالإنكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين ، ورجح بأنه الأظهر الموافق لقوله تعالى : وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون : 91] والأوفى بحق المقام لإفادته نفي وجود إله آخر معه تعالى رأسا لا نفي معيته في الخلق وفروعه فقط.
وقرأ هشام عن ابن عامر «آاله» بتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين ، وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «أإلها» بالنصب على إضمار فعل يناسب المقام مثل أتجعلون أو أتدعون أو أتشركون.
بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم ويَعْدِلُونَ من العدول بمعنى الانحراف أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 217
الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك ، وقيل : من العدل بمعنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم ، وروي ذلك عن ابن زيد ، والأول أنسب بما قبله ، وقيل : الكلام عليه خال عن الفائدة.
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم - فقرارا - بمعنى مستقرا لا بمعنى قارة غير مضطربة كما زعم الطبرسي فإن الفائدة على ذلك أتم ، والجعل إن كان تصييريا فالمنصوبان مفعولان وإلا فالثاني حال مقدرة ، وجملة قوله تعالى : أَمَّنْ جَعَلَ إلخ على ما قيل : بدل من قوله سبحانه : أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد ، وقال بعض الأجلة : الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر داخل في الإلزام بجهة من الجهات ، وإلى الإبدال ذهب صاحب الكشاف ، وسننقل إن شاء اللّه تعالى عن صاحب الكشف ما فيه الكشف عن وجهه وَجَعَلَ خِلالَها أي أوساطها جمع خلل ، وأصله الفرجة بين الشيئين فهو ظرف حل محل الحال من قوله تعالى : أَنْهاراً وساغ ذلك مع كونه نكرة لتقدم الحال أو المفعول الثاني - لجعل - وأَنْهاراً هو المفعول الأول ، والمراد بالأنهار ما يجري فيها لا المحل الذي هو الشق أي جعل خلالها أنهارا جارية تنتفعون بها وَجَعَلَ لَها أي لصلاح أمرها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت فإن لها مدخلا عاديا اقتضته الحكمة في انكشاف المسكون منها وانحفاظها عن الميد بأهلها وتكون المياه الممدة للأنهار المفضية لنضارتها في حضيضها إلى غير ذلك ، وذكر بعضهم في منفعة الجبال تكوّن المعادن فيها ونبع المنابع من حضيضها ولم يتعرض لمنفعة منعها الأرض عن الحركة والميلان ، وعلل ترك التعرض بأنه لو كان المقصود ذلك لذكر عقب جعل الأرض قرارا ، ومن أنصف رأى أن منع الجبال الأرض عن الحركة والميلان اللذين يخرجان الأرض عن حيز الانتفاع ويجعلان وجودها كعدمها من أهم ما يذكر هنا لأنه مما به صلاح أمرها ورفعة شأنها ، وذكر لَها دون فيها أو عليها ظاهر في أن المراد ما هو من هذا القبيل من
المنافع فتأمل.
وإرجاع ضمير لَها للأنهار ليكون المعنى وجعل لإمدادها رواسي ينبع من حضيضها الماء فيمدها لا يخفى ما فيه وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي العذب والملح - عن الضحاك - أو بحري فارس والروم - عن الحسن - أو بحري العراق والشام - عن السدي - أو بحري السماء والأرض - عن مجاهد - حاجِزاً فاصلا يمنع من الممازجة ، وقد مر الكلام في تحقيق ذلك فتذكر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي شيئا من الأشياء معتدا به ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وهو الذي أحوجته شدة من الشدائد وألجأته إلى اللجأ والضراعة إلى اللّه عز وجل ، فهو اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة ، ويرجع إلى هذا تفسير ابن عباس له بالمجهود ، وتفسير السدي بالذي لا حول ولا قوة له ، وقيل : المراد بذلك المذنب إذا استغفر ، واللام فيه على ما قيل : للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر وكم من مضطر لا يجاب.
وجوز حمله على الاستغراق لكن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما وقع ذلك في قوله تعالى : فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام : 41] ، ومع هذا كره النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أن يقول الشخص : اللهم اغفر لي إن شئت وقال عليه الصلاة والسلام : «إنه سبحانه لا مكره له»
، والمعتزلة يقيدونها بالعلم بالمصلحة لإيجابهم رعاية المصالح عليه جل وعلا ، وقال صاحب الفرائد : ما من مضطر دعا إلا أجيب وأعيد نفع دعائه إليه إما في الدنيا وإما في

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 218
الآخرة ، وذلك أن الدعاء طلب شيء. فإن لم يعط ذلك الشيء بعينه يعط ما هو أجل منه أو إن لم يعط هذا الوقت يعط بعده ا ه.
وظاهره حمله على الاستغراق من دون تقييد للإجابة ، ولا يخفى أنه إذا فسرت الإجابة بإعطاء السائل ما سأله حسبما سأل لا بقطع سؤاله سواء كان بالإعطاء المذكور أم بغيره لم يستقم ما ذكره ، وقال العلامة الطيبي : التعريف للعهد لأن سياق الكلام في المشركين يدل عليه الخطاب بقوله تعالى : وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ والمراد التنبيه على أنهم عند اضطرارهم في نوازل الدهر وخطوب الزمان كانوا يلجأون إلى اللّه تعالى دون الشركاء والأصنام ، ويدل على التنبيه قوله تعالى : أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قال صاحب المفتاح : كانوا إذا حزبهم أمر دعوا اللّه تعالى دون أصنامهم ، فالمعنى إذا حزبكم أمر أو قارعة من قوارع الدهر إلى أن تصيروا آيسين من الحياة من يجيبكم إلى كشفها ويجعلكم بعد ذلك تتصرفون في البلاد كالخلفاء أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ فلا يكون المضطر عاما ولا الدعاء فإنه مخصوص بمثل قضية الفلك ، وقد أجيبوا إليه في قوله تعالى : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس : 22] الآية ا ه.
وأنت تعلم أنه بعيد غاية البعد ، ولعل الأولى الحمل على الجنس والتقييد بالمشيئة وهو سبحانه لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة ، والدعاء بشيء من قبيل أحد الأسباب العادية فافهم وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي يرفع عن الإنسان ما يعتريه من الأمر الذي يسوءه ، وقيل : الكشف أعم من الدفع والرفع ، وعطف هذه الجملة على ما قبلها من قبيل عطف العام على الخاص ، وقيل : المعنى ويكشف سوءه أي المضطر ، أو ويكشف عنه السوء والعطف من قبيل عطف التفسير فإن إجابة المضطر هي كشف السوء عنه الذي صار مضطرا بسببه وهو كما ترى.
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها بعدهم ، وقيل : المراد بالخلافة الملك والتسلط ، وقرأ الحسن ونجعلكم بنون العظمة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي هذه شؤونه ونعمه تعالى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرا قليلا ، أو زمانا قليلا تتذكرون - فقليلا - نصب على المصدرية ، أو على الظرفية لأنه صفة مصدر أو ظرف مقدر ، و- ما - مزيدة على التقديرين لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم ، أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى ، ومفعول تَذَكَّرُونَ محذوف للفاصلة ، فقيل : التقدير تذكرون نعمه ، وقيل : تذكرون مضمون ما ذكر من الكلام ، وقيل : تذكرون ما مر لكم من البلاء والسرور ، ولعل الأولى نعمه المذكورة ، وللإيذان بأن المتذكر في غاية الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه كان التذييل بنفي التذكر ، وقرأ الحسن والأعمش وأبو عمرو - يذكرون - بياء الغيبة ، وقرأ أبو حيوة - «تتذكرون» - بتاءين أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يرشدكم في ظلمات الليالي في البر والبحر بالنجوم ونحوها من العلامات ، وإضافة الظلمات إلى البر والبحر للملابسة وكونها فيهما ، وجوز أن يراد بالظلمات الطرق المشبهات مجازا فإنها كالظلمات في إيجاب الحيرة.
وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قد تقدم تفسير نظير هذه الجملة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ نفي لأن يكون معه سبحانه إله آخر ، وقوله تعالى : تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تقرير وتحقيق له ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلة الحكم أي تعالى وتنزه بذاته المنفردة بالألوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال ، المقتضية لكون جميع المخلوقات مقهورة تحت قدرته عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن وجود ما يشركونه به سبحانه بعنوان كونه إلها وشريكا له تعالى ، أو تعالى اللّه عن شركة أو مقارنة ما يشركونه به سبحانه ، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية أي تعالى اللّه عن إشراكهم ، وقرىء «عما تشركون» بتاء الخطاب.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 219
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي يوجده مبتدئا له ثُمَّ يُعِيدُهُ يكرر إيجاده ويرجعه كما كان ، وذلك بعد إهلاكه ضرورة أن الإعادة لا تعقل إلا بعده ، والظاهر أن المراد بهذا ما يكون من الإعادة بالبعث بعد الموت ، فأل في الخلق ليست للاستغراق لأن منه ما لا يعاد بالإجماع ، ومنه ما في إعادته خلاف بين المسلمين ، وتفصيله في محله.
واستشكل الحمل على الإعادة بالبعث بأن الكلام مع المشركين وأكثرهم منكرون لذلك فكيف يحمل الكلام عليه ويخاطبون به خطاب المعترف؟ وأجيب بأن تلك الإعادة لوضوح براهينها جعلوا كأنهم معترفون بها لتمكنهم من معرفتها فلم يبق لهم عذر في الإنكار وقيل : إن منهم من اعترف بها ، والكلام بالنسبة إليه وليس بذاك ، وأما تجويز كون أل للجنس وأن المراد بالبدء والإعادة ما يشاهد في عالم الكون والفساد من إنشاء بعض الأشياء وإهلاكها ، ثم إنشاء أمثالها وذلك مما لا ينكره المشركون المنكرون للإعادة بعد الموت فليس بشيء أصلا كما لا يخفى وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي بأسباب سماوية وأرضية قد رتبها على ترتيب بديع تقتضيه الحكمة التي عليها بنى أمر التكوين أَإِلهٌ آخر موجود مَعَ اللَّهِ حتى يجعل شريكا له سبحانه في العبادة ، وقوله تعالى : قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت أي هاتوا برهانا عقليا أو نقليا يدل على أن معه عز وجل إلها ، وقيل : أي هاتوا برهانا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله عز وجل ، وتعقب بأن المشركين لا يدعون ذلك صريحا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له ، وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم تهكم بهم لما فيها من إيهام أن لهم برهانا وأنى لهم ذلك ، وقيل : إن الإضافة لزيادة التبكيت كأنه قيل : نحن نقنع منكم بما تعدونه أنتم أيها الخصوم برهانا يدل على ذلك وإن لم نعده نحن ولا أحد من ذوي العقول كذلك ، ومع هذا أنتم عاجزون عن الإتيان به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في تلك الدعوى ، واستدل به على أن الدعوى لا تقبل ما لم تنور بالبرهان.
هذا وفي الكشف أن مبنى هذه الآيات الترقي لأن الكلام في إثبات أن لا خيرية في الأصنام مع أن كل خير منه تبارك وتعالى ، فأجمل أولا بذكر اسمه سبحانه الجامع في قوله تعالى : آللَّهُ ثم أخذ في المفصل فجعل خلق السماوات والأرض تمهيدا لإنزال الماء وإنبات الحدائق لا بل للأخير ، يدل عليه الالتفات هنالك والتأكيد بقوله تعالى :
ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا كأنه يذكر سبحانه ما فيها من المنافع الكثيرة لونا وطعما ورائحة واسترواح ظل.
ولما أثبت أنه فعله الخاص أنكر أن يكون له شريك وجعلهم عادلين عن منهج الصواب أو عادلين به سبحانه من لا يستحق ، والأول أظهر ، ثم ترقى منه إلى ما هو أكثر لهم خيرا وأظهر في نفعهم من جعل الأرض قرارا وما عقبه ، فذكر جل وعلا ما لا يتم الإنبات المذكور إلا به مع منافع يتصاغر لديها منفعة الإنبات ، وعقبه بجهلهم المطلق المنتج للعدول المذكور ، وأسوأ منه وأسوأ ، ثم بالغ في الترقي فذكر ما هو لصيق بهم دون واسطة من دفع أو نفع فخص إجابتهم عند الاضطرار ، وعم بكشف السوء والمضار ، هذا فيما يرجع إلى دفع المحذور وإقامتهم خلفاء في الأرض ينتفعون بها وبما فيها كما أحبوا ، وهذا أتم من الأولين وأعم وأجل موقعا وأهم ، ولهذا فصل بعدم التذكر وبولغ فيه تلك المبالغات ، وأما ذكر الهداية في ظلمات البر والبحر وذكر إرسال الرياح المبشرة استطرادا لمناسبة حديث الرياح مع الهداية في البحر ، فمن متممات الخلافة وإجابة المضطر وكشف السوء فافهم.
ونبه على هذا بأنه فصل بقوله تعالى : تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ختم ذلك كله بالإضراب عن هذا الأسلوب بتذكير نعمتي الإيجاد والإعادة ، فكل نعمة دونهما لتوقف النعم الدنيوية والأخروية عليها ، وعقبه بإجمال

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 220
يتضمن جميع ما عدده أولا وزيادة أعني رزقهم من السماء والأرض ، وأدمج في تأخيره أنه دون النعمتين ، ولهذا بكتهم بطلب البرهان فيما ليس «1» وسجل بكذبهم دلالة على تعلقه بالكل وأن هذه الخاتمة ختام مسكي ، والمعرض عن تشام نفحاته مسكي ، وعن هذا التقرير ظهر وجه الإبدال مكشوف النقاب والحمد للّه تعالى المنعم الوهاب ا ه.
وفي غرة التنزيل للراغب ما يؤيده ، وقد لخصه الطيبي في شرح الكشاف ، واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه. قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ بعد ما تحقق تفرده تعالى بالألوهية ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العاملة عقب بذكر ما لا ينفك عنه ، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث ، وفي البحر قيل : سأل الكفار عن وقت القيامة - التي وعدوها - الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وألحوا عليه عليه الصلاة والسلام فنزل قوله : قُلْ لا يَعْلَمُ الآية ، فمناسبتها على هذا لما قبلها من قوله تعالى : أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أتم مناسبة ، والظاهر المتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم وهو موصول أو موصوف ، والغيب مفعوله ، والاسم الجليل مرفوع على البدلية من مَنْ والاستثناء على ما قيل : منقطع تحقيقا متصل تأويلا على حدّ ما في قول الراجز :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
بناء على إدخال اليعافر في الأنيس بضرب من التأويل فيفيد المبالغة في نفي علم الغيب عمن في السماوات والأرض بتعليق علمهم إياه بما هو بين الاستحالة من كونه تعالى منهم كأنه قيل : إن كان اللّه تعالى ممن فيهما ففيهم من يعلم الغيب يعني أن استحالة علمهم الغيب كاستحالة أن يكون اللّه تعالى منهم ، ونظير هذا مما لا استثناء فيه قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع وقيل : هو منقطع على حد الاستثناء في قوله :
عشية ما تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفي المصمم
يعني أنه من اتباع أحد المتباينين الآخر نحو ما أتاني زيد إلا عمرو وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه ، وقد ذكرهما سيبويه ، وذكر ابن مالك أن الأصل فيهما : ما أتاني أحد إلا عمرو ، وما أعانه أحد إلا إخوانه فجعل مكان أحد بعض مدلوله وهو زيد وإخوانكم ، ولو لم يذكر الدخلاء فيمن نفي عنه الإتيان والإعانة ، ولكن ذكرا توكيدا لقسطهما من النفي دفعا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يخطر له هذا الذي أكد به ، فذكر تأكيدا ، وعليه يكون الأصل في الآية لا يعلم أحد الغيب إلا اللّه فحذف أحد وجعل مكانه بعض مدلوله وهو من في السماوات والأرض ، والبعض الآخر من ليس فيهما ، ويكفي في كونه مدلولا له صدقه عليه ولا يجب في ذلك وجوده في الخارج ، فقد صرحوا أن من الكلي ما يمتنع وجود بعض أفراده أو كلها في الخارج على أن من أجلة الإسلاميين من قال بوجود شيء غير اللّه عز وجل ، وليس في السماوات ولا في الأرض وهو الروح الأمرية فإنها لا مكان لها عندهم على نحو العقول المجردة عند الفلاسفة ، وقال : إن شرط الاتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه والاستغناء عنه بالمستثنى فإن لم يوجد هذا الشرط تعين النصب عند التميمي. والحجازي كما في قوله تعالى : لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود : 43] ، فإن الاستغناء فيه بالمستثنى عما قبله ممتنع إلا بتكلف ، وزعم المازني أن اتباع المنقطع من تغليب
___________
(1) قوله : فيما ليس ، وسجل إلخ هكذا في نسخة المؤلف ا ه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 221
العاقل على غيره ، ويلزم عليه أن يختص بأحد وشبهه وهو فاسد - كما قال ابن خروف - لأن ما يبدل منه في هذا الباب غير ما ذكر أكثر من أن يحصى ا ه.
وكلام الزمخشري يوهم صدره أن الاستثناء هنا من قبيل الاستثناء في المثالين اللذين ذكرهما سيبويه ، وفي البيت الذي ذكرناه قبيلهما ، ويفهم عجزه أنه من قبيل الاستثناء في الرجز السابق ، وأن الداعي إلى اختيار المذهب التميمي نكتة المبالغة التي سمعتها ، وقد صرحوا أن إفادة تلك النكتة إنما تتأتى إذا جعل الاستثناء منقطعا تحقيقا متصلا تأويلا ، ولعل الحق أنه إذا أريد الدلالة على قوة النفي تعين جعل الاستثناء نحو الاستثناء في قوله : «وبلدة» إلخ ، وإذا أريد الدلالة على عموم النفي تعين جعله نحو الاستثناء في قولهم : ما أعانه إخوانكم إلا إخوانه فتدبر ، وجوز كونه متصلا كما هو الأصل في الاستثناء على أن المراد بمن في السماوات والأرض من اطلع عليهما اطلاع الحاضر فيهما مجازا مرسلا أو استعارة ، وأيا ما كان فهو معنى مجازي عام له تعالى شأنه ولذوي العلم من خلقه وهو المخلص من لزوم ارتكاب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف في صحته كما فعله بعض القائلين بالاتصال ، وقيل : يعلق الجار والمجرور على ذلك التقدير بنحو يذكر من الأفعال المنسوبة على الحقيقة إلى اللّه تعالى وإلى المخلوقين لا بنحو استقر مما لا يصح نسبته إليه سبحانه على الحقيقة أي لا يعلم من يذكر في السماوات والأرض الغيب إلا اللّه ، ويجوز تعليقه باستقر أيضا إلا أنه يجعل مسندا إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي لا يعلم من استقر ذكره في السماوات والأرض الغيب إلا اللّه فحذف الفعل والمضاف واستتر الضمير لكونه مرفوعا ، وهذا وما قبله كما ترى ، واعترض حديث الاتصال بأنه يلزم عليه التسوية بينه تعالى وبين غيره في إطلاق لفظ واحد وهو أمر مذموم ،
فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : ومن يطع اللّه ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص اللّه ورسوله»
، وأجيب بأن ذلك مما يذم إذا صدر من البشر أما إذا صدر منه تعالى فلا يذم على أن كونه مما يذم إذا صدر من البشر مطلقا ممنوع ،
فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان من كان اللّه تعالى ورسوله أحب إليه مما سواهما» الحديث
، ولعل مدار الذم والمدح تضمن ذلك نكتة لطيفة وعدم تضمنه إياها ، وقد قيل في حديث أنس : النكتة في تثنية الضمير الإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين ، والنكتة في إفراده في حديث عدي الإشعار بأن كلا من العصيانين مستقل باستلزام الغواية ، وقد مر الكلام في هذا المبحث فتذكر ، وجوز أن يعرب من مفعول - يعلم. والغيب - بدل اشتمال منه ، والاسم الجليل فاعل يَعْلَمُ ويكون استثناء مفرغا أي لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا اللّه ولا يخفى بعده.
والغيب في الأصل مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين ، واستعمل في الشيء الغائب الذي لم تنصب له قرينة وكون ذلك غيبا باعتباره بالناس ونحوهم لا باللّه عز وجل فإنه سبحانه لا يغيب عنه تعالى شيء لكن لا يجوز أن يقال : إنه جل وعلا لا يعلم الغيب قصدا إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه ليقال يعلمه ، وقد شنع الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المشهور بالإمام الرباني في مكتوباته - على من قال ذلك قاصدا ما ذكر - أتم تشنيع كما هو عادته جزاه اللّه تعالى خيرا فيمن لم يتأدب بآداب الشريعة الغراء ، والظاهر عموم الغيب ، وقيل : المراد به الساعة ، وقيل : ما يضمره أهل السماوات والأرض في قلوبهم ، وقيل : المراد جنس الغيب ، ويلزم من نفي علم جنسه عن غيره عز وجل نفي علم كل فرد من أفراده عن ذلك الغير ، ولا يضر في ذلك أن الآية لا تدل حينئذ على ثبوت علم كل غيب له عز وجل بل قصارى ما تدل عليه ثبوت علم جنس الغيب له سبحانه لأنه المنفي صريحا عن المستثنى منه ولا يلزم من

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 222
ثبوت علم هذا الجنس ثبوت علم كل فرد من أفراده لأنها لم تسق للاستدلال بها على ذلك ، وكم وكم من دليل عقلي ونقلي يدل عليه ، وتعقب بأن الغيب من حيث إنه غيب لا يتفاوت فمتى ثبت العلم ببعض أفراده ثبت العلم بجميعها دفعا للزوم الترجيح بلا مرجح فتأمل.
واختار بعضهم الاستغراق أي لا يعلم من في السماوات والأرض كل غيب إلا اللّه فإنه سبحانه يعلم كل غيب لأنه الأوفق بالمقام ، واعترض بأنه يلزم أن يكون من أهل السماوات والأرض من يعلم بعض الغيوب ، وظاهر كلام كثير من الأجلة يأبى ذلك ، ويؤيده ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت : من زعم أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يخبر الناس بما يكون في غد. وفي بعض الروايات.
يعلم ما في غد فقد أعظم على اللّه تعالى الفرية واللّه تعالى يقول : قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ، وجوز بعضهم أن يكون منهم من يعلم بعض الغيوب ، ففي بيان قواطع الإسلام تأليف العلامة ابن حجر بعد الرد على من أكفر من قيل له : أتعلم الغيب؟ فقال : نعم لأن فيما قاله تكذيب النص وهو قوله تعالى : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام : 59] ، وقوله تعالى : عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن : 26 ، 27] ما نصه : وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر ، والذي اختص به تعالى إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار إليها بقوله تعالى : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الجن : 26] الآية ، وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لا يكفر وهو محمل ما في الروضة ، ومن ادعى علمه في سائر القضايا يكفر وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه فإن أطلق فلم يرد شيئا ، فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر انتهى.
ولعل الحق أن يقال : إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص لذاته أي بلا واسطة في ثبوته له ، وهذا مما لا يعقل لأحد من أهل السماوات والأرض لمكان الإمكان فيهم ذاتا وصفة وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة ، ولعل في التعبير عن المستثنى منه بمن في السماوات والأرض إشارة إلى علة الحكم ، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ضرورة أنه من الواجب عز وجل أفاضه عليهم بوجه من وجوه الإفاضة فلا يقال :
إنهم علموا الغيب بذلك المعنى ومن قاله كفر قطعا ، وإنما يقال : إنهم أظهروا أو اطلعوا. بالبناء للمفعول ، على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم ، ويؤيد ما ذكر أنه لم يجىء في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلا ، وجاء الإظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول لا يقال : يجوز على هذا أن يقال : أعلم فلان الغيب بالبناء للمفعول أيضا على معنى أن اللّه تعالى أعلمه وعرفه ذلك بطريق من طرق الإعلام والتعريف ، ومتى جاز هذا جاز أن يقال : علم فلان الغيب بقصد نسبة علمه الحاصل من إعلامه إليه لأنا نقول : لا كلام في جواز. أعلم.
بالبناء للمفعول ، وإنما الكلام في قولك : ومتى جاز هذا جاز أن يقال إلخ ، فنقول : إن أريد بالجواز في تالي الشرطية الجواز معنى أي الصحة من حيث المعنى فمسلم لكن ليس كل ما جاز معنى بهذا المعنى جاز شرعا استعماله ، وإن أريد الجواز شرعا بمعنى عدم المنع من استعماله فهو ممنوع لما فيه من الإيهام والمصادمة لظواهر الآيات كآية قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وغيرها وقد سمعت عن الإمام الرباني قدس سره النوراني أنه حط كل الحط على من قال اللّه سبحانه : «لا يعلم الغيب» متأولا له بما تقدم لما فيه من المصادمة للنصوص القرآنية وغيرها ، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه ، وقد شنعوا أيضا على من قال : أكره الحق وأحب الفتنة وأفر من الرحمة مريدا بالحق الموت ، وبالفتنة المال أو الولد ، وبالرحمة المطر لما في ظاهره من الشناعة والبشاعة ما لا يخفى. نعم لا يكفر قائل

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 223
ذلك بذلك القصد ويلزمه التعزير كيلا يعود إلى قوله ، ثم إن علم غير الغيب من المحسوسات والمعقولات وإن كان لا يثبت لشيء من الممكنات بلا واسطة في الثبوت أيضا إلا أنه في نسبته لشيء منها لم يعتبر إلا اتصافه به غير مقيد بنفي تلك الواسطة لما أنه لم يرد حصر ذلك العلم به عز وجل ونفيه عمن سواه جل وعلا بل صرح في مواضع أكثر من أن تحصى بنسبته إلى غيره سبحانه ولو ورد فيه ما ورد في علم الغيب لالتزم فيه ما التزم فيه ، وعلى ما تقرر لا يكون علم العقول بما لم يكن بعد من الحوادث على ما يزعمه الفلاسفة من علم الغيب بل هو لو سلّم علم حصل لهم من الفياض المطلق جل شأنه بطريق من الطرق التي تقتضيها الحكمة فلا ينبغي أن يقال فيهم : إنهم عالمون بالغيب ، وقائله إما كافر أو مسلم آثم ، وكذا يقال في علم بعض المرتاضين من المسلمين الصوفية والكفرة الجوكية فإن كل ما يحصل لهم من ذلك فإنما هو بطريق الفيض ومراتبه وأحواله لا تحصى ، والتأهل له قد يكون فطريا ، وقد يكون كسبيا ، وطرق اكتسابه متشعبة لا تكاد تستقصى ، وإفاضة ذلك على كفرة المرتاضين وإن أشبهت إفاضته على المؤمنين المتقين إلا أن بين الأمرين فرقا عظيما عند المحققين ، وقد ذكر بعض المتصوفة أنه ما من حق إلا وقد جعل له باطل يشبهه لأن الدار دار فتنة وأكثر ما فيها محنة ، ويلحق بعلم المرتاضين من الجوكية علم بعض المتصوفة المنسوبين إلى الإسلام المهملين أكثر أحكامه الواجبة عليهم المنهمكين في ارتكاب المحظورات في نهارهم وليلهم ، فلا ينبغي اعتقاد أن ذلك كرامة بل هو نقمة مفضية إلى حسرة وندامة ، وأما علم النجومي بالحوادث الكونية حسبما يزعمه فليس من هذا القبيل لأن تلك الحوادث التي يخبر بها ليست من الغيب بالمعنى الذي ذكرناه إذ هي وإن كانت غائبة عنا إلا أنها على زعمه مما نصب لها قرينة من الأوضاع الفلكية والنسب النجومية من الاقتران والتثليث والتسديس والمقابلة ونحو ذلك ، وعلمه بدلالة القرائن التي يزعمها ناشىء من التجربة وما تقتضيه طبائع النجوم والبروج التي دل عليها بزعمه اختلاف الآثار في عالم الكون والفساد فلا أرى العلم بها إلا كعلم الطبيب الحاذق إذا رأى صفراويا مثلا علم رتبة مزاجه وحققها يأكل مقدارا معينا من العسل أنه يعتريه بعد ساعة أو ساعتين كذا وكذا من الألم ، وإطلاق علم الغيب على ذلك فيه ما فيه ، وإن أبيت إلا تسمية ذلك غيبا فالعلم به لكونه بواسطة الأسباب لا يكون من علم الغيب المنفي عن غيره تعالى في شيء وكذا كل علم بخفي حصل بواسطة سبب من الأسباب كعلمنا باللّه تعالى وصفاته العلية وعلمنا بالجنة والنار ونحو ذلك ، على أنك إذا أنصفت تعلم أن ما عند النجومي ونحوه ليس علما حقيقيا وإنما هو ظن وتخمين مبني على ما هو أوهن من بيت العنكبوت كما سنحقق ذلك بما لا مزيد عليه في محله اللائق به إن شاء اللّه تعالى.
وأقوى ما عنده معرفة زمني الكسوف والخسوف وأزمنة تحقق النسب المخصوصة بين الكواكب وهي ناشئة من معرفة مقادير الحركات للكواكب والأفلاك الكلية والجزئية وهي أمور محسوسة تدرك بالأرصاد والآلات المعمولة لذلك ، وبالجملة علم الغيب بلا واسطة كلا أو بعضا مخصوص باللّه جل وعلا لا يعلمه أحد من الخلق أصلا ، ومتى اعتبر فيه نفي الواسطة بالكلية تعين أن يكون من مقتضيات الذات فلا يتحقق فيه تفاوت بين غيب وغيب ، فلا بأس بحمل أل في الغيب على الجنس ، ومتى حملت على الاستغراق فاللائق أن لا يعتبر في الآية سلب العموم بل يعتبر عموم السلب ، ويلتزم أن القاعدة أغلبية. وكذا يقال في السلب والعموم في جانب الفاعل فتأمل فهذا ما عندي ولعل ما عندك خير منه واللّه تعالى أعلم.
وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي متى ينشرون من القبور مع كونه مما لا بد لهم منه ، ومن أهم الأمور عندهم - فأيان - اسم استفهام عن الزمان ، ولذا قيل : إن أصلها أي آن أي أيّ زمان ، وإن كان المعروف خلافه وهي معمولة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 224
ليبعثون ، والجملة في موضع النصب. بيشعرون. وعلقت يَشْعُرُونَ لمكان الاستفهام ، وضمير الجمع للكفرة وإن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين ما يذكر بعد من الضمائر الخاصة بهم قطعا ، وقيل : الكل لمن وإسناد خواص الكفرة إلى الجميع من قبيل بنو فلان فعلوا كذا والفاعل بعض منهم ، وفيه بحث.
وقرأ السلمي. «إيان». بكسر الهمزة وهي لغة بني سليم بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره ، وأصل ادَّارَكَ تدارك فأدغمت التاء في الدال فسكنت فاجتلبت همزة الوصل وهو من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وهو مراد من فسر التدارك هنا بالاضمحلال والفناء ، وإلا فأصل التدارك التتابع والتلاحق مطلقا ، وفِي الْآخِرَةِ متعلق بعلمهم. والعلم يتعدى بفي كما يتعدى بالباء ، وهي حينئذ بمعنى الباء كما نص عليه الفراء وابن عطية وغيرهما ، والمعنى بل تتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع وفني ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا مع توفر أسبابه فهو ترق عن وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش ، وليس تدارك علمهم بذلك على معنى أنه كان لهم علم به على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا ، بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه ، وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لا حظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع.
وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي ادّارك أسباب علمهم ، والتدارك مجاز عما ذكر من التساقط ، وقوله تعالى : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها إضراب وانتقال عن عدم علمهم بها إلى ما هو أفحش منه على نحو ما مر وهو حيرتهم في ذلك أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا فضلا عن الأمور التي ستقع فيها ، وقوله سبحانه : بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ إضراب وانتقال عن وصفهم بكونهم شاكين إلى وصفهم بما هو أفظع منه وهو كونهم عميا قد اختلت بصائرهم بالكلية بحيث لا يكادون يدركون طريق العلم بها وهو الدلائل الدالة على أنها كائنة لا محالة ، فالمراد عَمُونَ عن دلائلها أو عمون عن كل ما يوصلهم إلى الحق ويدخل فيه دلائلها دخولا أوليا ، ومِنْها متعلق بعمون ، قدم عليه رعاية للفواصل ، ولعل تعديته بمن دون عن لجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه ، والكفر بالعاقبة والجزاء يدع الشخص عاكفا على تحصيل مصالح بطنه وفرجه لا يتدبر ولا يتبصر فيما عدا ذلك.
وجوز أن يكون ادَّارَكَ بمعنى استحكم وتكامل ووصفهم باستحكام علمهم بذلك وتكامله من باب التهكم بهم كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك على سبيل الهزء ، ومآل التهكم المذكور نفي علمهم بذلك كما في الوجه السابق لكن على الوجه الأبلغ ، والإضرابان من باب الترقي من الوصف بالفظيع إلى الوصف بالأفظع نحو ما تقدم وهو وجه حسن ، ويشعر كلام بعض المحققين بترجيحه على ما ذكرنا أولا.
وجوز أيضا أن يكون المراد بالإدراك الاستحكام لكن على معنى استحكم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك ، وفيه أن دلالة النظم الكريم على إرادة وهم جاهلون ليست بواضحة.
وقال الكرماني : التدارك التتابع ، والمراد بالعلم هنا الحكم والقول والمعنى بل تتابع منهم القول والحكم في الآخرة وكثر منهم الخوض فيها ، فنفاهم بعضهم. وشك فيها بعضهم واستبعدها بعضهم وفيه ما فيه.
وقيل : إن في الآخرة متعلق. بادّارك. وإليه ذهب الزجاج والطبرسي ، واقتضته بعض الآثار المروية عن ابن عباس

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 225
رضي اللّه تعالى عنهما ، والمعنى على هذا عند بعضهم بل استحكم في الآخرة علمهم بما جهلوه في الدنيا حيث رأوا ذلك عيانا ، وكان الظاهر يدّارك بصيغة الاستقبال إلا أنه عبر بصيغة الماضي لتحقق الوقوع.
وقيل : التدارك عليه من تداركت أمر فلان إذا تلافيته ، ومفعوله هنا محذوف أي بل تدارك في الآخرة علمهم ما جهلوه في الدنيا أي تلافاه ، وحاصل المعنى بل علموا ذلك في الآخرة حين لم ينفعهم العلم ، والتعبير بصيغة الماضي على ما علمت ، ولا يخفى أن في وجه ترتيب الإضرابات الثلاث حسب ما في النظم الكريم على هذين الوجهين خفاء فتدبر.
وقرأ أبيّ أم «تدارك». على الأصل وجعل أم بدل بَلِ ، وقرأ سليمان بن يسار بل أدرك بنقل حركة الهمزة إلى اللام وشد الدال بناء على وزنه افتعل ، فأدغم الدال وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالا فصار فيه قلب الثاني للأول كما في قولهم : اثرد وأصله اثترد من الثرد ، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل ، وقرأ أبو رجاء والأعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري كذلك إلا أنهم كسروا لام «بل» ، وروى ذلك عن ابن عياش وعاصم والأعمش.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل مكة. «بل أدرك». على وزن أفعل بمعنى تفاعل ، ورويت عن أبي بكر عن عاصم ، وقرأ عبد اللّه في رواية وابن عباس في رواية أبي حيوة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن. «بل آدّرك».
بمدة بعد همزة الاستفهام ، وأصله أأدرك فقلبت الثانية ألفا تخفيفا كراهة الجمع بين همزتين ، وأنكر أبو بكر بن أبي العلاء هذه الرواية ، وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد «بل» لأن بل للإيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى لم يكن كما في قوله تعالى : أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف : 19] ، أي لم يشهدوا خلقهم فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار ا ه.
وقد أجاز بعض المتأخرين ، كما قال أبو حيان ، الاستفهام بعد بَلِ وشبهه بقول القائل : أخبزا أكلت ، بل أماء شربت على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني ، وقرأ مجاهد «أم أدرك» جعل أم بدل بَلِ وأدرك على وزن أفعل ، وقرأ ابن عباس في رواية أيضا «بل أدارك» بهمزة داخلة على ادَّارَكَ فتسقط همزة الوصل المجتلبة لأجل الإدغام والنطق بالساكن ، وقرأ ابن مسعود أيضا بل أأدرك بهمزتين همزة الاستفهام وهمزة أفعل ، وقرأ الحسن أيضا والأعرج. «بل أدرك». بهمزة ، وادغام فاء الكلمة وهي الدال في فاء افتعل بعد صيرورة التاء دالا ، وقرأ ورش في رواية. «بل ادّرك».
بحذف همزة أدرك ، ونقل حركتها إلى اللام ، وقرأ ابن عباس أيضا. «بلى أدرك». بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي ، وقرأ. «بل آإدّارك». بألف بين الهمزتين ، فهذه عدة قراءات فما فيه منها استفهام صريح أو مضمن فهو إنكار ونفي ، وما فيه بلى فقد قال فيه أبو حاتم : إن كان يلي جوابا لكلام تقدم جاز أن يستأنف بعده كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة فقيل لهم : بلى إيجابا لما نفوا ، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بمعنى أم هم في شك منها لأن حروف العطف قد تتناوب ، وكف عن الجملتين بقوله تعالى : بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ا ه ، يعني أن المعنى أأدرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟ فبل بمعنى أم عودل بها الهمزة ، وتعقبه في البحر بأن جعل بل بمعنى أم ومعادلتها لهمزة الاستفهام ضعيف جدا ، وقال بعض المحققين : ما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إلخ له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إلخ إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل إنهم منها عمون فهو على منوال :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 226
تحية بينهم ضرب وجيع أو رد وإنكار لشعورهم على أن الإضراب إبطالي فافهم ، وقوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ كالبيان لجهلهم بالآخرة وعما هم منها ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز صلته والإشعار بعلة حكمهم الباطل الذي تضمنه مقول القول ، وإذا. ظرف لمحذوف دل عليه مخرجون. أي أنخرج إذا كنا ترابا ولا مساغ لأن يكون ظرفا لَمُخْرَجُونَ لأن كلا من الهمزة وإن واللام على ما قيل : مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها فكيف بها إذا اجتمعت ، ولم يعتبر بعضهم اللام مانعة بناء على ما قرر في النحو من جواز تقدم معمول خبر إن المقرون باللام عليه نحو إن زيدا طعامك لآكل ، ويكفي حينئذ مانعان وأظن أن من قال : يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها لا يقول باطراد الحكم في مثل هذا الموضع ومرادهم بالإخراج الإخراج من القبور ، وجوز أن يكون الإخراج من حال الفناء إلى الحياة ، والأول هو الظاهر ، وتقييد الإخراج بوقت كونهم ترابا ليس لتخصيص الإنكار بالإخراج حينئذ فقط فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت مطلقا وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له بزعمهم ، وقوله سبحانه : وَآباؤُنا عطف على اسم كان واستغنى بالفصل بالخبر عن الفصل بالتأكيد ، وتكرير الهمزة في أإنا. للمبالغة والتشديد في الإنكار ، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم ، فإن تقديم الهمزة لأصالتها في الصدارة ، والضمير في. أإنا. لهم ولآبائهم لأن الكون ترابا قد تناولهم وآباءهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو. أئذا. وأ إنا. بالجمع بين الاستفهامين ، وقلب الثانية ياء وفصل بينهما بألف أبو عمرو.
وقرأ نافع «إذا» بهمزة واحدة مكسورة فهمزة الاستفهام مقدرة مع الفعل المقدر لأن المعنى ليس على الخبر ، وآينا ، بهمزة الاستفهام وقلب الثانية ياء وبينهما مدة ، وقرأ آخرون أئذا. باستفهام ممدود أننا بنونين من غير استفهام لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي الإخراج المذكور نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي من قبل وعد محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وتقديم الموعد على نَحْنُ هنا للدلالة على أنه هو الذي تعمد بالكلام وقصد به حتى كأن ما سواه مطرح وعلاوة له كما ينبىء عن ذلك ذكر ما صدر منهم أنفسهم مؤكدا مقررا مكررا وتأخيره عنه في آية سورة المؤمنين لرعاية الأصل ، ولا مقتضى للعدول إذ لم يذكر هناك سوى أتباعهم أسلافهم في الكفر وإنكار البعث من غير نعي ذلك عليهم ، والجملة استئناف مسوق لتقرير الإنكار وتصديرها بالقسم لمزيد التأكيد ، وقوله تعالى : إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ تقرير إثر تقرير.
[سورة النمل (27) : الآيات 69 إلى 84]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 227
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ بسبب تكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما دعوهم إليه من الإيمان باللّه عز وجل وحده وباليوم الآخر الذي تنكرونه فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي الأبصار ، وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين الأعم منه بحسب المفهوم لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم لما فيه من إرشادهم إلى أن الجرم مطلقا مبغوض للّه عز وجل وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لإصرارهم على الكفر والتكذيب وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أي في حرج صدر مِمَّا يَمْكُرُونَ أي من مكرهم فإن اللّه تعالى يعصمك من الناس.
وقرأ ابن كثير «ضيق» بكسر الضاد وهو مصدر أيضا ، وجوز أن يكون مفتوح الضاد مخففا من ضيق ، وقد قرىء كذلك أي لا تكن في أمر ضيق ، وكره أبو علي كون ذلك مخففا مما ذكر لأنه يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، وليس من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد ، وفيه بحث.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب العاجل الموعود ، وكأنهم فهموا وعدهم بالعذاب من الأمر بالسير والنظر في عاقبة أمثالهم المكذبين ، ويعلم منه وجه للتعبير - بيقولون - وعدم إجرائه على سنن ما قبله أعني وقال الذين كفروا وسؤالهم عن وقت إتيان هذا العذاب على سبيل الاستهزاء والإنكار ، ولذا قالوا :
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ عانين إن كنتم صادقين في إخباركم بإتيانه فبينوا لنا وقته ، والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أصل معنى رَدِفَ تبع والمراد به هنا لحق ، ووصل وهو مما يتعدى بنفسه وباللام كنصح.
وقيل : اللام مزيدة لتأكيد وصول الفعل إلى المفعول به كما زيدت الباء لذلك في قوله تعالى : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة : 195] ، وقيل : إن اللام لتضمين رَدِفَ معنى دنا وهو يتعدى باللام كما يتعدى بمن وإلى كما في الأساس ولتضمينه ذلك عدي بمن في قوله :
فلما ردفنا من عمير وصحبه تولوا سراعا والمنية تعنق
وقيل : اللام داخلة على المفعول لأجله والمفعول به الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه محذوف أي رَدِفَ الخلق لأجلكم ولا يخفى ضعفه ، وقيل : إن الكلام تم عند رَدِفَ على أن فاعله ضمير يعود على الوعد ، ثم استأنف بقوله تعالى : لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ على أن بَعْضُ مبتدأ ، ولَكُمْ متعلق بمحذوف وقع خبرا له ، ولا يخفى ما فيه من التفكيك للكلام والخروج عن الظاهر لغير داع لفظي ولا معنوي ، والمعنى قل عسى أن يكون لحقكم ووصل إليكم بعض الذي تستعجلون حلوله وتطلبونه وقتا فوقتا ، والمراد بهذا البعض عذاب يوم بدر ، وقيل : عذاب القبر وليس بذاك ، ونسبة استعجال ذلك إليهم بناء على ما يقتضيه ما هم عليه من التكذيب والاستهزاء وإلا فلا استعجال منهم حقيقة ، والترجي المفهوم من عسى قيل : راجع إلى العباد.
وقال الزمخشري : إن عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجده وما لا مجال

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 228
للشك بعده ، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم ، فعلى ذلك جرى وعد اللّه تعالى ووعيده سبحانه انتهى.
وعليه ففي الكلام استعارة تمثيلية ولا يخفى حسن ذلك ، وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال : عسى أن يردفكم إلخ لكونه أدل على تحقق الوعد ، وقرأ ابن هرمز «ردف» بفتح الدال وهو لغة فيه.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي لذو إفضال وإنعام كثير على كافة الناس ، ومن جملة إفضاله عز وجل وإنعامه تعالى تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي لا يشكرونه جل وعلا على إفضاله سبحانه عليهم ومنهم هؤلاء ، وقيل : لا يعرفون حق فضله تعالى عليهم تعبيرا عن انتفاء معرفتهم ذلك بانتفاء ما يترتب عليها من الشكر وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما تخفيه من الأسرار التي من جملتها عداوتك وَما يُعْلِنُونَ أي وما يظهرونه من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما حكي عنهم فليس تأخير عقوبتهم لخفاء حالهم عليه سبحانه ، أو فيجازيهم على ذلك ، وفعل القلب إذا كان مثل الحب والبغض والتصديق والتكذيب والعزم المصمم على طاعة أو معصية فهو مما يجازى عليه ، وفي الآية إيذان بأن لهم قبائح غير ما حكي عنهم ، وتقديم الاكتنان ليظهر المراد من استواء الخفي والظاهر في علمه جل وعلا ، أو لأن مضمرات الصدور سبب لما يظهر على الجوارح ، وإلى الرمز إلى فساد صدورهم التي هي المبدأ لسائر أفعالهم أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : وإن ربك ليعلم ما يكنون وما يعلنون.
وقرأ ابن محيصن وحميد وابن السميفع «تكنّ» بفتح التاء وضم الكاف من كن الشيء ستره وأخفاه.
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي من شيء خفي ثابت الخفاء فيهما على أن غائِبَةٍ صفة غلبت في هذا المعنى فكثر عدم إجرائها على الموصوف ودلالتها على الثبوت وإن لم تنقل إلى الاسمية كمؤمن وكافر ، فتاؤها ليست للتأنيث إذ لم يلاحظ لها موصوف تجري عليه كالراوية للرجل الكثير الرواية فهي تاء مبالغة ، ويجوز أن تكون صفة منقولة إلى الاسمية سمي بها ما يغيب ويخفى ، والتاء فيها للنقل كما في الفاتحة ، والفرق بين المغلب والمنقول - على ما قال الخفاجي - ان الأول يجوز إجراؤه على موصوف مذكر بخلاف الثاني.
والظاهر عموم الغائبة أي ما من غائبة كائنة ما كانت إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي بين ، أو مبين لما فيه لمن يطالعه وينظر فيه من الملائكة عليهم السلام وهو اللوح المحفوظ ، واشتماله على ذلك إن كان متناهيا لا إشكال فيه وإن كان غير متناه ففيه إشكال ظاهر ضرورة قيام الدليل على تناهي الأبعاد واستحالة وجود ما لا يتناهى ، ولعل وجود الأشياء الغير المتناهية في علم اللّه تعالى في اللوح المحفوظ على نحو ما يزعمونه من وجود الحوادث في الجفر الجامع وإن لم يكن ذلك حذو القذة بالقذة.
وقيل : المراد بالكتاب المبين علمه تعالى الأزلي الذي هو مبدأ لإظهار الأشياء بالإرادة والقدرة ، وقيل : حكمه سبحانه الأزلي وإطلاق الكتاب على ما ذكر من باب الاستعارة ولا يخفى ما في ذلك.
وقيل : المراد به القرآن واشتماله على كل غائبة على نحو ما ذكرنا في اشتمال اللوح المحفوظ عليه ، وقد ذكر أن بعض العارفين استخرج من الفاتحة أسماء السلاطين العثمانية ومدد سلطنتهم إلى آخر من يتسلطن منهم أدام اللّه تعالى ملكهم إلى يوم الدين ووفقهم لما فيه صلاح المسلمين.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 229
وذكر بعضهم في هذا الوجه أنه مناسب لما بعد من وصف القرآن وفيه ما فيه ، وقال الحسن : الغائبة هو يوم القيامة وأهوالها ، وقال صاحب الغنيان : الحوادث والنوازل ، وقيل : أعمال العباد ، وقيل : ما غاب من عذاب السماء والأرض ، والعموم أولى ، وروي ذلك عن ابن عباس ، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية يقول سبحانه : ما من شيء في السماء والأرض سرا وعلانية إلا يعلمه سبحانه وتعالى ، وأخذ منه بعضهم حمل الكتاب على العلم الأزلي ، وفيه نظر لجواز أن يكون قد جعل كون ذلك في كتاب مبين كناية عن علمه تعالى به.
وذهب أبو حيان إلى أنه رضي اللّه تعالى عنه اعتبر في الآية حذف أحد المتقابلين اكتفاء بالآخر وكلامه رضي اللّه تعالى عنه محتمل لذلك ، ويحتمل أنه ذكر العلانية في بيان المعنى لأن من علم السر علم العلانية من باب أولى ، ويحتمل أن ذلك لأنه ما من علانية إلا وهي غيب بالنسبة إلى بعض الأشخاص ، فيكون قد أشار رضي اللّه تعالى عنه ببيان المعنى وذكر السر والعلانية فيه إلى أن المراد - بغائبة - في الآية ما يشملهما وهو ما اتصف بالغيبة أعم من أن تكون مطلقة أو إضافية كذا قيل فتدبر.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لما ذكر سبحانه ما يتعلق بالمبدأ والمعاد ذكر تعالى ما يتعلق بالنبوة فإن القرآن أعظم ما تثبت به نبوة نبينا صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فذكر جل وعلا أنه يقص على بني إسرائيل ، والمراد بهم - كما روي عن قتادة - اليهود والنصارى أكثر ما تجدد واستمر اختلافهم فيه على وجهه ويبين لهم حقيقة الأمر فيه وذلك مما يقتضي إسلامهم لو تأملوا وأنصفوا لكنهم لم يفعلوا وكابروا مثلكم أيها المشركون ، ومما اختلفوا فيه أمر المسيح عليه السلام ، فمن قائل : هو اللّه تعالى ، ومن قائل : ابن اللّه سبحانه ، ومن قائل : ثالث ثلاثة ، ومن قائل : هو نبي كغيره من الأنبياء عليهم السلام ، ومن قائل : هو - وحاشاه - كاذب في دعواه النبوة وينسب مريم فيه إلى ما هي منزهة عنه رضي اللّه تعالى عنها وهم اليهود الذين كذبوه ، وأمر النبي المبشر به في التوراة ، فمن قائل : هو يوشع عليه السلام ، ومن قائل : هو عيسى عليه السلام ، ومن قائل : إنه لم يأت إلى الآن وسيأتي آخر الزمان ومما اختلفوا فيه أمر الخنزير فقالت اليهود : بحرمة أكله ، وقالت النصارى : بحله إلى غير ذلك.
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ على الإطلاق فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولا أوليا ، وتخصيص المؤمنين بهم كما فعل بعضهم خلاف الظاهر ، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أنه رحمة للعالمين لأنهم المنتفعون به إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين بني إسرائيل الذين اختلفوا أو بين المؤمنين وبين الناس بِحُكْمِهِ قيل : أي بحكمته جل شأنه ، ويدل عليه قراءة جناح بن حبيش بحكمه - بكسر الحاء وفتح الكاف - جمع حكمة مضاف إلى ضميره تعالى ، وقيل : المراد بالحكم المحكوم به إطلاقا للمصدر على اسم المفعول ، والمراد بالمحكوم به الحق والعدل ، وعلى الوجهين لم يبق على المعنى المصدري ، والداعي لذلك أن - يقضي - بمعنى يحكم فلو بقي الحكم على المعنى المصدري لصار الكلام نحو قولك : زيد يضرب بضربه وهو لا يقال مثله في كلام عربي ، وأورد عليه أنه يصح أن يقال ذلك على معنى يضرب بضربه المعروف بالشدة مثلا ، فالمعنى هنا يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق ، أو يحكم بحكم نفسه تعالى لا بحكم غيره عز شأنه كالبشر ، وقيل عليه : ليس المانع لصحة مثل هذا القول إضافة المصدر إلى ضمير الفاعل فإنه لا كلام في صحته كإضافته إلى ضمير المفعول في - سعى لها سعيها - إنما المانع دخول الباء على المصدر المؤكد ، ثم إن المعنى الأول يوهم أن له سبحانه حكما غير معروف بملابسة الحق ، والثاني إنما يظهر لو قدم بحكمه ، وفيه أنه على ما ذكر ليس بمصدر مؤكد ، وعدم الجواز في المصدر النوعي لا سيما إذا كان من غير لفظه ليس بمسلم ، وأيضا الظاهر أن المانع بزعم المؤول لزوم اللغوية لو لم يؤول بما ذكر ، والأولى إبقاؤه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 230
على المصدرية ، وجل الإضافة للعهد ، وكون المعنى كما قال المورد : يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق وأمر التوهم على طرف الثمام وأيا ما كان فالضمير المجرور عائد على الرب سبحانه وعوده على القرآن على أن المعنى يحكم بالحكم الذي تضمنه القرآن واشتمل عليه من إثابة المحق وتعذيب المبطل وحينئذ لا يحتاج إلى كثرة القيل والقال لا يخفى ما فيه من القيل والقال على من له أدنى تمييز بأساليب المقال وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يرد حكمه سبحانه وقضاؤه جل جلاله الْعَلِيمُ بجميع الأشياء التي من جملتها ما يقضي به ، والفاء في قوله تعالى : فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لترتيب الأمر على ما ذكر من شؤونه عز وجل فإنها موجبة للتوكل عليه تعالى وداعية إلى الأمر به وفي ذكره تعالى بالاسم الجامع تأييد لذلك أي فتوكل على اللّه الذي هذا شأنه فإنه يوجب على كل أحد أن يتوكل عليه ويفوض جميع أموره إليه جل وعلا ، وقوله تعالى :
إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ تعليل صريح للتوكل عليه تعالى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحق البين ، أو الفاصل بينه وبين الباطل. أو بين المحق والمبطل فإن كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم كذلك مما يوجب الوثوق بحفظه تعالى ونصرته وتأييده لا محالة ، وقوله سبحانه : إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إلخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى اللّه تعالى وتفويض الأمر إليه سبحانه والإعراض عن التشبث بما سواه وقد علل أولا بما يوجبه من جهته تعالى أعني قضاءه عز وجل بالحق وعزته وعلمه تبارك وتعالى ، وثانيا بما يوجبه من جهته عليه الصلاة والسلام على أحد الوجهين أعني كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم على الحق ومن جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده تعالى للمحق ، ثم علل ثالثا بما يوجبه لكن لا بالذات بل بواسطة إيجابه للإعراض عن التشبث بما سواه تعالى ، فإن كونهم كالموتى والصم والعمي موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا ، وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى ، وهو المعني بالتوكل عليه جل شأنه ، وجوز أن يكون قوله تعالى : إِنَّكَ لا تُسْمِعُ إلخ استئنافا بيانيا وقع جوابا لسؤال نشأ مما قبله ، أعني إنك على الحق المبين كأنه قيل : ما بالهم غير مؤمنين بمن هو على الحق المبين فقيل : إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إلخ.
وتعقب بأنه يأباه السياق ، واعترض بالمنع وإنما شبهوا بالموتى على ما قيل لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من القوارع ، وإطلاق الأسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات ، وقيل : لعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فإن القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة ، ثم بين بطلان مشعري الأذن والعين كما في قوله تعالى : لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها [الأعراف : 179] ، وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالصم والعمي مزيد مزية وكأنه لهذا قال في البحر : أي موتى القلوب ، أو شبهوا بالموتى لأنهم لا ينتفعون بما يتلى عليهم فقدم احتمال نسبة الموت إلى قلوبهم.
وتعقب بأن ما ذكر تخيل بارد لأن القلب يوصف بالفقه والفهم لا السمع ، وما ذكر أولا من أنهم أنفسهم شبهوا بالموتى هو الظاهر ، ووجهه أنه على طريق التسليم والنظر لأحوالهم كأنه قيل : كيف تسمعهم الإرشاد إلى طريق الحق وهم موتى وهذا بالنظر لأول الدعوة ولو أحييناهم لم يفد أيضا لأنهم صم ، وقد ولوا مدبرين وهذا بالنظر لحالهم بعد التبليغ البليغ ونفرتهم عنه ، ثم إنا لو أسمعناهم أيضا فهم عمي لا يهتدون إلى العمل بما يسمعون ، وهذا خاتمة أمرهم ، ويعلم من هذا ما في ذلك من مزيد المزية الخالية عن التكلف.
وجوز أن يكون التشبيه لطوائف على مراتبهم في الضلال ، فمنهم من هو كالميت ومن هو كالأصم ومن هو كالأعمى ، وهو وإن كان وجها خفيف المئونة إلا أنه خلاف الظاهر أيضا وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي الدعوة إلى

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 231
أمر من الأمور ، وتقييد النفي بقوله تعالى : إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ لتتميم وتأكيد النفي فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي مولون على أدبارهم ، ولا ريب في أن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبا منه ، فكيف إذا كان خلفه بعيدا منه ، ومثله في التتميم قول امرئ القيس :
حملت ردينيا كأن سنانه سنا لهب لم يتصل بدخان
وقرأ ابن كثير - لا يسمع الصم الدعاء - بالياء التحتانية وفتح الميم ورفع الضم وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي وما أنت بصارف العمي عن ضلالتهم هاديا لهم هداية موصلة إلى المطلوب لفقد الشرط العادي للاهتداء وهو البصر ، وعَنْ متعلقة بالهداية باعتبار تضمنها معنى الصرف كما أشرنا إليه ، وجوز أبو البقاء أن تعلق بالعمى ويكون المعنى أن العمى صدر عن ضلالتهم وفيه بعد ، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية.
وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة - «بهاد» - بالتنوين «العمي» بالنصب ، وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وابن يعمر وحمزة - «تهدي» - مضارع هدى «العمي» بالنصب ، وقرأ ابن مسعود - وما أن تهتدي - بزيادة أن بعد ما كما في قول امرئ القيس :
حلفت لها باللّه حلفة فاجر لناموا فما إن من حديث ولا صال
و- «تهتدي» - مضارع اهتدى ، و«العمي» بالرفع إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع إسماعا يجدي السامع نفعا.
إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي من شأنهم الإيمان بها وهم الذين ليسوا موتى ولا صما ولا عميا.
وقال بعض الأجلة : أي إلا من هو في علم اللّه تعالى كذلك ، واعترض بأن صيغة الاستقبال وإن صحت باعتبار تعلق العلم فيما لا يزال إلا أن المناسب صيغة المضي ، واختار المعترض أن المعنى إلا الذين يصدقون أن القرآن كلام اللّه تعالى إذ حينئذ تثبت نبوته صلّى اللّه عليه وسلّم فيقبل قوله ويجدي إسماعه نفعا ، وتعقب بأنه ينتقض الحصر بالمصدقين في الاستقبال إن كانت الصيغة للحال وبالمصدقين في الحال إن كانت للاستقبال ، وإذا دفع لزوم الانتقاض بجعلها لهما لزم استعمال المشترك في معنييه معا أو الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وأجيب بأن المراد الحال ويدخل غيره فيه بدلالة النص من غير تكليف.
وقال بعض المحققين : قد يراد بالمضارع الاستقبال الشامل لجميع الأزمنة فإن الاستقبال كما يكون بالنظر لزمان الحكم والتكلم على ما حقق في الأصول يجوز أن يكون بالنظر إلى علم القائل أيضا فيشمل من يؤمن هنا من آمن حالا كما يشمل من يؤمن استقبالا فلا غبار في المعنى الذي اختاره ذلك المعترض من هذه الحيثية ، نعم قيل : إن فيه شبه تحصيل الحاصل لأن التصديق بالقرآن هو استماعه النافع ، ولعل من عدل عنه إنما عدل لذلك ، ولم يعبأ بالمغايرة بين ذينك الأمرين الظاهرة بعد النظر الصحيح ، والحق أن ما ذكر من شبه تحصيل الحاصل على طرف الثمام لظهور الفرق بين الاسماع المراد في الآية والتصديق بأن القرآن كلام اللّه تعالى كما لا يخفى ، وجوز أن يزاد بالآيات المعجزات التي أظهرها اللّه تعالى على يده عليه الصلاة والسلام الشاملة للآيات التنزيلية والتكوينية وأن يراد بها الآيات التكوينية فقط ، والإيمان بها التصديق بكونها آيات اللّه تعالى وليست من السحر وإذا أريد بالإسماع النافع على هذا إسماع الآيات التنزيلية ليؤتى بما تضمنته من الاعتقادات والأعمال كان الكلام أبعد وأبعد من أن يكون فيه شبه تحصيل الحاصل إلا أن ذلك لا يخلو عن شيء ، وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الاسماع في النفي والإثبات دون الهداية مع قربها بأن يقال : إن تهدي إلا من يؤمن إلخ لما أن طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية فافهم ، وقوله تعالى : فَهُمْ مُسْلِمُونَ قيل : تعليل لإيمانهم بها كأنه قيل : فإنهم منقادون للحق في كل وقت.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 232
وقيل : مخلصون للّه تعالى من قوله تعالى : بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة : 112] ، وقيل : هو تعليل لما يدل عليه الكلام من أنهم يسمعون إسماعا نافعا لهم ، وفي توحيد الضمير تارة. وجمعه أخرى رعاية للفظ من ومعناها.
واستدل بقوله سبحانه : إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى على أن الميت لا يسمع كلام الناس مطلقا ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تفصيل الكلام في ذلك في سورة الروم على أتم وجه وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بيان لما أشير إليه بقوله تعالى : بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ من بقية ما يستعجلونه من الساعة ومباديها ، والمراد بالقول ما نطق من الآيات الكريمة بمجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها وبوقوعه قيامها وحصولها عبر عن ذلك به للإيذان بشدة وقعها وتأثيرها ، وإسناده إلى القول لما أن المراد بيان وقوعها من حيث إنها مصداق للقول الناطق بمجيئها ، وقد أريد بالوقوع دنوه واقترابه كما في قوله تعالى : أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل : 1] ففيه مجاز المشارفة أي إذا دنا وقوع مدلول القول المذكور الذي لا يكادون يسمعونه ومصداقه.
أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ وذلك على ما أخرج ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا ، وهو.
وجماعة عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما موقوفا «حين يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : «أكثروا الطواف بالبيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع ، قيل : وكيف يرفع ما في صدور الرجال؟ قال : يسرى عليهم ليلا فيصبحون منه فقراء وينسون قول لا إله إلا اللّه ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم فذلك حين يقع القول عليهم» ، وهذا ظاهر في أن خروج الدابة حين لا يبقى في الأرض خير ، ويقتضي ذلك أن يكون بعد موت عيسى والمهدي وأتباعهما عليهم السلام ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى من الأخبار ما هو ناطق بأنها تخرج وعيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون.
وأخرج نعيم بن حماد عن وهب بن منبه قال : أول الآيات الروم والثانية الدجال والثالثة يأجوح ومأجوج والرابعة عيسى والخامسة الدخان والسادسة الدابة ، وصوب السفاريني أنها قبل الدخان ، والحق أنها تخرج وفي الناس مؤمن وكافر ، فالظاهر أن الخبر المذكور عن ابن مسعود غير صحيح ، ويدل على ما ذكرنا من الحق ما
أخرج أحمد والطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام فتجلو «1» وجه المؤمن بالخاتم وتحطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر»
وقد اختلفت الروايات فيها اختلافا كثيرا ، فحكى أبو حيان في البحر والدميري في حياة الحيوان رواية أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مبثوث نوعها في الأرض فليست دابة واحدة وعليه يراد بدابة الجنس الصادق بالمتعدد ، وأكثر الروايات أنها دابة واحدة وهو الصحيح ، فالتعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين الدال على التفخيم من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور البيان ما لا يخفى ، وعلى كونها واحدة اختلف فيها أيضا فقيل : هي من الإنس واستؤنس له بما
روى محمد بن كعب القرظي قال : سئل عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه عن الدابة فقال : أما واللّه إنها ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية
، وفي الميزان للذهبي عن جابر الجعفي -
___________
(1) قوله : فتجلو إلخ قال الطيبي : أهل الحديث يروونه بالحاء المهملة وفتح اللام والهمز من حلأت الأديم إذا قشرته ، وفي الكشاف ، وكذا في المطلع بالجيم من جلوت السيف إذا صقلته ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 233
وهو كذاب - قال أبو حنيفة : ما لقيت أكذب منه أنه كان يقول : هي من الإنس وأنها عليّ نفسه كرّم اللّه تعالى وجهه وعلى ذلك جمع من إخوانه الشيعة ولهم في ذلك روايات : منها ما
رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رجل لعمار بن ياسر : يا أبا اليقظان آية في كتاب اللّه تعالى أفسدت قلبي ، قال عمار : وأية آية هي؟! فقال : قوله تعالى : وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ الآية فأية دابة هذه؟ قال عمار : واللّه ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين علي كرّم اللّه تعالى وجهه وهو يأكل تمرا وزبدا فقال : يا أبا اليقظان هلم فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل : سبحان اللّه حلفت أنك لا تجلس ولا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها قال عمار : قد أريتكها إن كنت تعقل ، وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر
أيضا وكل ما يروونه في ذلك كذب صريح ، وفيه القول بالرجعة التي لا ينتهض لهم عليها دليل.
وفي بعض الآثار ما يعارض ما ذكر ،
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن النزال بن سبرة قال : قيل لعلي كرّم اللّه تعالى وجهه : إن ناسا يزعمون أنك دابة الأرض ، فقال : واللّه إن لدابة الأرض لريشا وزغبا وما لي ريش ولا زغب وإن لها لحافرا وما لي من حافر وإنها لتخرج من حفر الفرس الجواد ثلاثا
وما خرج ثلثها ، والمشهور - وهو الحق - أنها دابة ليست من نوع الإنسان ، فقيل : هي الثعبان الذي كان في جوف الكعبة واختطفته العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام فمنعهم وأن العقاب التي اختطفته ألقته بالحجون فالتقمته الأرض ، وذكر ذلك الدميري عن ابن عباس ، والأكثرون على أنها غيرها.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا - زاد ابن جرير - بذراع آدم عليه السلام.
ونقل السفاريني عن كعب أنه قال : صوتها صوت حمار ، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال : الدابة مؤلفة ذات زغب وريش فيها من ألوان الدواب كلها وفيها من كل أمة سيما وسيماها من هذه الأمة أنها تتكلم بلسان عربي مبين ، وعن أبي هريرة أنه قال : فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للراكب ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب ولها وجه كوجه الإنسان ومنقار كمنقار الطير ذات وبر وزغب ، وعن وهب وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير ، وصرح في بعض الروايات بأن لها جناحين ، وذكر بعضهم أن طولها ستون ذراعا ، واختلف في محل خروجها فقيل : المسجد الحرام لما
أخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان قال : «ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الدابة فقال حذيفة : يا رسول اللّه من أين تخرج؟ قال : من أعظم المساجد حرمة على اللّه تعالى بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض من تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسجد فتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمن وكافر : أما المؤمن فيرى وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب كافر».
وأخرج ابن أبي شيبة والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من جبل جياد في أيام التشريق والناس بمنى
، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «تخرج دابة الأرض من جياد فيبلغ صدرها الركن ولم يخرج ذنبها بعد وهي دابة ذات وبر وقوائم»
.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 234
وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجة وابن مردويه عن بريدة رضي اللّه تعالى عنه قال : «ذهب بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى موضع بالبادية قريب من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «تخرج الدابة من هذا الموضع فإذا شبر في شبر».
وجاء في بعض الروايات أنها تخرج من أقصى البادية
، وفي بعض من مدينة قوم لوط
، وفي بعض أن لها ثلاث خرجات في الدهر : تخرج في أول خرجة في أقصى اليمن منتشرا ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ، ثم تخرج خرجة أخرى فيعلو ذكرها في البادية ويدخل القرية ، ثم بينما الناس في أعظم المساجد حرمة لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد من الركن الأسود وباب بني مخزوم فيرفضّ الناس عنها شتى وتثبت عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا اللّه تعالى فتنفض عن رأسها التراب فتجلو عن وجوههم حتى كأنهم الكواكب الدرية
، واختلف أيضا في أنها هل تخلق يوم تخرج أو هي مخلوقة الآن؟ فقيل : إنها تخلق يوم تخرج ، وقيل : إنها مخلوقة الآن لكن لم تؤمر بالخروج.
واستدل بما روي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه ، وعليه من يقول : إنها الثعبان ، ومن يقول : إنها الجساسة التي تتجسس الأخبار للدجال كما هو المروي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، وزعم بعضهم أنها مخلوقة في عهد الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ،
فقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن «أن موسى عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الدابة فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء لا يرى واحد من طرفيها فرأى عليه السلام منظرا فظيعا فقال : يا رب ردها فردها
، وجاء في حديث أخرجه نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أنها إذا خرجت تقتل إبليس عليه اللعنة - وهو ساجد - وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها
وتحقق هلاكه عنده ، والأخبار في هذه الدابة كثيرة.
وفي البحر أنهم اختلفوا - في ماهيتها وشكلها ومحل خروجها وعدد خروجها ومقدار ما يخرج منها وما تفعل بالناس وما الذي تخرج به - اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا فاطرحنا ذكره لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح وتضييع لزمان نقله اه ، وهو كلام حق وأنا إنما نقلت بعض ذلك دفعا لشهوة من يحب الاطلاع على شيء من أخبارها صدقا كان أو كذبا ، وقد تصدى السفاريني في كتابه البحور الزاخرة للجمع بين بعض هذه الأخبار المتعارضة ولا أظنه أتى بشيء.
ثم إن الأخبار المذكورة أقربها للقبول الخبر الذي حسنه الترمذي ، ومن الأخبار في هذا الباب ما صححه الحاكم وتصحيحه محكوم عليه بين المحدثين بعدم الاعتبار ، وقصارى ما أقول في هذه الدابة أنها دابة عظيمة ذات قوائم ليست من نوع الإنسان أصلا يخرجها اللّه تعالى آخر الزمان من الأرض ، وفي تقييد إخراجها بقوله سبحانه : مِنَ الْأَرْضِ نوع إشارة على ما قيل : إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد بل هو بطريق التولد نحو خلق الحشرات.
وقيل : إنه للإشارة إلى تكونها في جوف الأرض فيكون في إخراجها من الأرض رمز إلى ما يكون في الساعة التي أخرجت هي بين يديها من تشقق الأرض وخروج الناس من جوفها أحياء كاملة خلقتهم ، وفي هذا وما قبله ذهاب إلى تعلق مِنَ الْأَرْضِ ب أَخْرَجْنا وهو الظاهر الذي ينبغي أن يعول عليه دون كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لدابة أي دابة كائنة من الأرض.
تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي تكلمهم بأنهم كانوا لا يتيقنون بآيات اللّه تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات ، وقيل : بآياته التي من جملتها خروجها بين يدي الساعة وليس بذاك ، وإضافة الآيات إلى نون العظمة لأنها حكاية منه تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 235
وقيل : لأنها حكاية منها لقول اللّه عز وجل وقيل : لاختصاصها به تعالى وأثرتها عنده سبحانه كما يقول بعض خواص الملك خيلنا وبلادنا ، وإنما الخيل والبلاد لمولاه ، وقيل : هناك مضاف محذوف أي بآيات ربنا.
والظاهر أن ضمير الجمع في تكلمهم للكفرة المنكرين للبعث مطلقا لا للكفرة المحدث عنهم فيما سبق بخصوصهم ضرورة أنهم ليسوا موجودين عند إخراج الدابة لتكلمهم ، وتكليمها إياهم - وهم موتى - بعيد أو غير معقول ، والرجعة التي يعتقدها الشيعة لا نعتقدها ، والآية الآتية لا تدل كما يزعمون عليها. ويسهل أمر ذلك أنه ليس مدار الحديث عنهم سوى ما هم عليه من الشرك والكفر بالآيات وإنكار البعث وذلك موجود فيهم وفي الكفرة الموجودين عند إخراج الدابة ، ومثله ضميرا - عليهم. ولهم - والمراد بالناس الكفرة الماضون مطلقا لا مشركو أهل مكة فقط ، والمراد بإخبارها إياهم بذلك التحسر على ما فاتهم من الإيقان بما قرب وقوعه وظهور بطلان ما اعتقدوه فيه ومؤاخذتهم على التكذيب به أشد مؤاخذة ، وفي ذلك استدعاء لأمثالهم إلى ترك ما هم عليه مما شاركوهم به من التكذيب وإنكار البعث ، وجوز أن يراد بالناس مشركو أهل مكة وأمر الإخبار على حاله.
وقيل : يجوز أن تكون الضمائر للناس لا للكفرة منهم خاصة ، ويراد بالناس إما الكفرة المنكرون للبعث ، والمراد بالإخبار التنفير عما كانوا عليه من الإنكار ليثبت المؤمن ويرتدع الكافر ، وإما مشركو أهل مكة والمراد بالإخبار ذلك.
وقيل : المراد به التشنيع عليهم بين أحبائهم وأعدائهم وكان بلسان الدابة ليكون أبلغ لما فيه من ظهور خطئهم عند ما لا يظن إدراكه له فضلا عن النطق به وإذاعته على سبيل التشنيع ، وكان بين يدي الساعة ليردفه بلا كثير فصل ما يشبهه من شهادة الأعضاء عليهم وهي أبعد وقوعا مع تشنيع الدابة ، وفي وقوعها بعده ما يشبه الترقي من العظيم إلى الأعظم ، وأيد كون الضمائر للناس على الإطلاق وأن المراد بالناس المذكور في النظم الكريم أهل مكة ما
روي عن وهب أن الدابة تخبر كل من تراه أن أهل مكة كانوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن لا يوقنون
وقيل : ضميرا - عليهم. ولهم - لمشركي أهل مكة المحدث عنهم فيما سبق ، ومعنى لَهُمْ لذمهم أو نحوه ، وضمير تُكَلِّمُهُمْ للناس الموجودين عند الإخراج أو للكفرة كذلك ، والمراد بالناس المذكور في النظم الكريم أولئك المشركون ، وقيل : غير ذلك ، ولا يخفى عليك بأدنى تأمل ما هو الأولى والأظهر في الآية من الأقوال ، وأيا ما كان فوصف الناس بعدم الإيقان بالآيات مع أنهم كانوا جاحدين لها للإيذان بأنه كان من حقهم أن يوقنوا بها ويقطعوا بصحتها ، وقد اتصفوا بنقيض ذلك وكون التكليم من الكلام هو الظاهر ، ويؤيده قراءة أبي - تنبئهم - وقراءة يحيى بن سلام تحدثهم.
وقيل : هو من الكلم بمعنى الجرح والتفعيل للتكثير ، ويؤيده قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبي زرعة والجحدري وأبي حيوة وابن أبي عبلة «تكلمهم» بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف اللام وقراءة بعضهم - «تجرحهم» - مكان تكلمهم ، وكأنه أريد بالجرح ما هو مقابل التعديل ، ويرجع ذلك إلى معنى التشنيع ورجوع الضمائر عليه إلى الكفرة المحدث عنهم فيما سبق مما لا غبار عليه ، وقوله تعالى : أَنَّ النَّاسَ إلخ بتقدير بأن الناس ، والمعنى تشنع عليهم بهذا الكلام ، ويراد بالناس فيه أولئك المشنع عليهم ، وظاهر الآية وقوعه في كلامها بهذا اللفظ ، ولعل فهم السامعين كون المراد به مشركي مكة وقت التشنيع بمعونة قرينة تدل على ذلك إذ ذاك ، ويحتمل أن يكون الواقع فيه بدله مشركي مكة أو نحوه ، لكن جاء في الحكاية بلفظ الناس ، والنكتة فيه على ما قيل : الإيماء إلى كثرتهم.
وقيل : الرمز إلى مزيد قبح عدم الإيقان منهم ، ويعلم مما ذكر وجه العدول عن - أنهم - إلى أَنَّ النَّاسَ وجوز أن يكون بتقدير حرف التعليل أي لأن الناس إلخ ، وهو تعليل من جهته تعالى لجرحها إياهم ، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع كالضمائر السابقة إلى مشركي مكة ، وجوز أن تقدر الباء على أنها سببية.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 236
وجوز أيضا أن يكون المراد بالكلم الجرح بمعنى الوسم ،
فقد روي أنها تسم جبهة الكافر ،
وفي رواية أخرى أنها تحطم أنفه بعصا موسى عليه السلام التي معها
، واختار بعضهم كون المراد به ما ذكر لما
في حديث أخرجه نعيم بن حماد وابن مردويه عن عمر رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا ليس ذلك بحديث ولا كلام ولكنه سمة تسم من أمرها اللّه تعالى
، وسأل أبو الحوراء ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما هل ما في الآية تكلمهم أو تكلمهم؟ فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر تجرحه ، والظاهر أن الضمائر على تقدير أن يراد بالكلم الجرح ، والوسم راجعة إلى الكفرة على الإطلاق دون المحدث عنهم فيما سبق إذ لا معنى لوسمها إياهم ، ويتعين أن يراد بالناس أولئك الكفرة الذين عادت عليهم الضمائر ، ولعل المعنى تسمهم لأنهم كانوا في علمنا بآياتنا لا يوقنون ، وقرأ ابن مسعود - بأن - وجعلت مؤيدة لكون التكليم من الكلام وهو مبني على الظاهر وإلا فالباء تحتمل أن تكون للسببية فتلائم كونه من الكلم بمعنى الجرح ، وقرأ بعض السبعة - إن - بكسر الهمزة ، وخرج على إضمار القول. أو إجراء التكليم من الكلام مجراه ، أو على أن الكلام استئناف مسوق من جهته سبحانه للتعليل فتدبر.
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا بيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها ، ويَوْمَ منصوب بفعل مضمر خوطب به نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم أي اذكر يوم ، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيان سره مرارا ، والمراد بهذا الحشر الحشر للتوبيخ والعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق وهو المذكور فيما بعد من قوله تعالى : وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النمل : 87] إلى آخره ، ولعل تقديم ما تضمن هذا على ما تضمن ذلك دون العكس مع أن الترتيب الوقوعي يقتضيه للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة قد أمر بذكرها كما مر في سورة البقرة مع أن الأنسب بذكر أن الكفرة لا يوقنون بالآيات المراد به أنهم يكذبون بها أن يذكر بعده ما تضمن التوبيخ منه عز وجل والتعذيب على ذلك التكذيب ، ومن الثانية بيانية جيء بها لبيان فَوْجاً ، ومن الأولى تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب ، أي ويوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء عليهم السلام أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة ، وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم ما لا يخفى ، وقيل : مِنْ الثانية تبعيضية كالأولى ، والمراد بالفوج جماعة من الرؤساء المتبوعين للكفرة ، وعن ابن عباس أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار وهذه الآية من أشهر ما استدل بها الإمامية على الرجعة.
قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان : واستدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال : إن دخول مِنْ في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه : وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف : 47] ، وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم في أن اللّه تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب بالقتل على أيدي شيعته أو الذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته.
ولا يشك عاقل أن هذا مقدور للّه تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل اللّه تعالى ذلك في الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره عليه السلام ، وصح عن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم قوله :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 237
«سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه»
، وتأول جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات ، وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكليف وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجىء إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح ، والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعبانا وما أشبه ذلك ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها ، وإنما المعول عليه في ذلك إجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده انتهى.
وأقول : أول من قال بالرجعة عبد اللّه بن سبأ ولكن خصها بالنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وتبعه جابر الجعفي في أول المائة الثانية فقال برجعة الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه أيضا لكن لم يوقتها بوقت ، ولما أتى القرن الثالث قرر أهله من الإمامية رجعة الأئمة كلهم وأعدائهم وعينوا لذلك وقت ظهور المهدي ، واستدلوا على ذلك بما رووه عن أئمة أهل البيت ، والزيدية كافة منكرون لهذه الدعوى إنكارا شديدا ، وقد ردّوها في كتبهم على وجه مستوفى بروايات عن أئمة أهل البيت أيضا تعارض روايات الإمامية ، والآيات المذكورة هنا لا تدل على الرجعة حسبما يزعمون ولا أظن أن أحدا منهم يزعم دلالتها على ذلك ، بل قصارى ما يقول : إنها تدل على رجعة المكذبين أو رؤسائهم فتكون دالة على أصل الرجعة وصحتها لا على الرجعة بالكيفية التي يذكرونها ، وفي كلام الطبرسي ما يشير إلى هذا.
وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إرادة الرجعة إلى الدنيا من الآية لإفادتها أن الحشر المذكور لتوبيخ المكذبين وتقريعهم من جهته عز وجل بل ظاهر ما بعد يقتضي أنه تعالى بذاته يوبخهم ويقرعهم على تكذيبهم بآياته سبحانه ، والمعروف من الآيات لمثل ذلك هو يوم القيامة مع أنها تفيد أيضا وقوع العذاب عليهم واشتغالهم به عن الجواب ولم تفد موتهم ورجوعهم إلى ما هو أشد منه وأبقى وهو عذاب الآخرة الذي يقتضيه عظم جنايتهم ، فالظاهر استمرار حياتهم وعذابهم بعد هذا الحشر ، ولا يتسنى ذلك إلا إذا كان حشر يوم القيامة ، وربما يقال أيضا : - مما يأبى حمل الحشر المذكور على الرجعة - أن فيه راحة لهم في الجملة حيث يفوت به ما كانوا فيه من عذاب البرزخ الذي هو للمكذبين كيفما كان أشد من عذاب الدنيا ، وفي ذلك إهمال لما يقتضيه عظم الجناية ، وأيضا كيف تصح إرادة الرجعة منها ، وفي الآيات ما يأبى ذلك ، منه قوله تعالى : قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون : 99 ، 100] فإن آخر الآية ظاهر في عدم الرجعة مطلقا وكون الإحياء بعد الإماتة والإرجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له عز وجل مما لا ينتطح فيه كبشان إلا أن الكلام في وقوعه وأهل السنة ومن وافقهم لا يقولون به ويمنعون إرادته من الآية ويستندون في ذلك إلى آيات كثيرة ، والأخبار التي روتها الإمامية في هذا الباب قد كفتنا الزيدية مؤنة ردها ، على أن الطبرسي أشار إلى أنها ليست أدلة وأن التعويل ليس عليها ، وإنما الدليل إجماع الإمامية والتعويل ليس إلا عليه ، وأنت تعلم أن مدار حجية الإجماع على المختار عندهم حصول الجزم بموافقة المعصوم ولم يحصل للسني هذا الجزم من إجماعهم هذا فلا ينتهض ذلك حجة عليه مع أن له إجماعا يخالفه وهو إجماع قومه على عدم الرجعة الكاشف
عما عليه سيد المعصومين صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وكل ما تقوله الإمامية في هذا الإجماع يقول السني مثله في إجماعهم ، وما ذكر من
قوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «سيكون في أمتي» الحديث
لا نعلم صحته بهذا اللفظ بل الظاهر عدم صحته فإنه كان في بني إسرائيل ما لم يذكر أحد أنه يكون مثله في هذه الأمة كنتق الجبل عليهم حين امتنعوا عن أخذ ما آتاهم اللّه تعالى من الكتاب والبقاء في التيه أربعين سنة حين قالوا لموسى عليه السلام : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة : 24] ونزول المن والسلوى عليهم فيه إلى غير ذلك.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 238
وبالجملة القول بالرجعة حسبما تزعم الإمامية مما لا ينتهض عليه دليل ، وكم من آية في القرآن الكريم تأباه غير قابلة للتأويل ، وكأن ظلمة بغضهم للصحابة رضي اللّه تعالى عنهم حالت بينهم وبين أن يحيطوا علما بتلك الآيات فوقعوا فيما وقعوا فيه من الضلالات حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب قالَ أي اللّه عز وجل موبخا لهم على التكذيب لا سائلا سبحانه وتعالى سؤال استفسار لاستحالته منه عز وجل ، وعدم وقوع الاستفسار عن الذنب يوم القيامة من غيره تعالى من الملائكة عليهم السلام وإن كان ممكنا على ما يدل عليه قوله تعالى : لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن : 39] على أحد التفسيرين ، والالتفات لتربية المهابة أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي الناطقة بلقاء يومكم هذا ، وقوله تعالى : وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه ، ومؤكدة للإنكار والتوبيخ أي أكذبتم بها بادىء الرأي غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق حتما ، وهذا على ما قيل : ظاهر في أن المراد بالآيات فيما تقدم الآيات التنزيلية لأنها المنطوية على دلائل الصحة وشواهدها التي لم يحيطوا بها علما مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا نفس الساعة وما فيها.
وقال بعض الأجلة : إن التكذيب يأبى بظاهره أن يراد بالآيات الآيات التكوينية كالمعجزات ونحوها إذ ليس فيها نسبة يتعلق بها ذلك ، وإرادة الأعم تستدعي اعتبار التغليب وكون التكذيب بمعنى نفي دلالتها على المراد منها كتصديق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في المعجزات ونحوه في نحوها من آيات الأنفس والآفاق خلاف الظاهر ، فالأولى إبقاؤه على الظاهر وحمل الآيات على الآيات التنزيلية ، وقيل : هو معطوف على - كذبتم - والهمزة لإنكار الجمع والتوبيخ عليه كأنه قيل :
أجمعتم بين التكذيب بآياتي وعدم التدبر فيها.
أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أم ماذا كنتم تعملون بها على أن المراد التبكيت وأنهم لم يعملوا إلا التكذيب وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري ، وقرره في الكشف بأن (أم) متصلة ، والأصل أكذبتم بآياتي أم صدقتم ، والمعادلة بين الفعلين المتعلقين بالآيات لكن جيء بالأول مجيء معلوم محقق ، وبالثاني لا على ذلك النهج تنبيها على انتفائه كأنه قيل : أهو ما عهد من التكذيب أم حدث حادث ، ووجه الدلالة أنه جعل العديل مرددا فيه فلم يجعل التصديق مثل التكذيب في الاستفهام عن حاله بل إنما شك في وجود معادل التكذيب لأن قوله تعالى : أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يشمل التكذيب المذكور أولا وعديله الحقيقي ، وهذه قرينة أنه لم يجأ بالاستفهام جهلا بالحال بل إنما أريد التبكيت والإلزام على معنى قل لي ويحك إن حدث أمر آخر بتّا بالقول بأنه لم يحدث ما يضاد الأول وإشعارا بأنه إذا سئل عن الذي عمله لم يجب إلا بما قدم أولا ، ثم قال : وهذا وجه لائح ، وإنما جاز دخول (أم) على (ما) الاستفهامية لهذه النكتة فإنها خرجت عن حقيقة الاستفهام إلى البت بالحكم لا بالمعادل بل بالأول ، وثانيهما أن المعنى ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات اللّه تعالى أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من غير ذلك ، وقرره في الكشف أيضا بأن (أم) على اتصالها ولكن المعادلة بين التكذيب وكل عمل غيره تعلق بالآيات أولا والإيراد على صيغة الاستفهام للنكتة السابقة فدل على أنه لم يكن لهم عمل إلا التكذيب والكفر كأنهم لم يخلقوا إلا لذلك فلأجله لم يعملوا غيره ، وجعل سائر أعمالهم لاستمرار الكفر بهم نفس الكفر أو كلا عمل ، ثم قال : وهذا وجه وجيه بالغ ، ومنه ظهر أن دخول (أم) على أسماء الاستفهام غير منكر إذا خرجت عن حقيقة الاستفهام وهو مقاس معنى وإن كانت مراعاة صورة الاستفهام أيضا منقاسة من حيث اللفظ لكنهم يرجحون في نحوه جانب المعنى ولا يلتفتون لفت
اللفظ ا ه.
واختار أبو حيان كون (أم) منقطعة فتقدر ببل وحدها وهي للانتقال من توبيخ إلى توبيخ وليس في ذلك

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 239
شائبة من دخول الاستفهام على الاستفهام ، وما تقدم أبعد مغزى ، وما ذا تحتمل أن تكون بجملتها استفهاما منصوب المحل بخبر كان وهو تَعْمَلُونَ أو مرفوعة على الابتداء والجملة بعده خبره والرابط محذوف أي تعملونه ، وتحتمل أن تكون (ما) فيها استفهاما ، وذا اسم موصول بمعنى الذي ، وهما مبتدأ وخبر والجملة بعد صلة الموصول والعائد إليه محذوف.
وقرأ أبو حيوة - «أما ذا» - بتخفيف الميم وفيها دخول الاستفهام على الاستفهام وقد سمعت وجهه.
[سورة النمل (27) : الآيات 85 إلى 93]
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله وهو كبهم في النار بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم الذي هو تكذيبهم بآيات اللّه تعالى فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ بحجة لانتفائها عنهم بالكلية وابتلائهم بما حل بهم من العذاب الأليم ، وقيل : يختم على أفواههم فلا يقدرون على النطق بشيء أصلا.
وفي البحر أن انتفاء نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة أو من فريق من الناس لأن القرآن الكريم ناطق بأنهم ينطقون في بعض المواطن بأعذار وما يرجون به النجاة من النار.
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ الرؤية قلبية لا بصرية لأن نفس الليل والنهار وإن كانا من المبصرات لكن جعلهما كما ذكر من قبيل المعقولات أي ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالقرار والنوم ، قال بعض الرجاز :
النوم راحة القوى الحسية من حركات والقوى النفسية
وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور معاشهم فبولغ حيث جعل الابصار الذي هو حال الناس حالا له ووصفا من أوصافه التي جعل عليها بحيث لا ينفك عنها ، ولم يسلك في الليل هذا المسلك لما أن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير ضوء النهار في الابصار ، والمشهور أن في الآية صنعة الاحتباك والتقدير جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا لينتشروا فيه إِنَّ فِي ذلِكَ أي في جعلهما كما وصفا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإشعار ببعد درجته في الفضل لَآياتٍ عظيمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنه يدل على التوحيد وتجويز الحشر وبعث الرسل عليهم السلام لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 240
بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهرة ليست لما أشركه المشركون ، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قادر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان ، وأن من جعل الليل والنهار سببين لمنافعهم ومصالحهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم وهو بعثة الرسل عليهم السلام.
وفي إرشاد العقل السليم لآيات عظيمة كثيرة لقوم يؤمنون دالة على صحة البعث وصدق الآيات الناطقة به دلالة واضحة كيف لا وأن من تأمل في تعاقب الليل والنهار واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم رائقة تحار في فهمها العقول ولا يحيط بها إلا علم اللّه جل وعلا وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل المحاكية للموت بضياء النهار المضاهي للحياة وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن اللّه تعالى يبعث من في القبور قضاء متقنا وجزم بأنه تعالى قد جعل هذا أنموذجا له ودليلا يستدل به على تحققه ، وأن الآيات الناطقة به وبكون حال الليل والنهار برهانا عليه وسائر الآيات كلها حق نازل من عند اللّه تعالى ا ه.
ولعل الأول أولى لا سيما إذا ضم إلى الاستدلال على جواز الحشر مشابهة النوم واليقظة للموت والحياة لما في هذا من خفاء الدلالة ، وتخصيص المؤمنين بالذكر لما أنهم هم المنتفعون بالآيات ، ووجه ربط هذه الآية بما قبلها أنها كالدليل على صحة ما تضمنته من الحشر وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إما معطوف على يَوْمَ نَحْشُرُ منصوب بناصبه ، أو منصوب بمضمر معطوف على ذلك الناصب ، والصور - على ما في التذكرة - قرن من نور ، وذكر البخاري عن مجاهد أنه كالبوق.
وأخرج الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : «جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : «ما الصور؟ قال : قرن ينفخ فيه» ،
والمشهور أن صاحب الصور هو إسرافيل عليه السلام.
وذكر القرطبي أن الأمم مجمعة على ذلك وهو مخلوق اليوم ،
فقد أخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ؟! فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام لهم : قولوا : حسبنا اللّه ونعم الوكيل»
وروي أيضا عن أبي هريرة مرفوعا «ما أطرق صاحب الصور مذ وكل به مستعدا بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريان».
وجاء عن أبي هريرة من حديث مرفوع «إن عظم دائرة فيه كعرض السماوات والأرض»
وهذا مما يؤمن به وتفوض كيفيته إلى علام الغيوب ، وقيل : إن الصور بسكون الواو بمعنى الصور بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة - وعليه أبو عبيدة - والكلام في الوجهين على حقيقته ، وقيل : في الكلام استعارة تمثيلية شبه هيئة انبعاث الموتى من القبور إلى المحشر إذا نودوا بالقيام بهيئة قيام جيش نفخ لهم في المزمار المعروف وسيرهم إلى محل عين لهم ، والأول قول الأكثرين - وعليه المعول - لأن قوله تعالى : ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى [الزمر : 68] ظاهر في أن الصور ليس جمع صورة وإلا لقال سبحانه : فيها بدل فيه ، وارتكاب التأويل بجعل الكلام من باب التمثيل ظاهر في إنكار أن يكون هناك صور حقيقة ، وهو خلاف ما نطقت به الأحاديث الصحاح ، وقد قال أبو الهيثم على ما نقل عنه القرطبي في تفسيره : من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات ، وهذا النفخ قيل :
المراد به النفخة الثانية ، وإليه ذهب صاحب الغنيان ، واختاره العلامة أبو السعود وقال : الذي يستدعيه سياق النظم الكريم وسباقه ذلك ، وأن المراد بالفزع في قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 241
فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ما يعتري الكل عند البعث والنشور من الرعب والتهيب الضروريين الجبليين بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق ، ثم قال : وقيل : المراد بالنفخ هي النفخة الأولى ، وبالفزع هو الذي يستتبع الموت لغاية شدة الهول كما في قوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فيختص أثرها بمن كان حيا عند وقوعها دون من مات قبل ذلك من الأمم.
وقيل : إن المراد بهذه النفخة الفزع التي تكون قبل نفخة الصعق التي أريدت بقوله تعالى : ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ [ص : 15] وشنع على كلا القولين بما هو مذكور في تفسيره.
وقال العلامة الطيبي الحق أن المراد بقوله تعالى : يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ هو النفخة الأولى ، وقوله تعالى الآتي : وَكُلٌّ إلخ إشارة إلى النفخة الثانية ، واعلم أنهم اختلفوا في عدد النفخة فقيل : ثلاث : نفخة الصعق المذكورة في قوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر : 68] ، ونفخة البعث المذكورة في قوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس : 51] ، ونفخة الفزع المذكورة في الآية المذكورة هاهنا ، وهو اختيار ابن العربي.
وقيل : اثنتان ، ونفخة الفزع هي نفخة الصعق لأن الأمرين : الفزع بمعنى الخوف. والصعق بمعنى الموت لا زمان لها ، قال القرطبي : والسنة كحديث مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص وهو طويل منه مع حذف ثم ينفخ في الصور فأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق ثم يصعق الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. تدل على أن النفخ مرتين لا ثلاثة وهو الصحيح ، ونفخ الفزع هو نفخ الصعق بعينه لاتحاد الاستثناء في آيتيهما. وتعقب في الرسالة المسماة بشرح العشر في معشر الحشر المنسوبة لابن الكمال بأنه لا دلالة في الحديث على عدم النفخة الثالثة ، غايته أنه وسائر الأحاديث الواردة على نسقه ساكت عنها ، ولا يلزم من ذلك عدمها ، وكذا لا دلالة في اتحاد الاستثناء في الآيتين أن يكون المذكور فيهما نفخة واحدة ، وهذا ظاهر ، ثم قال : والصحيح عندي ما في القول الأول ، من أن نفخة الفزع غير نفخة الصعق. فإن حديث الصحيحين لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى عليه السلام آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور : صريح في أن الصعق يوم القيامة ، وأن لا موت فيه فهو فزع بلا موت ، فمن قال : هي ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ثم نفخة الصعق وهو الموت ، ثم نفخة البعث فقد أصاب في التفرقة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق ، إلا أنه لم يصب في زعمه أن نفخة الفزع قبل نفخة الصعق. كيف وقد دل حديث الصحيحين المذكور على عموم حكم نفخة الفزع للأنبياء عليهم السلام الذين ماتوا قبل نفخة الصعق أي الموت ، قال القاضي عياض : إن نفخة الفزع بعد النشر حين تنشق السماوات والأرض ، فظهر أن النفخات ثلاث بل أربع : نفخة يميت اللّه تعالى جميع الخلق بها كما جاء في الحديث وعند ذلك ينادي سبحانه : لمن الملك اليوم. وينادي على ذلك قوله تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص :
88]. ونفخة البعث كما نطق به قوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس : 51] ونفخة الصعق وهي نفخة الفزع بعينها وقد سمعت آيتيهما ، ونفخة للإفاقة كما قال تعالى بعد ذكر نفخة الصعق ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وقد عرفت ما في زعم أن نفخة الصعق هي نفخة الفزع بعينها فتدبر انتهى ، وتعقبه بعضهم بأنه يلزم حينئذ على القول بالمغايرة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق أن تكون النفخات خمسا ولم نسمع متنفسا يقول بذلك ، وأيضا فيه القول بأن نفخة الصعق بعد نفخة البعث ، ويأباه
قوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع رأسي فإذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش فما أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى اللّه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 242
تعالى»
فإن انشقاق الأرض عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعد نفخة البعث لا محالة فإذا عقبه رفع رأسه عليه الصلاة والسلام ومفاجأة كون موسى عليه السلام متعلقا بقائمة من قوائم العرش فأين نفخة الصعق. ولا يخفى أن كون النفخات خمسا لم يسمع هو الغالب على الظن ويتوقف قبول ما ذكره ثانيا على صحة ما ذكره من الخبر ، ولعل القائل بما تقدم من وراء المنع ، وقيل : الأظهر أن النفخات ثلاث : الأولى نفخة الصعق بمعنى الموت كما هو أحد معنييه المدلول عليها بقوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر : 68] ، والثانية نفخة البعث المدلول عليها بقوله تعالى : ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر : 68] وقوله سبحانه :
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس : 51] والثالثة نفخة الفزع المدلول عليها بما هنا وهي على ما سمعت عن القاضي عياض بعد النشر حين تنشق السماوات والأرض.
وأصله كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الشخص من الشيء المخيف والمراد به الرعب الشديد ، ولعل الصعق المذكور في حديث الصحيحين هو غشي يترتب عليه بلا واسطة وعلى النفخ بواسطته وقد نص في الأساس على هذا المعنى له قال يقال صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه ويدل على أنه بمعنى الغشي
قوله عليه الصلاة والسلام «فأكون أول من يفيق»
لأن الإفاقة إنما تكون من الغشي دون الموت ولم يعبر هنا بالصعق مرادا به الغشي المذكور في الحديث لئلا يتوهم إرادة معنى الموت منه لخلوه هنا عن القرينة التي في الحديث واقترانه بما يلائم ذلك. وقد يختار ما هو المشهور من أن النفخة اثنتان ويجاب عما يشعر بالزيادة فالنفخة الأولى نفخة الصعق بمعنى الموت بحال هائلة فبها يموت من في السماوات والأرض من الأحياء قبيل ذلك إلّا من شاء اللّه تعالى ، ويدل عليها آية ونفخ في الصور فصعق إلخ ، والنفخة الثانية نفخة البعث المدلول عليها بآية ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وبينهما في المشهور أربعون سنة ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا «أربعون»
بدون ذكر التمييز فقيل أربعون يوما فقال أبو هريرة أبيت فقيل أربعون شهرا فقال أبيت فقيل أربعون سنة فقال أبيت ، ونفخة الفزع بمعنى الرعب والخوف هي هذه النفخة بعينها ووجه ذلك أنه ينفخ في الصور للبعث فيبعث الخلق وينشرون فإذا تحققوا يوم القيامة وشاهدوا آثار عظمة اللّه تعالى فزعوا ورعبوا إلا من شاء اللّه تعالى وترتب الفزع على النفخ بالفاء للإشارة إلى قلة الزمان الفاصل لسرعة تحققهم ومشاهدتهم ما ذكر ، والإضافة في قولنا نفخة البعث وقولنا نفخة الفزع من إضافة السبب إلى المسبب إلا أن سببية النفخ للبعث بلا واسطة وسببيته للفزع بواسطة ، وحديث الصحيحين «لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة»
إلخ ليس فيه سوى إثبات الصعق بمعنى الغشي كما يرشد إليه ذكر الإفاقة للناس يوم القيامة ولا تعرض له لنفخ يترتب عليه ذلك ، نعم التعبير بالصعق على ما ذكروا في معناه يقتضي أن يكون هناك هدة أو صوت شديد يسمعه من يسمعه فيغشى عليه إلا أنه لا يعين النفخ لجواز أن يكون ذلك من صوت حادث من انشقاق السماوات الكائن بعد البعث والفزع من يوم القيامة وما شاهدوا من أهواله.
ومنع بعضهم اقتضاءه ذلك لجواز أن يراد به الغشي لحدوث أمر عظيم من أمور يوم القيامة غير النفخ ، وقيل : هو من فروع النفخ للبعث وذلك أنه ينفخ فتبعث الخلائق فيتحققون ما يتحققون ويشاهدون ما يشاهدون فيفزعون فيغشى عليهم إلا ما شاء اللّه تعالى ، وحديث الصحيحين مما لا يأبى ذلك واحتياج الإفاقة لنفخة أخرى في حيز المنع وقيل :
في بيان اتحاد نفخة البعث ونفخة الفزع أن المراد بالفزع الإجابة والإسراع للقيام لرب العالمين وقد صرحت الآيات بإسراع الناس عند البعث فقال تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ وقال سبحانه :
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج : 43] ولا يخفى بعده واحتياج توجيه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 243
الاستثناء بعد عليه إلى تكلف فالأولى أن يوجه الاتحاد بما سبق فتأمل ، وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف أعني ينفخ مضارعا للدلالة على تحقق الوقوع كما في قوله تعالى : فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود : 98] بعد قوله تعالى : يَقْدُمُ قَوْمَهُ [هود : 98] ووجه تأخير بيان الأحوال الواقعة في ابتداء هذه النفخة عن بيان ما يقع بعد من حشر المكذبين قد تقدم الكلام فيه فتذكر فما في العهد من قدم إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ استثناء متصل كما هو الظاهر من من ومفعول المشيئة محذوف أي إلا من شاء اللّه تعالى أن لا يفزع ، والمراد بذلك على ما قيل : من جاء بالحسنة لقوله تعالى فيهم : وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وتعقب بأن الفزع في تلك الآية غير الفزع المراد من قوله سبحانه : فَفَزِعَ إلخ وسنذكر ذلك إن شاء اللّه تعالى ، واختلف الذين حملوا النفخ هنا على النفخة الأولى التي تكون للصعق - أي الموت - في تعيينهم فقيل هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وروي ذلك عن مقاتل والسدي.
وقال الضحاك : هم الولدان والحور العين وخزنة الجنة وحملة العرش. وحكى بعضهم هذين القولين في المراد بالمستثنى على تقدير أن يراد بالنفخ النفخة الثانية وبالفزع الخوف والرعب وأورد عليهما أن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض لأن السماوات في داخل الكرسي ونسبتها إليه نسبة حلقة في فلاة ونسبة الكرسي إلى العرش كهذه النسبة أيضا فكيف يكون حملته في السماوات وكذا الولدان والحور وخزنة الجنة لأن هؤلاء كلهم في الجنة والجنان جميعها فوق السماوات ودون العرش على ما أفصح عنه
قوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «سقف الجنة عرش الرحمن»
فما فيها من الولدان والحور والخزنة لا يصح استثناؤهم ممن في السماوات والأرض وأما جبرائيل ومن معه من الملائكة المقربين عليهم السلام فهم من الصافين المسبحين حول العرش وإذا كان العرش فوق السماوات لا يمكن أن يكون الاصطفاف حوله في السماوات ، وأجيب بأنه يجوز أن يراد بالسماوات ما يعم العرش والكرسي وغيرهما من الأجرام العلوية فإنه الأليق بالمقام ، وقد شاع استعمال من في السماوات والأرض عند إرادة الإحاطة والشمول.
وقيل : لا مانع من حمل السماوات على السماوات السبع والتزام كون الاستثناء على القولين المذكورين منقطعا ولا يخفى ما فيه ، وعد بعضهم ممن استثنى موسى عليه السلام ، وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إلا إذا أريد بالفزع الصعق يوم القيامة بعد النفخة الثانية ، أما إذا أريد به ما يكون في الدنيا عند النفخة الأولى فلا ، على أن عده عليه السلام ممن لا يصعق يوم القيامة بعد قوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم في حديث الصحيحين السابق فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور يحتاج إلى خبر صحيح وارد بعد ذلك.
وروى أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون
وصححه القاضي أبو بكر بن العربي كما قال القرطبي وبه رد على من زعم أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ولفظه هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وكذا ذهب إليه الحليمي وقال : هو مروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ثم ضعف غيره من الأقوال. وقد ذكره غير واحد من المفسرين إلا أن بعضهم ذكره في تفسير من شاء اللّه في آية الصعق وبعض آخر ذكره في تفسيره في آية الفزع فتدبر.
وَكُلٌّ أي كل واحد من الفازعين المبعوثين عند النفخة أَتَوْهُ أي حضروا الموقف بين يدي رب العزة جل جلاله للسؤال والجواب والمناقشة والحساب ، وقيل : أي رجعوا إلى أمره تعالى وانقادوا. وضمير الجمع باعتبار معنى كُلٌّ وقرأ قتادة أتاه فعلا ماضيا مسندا لضمير كُلٌّ على لفظها.
وقرأ أكثر السبعة آتوه اسم فاعل داخِرِينَ أي أذلاء ، وقرأ الحسن والأعمش دخرين بغير ألف وهو على

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 244
القراءتين نصب على الحال من ضمير كُلٌّ وقوله سبحانه : وَتَرَى الْجِبالَ عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير وترى من رؤية العين ، وقوله تعالى : تَحْسَبُها جامِدَةً أي ثابتة في أماكنها لا تتحرك حال من فاعل ترى أو من مفعوله ، وجوز أن يكون بدلا من سابقه ، وقوله عز وجل.
وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حال من ضمير الجبال في تحسبها ، وجوز أن يكون حالا من ضميرها في جامدة ومنعه أبو البقاء لاستلزامه أن تكون جامدة ومارة في وقت واحد أي وترى الجبال رأي العين ساكنة والحال أنها تمر في الجو مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرا حثيثا ، وذلك أن الأجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تبين حركتها ، وعليه قول النابغة الجعدي في وصف جيش :
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج
وقيل : شبه مرها بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحائب لا ريث ولا عجل
والمشهور في وجه الشبه السرعة وإن منشأ الحسبان المذكور ما سمعت ، وقيل : إن حسبان الرائي إياها جامدة مع مرورها لهول ذلك اليوم فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها جامدة وليس بذاك وقد أدمج في التشبيه المذكور تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما في قوله تعالى : وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة : 5] واختلف في وقت هذا ، ففي إرشاد العقل السليم أنه مما يقع بعد النفخة الثانية كالفزع المذكور عند حشر الخلق يبدل اللّه تعالى شأنه الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة يشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكون بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه : 105 - 108] ، وقوله سبحانه : يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم : 48] فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل وبروز الخلق للّه تعالى لا يكونان إلا بعد النفخة الثانية وقد قالوا في تفسير قوله تعالى : وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ [الكهف : 47] إن صيغة الماضي في المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلا للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك ا ه.
وقال بعضهم إنه مما يقع عند النفخة الأولى وذلك أنه ترجف الأرض والجبال ثم تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا ، ويرشد إلى أن هذه الصيرورة مما لا يترتب على الرجفة ولا تعقبها بلا مهلة العطف بالواو دون الفاء في قوله تعالى : يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل : 14] والتعبير بالماضي في قوله تعالى : وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ لتحقق الوقوع كما مر آنفا واليوم في قوله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه : 105] الآية ، وقوله تعالى : يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ إلخ يجوز أن يجعل اسما للحين الواسع الذي يقع فيه ما يكون عند النفخة الأولى من النسف والتبديل وما يكون عند النفخة الثانية من اتباع الداعي والبروز للّه تعالى الواحد القهار ، وقد حمل اليوم على ما يسع ما يكون عند النفختين في قوله تعالى :
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الحاقة : 13 - 15] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة : 18] وهذا كما تقول جئته عام كذا وإنما مجيئك في وقت من أوقاته وقد ذهب غير

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 245
واحد إلى أن تبديل الأرض كالبروز بعد النفخة الثانية لما
في صحيح مسلم عن عائشة «قلت يا رسول اللّه أرأيت قول اللّه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ فأين يكون الناس؟ قال على الصراط»
وجاء في غير خبر ما يدل على أنه قبل النفخة الأولى ، وجمع صاحب الإفصاح بين الاخبار بأن التبديل يقع مرتين مرة قبل النفخة الأولى وأخرى بعد النفخة الثانية ، وحكى في البحر أن أول الصفات ارتجاجها ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ثم نسفها بإرسال الرياح عليها ثم تطييرها بالريح في الجو كأنها غبار ثم كونها سرابا ، وهذا كله على ما يقتضيه كلام السفاريني قبل النفخة الثانية ، ومن تتبع الأخبار وجدها ظاهرة في ذلك ، والآية هنا تحتمل كون الرؤية المذكورة فيها قبل النفخة الثانية وكونها قبلها فتأمل صُنْعَ اللَّهِ الظاهر أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة وهي جملة الحال والعامل فيه ما دلت عليه من كون ذلك من صنعه تعالى فكأنه قيل : صنع اللّه تعالى ذلك صنعا وهذا نحو له عليّ ألف عرفا ويسمى في اصطلاحهم المؤكد لنفسه وإلى هذا ذهب الزجاج وأبو البقاء.
وقال بعض المحققين : مؤكد لمضمون ما قبله على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعا قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل وتهويل أمرها والإيذان بأنها ليست بطريق إخلال نظام العالم وإفساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن يكون فيه حكمة بل هي من قبيل بدائع صنع اللّه تعالى المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع على الوجه المتين والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله تعالى : الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي أتقن خلقه وسواه على ما تقتضيه الحكمة ا ه ، وحسنه ظاهر.
وقال الزمخشري هو من المصادر المؤكدة إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ والمعنى ويوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت أثاب اللّه تعالى المحسنين وعاقب المجرمين ثم قال سبحانه : صنيع اللّه يريد عز وجل به الإثابة والمعاقبة إلى آخر ما قال ، وهو يدل على أنه فرض اليوم ممتدا شاملا لزمان النفختين وما بعدهما وجعل المصدر مؤكدا لهذا المحذوف المدلول عليه بالتفصيل في قوله تعالى الآتي : من جاء ومن جاء وباستدعاء يوم ينفخ ناصبا وفرع عليه ما فرع وتعقبه أبو حيان بأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته لأنه منصوب بفعل من لفظه فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر وذلك حذف كثير مخل ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة وجد الجمل مصرحا بها لم يرد الحذف في شيء منها إذا الأصل أن لا يحذف المؤكد إذ الحذف ينافي التأكيد لأنه من حيث أكد معتنى به ومن حيث حذف غير معتنى به ، وكأن الداعي له إلى العدول عن الظاهر على ما قيل إن الصنع المتقن لا يناسب تسيير الجبال ظاهرا وأنت تعلم أن هذا على طرف الثمام نعم الأحسن جعله مؤكدا لمضمون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده وجيء به للتنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل على ما سمعته عن بعض المحققين. وقيل هو منصوب على الإغراء بمعنى انظروا صنع اللّه وهو كما ترى.
واستدل بالآية على جواز إطلاق الصانع على اللّه عز وجل وهو مبني على مذهب من يرى أن ورود الفعل كاف.
واستدل بعضهم على الجواز المذكور
بالخبر الصحيح «إن اللّه صانع كل صانع وصنعته»
وتعقب بأن الشرط أن لا يكون الوارد على جهة المقابلة نحو أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة : 64] خلافا للحليمي على ما يقتضيه قوله يستحب لمن ألقى بذرا في أرض أن يقول اللّه تعالى الزارع والمنبت والمبلغ ، وما في هذا الحديث من هذا القبيل وأيضا ما في الخبر بالإضافة فلا يدل على جواز الخالي عنها ألا ترى أن
قوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم يا صاحب كل نجوى أنت الصاحب في السفر
لم يأخذوا منه أن الصاحب من غير قيد من أسمائه تعالى فكذا هو لا يؤخذ منه أن الصانع من غير قيد من أسمائه تعالى فتأمله ، ونحو هذا الاستدلال
بخبر مسلم «ليعزم في الدعاء فإن اللّه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 246
تعالى صانع ما شاء لا مكره له»
فإن ما فيه من قبيل المضاف أو المقيد والأولى الاستدلال بما
صح في حديث الطبراني والحاكم «اتقوا اللّه تعالى فإن اللّه تعالى فاتح لكم وصانع»
ولا فرق بين المعرف والمنكر عند الفقهاء لأن تعريف المنكر لا يغير معناه ولذا يجوزون في تكبيرة الإحرام : اللّه الأكبر.
واستدل القاضي عبد الجبار بعموم قوله سبحانه : أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة والإجماع مانع منه وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض لأن الإتقان بمعنى الإحكام وهو من أوصاف المركبات ولو سلّم فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ولو سلم فالإجماع المذكور ممنوع بل هي متقنة أيضا بمعنى أن الحكمة اقتضتها إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ جعله بعض المحققين تعليلا لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعا محكما له تعالى ببيان أن علمه تعالى بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب أخيريتها عليها بعد بعثهم وحشرهم وتسيير الجبال حسبما نطق به التنزيل. وقوله تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها بيانا لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أخيريتها عليها. وقال العلامة الطيبي قوله تعالى إن اللّه إلخ استئناف وقع جوابا لقول من يسأل فماذا يكون بعد هذه القوارع فقيل إن اللّه خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم وفصل ذلك بقوله سبحانه من جاء إلخ. والخطاب في تَفْعَلُونَ لجميع المكلفين وقرأ العربيان وابن كثير «يفعلون» بياء الغيبة. والمراد بالحسنة على ما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن والنخعي وأبي صالح وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة
شهادة أن لا إله إلا اللّه وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة أن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فسرها بذلك
والمراد بهذه الشهادة التوحيد المقبول وقيل المراد بالحسنة ما يتحقق بما ذكر وغيره من الحسنات وهو الظاهر ، نظرا إلى أن اللام حقيقة في الجنس.
وقال بعضهم : الظاهر الأول ، لأن الظاهر حمل المطلق على الكامل وأكمل جنس الحسنة التوحيد ولو أريد العموم لكان الظاهر الإتيان بالنكرة ، ويكفي في ترجيح الأول ذهاب أكثر السلف إليه وإذا صح الحديث فيه لا يكاد يعدل عنه.
وكان النخعي يحلف على ذلك ولا يستثني ، والظاهر أن خيرا للتفصيل وفضل الجزاء على الحسنة كائنة ما كانت.
قيل باعتبار الإضعاف أو باعتبار الدوام. وزعم بعضهم أن الكلام بتقدير مضاف أي خير من قدرها وهو كما ترى. وقال بعض الأجلة ثواب المعرفة النظرية والتوحيد الحاصل في الدنيا هي المعرفة الضرورية على أكمل الوجوه في الآخرة والنظر إلى وجهه الكريم جل جلاله وذلك أشرف السعادات. وقيل إن خيرا ليس للتفضيل ومن لابتداء الغاية أي فله خير من الخيور مبدؤه ومنشؤه منها أي من جهة الحسنة. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وابن جريج وعكرمة وَهُمْ أي الذين جاؤوا بالحسنة مِنْ فَزَعٍ أي فزع عظيم هائل لا يقادر قدره يَوْمَئِذٍ ظرف منصوب بقوله تعالى : آمِنُونَ وبه أيضا يتعلق مِنْ فَزَعٍ والأمن يستعمل بالجار وبدونه كما في قوله تعالى : أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف : 99] ، وجوز أن يكون الظرف منصوبا بفزع وأن يكون منصوبا بمحذوف وقع صفة له أي من فزع كائن في ذلك الوقت ، وقرأ العربيان وابن كثير وإسماعيل بن جعفر ، عن نافع فزع يومئذ بإضافة فزع إلى يوم ، وكسر ميم يوم ، وقرأ نافع في غير رواية إسماعيل كذلك إلا أنه فتح الميم فتح بناء لإضافة يوم إلى غير متمكن وتنوين إذ للتعويض عن جملة ، والأولى على ما في البحر أن تكون الجملة المحذوفة المعوض هو عنها ما قرب من الظرف أي يوم إذ جاء بالحسنة ، وجوز أن يكون التقدير يوم إذ ينفخ في الصور لا سيما إذا أريد بذلك النفخ النفخة الثانية ، واقتصر عليه شيخ الإسلام ، وفسر الفزع بالفزع الحاصل من مشاهدة العذاب بعد تمام المحاسبة وظهور الحسنات والسيئات

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 247
وهو الذي في قوله تعالى : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء : 103] وحكي عن الحسن أن ذاك حين يؤمر بالعبد إلى النار ، وعن ابن جريج أنه حين يذبح الموت وينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت
وهو كذلك في قراءة التنوين وقراءة الإضافة ولا يراد به في القراءة الثانية جميع الأفزاع الحاصلة يومئذ ، ومدار الإضافة كون ذلك أعظم الأفزاع وأكبرها كأن ما عداه ليس بفزع بالنسبة إليه وقال تبعا لغيره إن الفزع المدلول عليه بقوله تعالى :
فَفَزِعَ إلخ ليس إلا التهيب والرعب الحاصل في ابتداء الإحساس بالشيء الهائل ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة وإن كان آمنا من لحاق الضرر به.
وقال أبو علي : يجوز أن يراد بالفزع في القراءتين فزع واحد وأن يراد به الكثرة لأنه مصدر فإن أريد الكثرة شمل كل فزع يكون في القيامة وإن أريد الواحد فهو الذي أشير إليه بقوله تعالى : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وسيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا تتمة للكلام في الآية وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ وهو الشرك وبه فسرها من فسر الحسنة بشهادة أن لا إله إلا اللّه وقد علمت من هم ، وقيل : المراد بها ما يعم الشرك وغيره من السيئات : فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي كبوا فيها على وجوههم منكوسين ، فإسناد الكب إلى الوجوه مجازي لأنه يقال كبه وأكبه إذا نكسه ، وقيل : يجوز أن يراد بالوجوه الأنفس كما أريدت بالأيدي في قوله تعالى : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة : 195] أي فكبت أنفسهم في النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على الالتفات للتشديد أو على إضمار القول أي مقولا لهم ذلك فلا التفات فيه لأنه في كلام آخر ومن شروط الالتفات اتحاد الكلامين كما حقق في المعاني ، واستدل بعض المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة بقوله تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلخ على أن المؤمن العاصي لا يعذب يوم القيامة وإلا لم يكن آمنا من فزع مشاهدة العذاب يومئذ وهو خلاف ما دلت عليه الآية الكريمة ، وأجيب بمنع دخول المؤمن العاصي في عموم الآية لأن المراد بالحسنة الحسنة الكاملة وهو الإيمان الذي لم تدنسه معصية ، وذلك غير متحقق فيه أو لأن المتبادر المجيء بالحسنة غير مشوبة بسيئة وهو أيضا غير متحقق فيه ومن تحقق فيه فهو آمن من ذلك الفزع بل لا يبعد أن يكون آمنا من كل فزع من أفزاع يوم القيامة وإن سلّم الدخول قلنا المراد بالفزع الآمن منه من جاء بالحسنة ما يكون حين يذبح الموت وينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت كما سمعت عن ابن جريج
أو حين
تطبق جهنم على أهلها فيفزعون كما روي عن الكلبي
وليس ذلك إلا بعد تكامل أهل الجنة دخولا الجنة والعذاب الذي يكون لبعض عصاة المؤمنين إنما هو قبل ذلك والآية لا تدل على نفيه بوجه من الوجوه.
وأجاب بعضهم بأنه يجوز أن يكون المؤمن العاصي آمنا من فزع مشاهدة العذاب ، وإن عذب لعلمه بأنه لا يخلد فيعد عذابه كالمشاق التي يتكلفها المحب في طريق وصال المحبوب وهذا في غاية السقوط كما لا يخفى.
واستدل بعض المعتزلة بقوله تعالى : مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ إلخ على عدم الفرق بين عذاب الكافر وعذاب المؤمن العاصي لأن مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعمهما وقد أثبت له الكب على الوجوه في النار فحيث كان ذلك بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود كان بالنسبة إلى المؤمن العاصي كذلك ، وأجيب بأن المراد بالسيئة الإشراك كما روي تفسيرها به عن أكثر سلف الأمة فلا يدخل المؤمن العاصي فيمن جاء بالسيئة ولو سلّم دخوله بناء على القول بعموم السيئة فلا نسلم أن في الآية دلالة على خلوده في النار وكون الكب في النار بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود لا يقتضي أن يكون بالنسبة إليه كذلك فكثيرا ما يحكم على جماعة بأمر كلي ويكون الثابت لبعضهم نوعا وللبعض الآخر نوعا آخر منه وهذا مما لا ريب فيه ، ثم إن الآية من باب الوعيد فيجرى فيه على تقدير دخول المؤمن العاصي في عموم من ما قاله الأشاعرة في آيات الوعيد فافهم وتأمل.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 248
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها استئناف بتقدير قل قبله وهو أمر له عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهؤلاء الكفرة ذلك بعد ما بين لهم أحوال المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة إثارة لهممهم بألطف وجه إلى أن يشتغلوا بتدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم والتوجه نحو التدبر فيما قرع أسماعهم من الآيات الباهرة الكافية في إرشادهم والشافية لعللهم والبلدة على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما هي مكة المعظمة ، وفي تاريخ مكة أنها منى قال حدثنا يحيى بن ميسرة عن خلاد بن يحيى عن سفيان أنه قال : البلدة منى والعرب تسميها بلدة إلى الآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية تفسيرها بذلك أيضا ، وذكر بعض الأجلة أن أكثر المفسرين على الأول وتخصيصها بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها والتعرض لتحريمه تعالى إياها تشريف لها بعد تشريف وتعظيم إثر تعظيم مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر وموجب الامتثال به كما في قوله تعالى : فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش : 3 ، 4] ومن الرمز إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ألا ترى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها باختلاء خلاها وعضد شجرها وتنفير صيدها وإرادة الإلحاد فيها قد استمروا فيها على تعاطي أفظع أفراد الفجور وأشنع آحاد الإلحاد حيث تركوا عبادة ربها ونصبوا فيها الأوثان وعكفوا على عبادتها قاتلهم اللّه تعالى أنى يؤفكون ، ولا تعارض بين ما في الآية من نسبة تحريمها إليه عز وجل وما في
قوله عليه الصلاة والسلام «إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة وأنا حرمت المدينة»
من نسبة تحريمها إلى إبراهيم عليه السلام لأن ما هنا باعتبار أنه هو المحرم في الحقيقة وما في الحديث باعتبار أن إبراهيم عليه السلام مظهر لحكمه عز شأنه.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود التي صفة للبلدة وقراءة الجمهور أبلغ في التعظيم ، ففي الكشف أن إجراء الوصف على الرب تعالى شأنه ، تعظيم لشأن الوصف ولشأن ما يتعلق به الوصف وزيادة اختصاص له بمن أجرى عليه الوصف على سبيل الإدماج وجعل ذلك كالمسلم المبرهن ولا كذلك لو وصفت البلدة بوصف تخصيصا أو مدحا. وقوله تعالى : وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي خلقا وملكا وتصرفا ، من غير أن يشاركه سبحانه شيء في شيء من ذلك تحقيق للحق ، وتنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة لما مر من التفخيم والتشريف مع عموم الربوبية لجميع الموجودات ، واستدل به بعض الناس لجواز ما يقوله جهلة المتصوفة شيء للّه ، لأنه في معنى كل شيء للّه عز وجل ، نحو تمرة خير من جرادة ، وأنت تعلم أنهم لا يأتون به لإرادة ذلك بل يقولون : شيء للّه يا فلان لبعض الأكابر من أهل القبور ، إما على معنى أعطني شيئا لوجه اللّه تعالى يا فلان ، أو أنت شيء عظيم من آثار قدرة اللّه تعالى وقد وجهه بذلك من لم يكفرهم به وهو الحق وإن كان في ظاهره على أول التوجيهين طلب شيء ممن لا قدرة له على شيء نعم الأولى صيانة اللسان عن أمثال هذه الكلمات.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي أثبت على ما كنت عليه من كوني من جملة الثابتين على ملة الإسلام والتوحيد أو الذين أسلموا وجوههم للّه تعالى خالصة من قوله تعالى : وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء : 125] وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي أواظب على قراءته على الناس بطريق تكرير الدعوة وتثنيته الإرشاد لكفايته في الهداية إلى طريق الرشاد ، وقيل أي أواظب على قراءته لينكشف لي حقائقه الرائقة المخزونة في تضاعيفه شيئا فشيئا فإن المواظبة على قراءته من أسباب فتح باب الفيوضات الإلهية والأسرار القدسية ، وقد حكي أنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم قام ليلة يصلي فقرأ قوله تعالى : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [المائدة : 118] فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر حتى طلع الفجر
، وقيل أتلو من تلاه إذا تبعه ، أي وأن أتبع القرآن ، وهو خلاف الظاهر ، ويؤيد ما ذكرناه أولا من المعنى ما في حرف أبي كما أخرجه أبو عبيد وابن المنذر عن هارون واتل عليهم القرآن وحكى عنه في البحر

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 249
أنه قرأ واتل هذا القرآن ، ولا تأييد فيه لما ذكرنا. وقرأ عبد اللّه وأن اتل بغير واو أمرا من تلا فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر ، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار أمرت فَمَنِ اهْتَدى أي بالإيمان بالقرآن والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام ، وقيل أي بالاتباع فيما ذكر من العبادة والإسلام ، وتلاوة القرآن أو اتباعه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فإنما منافع اهتدائه تعود إليه وَمَنْ ضَلَّ بالكفر به والإعراض عنه ، وقيل بالمخالفة فيما ذكر فَقُلْ أي له.
إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقد خرجت عن عهدة الإنذار فليس عليّ من وبال ضلالك شيء وإنما هو عليك فقط ويعلم مما ذكرنا أن جواب الشرط جملة القول وما في حيزه والرابط المشترط في مثله محذوف وقدره بعضهم بعد المنذرين أي من المنذرين إياه ، وجوز أبو حيان كون الجواب محذوفا أي من ضل فوبال ضلاله مختص به وحذف ذلك لدلالة جواب مقابله عليه ، وجوز بعضهم كون الجملة بعد هي الجواب ولكونها كناية تعريضية عما قدره أبو حيان لم تحتج إلى رابط ثم إن ظاهر التصريح بقل هنا يقتضي أن يكون فمن اهتدى إلخ من كلامه عز وجل عقب به أمره صلى اللّه تعالى عليه وسلّم بأن يقول لهم ما قبله ، ولا بعد في كونه من مقول القول المقدر قبل قوله تعالى : إِنَّما أُمِرْتُ كما سمعت وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ما أفاض عليّ من نعمائه التي من أجلها نعمة النبوة المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها بالآيات البينة والبراهين النيرة ، وقوله تعالى :
سَيُرِيكُمْ آياتِهِ من جملة الكلام المأمور به أي قل سيريكم آياته سبحانه : فَتَعْرِفُونَها أي فتعرفون أنها آيات اللّه تعالى حيث لا تنفعكم المعرفة ، وقيل : أي سيريكم في الدنيا والمراد بالآيات الدخان وما حل بهم من نقمات اللّه تعالى وعد منها قتل يوم بدر واعتراف المقتولين بذلك بالفعل واعتراف غيرهم بالقوة ، وقيل : هي خروج الدابة وسائر أشراط الساعة والخطاب لجنس الناس لا لمن في عهد النبوة.
وأخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن مجاهد أن المراد بالآيات الأنفسية والآفاقية فالآية كقوله تعالى :
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت : 53] ، وقيل : المراد بها معجزات الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وإضافتها إلى ضميره تعالى لأنها فعله عز وجل أظهرها على يد رسوله عليه الصلاة والسلام للتصديق ، والمراد بالمعرفة ما يجامع الجحود ، وقوله تعالى : وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كلام مسوق من جهته سبحانه بطريق التذييل مقرر لما قبله متضمن للوعد والوعيد كما ينبىء عنه إضافة الرب إلى ضميره صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وتخصيص الخطاب أولا به عليه الصلاة والسلام وتعميمه ثانيا للكفرة تغليبا أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلا منكم بعمله لا محالة ، وقرأ الأكثر يعملون بياء الغيبة فهو وعيد محض والمعنى وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم البتة فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلة سبحانه عن أعمالهم الموجبة له ومن تأمل في الآيات ظهر له أن هذه الخاتمة مما تدهش العقول وتحير الأفهام وللّه تعالى در التنزيل وماذا عسى يقال في كلام الملك العلام.
ومن باب الإشارة في الآيات ما قيل وأنزل من السماء أي سماء القلب ماء هو ماء نظر الرحمة فأنبتنا به حدائق ذات بهجة من العلوم والمعاني والأسرار والحكم البالغة ، ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أي أصولها لما أن العلوم الإلهية غير اختيارية بل كل علم ليس باختياري في نفسه وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه نعم هو اختياري باعتبار الأسباب أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ أي أرض النفس قرارا في الجسد وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً من دواعي البشرية وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ من قوى البشرية والحواس وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بحر الروح وبحر النفس حاجِزاً وهو القلب أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ وهو المستعد لشيء من الأشياء إِذا دَعاهُ بلسان الاستعداد وطلب منه تعالى ما

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 250
استعد له ، وقال بعضهم : المضطر المستغرق في بحار شوقه تعالى : وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً وهي النفس الناطقة والروح الإنساني مِنَ الْأَرْضِ أي أرض البشرية وعلى هذا النمط تكلموا في سائر الآيات وساق الشيخ الأكبر قدس سره قوله تعالى : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ دليلا على ما يدعيه من تجدد الجواهر كالأعراض عند الأشعري وعدم بقائها زمانين ، ومبنى ذلك عنده القول بوحدة الوجود وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن ، والكلام في صحة هذا المبنى واستلزامه للمدعى لا يخفى على العارف ، وأما الاستدلال بهذه الآية لهذا المطلب فمن أمهات العجائب وأغرب الغرائب واللّه تعالى أعلم.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 251
سورة القصص
مكية كلها على ما روي عن الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة ، وقال مقاتل : فيها من المدني قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ إلى قوله تعالى : لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص : 52 - 55] فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا واقعة أحد.
وفي رواية عنه رضي اللّه تعالى عنه أن الآية المذكورة نزلت بالجحفة في خروجه عليه الصلاة والسلام للهجرة ، وقيل : نزلت بين مكة والجحفة ، وقال المدائني في كتاب العدد حدثني محمد ثنا عبد اللّه قال : حدثني أبي قال :
حدثني علي بن الحسين عن أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام قال بلغني أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين هاجر نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها؟ قال :
نعم قال إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد الآية
وهي ثمان وثمانون آية بالاتفاق ، ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على شرح بعض ما أجمل فيه من أمر موسى عليه السلام.
قال الجلال السيوطي : إنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشعراء : 18 ، 19] إلى قول موسى عليه السلام : فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء : 21].
ثم حكى سبحانه في طس قول موسى عليه السلام لأهله إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النمل : 7] إلى آخره الذي هو في الوقوع بعد الفرار وكان الأمران على سبيل الإشارة والإجمال فبسط جل وعلا في هذه السورة ما أوجزه سبحانه في السورتين وفصل تعالى شأنه ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما فبدأ عز وجل بشرح تربية فرعون له مصدرا بسبب ذلك من علو فرعون وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عليه السلام عند ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح وبسط القصة في تربيته وما وقع فيها إلى كبره إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي إلى قتل القبطي وهي الفعلة التي فعل إلى النم عليه بذلك الموجب لفراره إلى مدين إلى ما وقع له مع شعيب عليه السلام وتزوجه بابنته إلى أن سار بأهله وآنس من جانب الطور نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربه جل جلاله وبعثه تعالى إياه رسولا وما استتبع ذلك إلى آخر القصة فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا على الترتيب ، وبذلك عرف وجه الحكمة من تقديم طس على هذه وتأخيرها عن الشعراء في الذكر في المصحف وكذا في النزول فقد روي عن ابن عباس وجابر ابن زيد أن الشعراء نزلت ، ثم طس ، ثم القصص ، وأيضا قد ذكر سبحانه في السورة السابقة من توبيخ الكفرة بالسؤال يوم القيامة ما ذكر ، وذكر جل شأنه في هذه من ذلك ما هو أبسط وأكثر مما تقدم ، وأيضا ذكر عز وجل من أمر الليل والنهار هنا فوق ما ذكره سبحانه منه هناك ، وقد يقال في وجه المناسبة أيضا : إنه تعالى فصل في تلك السورة أحوال بعض المهلكين

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 252
من قوم صالح وقوم لوط وأجمل هنا في قوله تعالى : وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [القصص : 58] الآيات ، وأيضا بسط في الجملة هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة وأوجز سبحانه هنا حيث قال تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ [القصص : 84] فلم يذكر عز وجل من حال الأولين أمنهم من الفزع ومن حال الآخرين كب وجوههم في النار إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمّل.
[سورة القصص (28) : الآيات 1 إلى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ قد مر ما يتعلق به من الكلام في أشباهه نَتْلُوا عَلَيْكَ أي نقرأ بواسطة جبرائيل عليه السلام فالإسناد مجازي كما في بنى الأمير المدينة والتلاوة في كلامهم على ما قال الراغب تختص باتباع كتب اللّه تعالى المنزلة تارة بالقراءة وتارة بالارتسام لما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب أو ما يتوهم فيه ذلك وهو أخص من القراءة ، ويجوز أن تكون التلاوة هنا مجازا مرسلا عن التنزيل بعلاقة أن التنزيل لازم لها أو سببها

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 253
في الجملة وأن تكون استعارة له لما بينهما من المشابهة فإن كلا منهما طريق للتبليغ فالمعنى ننزل عليك مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي من خبرهما العجيب الشأن ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول نتلو المحذوف أي نتلو شيئا كائنا من نبئهما.
والظاهر أن مِنْ تبعيضية ، وجوز بعضهم كونها بيانية وكونها صلة على رأي الأخفش فنبأ مجرور ، لفظا «1» مرفوع محلا مفعول نتلو ويوهم كلام بعضهم أن مِنْ هو المفعول كأنه قيل : نتلو بعض نبأ وفيه بحث ، وأيا ما كان فلا تجوز في كون النبأ متلوّا لما أنه نوع من اللفظ ، وقوله تعالى : بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل نتلو أي نتلو ملتبسين بِالْحَقِّ أو مفعوله أي نتلو شيئا من نبئهما ملتبسا بالحق أو وقع صفة لمصدر نتلو أي نتلو تلاوة ملتبسة بالحق وقوله تعالى : لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ متعلق بنتلو واللام للتعليل وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الدعوة والبيان لأنهم المنتفعون به ، وقد تقدم الكلام في شمول يُؤْمِنُونَ للمؤمنين حالا واستقبالا في السورة السابقة ، وقوله تعالى : إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ استئناف جار مجرى التفسير للمجمل الموعود وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده أي إِنَّ فِرْعَوْنَ تجبر وطغى في أرض مصر وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي فرقا يشيعونه في كل ما يريده من الشر والفساد أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرف وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة ومن لم يعمل ضرب عليه الجزية فيخدمه بأدائها أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ أي يجعلهم ضعفاء مقهورين والمراد بهذه الطائفة بنو إسرائيل وعدهم من أهلها للتغليب أو لأنهم كانوا فيها زمانا طويلا ، والجملة إما استئناف نحوي أو
بياني في جواب ماذا صنع بعد ذلك وإما حال من فاعل جعل أو من مفعوله ، وإما صفة لشيعا والتعبير بالمضارع لحكاية الحال الماضية ، وقوله تعالى :
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ بدل من الجملة قبلها بدل اشتمال أو تفسير أو حال من فاعل يستضعف أو صفة لطائفة أو حال منها لتخصصها بالوصف وكان ذلك منه لما أن كاهنا قال له : يولد في بني إسرائيل مولود يذهب ملكك على يده.
وقال السدي : إنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه فقالوا : يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده فأخذ يفعل ما يفعل ولا يخفى أنه من الحمق بمكان إذ لو صدق الكاهن أو الرؤيا فما فائدة القتل وإلا فما وجهه ، وفي الآية دليل على أن قتل الأولاد لحفظ الملك شريعة فرعونية.
وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «يذبح» بفتح الياء وسكون الذال إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي الراسخين في الإفساد ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل من لا جنحة له من ذراري الأنبياء عليهم السلام لتخيل فاسد وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ على الوجه المذكور بإنجائهم من بأسه ، وصيغة المضارع في نريد لحكاية الحال الماضية وأما نمن فمستقبل بالنسبة للإرادة فلا حاجة لتأويله وهو معطوف على قوله تعالى : إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا إلخ لتناسبهما في الوقوع في حيز التفسير للنبإ وهذا هو الظاهر.
___________
(1) قوله مرفوع محلا مفعول إلخ هكذا بخط المؤلف ولعله سقط من قلمه رحمه اللّه ، أو والأصل أو مفعول نتلو يعني ويكون منصوب المحل اه مصححه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 254
وجوز أن تكون الجملة حالا من مفعول يستضعف بتقدير مبتدأ أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم وقدر المبتدأ ليجوز التصدير بالواو ، وجوز أن يكون حالا من الفاعل بتقدير المبتدأ أيضا وخلوها عن العائد عليه وما يقوم مقامه لا يضر لأن الجملة الحالية إذا كانت اسمية يكفي في ربطها الواو وضعف بأنه لا شبهة في استهجان ذلك مع حذف المبتدأ ، وتعقب القول بصحة الحالية مطلقا بأن الأصل في الحال المقارنة والمن بعد الاستضعاف بكثير ، وأجيب بأن الحال ليس المن بل إرادته وهو مقارنة وتعلقها إنما هو بوقوع المن في الاستقبال فلا يلزم من مقارنتها مقارنته على أن منّ اللّه تعالى عليهم بالخلاص لما كان في شرف الوقوع جاز إجراؤه مجرى الواقع المقارن للاستضعاف وإذا جعلت الحال مقدرة يرتفع القيل والقال ، وجوز بعضهم عطف ذلك على نتلو ونستضعف ، وقال الزمخشري : هو غير سديد ، ووجه ذلك في الكشف بقوله أما الأول فلما يلزم أن يكون خارجا عن المنبأ به وهو أعظمه وأهمه ، وأما الثاني فلأنه إما حال عن ضمير جعل أو عن مفعوله أو صفة لشيعا أو كلام مستأنف وعلى الأولين ظاهر الامتناع وعلى الثالث أظهر إذ لا مدخل لذلك في الجواب عن السؤال الذي يعطيه قوله تعالى : جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً والعطف يقتضي الاشتراك لكن للعطف على يستضعف مساغ على تقدير الوصف والمعنى جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم ونريد أن نمن عليهم منهم أي على الطائفة من الشيع فأقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى الطائفة وحذف الراجع إلى الشيع للعلم كأنه قيل : يستضعفهم ونريد أن نقويهم كما زعم الزمخشري في الوجه الذي جعله حالا عن مفعول يستضعف والحاصل شيعا موصوفين باستضعاف طائفة وإرادة المن على تلك الطائفة منهم بدفع الضعف.
فإن قلت يدفعه أن العلم بالصفة الثانية لم يكن حاصلا بخلاف الأولى قلنا كذلك لم يكن حاصلا باستضعاف مقيد بحال الإرادة والحق أن الوجهين يضعفان لذلك وإنما أوردناه على الزمخشري لتجويزه الحال انتهى.
وأورد عليه أن للعطف عليه على تقدير كونه حالا مساغا أيضا بعين ما ذكره فلا وجه للتخصيص بالوصفية وأن عدم حصول العلم بالصفة الثانية بعد تسليم اشتراط العلم بالصفة مطلقا غير مسلم فإن سبب العلم بالأولى وهو الوحي أو خبر أهل الكتاب ، يجوز أن يكون سببا للعلم بالثانية ، وأيضا يجوز أن يخصص جواز حالية ونريد إلخ باحتمال الاستئناف والحالية في يستضعف دون الوصف فلا يكون مشترك الإلزام ، وفيه أن احتمال الحالية من المفعول لم يذكره الزمخشري فلذا لم يلتفت صاحب الكشف إلى أن للعطف عليه مساغا وأن اشتراط العلم بالصفة مما صرح به في مواضع من الكشاف والكلام معه وأن العلم بصفة الاستضعاف لكونه مفسرا بالذبح والاستحياء وذلك معلوم بالمشاهدة وليس سبب العلم ما ذكر من الوحي أو خبر أهل الكتاب وفي هذا نظر ، والإنصاف أن قوله تعالى : إِنَّ فِرْعَوْنَ إلخ لا يظهر كونه بيانا لنبأ موسى عليه السلام وفرعون معا على شيء من الاحتمالات ظهوره على احتمال العطف على إن فرعون وإدخاله في حيز البيان وإلا فالظاهر من إن فرعون إلخ بدون هذا المعطوف أنه بيان لنبإ فرعون فقط فتأمل وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقتدى بهم في الدين والدنيا على ما في البحر ، وقال مجاهد دعاة إلى الخير.
وقال قتادة ولاة كقوله تعالى : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة : 20] وقال الضحاك أنبياء وأيا ما كان ففيه نسبة ما للبعض إلى الكل وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لجميع ما كان منتظما في سلك ملك فرعون وقومه على أكمل وجه كما يومىء إليه التعريف وذلك بأن لا ينازعهم أحد فيه وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر ، وأصل التمكين أن يجعل الشيء مكانا يتمكن فيه «1» ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر وشاع في ذلك حتى صار حقيقة لغوية فالمعنى نسلطهم
___________
(1) قوله أن يجعل الشيء مكانا يتمكن إلخ هكذا بخطه رحمه اللّه ا ه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 255
على أرض مصر يتصرفون وينفذ أمرهم فيها كيفما يشاؤون ، وظاهر كلام بعضهم أن المراد بالأرض ما يعم مصر والشام مع أن المعهود هو أرض مصر لا غير وكأن ذلك لما أن الشام مقر بني إسرائيل. وقرأ الأعمش ولنمكن بلام كي أي وأردنا ذلك لنمكن أو ولنمكن فعلنا ذلك.
وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما إضافة الجنود إلى ضميرهما إما للتغليب أو لأنه كان لهامان جند مخصوصون به وإن كان وزيرا أو لأن جند السلطان جند الوزير ، ونري من الرؤية البصرية على ما هو المناسب للبلاغة ، وجوز أن يكون من الرؤية القلبية التي هي بمعنى المعرفة ، وعلى الوجهين هو ناصب لمفعولين لمكان الهمزة ففرعون وما عطف عليه مفعوله الأول ، وقوله تعالى : مِنْهُمْ أي من أولئك المستضعفين متعلق به ، وقوله تعالى : ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي يتوقون من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود منهم مفعوله الثاني ، والرؤية على تقدير كونها بصرية لمقدمات ذلك وعلاماته في الحقيقة لكنها جعلت له مبالغة ومثله مستفيض بينهم حتى يقال رأى موته بعينه وشاهد هلاكه وعليه قول بعض المتأخرين :
أبكاني البين حتى رأيت غسلي بعيني
وقيل : المراد رؤية وقت ذلك ، وليس بذاك ، والأمر على تقدير كونها بمعنى المعرفة ظاهر. لأنهم قد عرفوا ذهاب ملكهم وهلاكهم ، لما شاهدوه من ظهور أولئك المستضعفين عليهم ، وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم. وفسر بعضهم الموصول بظهور موسى عليه السلام ، وهو خلاف الظاهر المؤيد بالآثار وكأن ذلك منه لخفاء وجه تعلق رؤية فرعون ومن معه بذهاب ملكهم وهلكهم عليه وقد علمت وجهه ، وقرأ عبد اللّه وحمزة والكسائي - ويرى - بالياء مضارع رأى ، وفرعون بالرفع على الفاعلية ، وكذا ما عطف عليه وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى قيل هي محيانة بنت يصهر بن لاوى ، وقيل يوخابذ «1» وقيل يارخا وقيل يارخت ، وقيل غير ذلك. والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك ، ولا ينافي حكاية أبي حيان الإجماع على عدم نبوتها ، لما أن الملائكة عليهم السلام قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم ، وإلى هذا ذهب قطرب وجماعة وقال مقاتل منهم : إن الملك المرسل إليها هو جبريل عليه السلام. وعن ابن عباس وقتادة أنه كان إلهاما ، ولا يأباه قوله تعالى : إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ نعم هو أوفق بالأول. وقال قوم : إنه كان رؤيا منام صادقة قص فيها أمره عليه السلام ، وأوقع اللّه تعالى في قلبها اليقين. وحكي عن الجبائي أنها رأت في ذلك رؤيا ، فقصتها على من تثق به من علماء بني إسرائيل فعبرها لها. وقيل كان بإخبار نبي في عصرها إياها ، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد الولادة ، وفي الأخبار ما يشهد له ، فيكون في الكلام جملة محذوفة ، وكأن التقدير واللّه تعالى أعلم : ووضعت موسى أمه في زمن الذبح فلم تدر ما تصنع في أمره وأوحينا إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ وقيل : كان قبل الولادة ، وأن تفسيرية أو مصدرية ، والمراد أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه.
وقرأ عمر بن عبد الواحد وعمر بن عبد العزيز أن أرضعيه بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس لأن القياس فيه نقل حركتها وهي الفتحة إلى النون كما في قراءة ورش.
فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأبناء ، أو من الجيران ونحوهم أن ينموا عليه فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي في البحر. والمراد به النيل ، ويسمى مثله بحرا ، وإن غلب في غير العذب وَلا تَخافِي عليه ضيعة أو شدة من عدم رضاعه في سن الرضاع وَلا تَحْزَنِي من مفارقتك إياه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب
___________
(1) قوله يوخابذ هو هكذا في نسخة المؤلف بالخاء المعجمة والباء وحرره ا ه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 256
بحيث تأمنين عليه ويومىء إلى القرب السياق ، وقيل التعبير باسم الفاعل لأنه حقيقة في الحال ويعتبر لذلك في قوله سبحانه : وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ولا يضر تفاوت القربين ، والجملة تعليل للنهي عن الخوف والحزن ، وإيثار الجملة الاسمية وتصديرها بحرف التحقيق للاعتناء بتحقيق مضمونها أي إنا فاعلون ردّه ، وجعله من المرسلين لا محالة ، واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعرا فقالت : أبعد قوله تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى الآية فصاحة وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. والفاء في قوله تعالى : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فصيحة والتقدير ففعلت ما أمرت به من إرضاعه وإلقائه في اليم لما خافت عليه ، وحذف ما حذف تعويلا على دلالة الحال وإيذانا بكمال سرعة الامتثال.
روي أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها ، فلما وقع موسى عليه السلام على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها بحيث منعها من السعاية فقالت لأمه :
احفظيه ، فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة وألقته في تنور مسجور لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها ، فطلبوا فلم يجدوا شيئا فخرجوا وهي لا تدري مكانه فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل اللّه تعالى النار عليه بردا وسلاما فأخذته ، فلما ألح فرعون في طلب الولدان واجتهد العيون في تفحصها أوحى اللّه تعالى إليها ما أوحى ، وأرضعته ثلاثة أشهر ، أو أربعة ، أو ثمانية على اختلاف الروايات ، فلما خافت عليه عمدت إلى بردي فصنعت منه تابوتا أي صندوقا فطلته بالقار من داخله. وعن السدي أنها دعت نجارا ، فصنع لها تابوتا ، وجعلت مفتاحه من داخل ، ووضعت موسى عليه السلام فيه وألقته في النيل بين أحجار عند بيت فرعون ، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالا ، فلما فتحنه رأته آسية ووقعت عليه رحمتها فأحبته ، وأراد فرعون قتله فلم تزل تكلمه حتى تركه لها
. وروي عن ابن عباس وغيره أنه كان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس إليه ، وكان بها برص شديد أعيا الأطباء ، وكان قد ذكر له أنها لا تبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الإنس يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية وأقبلت بنته في جواريها حتى جلست على شاطىء النيل فإذا بتابوت تضربه الأمواج فتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروا بالسفن فأحضروه بين يديه فعالجوا فتحه فلم يقدروا عليه وقصدوا كسره فأعياهم فنظرت آسية فكشف لها عن نور في جوفه لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا صبي صغير فيه وله نور بين عينيه وهو يمص إبهامه لبنا فألقى اللّه تعالى محبته عليه السلام في قلبها وقلوب القوم وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرأت من ساعتها.
وقيل : لما نظرت إلى وجهه برأت فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك فاقتله فهمّ أن يقتله فاستوهبته آسية فتركه كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى والأخبار في هذه القصة كثيرة ، وقد قدمنا منها ما قدمنا ، وآل فرعون أتباعه وقولهم : إن الآل لا يستعمل إلا فيما فيه شرف مبني على الغالب أو الشرف فيه أعم من الشرف الحقيقي والصوري ومعنى التقاطهم إياه عليه السلام أخذهم إياه عليه السلام أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به وصيانة له عن الضياع لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فيه استعارة تهكمية ضرورة أنه لم يدعهم للالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا وإنما دعاهم شيء آخر كالتبني ونفعه إياهم إذا كبر.
وفي تحقيق ذلك أقوال الأول أن يشبه كونه عدوّا وحزنا بالعلة الغائية كالتبني والنفع تشبيها مضمرا في النفس ولم يصرح بغير المشبه ويدل على ذلك بذكر ما يخص المشبه به وهو لام التعليل فيكون هناك استعارة مكنية أصلية

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 257
في المجرور واللام على حقيقتها ، الثاني أن يشبه أولا ترتب غير العلة الغائية بترتب العلة الغائية أي يعتبر التشبيه بين الترتبين الكليين ليسري في جزئياتهما فيتحقق تبعا تشبيه ترتب كونه عدوا وحزنا أعني الترتب المخصوص على الالتقاط بترتب التبني ونحوه مما هو علة غائية - أعني الترتب المخصوص أيضا عليه - ثم يستعمل في المشبه اللام الموضوعة للدلالة على ترتب العلة الغائية الذي هو المشبه به فتكون الاستعارة أولا في العلية والعرضية وتبعا في اللام فصار حكم اللام حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه العلة كما استعير الأسد لما يشبه الأسد بيد أن الاستعارة هاهنا مكنية تبعية ، الثالث ما أفاده كلام الخطيب الدمشقي في التلخيص والإيضاح وهو أن يقدر التشبيه أولا لكونه عدوا وحزنا بالعلة الغائية ثم يسري ذلك التشبيه إلى تشبيه ترتبه بترتب العلة الغائية فتستعار اللام الموضوعة لترتب العلة الغائية لترتب كونه عدوا وحزنا من غير استعارة في المجرور وهذا التشبيه كتشبيه الربيع بالقادر المختار ثم إسناد الإنبات إليه وهو مفاد كلام الكشاف ، واختار ذلك العلامة عبد الحكيم ، فقال : وهو الحق عندي لأن اللام لما كان معناها محتاجا إلى ذكر المجرور كان اللائق أن تكون الاستعارة والتشبيه فيها تابعا لتشبيه المجرور لا تابعا لتشبيه معنى كلي بمعنى كلي معنى الحرف من جزئياته كما ذهب إليه السكاكي وتبعه العلامة التفتازاني انتهى فتأمل.
واستشكل أصل تعليل الالتقاط بأن الالتقاط الوجدان من غير قصد والتعليل يقتضي حقيقة القصد وهو توهم لأن الوجدان من غير قصد لا ينافي قصد أخذ ما وجد لغرض وقد علمت أن المعنى هنا فأخذه أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به آل فرعون ليكون إلخ ، والتعليل فيه إنما هو للأخذ ولا إشكال فيه.
وقال بعضهم : يحتمل تعلق اللام بمقدر أي قدرنا الالتقاط ليكون إلخ ، وعليه لا تجوز في الكلام إلا عند من يقول : إن أفعال اللّه تعالى لا تعلل وهو أمر غير ما نحن فيه ، ولا يخفى أن كلام اللّه سبحانه أجل وأعلى من أن يعتبر فيه مثل هذا الاحتمال ، وفي جعله عليه السلام نفس الحزن ما لا يخفى من المبالغة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن سعدان - حزنا - بضم الحاء وسكون الزاي ، وقراءة الجمهور بفتحتين لغة قريش إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ في كل ما يأتون وما يذرون أو من شأنهم الخطأ فليس ببدع منهم ان قتلوا ألوفا لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون ،
روي أنه ذبح في طلبه عليه السلام تسعون ألف وليد.
وخاطِئِينَ على هذا من الخطأ في الرأي ، ويجوز أن يكون من خطىء بمعنى أذنب ، وفي الأساس يقال : خطىء خطأ إذا تعمد الذنب ، والمعنى وكانوا مذنبين فعاقبهم اللّه تعالى بأن ربي عدوهم على أيديهم ، والجملة على الأول اعتراض بين المتعاطفين لتأكيد خطئهم المفهوم من قوله تعالى : لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فإنه كما سمعت استعارة تهكمية على الثاني ، اعتراض لتأكيد ذنبهم المفهوم من حاصل الكلام ، وقيل : يتعين عليه أن تكون اعتراضا لبيان الموجب لما ابتلوا به ويحتمل على هذا أن تكون استئنافا بيانيا إن أريد بما ابتلوا به كونه عدوا وحزنا وهو لا ينافي الاعتراض عندهم ، وقرىء خاطين بغير همز فاحتمل أن يكون أصله الهمز وحذفت وهو الظاهر ، وقيل : هو من خطا يخطو أي خاطين الصواب إلى ضده فهو مجاز.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام وعلى هذا لم تكن من بني إسرائيل ، وقيل : كانت منهم من سبط موسى عليه السلام ، وحكى السهيلي أنها كانت عمته عليه السلام وهو قول غريب ، والمشهور القول الأول. والجملة عطف على جملة فالتقطه آل فرعون أي وقالت امرأة فرعون له حين أخرجته من التابوت.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 258
قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ أي هو قرة عين كائنة لي ولك على أن قرة خبر مبتدأ محذوف ، والظرف في موضع الصفة له ويبعد كما في البحر أن يكون مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : لا تَقْتُلُوهُ وقالت ذلك لما ألقى اللّه تعالى من محبته في قلبها أو لما كشف لها فرأته من النور بين عينيه أو لما شاهدته من برء بنت فرعون من البرص بريقه أو بمجرد النظر إلى وجهه ، ولتفخيم شأن القرة عدلت عن لنا إلى لي ولك وكأنها لما تعلم من مزيد حب فرعون إياها وأن مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه قدمت نفسها عليه فيكون ذلك أبلغ في ترغيبه بترك قتله ، فلا يقال إن الأظهر في الترغيب بذلك العكس وقد يستأنس لكون مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه ما أخرج النسائي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها حين قالت له ذلك قال لك لا لي ولو قال لي كما هو لك لهداه اللّه تعالى كما هداها ، وهذا أمر فرضي فلا ينافي ما ورد من أنه عليه اللعنة طبع كافرا ، والخطاب في لا تقتلوه قيل : لفرعون وإسناد الفعل إليه مجازي لأنه الآمر والجمع للتعظيم ، وكونه لا يوجد في كلام العرب الموثوق بهم إلا في ضمير المتكلم كفعلنا مما تفرد به الرضي وقلده فيه من قلده وهو لا أصل له رواية ودراية قال أبو علي الفارسي في فقه اللغة من سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجمع فيقال للرجل العظيم انظروا في أمري ، وهكذا في سر الأدب وخصائص ابن جني وهو مجاز بليغ وفي القرآن الكريم منه ما التزام تأويله سفه ، وقيل : هو لفرعون وأعوانه الحاضرين ورجح بما روي أن غواة قومه قالوا وقت إخراجه هذا هو الصبي الذي كنا نحذر منه فأذن لنا في قتله.
وقيل : هو له ولمن يخشى منه القتل وإن لم يحضر على التغليب ، واختار بعضهم كونه للمأمورين بقتل الصبيان كأنها بعد أن خاطبت فرعون وأخبرته بما يستعطفه على موسى عليه السلام أمنت منه بادرة أمن جديد بقتله فالتفتت إلى خطاب المأمورين قبل فنهتهم عن قتله معللة ذلك بقوله تعالى المحكي عنها :
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وهو أوفق باختلاف الأسلوب حيث فصلت أولا في قولها : لي ولك وأفردت ضمير خطاب فرعون ثم خاطبت وجمعت الضمير في لا تقتلوه ثم تركت التفصيل في عَسى أَنْ يَنْفَعَنا إلخ ولم تأت به على طرز قرة عين لي ولك بأن تقول : عسى أن ينفعني وينفعك مثلا فتأمل. ورجاء نفعه لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجابة :
في المهد ينطق عن سعادة جده أثر النجابة ساطع البرهان
واتخاذه ولدا لأنه لائق لتبني الملوك لما فيه من الأبهة وعطف هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام أو تعتبر بينهما المغايرة وهو الأنسب بأو وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من آل فرعون والتقدير فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وقالت امرأته له كيت وكيت ، وهم لا يشعرون بأنهم على خطأ عظيم فيما صنعوا. وقال قتادة : لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يده. وقال مجاهد : أنه عدو لهم. وقال محمد بن إسحاق : أني أفعل ما أريد لا ما يريدون والتقدير الأول أجمع ، وجوز كونه حالا من القائلة والمقول له معا. والمراد بالجمع اثنان على احتمال كون الخطاب في لا تقتلوه لفرعون فقط وكونه حالا من القائلة فقط أي قالت امرأة فرعون له ذلك والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبه عليه لئلا يغروه بقتله وعلى الاحتمالات الثلاثة هو من كلام اللّه تعالى ، وجوز كونه حالا من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس لا لذي الحال إذ يكفي الواو للربط أي نتخذه ولدا والناس لا يعلمون أنه لغيرنا وقد تبنيناه فيكون من كلام آسية رضي اللّه تعالى عنها وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي صار خاليا من كل شيء غير ذكر موسى عليه السلام أخرجه الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس وروي ذلك أيضا عن ابن مسعود والحسن ومجاهد ، ونحوه عن عكرمة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 259
وقالت فرقة : فارغا من الصبر وقال ابن زيد : فارغا من وعد اللّه تعالى ووحيه سبحانه إليها تناست ذلك من الهم. وقال أبو عبيدة : فارغا من الهم إذ لم يغرق وسمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه كما يقال فلان فارغ البال وقال بعضهم :
فارغا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد عدوه فرعون كقوله تعالى : وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم : 43] أي خلاء لا عقول فيها واعترض على القولين بأن الكلام عليهما لا يلائم ما بعده وفيه نظر ، وقرأ أحمد بن موسى عن أبي عمرو - فواد - بالواو وقرأ - مؤسى - بهمزة بدل الواو ، وقرأ فضالة بن عبيد والحسن ويزيد ابن قطيب وأبو زرعة بن عمرو بن جرير - فزعا - بالزاي والعين المهملة من الفزع وهو الخوف والقلق ، وابن عباس قرعا بالقاف وكسر الراء وإسكانها من قرع رأسه إذا انحسر شعره كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى عليه السلام ، وقيل : قرعا بالسكون مصدر أي قرع قرعا من القارعة وهو الهم العظيم ، وقرأ بعض الصحابة فزغا «1» بفاء مكسورة وزاي ساكنة وغين معجمة ومعناه ذاهبا هدرا والمراد هالكا من شدة الهم كأنه قتيل لا قود ولا دية فيه ، ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال :
فإن يك قبلي قد أصيبت نفوسهم فلن يذهبوا فزغا بقتل حبال
وقرأ الخليل بن أحمد - فرغا - بضم الفاء والراء إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي أنها كادت إلخ على أن إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة أو ما كادت إلا تبدي به على أن إن نافية واللام بمعنى إلا وهو قول كوفي والإبداء إظهار الشيء وتعديته بالباء لتضمينه معنى التصريح ، وقيل : المفعول محذوف والباء سببية أي تبدي حقيقة الحال بسببه أي بسبب ما عراها من فراقه ، وقيل : هي صلة أي تبديه وكلا القولين كما ترى ، والظاهر أن الضمير المجرور لموسى عليه السلام ، والمعنى أنها كادت تصرح به عليه السلام وتقول وا ابناه من شدة الغم والوجد رواه الجماعة عن ابن عباس ، وروي ذلك أيضا عن قتادة والسدي وعن مقاتل أنها كادت تصيح وا ابناه عند رؤيتها تلاطم الأمواج به شفقة عليه من الغرق ، وقيل : المعنى أنها كادت تظهر أمره من شدة الفرح بنجاته وتبني فرعون إياه ، وقيل : الضمير للوحي إنها كادت تظهر الوحي وهو الوحي الذي كان في شأنه عليه السلام المذكور في قوله تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية وهو خلاف الظاهر ولا تساعد عليه الروايات لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها أي بما أنزلنا عليه من السكينة والمراد لولا أن ثبتنا قلبها وصبرناها ، فالربط على القلب مجاز عن ذلك ، وجواب لولا محذوف دل عليه إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي لولا أن ربطنا على قلبها لأبدته ، وقيل : لكادت تبدي به ، وقوله تعالى : لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ علة للربط على القلب ، والإيمان بمعنى التصديق أي صبرناها وثبتنا قلبها لتكون راسخة في التصديق بوعدنا بأنا رادوه إليها وجاعلوه من المرسلين ، ومن جعل الفراغ من الهم والحزن وكيدودة الإبداء من الفرح بتبنيه عليه السلام الذي هو فرح مذموم جعل الإيمان بمعنى الوثوق كما في قولهم على ما حكى أبو زيد ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت وحقيقته صرت ذا أمن أي ذا سكون وطمأنينة ،
وقال : المعنى لولا أن ربطنا على قلبها وسكنا قلقه الكائن من الابتهاج الفاسد لتكون من الواثقين بوعد اللّه تعالى المبتهجين بما يحق الابتهاج به وَقالَتْ لِأُخْتِهِ مريم وقيل : كلثمة وقيل :
كلثوم. والتعبير عنها بأخوته دون أن يقال لبنتها للتصريح بمدار المحبة الموجبة للامتثال بالأمر قُصِّيهِ أي اتبعي أثره وتتبعي خبره ، والظاهر أن هذا القول وقع منها بعد أن أصبح فؤادها فارغا فإن كانت لم تعرف مكانه إذ ذاك فظاهر وإن
___________
(1) قوله فزغا هنا وفي البيت وقوله وزاي ساكنة إلخ هكذا بخطه رحمه اللّه وفي الكشاف والشهاب فرغا بالراء المهملة والغين المعجمة والبيت أورده في اللسان بالراء المهملة والغين أيضا ومع هذا فمادة فزغ بالزاي والغين المعجمة ليست موجودة في كلامهم ا ه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 260
كانت قد عرفته فتتبع الخبر ليعرف هل قتلوه أم لا ولينكشف ما هو عليه من الحال فَبَصُرَتْ بِهِ أي أبصرته والفاء فصيحة أي فقصت أثره فبصرت ، وقرأ قتادة - فبصرت - بفتح الصاد وعيسى بكسرها عَنْ جُنُبٍ أي عن بعد ، وقيل : أي عن شوق إليه حكاه أبو عمرو بن العلاء وقال هي لغة جذام يقولون جنبت إليك أي اشتقت ، وقال الكرماني جنب صفة لموصوف محذوف أي عن مكان جنب أي بعيد وكأنه من الأضداد فإنه يكون بمعنى القريب أيضا كالجار الجنب ، وقيل : أي عن جانب لأنها كانت تمشي على الشط ، وقيل : النظر عن جنب أن تنظر إلى الشيء كأنك لا تريده.
وقرأ قتادة والحسن وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنه ، والأعرج عن جنب بفتح الجيم وسكون النون وعن قتادة أنه قرأ بفتحهما أيضا ، وعن الحسن أنه قرىء بضم الجيم وإسكان النون ، وقرأ النعمان بن سالم - عن جانب - والكل على ما قيل : بمعنى واحد ، وفي البحر الجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها تقصه وتتعرف حاله أو أنها أخته وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أي منعناه ذلك فالتحريم مجاز عن المنع فإن من حرم عليه شيء فقد منعه ولا يصح إرادة التحريم الشرعي لأن الصبي ليس من أهل التكليف ولا دليل على الخصوصية ، والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد وهي المرأة التي ترضع ، وترك التاء إما لاختصاصه بالنساء أو لأنه بمعنى شخص مرضع أو جمع مرضع بفتح الميم على أنه مصدر ميمي بمعنى الرضاع وجمع لتعدد مراته أو اسم مكان أي موضع الرضاع وهو الثدي مِنْ قَبْلُ أي من قبل قصها أو إبصارها أو وروده على من هو عنده ، أو من قبل ذلك أي من أول أمره وظاهر صنيع أبي حيان اختياره فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ أي هل تريدون أن أدلكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنونه ويقومون بتربيته لأجلكم ، والفاء فصيحة أي فدخلت عليهم فقالت ، وقولها : على أهل بيت دون امرأة إشارة إلى أن المراد امرأة من أهل الشرف تليق بخدمة الملوك وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون في خدمته وتربيته ، وروي أن هامان لما سمع هذا منها قال إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله فقالت إنما أردت وهم للملك ناصحون فخلصت بذلك من الشر الذي يجوز لمثله الكذب وأحسنت وليس ببدع لأنها من بيت النبوة فحقيق بها ذلك ، واحتمال الضمير لأمرين مما لا تختص به اللغة العربية بل يكون في جميع اللغات على أن الفراعنة من بقايا العمالقة وكانوا يتكلمون بالعربية فلعلها كلمت بلسانهم ويسمى هذا الأسلوب من الكلام الموجه.
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ الفاء فصيحة أي فقبلوا ذلك منها ودلتهم على أمه وكلموها في إرضاعه فقبلت فرددناه إليها أو يقدر نحو ذلك ، وروي أن أخته لما قالت ما قالت أمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله فأتت بأمه وموسى عليه السلام على يد فرعون يبكي وهو يعلله فدفعه إليها فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال : من أنت منه؟ فقد أبى كل ثدي إلا ثديك فقالت إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فقرره في يدها فرجعت به إلى بيتها من يومها وأمر أن يجرى عليها النفقة وليس أخذها ذلك من أخذ الأجرة على إرضاعها إياه
ولو سلّم فلا نسلم أنه كان حراما فيما تدين وكانت النفقة على ما في البحر دينارا في كل يوم كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بوصول ولدها إليها وَلا تَحْزَنَ لفراقه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي جميع ما وعده سبحانه من رده وجعله من المرسلين حَقٌّ لا خلف فيه بمشاهدة بعضه وقياس بعضه عليه وإلا فعلمها بحقية ذلك بالوحي حاصل قبل.
واستدل أبو حيان بالآية على ضعف قول من ذهب إلى أن الإيحاء كان إلهاما أو مناما لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد ، وفيه نظر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعرفون وعده تعالى ولا حقيته أو لا يجزمون بما وعدهم جل وعلا لتجويزهم تخلفه وهو سبحانه لا يخلف الميعاد ، وقيل : لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بذلك وما

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 261
سواه من قرة عينها وذهاب حزنها تبع ، وفيه أن الذي يفيده الكلام إنما هو كون كل من قرة العين والعلم كالغرض أو غرضا مستقلا ، وأما تبعية غير العلم له لا سيما مع تقدم الغير فلا ، وكون المفيد لذلك حذف حرف العلة من الأول لا يخفى حاله ، وفي قوله تعالى : وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [البقرة : 243 ، وغيرها] إلخ قيل : تعريض بما فرط من أمه حين سمعت بوقوعه في يد فرعون من الخوف والحيرة وأنت تعلم أن ما عراها كان من مقتضيات الجبلة البشرية وهو يجامع العلم بعدم وقوع ما يخاف منه ، ونفي العلم في مثل ذلك إنما يكون بضرب من التأويل كما لا يخفى. ثم إن الاستدراك على ما اختاره مما وقع بعد العلم ، وجوز أن يكون من نفس العلم وذلك إذا كان المعنى لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بحقية وعد اللّه تعالى فتأمل.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي المبلغ الذي لا يزيد عليه نشوءه ، وقوله تعالى : وَاسْتَوى أي كمل وتم تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل : واختلف في زمان بلوغ الأشد والاستواء فأخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : الأشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء أربعون سنة ، وهي رواية عن ابن عباس أيضا وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة بلوغ الأشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الأربعين وأخرى هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته لقوله تعالى : حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف : 15] لأنه يشعر بأنه منته إلى الأربعين وهي سن الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الأشد في الأصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير ، ولعل الأولى على ما قيل : أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن أربعين وعليه قول الشاعر :
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وإن جر أسباب الحياة له العمر
وفي قوله تعالى : حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ما يستأنس به لذلك ، وقد مر طرف من الكلام في الأشد في سورة يوسف فتذكر ولا تغفل. ثم إن حاصل المعنى على ما قيل أخيرا : ولما قوي جسمه ، واعتدل عقله آتَيْناهُ حُكْماً أي نبوة على ما روي عن السدي أو علما هو من خواص النبوة على ما تأول به بعضهم كلامه وَعِلْماً بالدين والشريعة. وفي الكشاف العلم التوراة والحكم السنة وحكمة الأنبياء عليهم السلام سنتهم. قال اللّه تعالى : وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب : 34] وقيل آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث ، فكان عليه السلام لا يفعل فعلا يستجهل فيه ا ه ، ورجح ما قيل بأنه أوفق لنظم القصة مما تقدم ، لأن استنباءه عليه السلام بعد وكز القبطي ، والهجرة إلى مدين ، ورجوعه منها ، وإيتاؤه التوراة كان بعد إغراق فرعون ، فهو بعد الوكز بكثير وبأن قوله تعالى : وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الذي فعلناه بموسى وأمه عليهما السلام نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم يأبى حمل ما تقدم على النبوة لأنها لا تكون جزاء على العمل ، ومن ذهب إلى الأول جعل هذا بيانا إجماليا لإنجاز الوعد بجعله من المرسلين بعد رده لأمه ، وما بعد تفصيل له ، والعطف بالواو لا يقتضي

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 262
الترتيب ، وكون ما فعل بموسى وأمه عليهما السلام جزاء على العمل باعتبار التغليب. وقد يقال : إن أصل النبوة وإن لم تكن جزاء على العمل إلا أن بعض مراتبها ، وهو ما فيه مزيد قرب من اللّه تعالى يكون باعتبار مزيد القرب جزاء عليه ويرجع ذلك إلى أن مزيد القرب هو الجزاء وتفاوت الأنبياء عليهم السلام في القرب منه تعالى مما لا ينبغي أن يشك فيه ، ورجح ما تقدم بكونه أوفق بقوله تعالى : وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ واستلزامه حصول النبوة لكل محسن ليس بشيء أصلا ، ومن ذهب إلى أن هذا الإيتاء كان قبل الهجرة قال : يجوز أن يكون المعنى آتيناه رياسة بين قومه بني إسرائيل بأن جعلناه ممتازا فيما بينهم ، يرجعون إليه في مهامهم ، ويمتثلونه إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه ، وعلما ينتفع به وينفع به غيره ، وذلك إما بمحض الإلهام ، أو بتوفيقه لاستنباط دقائق وأسرار مما نقل إليه من كلمات آبائه الأنبياء عليهم السلام من بني إسرائيل ولا بدع في أن يكون عليه السلام عالما بما كان عليه آباؤه الأنبياء منهم وبما كانوا يتدينون به من الشرائع بواسطة الإلهام أو بسماع ما يفيده العلم من الأخبار ، ولعل هذا أولى مما نقله في الكشاف. وفي الكلام على أواخر سورة البقرة ما تنفعك مراجعته فليراجع.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ قال ابن عباس على ما في البحر : هي منف عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي في وقت لا يعتاد دخولها ، أو لا يتوقعونه فيه ، وكان على ما روي عن الحبر وقت القائلة ، وفي رواية أخرى عنه بين العشاء والعتمة وذلك أن فرعون ركب يوما وسار إلى تلك المدينة فعلم موسى عليه السلام بركوبه فلحق ودخل المدينة في ذلك الوقت. وقال ابن إسحاق : هي مصر ، كان موسى عليه السلام قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون ، فاختفى وغاب ، فدخلها متنكرا. وقال ابن زيد : كان فرعون قد أخرجه منها فغاب سنين فنسي فجاء ودخلها وأهلها في غفلة بنسيانهم له ، وبعد عهدهم به. وقيل : دخل في يوم عيد وهم مشغولون بلهوهم. وقيل : خرج من قصر فرعون ودخل مصر وقت القيلولة أو بين العشاءين ، وقيل : المدينة عين شمس ، وقيل : قرية على فرسخين من مصر يقال لها : حابين.
وقيل : هي الإسكندرية ، والأشهر أنها مصر ، ولعله هو الأظهر والمتبادر أن - على حين - متعلق بدخل ، وعليه فالظاهر أن على بمعنى في مثلها في قوله تعالى : وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة : 102] على قول.
وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال من المدينة ، ويجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أي مختلسا ا ه ولعل الذي دعاه إلى العدول عن المتبادر احتياجه إلى جعل على بمعنى في وخفاء نكتة التعبير بها دونها أو الاكتفاء بالظرف وحده عليه والأمر ظاهر لمن له أدنى تأمل وقيل : إن الداعي إلى ذلك أن دخول المدينة في حين غفلة من أهلها ليس نصا في دخولها غافلا أهلها كما في وجه الحالية من المدينة ولا في دخولها مختلسا كما في وجه الحالية من الضمير فإن وقت الغفلة كوقت القائلة وما بين العشاءين قد لا يغفل فيه وفيه بحث.
ومِنْ أَهْلِها في موضع الصفة لغفلة وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم ، ولعله عدل عن ذلك إلى ما ذكر لهذا فتدبر ، وقرأ أبو طالب القارئ - على حين - بفتح النون ووجه بأنه فتح لمجاورة الغين كما كسر في بعض القراءات الدال في الحمد للّه لمجاورة اللام أو بأنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قيل : على حين غفل أهلها فبنى حين كما يبني إذا أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض نحو قوله :
على حين عاتبت المشيب على الصبا وهو كما ترى فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يتحاربان والجملة صفة لرجلين. وقال ابن عطية : في موضع الحال وهو مبني على مذهب سيبويه من جواز مجيء الحال من النكرة من غير شرط ، وقرأ نعيم بن ميسرة يقتلان==

28. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 263
بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف ، وقوله تعالى : هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه أو في الدين على ما قاله جماعة وهم بنو إسرائيل قال في الإتقان : هو السامري وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ من مخالفيه فيما يريد أو في الدين على ما قاله الجماعة وهم القبط واسمه كما في الإتقان أيضا قانون صفة بعد صفة لرجلين والإشارة بهذا واقعة على طريق الحكاية لما وقع وقت الوجدان كأن الرائي لهما يقوله لا في المحكي لرسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم.
وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب قال جرير :
هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إليّ قطينا
وهذه الإشارة قائمة مقام الضمير في الربط والعطف سابق على الوصفية ، واختلف في سبب تقاتل هذين الرجلين ، فقيل : كان أمرا دينيا ، وقيل : كان أمرا دنيويا ، روي أن القبطي كلف الإسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون فأبى فاقتتلا لذلك ، وكان القبطي على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير خبازا لفرعون فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ أي فطلب غوثه ونصره إياه عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ولتضمين الفعل معنى النصر عدي بعلى ويؤيده قوله تعالى بعد : اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ ، ويجوز أن يكون تعديته بعلى لتضمينه معنى الإعانة ويؤيده أنه قرىء فاستعانه بالعين المهملة والنون بدل الثاء ، وقد نقل هذه القراءة ابن خالويه ، عن سيبويه وأبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني ، وقول ابن عطية إنه ذكرها الأخفش وهو تصحيف لا قراءة مما لا ثبت له فيه ، وقد حذف من جملة الصلة صدرها أي الذي هو من شيعته والذي هو من عدوه ولو لم يعتبر حذف ذلك صح فَوَكَزَهُ مُوسى أي ضرب القبطي بجمع كفه أي بكفه المضمومة أصابعها على ما أخرجه غير واحد عن مجاهد.
وقال أبو حيان : الوكز الضرب باليد مجموعة أصابعها كعقد ثلاثة وسبعين وعلى القولين يكون عليه السلام قد ضربه باليد وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه عليه السلام ضربه بعصاه فكأنه يفسر الوكز بالدفع أو الطعن وذلك من جملة معانيه كما في القاموس ولعله أراد بعصاه عصا كانت له فإن عصاه المشهورة أعطاه إياها شعيب عليه السلام بعد هذه الحادثة كما هو مشهور ، وفي كتب التفاسير مسطور.
وقرأ عبد اللّه فلكزه باللام وعنه فنكزه بالنون واللكز على ما في القاموس الوكز والوجء في الصدر والحنك والنكز على ما فيه أيضا الضرب والدفع ، وقيل : الوكز والنكز واللكز الدفع بأطراف الأصابع ، وقيل : الوكز على القلب واللكز على اللحى. روي أنه لما اشتد التناكر قال القبطي لموسى عليه السلام : لقد هممت أنه أحمله يعني الحطب عليك فاشتد غضب موسى عليه السلام ، وكان قد أوتي قوة فوكزه فَقَضى عَلَيْهِ أي فقتله موسى وأصله أنهى حياته أي جعلها منتهية متقضية وهو بهذا المعنى يتعدى بعلى كما في الأساس فلا حاجة إلى تأويله بأوقع القضاء عليه ، وقد يتعدى الفعل بإلى لتضمينه معنى الإيحاء كما في قوله تعالى : وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [الحجر : 66] وعود ضمير الفاعل في قضى على موسى هو الظاهر ، وقيل : هو عائد على اللّه تعالى أي فقضى اللّه سبحانه عليه بالموت فقضى بمعنى حكم ، وقيل : يحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه أي فقضى الوكز عليه أي أنهى حياته قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه.
وقيل : من جنس عمله والأول أوفق بقوله تعالى : إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة على أن مبين صفة ثانية لعدو ، وقيل : ظاهر العداوة والإضلال ، ووجه بأنه صفة لعدو الملاحظ معه وصف الإضلال أو بأنه متنازع فيه لعدو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 264
ومضل كل يطلبه صفة له وأيا ما كان فمبين من أبان اللازم قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بوكز ترتب عليه القتل فَاغْفِرْ لِي ذنبي وإنما قال عليه السلام ما قال لأنه فعل ما لم يؤذن له به وليس من سنن آبائه الأنبياء عليهم السلام في مثل هذه الحادثة التي شاهدها وقد أفضى إلى قتل نفس لم يشرع في شريعة من الشرائع قتلها ، ولا يشكل ذلك على القول بأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكبائر بعد النبوة وقبلها لأن أصل الوكز من الصغائر ، وما وقع من القتل كان خطأ كما قاله كعب وغيره ، والخطأ وإن كان لا يخلو عن الإثم ، ولذا شرعت فيه الكفارة إلا أنه صغيرة أيضا بل قيل : لا يشكل أيضا على القول بعصمتهم عن الكبائر والصغائر مطلقا لجواز أن يكون عليه السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم ففعله غير قاصد به القتل ، وإنما وقع مترتبا عليه لا عن قصد وكون الخطأ لا يخلو عن إثم في شرائع الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كما في شريعة نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم غير معلوم وكذا مشروعية الكفارة فيه وكأنه عليه السلام بعد أن وقع منه ما وقع تأمل فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز وأنه لم يتثبت في رأيه لما اعتراه من الغضب فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله فقال ما قال على عادة المقربين في استعظامهم خلاف الأولى ، ثم إن هذا الفعل وقع منه عليه السلام قبل النبوة كما هو ظاهر قوله تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء :
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء : 21] وبذلك قال النقاش وغيره وروي عن كعب أنه عليه السلام كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ومن فسر الاستواء ببلوغ أربعين سنة وجعل ما ذكر بعد بلوغ الأشد والاستواء وإيتاء الحكم والعلم بالمعنى الذي لا يقتضي النبوة يلزمه أن يقول كان عليه السلام إذ ذاك ابن أربعين سنة أو ما فوقها بقليل.
وزعم بعضهم أنه عليه السلام أراد بقوله : ظَلَمْتُ نَفْسِي إني عرضتها للتلف بقتل هذا الكافر إذ لو عرف فرعون ذلك لقتلني به وأراد بقوله : فَاغْفِرْ لِي فاستر عليّ ذلك ، وجعله من عمل الشيطان لما فيه من الوقوع في الوسوسة وترقب المحذور ، ولا يخفى ما فيه ، ويأبى عنه قوله تعالى :
فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وترتيب غفر على ما قبله بالفاء يشعر بأن المراد غفر له لاستغفاره وجملة إِنَّهُ إلخ كالتعليل للعلية أي إنه تعالى هو المبالغ في مغفرة ذنوب عباده ورحمتهم ، ولذا كان استغفاره سببا للمغفرة له وتوسيط قال بين كلاميه عليه السلام لما بينهما من المخالفة من حيث إن الثاني مناجاة ودعاء بخلاف الأول ، وأما توسيط قال في قوله تعالى : قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فوجهه ظاهر ، والباء في بما للقسم ، وما مصدرية وجواب القسم محذوف أي أقسم بإنعامك عليّ لأمتنعن عن مثل هذا الفعل.
وقيل : لأتوبن ، وقوله تعالى : فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ عطف على الجواب ، ولعل المراد بإنعامه تعالى عليه حفظه إياه من شر فرعون ورده إلى أمه وتمييزه على سائر بني إسرائيل ونحو ذلك.
وقيل المراد به مغفرته له وهو غير بعيد ، ومعرفته عليه السلام أنه سبحانه غفر له إذا كان هذا القول قبل النبوة بإلهام أو رؤيا ، والظهير المعين ، والمجرمين جمع مجرم والمراد به من أوقع غيره في الجرم أو من أدت معاونته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأدت معاونته إلى جرم في نظر موسى عليه السلام فيكون في المجرمين مجاز في النسبة للإسناد إلى السبب ، وجوز أن يراد بذلك الكفار وعنى بهم من استغاثه ونحوه بناء على أنه لم يكن أسلم ، وقيل :
أراد بالمجرمين فرعون وقومه ، والمعنى أقسم بإنعامك عليّ لأتوبن فلن أكون معينا للكفار بأن أصحبهم وأكثر سوادهم ، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ولا يخفى أن ما تقدم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 265
أنسب بالمقام ، وجوز أن تكون الباء للقسم الاستعطافي على أنها متعلقة بفعل دعاء محذوف ، وجملة فلن أكون إلخ متفرعة عليه ، والفاء واقعة في جواب الدعاء أو الشرط المقدر أي بحق إنعامك عليّ اعصمني فلم أكون إلخ أو إن عصمتني فلن أكون إلخ والقسم الاستعطافي ما أكد به جملة طلبية نحو قولك باللّه تعالى زرني وغير الاستعطافي ما أكد به جملة خبرية نحو واللّه تعالى لأقومن ، وإلى هذا ذهب ابن الحاجب ، وقيل : القسم الاستعطافي ما كان المقسم به مشعرا بعطف وحنو نحو بكرمك الشامل أنعم عليّ وهو صادق على ما هنا ، وغير الاستعطافي ما كان المقسم به أعم من ذلك ، وعلى القولين هما قسمان من مطلق القسم ، وظاهر كلام الزمخشري أن المتبادر من القسم ما يؤكد به الكلام الخبري وينعقد منه يمين فما يكون المراد به الاستعطاف قسيم له وجعل بعضهم إطلاق القسم على الاستعطافي تجوزا ، ويبعد إرادة الاستعطاف هنا ما
روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن موسى عليه السلام لم يستثن أي لم يقل إن شاء اللّه تعالى فابتلى به
أي بالكون ظهيرا للمجرمين مرة أخرى وهو ما في قوله تعالى : فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ إلخ لأن الاستثناء لا يناسب الاستعطاف لكون النفي معلقا بعصمة اللّه عز وجل ، وجوز أن تكون الباء سببية متعلقة بفعل مقدر يعطف عليه لن أكون إلخ وما موصولة ، والمعنى بسبب الذي أنعمته عليّ من القوة أشكرك فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك ولا أدع قبطيا يغلب إسرائيليا وهو إلزام لنفسه بنصرة أوليائه عز وجل كالنذر وليس هناك قسم بوجه خلافا لمن توهم ذلك ولا يخفى أن هذا وإن لم يبعده الأثر لا يخلو عن بعد نظر إلى السباق ، و(لن) على جميع الأوجه المذكورة للنفي وفي البحر قيل : إنها للدعاء «1» وحكى ابن هشام رده بأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب أو الغائب نحو يا رب لاعذبت فلانا ، ويجوز لا عذب اللّه تعالى عمرا ثم قال ويرده قوله :
ثم لا زلت لكم خالدا خلود الجبال ، ولا يخفى عليك أن كونها للدعاء على الوجه الأخير في الآية غير ظاهر وعلى الوجه الأول لا يخلو عن خفاء فلعل من جعلها للدعاء حمل بما أنعمت عليّ على الاستعطاف وعلق الجار والمجرور بنحو اعصمني وجعل الفاء تفسيرية ولن أكون إلخ تفسيرا لذلك المحذوف كما قيل : في قوله تعالى :
فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا [الأنبياء : 84] فليتدبر ، واحتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم.
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد اللّه بن الوليد الرصافي أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخ له كاتب فقال له : إن أخي ليس له من أمور السلطان شيء إلا أنه يكتب له بقلم ما يدخل وما يخرج فإن ترك قلمه صار عليه دين واحتاج وإن أخذ به كان له فيه غنى قال : لمن يكتب؟ قال : لخالد بن عبد اللّه القسري قال : ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فلا يهتم أخوك بشيء وليرم بقلمه فإن اللّه تعالى سيأتيه برزق ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبي الكاتب قال : قال رجل لعامر يا أبا عمرو إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج آخذ رزقا أستغني به أنا وعيالي قال : فلعلك تكتب في دم يسفك قال : لا. قال : فلعلك تكتب في مال يؤخذ قال : لا. قال : فلعلك تكتب في دار تهدم قال : لا. قال : أسمعت بما قال موسى عليه السلام رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال : أبلغت إليّ يا أبا عمرو واللّه عز وجل لا أخط لهم بقلم أبدا قال واللّه تعالى لا يدعك اللّه سبحانه بغير رزق أبدا. وقد كان السلف يجتنبون كل الاجتناب عن خدمتهم ، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط قال بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك فقال :
___________
(1) قوله إنها للدعاء مجيئها للدعاء مذهب جماعة منهم ابن عصفور اه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 266
اذهب بعطاء أهل بخارى فأعطهم فقال اعفني فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه فقال له بعض أصحابه : ما عليك أن تذهب فتعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا فقال لا أحب أن أعين الظلمة في شيء من أمرهم وإذا
صح حديث ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم
فليبك من علم أنه من أعوانهم على نفسه وليقلع عما هو عليه قبل حلول رمسه ، ومما يقصم الظهر ما روي عن بعض الأكابر أن خياطا سأله فقال : أنا ممن يخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم؟ فقال : لا.
أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم فلا حول ولا قوة إلا باللّه تعالى العلي العظيم ، ويا حسرتا على من باع دينه بدنياه واشترى رضا الظلمة بغضب مولاه. هذا وقد بلغ السيل الزبى وجرى الوادي فطم على القرى.
[سورة القصص (28) : الآيات 18 إلى 29]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22)
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً وقوع المكروه به يَتَرَقَّبُ يترصد ذلك أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه وكان عليه السلام فيما يروى قد دفن القبطي بعد أن مات في الرمل ، وقيل : خائفا وقوع المكروه من فرعون يترقب نصرة ربه عز وجل ، وقيل : يترقب أن يسلمه قومه ، وقيل : يترقب هداية قومه ، وقيل : خائفا من ربه عز وجل يترقب المغفرة ، والكل كما ترى ، والمتبادر على ما قيل : إن في المدينة متعلق بأصبح واسم أصبح ضمير موسى عليه السلام

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 267
وخائفا خبرها وجملة يترقب خبر بعد خبر أو حال من الضمير في خائفا وقال أبو البقاء : يترقب حال مبدلة من الحال الأولى أو تأكيد لها أو حال من الضمير في خائفا ا ه. وفيه احتمال كون أصبح تامة واحتمال كونها ناقصة ، والخبر في المدينة ولا يخفى عليك ما هو الأولى من ذلك فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ وهو الإسرائيلي الذي قتل عليه السلام القبطي بسببه يَسْتَصْرِخُهُ أي يستغيثه من قبطي آخر برفع الصوت من الصراخ وهو في الأصل الصياح ثم تجوز به عن الاستغاثة لعدم خلوها منه غالبا وشاع حتى صار حقيقة عرفية ، وقيل : معنى يستصرخه يطلب إزالة صراخه ، وإذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ وجملة يستصرخه الخبر.
وجوز أبو البقاء كون الجملة حالا والخبر إذا ، والمراد بالأمس اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ ، وفي الحواشي الشهابية ان كان دخوله عليه السلام المدينة بين العشاءين فالأمس مجاز عن قرب الزمان وهو معرب لدخول أل عليه وذلك الشائع فيه عند دخولها ، وقد بني معها على سبيل الندرة كما في قوله :
وإني حبست اليوم والأمس قبله إلى الشمس حتى كادت الشمس تغرب
قالَ أي موسى عليه السلام لَهُ مُوسى أي للإسرائيلي الذي يستصرخه إِنَّكَ لَغَوِيٌّ ضال مُبِينٌ بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر أو لأن عادتك الجدال ، واختار هذا بعض الأجلة قال : إن الأول لا يناسب قوله تعالى : فَلَمَّا أَنْ أَرادَ إلخ لأن تذكر تسببه لما ذكر باعث الاحجام لا الاقدام. ورد بأن التذكر أمر محقق لقوله تعالى : خائِفاً يَتَرَقَّبُ والباعث له على ما ذكر شفقته على من ظلم من قومه وغيرته لنصرة الحق ، وقيل : إن الضمير في له والخطاب في إنك للقبطي ، ودل عليه قوله : يَسْتَصْرِخُهُ وهو خلاف الظاهر ، ويبعده الإظهار في قوله تعالى : فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما فإن الظاهر على ذاك به بدل الذي والبطش الأخذ بصولة وسطوة ، والتنوين في عدو للتفخيم أي عدو عظيم العداوة ولإرادة ذلك لم يضفه ، والمراد بالذي هو عدو لهما القبطي ، وقد كان القبط أعظم الناس عداوة لبني إسرائيل وقيل : عداوته لهما لأنه لم يكن على دينهما ، وقرأ الحسن وأبو جعفر «يبطش» بضم الطاء.
قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ قاله الإسرائيلي الذي يستصرخه على ما روي عن ابن عباس وأكثر المفسرين وكأنه توهم إرادة البطش به دون القبطي من تسمية موسى عليه السلام إياه غويا ، وقال الحسن : قاله القبطي الذي هو عدو لهما كأنه توهم من قوله للإسرائيلي إنك لغوي أنه الذي قتل القبطي بالأمس له ولا بعد فيه لأن ما ذكر إما إجمال لكلام يفهم منه ذلك أو لأن قوله ذلك لمظلوم انتصر به خلاف الظاهر فلا بعد للانتقال منه لذلك ، والذي في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما هو صريح في أن هذين الرجلين كانا من بني إسرائيل ، وأما الرجلان اللذان رآهما بالأمس فأحدهما إسرائيلي والآخر مصري ، ووجه أمر العداوة على ذلك بأن هذا الذي أراد عليه السلام أن يبطش به كان ظالما لمن استصرخه فيكون عدوا له وعاصيا للّه تعالى فيكون عدوا لموسى عليه السلام ، ويحتمل أن تكون عداوته لهما لكونه مخالفا لما هما عليه من الدين وإن كان إسرائيليا وفيها أيضا ما هو صريح في أن الظالم هو قائل ذلك.
وأنت تعلم أن هذه التوراة لا يلتفت إليها فيما يكذب القرآن أو السنة الصحيحة وهي فيما عدا ذلك كسائر أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب. نعم قد يستأنس بها لبعض الأمور ثم إن ما فيها من قصة موسى عليه السلام مخالف لما قصه اللّه تعالى منها هنا ، وفي سائر المواضع زيادة ونقصا وهو ظاهر لمن وقف عليها ، ولا يخفى الحكم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 268
في ذلك ، وقد خلت هنا عن ذكر مجيء مؤمن آل فرعون ونصحه لموسى عليه السلام وكذا عن ذكر ما يدل على قوله : إِنْ تُرِيدُ أي ما تريد إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وهو الذي يفعل كل ما يريد من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب ، وقيل : المتعظم الذي لا يتواضع لأمر اللّه تعالى وأصله على ما قيل : النخلة الطويلة فاستعير لما ذكر إما باعتبار تعاليه المعنوي أو تعظمه.
وأخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه قال : من قتل رجلين أي بغير حق فهو جبار ، ثم تلا هذه الآية ، وأخرج ابن أبي حاتم نحوه عن عكرمة وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن ، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه فهموا بقتل موسى عليه السلام فخرج مؤمن من آل فرعون هو ابن عم فرعون ليخبره بذلك وينصحه كما قال عز وجل :
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى الآية ، واسمه قيل : شمعان ، وقيل : شمعون بن إسحاق ، وقيل :
حزقيل ، وقيل : غير ذلك وكون هذا الرجل الجائي مؤمن آل فرعون هو المشهور ، وقيل : هو غيره ، ويسعى بمعنى يسرع في المشي وإنما أسرع لبعد محله ومزيد اهتمامه بإخبار موسى عليه السلام ونصحه ، وقيل : يسعى بمعنى يقصد وجه اللّه تعالى كما في قوله سبحانه : وَسَعى لَها سَعْيَها [الإسراء : 19] وهو وإن كان مجازا يجوز الحمل عليه لشهرته.
والظاهر أن مِنْ أَقْصَى صلة جاءَ وجملة يَسْعى صفة رَجُلٌ ، وجوز أن يكون مِنْ أَقْصَى في موضع الصفة لرجل ، وجملة يسعى صفة بعد صفة.
وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من رجل ، أما إذا جعل الجار والمجرور في موضع الصفة منه فظاهر لأنه وإن كان نكرة ملحق بالمعارف فيسوغ أن يكون ذا حال ، وأما إذا كان متعلقا بجاء فمنع ذلك الجمهور وأجازه سيبويه ، وجوز أن يعلق الجار والمجرور بيسعى وهو كما ترى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ وهم وجوه أهل دولة فرعون يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي يتشاورن بسببك وإنما سمي التشاور ائتمارا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ من المدينة قبل أن يظفروا بك إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ اللام للبيان كما في سقيا لك فيتعلق بمحذوف أعني - أعني - ولم يجوز الجمهور تعلقه بالناصحين لأن أل فيه اسم موصول ومعمول الصلة لا يتقدم الموصول ولا بمحذوف مقدم يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا وعند من جوز تقدم معمول الصلة إذا كان الموصول أل خاصة لكونها على صورة الحرف ، أو إذا كان المتقدم ظرفا للتوسع فيه ، أو قال إن أل هنا حرف تعريف لإرادة الثبوت يجوز أن يكون لك متعلقا بالناصحين أو بمحذوف يفسره ذلك.
واستدل القرطبي وغيره بالآية على جواز النميمة لمصلحة دينية فَخَرَجَ مِنْها أي من المدينة ممتثلا.
خائِفاً يَتَرَقَّبُ لحوق الطالبين قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ أي صرف وجهه تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي ما يقابل جانبها ، وتلقاء في الأصل مصدر انتصب على الظرفية. ومدين قرية شعيب سميت باسم مدين بن إبراهيم عليه السلام ولم يكن في سلطان فرعون ولذا توجه لقريته ، وقيل توجه إليها لمعرفته به ، وقيل لقرابته منه عليهما السلام ، وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان.
قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق المؤدّي إلى النجاة ، وإنما قال عليه السلام ذلك توكلا على اللّه تعالى وثقة بحسن توفيقه عز وجل ، وكان عليه السلام لا يعرف الطرق فعن ثلاث طرائق فأخذ في الوسطى وأخذ طالبوه في الأخريين وقالوا : المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلا بنياتها فبقي ثماني ليال وهو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 269
حاف لا يطعم إلا ورق الشجر وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام لم يصل حتى سقط خف قدميه
، وروي أنه عليه السلام أخذ يمشي من غير معرفة فهداه جبريل عليه السلام إلى مدين ، وعن السدي أنه عليه السلام أخذ في بنيات الطريق فجاءه ملك على فرس بيده عنزة فلما رآه موسى عليه السلام سجد له أي خضع من الفرق ، فقال : لا تسجد لي ولكن اتبعني فتبعه وانطلق حتى انتهى به إلى مدين.
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أي وصل إليه وورد. الورود بمعنى الدخول وبمعنى الشرب وليس شيء منهما مرادا والمراد بماء مدين بئر كانوا يسقون منها ، فهو مجاز من إطلاق الحال وإرادة المحل وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيره ومستقاه أُمَّةً مِنَ النَّاسِ أي جماعة كثيرة مختلفي الأصناف ، ويشعر بالقيد الأول التنوين ، وبالثاني من الناس لشموله للأصناف المختلفة وهي فائدة ذكره ، وقيل فائدته تحقير أولئك الجماعة وأنهم لئام لا يعرفون بغير جنسهم أو محتاجون إلى بيان أنهم من البشر يَسْقُونَ الظاهر أنهم كانوا يسقون مواشي مختلفة الأنواع بمعنى أن منهم من كان يسقي إبلا ومنهم من كان يسقي غنما وهكذا ، وتخصص سقيهم بنوع يحتاج إلى توقيف وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي في مكان أسفل من مكانهم ، وقيل من قربهم أو من سواهم أو مما يلي جهته إذا قدم عليهم وإلى هذا الأخير ذهب ابن عطية حيث قال : المعنى ووجد من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة امْرَأَتَيْنِ اسم إحداهما قيل ليا وقيل عبرا وقيل شرفا ، واسم الأخرى قيل صفوريا وقيل صفوراء وقيل صفيراء ، وفي الكشاف صفيراء اسم الصغرى واسم الكبرى صفراء تَذُودانِ كانتا تمنعان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء قاله ابن عباس وغيره ، وقيل تمنعان غنمهما عن التقدم إلى البئر لئلا تختلط بغيرها. وحكي ذلك عن الزجاج ، وقال قتادة : تمنعان الناس عن غنمهما ، وقال الفراء : تحبسان غنمهما عن أن تتفرق ، وفي جميع هذه الأقوال تصريح بأن المذود كان غنما ، والظاهر أن ذلك عن توقيف ، وقيل تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما وهذا كما ترى قالَ ما خَطْبُكُما أي ما مخطوبكما ومطلوبكما مما أنتما عليه من التأخر والذود ولم لا تباشران السقي كغيركما؟. وأصل الخطب مصدر خطب بمعنى طلب ثم استعمل بمعنى المفعول. وفي سؤاله عليه السلام إياهما دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعني.
وقرأ شمر «ما خطبكما» بكسر الخاء ، قال في البحر : أي من زوجكما؟. ولم لا يسقي هو؟. وهذه قراءة شاذة نادرة اه. ولا يخفى ما فيه وإباء الجواب عنه. وقال بعضهم : الخطب فيها بمعنى المخطوب والمطلوب كما في القراءة المتواترة ، ونظيره الحب بكسر الحاء المهملة بمعنى المحبوب قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ أي عادتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم بعد ريها عن الماء عجزا عن مساجلتهم لا أنا لا نسقي اليوم إلى تلك الغاية. وقرأ ابن مصرف «لا نسقي» بضم النون من الاسقاء ، وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، والحسن وقتادة ، والعربيان : ابن عامر ، وأبو عمرو «يصدر» بفتح الياء وضم الدال أي حتى يصدر الرعاة بأغنامهم. وسأل بعض الملوك عن الفرق بين القراءتين من حيث المعنى. فأجيب بأن قراءة يصدر بفتح الياء تدل على فرط حيائهما وتواريهما من الاختلاط بالأجانب ، وقراءة يصدر بضم الياء تدل على إصدار الرعاة المواشي ولم يفهم منها صدورهم عن الماء. وقرىء بزاي خالصة وبحرف بين الصاد والزاي ، وقرىء الرعاء بضم الراء والمعروف في صيغ الجمع فعال بكسر الفاء كما في قراءة الجمهور ، وأما فعال بالضم فعلى خلاف القياس لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وصراخ ، وإذا استعمل في معنى الجمع كما في القراءة الشاذة فقيل هو اسم جمع لا جمع وقيل إنه جمع أصلي وقيل إنه جمع ولكن الأصل فيه الكسر ، والضم فيه بدل من الكسر كما أنه بدل من الفتح في نحو سكارى ، والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في شرح درة الغواص والمشهور منها على ما قال ثمانية ، وقد نظمها صدر الأفاضل لا الزمخشري على الأصح بقوله :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 270
ما سمعنا كلما غير ثمان هي جمع وهي في الوزن فعال «1»
فرباب وفرار وتؤام وعرام وعراق ورخال وظؤار «2»
جمع ظئر وبساط ، جمع بسط هكذا فيما يقال.
وذهب أبو حيان إلى أن الرعاء في قراءة الجمهور ليس بقياس أيضا قال : لأنه جمع راع وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة كقاض وقضاة وما سوى جمعه هذا فليس بقياس ، وقرأ عياش عن أبي عمرو الرعاء بفتح الراء وهو مصدر أقيم مقام الصفة فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه ، وجوز أن يكون مما حذف منه المضاف أي أهل الرعاء وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ إبداء منهما للعذر له عليه السلام في توليهما للسقي بأنفسهما كأنهما قالتا : إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم وما لنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء ، وذكر بعضهم أنه عليه السلام أخرج السؤال على ما يقتضيه كرمه ورحمته بالضعفاء حيث سألهما عن مطلوبهما من التأخر والذود قصدا لأن يجاب بطلب المعونة إلا أنهما لجلالة قدرهما حملتا قوله على ما يجاب عنه بالسبب وفي ضمنه طلب المعونة لأن إظهارهما العجز ليس إلا لذلك ، وقيل : ليس في الكلام ما يدل على ضعفهما بل فيه أمارات على حيائهما وسترهما ولو أرادتا إظهار العجز لقالتا لا نقدر على السقي ومعنى وأبونا شيخ كبير أنا مع حيائنا إنما تصدينا لهذا الأمر لكبره وضعفه وإلا كان عليه أن يتولاه ، ولعل الأولى أن يقال : إنهما أرادتا إظهار العجز عن المساجلة للضعف ولما جبلا عليه من الحياء ، والكلام وإن لم يكن فيه ما يدل على ضعفهما فيه ما يشير إليه لمن له قلب ، ويفهم من بيان معنى جوابهما المار آنفا أن جملة أبونا شيخ كبير عطف على مقدر ، وجوز أن تكون حالا أي نترك السقي حتى يصدر الرعاء والحال أبونا شيخ كبير وأبوهما عند أكثر المفسرين شعيب عليه السلام.
فإن قيل كيف ساغ لنبي اللّه تعالى أن يرضى لابنتيه بسقي الغنم؟ فالجواب : أن الأمر في نفسه ليس بمحظور فالدين لا يأباه ، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك والعادات متباينة فيه وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحال حال ضرورة ، وذهب جماعة إلى أنه ليس بشعيب عليه السلام فاخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة أنه قال كان صاحب موسى عليه السلام أثرون ابن أخي شعيب النبي عليه السلام ، وحكى هذا القول عنه أبو حيان أيضا إلا أنه ذكر هارون بدل أثرون وحكاه أيضا عن الحسن إلا أنه ذكر بدله مروان ، وحكى الطبرسي عن وهب وسعيد بن جبير نحو ما حكاه أبو حيان عن أبي عبيدة ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال بلغني أن أبا الامرأتين ابن أخي شعيب واسمه رعاويل وقد أخبرني من أصدق أن اسمه في الكتاب يثرون كاهن مدين والكاهن حبر ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال الذي استأجر موسى عليه السلام يثرب صاحب مدين ، وجاء في رواية أخرى عنه أن اسمه يثرون وهو موافق لما نقل عن الكتاب من الاسم ولم يذكر في هاتين الروايتين نسبته إلى شعيب عليه السلام فيحتمل أن المسمى بما فيها ابن
___________
(1) الرباب جمع ربي الشاة الحديثة العهد بالنتاج. والفرار جمع فرير ولد البقرة الوحشية ، والتؤام جمع توأم المولود مع قرينه. والعرام بالعين والراء المهملتين بمعنى العراق وهو جمع عرق العظم الذي عليه بقية لحم. والرخال جمع رخلة بالكسر وبهاء ، وككتف الأنثى من أولاد الضأن ا ه منه.
(2) والظؤار جمع ظئر المرضع ، والبساط جمع بسط الناقة التي تخلى مع ولدها ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 271
أخيه ويحتمل أنه رجل أجنبي عنه فقد قيل : إن أباهما ليس ذا قرابة من شعيب عليه السلام وإنما هو رجل صالح ، وحكى الطبرسي عن بعضهم أن يثرون اسم شعيب وقد أخبرني بعض أهل الكتاب بذلك أيضا إلا أنه قال هو عندنا يثرو بدون نون في آخره والذي رأيته أنا في الفصل الثاني من السفر الثاني من توراتهم ما ترجمته ولما سمع فرعون بهذا الخبر أي خبر القتل طلب أن يقتل موسى فهرب موسى من بين يديه وصار إلى بلد مدين وجلس على بئر ماء وكان لإمام مدين سبع بنات فجاءت ودلت وملأت الأحواض لسقي غنم أبيهن فلما جاء الرعاة فطردوهن قام موسى فأغاثهن وسقى غنمهن فلما جئن إلى رعوايل أبيهن قال ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم إلخ ، وفي أول الفصل الثالث منه ما ترجمته وكان موسى يرعى غنم يثرو حمية أمام مدين إلخ فلا تغفل ، وفي البحر عند الكلام في تفسير إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ قيل : كان عمها صاحب الغنم وهو المزوج عبرت عنه بالأب إذ كان بمثابته والظاهر أن هذا القائل يقول : إنهما عنتا بالأب هنا العم ، وأنت تعلم أن هذا وأمثاله مما تقدم مما لا يقال من قبل الرأي فالمدار في قبول شيء من ذلك خبر يعول عليه والأخبار التي وقفنا عليها في هذا المطلب مختلفة ولم يتميز عندنا ما هو الأرجح فيما بينها وكأني بك تعول على المشهور الذي عليه أكثر المفسرين وهو أن أباهما على الحقيقة شعيب عليه السلام إلى أن يظهر لك ما يوجب العدول عنه والظاهر من قوله تعالى : فَسَقى لَهُما أنه عليه السلام سارع إلى السقي لهما رحمة عليهما ومنشأ الترحم كونهما على الذود وكون الأمة من الناس على السقي ولهذا ذهب الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف إلى أن حذف المفعول في يسقون وتذودان للقصد إلى نفس الفعل وتنزيله منزلة اللازم أي يصدر منهم السقي ومنهما الذود وقال : إن كون المسقي والمذود إبلا أو غنما خارج عن المقصود بل يوهم خلافه إذ لو قيل : أو قدر يسقون إبلهم وتذودان
غنمهما لتوهم أن الترحم عليهما ليس من جهة أنهما على الذود والناس على السقي بل من جهة أن مذودهما غنم ومسقيهم إبل بناء على أن محط الفائدة في الكلام البليغ هو القيد الأخير وخالفهما في ذلك السكاكي فذهب إلى أن حذف المفعول من يسقون وتذودان لمجرد الاختصار والمراد يسقون مواشيهم وتذودان غنمهما وكذا سائر الأفعال المذكورة في هذه الآية ، واختاره العلامة الثاني فقال : إن هذا أقرب إلى التحقيق لأن الترحم لم يكن من جهة صدور الذود عنهما وصدور السقي من الناس بل من جهة ذودهما غنمهما وسقي الناس مواشيهم حتى لو كانتا تذودان غير غنمهما بل مواشيهم وكان الناس يسقون غير مواشيهم بل غنمهما مثلا لم يصح الترحم ووافقه في ذلك السيد السند وقال في تحقيق المذهبين : إن الشيخين اعتبرا المفعول الذي نزل الفعلان بالنسبة إليه هو الإبل والغنم مثلا أي النوعين من المواشي بدون الإضافة كما يدل عليه قولهما إن كون المسقي والمذود إبلا أو غنما إلخ وكل منهما مقابل للآخر في نفسه وجعلا ما يضاف إليه كل في القول أو التقدير المفروض خارجا عن المفعول من حيث إنه مفعول غير ملحوظ معه فالمفعول عندهما ليس إلا مطلق الإبل والغنم فلو قدر المفعول لأدّى إلى فساد المعنى فإنهما لو كانتا تذودان إبلا لهما على سبيل الفرض لكان الترحم باقيا بحاله لأنه إنما كان لعدم قدرتهما على السقي ، والسكاكي نظر إلى أن المفعول هو الغنم المضافة إليهما والمواشي المضافة إليهم وكل واحد منهما يقابل الآخر من حيث إنه مضاف فلو لم يقدر المفعول يفسد المعنى وهذا أدق نظرا وأصح معنى انتهى ، وتعقبه المولى عبد الحكيم السالكوني بقوله :
وفيه بحث لأن عدم التقدير إن قصد به التعميم أي يسقون مواشيهم وغير مواشيهم وتذودان غنمهما وغير غنمهما يلزم الفساد أما إذا قصد به مجرد السقي والذود من غير ملاحظة التعلق بالمفعول كما في قوله تعالى : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر : 9] فلا لأن كون طبيعة السقي والذود منشأ الترحم لا يقتضي أن يكون عند تعلقه بمفعول مخصوص كذلك حتى يلزم أن يكون سقي غير مواشيهم وذود غير غنمهم محلا للترحم فتدبر ، فإن منشأ ما ذكره السكاكي عدم الفرق بين الإطلاق والعموم انتهى ، ولا يخفى أنه ينبغي أن يضم إلى طبيعة السقي والذود بعض

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 272
الحيثيات كحيثية تحقق طبيعة السقي من أقوياء متغلبين وتحقق طبيعة الذود من امرأتين ضعيفتين مستورتين في موضع هو مجتمع الناس للسقي وإلا فالظاهر أن مجرد طبيعة السقي والذود لا تصلح منشأ الترحم.
وقال بعض الأجلة : ترك المفعول في يسقون ويذودان لأن الغرض هو الفعل لا المفعول إذ هو يكفي في البعث على سؤال موسى عليه السلام وما زاد على المقصود لكنة وفضول ، وأما البعث على المرحمة فليس هذا موضعه فإن له قولهما : لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ومن لم يفرق بين البعثين قال ما قال ورد بأن منشأ السؤال هو المرحمة لحالهما كما صرحوا به فسؤاله عليه السلام للتوسل إلى إعانتهما وبرهما لتفرس ضعفهما وعجزهما ولولاه لم يكن للتكلم مع الأجنبية داع ، وقولهما : لا نَسْقِي إلخ باعث لمزيد المرحمة لقبولها للزيادة والنقص ، وتعقب بأنه إنما يتم لو سلم أنه عليه السلام تفرس ضعفهما وعجزهما لأمور شاهدها ، وإلا فالذود لا يدل على ذلك إذ يتحقق للضعف ولغيره ، وقد نقل الخفاجي كلام جمع من الفضلاء في هذا المقام منه ما ذكرنا عن بعض الأجلة ورده واعترض بما اعترض ، ثم قال : وأما ما اعترض به على المرحمة فخيال فاسد ومحط كلامه عليه الرحمة الانتصار لما ذهب إليه الشيخان وقد انتصر لهما ، وقال بقولهما غير واحد.
واعترض بعضهم على تقدير المفعول مضافا بأن الإضافة تشعر بالملك ولا ملك لأحد من الأمة والامرأتين فإن الظاهر في الأمة أنهم كانوا رعاء والأغلب أن الرعاء لا يملكون ، والظاهر أن ما في يد الامرأتين كان ملكا لأبيهما ، ولا يخفى أن هذا الاعتراض على طرف الثمام ، واللّه تعالى أعلم ، هذا والظاهر أنه عليه السلام سقى لهما من البئر التي عليها الناس ويدل عليه ما
روي أنه عليه السلام دفعهم عن الماء إلى أن سقى لهما وكذا ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : إن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليها أمة من الناس يسقون فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال فإذا هو بامرأتين قال ما خطبكما فحدثناه فأتى الصخرة فرفعها وحده ثم استسقى فلم يستسق إلا دلوا واحدا حتى رويت الغنم
لكن هذا مخالف لما يقتضيه ظاهر الآية من أنه عليه السلام حين ورد ماء مدين وجد الأمة يسقون ووجد الامرأتين تذودان وهذا ظاهر في مقارنة وجدانهما لوجدانهم وذودهما لسقيهم ولا يكاد يفهم منه أن وجدانهما بعد فراغهم من السقي كما يقتضيه الخبر فلعل الخبر غير صحيح ، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار وكأن من يقول بصحته يمنع اقتضاء الآية كون وجدان الأمة يسقون ووجدان الامرأتين تذودان في أول وقت الورود فإنه يقال : لما ورد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم المدينة وجب الصيام ووجبت الزكاة مثلا مع أن وجوب كل ليس في أول وقت الورود فيجوز أن يكون عليه السلام قد وجد أمة يسقون أول وقت وروده وبعد أن فرغوا من السقي ووضعوا الصخرة على البئر وجد امرأتين تذودان فخاطبهما بما خطبكما فكان ما كان ويحمل ذودهما على منع غنمهما عن التقدم إلى البئر لعلمهما أنها قد أطبق عليها صخرة لا يقدرون على رفعها ويتكلف في توجيه الجواب ما يتكلف أو يقول الآية على ظاهرها ويسلم اقتضاءه اتحاد الوجدانين والذود والسقي بالزمان ويمنع أن يكون في الخبر ما ينافي ذلك لجواز أن يكون المعنى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان فلما فرغوا أعادوا الصخرة فإذا بالامرأتين حاضرتان عنده بين يديه فسألهما فحدثناه إلخ فما بعد الفراغ من السقي ليس وجدان الامرأتين تذودان وإنما هو حضورهما بين يديه والكل كما ترى وكأني بك تعتمد عدم صحة الخبر.
وقيل : إنه عليه السلام سقى لهما من بئر أخرى ،
فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في خبر طويل أنه عليه السلام لما سأل الامرأتين وأجابتا قال : فهل قربكما ماء؟ قالتا : لا إلا بئر عليها

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 273
صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر. قال : فانطلقا فأريانيها. فانطلقا معه فقال بالصخرة بيده فنحاها ثم استقى لهما سجلا واحدا فسقى الغنم ثم أعاد الصخرة إلى مكانها
ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ الذي كان هناك وهو على ما روي عن ابن مسعود ظل شجرة قيل : كانت سمرة ، وقيل : هو ظل جدار لا سقف له.
وقيل : إنه عليه السلام جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس ، وهو المراد بقوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وهو كما ترى فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ أي لأي شيء تنزله من خزائن كرمك إليّ.
مِنْ خَيْرٍ جل أو قل فَقِيرٌ أي محتاج وهو خبر إن وبه يتعلق لما ، ولما أشرنا إليه من تضمنه معنى الاحتياج عدي باللام ، وجوز أن يكون مضمنا معنى الطلب واللام للتقوية ، وقيل : يجوز أن تكون للبيان فتتعلق بأعني محذوفا ، و(ما) على جميع الأوجه نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها ، والرابط محذوف ، ومن خير بيان لها ، والتنوين فيه للشيوع ، والكلام تعريض لما يطعمه لما ناله من شدة الجوع والتعبير بالماضي بدل المضارع في أنزلت للاستعطاف كالافتتاح برب ، وتأكيد الجملة للاعتناء ، ويدل على كون الكلام تعريضا لذلك ما
أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما سقى موسى عليه السلام للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر».
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : «لقد قال موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع»
وفي رواية أخرى عنه «أنه عليه السلام سأل فلقا من الخبز يشد بها صلبه من الجوع وكان عليه السلام قد ورد ماء مدين»
وأنه كما روى أحمد في الزهد وغيره عن الحبر ليتراءى خضرة البقل من بطنه من الهزال وإلى كون الكلام تعريضا لذلك ذهب مجاهد وابن جبير ، وأكثر المفسرين وكان علي كرّم اللّه تعالى وجهه يقول : واللّه ما سأل إلا خبزا يأكله
، وجوز أن تكون اللام للتعليل وما موصولة ومن للبيان والتنكير في خير لإفادة النوع والتعظيم ، وصلة فقير مقدرة أي إني فقير إلى الطعام أو من الدنيا لأجل الذي أنزلته إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين فقد كان عليه السلام عند فرعون في ملك وثروة وليس الغرض عليه التعريض لما يطعمه ولا التشكي والتضجر بل إظهار التبجح والشكر على ذلك ، ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر.
وأنت تعلم أن هذا خلاف المأثور الذي عليه الجمهور ، ومثله في ذلك ما روي عن الحسن أنه عليه السلام سأل الزيادة في العلم والحكمة ولا يخلو أيضا عن بعد. وجاء عن ابن عباس أن الامرأتين سمعتا ما قال فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما فسألهما فأخبرتاه فقال لإحداهما : انطلقي فادعيه فَجاءَتْهُ إِحْداهُما قيل هي الكبرى منهما وقيل الصغرى وكانتا على ما في بعض الروايات توأمتين ولدت إحداهما قبل الأخرى بنصف نهار. وقرأ ابن محيصن «حداهما» بحذف الهمزة تخفيفا على غير قياس مثل ويلمه في ويل أمه تَمْشِي حال من فاعل جاءت.
وقوله تعالى : عَلَى اسْتِحْياءٍ متعلق بمحذوف هو حال من ضمير تمشي أي جاءته ماشية كائنة على استحياء فمعناه أنها كانت على استحياء حالتي المشي والمجيء معا لا عند المجيء فقط ، وتنكير استحياء للتفخيم. ومن هنا قيل جاءت متخفرة أي شديدة الحياء. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد اللّه بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أنه قال جاءت مستترة بكم درعها على وجهها وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفا عليه وفي رفعه إلى عمر رواية أخرى صححها الحاكم بلفظ واضعة ثوبها على وجهها قالَتْ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيئها إياه عليه السلام كأنه قيل : فماذا قالت له عليه السلام؟ فقيل قالت :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 274
إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا أي جزاء سقيك على أن ما مصدرية ولا يجوز أن تكون موصولة لأن ما يستحق عليه الأجر فعله لا ما سقاه إذ هو الماء المباح وأسندت الدعوة إلى أبيها وعللتها بالجزاء لئلا يوهم كلامها ريبة. وفيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة ما لا يخفى.
روي أنه عليه السلام أجابها فقام معها فقال لها امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ففعلت.
وفي رواية أن قال لها كوني ورائي فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ودليني على الطريق يمينا أو يسارا
، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم أنها مشت أولا أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه السلام.
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي ما جرى عليه من الخبر المقصوص ، فإنه مصدر سمي به المفعول كالعلل قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يريد فرعون وقومه ، وقال ذلك لما أنه لا سلطان لفرعون بأرضه ، ويحتمل أنه قاله عن إلهام أو نحوه ، واختلف في الداعي له عليه السلام إلى الإجابة فقيل الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أن موسى عليه السلام إنما أجاب المستدعية من غير تلعثم ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر برأيه لا طمعا بما صرحت به من الأجر ، ألا ترى إلى ما
أخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال : لما دخل موسى على شعيب عليهما السلام إذا هو بالعشاء فقال له شعيب : كل. قال موسى. أعوذ باللّه تعالى. قال : ولم ألست بجائع؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وإنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا قال : لا واللّه ، ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل ،
وقيل : الداعي له ما به من الحاجة وليس بمستنكر منه عليه السلام أن يقبل الأجر لإضرار الفقر والفاقة.
فقد أخرج الإمام أحمد عن مطرف بن الشخير قال أما واللّه لو كان عند نبي اللّه تعالى شيء ما تبع مذقتها ولكن حمله على ذلك الجهد ، واستدل بعضهم على أن ذهابه عليه السلام رغبة بالجزاء بما روي عن عطاء بن السائب أنه عليه السلام رفع صوته بقوله : رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ليسمعهما ، ولذلك قيل له ليجزيك إلخ ، وأجيب بأنه ليس بنص لاحتمال أنه إنما فعله ليكون ذريعة إلى استدعائه لا إلى استيفاء الأجر ، ولا ضير فيما أرى أن يكون عليه السلام قد ذهب رغبة في سد جوعته وفي الاستظهار برأي الشيخ ومعرفته ، ولا أقول إن الرغبة في سد الجوعة رغبة في استيفاء الأجر على عمل الآخرة أو مستلزمة لها ، ودعوى أن الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أنه عليه السلام إنما أجاب للتبرك والاستظهار بالرأي لا تخلو عن خفاء ، وعمله عليه السلام بقول امرأة لأنه من باب الرواية ، ويعمل بقول الواحد حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى إذا كان كذلك ، ومماشاته امرأة أجنبية مما لا بأس به في نظائر تلك الحال مع ذلك الاحتياط والتورع قالَتْ إِحْداهُما وهي التي استدعته إلى أبيها وهي التي زوجها من موسى عليهما السلام يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي لرعي الأغنام والقيام بأمرها ، وأصل الاستئجار كما قال الراغب طلب الشيء بالأجرة ثم عبر به عن تناوله بها وهو المراد هنا.
وكذا في قوله سبحانه : إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ وهو تعليل جار مجرى الدليل على أنه عليه السلام حقيق بالاستئجار المفهوم من طلب استئجاره ، وبعضهم رتب من الآية قياسا من الشكل الأول هكذا هو قوي أمين وكل قوي أمين لائق بالاستئجار ينتج هو لائق بالاستئجار وهو المدعى المفهوم من الطلب ، وتعقب بأن هذا ظاهر لو كان خير خبرا وليس هو كذلك ، وأجيب بأن المعنى على ذلك إلا أنه جعل اسما للاهتمام بأمر الخيرية لأنها أم الكمال المبني عليها غيرها. وفي الكشاف فإن قيل : كيف جعل خير من استأجرت اسما لإن والقوي الأمين خبرا؟ قلت : هو مثل قوله :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 275
ألا إن خير الناس حيّا وهالكا أسير ثقيف عندهم في السلاسل
في أن العناية هي سبب التقديم وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق أن يكون خبرا اسما وأراد بذلك على ما قيل : أحقية كون خير خبرا من حيث الصناعة ، ووجه بأن خيرا مضاف إلى من وهي نكرة فكذا هو والإخبار عن النكرة بالمعرفة خلاف الظاهر ، وإن جوزوه في اسمي التفضيل والاستفهام ، ولو جعلت موصولة فإضافة أفعل التفضيل لفظية لا تفيد تعريفا كما هو أحد قولين للنحاة فيها ، وعلى القول بإفادتها التعريف يقال : المعرف باللام أعرف من الموصول وما أضيف إليه. وتعقب بأن تعريف القوي الأمين للجنس وما فيه تعريف الجنس قد ينزل منزلة النكرة ، وأجيب بأن الموصول إذا أريد به الجنس كذلك وهنا تصح هذه الإرادة ليجيء التعدد الذي يقتضيه خير ، وحيث كان المضاف إلى شيء دونه يكون القوي الأمين أحق بالاسمية وخير أحق بالخبرية. وإذ قلت بأن أحقية الخبرية لأن سوق التعليل يقتضيها إلا أنه عدل إلى الاسمية للاهتمام خلصت من كثير من المناقشات. وقال لي الشيخ خليل أفندي الآمدي يوم اجتمعت به وأنا شاب عند وروده إلى بغداد فجرى بحث في هذه الآية الكريمة : إن القياس المأخوذ منها من الشكل الثاني هكذا موسى القوي الأمين وخير من استأجرت القوي الأمين ينتج موسى خير من استأجرت. فقلت : أظهر ما يرد على هذا أن شرط إنتاج الشكل الثاني بحسب الكيفية اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب بأن تكون إحداهما موجبة والأخرى سالبة وهو منتف فيما ذكرت فسكت وأعرض عن البحث حذرا من الفضيحة.
وأنت تعلم أن أدلة القرآن لا يلزم فيها الترتيب الذي وضعه المنطقيون فذلك صناعة أغنى اللّه تعالى العرب عنها ، وما ذكر من أن جعل خير اسما للاهتمام هو ما اختاره غير واحد ، وجوز الطيبي أن يكون تقديمه وجعله اسما من باب القلب للمبالغة ، والظاهر أن أل في القوي الأمين للجنس فيندرج موسى عليه السلام وهو وجه الاستدلال. وذكر الاستئجار بلفظ الماضي مع أن الظاهر ذكره بلفظ المضارع للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وجوز الطيبي أن يكون المراد بالقوي الأمين موسى عليه السلام فكأنها قالت : إن خير من استأجرت موسى ، والأول أولى. ثم إن كلامها هذا كلام حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول : استأجره لقوته وأمانته ، ولعمري إن مثل هذا المدح من المرأة للرجل أجمل من المدح الخاص وأبقى للحشمة وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها أن يزوجها منه ، ومعرفتها قوته عليه السلام لما رأت من دفعه الناس عن الماء وحده حتى سقى لهما ، ومعرفتها أمانته من عدم تعرضه لها بقبيح ما مع وحدتها وضعفها. وروي أنها لما قالت ما قالت قال لها أبوها : ما أعلمك بقوته؟
فذكرت له أنه عليه السلام أقل صخرة على البئر لا يقلها كذا وكذا وقد مر في حديث عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال والنقل في عدد من يقلها مضطرب فأقل ما قالوا فيه سبعة وأكثره مائة ، وقد مر ما يعلم منه حال الخبر في أصل الإقلال ، وذكرت أنه نزع وحده بدلو لا ينزع بها إلا أربعون. وقال : ما أعلمك بأمانته؟ فذكرت ما كان من أمره إياها بالمشي وراءه وأنه صوب رأسه حتى بلغته الرسالة ، وقدمت وصف القوة مع أن أمانة الأجير لحفظ المال أهم في نظر المستأجر لتقدم علمها بقوته عليه السلام على علمها بأمانته أو ليكون ذكر وصف الأمانة بعده من باب الترقي من المهم إلى الأهم ، واستدل بقولها استأجره على مشروعية الإجارة عندهم وكذا كانت في كل ملة وهي من ضروريات الناس ومصلحة الخلطة خلافا لابن علية والأصم حيث كانا لا يجيزانها وهذا ما انعقد عليه الإجماع وخلافهما خرق له فلا يلتفت إليه وهذا لعمري غريب منهما إن كانا لا يجيزان الإجارة مطلقا ، ورأيت في الإكليل أن في قوله تعالى : أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي إلخ رد على من منع الإجارة المتعلقة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 276
بالحيوان عشر سنين لأنه يتغير غالبا فلعل الإجارة التي لا يجيزانها نحو هذه الإجارة والأمر في ذلك أهون من عدم إجارة الإجارة مطلقا كما لا يخفى.
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ استئناف بياني كأنه قيل : فما قال أبوها بعد أن سمع كلامها؟ فقيل : قال إني. وفي تأكيد الجملة إظهار لمزيد الرغبة فيما تضمنته الجملة ، وفي قوله : هاتَيْنِ إيماء إلى أنه كانت له بنات أخر غيرهما ، وقد أخرج ابن المنذر عن مجاهد أن لهما أربع أخوات صغار ، وقال البقاعي : إن له سبع بنات كما في التوراة وقد قدمنا نقل ذلك. وفي الكشاف فيه دليل على ذلك.
واعترض بأنه لا دلالة فيه على ما ذكر إذ يكفي في الحاجة إلى الإشارة عدم علم المخاطب بأنه ما كانت له غيرهما. وتعقب بأنه على هذا تكفي الإضافة العهدية ولا يحتاج إلى الإشارة فهذا يقتضي أن يكون للمخاطب علم بغيرهما معهود عنده أيضا ، وإنما الإشارة لدفع إرادة غيرهما من ابنتيه الأخريين المعلومتين له من بينهن ونعم ما قال الخفاجي لا وجه للمشاحة في ذلك فإن مثله زهرة لا يحتمل الفرك.
وقرأ ورش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو «أنكحك احدى» بحذف الهمزة ، وقوله تعالى : عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي في موضع الحال من مفعول أُنْكِحَكَ أي مشروطا عليك أو واجبا أو نحو ذلك ، ويجوز أن يكون حالا من فاعله قاله أبو البقاء ، وتأجرني من أجرته كنت له أجيرا كقولك أبوته كنت له أبا ، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى مفعول واحد ، وقوله تعالى : ثَمانِيَ حِجَجٍ ظرف له ، ويجوز أن يكون تأجرني بمعنى تثيبني من أجره اللّه تعالى على ما فعل أي أثابه فيتعدى إلى اثنين ثانيهما هنا ثماني حجج. والكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي تثيبني رعية ثماني حجج أي تجعلها ثوابي وأجري على الإنكاح ويعني بذلك المهر.
وجوز على هذا المعنى أن يكون ظرفا لتأجرني أيضا بحذف المفعول أي تعوضني خدمتك أو عملك في ثماني حجج ، ونقل عن المبرد أنه يقال : أجرت داري ومملوكي غير ممدود وآجرت ممدودا ، والأول أكثر فعلى هذا يتعدى إلى مفعولين ، والمفعول الثاني محذوف ، والمعنى على أن تأجرني نفسك ، وقد يتعدى إلى واحد بنفسه ، والثاني بمن فيقال : أجرت الدار من عمرو ، وظاهر كلام الأكثرين أنه لا فرق بين آجر بالمد وأجر بدونه ، وقال الراغب : يقال أجرت زيدا إذا اعتبر فعل أحدهما ، ويقال : آجرته إذا اعتبر فعلاهما وكلاهما يرجعان إلى معنى ، ويقال كما في القاموس أجرته أجرا وآجرته إيجارا ومؤاجرة.
وفي تحفة المحتاج آجره بالمد إيجارا وبالقصر يأجره بكسر الجيم وضمها أجرا ، وفيها أن الإجارة بتثليث الهمزة والكسر أفصح لغة اسم للأجرة ثم اشتهرت في العقد ، والحجج جمع حجة بالكسر السنة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً في الخدمة والعمل فَمِنْ عِنْدِكَ أي فهو من عندك من طريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام إتمام العشر والمناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال ، واشتقاق المشقة وهي ما يصعب تحمله من الشق بفتح الشين وهو فصل الشيء إلى شقين فإن ما يصعب عليك يشق عليك رأيك في أمره لتردده في تحمله وعدمه سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد ومراد شعيب عليه السلام بالاستثناء التبرك به وتفويض أمره إلى توفيقه تعالى لا تعليق صلاحه بمشيئته سبحانه بمعنى أنه إن شاء اللّه تعالى استعمل الصلاح وإن شاء عز وجل استعمل خلافه لأنه لا يناسب المقام.
وقيل : لأن صلاحه عليه السلام متحقق فلا معنى للتعليق ، ونحوه قول الشافعي : أنا مؤمن إن شاء اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 277
قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مبتدأ وخبر أي ذلك الذي قلت وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم وثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا لا أنا عما شرطت عليّ ولا أنت عما شرطت على نفسك ، وقوله سبحانه : أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ أي أطولهما أو أقصرهما قَضَيْتُ أي وفيتك بأداء الخدمة فيه فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ تصريح بالمراد وتقرير لأمر الخيار أي لا عدوان كائن عليّ بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين وتعميم انتفاء العدوان بكلا الأجلين بصدد المشارطة مع تحقق عدم العدوان في أطولهما رأسا للقصد إلى التسوية بينهما في الانتفاء أي كما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان أو أيما الأجلين قضيت فلا إثم كائن عليّ كما لا إثم عليّ في قضاء الأطول لا إثم عليّ في قضاء الأقصر فقط.
وقرأ عبد اللّه «أي الأجلين ما قضيت» فما مزيدة لتأكيد القضاء أي أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له كما أنها في القراءة الأولى مزيدة لتأكيد إبهام أي وشياعها ، وجعلها نافية لا يخفى ما فيه وقرأ الحسن ، والعباس عن أبي عمرو «أيما» بتسكين الياء من غير تشديد كما في قول الفرزدق :
تنظرت نصرا والسماكين أيهما عليّ من الغيث استهلت مواطره
وأصلها المشددة وحذفت الياء تخفيفا وهي مما عينه واو ولامه ياء ، ونص ابن جني على أنها من باب أويت قياسا واشتقاقا وقد نقل كلامه في بيان ذلك العلامة الطيبي في شرح الكشاف فليرجع إليه من شاء.
وقرأ أبو حيوة وابن قطيب «فلا عدوان» بكسر العين وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من الشروط الجارية بيننا وَكِيلٌ أي شهيد على ما روي عن ابن عباس ، وقال قتادة : حفيظ ، وفي البحر الوكيل الذي وكل إليه الأمر ولما ضمن معنى شاهد ونحوه عدي بعلى ومن هنا قيل : أي شاهد حفيظ ، والمراد توثيق العهد وأنه لا سبيل لأحد منهما إلى الخروج عنه أصلا ، وهذا بيان لما عزما عليه واتفقا على إيقاعه إجمالا من غير تعرض لبيان مواجب عقدي النكاح والإجارة في تلك الشريعة تفصيلا ، وقول شعيب عليه السلام : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إلخ ظاهر في أنه عرض لرأيه على موسى عليه السلام واستدعاء منه للعقد لا إنشاء وتحقيق له بالفعل ، ولم يجزم القائلون باتفاق الشريعتين في ذلك بكيفية ما وقع ، فقيل لعل النكاح جرى على معينة بمهر غير الخدمة المذكورة وهي إنما ذكرت على طريق المعاهدة لا المعاقدة فكأنه قال : أريد أن أنكحك إحدى ابنتي بمهر معين إذا أجرتني ثماني حجج بأجرة معلومة فما تقول في ذلك فرضي فعقد له على معينة منهما ، فلا يرد أن الإبهام في المرأة المزوجة غير صحيح ، وعلى الخدمة ومنافع الحر عندنا أيضا خصوصا إذا قيل : إن مدتها غير معينة وهي أيضا ليست للزوجة بل لأبيها فكيف صح كونها مهرا ، وقيل : يجوز أن يكون جرى على معينة بمهر الخدمة المذكورة ولا فساد في جعل الرعية مهرا فإنه جائز عند الشافعي عليه الرحمة وكذا عند الحنفية كما يفهم من الهداية ونقل عن صاحب المدارك أنه قال : التزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه قيام بأمر الزوجية لا خدمة صرفة ، وفي دعوى الإجماع طن أريد به إجماع الأئمة مطلقا بحث ، ففي المحيط البرهاني لو تزوجها على أن يرعى غنمها سنة لم يجز على رواية الأصل ، وروى ابن سماعة عن محمد أنه يجوز في الرعي ، وفي الانتصاف مذهب مالك في ذلك على ثلاثة أقوال المنع والكراهة والجواز ، ويقال على الجواز كانت الغنم للمزوجة لا
لأبيها وليس في المدة إبهام إذ هي الحجج الثمان والزائدة قد وعد موسى عليه السلام الوفاء به إن تيسر له على أن الإبهام في المهر يجوز كما هو مبين في الفروع ، وقال بعضهم : يجوز أن تكون الشرائع مختلفة في أمر الإنكاح فلعل إنكاح المبهمة جائز في شريعة شعيب عليه السلام ويكون التعيين للولي أو للزوج ، وكذا جعل خدمة الولي صداقا ونحو ذلك مما لا يجوز في شريعتنا.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 278
ولا يرد أن ما قص من الشرائع السالفة من غير إنكار فهو شرع لنا لأنه على الإطلاق غير مسلم. وفي الإكليل عن مكي أنه قال : في الآية خصائص في النكاح. منها أنه لم يعين الزوجة ، ولا حد أول المدة ، وجعل المهر إجارة ، ودخل ولم ينفذ شيئا. والذي يميل إليه القلب اختلاف الشرائع في مواجب النكاح وربما يستأنس له بما في الفصل التاسع والعشرين من السفر الأول من التوراة أن يعقوب عليه السلام مضى إلى بلد أهل الشرق فإذا بئر في الصحراء على فمها صخرة عظيمة وعندها ثلاثة قطعان من الغنم فقال لرعاتها : من أين أنتم يا إخوة؟ قالوا من حران. فقال لهم : أتعرفون لابان بن ناحور؟ فقالوا : نعم. فقال : أحي هو؟ قالوا : نعم وهذه راحيل ابنته مع الغنم. ثم قال : ليس هذا وقت انضمام الماشية فاسقوا الغنم وامضوا بها فارعوها. قالوا : لا نطيق ذلك إلى أن تجتمع الرعاة ويدحرجوا الصخرة عن فم البئر فبينما هو يخاطبهم جاءت راحيل مع غنم أبيها فلما رأى ذلك تقدم ودحرج الصخرة وسقى غنم خاله لابان ثم قبل راحيل وبكى وأخبرها أنه ابن عمتها ربقا فأخبرت أباها فخرج للقائه فعانقه وقبله وأدخله إلى منزله ثم قال لابان له : أما أنت فعظمي ولحمي ومكث عنده شهرا فقال له لابان : أنت وإن كنت ذا قرابة مني لا أستحسن أن تخدمني مجانا فأخبرني بما تريد من الأجرة؟ وكان له ابنتان اسم الكبرى ليا واسم الصغرى راحيل وعينا ليا حسنتان وراحيل حسنة الحلية والمنظر فأحبها يعقوب فقال : أخدمك سبع سنين براحيل فقال : لابان : إعطائي إياها لك أصلح من إعطائي إياها لرجل آخر فأقم عندي فخدمه براحيل سبع سنين ثم قال : أعطني زوجتي فقد كملت أيامي فجمع لابان أهل الموضع وصنع لهم مجلسا فلما كان العشاء أخذ ليا بنته فزفها إليه ودخل عليها فأعطاها لابان أمته زلفا لتكون لها أمة فلما كانت الغداة فإذا هي ليا فقال للابان : ماذا صنعت بي أليس براحيل خدمتك؟ قال : نعم لكن لا تزوج الصغرى قبل الكبرى في بلدنا فأكمل أسبوع هذه وأعطيك أختها راحيل أيضا بالخدمة التي تخدمها عندي سبع سنين أخر فكمل يعقوب أسبوع ليا ثم أعطاه ابنته راحيل زوجة وأعطاها أمته بلها لتكون لها أمة ، فلما دخل عليها يعقوب أحبها أكثر من حبه ليا ثم خدمه سبع سنين أخر ا ه.
وأخبرني بعض أهل الكتاب أنه يجوز أن تكون خدمة الأب مهرا لابنته ويلزم الأب إرضاؤها بشيء إذا كانت كبيرة وأن ما التزم من الخدمة لا يجب فعله قبل الدخول ويكفي الالتزام والتعهد ، وأن المهر عندهم كل شيء له قيمة أو ما في حكمها ، وأن تسليم المرأة نفسها للزوج راضية بما يحصل لها منه من قضاء الوطر والانتفاع بدلا عن المهر قد يقوم مقام المهر ، وأن حل الجمع بين الأختين كان ليعقوب عليه السلام خاصة ، وهذا الأخير مما ذكره علماء الإسلام واللّه تعالى أعلم بصحة غيره مما ذكر من الكلام ، هذا وللعلماء في الآية استدلالات. قال في الإكليل : فيها استحباب عرض الرجل موليته على أهل الخير والفضل أن ينكحوها ، واعتبار الولي في النكاح ، وأن العمى لا يقدح في الولاية فإنه عليه السلام كان أعمى ، واعتبار الإيجاب والقبول في النكاح وقال ابن الغرس : استدل مالك بهذه الآية على إنكاح الأب البكر البالغة بغير استئمار لأنه لم يذكر فيها استئمار. قال : واحتج بعضهم على جواز أن يكتب في الصداق أنكحه إياها خلافا لمن اختار أنكحها إياه قائلا لأنه إنما يملك النكاح عليها لا عليه. وقال ابن العربي : استدل بها أصحاب الشافعي على أن النكاح موقوف على لفظ الإنكاح والتزويج. قال : واستدل بها قوم على جواز الجمع بين نكاح وإجارة في صفقة واحدة فعدوه إلى كل صفقة تجمع عقدين وقالوا بصحتها. قال : واستدل بها علماؤنا على أن اليسار لا يعتبر في الكفاءة فإن موسى عليه السلام لم يكن حينئذ موسرا. قال : وفي قوله : وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ اكتفاء بشهادة اللّه عز وجل إذ لم يشهد أحدا من الخلق فيدل على عدم اشتراط الإشهاد في النكاح ا ه.
واستدل بها الأوزاعية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك بألف نقدا أو ألفين نسيئة ا ه ما في الإكليل مع حذف قليل.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 279
ولا يخفى ما في هذه الاستدلالات من المقالات والمنازعات. ثم إن ما تقدم عن مكي من
أنه عليه السلام دخل ولم ينفذ شيئا مما قاله غيره أيضا. وقد روي أيضا من طريق الإمامية عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه
، وقيل :
إنه عليه السلام لم يدخل حتى أتم الأجل ، وجاء في بعض الآثار أنهما لما أتما العقد قال شعيب لموسى عليهما السلام :
ادخل ذلك البيت فخذ عصا من العصي التي فيه وكان عنده عصي الأنبياء عليهم السلام فدخل وأخذ العصا التي هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء عليهم السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فقال له شعيب : خذ غير هذه فما وقع في يده إلا هي سبع مرات
فعلم أن له شأنا ، وعن عكرمة أنه قال. خرج آدم عليه السلام بالعصا من الجنة فأخذها جبرائيل عليه السلام بعد موته وكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه.
وفي مجمع البيان عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : كانت عصا موسى قضيب آس من الجنة أتاه بها جبرائيل عليه السلام لما توجه تلقاء مدين.
وقال السدي : كانت تلك العصا قد أودعها شعيبا ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتي بعصا فدخلت وأخذت العصا فأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فردها سبع مرات فلم يقع في يدها غيرها فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة فتبعه فاختصما فيها ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع : فأتاهما الملك فقال ألقياها فمن رفعها فهي له فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى عليه السلام
. وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا ، وعن الكلبي الشجرة التي نودي منها شجرة العوسج ومنها كانت عصاه.
وروي أنه لما شرع عليه السلام بالخدمة والرعي قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم ، فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ومشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى عليه السلام دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك ولما رجع إلى شعيب وجد الغنم ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى عليه السلام بما كان ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء فأوحى اللّه تعالى إليه في المنام أن اضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع أو درعاء فوفى له شعيب بما قال
، وحكى يحيى بن سلام أنه جعل له كل سخلة تولد على خلاف شية أمها فأوحى اللّه تعالى إلى موسى عليه السلام في المنام أن ألق عصاك في الماء الذي تسقي منه الغنم ففعل فولدت كلها على خلاف شيتها ، وأخرج ابن ماجة والبزار وابن المنذر والطبراني وغيرهم من حديث عتبة السلمي مرفوعا «أنه عليه السلام لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ذلك العام وكانت غنمه سوداء حسناء فانطلق موسى إلى عصاه فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض ثم أوردها فسقاها ووقف بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة فأنمت وانثنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش أي واسعة الشخب ولا ضبوب أي طويلة الضرع تجره ولا غزور أي ضيقة الشخب ولا ثعول أي لا ضرع لها إلا كهيئة حلمتين ولا كمشة تفوت الكف أي صغيرة الضرع لا يدرك الكف»
وظاهر هذا الخبر أن الهبة كانت لزوجته عليه السلام وأنه كان ذلك لما أراد فراق شعيب عليهما السلام وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر ما تقدم فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي أتم المدة المضروبة لما أراد شعيب منه والمراد به الأجل الآخر كما أخرجه ابن مردويه عن مقسم عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهما. وأخرج البخاري وجماعة عن ابن عباس أنه سئل أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟
فقال : فضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول اللّه إذا قال فعل ، وأخرج ابن مردويه من طريق علي بن عاصم عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سأله أي الأجلين قضى موسى فقال : لا أدري حتى أسأل رسول اللّه صلّى اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 280
عليه وسلم فسأل رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فقال : لا أدري حتى أسأل جبريل عليه السلام فسأل جبريل فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل عليه السلام فسأل ميكائيل فقال : لا أدري حتى أسأل الرفيع فسأل الرفيع فقال : لا أدري حتى أسأل إسرافيل عليه السلام فسأل إسرافيل فقال : لا أدري حتى أسأل ذا العزة جل جلاله فنادى إسرافيل بصوته الأشد يا ذا العزة أي الأجلين قضى موسى قال : «أتم الأجلين وأطيبهما عشر سنين»
قال علي بن عاصم : فكان أبو هارون إذا حدث بهذا الحديث يقول : حدثني أبو سعيد عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن الرفيع عن إسرافيل عن ذي العزة تبارك وتعالى «أن موسى قضى أتم الأجلين وأطيبهما عشر سنين»
والفاء قيل : فصيحة أي فعقد العقدين وباشر موسى ما أريد منه فلما أتم الأجل وَسارَ بِأَهْلِهِ قيل : نحو مصر بإذن من شعيب عليه السلام لزيارة والدته وأخيه وأخته وذوي قرابته وكأنه عليه السلام أقدمه على ذلك طول مدة الجناية وغلبة ظنه خفاء أمره ، وقيل : سار نحو بيت المقدس وهذا أبعد عن القيل والقال.
آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ أي أبصر من الجهة التي تلي الطور لا من بعضه كما هو المتبادر ، وأصل الإيناس على ما قيل الإحساس فيكون أعم من الإبصار ، وقال الزمخشري : هو الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل : الجن لاستتارهم ، وقيل : هو إبصار ما يؤنس به ، ناراً استظهر بعضهم أن المبصر كان نورا حقيقة إلا أنه عبر عنه بالنار اعتبارا لاعتقاد موسى عليه السلام ، وقال بعض العارفين : كان المبصر في صورة النار الحقيقية وأما حقيقته فوراء طور العقل إلا أن موسى عليه السلام ظنه النار المعروفة قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي أقيموا مكانكم وكان معه عليه السلام على قول امرأته وخادم ويخاطب الاثنان بصيغة الجمع ، وعلى قول آخر كان معه ولدان له أيضا اسم الأكبر جيرشوم واسم الأصغر اليعازر ولدا له زمان إقامته عند شعيب وهذا مما يتسنى على القول بأنه عليه السلام دخل على زوجته قبل الشروع فيما أريد منه ، وأما على القول بأنه لم يدخل عليها حتى أتم الأجل فلا يتسنى إلا بالتزام أنه عليه السلام مكث بعد ذلك سنين ، وقد قيل به ، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قضى موسى عشر سنين ثم مكث بعد ذلك عشرا أخرى ، وعن وهب أنه عليه السلام ولد له ولد في الطريق ليلة إيناس النار ، وفي البحر أنه عليه السلام خرج بأهله وماله في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل لا يدري أليلا تضع أم نهارا فسار في البرية لا يعرف طرقها فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد ، وقيل : كان لغيرته على حرمه يصحب الرفقة ليلا ويفارقهم نهارا فأضل الطريق يوما حتى أدركه الليل فأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فأصلد فنظر فإذا نار تلوح من بعد فقال امكثوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي بخبر الطريق بأن أجد
عندها من يخبرني به وقد كانوا كما سمعت ضلوا الطريق ، والجملة استئناف في معنى التعليل للأمر أَوْ جَذْوَةٍ أي عود غليظ سواء كان في رأسه نار كما في قوله :
وألقى على قيس من النار جذوة شديدا عليها حرها والتهابها
أو لم تكن كما في قوله :
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها جزل الجذا غير خوار ولا دعر
ولذا بينت كما قال بعض المحققين بقوله تعالى : مِنَ النَّارِ وجعلها نفس النار للمبالغة كأنها لتشبث النار بها استحالت نارا ، وقال الراغب : الجذوة ما يبقى من الحطب بعد الالتهاب ، وفي معناه قول أبي حيان : عود فيه نار بلا لهب ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : هي عود من حطب فيه النار.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 281
وأخرج هو وجماعة عن قتادة أنها أصل شجرة في طرفها النار ، قيل : فتكون من على هذا للابتداء ، والمراد بالنار هي التي آنسها.
وقرأ الأكثر «جذوة» بكسر الجيم والأعمش وطلحة وأبو حيوة وحمزة بضمها لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون وتتسخنون بها ، وفيه دليل على أنهم أصابهم برد.
[سورة القصص (28) : الآيات 30 إلى 56]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39)
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 282
فَلَمَّا أَتاها أي النار التي آنسها.
نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أي أتاه النداء من الجانب الأيمن بالنسبة إلى موسى عليه السلام في مسيره فالأيمن صفة الشاطئ وهو ضد الأيسر ، وجوز أن يكون الأيمن بمعنى المتصف باليمن والبركة ضد الأشأم ، وعليه فيجوز كونه صفة للشاطىء أو الوادي ، ومِنْ على ما اختاره جمع لابتداء الغاية متعلقة بما عندها ، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير موسى عليه السلام المستتر في نودي أي نودي قريبا من شاطىء الوادي ، وجوز على الحالية أن تكون - من - بمعنى في كما في قوله تعالى : ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [الأحقاف : 4] أي نودي كائنا في شاطىء الوادي ، وقوله تعالى : فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ في موضع الحال من الشاطئ أو صلة لنودي ، والبقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها وتفتح باؤها كما في القاموس ، وبذلك قرأ الأشهب العقيلي. ومسلمة ، ووصفت بالبركة لما خصت به من آيات اللّه عز وجل وأنواره.
وقيل : لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة وليس بذاك ، وقوله سبحانه : مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من قوله تعالى :
مِنْ شاطِئِ أو الشجرة فيه بدل من شاطىء وأعيد الجار لأن البدل على تكرار العامل وهو بدل اشتمال فإن الشاطئ كان مشتملا على الشجرة إذ كانت نابتة فيه ، ومِنْ هنا لا تحتمل أن تكون بمعنى في كما سمعت في من الأولى ، نعم جوز فيها أن تكون للتعليل كما في قوله تعالى : مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح : 25] متعلقة بالمباركة أي البقعة المباركة لأجل الشجرة ، وقيل : يجوز تعلقها بالمباركة مع بقائها للابتداء على معنى أن ابتداء بركتها من الشجرة ، وكانت هذه الشجرة على ما روي عن ابن عباس عنابا ، وعلى ما روي عن ابن مسعود سمرة ، وعلى ما روي عن ابن جريج والكلبي ووهب عوسجة. وعلى ما روي عن قتادة ومقاتل عليقة وهو المذكور في التوراة اليوم ، وأن في قوله تعالى : أَنْ يا مُوسى تحتمل أن تكون تفسيرية وأن تكون مخففة من الثقيلة والأصل بأنه ، والجار متعلق بنودي ، والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي :
ناديت باسم ربيعة بن مكدم أن المنوه باسمه الموثوق
والضمير للشأن وفسر الشأن بقوله تعالى : إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وقرأت فرقة «أني» بفتح الهمز ،

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 283
واستشكل بأن أن إن كانت تفسيرية ينبغي كسر إن وهو ظاهر وإن كانت مصدرية واسمها ضمير الشأن ، فكذلك إذ على الفتح تسبك مع ما بعدها بمفرد وهو لا يكون خبرا عن ضمير الشأن وخرجت على أن أن تفسيرية وأني إلخ في تأويل مصدر معمول لفعل محذوف ، والتقدير أي يا موسى اعلم أني أنا اللّه إلخ ، وجاء في سورة [طه : 11] نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ وفي سورة [النمل : 8] نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وما هنا غير ذلك بل ما في كل غير ما في الآخر فاستشكل ذلك.
وأجيب بأن المغايرة إنما هي في اللفظ ، وأما في المعنى المراد فلا مغايرة ، وذهب الإمام إلى أنه تعالى حكى في كل من هذه السور بعض ما اشتمل عليه النداء لما أن المطابقة بين ما في المواضع الثلاثة تحتاج إلى تكلف ما والظاهر أن النداء منه عز وجل من غير توسيط ملك ، وقد سمع موسى عليه السلام على ما تدل عليه الآثار كلاما لفظيا قيل :
خلقه اللّه تعالى في الشجرة بلا اتحاد وحلول ، وقيل : خلقه في الهواء كذلك وسمعه موسى عليه السلام من جهة الجانب الأيمن أو من جميع الجهات ، وأنا وإن كان كل أحد يشير به إلى نفسه فليس المعنى به محل لفظه.
وذهب الشيخ الأشعري ، والإمام الغزالي إلى أنه عليه السلام سمع كلامه تعالى النفسي القديم بلا صوت ولا حرف ، وهذا كما ترى ذاته عز وجل بلا كيف ولا كم ، وذكر بعض العارفين أنه إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت وكان ذلك بعد ظهوره عز وجل بما شاء من المظاهر التي تقتضيها الحكمة وهو سبحانه مع ظهوره تعالى كذلك باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق ، وقد جاء في الصحيح أنه تعالى يتجلى لعباده يوم القيامة في صورة ، فيقول : أنا ربكم فينكرونه ثم يتجلى لهم بأخرى فيعرفونه
، واللّه تعالى وصفاته من وراء حجب العزة والعظمة والجلال فلا يحدثن الفكر نفسه بأن يكون له وقوف على الحقيقة بحال من الأحوال.
مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد
وذكر بعض السلفيين أنه عليه السلام إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت منكر الظهور في المظاهر عادّا القول به من أعظم المناكر ، ولابن القيم كلام طويل في تحقيق ذلك ، وقد قدمنا لك في المقدمات ما يتعلق بهذا المقام فتذكر واللّه تعالى ولي الافهام ، وقال الحسن : إنه سبحانه نادى موسى عليه السلام نداء الوحي لا نداء الكلام ولم يرتض ذلك العلماء الأعلام لما فيه من مخالفة الظاهر وأنه لا يظهر عليه وجه اختصاصه باسم الكليم من بين الأنبياء عليهم السلام ، ووجه الاختصاص على القول بأنه سمع كلامه تعالى الأزلي بلا حرف ولا صوت ظاهر ، وكذا على القول بأنه عليه السلام سمع صوتا دالا على كلامه تعالى بلا واسطة ملك أو كتاب سواء كان من جانب واحد لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا أو من جميع الجهات لما في كل من خرق العادة ، وأما وجهه عند القائلين بأن السماع كان بعد التجلي في المظهر فكذلك أيضا إن قالوا بأن هذا التجلي لم يقع لأحد من الأنبياء عليهم السلام سوى موسى ، ثم إن علمه عليه السلام بأن الذي ناداه هو اللّه تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه سبحانه فيه وقيل : بالمعجزة ، وأوجب المعتزلة أن يكون حصوله بها فمنهم من عينها ومنهم من لم يعينها زعما منهم أن حصول العلم الضروري ينافي التكليف ، وفيه بحث.
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ عطف على أن يا موسى والفاء في قوله تعالى : فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ فصيحة مفصحة عن جمل حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها وإشعارا بغاية سرعة تحقق مدلولاتها أي فألقاها فصارت حية فاهتزت فلما رآها تهتز وتتحرك كَأَنَّها جَانٌّ هي حية كحلاء العين لا تؤذي كثيرة في الدور ، والتشبيه بها باعتبار سرعة حركتها

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 284
وخفتها لا في هيئتها وجثتها. فلا يقال : إنه عليه السلام لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فكيف يصح تشبيهها بالجان ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون المراد تشبيهها بها في الهيئة والجثة ولا ضير في ذلك لأن لها أحوالا مختلفة تدق فيها وتغلظ ، وقيل : الجان يطلق على ما عظم من الحيات فيراد عند تشبيهها بها في ذلك والأولى ما ذكر أولا وَلَّى مُدْبِراً منهزما من الخوف وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ولم يرجع يا مُوسى أي نودي أو قيل : يا موسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من المخاوف فإنه لا يخاف لديّ المرسلون :
اسْلُكْ يَدَكَ أي أدخلها فِي جَيْبِكَ هو فتح الجبة من حيث يخرج الرأس تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي عيب وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي من أجل المخافة ، قال مجاهد وابن زيد أمره سبحانه بضم عضده وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوى قلبه ، وقال الثوري : خاف موسى عليه السلام أن يكون حدث به سوء فأمره سبحانه أن يعيد يده إلى جنبه لتعود إلى حالتها الأولى فيعلم أنه لم يكن ذلك سوءا بل آية من اللّه عز وجل وقريب منه ما قيل : المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها فاضممها إليك يسكن خوفك. وفي الكشاف فيه معنيان : أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب اللّه تعالى العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران :
اجتناب ما هو غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى ، والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه ، والثاني أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى من الرهب من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ، جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه ، ومعنى وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وقوله تعالى : اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرعب ا ه ، وضم الجناح على الثاني كناية عن التجلد والضبط نحو قوله :
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيك
وهو مأخوذ من فعل الطائر عند الأمن بعد الخوف ، وهو في الأصل مستعار من فعل الطائر عند هذه الحالة ثم كثر استعماله في التجلد وضبط النفس حتى صار مثلا فيه وكناية عنه ، وعليه يكون تتميما لمعنى إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ وهذا مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي فإنه قال : هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الجد الذي يغشاه في بعض الأحوال عما أمر بالمضي فيه. وليس المراد بالضم الضم المزيل للفرجة بين الشيئين وهو أبعد عن المناقشة مما ذكره الزمخشري. ومثله في البعد عن المناقشة ما قاله البقاعي : من أنه أريد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه عند خروج يده بيضاء حتى لا يحذر ولا يضطرب من الخوف. وأراد بأحد التفسيرين الوجه الأول لأن المعنى عليه أدخل يدك اليمنى تحت عضدك اليسرى ، وقال بعضهم : إن المعنى اضمم يديك المبسوطتين بإدخال اليمنى تحت العضد الأيسر واليسرى تحت الأيمن أو بإدخالهما في الجيب. وظاهره أنه أريد بالجناح الجناحان ، وقد صرح الطبرسي بذلك في نحو ما ذكر وقال : إنه قد جاء المفرد مرادا به التثنية كما في قوله :
يداك يد إحد اهما الجود كله وراحتك اليسرى طعان تغامره

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 285
فإن المعنى يداك يدان بدلالة قوله إحداهما. وفي الكشاف أيضا من بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير وأنهم يقولون : أعطني ما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضى عربيتهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها ا ه. وما أشار إليه من أن ذاك لا يطابق بلاغة التنزيل مما لا ريب فيه فإن الذاهبين إليه قالوا : المعنى عليه واضمم إليك يدك مخرجة من الكم لأن يده كانت في الكم وهو معنى كما ترى ولفظه أقصر منه في الإفادة. وأما أمر سماعه عن الأثبات فقد تعقبه في البحر بأنه مروي عن الأصمعي وهو ثقة ثبت. وقال الطيبي : قال محيي السنة : قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول : أعطني ما في رهبك أي ما في كمك ، وزعم بعضهم أن استعمال الرهب في الكم لغة بني حنيفة أيضا وهو عندهم وكذا عند حمير بفتح الراء والهاء والحزم عندي عدم الجزم بثبوت هذه اللغة. وعلى تقدير الثبوت لا ينبغي حمل ما في التنزيل الكريم عليها. والظاهر أن من الرهب متعلق باضمم وقال أبو البقاء : هو متعلق بولي ، وقيل بمدبرا ، وقيل بمحذوف : أي تسكن من الرهب ، وقيل باضمم ، ولا يخفى ما في تعلقه بسوى اضمم وإن أشار إلى تعلقه بولي أو مدبرا كلام ابن جريج على ما أخرجه عنه ابن المنذر حيث جعل الآية من التقديم والتأخير.
والمراد ولى مدبرا من الرهب وقرأ الحرميان : «من الرّهب» بفتح الراء والهاء ، وأكثر السبعة بضم الراء وإسكان الهاء وقرأ قتادة ، والحسن ، وعيسى ، والجحدري بضمهما والكل لغات فَذانِكَ أي العصا واليد والتذكير لمراعاة الخبر وهو قوله تعالى : بُرْهانانِ وقيل : الإشارة إلى انقلاب العصا حية بعد إلقائها وخروج اليد بيضاء بعد إدخالها في الجيب فأمر التذكير ظاهر ، والبرهان الحجة النيرة وهو فعلان لقولهم : أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من بره الرجل إذا ابيض ويقال للمرأة البيضاء : برهاء وبرهرهة.
وقال بعضهم : هو فعلان من البرة بمعنى القطع فيفسر بالحجة القاطعة ، وقيل : هو فعلان لقولهم برهن ونقل عن الأكثر أن برهن مولد بنوه من لفظ البرهان ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فذانّك» بتشديد النون وهي لغة فيه ، فقيل : إنه عوض من الألف المحذوفة من ذا حال التثنية لألفها نون وأدغمت ، وقال المبرد : إنه بدل من لام ذلك كأنهم أدخلوها بعد نون التثنية ، ثم قلبت اللام نونا لقرب المخرج وأدغمت وكان القياس قلب الأولى لكنه حوفظ على علامة التثنية ، وقرأ ابن مسعود وعيسى وأبو نوفل وابن هرمز وشبل. «فذانيك» بياء بعد النون المكسورة وهي لغة هذيل ، وقيل : بل لغة تميم ، ورواها شبل عن ابن كثير ، وعنه أيضا «فذانيك» بفتح النون قبل الياء على لغة من فتح نون التثنية نحو قوله :
على أحوذيين استقلت عشية فما هي إلا لمحة وتغيب
وعن ابن مسعود أنه قرأ بتشديد النون مكسورة بعدها ياء ، قيل وهي لغة هذيل ، وقال المهدوي : بل لغتهم تخفيفها ومِنْ في قوله تعالى : مِنْ رَبِّكَ متعلق بمحذوف هو صفة لبرهانان أي كائنان من ربك وإِلى في قوله سبحانه : إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ متعلق بمحذوف أيضا هو على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم صفة بعد صفة له أي واصلان إليهم ، وعلى ما يقتضيه ظاهر كلام آخرين حال منه أي مرسلا أنت بهما إليهم.
وفي البحر أنه متعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره اذهب إلى فرعون إِنَّهُمْ أي فرعون وملأه كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن حدود الظلم والعدوان فكانوا أحقاء بأن نرسلك بهاتين المعجزتين الباهرتين إليهم ، والكلام في كانوا يعلم مما تقدم في نظائره قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ لذلك أَنْ يَقْتُلُونِ بمقابلتها ، والمراد بهذا الخبر طلب الحفظ والتأييد لإبلاغ الرسالة على أكمل وجه لا الاستعفاء من الإرسال ، وزعمت اليهود أنه عليه السلام استعفى ربه سبحانه من ذلك. وفي التوراة التي بأيديهم اليوم أنه قال يا رب ابعث من أنت باعثه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 286
وأكد طلب التأييد بقوله : وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي عونا كما روي عن قتادة وإليه ذهب أبو عبيدة وقال : يقال ردأته على عدوه أعنته. وقال أبو حيان : الردء المعين الذي يشتد به الأمر فعل بمعنى مفعول فهو اسم لما يعان به كما أن الدفء اسم لما يتدفأ به قال سلامة بن جندل :
وردئي كل أبيض مشرفي شديد الحد عضب ذي فلول
ويقال : ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشبة لئلا يسقط. وفي قوله : أَفْصَحُ مِنِّي دلالة على أن فيه عليه السلام فصاحة ولكن فصاحة أخيه أزيد من فصاحته ، وقرأ أبو جعفر ونافع والمدنيان ردا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال ، والمشهور عن أبي جعفر أنه قرأ بالنقل ولا همز ولا تنوين. ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وجوز في ردا على قراءة التخفيف كونه منقوصا بمعنى زيادة من رديت عليه إذا زدت يُصَدِّقُنِي أي يلخص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار ، فالتصديق مجاز عن التلخيص المذكور الجالب للتصديق لأنه كالشاهد لقوله ، وإسناده إلى هارون حقيقة ، ويرشد إلى ذلك وأخي هارون إلخ لأن فضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لمثل ما ذكر لا لقوله صدقت أو أخي موسى صادق فإن سحبان وباقلا فيه سواء ، أو يصل جناح كلامي بالبيان حتى يصدقني القوم الذين أخاف تكذيبهم فالتصديق على حقيقته وإنما أسند إلى هارون عليه السلام لأنه ببيانه جلب تصديق القوم ، ويؤيد هذا قوله : إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ لدلالته على أن التصديق على الحقيقة ، وقيل : تصديق الغير بمعنى إظهار صدقه ، وهو كما يكون بقول هو صادق يكون بتأييده بالحجج ونحوها كتصديق اللّه تعالى للأنبياء عليهم السلام بالمعجزات ، والمراد به هنا ما يكون بالتأييد بالحجج ، فالمعنى يظهر صدقي بتقرير الحجج وتزييف الشبه إني أخاف أن يكذبون ولساني لا يطاوعني عند المحاجة ، وعليه لا حاجة إلى ادعاء التجوز في الطرف أو في الإسناد. وتعقب بأنه لا يخفى أن صدقه معناه إما قال : إنه صادق أو قال له : صدقت ، فإطلاقه على غيره الظاهر أنه مجاز ، وجملة يصدقني تحتمل أن تكون صفة لردءا ، وأن تكون حالا ، وأن تكون استئنافا. وقرأ أكثر السبعة «يصدقني» بالجزم على أنه جواب الأمر.
وزعم بعضهم أن الجواب على قراءة الرفع محذوف ، ويرد عليه أن الأمر لا يلزم أن يكون له جواب فلا حاجة إلى دعوى الحذف ، وقرأ أبي ، وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهم «يصدقوني» بضمير الجمع وهو عائد على فرعون وملئه لا على هارون والجمع للتعظيم كما قيل ، والفعل على ما نقل عن ابن خالويه مجزوم فقد جعل هذه القراءة شاهدا لمن جزم من السبعة يصدقني وقال لأنه لو كان رفعا لقيل يصدقونني ، وذكر أبو حيان بعد نقله أن الجزم على جواب الأمر والمعنى في يصدقون أرج تصديقهم إياي فتأمل قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ إجابة لمطلوبه وهو على ما قيل راجع لقوله فَأَرْسِلْهُ مَعِي إلخ والمعنى سنقويك به ونعينك على أن شد عضده كناية تلويحية عن تقويته لأن اليد تشتد بشدة العضد وهو ما بين المرفق إلى الكتف والجملة تشتد بشدة اليد ولا مانع من الحقيقة لعدم دخول بأخيك فيما جعل كناية أو على أن ذلك خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبه حال موسى عليه السلام في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بعضد شديد ، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل من باب إطلاق السبب على المسبب بمرتبتين بأن يكون الأصل سنقويك به ثم سنؤيدك ثم سنشد عضدك به ، وقرأ زيد بن علي ، والحسن عضدك بضمتين ، وعن الحسن أنه قرأ بضم العين وإسكان الضاد ، وقرأ عيسى بفتحهما ، وبعضهم بفتح العين وكسر الضاد ، ويقال فيه عضد بفتح العين وسكون الضاد ولم أعلم أحدا قرأ بذلك ، وقوله تعالى : وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي تسلطا عظيما وغلبة راجع على ما قيل أيضا لقوله : إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وقوله سبحانه : فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما تفريع على ما حصل من مراده أي لا يصلون إليكما باستيلاء أو محاجة بِآياتِنا متعلق بمحذوف قد صرح به في مواضع أخر أي اذهبا بآياتنا أو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 287
بنجعل أي نسلطكما بآياتنا أو بسلطانا لما فيه من معنى التسلط والغلبة أو بمعنى لا يصلون أي تمتنعون منهم بها أو بحرف النفي على قول بعضهم بجواز تعلق الجار به ، وقال الزمخشري : يجوز أن يكون قسما جوابه لا يصلون مقدما عليه أو هو من القسم الذي يتوسط الكلام ويقحم فيه لمجرد التأكيد فلا يحتاج إلى جواب أصلا ، ويرد على الأول أن جواب القسم لا يتقدمه ولا يقترن بالفاء أيضا فلعله أراد أن ذلك دال على الجواب وأما هو فمحذوف إلا أنه تساهل في التعبير ، وجوز أن يكون صلة لمحذوف يفسره الغالبون في قوله سبحانه : أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ أو صلة له واللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي أو بمعناه على رأي من يجوز تقديم ما في حيز الصلة على الموصول إما مطلقا أو إذا كان المقدم ظرفا وتقديمه إما للفاصلة أو للحصر فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على صحة رسالته عليه السلام منه عز وجل ، والظاهر أن المراد بالآيات العصا واليد إذ هما اللتان أظهرهما موسى عليه السلام إذ ذاك وقد تقدم في سورة طه سر التعبير عنهما بصيغة الجمع قالُوا ما هذا الذي جئت به إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي سحر تختلقه لم يفعل قبله مثله فالافتراء بمعنى الاختلاق لا بمعنى الكذب أو سحر تتعلمه من غيرك ثم تنسبه إلى اللّه تعالى كذبا فالافتراء بمعنى الكذب لا بمعنى الاختلاق والصفة على هذين الوجهين مخصصة ، وقيل :
المراد بالافتراء التمويه أي هو سحر مموه لا حقيقة له كسائر أنواع السحر. وعليه تكون الصفة مؤكدة والافتراء ليس على حقيقته كما في الوجه الأول. والحق أن من أنواع السحر ما له حقيقة فتكون الصفة مخصصة أيضا وَما سَمِعْنا بِهذا أي نوع السحر أو ما صدر من موسى عليه السلام على أن الكلام على تقدير مضاف أي بمثل هذا أو الإشارة إلى ادعاء النبوة ونفيهم السماع بذلك تعمد للكذب فقد جاءهم يوسف عليه السلام من قبل بالبينات وما بالعهد من قدم. ويحتمل أنهم أرادوا نفي سماع ادعاء النبوة على وجه الصدق عندهم وكانوا ينكرون أصل النبوات ولا يقولون بصحة شيء منها كالبراهمة وككثير من الإفرنج ومن لحس من فضلاتهم اليوم. والباء كما في مجمع البيان إما على أصلها أو زائدة أي ما سمعنا هذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي واقعا في أيامهم ، فالجار والمجرور في موضع الحال من هذا بتقدير مضاف والعامل فيه سمعنا.
وجوز أن يكون بهذا على تقدير بوقوع هذا ، ويكون الجار متعلقا بذلك المقدر ، وأشاروا بوصف آبائهم بالأولين إلى انتفاء ذلك منذ زمان طويل وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ يريد عليه السلام بالموصول نفسه ، وقرأ ابن كثير «قال» يغيروا ولأنه جواب لقولهم : إنه سحر والجواب لا يعطف بواو ولا غيرها ، ووجه العطف في قراءة باقي السبعة أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر المحكي له بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في الدار وهي الدنيا ، وعاقبتها أن يختم للإنسان بها بما يفضي به إلى الجنة بفضل اللّه تعالى وكرمه ووجه إرادة العاقبة المحمودة من مطلق العاقبة انها هي التي دعا اللّه تعالى إليها عباده ، وركب فيهم عقولا لا ترشدهم إليها ومكنهم منها وأزاح عللهم ووفر دواعيهم وحضهم عليها فكأنها لذلك هي المرادة من جميع العباد والغرض من خلقهم ، وهذا ما اختاره ابن المنير موافقا لما عليه الجماعة ، وحكى أن بعضهم قال له : ما يمنعك أن تقول فهم عاقبة الخير من إضافة العاقبة إلى ذويها باللام كما في هذه الآية ، وقوله تعالى : وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد : 42] ، وقوله سبحانه : وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف : 128 ، القصص : 83] إذ عاقبة الخير هي التي تكون لهم ، وأما عاقبة السوء فعليهم لا لهم فقال له : لقد كان لي في ذلك مقال لولا وروده مثل أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ، ولم يقل وعليهم فاستعمال اللام مكان على دليل على إلغاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير ، وقد يقال : إن اللام ظاهرة في النفع ويكفي ذلك في انفهام كون المراد بالعاقبة عاقبة الخير ، ويلتزم في

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 288
نحو الآية التي أوردها ابن المنير كونها من باب التهكم ، وهذا نظير ما قالوا : إن البشارة في الخير ، وبشرهم بعذاب أليم من باب التهكم.
وقال الطيبي انتصارا للبعض أيضا : قلت : الآية غير مانعة عن ذلك فإن قرينة اللعنة والسوء مانعة عن إرادة الخير وإنما أتى بلهم ليؤذن بأنهما حقان ثابتان لهم لازمان إياهم ، ويعضده التقديم المفيد للاختصاص فتدبر وقرأ حمزة ، والكسائي. «يكون» بالياء التحتية ، لأن المرفوع مجازي التأنيث ومفصول عن رافعه.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يفوزون بمطلوب ولا ينجون عن محذور ، وحاصل كلام موسى عليه السلام ربي أعلم منكم بحال من أهله سبحانه للفلاح الأعظم حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى ، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبىء الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي قاله اللعين بعد ما جمع السحرة وتصدى للمعارضة ، والظاهر أنه أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه وهو نفي علمه بإله غيره دون وجوده فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه ، ولم يجزم بالعدم بأن يقول : ليس لكم إله غيري مع أن كلا من هذا وما قاله كذب ، لأن ظاهر قول موسى عليه السلام له لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر يقتضي أنه كان عالما بأن إلههم غيره ، وما تركه أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد قومه عن اتباع موسى عليه السلام اختيارا لدسيسة شيطانية وهو إظهار أنه منصف في الجملة ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر الإله وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه فكأنه قال ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى ، والأمر محتمل وسأحقق لكم ذلك.
فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي اصنع لي آجرا فَاجْعَلْ لِي منه صَرْحاً أي بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر لَعَلِّي أَطَّلِعُ أي أطلع وأصعد فافتعل بمعنى الفعل المجرد كما في البحر وغيره.
إِلى إِلهِ مُوسى الذي ذكر أنه إلهه وإله العالمين ، كأنه يوهم قومه أنه تعالى لو كان كما يقول موسى لكان جسما في السماء كون الأجسام فيها يمكن الرقي إليه ثم قال : وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما يذكر تأكيدا لما أراد وإعلاما بأن ترجيه الصعود إلى إله موسى عليه السلام ليس لأنه جازم بأنه هناك ، والأمر بجعل الصرح وبنائه لا يدل على أنه بني ، وقد اختلف في ذلك فقيل بناه وذكر من وصفه ما اللّه عز وجل أعلم به ، وقيل لم يبن وعلى هذا يكون قوله ذلك وأمره للتلبيس على قومه وإيهامه إياهم أنه بصدد تحقيق الأمر ، ويكون ما ذكر ذكرا لأحد طرق التحقيق فيتمكن من أن يقول بعده حققت الأمر بطريق آخر فعلمت أن ليس لكم إله غيري وأن موسى كاذب فيما يقول ، وعلى الأول يحتمل أن يكون صعد الصرح وحده أو مع من يأمنه على سره وبقي ما بقي ثم نزل إليهم فقال لهم : صعدت إلى إله موسى وحققت أن ليس الأمر كما يقول وعلمت أن ليس لكم إله غيري. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : لما بني له الصرح ارتقى فوقه فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي متلطخة دما فقال قتلت إله موسى ، وهذا إن صح من باب التهكم بالفعل ولا أظنه يصح ، وأيا ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل وإفراط العماية والبلادة وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان.
وللّه تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، ولا يبعد أن يقال كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه ويعتقد هذيانه فيما يقول إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال ولم يظهر خلافا لما عليه اللعين بحال من الأحوال وذلك إما للرغبة فيما لديه أو للرهبة من سطوته واعتدائه عليه وكم رأينا عاقلا وعالما فاضلا يوافق لذلك الظلمة الجبابرة ويصدقهم فيما يقولون وإن كان مستحيلا أو كفرا بالآخرة.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 289
وكان قول اللعين لموسى عليه السلام لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين بعد هذا القول المحكي هاهنا بأن يكون قاله وأردفه بإخبارهم على البت أن لا إله لهم غيره ، ثم هدد موسى بالسجن إن بدا منه ما يشعر بخلافه ، وهذا وجه في الآية لا يخلو عن لطف وإن كان فيه نوع خفاء وفيها أوجه أخر. الأول أنه أراد بقوله : ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي نفي العلم دون الوجود كما في ذلك الوجه إلا أنه لم ينف الوجود لأنه لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بالعدم وأراد بقوله إني لأظنه من الكاذبين إني لأظنه كاذبا في دعوى الرسالة من اللّه تعالى ، وأراد بقوله : يا هامان أوقد لي على الطين إلخ إعلام الناس بفساد دعواه تلك بناء على توهمه أنه تعالى إن كان كان في السماء بأنه لو كان رسولا منه تعالى فهو ممن يصل إليه ، وذلك بالصعود إليه وهو مما لا يقوى عليه الإنسان فيكون من نوع المحال بالنسبة إليه فما بنى عليه وهي الرسالة منه تعالى مثله ، فقوله : فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لإظهار عدم إمكان الصعود الموقوف عليه صحة دعوى الرسالة في زعمه ولعل للتهكم.
الثاني أنه أراد أيضا نفي العلم بالوجود دون الوجود نفسه لكنه كان في نفي العلم ملبسا على قومه كاذبا فيه حيث كان يعلم أن لهم إلها غيره هو إله الخلق أجمعين ، وهو اللّه عز وجل وأراد بقوله : وَإِنِّي إلخ إني لأظنه كاذبا في دعوى الرسالة كما في سابقه ، وأراد بقوله يا هامان إلخ طلب أن يجعل له ما يزيل به شكه في الرسالة ، وذلك بأن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب الدالة على الحوادث الكونية بزعمه فيرى هل فيها ما يدل على إرسال اللّه تعالى إياه.
وتعقب بأنه لا يناسب قوله : فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى إلا أن يراد فأطلع على حكم إله موسى بأوضاع الكواكب والنظر فيها هل أرسل موسى كما يقول أم لا؟ فيكون الكلام على تقدير مضاف وإِلى فيه بمعنى على ، وجوز على هذا الوجه أن يكون قد أراد بإله موسى الكواكب فكأنه قال لعلي أصعد إلى الكواكب التي هي إله موسى فأنظر هل فيها ما يدل على إرسالها إياه أو لعلي أطلع على حكم الكواكب التي هي إله موسى في أمر رسالته وهو كما ترى ، وبالجملة هذا الوجه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. الثالث أنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده وبظنه كاذبا ظنه كاذبا في إثباته إلها غيره ويفسر الظن باليقين كما في قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
فإثبات الظن المذكور لا يدفع إرادة ذلك النفي ، وجوز بعضهم إبقاءه على ظاهره ، وقال في دفع المنافاة : يمكن أن يقال : الظاهر أن كلامه الأول كان تمويها وتلبيسا على القوم ، والثاني كان مواضعة مع صاحب سره هامان فإثبات الظن في الثاني لا يدفع أن يكون العلم في الأول لنفي المعلوم ، وفيه أنه يأبى ذلك سوق الآية ، والفاء في فأوقد لي وطلبه بناء الصرح راجيا الصعود إلى إله موسى عليه السلام أراد به التهكم كأنه نسب إلى موسى عليه السلام القول بأن إلهه في السماء فقال : يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر : 36] لأصعد إلى إله موسى متهكما به ، وهذا نظير ما إذا أخبرك شخص بحياة زيد وأنه في داره ، وأنت تعلم خلاف ذلك فتقول لغلامك بعد أن تذكر علمك بما يخالف قوله متهكما به يا غلام أسرج لي الدابة لعلي أذهب إلى فلان وأستأنس به بل ما قاله فرعون أظهر في التهكم مما ذكر فطلبه بناء الصرح بناء على هذا لا يكون منافيا لما ادعاه أولا وآخرا من العلم واليقين.
وقال بعضهم في دفع ما قيل : من المنافاة : إنها إنما تكون لو لم يكن قوله : لعلي أطلع إلخ على طريق التسليم والتنزل ، وقال آخر في ذلك : إن اللعين كان مشركا يعتقد أن من ملك قطرا كان إلهه ومعبود أهله فما أثبته في قوله :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 290
لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلخ الإله لغير مملكته وما نفاه إلهها كما يشير إليه قوله لكم ولا يخلو عن بحث.
وفي الكشاف القول بالمناقضة بين بناء الصرح وما ادعاه من العلم واليقين إلا أنه قال قد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم أو لم تخف عليهم ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه وإذا فتح هذا الباب جاز إبقاء الظن على ظاهره من غير حاجة إلى دفع التناقض ، والأولى عندي السعي في دفع التناقض فإذا لم يمكن استند في ارتكاب المخذول إياه إلى جهله أو سفهه وعدم مبالاته بالقوم لغباوتهم أو خوفهم منه أو نحو ذلك ، واعترض القول بأنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده فقال في التحقيق : وذكره غيره أيضا إنه غير سديد فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه لا سيما عدم علم شخص واحد. وقال القاضي البيضاوي : هذا في العلوم الفعلية صحيح لأنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاؤها ولا كذلك العلوم الانفعالية ورد بأن غرض قائل ذلك أن عدم الوجود سبب لعدم العلم بالوجود في الجملة ولا شك أنه كذلك فأطلق المسبب وأريد السبب لا أن بينهما ملازمة كلية على أنه لما كان من أقوى أسباب عدم العلم لأنه المطرد جاز أن يطلق ويراد به الوجود إذ لا يشترط في فن البلاغة اللزوم العقلي بل العادي والعرفي كاف أيضا وقد يقول أحد منا لا أعلم ذلك أي لو كان موجودا لعلمته إذا قامت قرينة وهذا الاستعمال شائع في عرفي العرب والعجم عند العامة والخاصة ومنه قول المزكي : إذا سئل عن عدالة الشهود لا أعلم كيف ، وكان المخذول يدعي الإلهية ، ثم الظاهر أن الكلام على تقدير إرادة نفي الوجود كناية لا مجاز ، وبالجملة ما ذكر وجه وجيه وتعيين الأوجه مفوض إلى ذهنك واللّه تعالى الموفق.
واستدل بعض من يقول : إن اللّه تعالى في السماء بالمعنى الذي أراده سبحانه في قوله عز وجل : أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك : 16] حسبما يقول السلف بهذه الآية ، ووجه ذلك بأن فرعون لو لم يسمع من موسى عليه السلام أن إلهه في السماء لما قال : فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى فقوله ذلك دليل السماع إلا أنه أخطأ في فهم المراد مما سمعه فزعم أن كونه تعالى في السماء بطريق المظروفية والتمكن ونحوهما مما يكون للأجسام ، وأنت تعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وإثبات مذهب السلف لا يحتاج إلى أن يتمسك له بمثل ذلك وفي قول المخذول :
أوقد لي على الطين والمراد به اللبن دون اصنع لي آجرا إشارة إلى أنه لم يكن لهامان علم بصنعة الآجر فأمره باتخاذه على وجه يتضمن التعليم ، وفي الآثار ما يؤيد ذلك ، فقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : فرعون أول من أمر بصنعة الآجر وبنائه ، وأخرج هو وجماعة عن قتادة قال بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر وصنع له الصرح. وعن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون وفي أمره إياه وهو وزيره ورديفه بعمل السفلة من الإيقاد على الطين مناديا له باسمه دون تكنية وتلقيب بيا دون ما يدل على القرب في وسط الكلام دون أوله من الدلالة على تجبره وتعظمه ما لا يخفى.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ أي رأوا كل من سواهم حقيرا بالإضافة إليهم ولم يروا العظمة والكبرياء إلا لأنفسهم فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد فِي الْأَرْضِ الأكثرون على أن المراد في أرض مصر ، وقيل : المراد بها الجرم المعروف المقابل للسماء ، وفي التقييد بها تشنيع عليهم حيث استكبروا فيما هو أسفل الأجرام وكان اللائق بهم أن ينظروا إلى محلهم وتسفله فلا يستكبروا بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير الاستحقاق لما أن رؤيتهم تلك باطلة ولا تكون رؤية الكل حقيرا بالإضافة إلى الرائي ورؤية العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره حقا إلا من اللّه عز وجل ، ومن هنا قال الزمخشري : الاستكبار بالحق إنما هو اللّه تعالى وكل مستكبر سواه عز وجل فاستكباره بغير الحق ، وفي الحديث القدسي : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار»
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 291
بالبعث للجزاء ، والظن قيل : إما على ظاهره أو عبر عن اعتقادهم به تحقيرا لهم وتمهيلا ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع لا يُرْجَعُونَ بفتح الياء وكسر الجيم.
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي ألقيناهم وأغرقناهم فيه ، وقد مر تفصيل ذلك ، وفي التعبير بالنبذ وهو إلقاء الشيء الحقير وطرحه لقلة الاعتداد به ولذلك قال الشاعر :
نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا من نعالك باليا
استحقار لهم ، وفي الكلام على ما قيل استعارة مكنية وتخييلية وذلك أنهم شبهوا في الحقارة بنعال بالية واستعير لهم اسم النعال ثم حذف المستعار وبقي المستعار له وجعل النبذ قرينة على أنه حقيقة والمجاز في التعلق على نحو ما قيل في أظفار المنية نشبت بفلان ، وقال بعضهم : الأخذ وهو حقيقة في التناول مجاز عن خلق الداعية لهم إلى السير إلى البحر ، والنبذ مجاز عن خلق الداعية لهم إلى دخوله ، وفي البحر أنه كناية عن إدخالهم فيه والأولى أن يكون الكلام من باب التمثيل كأنه عز وجل فيما فعل بهم أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم ، والظاهر أن الفاء الأولى سببية وليست لمجرد التعقيب وأما الثانية فللتعقيب إذا أبقى الأخذ على معنى التناول أو أريد به خلق الداعية إلى السير أو نحوه أما إذا أريد به الإهلاك فهي للتفسير كما في فاستجبنا له فنجيناه ونحوه فَانْظُرْ يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وبينها للناس ليعتبروا بها وَجَعَلْناهُمْ أي خلقناهم أَئِمَّةً قدوة للضلال بسبب حملهم لهم على الضلال كما يؤذن بذلك قوله تعالى : يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي على أن النار مجاز عن ذلك أو على تقدير مضاف والمراد جعلهم ضالين مضلين والجعل هنا مثله في قوله تعالى :
جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام : 1] والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الخير والشر مخلوقان للّه عز وجل وأولها المعتزلة تارة بأن الجعل فيها بمعنى التسمية مثله في قوله تعالى : وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف : 19] أي وسميناهم فيما بين الأمم بعدهم دعاة إلى النار ، وتارة بأن جعلهم كذلك بمعنى خذلانهم ومنعهم من اللطف والتوفيق للهداية والأول محكي عن الجبائي والثاني عن الكعبي ، وعن أبي مسلم أن المراد صيرناهم بتعجيل العذاب لهم أئمة أي متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار وهذا في غاية التعسف كما لا يخفى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا التي فتنتهم لَعْنَةً طردا وإبعادا أو لعنا من اللاعنين حيث لا تزال الملائكة عليهم السلام تلعنهم وكذا المؤمنون خلفا عن سلف وذلك إما بدخولهم في عموم من يلعنونهم من الظالمين وإما بالتنصيص عليهم نحو لعن اللّه تعالى فرعون وجنوده وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ من المطرودين المبعدين يقال : قبحه اللّه تعالى بالتخفيف أي نحاه وأبعده عن كل خير كما قال الليث ، ولا يتكرر مع اللعنة المذكورة قيل : لأن معناها الطرد أيضا لأن ذلك في الدنيا وهذا في الآخرة أو ذاك طرد عن رحمته التي في الدنيا وهذا طرد عن الجنة أو على هذا يراد باللعنة فيما تقدم ما تأخر مع أن من المطرودين معناه أنهم من الزمرة المعروفين بذلك وهو أبلغ وأخص ، وقال أبو عبيدة والأخفش من المقبوحين أي من المهلكين ، وعن ابن عباس أي من المشوهين في الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وهذا المعنى هو المتبادر إلا أن فيه أن فعل قبح عليه لازم فبناء اسم المفعول منه غير ظاهر ، وقد يقال : إذا صح هذا التفسير عن ابن عباس التزم القول بأنه سمع أيضا ، وجوز أن يكون ذلك
تفسيرا بما هو لازم في الجملة ، ويوم القيامة متعلق بالمقبوحين أو بمحذوف يفسره ذلك على ما علمت آنفا في نظيره ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ، وعبد بن حميد عن قتادة ما هو ظاهر في أنه معطوف على هذه الدنيا وهو عطف على المحل والمروي عن ابن جريج أظهر في ذلك وكلاهما في الدر المنثور ، والظاهر ما سمعته أولا.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 292
وهذه الآية أظهر دليل على عدم نجاة فرعون يوم القيامة وأنه ملعون مبعد عن رحمة اللّه تعالى في الدنيا والآخرة فإن ضمائر جمع الغائب فيها راجعة إلى فرعون وجنوده ويكاد ينتظم من التزم إرجاعها إلى الجنود في الجنود ، وفي الفتاوى الحديثية للعلامة ابن حجر روى عدي ، والطبراني عن ابن مسعود أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «خلق اللّه تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافر».
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وهو على ما قال أبو حيان أول كتاب فصلت فيه الأحكام مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للإشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعيين للتشريع الجديد بتقرير الأصول الباقية على ممر الدهور وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة للاعتبار ، ومن غفل عن هذا قال :
الأولى أن تفسر القرون الأولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السلام ويقابلها الثانية وهي من آمن به عليه السلام ، وقيل :
المراد بها ما يعم من لم يؤمن بموسى من فرعون وجنوده والأمم المهلكة من قبل ، وليس بذاك ، وما مصدرية أي آتيناه ذلك بعد إهلاكنا القرون الأولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل حيث كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فإن البصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر ويطلق على نفس العين ويجمع على أبصار والأول يجمع على بصائر ، والمراد بالناس قيل أمّته عليه السلام ، وقيل ما يعمهم ومن بعدهم ، وكون التوراة بصائر لمن بعث إليه نبينا صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم لتضمنها ما يرشدهم إلى حقية بعثته عليه الصلاة والسلام ، أو يزيدهم علما إلى علمهم. وتعقب بأنه يلزم على هذا الحض على مطالعة التوراة والعلم بما فيها ، وقد صح أن عمر رضي اللّه تعالى عنه استأذن رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد علما إلى علمه فغضب صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم حتى عرف في وجهه ثم قال : «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» فرمى بها عمر رضي اللّه تعالى عنه من يده وندم على ذلك.
وأجيب بأن غضبه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم من ذلك لما أن التوراة التي بأيدي اليهود إذ ذاك كانت محرفة وفيها الزيادة والنقص وليست عين التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكان الناس حديثي عهد بكفر فلو فتح باب المراجعة إلى التوراة ومطالعتها في ذلك الزمان لأدى إلى فساد عظيم فالنهي عن قراءتها حيث الإسلام حديث والخروج عن الكفر جديد لا يدل على أنها ليست في نفسها بصائر مشتملة على ما يرشد إلى حقية بعثته صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم ويزيد علما بصحة ما جاء به. ومما يدل على حل الرجوع إليها في الجملة قوله تعالى : قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران : 93] وقد كان المؤمنون من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وكعب الأحبار ينقلون منها ما ينقلون من الأخبار ولم ينكر ذلك ولا سماعه أحد من أساطين الإسلام ولا فرق بين سماع ما ينقلونه منهم وبين قراءته فيها وأخذه منها وقد رجع إليها غير واحد من العلماء في إلزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض عباراتها في إثبات حقية بعثته صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، والذي أميل إليه كون المراد بالناس بني إسرائيل فإنه الذي يقتضيه المقام.
وأما مطالعة التوراة فالبحث فيها طويل ، وفي تحفة المحتاج للمولى العلامة ابن حجر عليه الرحمة يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة علم تبدلها أو شك فيه وهو أقرب إلى التحقيق ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا وهو المعول عليه وَهُدىً أي إلى الشرائع التي

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 293
هي الطرق الموصلة إلى اللّه عز وجل وَرَحْمَةً حيث ينال من عمل به رحمة اللّه تعالى : بمقتضى وعده سبحانه فعموم رحمته بهذا المعنى لا ينافي أن من الناس من هو كافر بها وهو غير مرحوم ، وانتصاب المتعاطفات على الحالية من الكتاب على أنه نفس البصائر والهدى والرحمة أو على حذف المضاف أي ذا بصائر إلخ ، وجوز أبو البقاء انتصابها على العلة أي آتيناه الكتاب لبصائر وهدى ورحمة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي كي يتذكروا بناء على أن لعل للتعليل فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في [الشعراء : 129] لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وحكى الواقدي عن البغويّ أنه قال جميع ما في القرآن من لعل للتعليل إلّا لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ فإنها فيه للتشبيه ، والمشهور أنها للترجي.
ولما كان محالا عليه عز وجل جعل بعضهم الكلام من باب التمثيل والمراد آتيناه ذلك ليكونوا على حالة قابلة للتذكر كحال من يرجى منه الخير ، وبعض آخر صرف الترجي إلى المخاطبين فهو منهم لا منه تعالى ، وجعل الزمخشري في ذلك استعارة تبعية حيث شبه الإرادة بالترجي لكون كل منهما طلب الوقوع ، ورد بأن فيه لزوم تخلف مراد اللّه تعالى عن إرادته لعدم تذكر الكل إلا أن يكون من قبيل إسناد ما للبعض إلى الكل ، وأنت تعلم أن الإرادة عند المعتزلة قسمان : تفويضية ، وهي قد يتخلف المراد عنها ، وقسرية وهي لا يتخلف المراد عنها أصلا ، فمتى أريد القسم الأول منها هنا زال الإشكال إلا أن التقسيم المذكور خلاف المذهب الحق وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم أيضا واقع زمان مساس الحاجة إليه واقتضاء الحكمة له البتة متضمنا تحقيق كونه وحيا صادقا من عند اللّه تعالى ببيان أن الوقوف على ما فصل من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها وحيث انتفى كلاهما تبين أنه بوحي من علام الغيوب لا محالة كذا قيل :
ولا يخفى أن تعين كونه بوحي لا يتم إلا بنفي كونه بالاستفاضة وكونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب المعاصرين له صلى اللّه تعالى عليه وسلّم كما قال المشركون : إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل : 103] ولعله إنما لم يتعرض لنفي ذلك وتعرض لنفي ما هو أظهر انتفاء منه للإشارة إلى ظهور انتفاء ذلك والمبالغة في دعوى ذلك حيث آذن بأن المحتاج إلى الإخبار بانتفائه ذانك الأمران «1» دونه على أنه عز وجل قد نفى في موضع آخر كونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب ولعله يعلم منه انتفاء كونه بالاستفاضة وإن قلنا : إنه لا يعلم فدليله ظاهر جدا ، ولذا لم يتشبث بكون الوقوف بها أحد من المشركين فتدبر ، والمعنى على ما ذهب إليه بعضهم وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى اللّه تعالى فيه ألواح التوراة لموسى عليه السلام ، والكلام على هذا من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وهو عند قوم من باب إضافة الموصوف إلى الصفة التي جوزها الكوفيون كما في مسجد الجامع ، والأصل في الجانب الغربي فيتحد الجانب والغربي على هذا الوجه وهو بعض من الغربي على الوجه الأول.
إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي عهدنا إليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة.
وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي من جملة الحاضرين للوحي إليه أو الشاهدين على الوحي إليه عليه السلام وهم السبعون المختارون للميقات حتى تشاهد ما جرى من أمر موسى في ميقاته فتخبر به الناس ، فالشاهد من الشهادة إما بمعنى الحضور أو بمعناها المعروف واستشكل إرادة المعنى الأول بلزوم التكرار فإنه قد نفى الحضور أولا في قوله تعالى : وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ وكذا إرادة المعنى الثاني بلزوم نحو ذلك لما أن نفي الحضور يستدعي نفي كونه من الشاهدين بذلك المعنى ، ومن هنا قيل : المراد من الأول نفي كونه صلّى اللّه عليه وسلّم حاضرا بنفسه لغرض من الأغراض ،
___________
(1) هكذا الأصل تنبه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 294
ومن الثاني نفي كونه عليه الصلاة والسلام من جماعة جيء بهم ليحضروا فيطلعوا على ما يقع هناك لموسى عليه السلام لأن المراد بالشاهدين جماعة معهودون كان حالهم ذلك.
وقيل : المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام فقد جاء الشاهد اسما للملك كما في القاموس فكأنه قيل : ما كنت حاضرا بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمر نبوته بالوحي وما كنت من الملائكة الذين ينزلون ويصعدون بأمر اللّه تعالى ووحيه إلى أنبيائه عليهم السلام ولهم من الاطلاع على الحوادث ما ليس لغيرهم من البشر حتى يكون لك علم بما وقع لموسى عليه السلام فتخبر به الناس.
وقال ابن عباس كما في التفسير الكبير والبحر : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت لما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى ، وقيل : وهو مختار أبي حيان إن المعنى وما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به فهو نفي لشهادته عليه الصلاة والسلام جميع ما جرى لموسى عليه السلام فكان عموما بعد خصوص ، وقيل : المراد وما كنت من الشاهدين ذلك الزمان فيكون نفيا لحضوره ومشاهدته ذلك الزمان أعم من أن يكون بجانب الغربي أو بغيره ، وحاصله نفي الوجود العيني إذ ذاك فيكون ترقيا في النفي.
وقيل : المراد وَما كُنْتَ إذ ذاك منتظما في سلك من يتصف بالشهادة وهم الموجودون بالوجود العيني أينما كانوا ومآله كمآل ما قبله وإن اختلفا في طريق الإرادة وتعين كون الشهادة فيما قبله بمعنى الحضور.
ولعل ما قبله أظهر منه بل إذا ادعى مدع كونه أظهر من جميع ما قيل لم يبعد هذا ولا يخفى عليك حال تلك الأقوال وما فيها من القيل والقال ، وفي القلب من صحة نسبة ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إليه ما فيه فتدبر جميع ذاك ، واللّه تعالى يتولى هداك وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وتمادى الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وعميت عليهم الأنباء لا سيما على آخرهم الذين أنت فيهم فاقتضت الحكمة التشريع الجديد وقص الأنباء على ما هي عليه فأوحينا إليك وقصصنا الأنباء عليك فحذف المستدرك أعني أوحينا اكتفاء بذكر ما يوجبه ويدل عليه من إنشاء القرون وتطاول الأمد وخلاصة المعنى لم تكن حاضرا لتعلم ذلك ولكن علمته بالوحي والسبب فيه تطاول الزمن حتى تغيرت الشرائع وعميت الأنباء ، وقوله تعالى :
وَما كُنْتَ ثاوِياً أي مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهم شعيب عليه السلام والمؤمنون نفي لاحتمال كون معرفته صلى اللّه عليه وسلّم لبعض ما تقدم من القصة بالسماع ممن شاهد ذلك ، وقوله سبحانه : تَتْلُوا عَلَيْهِمْ أي تقرأ على أهل مدين بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم الدرس على معلمه آياتِنا الناطقة بما كان لموسى عليه السلام بينهم وبما كان لهم معه إما حال من المستكن في ثاويا أو خبر ثان لكنت وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها والاستدراك كالاستدراك السابق إلا أنه لا حذف فيه وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أي وقت ندائنا موسى إني أنا اللّه رب العالمين واستنبائنا إياه وإرسالنا له إلى فرعون وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وغيره لرحمة كائنة منا لك وللناس.
وقيل أي علمناك رحمة ولعل الرحمة عليه مفعول ثان لعلم والمراد بها القرآن وليست مفعولا له والمفعول الثاني ما ذكر من القصة لما ستعرفه قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وأما جعلها منصوبة على المصدرية لفعل محذوف فحاله غني عن البيان والالتفات إلى اسم الرب للإشعار بأن ذلك من آثار الربوبية وتشريفه عليه الصلاة والسلام بالإضافة وقد اكتفى هاهنا عن ذكر المستدرك بذكر ما يوجبه من جهته تعالى كما اكتفى في الأول بذكر ما يوجبه من جهة الناس

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 295
وصرح به فيما بينهما تنصيصا على ما هو المقصود وإشعارا بأنه المراد فيهما أيضا وللّه تعالى در شأن التنزيل وقوله سبحانه : لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلق بالفعل المعلل بالرحمة وهو يستدعي أن يكون الإرسال بالقرآن أو ما في معناه كتعليم القرآن دون تعليم ما ذكر من القصة إذ لا يظهر حسن تعليله بالإنذار ، وجوز أن يتعلق بالمستدركات الثلاث على التنازع.
وقرأ عيسى ، وأبو حيوة «رحمة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير ولكن هو أو هذا أو هي أو هذه رحمة والضمير أو الإشارة قيل للإرسال المفهوم من الكلام والتذكير والتأنيث باعتبار المرجع والخبر والخلاف في الأولى مشهور ، وجوز أبو حيان أن يكون التقدير ولكن أنت رحمة ولتنذر على هذه القراءة متعلق بما هو صفة لرحمة وقوله جل وعلا : ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ صفة لقوما ومِنْ الأولى مزيدة للتأكيد وقوله تعالى : لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون بإنذارك تعليل للإنذار على القول بأن لعل للتعليل وأما على القول بأنها للترجي حقيقة أو مجازا فقيل هو في موضع الصفة بتقدير القول أي لتنذر قوما مقولا فيهم لعلهم يتذكرون والمراد بهؤلاء القوم قيل العرب ، وظاهر الآية أنهم لم يبعث إليهم رسول قبل نبينا صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أصلا وليس بمراد للاتفاق على أن إسماعيل عليه السلام كان مرسلا إليهم وكأنه لتطاول الأمد بين بعثته عليه السلام وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إذ بينهما أكثر من ألفي سنة «1» بكثير واندراس شرعه وعدم وقوف الأكثرين في أغلب هذه المدة على حقيقته قيل : ذلك ، وقيل : إن ذلك لما صرحوا به من أن حكم بعثة إسماعيل عليه السلام قد انقطع بموته وأنه لم يرسل إليهم بعده نبي سوى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلّم قال العلامة ابن حجر في المنح المكية : من المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل عليه الصلاة والسلام وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته وادعى قبيل هذا الاتفاق على أن إبراهيم عليه السلام ومن بعده أي سوى إسماعيل عليه السلام لم يرسلوا للعرب ورسالة إسماعيل إليهم انتهت بموته ا ه ، فكأنه لقلة لبث إسماعيل عليه السلام فيهم وانقطاع حكم رسالته بعد وفاته فيما بينهم وبقائهم الأمد الطويل بغير رسول مبعوث فيهم نفي إتيان النذير إياهم من قبله صلّى اللّه عليه وسلّم.
وذكر العلامة ابن حجر في المنح أيضا ما يفيد أن كل رسول ممن عدا نبينا صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم تنقطع رسالته بموته وليس ذلك خاصا بإسماعيل عليه السلام ، ويفهم من كلام العز بن عبد السلام في أماليه أن هذا الانقطاع ليس على إطلاقه فقد قال : «فائدة» كل نبي إنما أرسل إلى قومه إلا سيدنا محمدا صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فعلى هذا يكون ما عدا قوم كل نبي من أهل الفترة إلا ذرية النبي السابق عليه فإنهم مخاطبون ببعثة السابق إلا أن تدرس شريعة السابق فيصير الكل من أهل الفترة ا ه. وهو وكذا ما نقلناه عن العلامة ابن حجر عندي الآن على أعراف الرد والقبول ، ولعل اللّه تعالى يشرح صدري بعد لتحقيق الحق في ذلك ، وقيل : إن موسى ، وعيسى عليهما السلام كما أرسلا لبني إسرائيل أرسلا للعرب فالمراد بنفي هذا الإتيان الفترة التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام ، ومنها على ما روى البخاري عن سلمان الفارسي رضي اللّه تعالى عنه ستمائة سنة وفي كثير من الكتب أنه خمسمائة وخمسون سنة ، ونفي إتيان نبي بين زماني إتيان نبينا وإتيان عيسى عليهما الصلاة والسلام هو ما صححه جمع من العلماء لحديث لا نبي بيني وبين عيسى وقال بعضهم : إن بينهما أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان ، وقيل : غير ذلك ، واختار البعض أن المراد بهؤلاء القوم العرب المعاصرون له صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم إذ هم الذين
___________
(1) قوله أكثر من ألفي سنة إلخ في الحاوي للسيوطي ما يدل على أن بينهما نحوا من ثلاثة آلاف سنة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 296
يتصور إنذاره عليه الصلاة والسلام إياهم دون أسلافهم الماضين ولعله الأظهر ، وعدم إتيان نذير إياهم من قبله صلى اللّه تعالى عليه وسلم على القول بانتهاء حكم رسالة الرسول سوى نبينا عليه الصلاة والسلام بموته ظاهر ، وأما إذا قيل : بعدم انتهائه بذلك وبقائه حكما لرسالة الرسول يجب على من علمه من ذراري المرسل إليهم الأخذ به من حيث إنه حكم من أحكام ذلك الرسول إلى أن يأتي رسول آخر فيؤخذ به من حيث إنه حكم من أحكامه أو على الوجه الذي يأمر به فيه من النسبة إليه أو من نسبته إلى من قبله أو يترك إن جاء الثاني ناسخا له فالمراد بعدم إتيان النذير إياهم عدم وصول ما أتى به على الحقيقة إليهم ولا يمكن أن يراد بهؤلاء القوم العرب مطلقا ويقال : بأنهم لم يرسل إليهم قبل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أحد أصلا لظهور بطلانه ومنافاته لقوله تعالى : وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر :
24] والعرب أعظم أمة وكذا لقوله تعالى : لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس : 6] بناء على أن - ما - فيه ليست نافية وهو على القول بأن ما فيه نافية مؤول بحمل الآباء على الآباء الأقربين ، ولا يكاد يجوز في ما هاهنا ما جاز فيها من الاحتمال في آية يس بل المتعين فيها النفي ليس غير ، وتكلف غيره مما لا ينبغي في كتاب اللّه تعالى والنذير بمعنى المنذر ، واحتمال كونه مصدرا بمعنى الإنذار مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وتغيير الترتيب الوقوعي بين قضاء الأمر بمعنى أحكام أمر نبوة موسى عليه السلام بالوحي وإيتاء التوراة وثوائه عليه السلام في أهل مدين المشار إليه بقوله تعالى : وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ والنداء للتنبيه على أن كلا من ذلك برهان مستقل على أن حكايته عليه الصلاة والسلام للقصة بطريق الوحي الإلهي ولو روعي الترتيب الوقوعي ، ونفى أولا الثواء في أهل مدين ونفى ثانيا الحضور عند النداء ونفى ثالثا الحضور عند قضاء الأمر لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر كما مر في قصة البقرة ، ومن الناس من فسر قضاء الأمر بالاستنباء والنداء بالنداء لأخذ التوراة بقوله تعالى : خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مريم : 12] رعاية للترتيب الوقوعي بينهما وتعقب بأنه يفوت عليه التنبيه المذكور مع أنه بهذا القدر لا يرتفع تغيير الترتيب الوقوعي بالكلية بين المتعاطفات لأن الثواء في أهل مدين متقدم على القضاء والنداء في الواقع ، وقد وسط في النظم الكريم بينهما ، وأيضا ما تقدم من تفسير كل من القضاء والنداء بما فسر أنسب بما يلي كلا من الاستدراك ، ومما يستغرب أن بعض من فسر ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي فسر الشاهدين بالسبعين المختارين للميقات ولا يكاد يتسنى ذلك عليه لأنهم إنما كانوا مع موسى عليه السلام لما أعطى التوراة فكان عليه أن يفسره بغير ذلك وقد تقدم لك عدة تفاسير لا يأبى شيء منها تفسيره ما ذكر
بما يوافق الترتيب الوقوعي ، وجوز على التفسير بما يوافق كون المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام الذين كانوا حول النار فإن الآثار ناطقة بحضورهم حولها عند ما أتاها موسى عليه السلام وكذا قوله تعالى : أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النمل : 8] في قول ، هذا وفي الآيات تفسيرات أخر فقال الفراء في قوله تعالى : وَما كُنْتَ ثاوِياً إلخ أي وما كنت مقيما في أهل مدين مع موسى عليه السلام فتراه وتسمع كلامه وها أنت تتلو عليهم أي على أمتك آياتنا فهو منقطع ا ه ، ونحوه ما روي عن مقاتل فيه وهو أن المعنى لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا إليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمت ، وقال الضحاك : يقول سبحانه إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم آيات الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء ا ه. ولا يخفى أن ما قدمنا أولى بالاعتبار.
وذهب جمع إلى أن النداء في قوله تعالى : وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا كان نداء فيما يتعلق بهذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وذكروا عدة آثار تدل على ذلك.
أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 297
الدلائل عن أبي هريرة قال في ذلك نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني واستجبت لكم قبل أن تدعوني.
وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا
، وأخرج هو أيضا وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الإبانة ، والديلمي عن عمرو بن عيينة قال سألت النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ما كان النداء وما كانت الرحمة؟ قال كتاب كتبه اللّه تعالى قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ثم وضعه على عرشه ثم نادى يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة.
وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله
، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «لما قرب اللّه تعالى موسى إلى طور سيناء نجيا قال : أي رب هل أجد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا وكلمتني تكليما قال : نعم. محمد عليه الصلاة والسلام أكرم عليّ منك. قال : فإن كان محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت البحر لهم وأنجيتهم من فرعون وعمله وأطعمتهم المن والسلوى. قال : نعم. أمة محمد عليه الصلاة والسلام أكرم عليّ من بني إسرائيل. قال :
إلهي أرنيهم. قال : إنك لن تراهم وإن شئت أسمعتك صوتهم. قال : نعم إلهي. فنادى ربنا أمة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم أجيبوا ربكم. قال : فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا : لبيك أنت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا. قال : صدقتم أنا ربكم حقا وأنتم عبيدي حقا قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا اللّه دخل الجنة».
قال ابن عباس فلما بعث اللّه تعالى محمدا صلى اللّه تعالى عليه وسلم أراد أن يمن عليه بما أعطاه وبما أعطى أمته فقال : يا محمد وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ، واستشكل ذلك بأنه معنى لا يناسب المقام ولا تكاد ترتبط الآيات عليه ، ولا بد لصحة هذه الأخبار من دليل ، وتصحيح الحاكم لا يخفى حاله.
وقال بعض : يمكن أن يقال على تقدير صحة الأخبار إن المراد وما كنت حاضرا مع موسى عليه السلام بجانب الطور لتقف على أحواله فتخبر بها الناس ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بذلك وبغيره رحمة منا لك وللناس ، والتوقيت بنداء أمته ليس لكون المخبر به ما كان من ذلك بل لإدخال المسرة عليه عليه الصلاة والسلام فيما يعود إليه وإلى أمته وفيه تسلية له صلى اللّه تعالى عليه وسلم مما يكون من أمة الدعوة من الكفر به عليه الصلاة والسلام والإباء عن شريعته وتلويح ما إلى مضمون فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام : 89] وحينئذ ترتبط الآيات بعضها ببعض ارتباطا ظاهرا فتأمل وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ أي عقوبة وهي على ما نقل عن أبي مسلم عذاب الدنيا والآخرة ، وقيل : عذاب الاستئصال بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما اقترفوا من الكفر والمعاصي ويعبر عن كل الأعمال وإن لم تصدر عن الأيدي باجتراح الأيدي وتقديم الأيدي لما أن أكثر الأعمال تزاول بها فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أي هلا أرسلت إلينا رسولا مؤيدا من عندك بالآيات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ الظاهرة على يده وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بما جاء به ، ولولا الثانية تحضيضية كما أشرنا إليه ، وقوله تعالى : فَنَتَّبِعَ جوابها ولكون التحضيض طلبا كالأمر أجيبت على نحو ما يجاب ، وأما الأولى فامتناعية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الحال عليه ، والتقدير لما أرسلناك ، والفاء في فَيَقُولُوا عاطفة ليقول على تصيبهم ، والمقصود بالسببية لانتفاء الجواب والركن الأصيل فيها قولهم ذلك إذا أصابتهم مصيبة ، فالمعنى لولا قولهم إذا عوقبوا بما اقترفوا هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه ونكون من المؤمنين لما أرسلناك إليهم ، وحاصله سببية القول المذكور لإرساله صلى اللّه تعالى عليه وسلم إليهم قطعا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 298
لمعاذيرهم بالكلية ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت كأنها سبب الإرسال بواسطة القول فأدخلت عليا لولا وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ونكتة إيثار هذا الأسلوب وعدم جعل العقوبة قيدا مجردا أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم ، وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى كقوله تعالى : وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام : 28] هذا ما أراده صاحب الكشاف ، وليس في الكلام عليه تقدير مضاف كما هو الظاهر.
وذهب بعضهم إلى أن الكلام على تقدير مضاف أي كراهة أن تصيبهم إلخ ، فالسبب للإرسال إنما هو كراهة ذلك لما فيه من إلزام الحجة وللّه تعالى الحجة البالغة ، وهذه الكراهة مما لا ريب في تحققها الذي تقتضيه لولا ودفعوا بهذا التقدير لزوم تحقق الإصابة والقول المذكور وانتفاء عدم الإرسال كما هو مقتضى لولا ، وفي ذلك ما فيه ، وقال ابن المنير : التحقيق عندي أن لولا ليست كما قال النحاة تدل على أن ما بعدها موجود أو أن جوابها ممتنع والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها عكس لو ، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا وما في الآية من الثاني فلا إشكال فيها ، واستدل بالآية على أن قول من لم يرسل إليه رسول أن عذب : ربي لولا أرسلت إليّ رسولا مما يصلح للاحتجاج وإلا لما صلح لأن يكون سببا للإرسال وفي ذلك دلالة على أن العقل لا يغني عن الرسول ، والبحث في ذلك شهير ، والكلام فيه كثير فَلَمَّا جاءَهُمُ أي أولئك القوم ، والمراد بهم هنا أهل مكة الموجودون عند البعثة وضمائر الجمع الآتية كلها راجعة إليهم. الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا أي الأمر الحق وهو القرآن المنزل عليه عليه الصلاة والسلام قالُوا تعنتا واقتراحا لَوْلا أُوتِيَ يعنونه عليه الصلاة والسلام مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى عليه السلام من الكتاب المنزل جملة وقوله تعالى : أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ رد عليهم وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق ومِنْ قَبْلُ متعلق بيكفروا وتعلقه بأوتي لا يظهر له وجه لائح إذ هو تقييد بلا فائدة لأنه معلوم أن ما أوتي موسى عليه السلام من قبل محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم أو من قبل هؤلاء الكفرة.
نعم أمر الرد عليه على حاله أي ألم يكفروا من قبل هذا القول بما أوتي موسى عليه السلام كما كفروا بهذا الحق وقوله تعالى : قالُوا استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الإنكار السابق وبيان كيفيته وقوله تعالى : سِحْرانِ خبر لمبتدأ محذوف أي هما يعنون ما أوتي نبينا وما أوتي موسى عليهما الصلاة والسلام سحران تَظاهَرا أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وتأييده إياه ، وذلك أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأنه عليه الصلاة والسلام فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك. وقوله تعالى : وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ أي بكل واحد من الكتابين كافِرُونَ تصريح بكفرهم بهما وتأكيد لكفرهم المفهوم من تسميتهما سحرا وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان وقرأ الأكثرون «ساحران» وأراد الكفرة بهما نبينا وموسى عليهما الصلاة والسلام.
وقرأ طلحة والأعمش «أظّاهرا» بهمزة الوصل وشد الظاء وكذا هي في حرف عبد اللّه وأصله تظاهرا فلما قلبت التاء ظاء وأدغمت سكنت فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بالساكن ، وقرأ محبوب عن الحسن ، ويحيى بن الحارث الذماري وأبو حيوة وأبو خلاد عن اليزيدي تظاهرا بالتاء وتشديد الظاء. قال ابن خالويه : وتشديده لحن لأنه فعل ماض وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح : لا أعرف وجهه. وقال صاحب الكامل في القراءات لا معنى له.
وخرج ذلك أبو حيان على أنه مضارع حذفت منه النون بدون ناصب أو جازم ، وجاء حذفها كذلك في قليل من الكلام

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 299
وفي الشعر ، و«ساحران» خبر لمبتدأ محذوف ، وأصل الكلام أنتما ساحران تتظاهران فحذف أنتما وأدغمت التاء في الظاء وحذفت النون وروعي الخطاب ولو قرىء يظاهرا بالياء حملا على مراعاة ساحران أو على تقديرهما لكان له وجه وكأنهم خاطبوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك وأرادوه وموسى عليهما الصلاة والسلام بأنتما على سبيل التغليب ، هذا وتفسير الآية بما ذكر مما لا تكلف فيه ولعله هو الذي يستدعيه جزالة النظم الجليل ويقتضيه اقتضاء ظاهر قوله تعالى :
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي مما أوتياه من القرآن والتوراة أَتَّبِعْهُ أي إن تأتوا به أتبعه فالفعل مجزوم بجواب الأمر ومثل هذا الشرط يأتي به من يدل بوضوح حجته لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بين الاستحالة فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإلزام وإيراد كلمة إِنْ في قوله تعالى : إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنهما سحران مختلقان مع امتناع صدقهم نوع تهكم بهم ، وقرأ زيد بن علي أتبعه بالرفع على الاستئناف أي أنا أتبعه.
وقال الزمخشري : الحق الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات يعني أن المقام مقام أن يقال فلما جاءهم أي الرسول أو فلما جاءهم الرسول لكن عدل عن ذلك لإفادة تلك المعاني وما أوتي موسى بما هو أعم من الكتاب المنزل جملة واحدة واليد والعصا وغيرهما من آياته عليه السلام ، وتعقب بأنه لا تعلق للمعجزات من اليد ونحوها بالمقام وكذا لا تعلق لغير القرآن من معجزات نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم به ويرشد إلى ذلك ظاهر قوله تعالى : قُلْ فَأْتُوا إلخ.
وجوز أن يكون ضميرا جاءَهُمُ وقالُوا راجعين إلى أهل مكة الموجودين وضمير يَكْفُرُوا وكذا ضمير قالُوا في الموضعين راجع إلى جنس الكفرة المعلوم من السياق والمراد بهم الكفرة الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام ومِنْ قَبْلُ متعلق بيكفروا لا بأوتي لعدم ظهور الفائدة والمراد بسحرين أو ساحران موسى وهارون عليهما السلام كما روي عن مجاهد ، وإطلاق سحرين عليهما للمبالغة أو هو بتقدير ذوا سحرين ، والمعنى أو لم يكفر أبناء جنسهم من قبلهم بما أوتي موسى عليه السلام كما كفروا هم بما أوتيته وقال أولئك الكفرة هما أي موسى وهارون سحران أو ساحران تظاهرا ، وقيل : يجوز أن تكون الضمائر راجعة إلى الموجودين والكفر والقول المذكور لأولئك السابقين حقيقة وإسنادهما إلى الموجودين مجازي لما بين الطائفتين من الملابسة.
وقيل بناء على ما روي عن الحسن : من أنه كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام إن المعنى أو لم يكفر آباؤهم من قبل أن يرسل محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم بما أوتي موسى قالوا هما أي موسى وهارون سحران أو ساحران تظاهرا فهو على أسلوب وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة : 49] ونحوه ويفيد الكلام عليه أن قدمهم في الكفر من الرسوخ بمكان ، ولهم في العناد عرق أصيل وكون العرب لهم أصل في أيام موسى عليه السلام مما لا شبهة فيه حتى قيل : إن فرعون كان عربيا من أولاد عاد لكن في حسن تخريج الآية على ذلك كلام ، وأنت تعلم أن كل هذه الأوجه ليست مما ينشرح له الصدر وفيها من التكلف ما فيها.
وادعى أبو حيان ظهور رجوع ضمير يكفروا وكذا ضمير قالوا إلى قريش الذين قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وأن نسبة ذلك إليهم لما أن تكذيبهم لمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم تكذيب لموسى عليه السلام ونسبتهم السحر للرسول نسبتهم إياه لموسى وهارون عليهما السلام إذ الأنبياء عليهم السلام من واد واحد فمن نسب إلى أحد منهم ما لا يليق كان ناسبا ذلك إلى جميعهم فلا يحتاج إلى توسيط حكاية الرهط في أمر النسبة ، وعليه يجوز أن يراد بكل كل واحد من الأنبياء عليهم السلام ، ولا يخفى أن ما ادعاه من ظهور رجوع الضمير إلى ما ذكر أمر مقبول عند منصفي ذوي العقول ، لكن توجيه نسبة الكفر والقول المبين لكيفيته مما ذكر مما يبعد قبوله ، وكأنه إنما احتاج إليه لعدم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 300
ثبوت حكاية الرهط عنده ، وعن قتادة أنه فسر السحران بالقرآن والإنجيل والساحران بمحمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام وجعل ذلك القول قول أعداء اللّه تعالى اليهود ، وتفسير الساحرين بذلك مروي عن الحسن ، وروي عنه أيضا أنه فسرهما بموسى وعيسى عليهما السلام والكل كما ترى ، وتفسيرهما بمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام مما رواه البخاري في تاريخه وجماعة عن ابن عباس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ سحران ويقول هما كتابان الفرقان والتوراة ألا تراه سبحانه يقول : فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب أهدى منهما ، وإنما عبر عنه بالاستجابة إيذانا بأنه عليه الصلاة والسلام على كمال أمن من أمره ، كان أمره صلى اللّه تعالى عليه وسلم لهم بالإتيان بما ذكر دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه.
وقيل : المراد فإن لم يستجيبوا دعاءك إياهم إلى الإيمان بعد ما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي جاءهم فالاستجابة على ظاهرها لأن الإيمان أمر يريد صلّى اللّه عليه وسلّم حقيقة وقوعه منهم وهي كما في البحر بمعنى الإجابة وتتعدى إلى الداعي باللام كما في هذه الآية ، وقوله تعالى : فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ [يوسف : 34] ، وقوله سبحانه :
فَاسْتَجَبْنا لَهُ [الأنبياء : 76 ، 84 ، 88 ، 90] وبنفسها كما في بيت الكتاب :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال الزمخشري : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام وبحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال : استجاب اللّه تعالى دعاءه أو استجاب له ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه ، وقوله في البيت فلم يستجبه على حذف مضاف أي فلم يستجب دعاءه انتهى ، ولو جعل ضمير يستجبه للدعاء المفهوم من داع لم يحتج إلى تقدير ، وجعل المفعول هنا محذوفا لذكر الداعي ، ووجهه على ما قيل : إنه مع ذكر الداعي والاستجابة يتعين أن المفعول الدعاء فيصير ذكره عبثا ، وجوز كون الحذف للعلم به من فعله لا لأنه ذكر الداعي ، وهذا حكم الاستجابة دون الإجابة لقوله تعالى : أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ [الأحقاف : 31] فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الزائغة من غير أن يكون لهم متمسك ما أصلا إذ لو كان لهم ذلك لأتوا به وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ استفهام إنكاري للنفي أي لا أضل ممن اتبع هواه بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي هو أضل من كل ضال وإن كان ظاهر السبك لنفي الأضل لا لنفي المساوي كما مر في نظائره مرارا ، وقوله تعالى : بِغَيْرِ هُدىً في موضع الحال من فاعل اتبع ، وتقييد الاتباع بذلك لزيادة التقرير والإشباع في التشنيع والتضليل وإلا فمقارنته لهدايته تعالى بينة الاستحالة ، وقيل : للاحتراز عما يكون فيه هدى منه تعالى فإن الإنسان قد يتبع هواه ويوافق الحق ، وفيه بحث إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم فانهمكوا في اتباع الهوى والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ الضمير لأهل مكة ، وأصل التوصيل ضم قطع الحبل بعضها ببعض قال الشاعر :
فقل لبني مروان ما نال ذمتي بحبل ضعيف لا يزال يوصل
والمعنى ولقد أنزلنا القرآن عليهم متواصلا بعضه إثر بعض حسبما تقتضيه الحكمة أو متتابعا وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ومواعظ ونصائح ، وقيل : جعلناه أوصالا أي أنواعا مختلفة وعدا ووعيدا إلخ ، وقيل : المعنى وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا حتى كأنهم عاينوا الآخرة وعن الأخفش أتممنا لهم القول ، وقرأ الحسن وَصَّلْنا بتخفيف الصاد والتضعيف في قراءة الجمهور للتكثير ومن هنا قال الراغب في تفسير ما في الآية عليها أي أكثرنا لهم القول موصولا بعضه ببعض لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيؤمنون بما فيه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 301
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن على أن الضمير للقول مرادا به القرآن أو للقرآن المفهوم منه وأيا ما كان فالمراد من قبل إيتائه هُمْ لا هؤلاء الذين ذكرت أحوالهم بِهِ أي بالقرآن يُؤْمِنُونَ وقيل : الضميران للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمراد بالموصول على ما روي عن ابن عباس مؤمنو أهل الكتاب مطلقا ، وقيل : هم أبو رفاعة في عشرة من اليهود آمنوا فأوذوا ، وأخرج ابن مردويه بسند جيد وجماعة عن رفاعة القرظي ما يؤيده وقيل : أربعون من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم قبل مبعثه اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وثمانية قدموا من الشام بحيرا وأبرهة وأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع وتميم ، وقيل : ابن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي ونسب إلى قتادة واستظهر أبو حيان الإطلاق وأن ما ذكر من باب التمثيل لمن آمن من أهل الكتاب.
وَإِذا يُتْلى أي القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي بأنه كلام اللّه تعالى : إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا أي الحق الذي كنا نعرف حقيته ، وهو استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به ، وجوز أن تكون الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى :
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزوله مُسْلِمِينَ بيان لكون إيمانهم به أمرا متقادم العهد لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن ويكفي في كونهم على دين الإسلام قبل نزوله إيمانهم به إجمالا. وفي الكشاف والبحر أن الإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي والظاهر عليه أن الإسلام ليس من خصوصيات هذه الأمة من بين الأمم ، وذهب السيوطي عليه الرحمة إلى كونه من الخصوصيات وألف في ذلك كراسة وقال في ذيلها : لما فرغت من تأليف هذه الكراسة واضطجعت على الفراش للنوم ورد عليّ قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ الآية فكأنما ألقي على جبل لما أن ظاهرها الدلالة للقول بعدم الخصوصية وقد فكرت فيها ساعة ولم يتجه لي فيها شيء فلجأت إلى اللّه تعالى ورجوت أن يفتح بالجواب عنها فلما استيقظت وقت السحر إذا بالجواب قد فتح فظهر عنها ثلاثة أجوبة : الأول أن مسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال كما هو حقيقة فيه دون الحال والماضي والتمسك بالحقيقة هو الأصل وتقدير الآية إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا من بعثه ووصفه ويرشح هذا أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الإخبار بحقية القرآن وأنهم كانوا على قصد الإسلام به إذا جاء به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وليس قصدهم الثناء على أنفسهم في حد ذاتهم بأنهم كانوا بصفة الإسلام أولا لنبو المقام عنه كما لا يخفى ، الثاني أن يقدر في الآية إنا كنا من قبله مسلمين به فوصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ويرشح ذلك ذكر الصلة فيما قبل حيث قال سبحانه : هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ فإنه يدل على أن الصلة مرادة هنا أيضا إلا أنها حذفت كراهة التكرار.
الثالث أن هذا الوصف منهم بناء على ما هو مذهب الأشعري من أن من كتب اللّه تعالى أن يموت مؤمنا فهو يسمى عنده تعالى مؤمنا ولو كان في حال الكفر وإنما لم نطلق نحن هذا الوصف عليه لعدم علمنا بما عنده تعالى ، فهؤلاء لما ختم اللّه تعالى لهم بالدخول في الإسلام أخبروا عن أنفسهم أنهم كانوا متصفين به قبل لأن العبرة في هذا الوصف بالخاتمة ووصفهم بذلك أولى من وصف الكافر الذي يعلم اللّه تعالى أنه يموت على الإسلام به لأنهم كانوا على دين حق وهذا معنى دقيق استفدناه في هذه الآية من قواعد علم الكلام انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا الجواب وكذا الجواب الأول وأما الجواب الثاني فهو بمعنى ما ذكرناه في الآية وقد ذكره البيضاوي وغيره وجوز أن يراد بالإسلام الانقياد أي إنا كنا من قبل نزوله منقادين لأحكام اللّه تعالى الناطق بها كتابه المنزل إلينا ومنها وجوب الإيمان به فنحن مؤمنون به قيل نزوله أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من النعوت يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن بِما صَبَرُوا أي بصبرهم وثباتهم على الإيمانين

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 302
أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده أو على أذى من هاجرهم وعاداهم من أهل دينهم ومن المشركين وَيَدْرَؤُنَ أي يدفعون بِالْحَسَنَةِ أي بالطاعة السَّيِّئَةَ أي المعصية فإن الحسنة تمحو السيئة
قال صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم لمعاذ : اتبع السيئة الحسنة تمحها
،
وقيل : أي يدفعون بالحلم الأذى وقال ابن جبير : بالمعروف المنكر وقال ابن زيد : بالخير الشر وقال ابن سلام : بالعلم الجهل وبالكظم الغيظ وقال ابن مسعود : بشهادة أن لا إله إلا اللّه الشرك وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي في سبيل الخير كما يقتضيه مقام المدح وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ سقط القول وقال مجاهد : الأذى والسب وقال الضحاك : الشرك وقال ابن زيد : ما غيرته اليهود من وصف الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أَعْرَضُوا عَنْهُ أي عن اللغو تكرما كقوله تعالى : وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان : 72] وَقالُوا لهم «1» أي للاغين المفهوم من ذكر اللغو لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ متاركة لهم كقوله تعالى : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون :
6] سَلامٌ عَلَيْكُمْ قالوه توديعا لهم لا تحية أو هو للمتاركة أيضا كما في قوله تعالى : وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان : 63] وأيا ما كان فلا دليل في الآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام كما زعم الجصاص إذ ليس الغرض من ذلك إلا المتاركة أو التوديع. وروي عن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم في الكفار «لا تبدءوهم بالسلام وإذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم»
. نعم روي عن ابن عباس جواز أن يقال للكافر ابتداء السلام عليك على معنى اللّه تعالى عليك فيكون دعاء عليه وهو ضعيف ، وقوله تعالى : لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ بيان للداعي للمتاركة والتوديع أي لا نطلب صحبة الجاهلين ولا نريد مخالطتهم إِنَّكَ لا تَهْدِي هداية موصلة إلى البغية لا محالة مَنْ أَحْبَبْتَ أي كل من أحببته طبعا من الناس قومك وغيرهم ولا تقدر أن تدخله في الإسلام وإن بذلت فيه غاية المجهود وجاوزت في السعي كل حد معهود ، وقيل : من أحببت هدايته.
وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته فيدخله في الإسلام وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالمستعدين لذلك وهم الذين يشاء سبحانه هدايتهم ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب ، وأفعل للمبالغة في علمه تعالى.
وقيل : يجوز أن يكون على ظاهره ، وأفاد كلام بعضهم أن المراد أنه تعالى أعلم بالمهتدي دون غيره عز وجل ، وحيث قرنت هداية اللّه تعالى بعلمه سبحانه بالمهتدي وأنه جل وعلا العالم به دون غيره دل على أن المراد بالمهتدي المستعد دون المتصف بالفعل فيلزم أن تكون هدايته إياه بمعنى القدرة عليها ، وحيث كانت هدايته تعالى لذلك بهذا المعنى ، وجيء بلكن متوسطة بينها وبين الهداية المنفية عنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم لزم أن تكون تلك الهداية أيضا بمعنى القدرة عليها لتقع لكن في موضعها ، ولذا قيل : المعنى إنك لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ولكن اللّه تعالى يقدر على أن يدخل من يشاء إدخاله وهو الذي علم سبحانه أنه غير مطبوع على قلبه ، وللبحث فيه مجال ، وظاهر عبارة الكشاف حمل نفي الهداية في قوله تعالى : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ على نفي القدرة على الإدخال في الإسلام وإثباتها في قوله سبحانه : وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ على وقوع الإدخال في الإسلام بالفعل ، وهذا ما اعتمدناه في تفسير الآية ، ووجهه أن مساق الآية لتسليته صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم حيث لم ينجع في قومه الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص إنذاره عليه الصلاة والسلام إياهم وما جاء به إليهم من الحق بل أصروا على ما هم عليه ، وقالوا : لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [القصص : 48] ثم
___________
(1) قوله لهم أي للاغين إلخ وقع في خط المؤلف كتابة لفظ لهم بالحمرة ظنا منه رحمه اللّه أنها من القرآن ولذلك قال أي للاغين المفهوم إلخ.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 303
كفروا به وبموسى عليهما الصلاة والسلام فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم حيث آمنوا بما جاء به من الحق وقالوا : إنه الحق من ربنا ثم صرحوا بتقادم إيمانهم به وأشاروا بذلك إلى إيمانهم بنبيهم وبما جاءهم به أيضا فلو لم يحمل إنك لا تهدي من أحببت على نفي القدرة على إدخال من أحبه عليه الصلاة والسلام في الإسلام بل حمل على نفي وقوع إدخاله صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم إياه فيه لبعد الكلام عن التسلية وقرب إلى العتاب فإنه على طرز قولك لمن له أحباب لا ينفعهم إنك لا تنفع أحبابك وهو إذا لم يؤول بأنك لا تقدر على نفع أحبابك فإنما يقال على سبيل العتاب أو التوبيخ أو نحوه دون سبيل التسلية ، ولما كان لهدايته تعالى أولئك الذين أوتوا الكتاب مدخلا فيما يستدعي التسلية كان المناسب إبقاء وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ على ظاهره من وقوع الهداية بالفعل دون القدرة على الهداية وإثبات ذلك له تعالى فرع إثبات القدرة ففي إثباته إثباتها لا محالة فيصادف الاستدراك المحز ، وحمل المهتدين على المستعدين للهداية لا يستدعي حمل يهدي على يقدر على الهداية فما ذكر من اللزوم ممنوع ويجوز أن يراد بالمهتدين المتصفون بالهداية بالفعل ، والمراد بعلمه تعالى بهم مجازاته سبحانه على اهتدائهم فكأنه قيل : وهو تعالى أعلم بالمهتدين كأولئك الذين ذكروا من أهل الكتاب فيجازيهم على اهتدائهم بأجر أو بأجرين فتأمل ، والآية على ما نطقت به كثير من الأخبار نزلت في أبي طالب.
أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فقال : يا عماه قل لا إله إلا اللّه أشهد لك بها عند اللّه يوم القيامة فقال : لولا أن يعيروني قريش يقولون : ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عينك ، فأنزل اللّه تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ الآية.
وأخرج البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وغيرهم ، عن سعيد بن المسيب عن أبيه نحو ذلك ، وأخرج أبو سهل السري بن سهل من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ إلخ نزلت في أبي طالب ألح النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أن يسلم فأبى فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وقد روى نزولها فيه عنه أيضا ابن مردويه ، ومسألة إسلامه خلافية ، وحكاية إجماع المسلمين أو المفسرين على أن الآية نزلت فيه لا تصح فقد ذهب الشيعة وغير واحد من مفسريهم إلى إسلامه وادعوا إجماع أئمة أهل البيت على ذلك وأن أكثر قصائده تشهد له بذلك وكأن من يدعي إجماع المسلمين لا يعتد بخلاف الشيعة ولا يعول على رواياتهم ، ثم إنه على القول بعدم إسلامه لا ينبغي سبه والتكلم فيه بفضول الكلام فإن ذلك مما يتأذى به العلويون بل لا يبعد أن يكون مما يتأذى به النبي عليه الصلاة والسلام الذي نطقت الآية بناء على هذه الروايات بحبه إياه ، والاحتياط لا يخفى على ذي فهم.
ولأجل عين ألف عين تكرم
[سورة القصص (28) : الآيات 57 إلى 77]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 304
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي نخرج من بلادنا ومقرنا ، وأصل الخطف الاختلاس بسرعة فاستعير لما ذكر ، والآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حيث أتى النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فقالوا : نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد اللّه تعالى عليهم خوف التخطف بقوله : أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أي ألم نعصمهم ونجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه تتاجر العرب حوله وهم آمنون فيه ، فالعطف على محذوف ونُمَكِّنْ مضمن معنى الجعل ، ولذا نصب حرما وآمنا للنسب كلابن وتامر ، وجعل أبو حيان الإسناد فيه مجازيا لأن الآمن حقيقة ساكنوه فيستغنى عن جعله للنسب وهو وجه حسن يُجْبى إِلَيْهِ أي يحمل إليه ويجمع فيه من كل جانب وجهة ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي ثمرات أشياء كثيرة على أن كل للتكثير وأصل معناه الإحاطة وليست بمرادة قطعا ، والجملة صفة أخرى لحرما دافعة لما عسى يتوهم من تضررهم إن اتبعوا الهدى بانقطاع الميرة ، وقوله تعالى : رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا نصب عن المصدر من معنى يجبى لأن مآله يرزقون ، أو الحال من ثمرات بمعنى مرزوقا وصح مجيء الحال من النكرة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 305
عند من لا يراه لتخصصها بالإضافة هنا ، أو على أنه مفعول له بتقدير نسوق إليه ذلك رزقا. وحاصل الرد أنه لا وجه لخوف من التخطف إن أمنوا فإنهم لا يخافون منه وهم عبدة أصنام فكيف يخافون إذا أمنوا وضموا حرمة الإيمان إلى حرمة المقام وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلة لا يتفطنون ولا يتفكرون ليعلموا ذلك فهو متعلق بقوله تعالى : أَوَلَمْ نُمَكِّنْ إلخ.
وقيل : هو متعلق بقوله سبحانه : من لدنا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند اللّه عز وجل إذ لو علموا لما خافوا غيره ، والأول أظهر ، والكلام عليه أبلغ في الذم ، وقرأ المنقري «نتخطف» بالرفع كما قرىء في قوله تعالى :
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء : 78] برفع يدرك وخرج بأنه بتقدير فنحن نتخطف وهو تخريج شذوذ.
وقرأ نافع وجماعة عن يعقوب وأبو حاتم عن عاصم «تجبى» بتاء التأنيث ، وقرىء «تجني» بالنون من الجني وهو قطع الثمرة وتعديته بإلى كقولك يجني إلى فيه ويجني إلى الخافة «1» وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم «ثمرات» بضم الثاء والميم ، وقرأ بعضهم «ثمرات» بفتح الثاء وإسكان الميم ، ثم إنه تعالى بعد أن رد عليهم خوفهم من الناس بين أنهم أحقاء بالخوف من بأس اللّه تعالى بقوله : وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي وكثيرا من أهل قرية كانت حالهم كحال هؤلاء في الأمن وخفض العيش والدعة حتى بطروا واغتروا ولم يقوموا بحق النعمة فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ التي تمرون عليها في أسفاركم كحجر ثمود خاوية بما ظلموا حال كونها.
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد تدميرهم إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم أو إلا سكنا قليلا وقلته باعتبار قلة الساكنين فكأنه قيل : لم يسكنها من بعدهم إلا قليل من الناس.
وجوز أن يكون الاستثناء من المساكن أي إلا قليلا منها سكن وفيه بعد ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر ذات أيديهم ، وفي الكشاف أي تركناها على حال لا يسكنها أحد أو خربناها وسويناها بالأرض وهو مشير إلى أن الوراثة إما مجرد انتقالها من أصحابها وإما إلحاقها بما خلقه اللّه تعالى في البدء فكأنه رجع إلى أصله ودخل في عداد خالص ملك اللّه تعالى على ما كان أولا وهذا معنى الإرث ، وانتصاب معيشتها على التمييز على مذهب الكوفيين ، أو مشبه بالمفعول به على مذهب بعضهم ، أو مفعول به على تضمين بطرت معنى فعل متعد أي كفرت معيشتها ولم ترع حقها على مذهب أكثر البصريين أو على إسقاط (في) أي في معيشتها على مذهب الأخفش ، أو على الظرف نحو جئت خفوق النجم على قول الزجاج : وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة أي وما صح وما استقام أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الإنذار بل كانت سنته عز وجل أن لا يهلكها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي في أصلها وكبيرتها التي ترجع تلك القرى إليها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الناطقة بالحق ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب ، وإنما لم يهلكهم سبحانه حتى يبعث إليهم رسولا لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ، وإنما كان البعث في أم القرى لأن في أهل البلدة الكبيرة وكرسي المملكة ومحل الأحكام فطنة وكيسا فهم أقبل للدعوة وأشرف.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة أن أم القرى مكة والرسول محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلم
___________
(1) قوله إلى الخافة هي خريطة من أدم يشار فيها العسل انتهى منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 306
فالمراد بالقرى القرى التي كانت في عصره عليه الصلاة والسلام والأولى أولى ، والالتفات إلى نون العظمة في آياتنا لتربية المهابة وإدخال الروعة وقرىء «في إمها» بكسر الهمزة اتباعا للميم وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى عطف على ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أمها رسولا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إليه في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا والكفر بآياتنا فالبعث غاية لعدم صحة الإهلاك بموجب السنة الإلهية لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي أي شيء أصبتموه من أمور الدنيا وأسبابها فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها فهو شيء شأنه أن يتمتع به ويتزين به أياما قلائل ويشعر بالقلة لفظ المتاع وكذا ذكر أَبْقى في المقابل وفي لفظ الدنيا إشارة إلى القلة والخسة وَما عِنْدَ اللَّهِ في الجنة وهو الثواب خَيْرٌ في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة وَأَبْقى لأنه أبدى وأين المتناهي من غير المتناهي أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ألا تتفكرون فلا تفعلون هذا الأمر الواضح فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وتخافون على ذهاب ما أصبتموه من متاع الحياة الدنيا وتمتنعون عن اتباع الهدى المفضي إلى ما عند اللّه تعالى لذلك فكأن هذا رد عليهم في منع خوف التخطف إياهم من اتباعه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم على تقدير تحقق وقوع ما يخافونه.
وقرأ أبو عمرو يعقلون بياء الغيبة على الالتفات وهو أبلغ في الموعظة لإشعاره بأنهم لعدم عقلهم لا يصلحون للخطاب ، فالالتفات هنا لعدم الالتفات زجرا لهم وقرىء «فمتاعا الحياة الدنيا» أي فتتمتعون به في الحياة الدنيا فنصب متاعا على المصدرية والحياة على الظرفية أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً أي وعدا بالجنة وما فيها من النعيم الصرف الدائم فإن حسن الوعد بحسن الموعود فَهُوَ لاقِيهِ أي مدركه لا محالة لاستحالة الخلف في وعده تعالى ولذلك جيء بالجملة الاسمية المفيدة لتحققه البتة وعطفت بالفاء المنبئة عن السببية كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو مشوب بالآلام منغص بالاكدار مستتبع بالتحسر على الانقطاع ، ومعنى الفاء الأولى ترتيب إنكار التشابه بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند اللّه تعالى أي أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوي بين الفريقين وقوله تعالى : ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ عطف على متعناه داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه مقوله كأنه قيل كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم نحضره أو أحضرناه يوم القيامة للنار أو العذاب وغلب لفظ المحضر في المحضر لذلك والعدول إلى الجملة الاسمية قيل للدلالة على التحقق حتما ولا يضر كون خبرها ظرفا مع العدول وحصول الدلالة على التحقق لو قيل أحضرناه لا ينافي ذلك ، وقد يقال : إن فيما ذكر في النظم الجليل شيء آخر غير الدلالة على التحقيق ليس في قولك ثم أحضرناه يوم القيامة كالدلالة على التقوى أو الحصر والدلالة على التهويل والإيقاع في حيرة ، ولمجموع ذلك جيء بالجملة الاسمية ، ويوم متعلق بالمحضرين المذكور ، وقدم عليه للفاصلة أو هو متعلق بمحذوف وقد مر الكلام في مثل ذلك ، وثم للتراخي في الرتبة دون الزمان وإن صح وكان فيه إبقاء اللفظ على حقيقته لأنه أنسب بالسياق
وهو أبلغ وأكثر إفادة وأرباب البلاغة يعدلون إلى المجاز ما أمكن لتضمنه لطائف النكات.
وقرأ طلحة «أمن وعدناه» بغير فاء ، وقرأ قالون والكسائي «ثم هو» بسكون الهاء كما قيل : عضد وعضد تشبيها للمنفصل وهو الميم الأخير من ثم بالمتصل ، والآية نزلت على ما أخرج ابن جرير عن مجاهد في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفي أبي جهل وأخرج من وجه آخر عنه أنها نزلت في حمزة وأبي جهل ، وقيل : نزلت في علي كرّم اللّه تعالى وجهه وأبي جهل ونسب إلى محمد بن كعب والسدي ، وقيل : في عمار رضي اللّه تعالى عنه ، والوليد بن المغيرة ، وقيل : نزلت في المؤمن والكافر مطلقا وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف على يوم القيامة لاختلافهما عنوانا وإن اتحدا ذاتا أو منصوب بإضمار

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 307
اذكر ونداؤه تعالى إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وأن يكون بدونها وهو نداء إهانة وتوبيخ فَيَقُولُ تفسير للنداء أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي فإن زعم مما يتعدى إلى مفعولين كقوله :
وأن الذي قد عاش يا أم مالك يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا
وحذف هنا المفعولان معا ثقة بدلالة الكلام عليهما نحو من يسمع يخل. وفي الكشاف يجوز حذف المفعولين في باب ظننت ولا يصح الاقتصار على أحدهما ، وادعى بعضهم أن عدم صحة الاقتصار هو الأصح وأنه الذي ذهب إليه الأكثرون وقال الأخفش : إذا دخلت هذه الأفعال ظن وأخواتها على أن نحو ظننت أنك قائم فالمفعول الثاني منهما محذوف والتقدير ظننت قيامك كائنا لأن المفتوحة بتأويل المفرد وسيبويه يرى في ذلك أن أن مع ما بعدها سدت مسد المفعولين ، وأجاز الكوفيون الاقتصار على الأول إذا سد شيء مسد الثاني كما في باب المبتدأ نحو أقائم أخواك فيقولون هل ظننت قائما أخواك؟ وقال أبو حيان : إذا دل دليل على أحدهما جاز حذفه كقوله :
كأن لم يكن بين إذا كان بعده تلاق ولكن لا إخال تلاقيا
أي لا أخال بعد البين تلاقيا وقال صاحب التحفة : يجوز الاقتصار في باب كسوت على أحد المفعولين بدليل وبغير دليل لأن الأول فيهما غير الثاني وأجاز بعضهم حذف الأول إذا كان هو الفاعل معنى نحو قوله تعالى : لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ [النور : 57] أي ولا يحسبن الذين كفروا إياهم أي أنفسهم معجزين ، وقال الطيبي : في عدم الحذف فيما عدا ما ذكر. وجواز الحذف فيه لعل السر أن هذه الأفعال قيود للمضامين تدخل على الجمل الاسمية لبيان ما هي عليه لأن النسبة قد تكون عن علم وقد تكون عن ظن فلو اقتصر على أحد طرفي الجملة القيام قرينة توهم أن الذي سيق له الكلام والذي هو مهتم بشأنه الطرف المذكور وليس غير المذكور مما يعتنى به ، نعم إذا كان الفاعل والمفعول لشيء واحد يهون الخطب ، وذكر عن صاحب الإقليد ما يؤيده وقد أطال طيب اللّه تعالى مرقده الكلام في هذا المقام ، وادعى ابن هشام أن الأولى أن يقدر هنا الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي لأنه لم يقع الزعم في التنزيل على المفعولين الصريحين بل على أن وصلتها كقوله تعالى : الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ [الأنعام : 94] وفيه نظر.
والظاهر أن المراد بالشركاء من عبد من دون اللّه تعالى من ملك أو جن أو إنس أو كوكب أو صنم أو غير ذلك قالَ استئناف مبني على حكاية السؤال كأنه قيل : فماذا كان بعد هذا السؤال فقيل قال : الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبت عليهم مقتضى القول وتحقق مؤداه وهو قوله تعالى : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود : 119] وغيره من آيات الوعيد ، والمراد بالموصول الشركاء الذين كانوا يزعمونهم شركاء من الشياطين ورؤساء الكفر ، وتخصيصهم بما في حيز الصلة مع شمول مضمونها الاتباع أيضا لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب ، والتعبير عنهم بذلك دون الذين زعموهم شركاء لإخراج مثل عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام لشمول الشركاء على ما سمعت له ، ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة لتفطنهم إن السؤال منهم سؤال توبيخ وإهانة وهو يستدعي استحضارهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأن العبدة سيقولون هؤلاء أضلونا ، وقيل : يجوز أن يكون العبدة قد أجابوا معتذرين بقولهم هؤلاء أضلونا ثم قال الشركاء ما قص اللّه تعالى ردا لقولهم ذلك إلا أنه لم يحك إيجازا لظهوره رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا تمهيد للجواب والإشارة إلى العبدة لبيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده وهؤُلاءِ مبتدأ خبره الموصول بعده ، وجملة أغوينا صلة الموصول والعائد محذوف للتصريح به فيما بعد أي الذين أغويناهم ، وقوله تعالى :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 308
أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا هو الجواب حقيقة أي ما أكرهناهم على الغي وإنما أغويناهم بطريق الوسوسة والتسويل لا بالقسر والإلجاء فغووا باختيارهم غيا مثل غينا باختيارنا ، ويجوز أن يكون الموصول صفة اسم الإشارة والخبر جملة أغويناهم كما غوينا ومنع ذلك أبو علي في التذكرة بأنه يؤدي إلى أن الخبر لا يكون فيه فائدة زائدة لأن إغواءهم إياهم قد علم من الوصف. ورد بأن التشبيه دل على أنهم غووا باختيار لا أن الإغواء إلجاء وقوله : إن كما غوينا فضلة فلا تصير ذاك أصلا في الجملة ليس بشيء لأن الفضلات قد تلزم في بعض المواضع نحو زيد عمرو قائم في داره وقرأ أبان عن عاصم وبعض الشاميين «كما غوينا» بكسر الواو ، قال ابن خالوية : وليس ذلك مختارا لأن كلام العرب غويت من الضلالة وغويت بالكسر من البشم تَبَرَّأْنا منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوى من أنفسهم موجهين التبرؤ ومهيئين له إِلَيْكَ والجملة تقرير لما قبلها لأن الإقرار بالغواية تبرؤ في الحقيقة ولذا لم تعطف عليه وكذا قوله تعالى : ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون في نفس الأمر والمآل أهواءهم ، وقيل : ما مصدرية متصلة بقوله تعالى : تَبَرَّأْنا وهناك جار مقدر أي تبرأنا من عبادتهم إيانا وجعلها نافية على أن المعنى ما كانوا يعبدوننا باستحقاق وحجة ليس بشيء وأيا ما كان فإيانا مفعول يعبدون قدم للفاصلة وَقِيلَ تقريعا لهم وتهكما بهم ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين زعمتم فَدَعَوْهُمْ لفرط الحيرة وإلا فليس هناك طلب حقيقة للدعاء ، وقيل : دعوهم لضرورة الامتثال على أن هناك طلبا ، والغرض من طلب ذلك منهم تفضيحهم على رؤوس
الأشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه قيل : والظاهر من تعقيب صيغة الأمر بالفاء في قوله تعالى : فَدَعَوْهُمْ أنها لطلب الدعاء وإيجابه والأول أبلغ في تهويل أمر أولئك الكفرة والإشارة إلى سوء حالهم وأمر التعقيب بالفاء سهل فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة ، وجوز أن يكون المراد فلم يجيبوهم لأنهم في شغل شاغل عنهم ولعلهم ختم على أفواههم إذ ذاك وَرَأَوُا الْعَذابَ الظاهر أن الضمير للداعين وقال الضحاك : هو للداعين والمدعوين جميعا ، وقيل : هو للمدعوين فقط وليس بشيء.
والظاهر أن الرؤية بصرية ورؤية العذاب إما على معنى رؤية مباديه أو على معنى رؤيته نفسه بتنزيله منزلة المشاهد ، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثاني محذوف أي رأوا العذاب متصلا بهم أو غاشيا لهم أو نحو ذلك.
وأنت تعلم أن حذف أحد مفعولي أفعال القلوب مختلف في جوازه وتقدم آنفا عن البعض أن الأكثرين على المنع فمن منع وقال في بيان المعنى ورأوا العذاب متصلا بهم جعل متصلا حالا من العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لو شرطية وجوابها محذوف أي لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب لدفعوا به العذاب أو لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين مؤمنين لما رأوا العذاب.
واعترض بأن الدال على المحذوف رأوا العذاب وهو مثبت فلا يقدر المحذوف منفيا وهو غير وارد لأن الالتفات إلى المعنى وإذا جاز الحذف لمجرد دلالة الحال فإذا انضم إليها شهادة المقال كان أولى وأولى ، وجوز أن تكون لَوْ للتمني أي تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين فلا تحتاج إلى الجواب وقال صاحب التقريب : فيه نظر إذ حقه أن يقال لو كنا إلا أن يكون على الحكاية كأقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم.
وجوز على تقدير كونها للتمني أن يكون قد وضع لو أنهم كانوا مهتدين موضع تحيروا لرؤيته كان كل أحد يتمنى لهم الهداية عند ذلك الهول والتحير ترحما عليهم أو هو من اللّه تعالى شأنه على المجاز كما قيل : في قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [البقرة : 103] ، وجعل الطيبي وضعه موضعه من إطلاق المسبب على السبب لأن تحيرهم سبب حامل على هذا القول.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 309
وقال عليه الرحمة : إن النظم على هذا الوجه ينطبق ، واختار الإمام الرازي أنها شرطية إلا أنه لم يرتض ما قالوه في تقدير الجواب فقال بعد نقل ما قالوه : وعندي أن الجواب غير محذوف ، وفي تقريره وجوه أحدها أن اللّه تعالى إذا خاطبهم بقوله سبحانه : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فهناك يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار فيصيرون بحيث لا يبصرون شيئا ، فقال سبحانه : ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يبصرون شيئا على معنى أنهم لم يروا العذاب لأنهم صاروا بحيث لا يبصرون شيئا ، وثانيها أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم : وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ، ولكنها ليست كذلك والإتيان بضمير العقلاء على حسب اعتقاد القوم بهم ، وثالثها أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم الآية ا ه ولعمري إنه لم يأت بشيء وما يرد عليه أظهر من أن يخفى على من له أدنى تمييز بين الحي واللي.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ عطف على الأول سئلوا أولا عن إشراكهم لأنه المقصود من أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، وثانيا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أصله فعموا عن الأنباء أي لم يهتدوا إليها ، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث استعير العمى لعدم الاهتداء ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وضمن العمى معنى الخفاء فعدي بعلى ولولاه لتعدى بعن ولم يتعلق بالأنباء لأنها مسموعة لا مبصرة ، وفي هذا القلب دلالة على أن ما يحضر الذهن يفيض عليه ويصل إليه من الخارج ونفس الأمر إما ابتداء وإما بواسطة تذكر الصورة الواردة منه بأماراتها الخارجية فإذا أخطأ الذهن الخارج بأن لم يصل إليه لانسداد الطريق بينه وبينه بعمى ونحوه لم يمكنه إحضار ولا استحضار ، وذلك لأنه لما جعل الأنباء الواردة عليهم من الخارج عميا لا تهتدي دل على أنهم عمي لا يهتدون بالطريق الأولى لأن اهتداءهم بها فإذا كانت هي في نفسها لا تهتدي فما بالك بمن يهتدي بها كذا قيل : فليتدبر ، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخيلية أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم ، والمراد بالأنباء إما ما طلب منهم مما أجابوا به الرسل عليهم السلام أو ما يعمها وكل ما يمكن الجواب به ، وإذا كانت الرسل عليهم السلام يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك في ذلك المقام الهائل ويفوضون العلم إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة المسئول فما ظنك بأولئك الضلال من الأمم.
وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش وأبو زرعة بن عمرو بن جرير «فعمّيت» بضم العين وتشديد الميم. فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا لفرط الدهشة أو العلم بأن الكل سواء في الجهل ، والفاء إما تفصيلية أو تفريعية لأن سبب العمى فرط الدهشة.
وقرأ طلحة «لا يساءلون» بإدغام التاء في السين فَأَمَّا مَنْ تابَ أي من الشرك وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أي جمع بين الإيمان والعمل الصالح فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي الفائزين بالمطلوب عنده عز وجل الناجين عن المهروب و(عسى) للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب المذكور بمعنى فليتوقع أن يفلح ، وقوله تعالى : فَأَمَّا قيل لتفصيل المجمل الواقع في ذهن السامع من بيان ما يؤول إليه حال المشركين ، وهو أن حال من تاب منهم كيف يكون ، والدلالة على ترتب الاخبار به على ما قبله فالآية متعلقة بما عندها.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 310
وقال الطيبي : هي متعلقة بقوله تعالى : أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً [القصص : 61] والحديث عن الشركاء مستطرد لذكر الإحضار ، وتعقبه في الكشف بأن الظاهر أنه ليس متعلقا به بل لما ذكر سبحانه حال من حق عليه القول من التابع والمتبوع قال تعالى شأنه حثا لهم على الإقلاع : فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فكأنه قيل : ما ذكر لمصيرهم فأما من تاب فكلا.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه من الأعيان والأعراض وَيَخْتارُ عطف على يخلق ، والمعنى على ما قيل يخلق ما يشاؤه باختياره فلا يخلق شيئا بلا اختيار ، وهذا مما لم يفهم مما يشاء فليس في الآية شائبة تكرار ، وقيل في دفع ما يتوهم من ذلك غير ما ذكر مما نقله ورده الخفاجي ولم يتعرض للقدح في هذا الوجه ، وأراه لا يخلو عن بعد ولي وجه في الآية سأذكره بعد إن شاء اللّه تعالى ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي التخير كالطيرة بمعنى التطير وهما والاختيار بمعنى ، وظاهر الآية نفي الاختيار عن العبد رأسا كما يقوله الجبرية ، ومن أثبت للعبد اختيارا قال : إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها اللّه تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم ، وهذا مذهب الأشعري على ما حققه العلامة الدواني قال : الذي أثبته الأشعري هو تعلق قدرة العبد وإرادته الذي هو سبب عادي لخلق اللّه تعالى الفعل فيه ، وإذا فتشنا عن مبادئ الفعل وجدنا الإرادة منبعثة عن شوق له وتصور أنه ملائم وغير ذلك من أمور ليس شيء منها بقدرة العبد واختياره ، وحقق العلامة الكوراني في بعض رسائله المؤلفة في هذه المسألة أن مذهب السلف أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن اللّه تعالى وأن له اختيارا لكنه مجبور باختياره وادعى أن ذلك هو مذهب الأشعري دون ما شاع من أن له قدرة غير مؤثرة أصلا بل هي كاليد الشلاء ونفي الاختيار عنه على هذا نحوه على ما مر فإنه حيث كان مجبورا به كان وجوده كالعدم ، وقيل : إن الآية أفادت نفي ملكهم للاختيار ويصدق على المجبور باختياره بأنه غير مالك للاختيار إذ لا يتصرف فيه كما يشاء تصرف المالك في ملكه ، وقيل : المراد لا يليق ولا ينبغي لهم أن يختاروا عليه تعالى أي لا ينبغي لهم التحكم عليه سبحانه بأن يقولوا لم لم يفعل اللّه تعالى كذا.
ويؤيده أن الآية نزلت حين قال الوليد بن المغيرة لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أو حين قال اليهود لو كان الرسول إلى محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم غير جبريل عليه السلام لآمنا به على ما قيل ، والجملة على هذا الوجه مؤكدة لما قبلها أو مفسرة له إذ معنى ذلك يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء أن يختاره لا ما يختاره العباد عليه ولذا خلت عن العاطف وهي على ما تقدم مستأنفة في جواب سؤال تقديره فما حال العباد أو هل لهم اختيار أو نحوه؟ فقيل : إنهم ليس لهم اختيار ، وضعف هذا الوجه بأنه لا دلالة على هذا المعنى في النظم الجليل وفيه حذف المتعلق وهو على اللّه تعالى من غير قرينة دالة عليه ، وكون سبب النزول ما ذكر ممنوع ، والقول الثاني فيه يستدعي بظاهره أن يكون ضمير لهم لليهود وفيه من البعد ما فيه ، وقيل : ما موصولة مفعول يختار والعائد محذوف ، والوقف على يشاء لا نافية ، والوقف على يختار كما نص عليه الزجاج وعلي بن سليمان والنحاس كما في الوجهين السابقين أي ويختار الذي كان لهم فيه الخير والصلاح ، واختياره تعالى ذلك بطريق التفضل والكرم عندنا وبطريق الوجوب عند المعتزلة ، وإلى موصولية ما وكونها مفعول يختار ذهب الطبري إلا أنه قال في بيان المعنى عليه : أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس ، وأنكر أن تكون نافية لئلا يكون المعنى أنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل ، وادعى أبو حيان أنه روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما معنى ما ذهب إليه ، واعترض بأن اللغة لا تساعده لأن المعروف فيها أن الخيرة بمعنى الاختيار لا بمعنى الخير وبأنه لا يناسب ما بعده من قوله تعالى : سُبْحانَ اللَّهِ إلخ ، وكذا لا يناسب ما قبله من قوله سبحانه : يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، وضعفه بعضهم بأن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 311
فيه حذف العائد ولا يخفى أن حذفه كثير. وأجيب عما اعترض به الطبري بأنه يجوز أن يكون المراد بمعونة المقام استمرار النفي أو يكون المراد ما كان لهم في علم اللّه تعالى ذلك ، وهذا بعد تسليم لزوم كون المعنى ما ذكره لو أبقى الكلام على ظاهره. وقال ابن عطية : يتجه عندي أن يكون ما مفعول يختار إذا قدرنا كان تامة أي إن اللّه تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا بإذنه وقوله تعالى : لَهُمُ الْخِيَرَةُ جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار اللّه سبحانه لهم لو قبلوا وفهموا ا ه.
يعني واللّه تعالى أعلم أن المراد خيرة اللّه تعالى لهم أي اختياره لمصلحتهم. وللفاضل سعدي جلبي نحو هذا إلا أنه قال في قوله تعالى : لَهُمُ الْخِيَرَةُ إنه في معنى ألهم الخيرة بهمزة الاستفهام الإنكاري ، وذكر أن هذا المعنى يناسبه ما بعد من قوله سبحانه : سُبْحانَ اللَّهِ إلخ فإنه إما تعجيب عن إثبات الاختيار لغيره تعالى أو تنزيه له عز وجل عنه ، ولا يخفى ضعف ما قالاه لما فيه من مخالفة الظاهر من وجوه ، ويظهر لي في الآية غير ما ذكر من الأوجه ، وهو أن يكون يختار معطوفا على يخلق والوقف عليه تام كما نص عليه غير واحد وهو من الاختيار بمعنى الانتقاء والاصطفاء وكذا الخيرة بمعنى الاختيار بهذا المعنى والفعل متعد حذف مفعوله ثقة بدلالة ما قبله عليه أي ويختار ما يشاء ، وتقديم المسند إليه في كل من جانبي المعطوف والمعطوف عليه لإفادة الحصر ، وجملة ما كان لهم الخيرة مؤكدة لما قبلها حيث تكفل الحصر بإفادة النفي الذي تضمنته ، والكلام مسوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة كما يرمز إليه ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ وللتعبير - بما - وجه ظاهر ، والمعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه دون غيره ينتقي ويصطفي ما يشاء انتقاءه واصطفاءه فيصطفي مما يخلقه شفعاء ويختارهم للشفاعة ويميز بعض مخلوقاته جل جلاله على بعض ويفضله عليه بما شاء ما كان لهؤلاء المشركين أن ينتقوا ويصطفوا ما شاؤوا ويميزوا بعض مخلوقاته تعالى على بعض ويجعلوه مقدما عنده عز وجل على غيره لأن ذلك يستدعي القدرة الكاملة وعدم كون فاعله محجورا عليه أصلا وأنى لهم ذلك فليس لهم إلا اتباع اصطفاء اللّه تعالى وهو جل وعلا لم يصطف شركاءهم الذين اصطفوهم للعبادة والشفاعة على الوجه الذي اصطفوهم عليه فما هم إلا جهال ضلال صدوا عما يلزمهم وتصدوا لما ليس لهم بحال من الأحوال ، وإن شئت فنزل
الفعل منزلة اللازم وقل المعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه لا غيره يفعل الاختيار والاصطفاء فيصطفي بعض مخلوقاته لكذا وبعضا آخر لكذا ويميز بعضا منها على بعض ويجعله مقدما عنده تعالى عليه فإنه سبحانه قادر حكيم لا يسأل عما يفعل وهو جل وعلا أعظم من أن يعترض عليه وأجل ، ويدخل في الغير المنفي عنه ذلك المشركون فليس لهم أن يفعلوا ذلك فيصطفوا بعض مخلوقاته للشفاعة ويختاروهم للعبادة ويجعلوهم شركاء له عز وجل ويدخل في الاختيار المنفي عنهم ما تضمنه قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فإن فيه انتقاء غيره صلّى اللّه عليه وسلّم من الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي وتمييزه بأهلية تنزيل القرآن عليه فإن صح ما قيل : في سبب نزول هذه الآية من أنه القول المذكور كان فيها رد ذلك عليهم أيضا إلا أنها لتضمنها تجهيلهم باختيارهم الشركاء واصطفائهم إياهم آلهة وشفعاء كتضمنها الرد المذكور جيء بها هنا متعلقة بذكر الشركاء وتقريع المشركين على شركهم ، وربما يقال :
إنها لما تضمنت تجهيلهم فيما له نوع تعلق به تعالى كاتخاذ الشركاء له سبحانه وفيما له نوع تعلق بخاتم رسله عليه الصلاة والسلام كتمييزهم غيره عليه الصلاة والسلام بأهلية الإرسال إليه وتنزيل القرآن عليه جيء بها بعد ذكر سؤال المشركين عن إشراكهم وسؤالهم عن جوابهم للمرسلين الناهين لهم عنه الذين عين أعيانهم وقلب صدر ديوانهم رسوله الخاتم لهم صلى اللّه تعالى عليه وسلم فلها تعلق بكلا الأمرين إلا أن تعلقها بالأمر الأول أظهر وأتم وخاتمتها تقتضيه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 312
على أكمل وجه وأحكم. وربما يقال أيضا : إن لها تعلقا بجميع ما قبلها ، أما تعلقها بالأمرين المذكورين فكما سمعت ، وأما تعلقها بذكر حال التائب فمن حيث إن انتظامه في سلك المفلحين يستدعي اختيار اللّه تعالى إياه واصطفاءه له وتمييزه على من عداه ، ولذا جيء بها بعد الأمور الثلاثة وذكر انحصار الخلق فيه تعالى وتقديمه على انحصار الاختيار والاصطفاء مع أن مبنى التجهيل والرد إنما هو الثاني للإشارة إلى أن انحصار الاختيار من توابع انحصار الخلق ، وفي ذكره تعالى بعنوان الربوبية إشارة إلى أن خلقه عز وجل ما شاء على وفق المصلحة والحكمة وإضافة الرب إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم لتشريفه عليه الصلاة والسلام وهي في غاية الحسن إن صح ما تقدم عن الوليد سببا للنزول ، ويخطر في الباب احتمالات أخر في الآية فتأمل فإني لا أقول ما أبديته هو المختار كيف وربك جل شأنه يخلق ما يشاء ويختار سُبْحانَ اللَّهِ أي تنزه تعالى بذاته تنزها خاصا به من أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره عز شأنه وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية ويحتمل أن تكون موصولة بتقدير مضاف أي عن مشاركة ما يشركونه به كذا قيل ، وجعل بعضهم سُبْحانَ اللَّهِ تعجيبا من إشراكهم من يضرهم بمن يريد لهم كل خير تبارك وتعالى وهو على احتمال كون ما فيما تقدم موصولة مفعول يختار ، والمعنى ويختار ما كان لهم فيه الخير والصلاح ، ويجوز أن يكون تعجيبا أيضا من اختيارهم شركاءهم الذين أعدوهم للشفاعة وإقدامهم على ما لم يكن لهم وذلك بناء على ما ظهر لنا وظاهر كلام كثير أن الآية ليست من باب الإعمال ، وجوز أن تكون منه بأن يكون كل من سبحان وتعالى طالبا عما يشركون والأفيد على ما قيل أن لا تكون منه.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما يكنون ويخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة ومن عداوتهم لرسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، ونحو ذلك وَما يُعْلِنُونَ وما يظهرونه من الأفعال الشنيعة والطعن فيه عليه الصلاة والسلام وغير ذلك ، ولعله للمبالغة في خباثة باطنهم لأن ما فيه مبدأ لما يكون في الظاهر من القبائح لم يقل ما يكون كما قيل : ما يعلنون.
وقرأ ابن محيصن «تكن» بفتح التاء وضم الكاف وَهُوَ اللَّهُ أي وهو تعالى المستأثر بالألوهية المختص بها ، وقوله سبحانه : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير لذلك كقولك : الكعبة القبلة لا قبلة إلا هي.
لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي له تعالى ذلك دون غيره سبحانه لأنه جل جلاله المعطي لجميع النعم بالذات وما سواه وسائط ، والمراد بالحمد هنا ما وقع في مقابلة النعم بقرينة ذكرها بعده بقوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ.
وزعم بعضهم أن الحمد هنا أعم من الشكر ، واعتبر الحصر بالنسبة إلى مجموع حمدي الدارين زاعما أن الحمد في الدنيا وإن شاركه فيه غيره تعالى لكن الحمد في الآخرة لا يكون إلا له تعالى ، وفيه أن الحمد مطلقا مختص به تعالى لأن الفضائل والأوصاف الجميلة كلها بخلقه تعالى فيرجع الحمد عليها في الآخرة له تعالى لأنه جل وعلا مبديها ومبدعها ، ولو نظر إلى الظاهر لم يكن حمد الآخرة مختصا به سبحانه أيضا فإن نبينا صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم يحمده الأولون والآخرون عند الشفاعة الكبرى ، وفسر غير واحد حمده تعالى في الآخرة بقول المؤمنين :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر : 74] ، وقولهم : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر : 34] ، وقولهم : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة : 2] ، وقالوا : التحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة ، وفي حديث رواه مسلم وأبو داود عن جابر في وصف أهل الجنة يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس وَلَهُ الْحُكْمُ أي

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 313
القضاء النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغيره تعالى ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أي له الحكم بين عباده تعالى فيحكم لأهل طاعته بالمغفرة والفضل ولأهل معصيته بالشقاء والويل وَإِلَيْهِ سبحانه لا إلى غيره.
تُرْجَعُونَ بالبعث قُلْ تقريرا لما ذكر أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني ، وقرأ الكسائي «أريتم» بحذف الهمزة إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما وهو عند البعض من السرد وهو المتابعة والإطراد والميم مزيدة لدلالة الاشتقاق عليه فوزنه فعمل ونظيره دلامص من الدلاص ، يقال : درع دلاص أي ملساء لينة.
واختار بعض النحاة أن الميم أصلية فوزنه فعلل لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط ، ونصبه إما على أنه مفعول ثان لجعل أو على أنه حال من الليل ، وقوله تعالى : إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إما متعلق بسرمدا أو بجعل وجوز أبو البقاء أيضا تعلقه بمحذوف وقع صفة لسرمدا وجعله تعالى كذلك بإسكان الشمس تحت الأرض مثلا وقوله تعالى :
مَنْ إِلهٌ مبتدأ وخبر ، وقوله سبحانه : غَيْرُ اللَّهِ صفة لإله. وقوله تعالى : يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ صفة أخرى له عليها يدور أمر التبكيت والإلزام كما في قوله تعالى : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [سبأ : 24] ، وقوله سبحانه :
فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك : 30] ونظائرهما خلا إنه قصد بيان انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة ، ولم يؤت بهل التي هي لطلب التصديق المناسب بحسب الظاهر للمقام ، وأتى بمن التي هي لطلب التعيين المقتضي لأصل الوجود لإيراد التبكيت والإلزام على زعمهم فإنه أبلغ كما لا يخفى ، وجملة مَنْ إِلهٌ إلخ قال أبو حيان : في موضع المفعول الثاني لأرأيتم وجعل الليل مما تنازع فيه أرأيتم وجعل وقال : إنه أعمل فيه الثاني فيكون المفعول الأول للأول محذوفا ، وحيث جعلت تلك الجملة في موضع مفعوله الثاني لا بد من تقدير العائد فيها أي من إله غيره يأتيكم بضياء بدله مثلا ، وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله ، وكذا يقال في الآية بعد ، وعن ابن كثير أنه قرأ «بضآء» بهمزتين أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع فهم وقبول الدلائل الباهرة والنصوص المتظاهرة لتعرفوا أن غير اللّه تعالى لا يقدر على ذلك قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس في وسط السماء مثلا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال أَفَلا تُبْصِرُونَ الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة لتقفوا على أن غير اللّه تعالى لا قدرة له على ذلك ، ويعلم مما ذكرنا أن كلّا من جملتي أفلا تسمعون وأ فلا تبصرون تذييل للتوبيخ الذي يعطيه قوله تعالى : أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ إلخ قبله ، وأفاد الزمخشري أن ظاهر التقابل يقتضي ذكر النهار والتصرف فيه إلا أن العدول عن ذلك إلى الضياء وهو ضوء الشمس للدلالة على أنه يتضمن منافع كثيرة منها التصرف فلو أتى بالنهار لاستدعى القصر على تلك المنفعة من ضرورة التقابل ولأن المنافع للضياء لا للنهار على أن النهار أيضا من منافعه ، ثم استشعر أن يقال : فلم لم يؤت بالظلام بدل الليل في الآية الثانية لتتم
المقابلة من هذا الوجه؟ وأجاب بأنه ليس بتلك المنزلة فلا هو مقصود في ذاته كالضياء ولا أن المنافع من روادفه مع ما فيهما من الاستئناس والاشمئزاز ، بل لو تأمل حق التأمل وجد حكم بأن الليل من منافع الضياء أيضا والظلام من ضرورات كون الشمس المضيئة تحت الأرض وإلقاء ظل الليل ، ثم أفاد أن التفصلة وهو التذييل المذكور فيها إرشاد إلى هذه النكتة فإن قوله تعالى : أَفَلا تَسْمَعُونَ يدل على أن التوبيخ بعدم التأمل في الضياء أكثر من حيث إن مدرك السمع أكثر. والمراد ما يدركه العقل بواسطة السمع فلا يرد أن مدركه الأصوات وحدها ومدرك البصر أكثر من ذلك ، وذلك أن ما لا يدرك بحس أصلا يدرك بواسطة السمع إذا عبر عنه المعبر بعبارة مفهمة ، وأما ما يدرك بالبصر فمن مشاهدة المبصرات وهي قليلة ، وأما المطالعة من الكتب فإنها أضيق مجالا من السمع وقرعه كذا في الكشف ، والعلامة الطيبي قرر عبارة الكشاف بما قرر ثم قال : الأبعد من التكلف أن يجعل أفلا تسمعون تذييلا للتوبيخ المستفاد من أرأيتم إلخ قبله

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 314
وكذا أَفَلا تُبْصِرُونَ على ما في المعالم أفلا تسمعون سماع فهم وقبول أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ ليجتمع لهم الصمم والعمى من الإعراض عن سماع البراهين والإغماض عن رؤية الشواهد.
ولما كانت استدامة الليل أشق من استدامة النهار لأن النوم الذي هو أجل الغرض فيه شبيه الموت والابتغاء من فضل اللّه تعالى الذي هو بعض فوائد النهار شبيه بالحياة قيل في الأول أفلا تسمعون أي سماع فهم وفي الثاني أفلا تبصرون أي ما أنتم عليه من الخطأ ليطابق كل من التذييلين الكلام السابق من التشديد والتوبيخ ، وذكر في حاصل المعنى ما ذكرناه أولا ثم قال : وفيه أن دلالة النص أولى وأقدم من العقل ، وصاحب الكشف قرر العبارة بما سمعت وذكر أن ذلك لا ينافي ما في المعالم بل يؤكده ويبين فائدة التوبيخين ، ونقل الطيبي عن الراغب في غرة التنزيل أنه قال : إن نسخ الليل بالنير الأعظم أبلغ في المنافع وأضمن للمصالح من نسخ النهار بالليل ، ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه لاستغناء أهلها عن الاستراحة فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الذي هو أجدى من تفاريق العصا ومنافع ضوء شمسه أكثر من أن تحصى أحق وأولى ، ومعنى قوله تعالى : أَفَلا تَسْمَعُونَ أفلا تسمعون سماع من يتدبر المسموع ليستدرك منه قصد القائل ويحيط بأكثر ما جعل اللّه تعالى في النهار من المنافع فإن عقيب السماع استدراك المراد بالمسموع إذا كان هناك تدبر وتفكر فيه ومعنى أَفَلا تُبْصِرُونَ أتستدركون من ذلك ما يجب استدراكه انتهى.
وفي الكشف أنه مؤيد لما ذكره صاحب الكشاف ، وربما يقال ذكر سبحانه أولا فرضية جعل الليل سرمدا وثانيا فرضية جعل النهار كذلك لأن الليل كما قالوا مقدم على النهار شرعا وعرفا وأيضا ذلك أوفق بقوله تعالى وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [القصص : 69] ففي المثل الليل أخفى للويل وكذا بقوله تعالى سبحانه : لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ ففي الأثر كان الخلق في ظلمة فرش اللّه تعالى عليهم من نوره ، ولعله لاعتبار الأولية والآخرية ذيلت الآية الأولى بقوله تعالى : أَفَلا تَسْمَعُونَ بناء على أن المعنى أفلا تسمعون ممن سلف من آبائكم أو مما سلف منا أن آلهتكم لا تقدر على مثل ذلك والثانية بقوله سبحانه : أَفَلا تُبْصِرُونَ بناء على أن المعنى أفلا تبصرون أنتم عجزها عن مثل ذلك وجيء بالضياء غير موصوف في الآية الأولى وبالليل موصوفا في الثانية لما أفاده الزمخشري وقيل في وجه تذييل الآية الأولى بقوله تعالى : أَفَلا تَسْمَعُونَ دون قوله سبحانه : أَفَلا تُبْصِرُونَ أن المفروض لو تحقق بقي معه السمع دون الإبصار إذ ظلمة الليل لا تحجب السمع وتحجب البصر ، وفي وجه تذييل الثانية بقوله تعالى : أَفَلا تُبْصِرُونَ دون أَفَلا تَسْمَعُونَ أن تحقق المفروض وعدمه سيان في أمر السمع دون الإبصار إذ لضياء النهار مدخل في الإبصار وليس له مدخل في السمع أصلا وهو كما ترى (و اعلم) أن هاهنا إشكالا وهو أن جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة إن تحقق لم يتصور الإتيان بضياء أصلا وكذا جعل النهار سرمدا إلى يوم القيامة إن تحقق لم يتصور الإتيان بليل كذلك ، أما من غيره تعالى فظاهر لأنه معدن العجز عن كل شيء ، وأما منه عز وجل فلاستلزامه اجتماع الليل والنهار إذ لو لم يجتمعا لم يتحقق الليل مستمرا إلى يوم القيامة وكذا جعل النهار كذلك وهو خلاف المفروض واجتماعهما محال والمحال لا صلاحية له
لتعلق القدرة فلا يراد.
وأجيب بأن المراد إن أراد سبحانه ذلك فمن إله غيره تعالى يأتيكم بخلاف مراده سبحانه بأن يقطع الاستمرار فيأتي بنهار بعد ليل وليل بعد نهار ، واعترض بأنه يفهم من الآية حينئذ أنه جل وعلا هو الذي إن أراد ذلك يأتيهم بخلاف مراده تعالى فيقطع الاستمرار وهو مشكل أيضا لأن إتيانه تعالى بخلاف مراده جل وعلا مستلزم لتخلف المراد عن الإرادة وهو محال فإذا أراد اللّه تبارك وتعالى شيئا على وجه إرادة لا تعليق فيها لا يمكن أن يريده على خلاف ذلك

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 315
الوجه ، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المراد إن أراد اللّه تعالى ذلك غير معلق له على إرادته عز شأنه خلافه لا يأتيكم بخلافه غيره عز وجل ولم يصرح بالقيد لدلالة العقل الصريح على أن الإرادة غير المعلقة لا يمكن الإتيان بخلاف موجبها أصلا ، ومن الناس من ذهب إلى أنه سبحانه لا يبت إرادته فجميع ما يريده جل شأنه معلق ، وقيل : الأولى أن يقال : ليس المراد سوى أن آلهتهم لا يقدرون على الإتيان بنهار بعد ليل وليل بعد نهار إذا أراد اللّه تعالى شأنه استمرار أحدهما ، وإنما القادر على الإتيان بذلك هو اللّه سبحانه وحده من غير نظر إلى كون ذلك الإتيان مقيدا بتلك الإرادة فتدبر وَمِنْ رَحْمَتِهِ أي بسبب رحمته جل شأنه جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي في النهار بالسعي بأنواع المكاسب ففي الآية ما يقال له اللف والنشر ويسمى أيضا التفسير كقول ابن حيوش :
ومقرطق يغني النديم بوجهه عن كأسه الملأى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها في مقلتيه ووجنتيه وريقه
وضمير فضله للّه تعالى وجوز أبو حيان كونه للنهار على الإسناد المجازي وهو خلاف الظاهر ، وفيها إشارة إلى مدح السعي في طلب الرزق وقد ورد «الكاسب حبيب اللّه»
وهو لا ينافي التوكل وأن ما يحصل للعبد بواسطته فضل من اللّه عز وجل وليس مما يجب عليه سبحانه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولكي تشكروا نعمته تعالى فعل ما فعل أو لتعرفوا نعمته تعالى وتشكروه عليها وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ منصوب باذكر.
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقريع إثر تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب اللّه تعالى من الإشراك كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده عز وجل ، أو أن الأول لبيان فساد رأيهم كما يشير إليه قوله تعالى هناك : حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [القصص : 63] ، وهذا لبيان أن إشراكهم لم يكن عن سند بل عن محض هوى كما يشير إليه قوله تعالى بعد هاتُوا بُرْهانَكُمْ أو الأول إحضار للشركاء بعدم الصلوح لقوله سبحانه بعده : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ وهذا تحسير بأنهم لم يكونوا في شيء من اتخاذهم ألا ترى قوله تعالى : وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ وَنَزَعْنا عطف على يناديهم وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بشأن النزع وتهويله أي أخرجنا بسرعة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم شَهِيداً شاهدا يشهد عليهم بما كانوا عليه وهو نبي تلك الأمة كما روي عن مجاهد ، وقتادة ، ويؤيده قوله تعالى :
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء : 41] وهذا في موقف من مواقف يوم القيامة فلا يضر كون الشهيد في موقف آخر غير الأنبياء عليهم السلام وهم أمة محمد صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أو الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى : وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزمر : 69] فإنه دال في الظاهر على مغايرة الشهداء للأنبياء عليهم السلام.
وقيل : يجوز اتحاد الموقف والدلالة على المغايرة غير مسلمة ولو سلمت فشهادة الأنبياء عليهم السلام لا تنافي شهادة غيرهم معهم ، وقوله تعالى : مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وإفراد شهيد ظاهر فيما تقدم ، ومن هنا قال في البحر قيل : أي عدولا وخيارا ، والشهيد عليه اسم جنس فَقُلْنا لكل من تلك الأمم هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا يومئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية لا يشاركه سبحانه فيها أحد.
وَضَلَّ عَنْهُمْ أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع فضل مستعار لمعنى غاب استعارة تبعية.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 316
ما كانُوا يَفْتَرُونَ في الدنيا من الباطل إِنَّ قارُونَ اسم أعجمي منع الصرف للعلمية والعجمة كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أي من بني إسرائيل كما هو الظاهر ، وحكى ابن عطية الإجماع عليه ، واختلف في جهة قرابته من موسى عليه السلام
فروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وابن جريج وقتادة وإبراهيم أنه ابن عم موسى عليه السلام فموسى بن عمران بن قاهث بقاف وهاء مفتوحة وثاء مثلثة ابن لاوي بالقصر ابن يعقوب عليه السلام وهو ابن يصهر بياء تحتية مفتوحة وصاد مهملة ساكنة وهاء مضمومة ابن قاهث إلخ.
وفي مجمع البيان عن عطاء عن ابن عباس أنه ابن خالة موسى عليه السلام ، وروي ذلك عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه.
وحكي عن محمد بن إسحاق أنه عم موسى عليه السلام وهو ظاهر على قول من قال : إن موسى عليه السلام ابن عمران بن يصهر بن قاهث وهو ابن يصهر بن قاهث وكان يسمى المنور لحسن صورته وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم لكنه نافق كما نافق السامري وقال : إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان لهارون فما لي؟ وروي أنه لما جاوز بهم موسى عليه السلام البحر وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرب القربان ويكون رأسا فيهم وكان القربان إلى موسى عليه السلام فجعله لأخيه هارون وجد قارون في نفسه فحسدهما فقال لموسى الأمر لكما ولست على شيء إلى متى أصبر قال موسى عليه السلام هذا صنع اللّه تعالى قال واللّه تعالى لا أصدقك حتى تأتي بآية فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر فَبَغى عَلَيْهِمْ فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم وعد من تكبره أنه زاد في ثيابه شبرا أو ظلمهم وطلب ما ليس حقه قيل : وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل.
وقيل : حسدهم وطلب زوال نعمهم ، وذلك ما ذكر منه في حق موسى وهارون عليهما السلام ، والفاء فصيحة أي ضل فبغى ، وجوز أن تكون على ظاهرها لأن القرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ أي الأموال المدخرة فهو مجاز بجعل المدخر كالمدفون إن كان الكنز مخصوصا به ، وحكي في البحر أنه سميت أمواله كنوزا لأنها لم تؤد منها الزكاة وقد أمره موسى عليه السلام بأدائها فأبى وهو من أسباب عداوته إياه ، وقيل : الكنوز هنا الأموال المدفونة وكان كما روي عن عطاء قد أظفره اللّه تعالى بكنز عظيم من كنوز يوسف عليه السلام ما إِنَّ مَفاتِحَهُ أي مفاتح صناديقه فهو على تقدير مضاف أو الإضافة لأدنى ملابسة وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به.
وقال السدي : أي خزائنه وفي معناه قول الضحاك أي ظروفه وأوعيته ، وروي نحو ذلك عن ابن عباس ، والحسن وقياس واحده على هذا المفتح بالفتح لأنه اسم مكان ، ويؤيد ما تقدم قراءة الأعمش مفاتيحه بياء جمع مفتاح وما موصولة ثاني مفعولي آتى ومفاتحه اسم إن وقوله تعالى : لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ خبرها والجملة صلة ما والعائد الضمير المجرور ، ومنع الكوفيون جواز كون الجملة المصدرة بأن صلة للموصول ، قال النحاس : سمعت علي بن سليمان - يعني الأخفش الصغير - يقول ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات إنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه وفي القرآن ما إن مفاتحه انتهى ، ولا يخفى أن المانع من ذلك إن كان عدم السماع فالرد عليهم لا يتم إلا بشاهد لا يحتمل غير ذلك وما في الآية تحتمل أن تكون نكرة موصوفة وإن كان المانع كون إن تقع في ابتداء الكلام فلا ترتبط الجملة المصدرة بها بما قبلها فالرد بالآية المذكورة عليهم تام لأن المانع المذكور كما يمنع كون

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 317
الجملة صلة يمنع كونها صفة فتدبر ، و(تنوء) من ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله فالباء للتعدية كما في ذهبت به ، والعصبة الجماعة الكثيرة من غير تعيين لعدد خاص على ما ذكره الراغب ، ومن أهل اللغة من عين لها مقدارا واختلفوا فيه فقيل من عشرة إلى خمسة عشر وهو مروي هنا عن مجاهد ، وقيل : ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين وروي ذلك عن الكلبي ، وقيل : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : من عشرة إلى أربعين وروي هذا عن قتادة وقيل : أربعون ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقيل : سبعون ، وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانىء وقال الخفاجي : قد يقال إن أصل معناها الجماعة مطلقا كما هو مقتضى الاشتقاق ثم إن العرف خصها بعدد واختلف فيه أو اختلف بحسب موارده ، وقال أبو زيد : تنوء من نؤت بالحمل إذا نهضت به قال الشاعر :
تنوء بأخراها فلأيأ قيامها وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر
وفي الآية على هذا قلب عند أبي عبيدة ومن تبعه والأصل تنوء العصبة بها أي تنهض ، وقيل : يجوز أن لا يكون هناك قلب لأن المفاتح تنهض ملابسة للعصبة إذا نهضت العصبة بها ، والأولى ما قدمناه أولا وهو منقول عن الخليل وسيبويه والفراء واختاره النحاس ، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي ، وقرأ بديل بن ميسرة «لينوء» بالياء التحتية ، وخرج ذلك أبو حيان على تقدير مضاف مذكر يرجع إليه الضمير أي ما إن حمل مفاتحه أو مقدارها أو نحو ذلك ، وقال ابن جني : ذهب بالتذكير إلى ذلك القدر والمبلغ فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه ونحوه ، قول الراجز :
مثل الفراخ نتفت حواصله أي حواصل ذلك أو حواصل ما ذكرنا ، وقال الزمخشري : وجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال كقولك ذهبت أهل اليمامة انتهى ، وإنما فسر المفاتح بالخزائن دون ما يفتح به ليتم الاتصال فإن اتصال الخزائن بالمخزون فوق اتصال المفاتيح به بل لا اتصال للثاني وحينئذ يكتسي التذكير من المضاف إليه كما اكتسى التأنيث من عكسه كالمثال الذي ذكره ، وما تقدم عن غيره أولى. قال في الكشف لأن تفسير المفاتح بالخزائن ضعيف جدا لفوات المبالغة ، وقيل : إن المفاتح بذلك المعنى غير معروف وقد سمعت أنه تفسير مأثور فإذا صح ذلك فلا يلتفت إلى ما ذكر من هذا وكلام الكشف ، وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ «ما إن مفتاحه» على الإفراد فلا تحتاج قراءته «لينوء» بالياء إلى تأويل ، وقد بولغ في كثرة مفاتيحه فروي عن خيثمة أنها كانت وقر ستين بغلا أغر محجلا ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح كنز ، وفي رواية أخرى عنه كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود كل مفتاح على خزانة على حدة فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلا أغر محجلا.
وفي البحر ذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب أو يقارب الكذب فلم أكتبه ، ومما لا مبالغة فيه ما روي عن ابن عباس من أن المفاتح الخزائن وكانت خزائنه يحملها أربعون رجلا أقوياء وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف وعليه فأمثال قارون في الناس أكثر من خزائنه ، ولعل الآية تشير إلى ما أوتيه فوق ذلك ، ولا أظن الأمر كما روي عن خيثمة ، وأبعد أبو مسلم في تفسير الآية فقال : المراد من المفاتح العلم والإحاطة كما في قوله تعالى : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام : 59] والمراد وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها القائمين على حفظها إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ.
قال الزمخشري : هو متعلق بتنوء وضعف بأن أثقال المفاتح العصبة ليس مقيدا بوقت قول قومه ، وقال ابن عطية :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 318
ببغي ، وضعف بنحو ذلك ، وقال أبو البقاء : بآتينا ، ويجوز أن يكون ظرفا لمحذوف دل عليه الكلام أي بغى عليهم إذ قال ، وفي كل منهما ما سبق ، وقال الحوفي منصوب باذكر محذوفا ، وجوز كونه متعلقا بما بعده من قوله تعالى : قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ والجملة مقررة لبغيه ورجح تعلقه بمحذوف والتقدير أظهر التفاخر والفرح بما أوتي إذ قال له قومه لا تَفْرَحْ لا تبطر والفرح بالدنيا لذاتها مذموم لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتما كما قال أبو الطيب :
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
وقال ابن شمس الخلافة :
وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا للمرء خير من نعيم زائل
ولذلك قال عز وجل : وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد : 23] والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير قال الشاعر :
ولست بمفراح إذ الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتقلب
وقال آخر :
إن تلاق منفسا لا تلقنا فرح الخير ولا نكبو لضر
وعلل سبحانه النهي هاهنا بكون الفرح مانعا من محبته عز وجل فقال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ فهو دليل على أن كون الفرح بالدنيا مذموما شرعا ، وإنما قلنا : إن الفرح بها لذاتها مذموم لأن الفرح بها لكونها وسيلة إلى أمر من أمور الآخرة غير مذموم ، ومحبة اللّه تعالى عند كثير صفة فعل أي أنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا ينعم جل شأنه عليهم ولا يقربهم عز وجل ، والمراد أنه تعالى يبغضهم ويهينهم ويبعدهم عن حضرته سبحانه ، وقال بعضهم : إن في نفي محبته تعالى إياهم تنبيها على أن عدم محبته تعالى كاف في الزجر عما نهى عنه فما بالك بالبغض والعقاب وهو حسن ، وحكى عيسى بن سليمان الحجازي أنه قرىء «الفارحين».
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من الكنوز والغنى الدَّارَ الْآخِرَةَ أي ثوابها أي ثواب اللّه تعالى فيها بصرف ذلك إلى ما يكون وسيلة إليه و(في) إما ظرفية على معنى ابتغ متقلبا ومتصرفا فيه أو سببية على معنى ابتغ بصرف ما أتاك اللّه تعالى ذلك وقرىء «اتبع» وَلا تَنْسَ أي ولا تترك ترك المنسي نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي حظك منها وهو كما أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن تعمل فيها لآخرتك ، وروي ذلك عن مجاهد.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة هو أن تأخذ من الدنيا ما أحل اللّه تعالى لك ، وأخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد عن منصور قال : ليس هو عرض من عرض الدنيا ولكن نصيبك عمرك أن تقدم فيه لآخرتك ، وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن أنه قال في الآية : قدم الفضل وأمسك ما يبلغك ، وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف ، وقيل :
أرادوا بنصيبه من الدنيا الكفن كما قال الشاعر :
نصيبك مما تجمع الدهر كله رادءان تلوى فيهما وحنوط
وفي نهيهم إياه عن نسيان ذلك حض عظيم له على التزود من ماله للآخرة فإن من يكون نصيبه من دنياه وجميع ما يملكه الكفن لا ينبغي له ترك التزوّد من ماله وتقديم ما ينفعه في آخرته وَأَحْسِنْ إلى عباد اللّه عز وجل كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي مثل إحسانه تعالى إليك فيما أنعم به عليك ، والتشبيه في مطلق الإحسان أو لأجل إحسانه سبحانه إليك على أن الكاف للتعليل.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 319
وقيل : المعنى وأحسن بالشكر الطاعة كما أحسن اللّه تعالى عليك بالإنعام ، والكاف عليه أيضا تحتمل التشبيه والتعليل وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ نهي عن الاستمرار على ما هو عليه من الظلم والبغي.
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ الكلام فيه كالكلام في قوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وهذه الموعظة بأسرها كانت من مؤمني قومه كما هو ظاهر الآية ، وقيل : إنها كانت من موسى عليه السلام
[سورة القصص (28) : الآيات 78 إلى 88]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قالَ مجيبا لمن نصحه إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي كأنه يريد الرد على قولهم : كما أحسن اللّه إليك لإنبائه عن أنه تعالى أنعم عليه بتلك الأموال والذخائر من غير سبب واستحقاق من قبله ، وحاصله دعوى استحقاقه لما أوتيه لما هو عليه من العلم ، وقوله عَلى عِلْمٍ عند أكثر المعربين في موضع الحال من مرفوع أوتيته قيد به العامل إشارة إلى علة الإيتاء ووجه استحقاقه له أي إنما أوتيته كائنا على علم ، وجوز كون على تعليلية والجار والمجرور متعلق بأوتيت على أنه ظرف لغو كأنه قيل أوتيته لأجل علم ، وعِنْدِي في موضع الصفة لعلم والمراد لعلم مختص بي دونكم ، وجوز كونه متعلقا بأوتيت ، ومعناه في ظني ورأيي كما في قولك : حكم كذا الحل عند أبي حنيفة عليه الرحمة ، وفي الكشاف ما هو ظاهر في أن عندي إذا كان بمعنى في ظني ورأيي كان خبر مبتدأ محذوف أي هو في ظني ورأيي هكذا ، والجملة عليه مستأنفة تقرر أن ما ذكره رأي مستقر هو عليه ، قال في الكشف : وهذا هو الوجه ، والمراد بهذا العلم قيل علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها ، وقال أبو سليمان الداراني : علم التجارة ووجوه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 320
المكاسب ، وقال ابن المسيب : علم الكيمياء ، وكان موسى عليه السلام يعلم ذلك فأفاد يوشع بن نون ثلثه وكالب بن يوفنا ثلثه وقارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا ، وقيل : علم اللّه تعالى موسى عليه السلام علم الكيمياء فعلمه موسى أخته فعلمته أخته قارون ، وروي عن ابن عباس تخصيصه بعلم صنعة الذهب ، وقيل : علم استخراج الكنوز والدفائن ، وعن ابن زيد أن المراد بالعلم علم اللّه تعالى وأن المعنى أوتيته على علم من اللّه تعالى وتخصيص من لدنه سبحانه قصدني به ، وعِنْدِي عليه بمعنى في ظني ورأيي ، وقيل : العلم بمعنى المعلوم مثله في قوله تعالى : وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة : 255] وإلى ذلك يشير ما روي عن مقاتل أنه قال أي على خير علمه اللّه تعالى عندي وتفسيره بعلم الكيمياء شائع فيما بين أهلها ، وفي مجمع البيان حكايته عن الكلبي أيضا ، وأنكره الزجاج وقال : إنه لا يصح لأن علم الكيمياء باطل لا حقيقة له ، وتعقبه الطيبي بأنه لعله كان من قبيل المعجز ، وتعقب بأنه ليس بسديد وإلا لما تمكن قارون منه ، وإنكار الكيمياء وهو لفظ يوناني معناه الحيلة أو عبراني وأصله كيم يه بمعنى أنه من اللّه تعالى أو فارسي وأصله كي ميا بمعنى متى يجيء على سبيل الاستبعاد غلب على تحصيل النقدين بطريق مخصوص مما لم يختص بالزجاج بل أنكرها جماعة أجلة وقالوا بعدم إمكانها ، وذهب آخرون إلى خلاف ذلك. وإذا أردت نبذة من الكلام في ذلك فاستمع لما يتلى عليك.
ذكر بعض المحققين أن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المنطرقة وهي الذهب والفضة والرصاص والقزدير «1» والنحاس والحديد والخارصيني هل هي مختلفات بالفصول فيكون كل منها نوعا غير النوع الآخر أو هي مختلفات بالخواص والكيفيات فقط فتكون كلها أصنافا لنوع واحد فالذي ذهب إليه المعلم أبو نصر الفارابي وتابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد وأن اختلافها بالكيفيات من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان نحو الصفرة والبياض والسواد وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد وبني على ذلك إمكان انقلاب بعضها إلى بعض بتبدل الأعراض بفعل الطبيعة أو بالصنعة. وقد حكى أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة في بعض تصانيفه عن المعلم المذكور أنه قال : قد بين أرسطو في كتبه في المعادن أن صناعة الكيمياء داخلة تحت الإمكان إلا أنها من الممكن الذي يعسر وجوده بالفعل اللهم إلا أن يتفق قرائن يسهل بها الوجود وذلك أنه فحص عنها أولا على طريق الجدل فأثبتها بقياس وأبطلها بقياس على عادته فيما يكثر عناده من الأوضاع ثم أثبتها أخيرا بقياس ألفه من مقدمتين بينهما في أول الكتاب ، الأولى أن الفلزات واحدة بالنوع والاختلاف الذي بينها ليس في ماهياتها وإنما هو في أعراضها فبعضه في أعراضها الذاتية وبعضه في أعراضها العرضية ، والثانية أن كل شيئين تحت نوع واحد اختلفا بعرض فإنه يمكن انتقال كل منهما إلى الآخر فإن كان العرض ذاتيا عسر الانتقال وإن كل مفارقا
سهل الانتقال والعسر في هذه الصناعة إنما هو لاختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسيرا جدا ا ه ، والذي ذهب إليه الشيخ أبو علي بن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول وأنها أنواع متباينة وبنى على ذلك إنكار هذه الصناعة واستحالة وجودها لأن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو اللّه عز وجل ، وهذا ما حكاه ابن خلدون عنه ، وقال الإمام في المباحث المشرقية في الفصل الثامن من القسم الرابع منها : الشيخ سلم إمكان أن يصبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب وأن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص ، فإما أن يكون الفصل المنوع يسلب أو يكسى ، قال : فلم يظهر لي إمكانه بعد ، إذ هذه
___________
(1) في نسخة والقصدير.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 321
الأمور المحسوسة تشبه أن لا تكون الفصول التي بها تصير هذه الأجساد أنواعا بل هي أعراض ولوازم وفصولها مجهولة وإذا كان الشيء مجهولا كيف يمكن قصد إيجاده وإفنائه ا ه.
وغلطه الطغرائي وهو من أكابر أهل هذه الصناعة وله فيها عدة كتب ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه وإنما هو في إعداد المادة لقبول خاصة والفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه جل شأنه وعظمت قدرته كما يفيض سبحانه النور على الأجسام بالصقل ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته ، وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مثل العقرب من التراب والتبن ، والحية من الشعر وغير ذلك فما المانع من العثور على مثل ذلك في المعادن وهذا كله بالصناعة وهي إنما موضوعها المادة فيعدها التدبير والعلاج إلى قبول تلك الفصول لا أكثر ، فنحن نحاول مثل ذلك في الذهب والفضة فنتخذ مادة نصفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب والفضة ثم نحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلهما ا ه بمعناه وهو رد صحيح فيما يظهر ، وقال الإمام بعد ذكره ما سمعت من كلام الشيخ : هو ليس بقوي لأنا نشاهد من الترياق آثارا وأفعالا مخصوصة فإما أن لا نثبت له صورة ترياقية بل نقول إن الأفعال الترياقية حاصلة من ذلك المزاج لا من صورة أخرى جاز أيضا أن يقال صفرة الذهب ورزانته حاصلتان مما فيه من المزاج لا من صورة مقومة فحينئذ لا يكون للذهب فصل منوع إلا مجرد الصفرة والرزانة ولكنهما معلومتان فأمكن أن تقصد إزالتهما واتخاذهما فبطل ما قاله الشيخ.
وأما إذا أثبتنا صورة مقومة له فنقول لا شك بأنا لا نعقل من تلك الصورة إلا أنها حقيقة تقتضي الأفعال المخصوصة الصادرة عن الترياق فإما أن يكون هذا القدر من العلم يكفي في قصد الإيجاد والإبطال أو لا يكفي فإن لم يكف وجب أن لا يمكننا اتخاذ الترياق وإن كفى فهو في مسألتنا أيضا حاصل لأنا نعلم من الصورة الذهبية أنها ماهية تقتضي الذوب والصفرة والرزانة ويجاب أيضا بأنا وإن كنا لا نعلم الصورة المقومة على التفصيل إلا أنا نعلم الأعراض التي تلائمها والتي لا تلائمها ونعلم أن العرض الغير الملائم إذا اشتد في المادة بطلت الصورة مثل الصورة المائية فإنا نعلم أن الحرارة لا تلائمها وإن كنا لا نعلم ماهيتها على التفصيل فلذلك يمكننا أن نبطل الصورة المائية وأن نكسبها ، أما الإبطال فبتسخين الماء وأما الاكتساب فبتبريد الهواء فكذلك في مسألتنا واحتج قوم من الفلاسفة على امتناعها بأمور : أولها ، أن الطبيعة إنما تعمل هذه الأجساد من عناصر مجهولة عندنا ولتلك العناصر مقادير معينة مجهولة عندنا أيضا ولكيفيات تلك العناصر مراتب معلومة وهي مجهولة عندنا ولتمام الفعل والانفعال زمان معين مجهول عندنا ، ومع الجهل بكل ذلك كيف يمكننا عمل هذه الأجساد ، وثانيها : أن الجوهر الصابغ إما أن يكون أصبر على النار من المصبوغ أو يكون المصبوغ أصبر أو يتساويان فإن كان الصابغ أصبر وجب أن يفنى المصبوغ ويبقى الصابغ بعد فنائه وإن كان المصبوغ أصبر وجب أن يبقى بعد فناء الصابغ وإن تساويا في الصبر على النار فهما من نوع واحد لاستوائهما في الصبر على النار فليس أحدهما بالصابغية والآخر بالمصبوغية أولى من العكس ، وثالثها : أنه لو كان بالصناعة مثلا لما كان بالطبيعة لكن التالي باطل ، أما أولا : فلأنا لم نجد له شبيها ، وأما ثانيا : فلأنه لو جاز أن يوجد بالصناعة ما يحصل بالطبيعة لجاز أن يحصل بالطبيعة ما يحصل بالصناعة حتى يوجد سيف أو سرير
بالطبيعة ، ولما ثبت امتناع التالي ثبت امتناع المقدم ، ورابعها : أن لهذه الأجساد أماكن طبيعية هي معادنها وهي لها بمنزلة الأرحام للحيوان فمن جوز تولدها في غير تلك المعادن كان كمن جوز تولد الحيوانات في غير الأرحام. وأجاب الإمام عن الأول بأنه منقوض بصناعة الطب.
وعن الثاني بأنهلا يلزم من استواء الصابغ والمصبوغ في الصبر على النار استواؤهما في الماهية لأن المختلفين قد يشتركان في بعض الصفات ، وعن الثالث بأنه قد يوجد بالصناعة مثل ما يوجد بالطبيعة مثل النار الحاصلة بالقدح ،

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 322
والنوشادر قد يتخذ من الشعير وكذلك كثير من الزاجات ثم بتقدير أن لا نجد له مثالا لا يلزم الجزم بنفيه ولا يلزم من إمكان حصول الأمر الطبيعي بالصناعة إمكان عكسه بل الأمر فيه موقوف على الدليل.
وعن الرابع بأن من أراد أن يقلب النحاس فضة فهو لا يكون كالمحدث للشيء بل كالمعالج للمريض ، فإن النحاس من جوهر الفضة إلا أن فيه عللا وأمراضا وكما يمكن المعالجة لا في موضع التكون فكذلك في هذا الموضع ، على أن حاصل الدليل أن الذي يتكون في الجبال لا يمكن تكونه بالصناعة ، وفيه وقع النزاع ، وابن خلدون بعد أن ذكر كلام ابن سينا ورد الطغرائي عليه قال : لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذ آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان زعمهم أجمعين ، وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعا ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة للجسم في المعدن حتى أحالته ذهبا أو فضة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمان كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانتفاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعا إلى الغذاء فتفعل تلك الصورة الأفاعيل المطلوبة ، وذلك هو الإكسير ، واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما حصل امتزاجها فلا بد من الجزء الغالب على الكل ، ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته ثم كل متكون في زمان لا بد من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته ، وانظر شأن الإنسان في تطوره نطفة ثم علقة ثم وثم إلى نهايته ونسب الأجزاء في كل طور مختلف مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان
الطور الأول بعينه هو الآخر ، وكذا الحرارة المقدرة الغريزية في كل طور مخالفة لما في الطور الآخر ، فانظر إلى الذهب ما يكون في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين ، وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم ، ومن شرط الصناعة مطلقا تصور ما يقصد إليه بها ، فمن الأمثال السائرة في ذلك للحكماء أول العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أول العمل فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة ونسبها المتفاوتة في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المتضاعفة ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك فعل الطبيعة في المعدن أو يعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها.
وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط وهو علمه عز وجل ، والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك ، وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصناعة بمثابة من يدعي صنعة تخليق الإنسان من المني ونحن إذا سلمنا الإحاطة بأجزائه ونسبه وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه وعلم ذلك علما محصلا لتفاصيله حتى لا يشذ من ذلك شيء عن علمه سلمنا له تخليق هذا الإنسان وأنى له ذلك. والحاصل أن الفعل الصناعي على ما يقتضيه كلامهم مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي تقصد مساواتها ومحاذاتها ، وفعل المادة ذات القوى فيها على التفصيل وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشري عاجز عما دونها ، فقصد تصيير النحاس ذهبا كقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات ، وهذا أوثق ما علمته من البراهين الدالة على الاستحالة ، وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول ولا من جهة الطبيعة وإنما هي من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها ، وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك ، ولذلك وجه آخر في

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 323
الاستحالة من جهة غايته وهو أن حكمة اللّه تعالى في الحجرين وندرتهما أنهما عمدتا مكاسب الناس ومتمولاتهم فلو حصل عليها بالصنعة لبطلت حكمة اللّه تعالى في ذلك إذ يكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء ، وآخر أيضا وهو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون صحته وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زمانا صحيحا لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في تكوين الذهب والفضة وتخليصهما ، وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب والحية وتخليقهما فأمر صحيح في ذلك أدى عليه العثور كما زعم ، وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه ولده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا أو إلى غيرنا ، وأما قولهم : إن الإكسير بمثابة الخميرة وإنه مركب يحيل ما حصل فيه ويقلبه إلى ذاته فليس بشيء ، لأن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد والفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال والطبائع ، والمطلوب من الإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى فهو تكوين والتكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير على الخميرة ثم قال : وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما يزعم الحكماء المتكلمون فيها فليس من باب الصنائع الطبيعية ولا يتم بأمر صناعي وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق ، وقد ذكر مسلمة المجريطي في كتابه الغاية ما يشبه ذلك وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى ، وكذا كلام جابر في رسائله.
وبالجملة أن نيلها إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الصنائع والطبائع فهي إنما تكون بتأثيرات النفس وخوارق العادة كالمشيء على الماء وتخليق الطير فليست إلا معجزة أو كرامة أو سحرا ، ولهذا كان كلام الحكماء فيها الغازا لا يظفر بتحقيقه إلا من خاض لجة من علوم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة ، وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها ا ه.
وإلى إمكانها ذهب الإمام الرازي فقال الحق إمكانها لأن الأجساد السبعة مشتركة في أنها أجساد ذائبة صابرة على النار منطرقة وأن الذهب لم يتميز عن غيره إلا بالصفرة والرزانة أو الصورة الذهبية المفيدة لهذين العرضين إن ثبت ذلك ، وما به الاختلاف لا يكون لازما لما به الاشتراك ، فإذن يمكن أن تتصف جسمية النحاس بصفرة الذهب ورزانته وذلك هو المطلوب ، والحق أن الكيمياء ممكنة وأنها من الصنائع الطبيعية لكن العلم بها من أقاصي العلوم الصعبة التي لا يطلع عليها إلا من أهله اللّه تعالى لها واختصه سبحانه من عباده وأوليائه بها وهو علم تاهت في طلبه العقول وطاشت الأحلام ، وأصله من الوحي الإلهي وحصل لبعض بالتصفية وكثرة النظر مع التجربة ووصل إلى من ليس أهلا للوحي ولم يتعاط ما تعاطاه البعض بالتعلم ممن من اللّه تعالى به عليه ، وقال أرس : وهو من أجلة أهل هذا العلم كان أوله وحيا من اللّه تعالى ثم درس وباد فاستخرجه من استخرجه من الكتب وقد جرت سنة اللّه تعالى فيمن ظفر به بكتمه إلا على من شاء اللّه تعالى وتواصت الحكماء على كتمه عن غير أهله بل قيل : إن اللّه تعالى أخذ على العقول في فطرتها المواثيق بكتمانه وصيانته والاحتراس من إذاعته وإضاعته ولذا ترى الحكماء قد ألغزوه نهاية الالغاز وأغمضوه غاية الإغماض حتى عد كلامهم من لم يعرف مرامهم حديث خرافة وحكم على قائله بالسفه والسخافة وبهذا الكتم حفظت حكمة اللّه تعالى التي زعمها ابن خلدون في النقدين وسقط استدلاله الذي سمعته فيما مر.
وقد نص جابر بن حيان وهو إمام في هذه الصنعة وإنكار أنه كان موجودا حمق في كتابه سر الأسرار على ما قلنا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 324
حيث قال : كل حكيم وضع رمزه وكتابه على معنى مبهم من وضع الحل والإصعاد والغسل على أربع طبائع وسماها الأجساد الثقال ووصف التدابير على لفظ ومعنى مشتبه ، فهو عند الحكيم مفتوح ، وعند الجهلة مغلق ، وربما تعدوا إلى أخذ تلك الأجساد بعينها واختبروها ولم ينتفعوا بها ، وشتموا الحكماء على كتمانهم هذا العمل وإنما عمارة الدنيا بالدراهم والدنانير وإن الناس الصناع والمقاتلة لا يعملون إلا لرغبة أو رهبة فعلموا أنهم إن أفشوا هذا السر حتى يعلمه كل أحد لم يتم أمر الدنيا وخربت ، ولم يعمل أحد لأحد فخرجوا من ذلك وكتموه ا ه. ثم لا يخفى أن ما ذكره ابن خلدون أولا من أن الاستحالة لعدم الإحاطة إذا ثبت أنها كانت عن وحي ليس بشيء على أن فيه ما فيه وإن لم يثبت ذلك ، ومثل ذلك ما ذكره من أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد ، لأنا نقول ما يحصل من الطبائع أيضا ، فيكون لها طريقان بعيد اقتضت الحكمة أن تسلكه غالبا وقريب اقتضت الحكمة أيضا أن تسلكه نادرا بواسطة من شاء اللّه تعالى من عباده ، وكون المنتحلين لم يزالوا يخبطون خبط عشواء إن أراد بهم أئمة هذه الصناعة كهرمس وسقراط وأفلاطون وأغاريمون وفيثاغورس ، وهرقل ، وفرفوريوس ، ومارية ، وذوسيموس ، وأرس ، وذو مقراط ، وسفيدوس ، وبليناس ، ومهراريس ، وجابر بن حيان ، والمجريطي ، وأبو بكر بن وحشية ، ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهم ممن لا يحصون كثرة فهم لم يخبطوا ، ودون إثبات خبطهم خرط القتاد ، وإلغازهم لنكتة صرحوا بها لا يدل على خبطهم ، وإن أراد بهم من يتعاطاها من المشاقين في عصره وفي هذه الأعصار فما ذكره مسلم في أكثرهم وهو لا يطعن في إمكانها.
وقد ذم الطغرائي هذا الصنف من الناس فقال في كتابه تراكيب الأنوار : إن المعلم الناصح موجود في كل صنعة إلا في هذا الفن ، وكيف يرجى النصح عند قوم يسمون فيما بينهم بالحسدة وتحالفوا فيما بينهم أن لا يوضحوا هذه السرائر أبدا لا سيما في هذا الزمان الذي قد باد فيه هذا العلم جملة وصار المتعرض له والباحث عنه عند الناس مسخرة وقد عنيت برهة من الزمان أبحث عن كل من يظن أن عنده طرفا من هذا العلم فما وجدت أحدا شم له رائحة ولا عرف منه شطر كلمة ، ووجدت منتحلي هذه الصنعة الشريفة بين خادع يبيع دينه ومروءته بعرض من الدنيا قليل ويتلف أموال الناس بالتجارب الصادرة عن الجهل ، وبين مخدوع مأخوذ عن رشده بالأمل الخائب والطمع الكاذب والتشاغل بالباطل عن طلب المعاش الجميل والتعويل على الأماني والأكاذيب. قصارى أحدهم أن ينظر في كتب جابر وأضرابه فيأخذ بظواهر كلامهم ، ويغتر بجلايا دعاويهم دون حقائق معانيهم وهم وجميع من مضى من حكماء هذه الصنعة يحذرون الناس من الاغترار بظواهر كتبهم ، وينادون على أنفسهم بأنهم يرمزون ويلغزون ولا يلتفت إلى قولهم ولا يصدقون إلى آخر ما قال. وقد تفاقم الأمر في زماننا إلى ما لا تتسع العبارة لشرحه ، وكون الكيمياء من تأثيرات النفوس وخوارق العادات فلا تكون إلا معجزة أو كرامة أو سحرا ليس بشيء بل هي بأسباب عادية لكنها خفية على أكثر الناس لا دخل لتأثير النفوس فيها أصلا.
نعم قد يكون من النبي أو الولي ما يكون من الكيماوي من غير معاطاة تلك الأسباب فيكون ذلك كرامة أو معجزة ، وكون منحى كلام بعض الحكماء فيها منحى كلامهم في الأمور السحرية لا يدل على أنها من أنواع السحر أو توابعه فإن ذلك من إلغازهم لأمرها ، وقد تفننوا في الإلغاز لها وسلكوا في ذلك كل مسلك ، فوضع بليناس كتابه فيها على الأفلاك والكواكب ، ومنهم من تكلم عليها بالأمثال ومنهم من تكلم عليها بالحكايات التي هي أشبه شيء بالخرافات إلى غير ذلك. وبالجملة هي صنعة قل من يعرفها جدا ، وأعد الاشتغال بها والتصدي لمعرفتها من كتبها من غير حكيم عارف برموزها كما يفعله جهلة المنتحلين لها اليوم محض جنون ، وكون أصلها الوحي الإلهي أو نحو ذلك هو الذي يغلب على الظن ، وقد أورد الطغرائي في
كتبه كجامع الأسرار وغيره ما يدل على ذلك ، فذكر أنه
روي عن هرمس أنه قال : إن اللّه عز وجل أوحى إلى شيث بن آدم عليهما السلام أن ازرع الذهب في الأرض البيضاء النقية واسقه ماء الحياة
، وقالت مارية : إني لست أقول لكم من تلقاء نفسي ،

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 325
ولكني أقول لكم ما أمر اللّه تعالى به نبيه موسى عليه السلام وأعلمه أن الحجر النسطريس هو الذي يمسك الصبغ وقال بنسبتها إلى موسى عليه السلام ذوسيموس وأرس ، وذكر أرس أن العمل بها كان طوع اليهود بمصر ، وكان يوسف عليه السلام وهو أول من دخل مصر من بني إسرائيل يعرف ذلك فأكرمه فرعون لحكمته التي آتاه اللّه تعالى إياها ، وذكر أيضا فصلا مرموزا فيها نسبه إلى سليمان عليه السلام.
وقال الطرسوسي في كتابه : إن اللّه تعالى لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة عوضه علم كل شيء وكان علم الصنعة مما علمه ، وانتقل من قوم إلى قوم كما انتقلت العلوم الأخر إلى أيام هرمس الأول ، وقال أيضا : حدثونا عن محمد بن جرير الطبري بإسناد له متصل أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وأعطيت الكبريت الأبيض والأحمر».
وروى جابر عن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه في ذلك روايات كثيرة حتى أنه أسند إليه عدة من كتبه ولا أحقق قوله ولا أكذبه وأجله لموضعه من العلم والعمل عن الافتراء على الأئمة ، وروي عن أمير المؤمنين علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه سئل فقيل : له ما تقول فيما خاض الناس فيه من علم الكيمياء؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه ثم قال :
سألتموني عن أخت النبوة وتوأم المروة لقد كان وإنه لكائن وما من شجرة ولا مدرة ولا شيء إلا وفيه أصل وفرع أو أصل أو فرع قيل : يا أمير المؤمنين أما تعلمه؟ قال : واللّه تعالى أنا أعلم به من العالمين له لأنهم يتكلمون بالعلم على ظاهره دون باطنه وأنا أعلم العلم ظاهره وباطنه ، قيل : فاذكر لنا منه شيئا نأخذه منك ، قال : واللّه تعالى لولا أن النفس أمارة بالسوء لقلت : قيل : فما كان تقول؟ قال : إني أعلم أن في الزئبق الرجراج والذهب الوهاج والحديد المزعفر وزنجار النحاس الأخضر لكنوزا لا يؤتى على آخرها يلقح بعضها ببعض فتفتر عن ذهب كامن ، قيل : يا أمير المؤمنين ما نعلم هذا ، قال : هو ماء جامد وهواء راكد ونار حائلة وأرض سائلة قالوا ما نفقه هذا ، قال : لو حل للمؤمنين من أهل الحكمة أن يكلموا الناس على غير هذا لعلمه الصبيان في المكاتب
ا ه كلام الطغرائي باختصار.
وذكر في كتابه مفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة عن ستين نبيا وحكيما أنهم قالوا بحقية هذا العلم ، وفي القلب من صحة هذه الأخبار شيء ، والأغلب على الظن أنه لو كان في الكيمياء خبر مقبول عند المحدثين لشاع ولما أنكرها من هو من أجلتهم كشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية فإنه كان ينكر ثبوتها وألف رسالة في إنكارها ، ولعل رد الشيخ نجم الدين ابن أبي الذر البغدادي وتزييفه ما قاله فيها كما زعم الصفدي إنما كان فيما هو من باب الاستدلالات العقلية فإن الرجل في باب النقليات مما لا يجاريه نجم الدين المذكور وأمثاله وهو في باب العقليات وإن كان جليلا أيضا إلا أنه دونه في النقليات ، والمطلب دقيق حتى أن بعض من تعقد عليه الخناصر اضطرب في أمرها فأنكرها تارة وأقر بها أخرى ، فهذا شيخ الحكماء ورئيسهم أبو علي بن سينا سمعت ما نقل عنه أولا ، وحكي عنه الرجوع عنه ، وعلى جودة ذهنه وعلو كعبه في الحكمة بأقسامها لم يقف على حقيقة عملها حتى قال الطغرائي في تراكيب الأنوار ما ينقضي عجبي من أبي علي بن سينا كيف استجاز وضع رسالة في هذا الفن فضح بها نفسه وخالف الأصول التي عنده وقصر فيها عن كثير من الحشوية الطغام المظلمة الأذهان الكليلة الأفهام.
وقال في جامع الأسرار : إن الشيخ أبا علي بن سينا لفرط شغفه بهذا العلم وحدسه القوي بأنه حق صنف رسالة فيه فأحسن فيما يتعلق بأصول الطبيعيات ولخفاء طريق القوم واستعمائها دونه لم يذكر في التدابير المختصة بعلمنا لفظة صحيحة ولا أشار إلى ذكر المزاج الحق والأوزان والتراكيب المكتومة والنيران وطبقاتها والآلة التي لا يتم العمل إلا بها وهي أحد الشرائط العشرة ، ولم يتجاوز ما عند الحشوية من تدابير الزوابق والكباريت والدفن في زبل الخيل

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 326
والتشاغل بهذه القاذورات ولولا آفة الإعجاب وحسن ظن الإنسان بعلمه وحرصه على أن لا يشذ عنه شيء من المعارف لكان من الواجب على مثله مع غزارة علمه وعلو طبقته في الأبحاث الحقيقية أن يكتفي بما عنده ، ولا يتعرض لما لا يعلمه ، وقد تأدى إلينا من تدابيره عن أصحابه الذين شاهدوها أنه لم يكن يعرف حقيقة علمنا ، وقد رأينا بخطه من التعاليق الملتقطة من كلام جابر بن حيان ، وخالد بن يزيد ما يدل أيضا على ذلك ا ه ملخصا ، والكلام في هذا المطلب طويل وفيما ذكرنا كفاية لمن أحب الاطلاع على شيء مما قيل في ذلك ، واللّه تعالى الموفق ، ثم إن القول بأن المراد بالعلم في الآية علم استخراج الكنوز والدفائن يستدعي ثبوت هذا العلم ، وأهل علم الحرف وعلم الطلسمات يقولون به ولهم في ذلك كلام طويل والعقل يجوز ثبوته ، واللّه تعالى أعلم بثبوته في نفس الأمر.
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً تقرير لعلمه ذلك وتنبيه على خطئه في اغتراره وعلمه بذلك من التوراة أو من موسى عليه السلام أو من كتب التواريخ أو من القصّاص ، والقوة تحتمل القوة الحسية والمعنوية ، والجمع يحتمل جمع المال وجمع الرجال ، والمعنى ألم يقف على ما يفيده العلم ولم يعلم ما فعل اللّه تعالى بمن هو أشد منه قوة حسا أو معنى وأكثر مالا أو جماعة يحوطونه ويخدمونه حتى لا يغتر بما اغتر به ، ويحتمل أن تكون الهمزة للإنكار داخلة على مقدر ، وجملة أولم يعلم حالية مقررة للإنكار ودالة على انتفاء ما دخلت عليه كما في قولك : أتدعي الفقه وأنت لا تعرف شروط الصلاة ، والمراد رد ادعائه العلم والتعظم به بنفي هذا العلم عنه أي أعلم ما ادعاه ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين ، وقيل : إن لَمْ يَعْلَمْ عطف على ذلك المقدر ونفي العلم عنه لعدم جريه على موجبه وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ الظاهر أن هذا في الآخرة وأن ضمير ذنوبهم للجرمين ، وفاعل السؤال إما اللّه تعالى أو الملائكة عليهم السلام ، والمراد بالسؤال المنفي هنا ، وكذا في قوله تعالى : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن : 39] على ما قيل : سؤال الاستعلام ، ونفي ذلك بالنسبة إليه عز وجل ظاهر ، وبالنسبة إلى الملائكة عليهم السلام لأنهم مطلعون على صحائفهم أو عارفون إياهم بسيماهم كما قال سبحانه : يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن : 41].
والمراد بالسؤال المثبت في قوله عز وجل : فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : 92] سؤال التوبيخ والتقريع فلا تناقض بين الآيتين ، وجوز أن يكون السؤال في الموضعين بمعنى والنفي والإثبات باعتبار موضعين أو زمانين ، والمواقف يوم القيامة كثيرة واليوم طويل فلا تناقض أيضا ، والظاهر أن الجملة غير داخلة في حيز العلم ، ولعل وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا أردف ذلك بما فيه تهديد كافة المجرمين بما هو أشنع وأشنع من عذاب الآخرة فإن عدم سؤال المذنب مع شدة الغضب عليه يؤذن بالإيقاع به لا محالة ، وجعل الزمخشري الجملة تذييلا لما قبلها ، وقيل : إن ذلك في الدنيا.
والمراد أنه تعالى أهلك من أهلك من القرون عن علم منه سبحانه بذنوبهم فلم يحتج عز وجل إلى مسألتهم عنها ، وقيل : إن ضمير ذنوبهم لمن هو أشد قوة وهو المهلك من القرون ، والإفراد والجمع باعتبار اللفظ والمعنى ، والمعنى ولا يسأل عن ذنوب أولئك المهلكين غيرهم ممن أجرم ، ويعلم أنه لا يسأل عن ذنوبهم من لم يجرم بالأولى لما بين الصنفين من العداوة فمآل المعنى لا يسأل عن ذنوب المهلكين غيرهم ممن أجرم وممن لم يجرم ، بل كل نفس بما كسبت رهينة ، وكلا القولين كما ترى ، وربما يختلج في ذهنك عطف هذه الجملة على جملة الاستفهام أو جعلها حالا من فاعل أهلك أو من مفعوله لكن إذا تأملت أدنى تأمل أخرجته من ذهنك وأبيت حمل كلام اللّه تعالى الجليل على ذلك.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 327
وقرأ أبو جعفر في رواية «ولا تسأل» بتاء الخطاب والجزم «المجرمين» بالنصب ، وقرأ أبو العالية وابن سيرين وَلا تُسْئَلُ كذلك ولم ندر أنصبا المجرمين كأبي جعفر أم رفعاه كما هو في قراءة الجمهور ، والظاهر الأول ، وجوز صاحب اللوامح الثاني ، وذكر له وجهين : الأول أن يكون ضمير ذنوبهم للمهلكين من القرون وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ أي هم المجرمون ، والثاني أن يكون المجرمون بدلا من ضمير ذنوبهم باعتبار أن أصله الرفع لأن إضافة ذنوب إليه بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل وأورد على هذا أن ذنوب جمع فإن كان جمع مصدر ففي إعماله خلاف.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ عطف على قال وما بينهما اعتراض ، وقوله تعالى : فِي زِينَتِهِ إما متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعله أي فخرج عليهم كائنا في زينته. قال قتادة : ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال السدي : خرج في جوار بيض على سروج من ذهب على قطف أرجوان وهن على بغال بيض عليهن ثياب حمر وحلي ذهب ، وقيل : خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف خادم عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعلى يمينه ثلاثمائة غلام وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات ، وكان ذلك أول يوم في الأرض رئيت المعصفرات فيه ، وقيل غير ذلك من الكيفيات ، وكان ذلك الخروج على ما قيل يوم السبت قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ قيل كانوا جماعة من المؤمنين ، وقالوا ذلك جريا على سنن الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار. وعن قتادة أنهم تمنوا ذلك ليتقربوا به إلى اللّه تعالى وينفقوه في سبيل الخير ، ولعل إرادتهم الحياة الدنيا ليتوصلوا بها للآخرة لا لذاتها فإن إرادتها لذاتها ليست من شأن المؤمنين ، وقيل :
كانوا كفارا ومنافقين ، وتمنيهم مثل ما أوتي دونه نفسه من باب الغبط ولا ضرر فيه على المشهور ، وقيل : ضرره دون ضرر الحسد
«فقد قيل لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم هل يضر الغبط؟ فقال : لا إلا كما يضر العضاه الخبط»
وفي الكشف الظاهر أنه نفي للضرر على أبلغ وجه فإن الشجر ربما ينتفع بالخبط فضلا عن التضرر ، وفيه أنه قد يفضي إلى الضرر إشارة إلى متعلق الغبط من ديني أو دنيوي ، وقائل ذلك إن كان الكفرة ففيه من ذم الحسد ما فيه إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ قال الضحاك : أي درجة عظيمة ، وقيل نصيب كثير من الدنيا ، والحظ البخت والسعد ، ويقال : فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ ، والجملة تعليل لتمنيهم وتأكيد له وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي بأحوال الدنيا والآخرة كما ينبغي ومنهم يوشع عليه السلام ، وإنما لم يوصفوا بإرادة ثواب الآخرة تنبيها على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضي الإعراض عن الأولى والإقبال على الأخرى حتما ، وأن تمني المتمنين ليس إلا لعدم علمهم بهما كما ينبغي.
وقيل المراد بالعلم : معرفة الثواب والعقاب ، وقيل : معرفة التوكل ، وقيل : معرفة الأخبار ، وما تقدم أولى وَيْلَكُمْ دعاء بالهلاك بحسب الأصل ثم شاع استعماله في الزجر عما لا يرتضى ، والمراد به هنا الزجر عن التمني وهو منصوب على المصدرية لفعل من معناه ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ مما تتمنونه لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه عز وجل ، هذا على القول بأن المتمنين كانوا مؤمنين أو فآمنوا لتفوزوا بثوابه تعالى الذي هو خير من ذلك ، وتقدير المفضل عليه ما تتمنوه لاقتضاء المقام إياه ، ويجوز أن يقدر عاما ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا أي خير من الدنيا وما فيها وَلا يُلَقَّاها أي هذه المقالة أو الكلمة التي تكلم بها العلماء ، والمراد بها المعنى اللغوي أو الثواب ، والتأنيث باعتبار أنه بمعنى المثوبة أو الجنة المفهومة من الثواب ، وقيل :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 328
الإيمان والعمل الصالح ، والتأنيث والإفراد باعتبار أنهما بمعنى السيرة أو الطريقة ، ومعنى تلقيها إما فهمها أو التوفيق للعمل بها إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن المعاصي والشهوات ، ولعل المراد بالصابرين على القول الأخير في مرجع الضمير المتصفون بالصبر في علم اللّه تعالى فتدبر فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ.
روى ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن قارون كان ابن عم موسى عليه السلام وكان يتبع العلم حتى جمع علما فلم يزل في ذلك حتى بغى على موسى عليه السلام وحسده ، فقال موسى : إن اللّه تعالى أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال : إن موسى عليه السلام يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم ، قالوا : لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم : أرى أن أرسل إلا بغيّ من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت : نعم. فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال : اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك. قال : نعم فجمعهم فقالوا له : بما أمرك ربك؟ قال : أمرني أن تعبدوا اللّه تعالى ولا تشركوا به شيئا وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا ، وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم.
قالوا : وإن كنت أنت؟ قال : نعم. قالوا : فإنك قد زنيت. قال : أنا؟ فأرسلوا إلى المرأة فجاءت ، فقالوا : ما تشهدين على موسى عليه السلام؟ فقال لها موسى عليه السلام : أنشدك باللّه تعالى إلا ما صدقت ، فقالت : أما إذ أنشدتني باللّه تعالى فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول اللّه فخر موسى عليه السلام ساجدا يبكي فأوحى اللّه تعالى إليه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها تطعك فرفع رأسه فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى فقال خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فغيبتهم فأوحى اللّه تعالى يا موسى سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم وفي بعض الروايات أنه جعل للبغيّ ألف دينار
، وقيل : طستا من ذهب مملوءة ذهبا ، وفي بعض أنه عليه السلام قال في سجوده : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى اللّه تعالى إليه مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك ، فقال : يا بني إسرائيل إن اللّه تعالى بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم إلى الأوساط ثم إلى الأعناق وهم يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه الرحم وهو عليه السلام لا يلتفت إلى قولهم لشدة غضبه ويقول خذيهم حتى انطبقت عليهم فأوحى اللّه تعالى يا موسى ما أفظك استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا
، وفي رواية أن اللّه سبحانه أوحى إليه ما أشد قلبك وعزتي وجلالي لو بي استغاث لأغثته ، فقال عليه السلام : رب غضبا لك فعلت.
ثم إن بني إسرائيل قالوا : إنما فعل موسى عليه السلام به ذلك ليرثه ، فدعا اللّه تعالى حتى خسف بداره وأمواله.
وفي بعض الأخبار أن الخسف به وبداره كان في زمان واحد ، وكانت داره فيما قيل : من صفائح الذهب وجاء في عدة آثار أنه يخسف به كل يوم قامة وأنه يتجلجل في الأرض لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة واللّه تعالى أعلم بصحة ذلك ، بل هو مشكل إن صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض ولم يقل بأن لها حركة أصلا ، وأما الخسف فلا شك في إمكانه الذاتي والوقوعي وسببه العادي مبين في محله فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أي جماعة معينة مشتقة من فأوت قلبه إذا ميلته ، وسميت الجماعة بذلك لميل بعضهم إلى بعض وهو محذوف اللام ووزنه فعة ، وقال الراغب : إنه محذوف العين فوزنه فلة وأنه من الفيء وهو الرجوع لأن بعض الجماعة يرجع إلى بعض ومِنْ صلة أي فما كان

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 329
له فئة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ بدفع العذاب عنه وَما كانَ أي بنفسه مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي الممتنعين عن عذابه عز وجل ، يقال : نصره من عدوه فانتصر أي منعه فامتنع ، ويحتمل أن يكون المعنى وما كان من المنتصرين بأعوانه فذكر ذلك للتأكيد وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أي مثل مكانه ومنزلته لما تقدم من قولهم مثل ما أوتي ، وجوز كون هذا على ظاهرة ومِثْلَ هناك مقحمة وليس بذاك بِالْأَمْسِ منذ زمان قريب وهو مجاز شائع ، وجوز حمله على الحقيقة والجار والمجرور متعلق بتمنوا أو بمكانه ، قيل : والعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في فَخَسَفْنا يدل عليه.
وفي البحر دل أصبح إذا حمل على ظاهره على أن الخسف به وبداره كان ليلا وهو أفظع العذاب إذ الليل مقر الراحة والسكون ، وقال بعضهم : هي بمعنى صار أي صار المتمنون.
يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي يفعل كل واحد من البسط والقدر أي التضييق والقتر لا لكرامة توجب البسط ولا لهوان يوجب التضييق ، ووي عند الخليل وسيبويه اسم فعل ومعناها أعجب وتكون للتحسر والتندم أيضا كما صرحوا به ، وعن الخليل أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم «وي» وكل من ندم وأراد إظهار ندمه قال «وي» ولعل الأظهر إرادة التعجب بأن يكونوا تعجبوا أولا مما وقع وقالوا ثانيا كأن إلخ وكأن فيه عارية عن معنى التشبيه جيء بها للتحقيق كما قيل ذلك في قوله :
وأصبح بطن مكة مقشعرا كأن الأرض ليس بها هشام
وأنشد أبو علي :
كأنني حين أمسي لا تكلمني متيم يشتهي ما ليس موجودا
وقيل : هي غير عارية عن ذلك ، والمراد تشبيه الحال المطلق بما في حيزها إشارة إلى أنه لتحققه وشهرته يصلح أن يشبه به كل شيء وهو كما ترى وزعم الهمداني أن الخليل ذهب إلى أن «وي» للتندم وكأن للتعجب والمعنى ندموا متعجبين في أن اللّه تعالى يبسط إلخ ، وفيه أن كون كأن للتعجب مما لم يعهد ، وأيا ما كان فالوقف كما في البحر على (وي) والقياس كتابتها مفصولة وكتبت متصلة بالكاف لكثرة الاستعمال وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل :
وي كأن من يكن له نشب يح بب ومن يفتقر يعش عيش ضر
وقال الأخفش : الكاف متصلة بها وهي اسم فعل بمعنى أعجب والكاف حرف خطاب لا موضع لها من الإعراب كما قالوا في ذلك ونحوه ، والوقف على ويك ، وعلى ذلك جاء قول عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
و(أن) عنده مفتوحة الهمزة بتقدير العلم أي أعلم أن اللّه إلخ ، وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك فخفف بحذف اللام فبقي ويك ، وهي للردع والزجر والبعث على ترك ما لا يرضى ، وقال أبو حيان : هي كلمة تحزن وأنشد في التحقيق قوله :
ألا ويك المضرة لا تدوم ولا يبقى على البؤس النعيم
والكاف على هذا في موضع جر بالإضافة ، والعامل في أن فعل العلم المقدر كما سمعت أو هو بتقدير لأن على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك ، وحكى ابن قتيبة عن بعض أهل العلم أن معنى ويك رحمة لك بلغة حمير ، وقال

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 330
الفراء : ويك في كلام العرب كقول الرجل : ألا ترى إلى صنع اللّه تعالى شأنه ، وقال أبو زيد وفرقة معه : وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ويكأن حرف واحد بجملته وهو بمعنى ألم تر.
لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بعدم إعطائه تعالى ما تمنيناه من إعطائنا مثل ما أعطاه قارون لَخَسَفَ بِنا أي الأرض كما خسف به أو لولا أن من اللّه تعالى علينا بالتجاوز عن تقصيرنا في تمنينا ذلك لخسف بنا جزاء ذلك كما خسف به جزاء ما كان عليه. وقرأ الأعمش «لولا منّ» بحذف أَنْ وهي مرادة ، وروي عنه من اللّه برفع من والإضافة.
وقرأ الأكثر «لخسف بنا» على البناء للمفعول وبِنا هو القائم مقام الفاعل ، وجوز أن يكون ضمير المصدر أي لخسف هو أي الخسف بنا على معنى لفعل الخسف بنا ، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش «لا نخسف بنا» على البناء للمفعول أيضا وبِنا أو ضمير المصدر قائم مقام الفاعل ، وعنه أيضا «لتخسّف» بتاء وشد السين مبنيّا للمفعول وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لنعمة اللّه تعالى أو المكذبون برسله عليهم السلام وبما وعدوا من ثواب الآخرة ، والكلام في - ويكأن - هنا كما تقدم بيد أنه جوز هنا أن يكون لأن على بعض الاحتمالات تعليلا لمحذوف بقرينة السياق أي لأنه لا يفلح الكافرون فعل ذلك أي الخسف بقارون ، واعتبار نظيره فيما سبق دون اعتبار هذا هنا ، وضمير ويكأنه للشأن.
هذا وفي مجمع البيان أن قصة قارون متصلة بقوله تعالى : نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى [القصص : 3] عليه السلام ، وقيل : هي متصلة بقوله سبحانه : فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ، وقيل : لما تقدم خزي الكفار وافتضاحهم يوم القيامة ذكر تعالى عقيبه أن قارون من جملتهم وأنه يفتضح يوم القيامة كما افتضح في الدنيا ، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم قول أهل العلم ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ ذكر محل ذلك الثواب بقوله عز وجل : تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ مشيرا إشارة تعظيم وتفخيم إلى ما نزل لشهرته منزلة المحسوس المشاهد كأنه قيل :
تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها ، والدَّارُ صفة لاسم الإشارة الواقع مبتدأ وهو يوصف بالجامد ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي نعيم الدار كما يوهمه كلام البحر ، والْآخِرَةُ صفة للدار ، والمراد بها الجنة وخبر المبتدأ قوله تعالى : نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي غلبة وتسلطا وَلا فَساداً أي ظلما وعدوانا على العباد كدأب فرعون وقارون ، وليس الموصول مخصوصا بهما ، وفي إعادة لا إشارة إلى أن كلا من العلو والفساد مقصود بالنفي ، وفي تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما من مزيد تحذير منهما.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال : العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها والفساد العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه.
وعن الكلبي العلو الاستكبار عن الإيمان والفساد الدعاء إلى عبادة غير اللّه تعالى ، وروي عن مقاتل تفسير العلو بما روي عن الكلبي ، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبقال والبياع فيفتتح عليه القرآن ويقرأ تلك الدار الآخرة إلى آخرها ، ويقول :
نزلت هذه الآية تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ إلخ ، في أهل العدن والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض ، فقال عليه الصلاة والسلام أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا
فأسلم رضي اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 331
عنه ، وعن الفضيل أنه قرأ الآية ثم قال : ذهبت الأماني هاهنا ، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه قال : إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية.
ولعل هذا إذا أحب ذلك ليفتخر على صاحبه ويستهينه وإلا
فقد روى أبو داود عن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وكان جميلا فقال : يا رسول اللّه إني رجل حبب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد إما قال بشراك نعل وإما قال بشسع نعل أفمن الكبر ذلك؟ قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس.
وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ، ونعله حسنا قال : إن اللّه تعالى جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس»
واستدل بعض المعتزلة بالآية بناء على عموم العلو والفساد فيها على تخليد مرتكب الكبيرة في النار ، وفي الكشاف ما هو ظاهر في ذلك ، والتزم بعضهم في الجواب تفسير العلو والفساد بما فسرهما به الكلبي وآخر أن المراد بهما ما يكون مثل العلو والفساد اللذين كانا من فرعون وقارون. ورد بأن التذييل بقوله تعالى : وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يدل على أن العمدة هي التقوى ولا يكفي ترك العلو والفساد المقيدين.
وأجيب بأن المتقي هاهنا هو المتقي من علو فرعون وفساد قارون أو من لم يكن من المؤمنين مثل فرعون في الاستكبار على اللّه تعالى بعدم امتثال أوامره والارتداع عن زواجره ولم يكن مثل قارون في إرادة الفساد في الأرض وإخراج كل شيء من كونه منتفعا به لا سيما نفسه فإن غاية إفسادها الامتناع من عبادة ربها لأنها خلقت للعبادة فإذا امتنع عنها خرجت عن كونها منتفعا بها وليس معنى المتقي إلا ذلك. وتعقبه صاحب الكشف بأن الأول تقييد بلا دليل والثاني هو الذي يسعى له المعتزلي ، وقال الفاضل الخفاجي : إما أن يراد بالعاقبة المحمودة على وجه الكمال أو يراد بالمتقي المتقي ما لا يرضاه اللّه تعالى مثل حال قارون بقرينة المقام ، والنصوص الدالة على أن غير الكفار لا يخلد في النار فلا وجه للقول بأن ذلك تقييد بلا دليل مع أن مبنى الاستدلال على أن اللام للتخصيص وهو ممنوع ، وقال بعض في الجواب على تقدير إرادة العموم في علوا وفسادا : إن المراد من جعل الجنة للذين لا يريدون شيئا منهما تمكينهم منها أتم تمكين نحو قولك : جعل السلطان بلد كذا لفلان وذلك لا ينافي أن يدخلها غيرهم من مرتكب الكبيرة ويكون فيها بمنزلة دون منزلتهم ، ولعله إنما دخلها بشفاعة بعض منهم ، وقريب منه ما قيل : إن جعلها لهم باعتبار أنهم أهلها الأولون وملوكها السابقون وغيرهم إنما يرد عليهم وينزل بهم ويقال في قوله تعالى : وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ نحو ما مر آنفا عن الخفاجي.
بقي في الآية كلام آخر ، وهو أن بعضهم استدل بها على عدم وجود الجنة اليوم بناء على أن معنى نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ إلخ نخلقها في المستقبل لأجلهم ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الجعل متعديا إلى مفعولين ثانيهما لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ إلخ فيصير المعنى نجعلها كائنة وحاصلة لهم في الزمان المستقبل فتفيد الآية أن جعلها كائنة لهم غير حاصل الآن لا جعلها نفسها وهو محل النزاع ، ودفع بأن المتبادر من جعل الدار كائنة لزيد تمكينه وعدم منعه من التمكن فيها سواء حصل له التمكن فيها أو لم يحصل ، فمعنى نَجْعَلُها لِلَّذِينَ إلخ تمكنهم في الاستقبال من التمكن فيها ، ولا يخفى ركاكته لأن التمكين من التمكن فيها لازم لوجودها غير منفك عنها على ما يدل عليه قوله تعالى : أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فلا يمكن أن تكون نفس الجنة الآن ويكون جعلها كائنة لهم في الاستقبال ، وحمل الجعل على التمكن بالفعل والتمكين من التمكن وإن كان لازما لوجود الجنة لكن التمكن فيها

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 332
بالفعل غير لازم بل يكون فيما سيجيء عدول عن المتبادر فإن المتبادر من قولك : جعلك الدار لزيد تمكينه من التمكن فيها لإجعل زيد متمكنا فيها بالفعل فتدبر ذلك كله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ بمقابلتها خَيْرٌ مِنْها ذاتا ووصفا وقدرا على ما قيل ، وجوز كون خَيْرٌ واحد الخيور وليس بأفعل التفضيل ومَنْ سببية أي فله خير بسبب فعلها وهو خلاف الظاهر ، وقد تقدم الكلام في ذلك وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع فيه الموصول والظاهر موضع الضمير لتهجين حال المسيئين بتكرير إسناد السيئة إليهم ، وفي جمع السيئات دون الحسنة قيل إشارة إلى قلة المحسنين وكثرة المسيئين ، وقد يقال : إنه إشارة إلى أن ضم السيئة إلى السيئة لا يزيد جزاءها بل جزاؤها إذا انفردت مثل جزائها إذا انضم إليها غيرها وأن عدم ضم الحسنة إلى الحسنة لا يؤثر في مقابلتها بما هو خير منها ، ولعل قلة المحسنين تفهم من عدم اعتبار الجمعية في مَنْ في قوله تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وكثرة المسيئين تفهم من اعتبار الجمعية فيها إذ الموصول قائم مقام ضميرها في قوله تعالى : وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم مقامه ما كانوا يعملون مبالغة في المماثلة ، وهذا لطف منه عز وجل إذ ضاعف الحسنة ولم يرض بزيادة جزاء السيئة مقدار ذرة ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار المضاف فإن أعمالهم أنفسها تظهر يوم القيامة في صورة ما يعذبون به ، ولا يخفى ما فيه ، وفي ذكر عملوا ثانيا دون جاؤوا إشارة إلى أن ما يجزون عليه ما كان عن قصد لأن العمل يخصه كما قال الراغب ، وفي التفسير الكبير للإمام الرازي في أثناء الكلام على تفسير قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الكهف
:
9] الآية أن في التعبير بجاء دون عمل بأن يقال : من عمل الحسنة فله خير منها ومن عمل السيئة إلخ دلالة على أن استحقاق الثواب أي والعقاب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل ، ويؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد ، ولا يخلو عن حسن ، ولعل نكتة التعبير بعملوا ثانيا تتأتى عليه أيضا.
وفي قوله تعالى : فَلا يُجْزَى إلخ دون فللذين عملوا السيئات ما كانوا يعملون أو فما للذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إشارة إلى أنه قد يحصل العفو عن العقاب ، وللّه تعالى در التنزيل ما أكثر أسراره ، واستشكل ما تدل عليه الآية من أن جزاء السيئة مثلها بأن من كفر فمات على الكفر يعذب عذاب الأبد ، وأين هو من كفر ساعة؟ وأجيب بأن أمر المماثلة مجهول لنا لا سيما على القول بنفي الحسن والقبح العقليين للأفعال ، وقصارى ما نعلم أن اللّه تعالى جعل لكل ذنب جزاء أخبر عز وجل أنه مماثل له ، وقد أخبر سبحانه أن جزاء الكفر عذاب الأبد فنؤمن به وبأنه مما تقتضيه الحكمة وما علينا إذا لم نعلم جهة المماثلة ووجه الحكمة فيه ، وكذا يقال في الذنوب التي شرع اللّه تعالى لها حدودا في الدنيا كالزنا وشرب الخمر وقذف المحصن وحدودها التي شرعها جل شأنه لها فإنا لا نعلم وجه تخصيص كل ذنب منها بحد مخصوص من تلك الحدود المختلفة لكنا نجزم بأن ذلك لا يخلو عن الحكمة ، وأجاب الإمام عن مسألة الكفر وعذاب الأبد بأن ذلك لأن الكافر كان عازما أنه لو عاش إلى الأبد لبقي على ذلك الكفر ، وقيل : في وجه تعذيب الكافر أبد الآباد إن جزاء المعصية يتفاوت حسب تفاوت عظمة المعصي فكلما كان المعصي أعظم كان الجزاء أعظم ، فحيث كان الكفر معصية من لا تتناهى عظمته جل شأنه كان جزاؤه غير متناه ، وقياس ذلك أن يكون جزاء كل معصية كذلك إلا أنه لم يكن كذلك فيما عدا الكفر فضلا منه تعالى شأنه لمكان الإيمان ، وقيل أيضا : إن كل كفر قولا كان أو فعلا يعود إلى نسبة النقص إليه عز وجل المنافي لوجوب الوجود المقتضي لوجوده سبحانه أزلا وأبدا وإذا توهم هناك زمان ممتد كان غير متناه فحيث كان الكفر مستلزما نفي وجوده تعالى شأنه فيما لا يتناهى كان جزاؤه غير متناه ولا كذلك سائر المعاصي فتدبر.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 333
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أوجب عليك العمل به كما روي عن عطاء وعن مجاهد أي أعطاكه ، وعن مقاتل وإليه ذهب الفراء وأبو عبيدة أي أنزله عليك والمعول عليه ما تقدم.
لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي إلى محل عظيم القدر اعتدت به وألفته على أنه من العادة لا من العود ، وهو كما في صحيح البخاري ، وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس مكة ، وروي ذلك أيضا عن مجاهد والضحاك وجوز أن يكون من العود ، والمراد به مكة أيضا بناء على ما في مجمع البيان عن القتيبي أن معاد الرجل بلده لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود إليه ، وقد يقال : أطلق المعاد على مكة لأن العرب كانت تعود إليها في كل سنة لمكان البيت فيها ، وهذا وعد منه عز وجل لنبيه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وهو بمكة أنه عليه الصلاة والسلام يهاجر منها ويعود إليها ، وروي عن غير واحد أن الآية نزلت بالجحفة بعد أن خرج صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم من مكة مهاجرا واشتاق إليها ، ووجه ارتباطها بما تقدمها تضمنها الوعد بالعاقبة الحسنى في الدنيا كما تضمن ما قبلها الوعد بالعاقبة الحسنى في الآخرة.
وقيل : إنه تعالى لما ذكر من قصة موسى عليه السلام وقومه مع قارون وبغيه واستطالته عليهم وهلاكه ونصرة أهل الحق عليه ما ذكر جل شأنه هنا ما يتضمن قصة سيدنا صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه وأصحابه مع قومه واستطالتهم عليه وإخراجهم إياه من مسقط رأسه ثم إعزازه عليه الصلاة والسلام بالإعادة إلى مكة وفتحه إياها منصورا مكرما ووسط سبحانه بينهما ما هو كالتخلص من الأول إلى الثاني.
وأخرج الحاكم في التاريخ والديلمي عن عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه عن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أنه فسر المعاد بالجنة
،
وأخرج تفسيره بها ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس ، والتنكير عليه للتعظيم أيضا ، ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتصريح ببعض ما تضمنه ذلك.
واستشكل رده عليه الصلاة والسلام إلى الجنة من حيث إنه يقتضي سابقية كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فيها مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن فيها.
وأجيب بالتزام السابقية المذكورة ويكفي فيها كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فيها بالقوة إذ كان في ظهر آدم عليهما الصلاة والسلام حين كان فيها ، وقيل : إنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم لما كان مستعدا لها من قبل كان كأنه كان فيها فالسابقية باعتبار ذلك الاستعداد على نحو ما قيل في قوله تعالى في الكفار : ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات : 68] ولا يخفى ما في كلا القولين من البعد ، وقريب منهما ما قيل : إن ذلك باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام دخلها ليلة المعراج ، وقد يقال : إن تفسيره بالجنة بيان لبعض ما يشعر به المعاد بأن يكون عبارة عن المحشر فقد صار كالحقيقة فيه لأنه ابتداء العود إلى الحياة التي كان المعاد عليها وجعله عظيما كما يشعر به التنوين لعظمة ما له صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم فيه ومنه الجنة ، فالمعاد بواسطة تنوينه الدال على التعظيم يشعر بالجنة لأنها الحاوية مما أعد له صلّى اللّه عليه وسلّم من الأمور العظيمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وقريب من تفسيره بالمحشر تفسيره بالآخرة كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، وتفسيره بيوم القيامة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن عكرمة إلا أنه على ما ذكر اسم زمان ، وعلى ما تقدم اسم مكان.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 334
ومما يشعر بأنه ليس المراد مجرد الرد إلى المحشر أو الآخرة أو يوم القيامة ما أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية : إن له معادا يبعثه اللّه تعالى يوم القيامة ثم يدخله الجنة ، ويتخرج على نحو ما قلنا تفسيره بالمقام المحمود وهو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة.
وجاء في رواية أخرى رواها عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري أيضا تفسيره بالموت ، ورواها معهما عن الحبر الفريابي وابن أبي حاتم والطبراني ، وكونه معادا لقوله تعالى : وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة : 28] ولعل تعظيمه باعتبار أنه باب لوصوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم إلى ما أعد اللّه عز وجل له من المقام المحمود والمنزلة العليا في الجنة إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وجل المقصود ما أشعر به التعظيم. وأخرج ابن أبي حاتم عن نعيم القاري أنه فسره ببيت المقدس. وكأن إطلاق المعاد عليه باعتبار أنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أسرى به إليه ليلة المعراج ، والوعد برده عليه الصلاة والسلام إليه وعد له بالإسراء إليه مرة أخرى أو باعتبار أن أرضه أرض المحشر فالمراد بالرد إليه الرد إلى المحشر ، وهذا غاية ما يقال في توجيه ذلك. فإن قبل فذاك وإلا فالأمر إليك وكأني بك تختار ما في صحيح البخاري ورواه الجماعة الذين تقدم ذكرهم عن ابن عباس من أنه مكة. وربما يخطر بالبال أن يراد بالمعاد الأمر المحبوب بنوع تجوز ويجعل بحيث يشمل مكة والجنة وغيرهما مما هو محبوب لديه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، ويراد برده عليه الصلاة والسلام إلى الأمر المحبوب إيصاله إليه مرة بعد أخرى فالرد هنا مثله في قوله تعالى : فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم : 9] وعليه يهون أمر اختلاف الروايات التي سمعتها في ذلك فتدبر.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يريد بذلك نفسه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وبقوله سبحانه : وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ المشركين الذين بعث إليهم صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم ومَنْ منتصب بفعل يدل عليه أعلم لا بأعلم لأن أفعل لا ينصب المفعول به في المشهور أي يعلم من جاء إلخ ، وأجاز بعضهم أن يكون منصوبا بأعلم على أنه بمعنى عالم ، والمراد أنه عز وجل يجازي كلا ممن جاء بالهدى ومن هو في ضلال على عمله ، والجملة تقرير لقوله تعالى : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إلخ. وفي معالم التنزيل هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلّم إنك في ضلال ، ولعله لهذا وكون السبب فيه مجيئه عليه الصلاة والسلام إليهم بالهدى قيل في جانبه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم من جاء بالهدى وفي جانبهم من هو في ضلال مبين ، ولم يؤت بهما على طرز واحد وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ تقرير لذلك أيضا أي سيردك إلى معاد كما أنزل إليك القرآن العظيم الشأن وما كنت ترجوه ، وقال أبو حيان والطبرسي : هو تذكير لنعمته عز وجل عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى : إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ على ما ذهب إليه الفراء وجماعة استثناء منقطع أي ولكن ألقاه تعالى إليك رحمة منه عز وجل ، وجوز أن يكون استثناء متصلا من أعم العلل أو من أعم الأحوال على أن المراد نفي الإلقاء على أبلغ وجه ، فيكون المعنى ما ألقي إليك الكتاب لأجل شيء من الأشياء إلا لأجل الترحم أو في حال من الأحوال إلا في حال الترحم فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي معينا لهم على دينهم ، قال مقاتل : إن كفار مكة دعوه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إلى دين آبائه فذكره اللّه تعالى نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه وَلا يَصُدُّنَّكَ أي الكافرون عَنْ آياتِ اللَّهِ أي قراءتها والعمل بها.
بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي بعد وقت إنزالها وإيحائها إليك المقتضي لنبوتك ومزيد شرفك ، وقرأ يعقوب «يصدنك» بالنون الخفيفة وقرىء «يصدنك» مضارع أصد بمعنى صدّ حكاه أبو زيد عن رجل من كلب قال : وهي لغة قومه وقال الشاعر :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 335
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم صدود السواقي عن أنوف الحوائم
وَادْعُ الناس إِلى رَبِّكَ إلى عبادته جل وعلا وتوحيده سبحانه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمظاهرتهم وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي ولا تعبد معه تعالى غيره عز وجل ، وهذا وما قبله للتهييج والإلهاب وقطع أطماع المشركين عن مساعدته عليه الصلاة والسلام إياهم وإظهار أن المنهي عنه في القبح والشرية بحيث ينهى عنه من لا يتصور وقوعه منه أصلا ، وروى محيي السنة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : الخطاب في الظاهر للنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، والمراد به أهل دينه وهو في معنى ما حكى عنه الطبرسي أن هذا وأمثاله من باب.
إياك أعني واسمعي يا جارة. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده كُلُّ شَيْءٍ أي موجود مطلقا هالِكٌ أي معدوم محض ، والمراد كونه كالمعدوم وفي حكمه إِلَّا وَجْهَهُ أي إلا ذاته عز وجل وذلك لأن وجود ما سواه سبحانه لكونه ليس ذاتيا بل هو مستند إلى الواجب تعالى في كل آن قابل للعدم وعرضة له فهو كلا وجود وهذا ما اختاره غير واحد من الأجلة ، والكلام عليه من قبيل التشبيه البليغ ، والوجه بمعنى الذات مجاز مرسل وهو مجاز شائع وقد يختص بما شرف من الذوات ، وقد يعتبر ذلك هنا ، ويجعل نكتة للعدول عن إلا إياه إلى ما في النظم الجليل.
وفي الآية بناء على ما هو الأصل من اتصال الاستثناء دليل على صحة إطلاق الشيء عليه جل وعلا.
وقريب من هذا ما قيل : المعنى كل ما يطلق عليه الموجود معدوم في حد ذاته إلا ذاته تعالى ، وقيل : الوجه بمعنى الذات إلا أن المراد ذات الشيء ، وإضافته إلى ضميره تعالى باعتبار أنه مخلوق له سبحانه نظير ما قيل في قوله تعالى : تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة : 116] من أن المراد بالنفس الثاني نفس عيسى عليه السلام وإضافته إليه تعالى باعتبار أنه مخلوق له جل وعلا ، والمعنى كل شيء قابل للهلاك والعدم إلا الذات من حيث استقبالها لربها ووقوفها في محراب قربها فإنها من تلك الحيثية لا تقبل العدم ، وقيل : الوجه بمعنى الجهة التي تقصد ويتوجه إليها ، والمعنى كل شيء معدوم في حد ذاته إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى وهو الوجود الذي صار به موجودا ، وحاصله أن كل جهات الموجود من ذاته وصفاته وأحواله هالكة معدومة في حد ذاتها إلا الوجود الذي هو النور الإلهي ، ومن الناس من جعل ضمير وجهه للشيء وفسر الشيء بالموجود بمعنى ما له نسبة إلى حضرة الوجود الحقيقي القائم بذاته وهو عين الواجب سبحانه ، وفسر الوجه بهذا الوجود لأن الموجود يتوجه إليه وينسب ، والمعنى كل منسوب إلى الوجود معدوم إلا وجهه الذي قصده وتوجه إليه وهو الوجود الحقيقي القائم بذاته الذي هو عين الواجب جل وعلا ، ولا يخفى الغث والسمين من هذه الأقوال ، وعليها كلها يدخل العرش والكرسي والسماوات والأرض والجنة والنار ، ونحو ذلك في العموم.
وقال غير واحد : المراد بالهلاك خروج الشيء عن الانتفاع به المقصود منه إما بتفرق أجزائه أو نحوه ، والمعنى كل شيء سيهلك ويخرج عن الانتفاع به المقصود منه إلا ذاته عز وجل ، والظاهر أنه أراد بالشيء الموجود المطلق لا الموجود وقت النزول فقط فيؤول المعنى إلى قولنا : كل موجود في وقت من الأوقات سيهلك بعد وجوده إلا ذاته تعالى ، فيدل ظاهر الآية على هلاك العرش والجنة والنار والذي دل عليه الدليل عدم هلاك الأخيرين.
وجاء في الخبر أن الجنة سقفها عرش الرحمن
، ولهذا اعترض بهذه الآية على القائلين بوجود الجنة والنار الآن والمنكرين له القائلين بأنهما سيوجدان يوم الجزاء ويستمران أبد الآباد ، واختلفوا في الجواب عن ذلك فمنهم من قال :
إن كلّا ليست للإحاطة بل للتكثير كما في قولك : كل الناس جاء إلا زيدا إذا جاء أكثرهم دون زيد ، وأيد بما روي عن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 336
الضحاك أنه قال في الآية : كل شيء هالك إلا اللّه عز وجل والعرش والجنة والنار ، ومنهم من قال : إن المراد بالهلاك الموت والعموم باعتبار الاحياء الموجودين في الدنيا ، وأيد بما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية : كل حي ميت إلا وجهه.
وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال : لما نزلت كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران : 185 ، الأنبياء : 35 ، العنكبوت : 57] قيل يا رسول اللّه فما بال الملائكة؟ فنزلت كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
فبين في هذه الآية فناء الملائكة والثقلين من الجن والإنس وسائر عالم اللّه تعالى وبريته من الطير والوحوش والسباع والأنعام وكل ذي روح أنه هالك ميت ، وأنت تعلم أن تخصيص الشيء بالحي الموجود في الدنيا لا بد له من قرينة فإن اعتبر كونه محكوما عليه بالهلاك حيث شاع استعماله في الموت وهو إنما يكون في الدنيا قرينة فذاك وإلا فهو كما ترى ، ومن الناس من التزم ما يقتضيه ظاهر العموم من أنه كل ما يوجد في وقت من الأوقات في الدنيا والأخرى يصير هالكا بعد وجوده بناء على تجدد الجواهر وعدم بقاء شيء منها زمانين كالإعراض عند الأشعري ، ولا يخفى بطلانه ، وإن ذهب إلى ذلك بعض أكابر الصوفية قدست أسرارهم.
وقال سفيان الثوري : وجهه تعالى العمل الصالح الذي توجه به إليه عز وجل ، فقيل : في توجيه الاستثناء إن العمل المذكور قد كان في حيز العدم فلما فعله العبد ممتثلا أمره تعالى أبقاه جل شأنه له إلى أن يجازيه عليه أو أنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق ، وروي عن أبي عبد اللّه الرضا رضي اللّه تعالى عنه أنه ارتضى نحو ذلك ، وقال المعنى كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به وجهه تعالى
، وزعم الخفاجي أن هذا كلام ظاهري.
وقال أبو عبيدة : المراد بالوجه جاهه تعالى الذي جعله في الناس وهو كما ترى لا وجه له ، والسلف يقولون الوجه صفة نثبتها للّه تعالى ولا نشتغل بكيفيتها ولا بتأويلها بعد تنزيهه عز وجل عن الجارحة لَهُ الْحُكْمُ أي القضاء النافذ في الخلق وَإِلَيْهِ عز وجل تُرْجَعُونَ عند البعث للجزاء بالحق والعدل لا إلى غيره تعالى ورجوع العباد إليه تعالى عند الصوفية أهل الوحدة بمعنى ما وراء طور العقل.
وقيل : ضمير إليه للحكم ، وقرأ عيسى «ترجعون» مبنيا للفاعل ، هذا والكلام من باب الإشارة في آيات هذه السورة أكثره فيما وقفنا عليه من باب تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ولعله يعلم بأدنى تأمل فيما مر بنا في نظائرها فتأمل واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو جل وعلا حسبنا ونعم الوكيل.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 337
سورة العنكبوت
أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت بمكة ، وأخرج ابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير نحو ذلك ، وروي القول بأنها مكية عن الحسن وجابر وعكرمة وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة. وفي البحر عن الحبر وقتادة أنها مدنية وقال يحيى بن سلام : هي مكية إلا من أولها إلى قوله : وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت : 11] وذكر ذلك الجلال السيوطي في الإتقان ولم يعزه ، وأنه لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها ثم قال : قلت ويضم إلى ذلك وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ [العنكبوت : 60] الآية لما أخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزولها وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في ذلك وهي تسع وستون آية بالإجماع كما قال الداني والطبرسي ، وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [القصص : 4] وافتتح هذه بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان بعذاب دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل بكثير تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم وحثا على الصبر ، ولذا قيل هنا : وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت : 3] وأيضا لما كان في خاتمة الأولى الإشارة إلى هجرة النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أي في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص : 85] على بعض الأقوال ، وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى : يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
[العنكبوت : 56] ناسب تتاليهما.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 إلى 24]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14)
فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 338
الم سبق الكلام فيه وفي نظائره ولم يجوز بعضهم هنا ارتباط ما بعده به ارتباطا أعرابيا لأن الاستفهام مانع منه وبحث فيه بأن اللازم في الاستفهام تصدره في جملته وهو لا ينافي وقوع تلك الجملة خبرا ونحوه كقولك : زيد هل قام أبوه؟ فلو قيل هنا المعنى المتلو عليك أَحَسِبَ النَّاسُ إلى آخر السورة صح فلا يقال أيضا إن المانع منه عدم صحة ارتباطه بما قبله معنى. نعم الارتباط خلاف الظاهر ، والاستفهام للإنكار ، والحسبان مصدر كالغفران مما يتعلق بمضامين الجمل لأنه من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وذلك للدلالة على وجه ثبوتها في الذهن أو في الخارج من كونها مظنونة أو متيقنة فتقتضي مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر أو ما يسد مسدهما وقد سد مسدهما هنا على ما قاله الحوفي وابن عطية وأبو البقاء : قوله تعالى : أَنْ يُتْرَكُوا وسد أن المصدرية الناصبة للفعل مع مدخولها مسد الجزأين مما قاله ابن مالك ، ونقله عنه الدماميني في شرح التسهيل ، وزعم بعضهم أن ذلك إنما هو في أن المفتوحة مشددة ومثقلة مع مدخولها ، والترك هنا على ما ذكره الزمخشري بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين كما في قوله تعالى :
تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة : 17] وقول الشاعر :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 339
فتركته جزر السباع ينشنه يقضمن قلة رأسه والمعصم
فضمير الجمع نائب مفعول أول والمفعول الثاني متروك بدلالة الحال الآتية أي كما هم أو على ما هم عليه كما في قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا [التوبة : 16] على ما قدره الزمخشري فيه وقوله سبحانه : أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا بمعنى لأن يقولوا متعلق بيتركوا على أنه غير مستقر ، وقوله تعالى : وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ في موضع الحال من ضمير يتركوا ، ويجوز أن لا يعتبر كون المفعول الثاني ليتركوا متروكا بل تجعل هذه الجملة الحالية سادة مسده ، ألا ترى أنك لو قلت : علمت ضربي زيدا قائما صح ، على أن ترك ليس كأفعال القلوب في جميع الأحكام ، بل القياس أن يجوز الاكتفاء فيه بالحال من غير نظر إلى أنه قائم مقام الثاني لأن قولك : تركته وهو جزر السباع كلام صحيح كما تقول أبقيته على هذه الحالة ، وهو نظير سمعته يتحدث في أنه يتم بالحال بعده أو الوصف ، وهاهنا زاد أنه يتم أيضا بما يجري مجرى الخبر ، وجوز أن تكون هذه الجملة هي المفعول الثاني لا سادة مسده وتوسط الواو بين المفعولين جائز كما في قوله :
وصيرني هواك وبي لحيني يضرب المثل
وقد نص شارح أبيات المفصل على أنه حكي عن الأخفش أنه كان يجوز كان زيد وأبوه قائم على نقصان كان وجعل الجملة خبرا مع الواو تشبيها لخبر كان بالحال فمتى جاز في الخبر عنده فليجز في المفعول الثاني وهو كما نرى ، واستظهر الطيبي كون الترك هنا متعديا لواحد على أنه بمعنى التخلية وليس بذاك وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون أَنْ يَقُولُوا بدلا من أن يتركوا وجوز أن يكون أَنْ يُتْرَكُوا هو المفعول الأول لحسب وهُمْ لا يُفْتَنُونَ في موضع الحال من الضمير وَإِنْ يَقُولُوا بتقدير اللام هو المفعول الثاني ، وكونه علة لا ينافي ذلك كما في قولك : حسبت ضربه للتأديب ، والتقدير أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم : آمنا ، والمفعول الثاني ليتركوا متروك بدلالة الحال ، واعترضه صاحب التقريب بما حاصله أن الحسبان لتعلقه بمضامين الجمل إذا أنكر يكون باعتبار المفعول الثاني فإذا قلت : أحسبته قائما فالمنكر حسبان قيامه وكذلك إذا قيل : أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا أفاد إنكار حسبان أن الترك غير مفتونين لهذه العلة بل إنما هو لعلة أخرى ولا يلائم سبب النزول ولا مقصود الآية.
واختار أن يكون أَنْ يُتْرَكُوا سادا مسد المفعولين وأَنْ يَقُولُوا علة للحسبان أي أحسبوا لقولهم آمنا أن يتركوا غير مفتونين ، وأجيب بأن أصل الكلام ألا يفتنون لقولهم آمنا على إنكار أن يكون سببا لعدم الفتن ، ثم قيل :
أيتركون غير مفتونين لقولهم آمنا مبالغة في إنكار أن يبقوا من غير فتن لذلك ثم أدخل على حسبان الترك مبالغة على مبالغة ، وإنما يرد ما أورد إذا لم يلاحظ أصل الكلام ويجعل مصب الإنكار الحسبان من أول الأمر.
وقيل : إنما يلزم ما ذكر لو لم يقدر أحسبوا تركهم غير مفتونين بمجرد قولهم : آمنا دون إخلاص وعمل صالح أما لو قدر ذلك استقام كما صرح به الزجاج ، على أن ذلك مبني على اعتبار المفهوم ، واعترض ذلك بعضهم من حيث اللفظ بأن فيه الفصل بين الحال وذيها بثاني مفعولي حسب وهو أجنبي وأجيب بأن الفصل غير ممتنع بل الأحسن أن لا يقع فصل إلا إذا اعترض ما يوجبه ، وهاهنا الاهتمام بشأن الخبر حسن التقديم لأن مصب الإنكار ذلك ، ولا يخفى أنه يحتاج إلى مثل هذا الجواب على ما يقتضيه الظاهر من جعل أَنْ يُتْرَكُوا في تأويل مصدر وقع مفعولا أولا وَإِنْ يَقُولُوا في تأويل مصدر أيضا مجرور بلام مقدرة والجار والمجرور في موقع المفعول الثاني ، وأما على ما ذكره بعض المحققين من أنهما لم يجعلا كذلك وإنما جعل أَنْ يَقُولُوا معمولا ليتركوا بتقدير اللام وجعل أَنْ يُتْرَكُوا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 340
سادا مسد المفعولين واقتضى المعنى أن يقال أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا بجعل تركهم مفعولا أولا ولقولهم مفعولا ثانيا فلا يحتاج إليه لأنه إن جرينا مع اللفظ كان أَنْ يُتْرَكُوا سادا مسد المفعولين فلا يكون فيه مفعول ثان فاصل بين الحال وذيها وإن جرينا مع المعنى واعتبرنا الكلام مجردا عن أن المصدرية وجيء به كما سمعت كانت الحال متصلة بذيها ، وقيل : يجوز أن يكون المفعول الأول لحسب محذوفا أي أحسب الناس أنفسهم وأَنْ يُتْرَكُوا في موضع المفعول الثاني على أنه في تأويل مصدر وهو في تأويل اسم المفعول أي متروكين وهم لا يفتنون في موضع الحال كما تقدم وأن يؤمنوا بتقدير لأن يؤمنوا متعلق بيتركوا فكأنه قيل : أحسب الناس أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم آمنا ، وقيل : إن هذا المعنى حاصل على تقدير سد أَنْ يُتْرَكُوا مسد المفعولين فتأمل فيه وفيما قبله ، ولعل الأبعد عن التكلف ما ذكرناه أولا ، والمراد إنكار حسبانهم أن يتركوا غير مفتونين بمجرد أن يقولوا آمنا واستبعاد له وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وفنون المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المتزلزل فيه فيعامل كل بما يقتضيه ويجازيهم سبحانه بحسب مراتب أعمالهم فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في النار.
وذكر بعضهم أنه سبحانه لو أثاب المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا لقال الكافر المعذب : ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي فإيمانه الذي تثيبه عليه مما لا يستحق الثواب له فبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت والآية على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذا فقالوا : نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل اللّه تعالى فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل :
110].
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال سمعت ابن عمير وغيره يقولون : كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل على عمار درعا من حديد في اليوم الصائف وطعن في فرج أمه برمح ففي ذلك نزلت أَحَسِبَ النَّاسُ إلخ ، وقيل : نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب قتل ببدر فجزع عليه أبواه وامرأته «و
قال فيه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة»
، وقيل : نزلت في عياش أخي أبي جهل غدر وعذب ليرتد كما سيأتي خبره إن شاء اللّه تعالى ، وفسر الناس بمن نزلت فيهم الآية ، وقال الحسن الناس هنا المنافقون.
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حال من الناس أو من ضمير يفتنون ، وعلى الأول يكون علة لإنكار الحسبان أي أحسبوا ذلك وقد علموا أن سنة اللّه تعالى على خلافه ولن تجد لسنة اللّه تعالى تبديلا ، وعلى الثاني بيانا لأنه لا وجه لتخصيصهم بعدم الافتنان ، وحاصله أنه على الأول تنبيه على الخطأ ، وعلى الثاني تخطئة ، والمراد بالذين من قبلهم المؤمنون أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أصابهم من ضروب الفتن والمحن ما أصابهم فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ كما يعرب عنه قوله تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا [آل عمران : 146] الآيات.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 341
وروى البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرت قال : «شكونا إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم ولقد لقينا من المشركين شدة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا أي في قولهم آمنا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفصح عنه ما قبلها من وقوع الامتحان ، واللام واقعة في جواب القسم ، والالتفات إلى الاسم الجليل لإدخال الروعة وتربية المهابة ، وتكرير الجواب لزيادة التأكيد والتقرير ، ويتوهم من الآية حدوث علمه تعالى بالحوادث وهو باطل. وأجيب بأن الحادث تعلق علمه تعالى بالمعدوم بعد حدوثه ، وقال ابن المنير : الحق أن علم اللّه تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه ، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء فكأنه قيل : فو اللّه ليعلمن بما يشبه الامتحان والاختبار الذين صدقوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب فليجازين كلا بحسب علمه فيه ، وفي معناه ما قاله ابن جني من أنه من إقامة السبب مقام المسبب ، والغرض فيه ليكافئن اللّه تعالى الذين صدقوا وليكافئن الكاذبين وذلك أن المكافأة على الشيء إنما هي مسببة عن علم ، وقال محيي السنة : أي فليظهرن اللّه تعالى الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلوما لأن اللّه تعالى عالم بهم قبل الاختبار.
وقرأ علي كرّم اللّه تعالى وجهه وجعفر بن محمد والزهري رضي اللّه تعالى عنهم «فليعلمن» بضم الياء وكسر اللام
على أنه مضارع أعلم المنقولة بهمزة التعدية من علم المتعدية إلى واحد وهي التي بمعنى عرف فيكون الفعل على هذه القراءة متعديا لاثنين والثاني هنا محذوف أي فليعلمن اللّه الذين صدقوا منازلهم من الثواب وليعلمن الكاذبين منازلهم من العقاب وذلك في الآخرة ، أو الأول محذوف أي فليعلمن اللّه الناس الذين صدقوا وليعلمنهم الكاذبين أي يشهدهم هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر ، والظاهر أن ذلك في الآخرة أيضا ، وقال أبو حيان : في الدنيا والآخرة ، وجوز أن يكون ذلك من الاعلام وهو وضع العلامة والسمة فيتعدى لواحد أي يسمهم بعلامة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها ، وقيل : يسمهم سبحانه بعلامة يعرفون بها في الدنيا
كقوله عليه الصلاة والسلام : «من أسر سريرة ألبسه اللّه تعالى رداءها».
وقرأ الزهري الفعل الأول كما قرأ الجماعة ، والفعل الثاني كما قرأ علي كرّم اللّه تعالى وجهه وجعفر والزهري رضي اللّه تعالى عنهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا قال مجاهد : أي يعجزونا فلا نقدر على مجازاتهم على أعمالهم والانتقام منهم وأصل السبق الفوت ، ثم أريد منه ما ذكر وقيل : أي يعجلونا محتوم القضاء ، والأول أولى.
وفسر قتادة على ما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير السَّيِّئاتِ بالشرك والجمع باعتبار تعدد المتصفين به وإطلاق العمل على الشرك سواء قلنا إنه ما كان عن فكر وروية كما قيل : أو عن قصد كما قال الراغب : أم لا لا ضير فيه لأنه يكون بعبادة الأصنام وغيرها ، وقيل : المراد بالسيئات المعاصي غير الكفر فالآية في المؤمنين قطعا ، وهم وإن لم يحسبوا أن يفوتوه تعالى ولم تطمع نفوسهم في ذلك لكن نزل جريهم على غير موجب العلم وهو غفلتهم وإصرارهم على المعاصي منزلة من لم يتيقن الجزاء ، ويحسب أنه يفوت اللّه عز وجل.
وعمم بعضهم فحمل السيئات على الكفر والمعاصي ، وتعليق العمل بها بناء على تسليم تخصيصه بما سمعت

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 342
يحتمل أن يكون باعتبار التغليب ، وظاهر الآثار يدل على أن هذه الآية نزلت في شأن الكفرة ، فعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : يريد سبحانه بالذين يعملون السيئات الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاصي بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعتبة بن أبي معيط وحنظلة بن وائل وأنظارهم من صناديد قريش ، وفي البحر أن الآية وإن نزلت على سبب فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم ، والظاهر أن أَمْ منقطعة بمعنى بل التي للإضراب بمعنى الانتقال وهو انتقال من إنكار حسبان عدم الفتن لمجرد الإيمان إلى إنكار حسبان عدم المجازاة على عمل السيئات.
وقال ابن عطية : أَمْ معادلة للهمزة في قوله تعالى : أَحَسِبَ وكأنه سبحانه قرر الفريقين ، قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون نقمات اللّه تعالى ويعجزونه انتهى. ورد بأنها لو كانت معادلة للهمزة لكانت متصلة والتالي باطل لأن شرط المتصلة أن يكون ما بعدها مفردا نحو أزيد قائم أم عمرو أو ما هو في تقدير المفرد نحو أقام زيد أم قعد وجوابها تعيين أحد الشيئين أو الأشياء وبعدها هنا جملة ولا يمكن الجواب هنا أيضا بأحد الشيئين فالحق أنها منقطعة والاستفهام الذي تشعر به إنكاري لا يحتاج للجواب كما لا يخفى ، والظاهر أن الحسبان متعد إلى مفعولين وأن أَنْ يَسْبِقُونا ساد مسدهما.
وجوز الزمخشري هنا أن يضمن معنى التقدير فيكون متعديا لواحد وإن يسبقونا هو ذلك الواحد ، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين ليس بقياس ولا يصار إليه إلا عند الحاجة وهنا لا حاجة إليه ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك على أن ساء بمعنى بئس وما موصولة ويَحْكُمُونَ صلتها ، والعائد محذوف وهي فاعل ساء ، والمخصوص بالذم محذوف أو بئس حكما يحكمونه حكمهم ذلك على أن ما موصوفة ويحكمون صفتها والرابط محذوف وهي تمييز وفاعل ساء ضمير مفسر بالتمييز والمخصوص محذوف أيضا.
وقال ابن كيسان : ما مصدرية ، والمصدر المؤول مخصوص بالذم فالتمييز محذوف ، وجوز كون ساء بمعنى قبح وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة ، والمضارع للاستمرار إشارة إلى أن دأبهم ذلك أو هو واقع موقع الماضي لرعاية الفاصلة وكلا الوجهين حكاهما في البحر ، والأول أولى ، وعندي أن مثل هذا لا يقال : إلا في حق الكفرة مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال : أي من كان يخشى البعث في الآخرة فالرجاء بمعنى الخوف كما في قول الهذلي في وصف عسال :
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل
ولعل إرادة البعث من لقائه عز وجل لأنه من مباديه ، وقيل : لعله جعل لقاء اللّه تعالى عبارة عن الوصول إلى العاقبة إلا أنه لما كان البعث من أعظم ما يتوقف ذلك عليه خصه بالذكر ، وفي الكشاف أن لقاء اللّه تعالى مثل للوصول إلى العاقبة من تلقي ملك الموت والبعث والحساب والجزاء ، مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها ، فمعنى مَنْ كانَ إلخ من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من اللّه تعالى والبشرى ، فالكلام عنده من باب التمثيل والرجاء بمعنى الأمل والتوقع.
وجوز أن يكون بمعنى ذلك إلا أن الكلام بتقدير مضاف أي من كان يتوقع ملاقاة جزاء اللّه تعالى ثوابا أو عقابا أو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 343
ملاقاة حكمه عز وجل يوم القيامة وأن يكون بمعنى الخوف ، والمضاف محذوف أيضا أي من كان يخاف ملاقاة عقاب اللّه تعالى ، وأن يكون بمعنى ظن حصول ما فيه مسرة وتوقعه كما هو المشهور ، والمضاف كذلك أيضا ، أي من كان يرجو ملاقاة ثواب اللّه تعالى ، ويجوز أن لا يقدر مضاف ، ويجعل لقاء اللّه تعالى مجازا عن الثواب لما أنه لازم له.
واختار بعضهم أن الرجاء بمعناه المشهور وأن لقاء اللّه تعالى مشاهدته سبحانه على الوجه اللائق به عز وجل كما يقوله أهل السنة والجماعة إذ لا حاجة للخروج عن الظاهر من غير ضرورة وما حسبه المعتزلي منها فليس منها كما بين في علم الكلام أي من كان يتوقع مشاهدة اللّه تعالى يوم القيامة التي لا نعيم يعدلها ويلزمها الفوز بكل خير ونعيم فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ الأجل غاية لزمان ممتد عينت لأمر من الأمور ، وقد يطلق على كل ذلك الزمان ، والأول أشهر في الاستعمال أي فإن الوقت الذي عينه جل شأنه لذلك لَآتٍ لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لأن أجزاء الزمان على التقضي والتصرم دائما ، ومجيء ذلك الوقت كناية عن إتيان ما فيه ووقوعه ، والجملة الاسمية قائمة مقام جواب الشرط وهي في الحقيقة دليل الجواب المحذوف أي فليبادر ما ينفقه من امتثال الأوامر واجتناب المناهي أو فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو نحو ذلك مما يلائم الشرط فتدبر.
وقيل : يجوز أن تكون هي الجواب على أن المراد بها المعنى الملائم للشرط كما ذكر وَهُوَ السَّمِيعُ جل شأنه لأقوال العباد الْعَلِيمُ بأحوالهم من الأعمال الظاهرة والعقائد والصفات الباطنة ، والجملة تذييل لتحقيق حصول المرجو والمخوف وعدا ووعيدا وَمَنْ جاهَدَ في طاعة اللّه عز وجل.
فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لعود المنفعة من الثواب المعد لذلك إليها إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فلا حاجة له إلى طاعتهم وإنما أمرهم سبحانه بها تعريضا لهم للثواب بموجب رحمته وحكمته.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الكفر الأصلي أو العارضي بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي أحسن جزاء أعمالهم والجزاء الحسن أن يجازي بحسنة حسنة ، وأحسن الجزاء أن تجازى الحسنة الواحدة بالعشر وزيادة ، وقيل : لو قدر لنجزينهم بأحسن أعمالهم أو جزاء أحسن أعمالهم لإخراج المباح جاز وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما ، وانتصب حسنا على أنه وصف لمصدر محذوف أي إيصاء حسنا أي ذا حسن أو هو في حد ذاته حسن لفرط حسنه كقوله تعالى : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة : 83] وهذا ما اختاره أبو حيان ولا يخلو عن حسن ، وقال الزمخشري : حسنا مفعول به لمصدر محذوف مضاف إلى والديه أي وصيناه بإيتاء والديه أو بإيلاء والديه حسنا ، وفيه إعمال المصدر محذوفا وإبقاء عمله وهو لا يجوز عند البصريين ، وجوز أن يكون حسنا مصدرا لفعل محذوف أي أحسن حسنا ، والجملة في موضع المفعول لوصي لتضمنه معنى القول ، وهذا على مذهب الكوفيين القائلين بأن ما يتضمن معنى القول يجوز أن يعمل في الجمل من غير تقدير للقول ، وعند البصريين يقدر القول في مثل ذلك وعليه يجوز أن يكون مفعولا به لفعل محذوف والجملة مقول القول وجملة القول مفسرة للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما حسنا ، وعلى هذا يحسن الوقف على بوالديه لاستئناف الجملة بعده ، ورجح تقدير الأمر بأنه أوفق لما بعده من الخطاب والنهي الذي هو أخوه لكن ضعف ما فيه كثرة تقدير بكثرة التقدير ، ونقل ابن عطية عن الكوفيين أنهم يجعلون حسنا
مفعولا لفعل محذوف ويقدرون أن يفعل حسنا ، وفيه حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول وهو لا يجوز عند البصريين ، وقيل : إن حسنا منصوب بنزع الخافض وبوالديه متعلق بوصينا والباء فيه بمعنى في أي وصينا الإنسان في أمر والديه بحسن وهو كما

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 344
ترى ، وقرأ عيسى والجحدري «حسنا» بفتحتين وفي مصحف أبي «إحسانا» وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما عطف على ما قبله ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل أي وقلنا : إن جاهداك إلخ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر لأن الجملة الشرطية إذا كان جوابها إنشاء فهي إنشائية كما صرحوا به فإذا لم يضمر القول لا يليق عطفها على وصينا لما ذكر ولا على ما عمل فيه لكونه في معنى القول وهو أحسن وإن توافقا في الإنشائية لأنه ليس من الوصية بالوالدين لأنه منهي عن مطاوعتهما ، وأما عطفه على قلنا المفسر للتوصية فلا يضر لما فيه من تقييدها بعدم الإفضاء إلى المعصية مآلا فكأنه قيل : أحسن إليهما وأطعهما ما لم يأمراك بمعصية فتأمل ، والظاهر الذي يقتضيه المقام أن ما عام لما سواه تعالى شأنه وقوله سبحانه : بِهِ على حذف مضاف أي ما ليس لك بإلهيته علم ، وتنكير علم للتحقير.
والمراد لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم ، وفي العدول عنه إلى ما في النظم الجليلإيذان بأن ما لا يعلم صحته ولو إجمالا كما في التقليد لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم على أتم وجه بطلانه ، وجعل العلامة الطيبي نفي العلم كناية عن نفي المعلوم ، وعلل ذلك بأن هذا الأسلوب يستعمل غالبا في حق اللّه تعالى نحو «أتعلمون اللّه بما لا يعلم» «1» ثم قال : وفيه إشارة إلى أن نفي الشرك من العلوم الضرورية وأن الفطرة السليمة مجبولة عليه على ما
ورد «كل مولود يولد على الفطرة»
وذلك أن المخاطب بقوله تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان انتهى ، وفيه بحث. ومتعلق تطعهما محذوف لوضوح دلالة الكلام عليه أي وإن استفرغا جهدهما في تكليفك لتشرك بي غيري مما لا إلهية له فلا تطعهما في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وفي تعليق النهي عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكليف إشعار بأن موجب النهي فيما دونها من التكليف ثابت بطريق الأولوية وكذا موجبه في مجاهدة أحدهما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مرجع من آمن منكم - ومن أشرك - ومن بر - ومن عق والجملة مقررة لما قبلها ولذا لم تعطف فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن أجازي كلا منكم بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وذلك أنه رضي اللّه تعالى عنه حين أسلم قالت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس : يا سعد بلغني أنك صبأت فو اللّه تعالى لا يظلني سقف بيت من الضح والريح وأن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وكان أحب ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فشكا إليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان.
وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنهما متوافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبا لك منا فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي اللّه تعالى عنه فقال هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم ما لي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعها وعصى عمر رضي اللّه عنه تعالى عنه فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : أما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهم ريب فارجع ، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك ، قال : نعم. فنزل ليوطىء لنفسه
___________
(1) نص الآية 79 من سورة آل عمران : قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ....

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 345
وله فأخذاه فشداه وثاقا وجلده كل واحد مائة جلدة وذهبا به إلى أمه ، فقالت : لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم فنزلت.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرة الراسخين في الصلاح الكاملين فيه ، والصلاح ضد الفساد وهو جامع لكل خير ، وله مراتب غير متناهية ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا ، ولذا طلبها الأنبياء عليهم السلام كما قال سليمان عليه السلام وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل : 19] ويحتمل أن يكون الكلام بتقدير مضاف أي في مدخل الصالحين وهي الجنة ، والموصول مبتدأ ولندخلنهم الخبر على ما ذكره أبو البقاء ، وجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير لندخلن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم وَمِنَ النَّاسِ أي بعضهم مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي لأجله عز وجل على أن في للسببية ، أو المراد في سبيل اللّه تعالى بأن عذبهم المشركون على الإيمان به تعالى جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ أي نزلوا ما يصيبهم من أذيتهم كَعَذابِ اللَّهِ أي منزلة عذابه تعالى في الآخرة فجزعوا من ذلك ولم يصبروا عليه وأطاعوا الناس وكفروا باللّه تعالى كما يطيع اللّه تعالى من يخاف عذابه سبحانه فيؤمن به عز وجل.
وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ بأن حصل للمؤمنين فتح وغنيمة لَيَقُولُنَّ بضم اللام الثانية وحذف ضمير الجمع لالتقاء الساكنين ، وهذا الضمير عائد إلى من والجمع بالنظر إلى معناها ، كما أن إفراد الضمائر العائدة إليها فيما سبق بالنظر إلى لفظها ، وحكى أبو معاذ النحوي أنه قرىء «ليقولن» بفتح اللام على إفراد الضمير كما فيما سبق إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي مشايعين لكم في الدين فأشركونا فيما حصل من الغنيمة ، وقيل : أي مقاتلين معكم ناصرين لكم فالمراد الصحبة في القتال. ورد بأنها غير واقعة ، والآية نزلت في ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم وكانوا يكتمونه من المسلمين وبذلك يكونون منافقين ، ولذا قال ابن زيد والسدي : إن الآية في المنافقين فرد اللّه تعالى عليهم ذلك بقوله سبحانه :
أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وهو في الظاهر عطف على مقدر أي أيخفى حالهم وليس إلخ أو أليس المتفرسون الذين ينظرون بنور اللّه تعالى بأحوالهم عالمين وليس إلخ ، و(أعلم) إما على أصله أي أليس هو عز وجل أعلم من العالمين بما في صدور العالمين من الأخلاق والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء عن المسلمين وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة أو هو بمعنى عالم.
وقال قتادة : نزلت فيمن هاجر فردهم المشركون إلى مكة ، وقيل : نزلت في ناس مؤمنين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا وهم الذين قال اللّه تعالى فيهم : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء : 97] الآية ، وما تقدم هو الأوفق لما سبق من الآية وما لحق من قوله سبحانه : وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالإخلاص وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ سواء كان كفرهم بأذية أو لا ، والمراد بالعلم المجازاة أي ليجزينهم بما لهم من الإيمان والنفاق ، وكأن تلوين الخطاب في الذين آمنوا والمنافقين لرعاية الفواصل ، والظاهر أن الآية بناء على أن النفاق ظهر في المدينة مدنية ، وهو يؤيد ما تقدم من عدها من المستثنيات ، ولعل من يقول إنها مكية لظاهر إطلاق جمع القول بمكية السورة ، وأن تعذيب الكفرة المسلمين إنما كان في الأغلب بمكة يمنع ذلك أو يذهب إلى أنها من الأخبار بالغيب فتدبر وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا بيان لحملهم المؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملهم إياهم عليه بالأذية والوعيد ، ووصفهم بالكفر هاهنا دون ما سبق لما أن مساق الكلام لبيان جنايتهم وفيما سبق لبيان جناية من أضلوه ، واللام للتبليغ أي قالوا مخاطبين لهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا أي اسلكوا طريقتنا التي نسلكها في الدين ، عبر عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر تنزيلا للمسلك منزلة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 346
السالك فيه أو اتبعونا في طريقتنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي إذا كان ذلك الاتباع خطيئة يؤاخذ عليها يوم القيامة كما تقولون أو ولنحمل ما عليكم من الخطايا إن كان بعث ومؤاخذة ، وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين له على الأمر بالاتباع للمبالغة في تعليق الحمل بالاتباع ، فكأن أصل الكلام اتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم بجزم نحمل على أنه جواب الأمر ، فيكون المعنى إن تتبعوا نحمل فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة المذكورة ، ومنشؤها الإشارة إلى أن الحمل لتحققه كأنه أمر واجب أمروا به من آمر مطاع ، والتعليق على الشرط الذي تضمنه الأمر كما في قولهم :
أكرمني أنفعك لا يفيد ذلك ، والداعي لهم إلى المبالغة التشجيع على الاتباع ، والحمل هنا مجاز ، وفي البحر شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر والخطايا بالمحمول ، وقال مجاهد : الحمل هنا من الحمالة لا من الحمل انتهى.
والآية على ما أخرج جماعة عن مجاهد نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا فإن كان عليكم شيء فعلينا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن الحنفية قال كان أبو جهل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاؤوا إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم يسلمون يقولون : إنه يحرم الخمر ويحرم الزنا ويحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية
، وقيل : قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف قالا لعمر رضي اللّه تعالى عنه : إن كان في الإقامة على دين الآباء إثم فنحن نحمله عنك.
وقيل : قائله الوليد بن المغيرة ، ونسبة ما صدر عن الواحد للجمع شائعة ، وقد تقدم الكلام غير مرة في وجه ذلك ، وقرأ الحسن وعيسى ونوح القارئ
«ولتحمل» بكسر لام الأمر ، ورويت عن عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه
وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ نفي مؤكد عن سبيل الاستمرار لكونهم حاملين شيئا ما من خطاياهم التي التزموا حملها ، فالباء زائدة لتأكيد النفي والاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية معتبر بعد النفي ، ومن الأولى للبيان وهو مقدم من تأخير ، ومن الثانية مزيدة لتأكيد الاستغراق ، وهذه الجملة اعتراض أو حال.
وقرأ داود بن أبي هند فيما ذكر أبو الفضل الرازي «من خطيئتهم» على التوحيد قال : ومعناه الجنس ، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة ، وذكر ابن خالويه وأبو عمرو الداني أن داود هذا قرأ «من خطيئاتهم» جمع خطيئة جمع السلامة بالألف والتاء ، وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ من «خطيهم» بفتح الطاء وكسر الياء ، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين فأشبهت الياء لأن قياس تسهيلها هو ذلك وقوله تعالى : إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ استئناف مقرر للنفي السابق ، والكذب قيل راجع إلى تعليق الحمل بالاتباع فإنه إخبار لا إلى الأمر السابق لأنه إنشاء ولا يجري الكذب فيه ، وتعقب بأن التعليق لا يلزمه أن يكون إخبار بل هو ضمان معلق أي إنشاء الضمان عند وجود الصفة ، ولذا قال الزمخشري : إن ضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وجعل هذا سؤالا عن وجه التعبير بكاذبون ، وأجاب عن ذلك بوجهين ، ثانيهما على ما في الكشف هو الوجه ، وحاصله أن الكذب ليس راجعا إلى أنهم غير حاملين ليقال : إن الضامن لا يسمى كاذبا بل أخبر اللّه تعالى أنهم عجزوا عما ضمنوه ومع ذلك هم كاذبون في وعد إنشاء الضمان عند وجود الوصف ، والمحصل أن من وعد الضمان إن ضمن ولم يحقق لا يسمى كاذبا وإن لم يضمن سمي كاذبا ، وأولهما أنه شبه اللّه تعالى حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده سبحانه لا على ما هو عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 347
وقال بعض المحققين : الكذب راجع إلى الخبر الذي في ضمن وعدهم بالحمل وهم أنهم قادرون على إنجاز ما وعدوا ، والكذب كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه يتطرق إليه باعتبار ما يلزم مدلوله ، وفي الانتصاف أن في قوله تعالى : إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ نكتة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر بمعنى الخبر فإن من الناس من أنكره والتزم تخريج جميع ما ورد في ذلك على أصل الأمر ولم يتم له ذلك في هذه الآية لأنه سبحانه أردف قولهم وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ على صيغة الأمر بقوله تعالى : إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ والتكذيب إنما يتطرق إلى الاخبار انتهى ، ويعلم منه وجه كونهم كاذبين في قولهم ذلك مع إخراجهم له مخرج الأمر إلا أن في كون الآية دليلا على ما ذكره نظرا كما لا يخفى.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ بيان لما يستتبعه قولهم ذلك في الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبيهم أصلا ، والتعبير عن الخطايا بالأثقال للإيذان بغاية ثقلها وكونها فادحة ، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وباللّه ليحملن أثقال أنفسهم كاملة وَأَثْقالًا أخر مَعَ أَثْقالِهِمْ وهي أثقال ما تسببوا بالإضلال والحمل على الكفر والمعاصي من غير أن ينقص من أثقال من أضلوه شيء ما.
فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «أيما داع دعا إلى هدي فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا»
قال عون : وكان الحسن يقرأ عليها وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ، وللإشارة إلى استقلال أثقال أنفسهم وأنها نهضتهم واستفرغت جهدهم وأن الأثقال الأخر كالعلاوة عليها اختير ما في النظم الجليل على أن يقال وليحملن أثقالا مع أثقالهم.
وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع وتبكيت عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي يختلقونه في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التي من جملتها كذبهم هذا.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً شروع في بيان افتتان الأنبياء عليهم السلام بأذية أممهم إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فإن الأنبياء عليهم السلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلأن يصبر هؤلاء المؤمنون أولى وأحرى ، والظاهر أن الواو للعطف وهو من عطف القصة على القصة ، قال ابن عطية : والقسم فيها بعيد يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه فإن فيه حذف المجرور وإبقاء الجار ، وهم قالوا : لا بد من ذكر المجرور ، والفاء للتعقيب فالمتبادر أنه عليه السلام لبث في قومه عقيب الإرسال المدة المذكورة وقد جاء مصرحا به في بعض الآثار.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : بعث اللّه تعالى نوحا عليه السلام وهو ابن أربعين سنة ، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى اللّه تعالى وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا ،
وعلى هذه الرواية يكون عمره عليه السلام ألف سنة وخمسين سنة ، وقيل : إنه عليه السلام عمر أكثر من ذلك ،
أخرج ابن جرير عن عون بن أبي شداد قال : إن اللّه تعالى أرسل نوحا عليه السلام إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة فيكون عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة ،
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : كان

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 348
عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة سنة ،
وعن وهب أنه عليه السلام عاش ألفا وأربعمائة سنة ،
وفي جامع الأصول كانت مدة نبوته تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الغرق خمسين سنة ، وقيل : مائتي سنة وكانت مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون ما ذكر اللّه عز وجل مدة إقامته عليه السلام من لدن مولده إلى غرق قومه ، وقيل : يحتمل أن يكون ذلك جميع عمره عليه السلام ، ولا يخفى أن المتبادر من الفاء التعقيبية ما تقدم وجاء في بعض الآثار أنه عليه السلام أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا
، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال : جاء ملك الموت إلى نوح عليهما السلام فقال : يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال :
كرجل دخل بيتا له بابان فقال وسط الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر
، ولعل ما عليه النظم الكريم في بيان مدة لبثه عليه السلام للدلالة على كمال العدد وكونه متعينا نصا دون تجوز فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة لأنها أول ما تقرع السمع فإن المقصود من القصة تسلية رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة وإظهار ركاكة رأي الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء ، واختلاف المميزين لما في التكرير في مثل هذا الكلام من البشاعة ، والنكتة في اختيار السنة أولا أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه السلام فيه ما قاسى من قومه فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ أي عقيب تمام المدة المذكورة ، والطوفان قد يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام قال العجاج :
حتى إذا ما يومها تصبصبا وغم طوفان الظلام الأثأبا «1»
وقد غلب على طوفان الماء وهو المراد هنا وَهُمْ ظالِمُونَ أي والحال هم مستمرون على الظلم لم يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه السلام من الآيات ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة المتمادية فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا عليه السلام وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أي من ركب فيها معه من أولاده وأتباعه ، وكانوا ثمانين ، وقيل : ثماني وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم ، وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة ، وروي مرفوعا كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة
أي مع أهليهم وَجَعَلْناها أي السفينة آيَةً لِلْعالَمِينَ عبرة وعظة لهم لبقائها زمانا طويلا على الجودي يشاهدها المارة ولاشتهارها فيما بين الناس ، ويجوز كون الضمير للحادثة والقصة المفهومة مما قبل وهي عبرة للعالمين لاشتهارها فيما بينهم وَإِبْراهِيمَ نصب بإضمار اذكر معطوفا على ما قبله عطف القصة على القصة فلا ضير في اختلافهما خبرا وإنشاء وإذ في قوله تعالى : إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ بدل اشتمال منه لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، وقد جوز ذلك الزمخشري وابن عطية ، وتعقب ذلك أبو حيان بأن إذ لا تتصرف فلا تكون مفعولا به والبدلية تقتضي ذلك. ثم ذكر أن إذ إن كانت ظرفا لما مضى لا يصح أن تكون معمولة لأذكر لأن المستقبل لا يقع في الماضي فلا يجوز قم أمس ، وإذا خلعت من الظرفية الماضوية وتصرف فيها جاز أن تكون مفعولا به ومعمولا لأذكر ، وجوز غير واحد أن يكون نصبا بالعطف على نوحا فكأنه قيل : وأرسلنا إبراهيم فإذ حينئذ ظرف للإرسال ، والمعنى على ما قيل أرسلناه حين تكامل عقله وقدر على النظر والاستدلال وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق ، وهذا
___________
(1) قوله الأثأبا هو شجر الأثل ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 349
على ما قاله بعض المحققين لما أن القول المذكور في حيز إذ إنما كان منه عليه السلام بعد ما راهق قبل الإرسال ، وأنت تعلم أن قوله تعالى : وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت :
18] إلخ إذا كان من قوله عليه السلام لقومه كالنص في أن القول المحكي عنه عليه السلام كان بعد الإرسال وفي الحواشي السعدية أن ذلك إشارة إلى دفع ما عسى أن يقال : الدعوة تكون بعد الإرسال والمفهوم من الآية تقدمها عليه ، وحاصله أنه ليس المراد من الدعوة ما هو نتيجة الإرسال بل ما هو نتيجة كمال العقل وتمام النظر ، مع أن دلالة الآية على تقدمها غير مسلمة ففي الوقت سعة ، ويجوز أن يكون القصد هو الدلالة على مبادرته عليه السلام للامتثال ا ه فتدبر.
وجوز أبو البقاء ، وابن عطية أن يكون نصبا بالعطف على مفعول أنجيناه وهو كما ترى ، والأوفق بما يأتي إن شاء اللّه تعالى من قوله تعالى : وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [الأعراف : 85 ، هود : 84 ، العنكبوت : 36] أن يكون النصب بالعطف على نوحا وقرأ أبو حنيفة ، والنخعي وأبو جعفر وإبراهيم بالرفع على أن التقدير ومن المرسلين إبراهيم ، وقيل : التقدير ومما ينبغي ذكره إبراهيم ، وقيل : التقدير وممن أنجينا إبراهيم ، وعلى الأول المعول لدلالة ما قبل وما بعد عليه ، ويتعلق بذلك المحذوف إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَاتَّقُوهُ أن تشركوا به سبحانه شيئا ذلِكُمْ أي ما ذكر من العبادة والتقوى خَيْرٌ لَكُمْ من كل شيء فيه خيرية أو مما أنتم عليه على تقدير الخيرية فيه على زعمكم ، ويجوز كون خير صفة لا اسم تفضيل إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر ، أو إن كنتم تعلمون شيئا من الأشياء بوجه من الوجوه فإن ذلك كاف في الحكم بخيرية ما ذكر من العبادة والتقوى إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً بيان لبطلان دينهم وشريته في نفسه بعد بيان شريته بالنسبة إلى الدين الحق ، أي ما تعبدون من دونه تعالى إلا أوثانا هي في نفسها تماثيل مصنوعة لكم ليس فيها وصف غير ذلك وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة وتدعون أنها شفعاؤكم عند اللّه سبحانه أو تعملونها وتنحتونها للإفك والكذب ، واللام لام العاقبة وإلا فهم لم يعملوها لأجل الكذب ، وجوز أن يكون ذلك من باب التهكم. وقال بعض الأفاضل : الأظهر كون إفكا مفعولا به والمراد به نفس الأوثان وجعلها كذبا مبالغة ، أو الإفك بمعنى المأفوك وهو المصروف عما هو عليه ، وإطلاقه على الأوثان لأنها مصنوعة وهم يجعلونها صانعا.
وقرأ علي كرّم اللّه تعالى وجهه والسلمي وعون العقيلي وعبادة وابن أبي ليلى وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «تخلّقون» بفتح التاء والخاء واللام مشددة ، قال ابن مجاهد : ورويت عن ابن الزبير وأصله تتخلقون فحذفت إحدى التاءين وهو من تخلق بمعنى تكذب وصيغة التكلف للمبالغة. وزعم بعضهم جواز أن يكون تفعل بمعنى فعل ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما أيضا «تخلقون» من خلق بالتشديد للتكثير في الخلق بمعنى الكذب والافتراء ، وقرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان «أفكا» بفتح الهمزة وكسر الفاء على أنه مصدر كالكذب واللعب أو وصف كالحذر وقع صفة لمصدر مقدر أي خلقا أفكا أي ذا أفك إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً بيان لشرية ما يعبدونه من حيث إنه لا يكاد يجديهم نفعا ، ورِزْقاً يحتمل أن يكون مصدرا مفعولا به ليملكون ، والمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق ، وأن يكون بمعنى المرزوق أي لا يستطيعون ، إيتاء شيء من الرزق وجوز على المصدرية أن يكون مفعولا مطلقا ليملكون من معناه ولمحذوف والأصل لا يملكون أن يرزقوكم رزقا وهو كما ترى ونكر. وقال بعض الأجلة : للتحقير والتقليل مبالغة في النفي ، وخص الرزق لمكانته من الخلق فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي كله على أن تعريف الرزق للاستغراق. قال الطيبي : هذا من المواضع التي ليست المعرفة المعادة عين الأول فيها ، وجوز أن تكون عين الأول بناء

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 350
على أن كلا منهما مستغرق وَاعْبُدُوهُ عز وجل وحده وَاشْكُرُوا لَهُ على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين بشكره تعالى للعتيد ومستجلبين به للمزيد ، فالجملتان ناظرتان لما قبلهما ، وجوز أن يكونا ناظرتين لقوله تعالى : إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ كأنه قيل : استعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر فإنه إليه ترجعون ، وجوز بعض المحققين أن تكون هذه الجملة تذييلا لجملة ما سبق مما حكي عن إبراهيم عليه السلام أو لأوله ، والمعنى إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه ترجعون بالموت ثم بالبعث فافعلوا ما أمرتكم به وما بينهما اعتراض لتقرير الشرية كما سمعت. وقرىء «ترجعون» بفتح التاء من رجع رجوعا وَإِنْ تُكَذِّبُوا عطف على مقدر تقديره فإن تصدقوني فقد فزتم بسعادة الدارين وإن تكذبوا أي تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وهذا تعليل للجواب في الحقيقة ، والأصل فلا تضرونني بتكذيبكم فإنه قد كذب أمم قبلكم رسلهم وهم شيث وإدريس ونوح وهود وصالح
عليهم السلام فلم يضرهم تكذيبهم شيئا وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم إياي وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الذي لا يبقى معه شك وما عليه أن يصدقه قومه البتة وقد خرجت عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرني تكذيبكم بعد ذلك أصلا.
وهذه الآية أعني وَإِنْ تُكَذِّبُوا إلخ على ما ذكرنا من جملة قصة إبراهيم عليه السلام وكذا ما بعد على ما قيل إلى قوله تعالى : ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ [الأعراف : 82 ، النمل : 56 ، العنكبوت : 24 ، 29] وجوز أن يكون ذلك اعتراضا بذكر شأن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفي القصة من حيث إن مساقها لتسلية رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم والتنفيس عنه بأن أباه خليل الرحمن كان مبتلي بنحو ما ابتلي به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، قالوا :
وفي وَإِنْ تُكَذِّبُوا اعتراضية ، والخطاب منه تعالى أو من النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلّم على معنى وقل لقريش إِنْ تُكَذِّبُوا إلخ.
وذهب بعض المحققين إلى أن قوله تعالى : إِنْ تُكَذِّبُوا إلخ من كلام إبراهيم عليه السلام ، وقوله سبحانه :
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ إلخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله ، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها ، والواو للعطف على مقدر أي ألم ينظروا ولم يعلموا كيفية خلق اللّه تعالى الخلق ابتداء من مادة ومن غير مادة أي قد علموا ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بخلاف عنه «ألم تروا» بتاء الخطاب ، وهو على ما قال هذا البعض لتشديد الإنكار وتأكيده ولا يحتاج عليه إلى تقدير قول ومن لم يجعل ذلك كلاما مستأنفا مسوقا من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث قال : إن الخطاب على تقدير القول أي قال لهم رسلهم : «ألم تروا».
ووجه ذلك بأنه جعل ضمير أَوَلَمْ يَرَوْا على قراءة الغيبة لأمم في قوله تعالى : أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ فيجعل في قراءة الخطاب له أيضا ليتحد معنى القراءتين ، وحينئذ يحتاج لتقدير القول ليحكي خطاب رسلهم معهم إذ لا مجال للخطاب بدونه.
وقيل : إن ذاك لأنه لا يجوز أن يكون الخطاب لمنكري الإعادة من أمة إبراهيم أو نبينا عليهما الصلاة والسلام وهم المخاطبون بقوله تعالى : وَإِنْ تُكَذِّبُوا لأن الاستفهام للإنكار أي قد رأوا فلا يلائم قوله تعالى : قُلْ سِيرُوا إلخ لأن المخاطبين فيها هم المخاطبون أولا ، يعني إن كانت الرؤية علمية فالأمر بالسير والنظر لا يناسب لمن حصل

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 351
له العلم بكيفية الخلق ، والقول بأن الأول دليل أنفسي ، والثاني آفاقي مخالف للظاهر من وجوه ا ه فتدبر ، ولعل الأظهر والأبعد عن القيل والقال في نظم الآيات ما نقلناه عن بعض المحققين.
وقرأ الزبيري وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه كيف يبدأ على أنه مضارع بدأ الثلاثي مع إبدال الهمزة ألفا كما ذكره الهمداني ، وقوله تعالى : ثُمَّ يُعِيدُهُ عطف على أَوَلَمْ يَرَوْا لا على يبدىء لأن الرؤية إن كانت بصرية فهي واقعة على الإبداء دون الإعادة فلو عطف عليه لم يصح وكذا إذا كانت علمية لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلوما لهم كان تحصيلا للحاصل.
وجوز العطف عليه بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشأه سبحانه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه على ما قيل من غير ريب ، وعن مقاتل أن الخلق هنا الليل والنهار وليس بشيء إِنَّ ذلِكَ أي ما ذكر من الإعادة ، وجوز أن يكون المشار إليه ما ذكر من الأمرين عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يحتاج فعله تعالى إلى شيء خارج عن ذاته عز وجل.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أمر لإبراهيم عليه السلام أن يقول لقومه ذلك عند بعض المحققين ، وكذا جعله من جعل جميع ما تقدم من قصة إبراهيم عليه السلام ، ومن جعل قوله تعالى : وَإِنْ تُكَذِّبُوا إلى قوله تعالى : فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ اعتراضا جعل هذا أمرا لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول ذلك لقريش.
وجوز أن يجعل نظم الآيات السابقة على ما نقل عن بعض المحققين ويجعل هذا أمرا للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك لهم فإنهم مثل قوم إبراهيم عليه السلام والأمم الذين من قبلهم في التكذيب بالبعث والإنكار له ، وما في حيز هذا القول متضمن ما يدل على صحته ، وعدم اتحاده مع ما سبق لا يضر. وأيا ما كان فإضافة الرحمة إلى ضمير المتكلم فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى لما أن ذلك حكاية كلامه عز وجل على وجهه ومثله في القرآن الكريم كثير ، والسير كما قال الراغب : المضي في الأرض ، وعليه يكون في الآية تجريد ، والظاهر أن المراد به المضي بالجسم ، وجوز أن يراد به إجالة الفكر. وحمل على ذلك فيما يروى في وصف الأنبياء عليهم السلام أبدانهم في الأرض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة ، ومنهم من حمل ذلك على الجد في العبادة المتوصل بها إلى الثواب ، والمعنى على ما قلنا أولا امضوا في الأرض وسيحوا فيها فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اللّه تعالى الْخَلْقَ أي كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى ، فإن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها ، وعلى هذا تتغاير الكيفية في الآية السابقة والكيفية في هذه الآية لما أن الأولى كما علمت باعتبار المادة وعدمها وهذه باعتبار تغاير الأحوال.
ولعل التعبير في الآية الأولى بالمضارع أعني يُبْدِئُ دون الماضي كما هنا لاستحضار الصورة الماضية لما أن بدء الخلق من مادة وغيرها أغرب من بدء الخلق على أطوار مختلفة على معنى أن خلق الأشياء أغرب من جعل أطوارها مختلفة ، وأنت إذا لا حظت أن خلق الأشياء يعود في الآخرة إلى إيجادها من كتم العدم من غير سبق مادة دفعا للتسلسل وأن جعل أطوارها مختلفة إنما هو بعد سبق المادة ولو سبقا ذاتيا وهو ما قام به الاختلاف أعني ذوات الأشياء لا تشك في أن الأول أغرب من الثاني ، ولذا ترى التمدح بأصل الخلق في القرآن العظيم أكثر من التمدح بالجعل المذكور. وقد وافق الصيغة في الإشعار بالغرابة بناء الفعل من باب الافعال فإنه غير مستعمل ولذا قالوا : إنه مخل بالفصاحة لولا وقوعه مع (يعيد) ، ومما يقرب من هذا السر ما قيل في وجه حذف الياء من يسر في قوله تعالى : وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الفجر : 4] من أن ذلك لأن الليل يسرى فيه لا يسري أي ليدل مخالفة الظاهر في اللفظ على مخالفته في المعنى وهو معنى دقيق.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 352
وقيل في وجه التعبير بما ذكر إفادة الاستمرار التجددي وهو بناء على المعنى الثاني في الآية. وقال بعضهم في تغاير الدليلين : إن هذا عيني وذلك علمي أو هذا آفاقي والأول أنفسي وقرأ الزهري «كيف بدأ الخلق» بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفا ثم حذفها في الوصل. قال أبو حيان : وهو تخفيف غير قياسي كما قال : فارعي فزارة لا هناك المرتع ، وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها والنشأة الإيجاد والخلق ، والتعبير عن الإعادة التي هي محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شؤون اللّه تعالى حقيقة واسما من حيث إن كلّا منهما اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ولا فرق بينهما إلا بالأولية والأخروية كذا قيل.
والظاهر أنه مبني على أن الجسد يعدم بالكلية ثم يعاد خلقا جديدا لا أنه تتفرق أجزاؤه ثم تجمع بعد تفرقها وإلى كل ذهب بعض ، والأدلة متعارضة ، والمسألة كما قال ابن الهمام عند المحققين ظنية ، وفي كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام الغزالي ، فإن قيل : فما تقولون أتعدم الجواهر والاعراض ثم تعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الأعراض؟ قلنا : كل ذلك ممكن ولكن ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات انتهى ، وذهب ابن الهمام إلى أن الحق وقوع الكيفيتين إعادة ما انعدم بعينه وتأليف ما تفرق من الأجزاء ، وقد يقال : إن بدء الإنسان ونحوه ليس اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة لما أنه مخلوق من التراب وسائر العناصر ، والظاهر أن فناءه ليس عبارة عن صيرورته عدما محضا بل هو عبارة عن انحلاله إلى ما تركب منه ورجوع كل عنصر إلى عنصره.
نعم لا شك في فناء بعض الأعراض وانعدامها بالكلية ، وقد يستثنى منه بعض الأجزاء فلا ينحل إلى ما منه التركيب بل يبقى على ما كان عليه وهو عجب الذنب لظاهر حديث الصحيحين «ليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة» وتأويله بما أوله به ملا صدرا في أسفاره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وحينئذ فالإعادة تكون بتركيب ما انحل من العناصر وضمه إلى هذا الجزء فلا تكون اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة ، لكن لكل من البدء والإعادة شبه تام بالاختراع والإخراج المذكور ، وبه يصح أن يقال لكل اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود فلا تغفل ، والجملة معطوفة على جملة سِيرُوا فِي الْأَرْضِ داخلة معها في حيز القول ، ولا يضر تخالفهما خبرا وإنشاءا فإنه جائز بعد القول وما له محل من الإعراب ، ولا يصح عطفها على بدأ الخلق لأنها لا تصلح أن تكون موقعا للنظر أما إن كان بمعنى الإبصار فظاهر وأما إن كان بمعنى التفكر فلأن التفكر في الدليل لا في النتيجة ، وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره في بدأ لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة بالإشارة إلى علة الحكم فإنه الاسم الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال وتكرير الإسناد ورد ما تقدم على مقتضى الظاهر فلا يحتاج للتوجيه وكون المراد منه ليس إثبات الإعادة لمن أنكرها فلذا لم ينسج على هذا المنوال غير مسلم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «النشاءة» بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة والقصر أشهر ، ومحلها النصب على أنها مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أي ينشىء فينشؤون النشأة الآخرة نحو أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل لما قبله بطريق التحقيق فإن من علم قدرته عز وجل على جميع الممكنات التي من جملتها الإعادة لا يتصور أن
يتردد في قدرته سبحانه عليها ولا في وقوعها بعد ما أخبر به ، ثم اعلم أن أكثر المنكرين للبعث لا يقولون باستحالته كجمع النقيضين بل غاية ما عندهم استبعاده ، والرد على هؤلاء بهذه الآيات ونحوها ظاهر لما فيها مما يزيل الاستبعاد من الإبداء الذي هو في الشاهد أشق من الإعادة ، ومنهم من يقول باستحالته عقلا فلا يصلح متعلقا للقدرة ، وهؤلاء هم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 353
القائلون باستحالة إعادة المعدوم ، والرد عليهم بعد تسليم أن ما نحن فيه من إعادة المعدوم وليس من جمع المتفرق بإبطال ما استدلوا به على الاستحالة ، وقد تكفلت الكتب الكلامية بذلك ، وأما الرد عليهم بهذه الآيات ونحوها فلما فيها من الإشارة إلى تزييف أدلة الاستحالة فتدبر يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ جملة مستأنفة لبيان ما بعد النشأة الآخرة أي يعذب بعد النشأة الآخرة من يشاء تعذيبه وهم المنكرون لها وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته وهم المقرون بها وَإِلَيْهِ سبحانه لا إلى غيره تُقْلَبُونَ أي تردون ، والجملة تقرير للإعادة وتوطئة لما بعد ، وتقديم التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له تعالى عن إجراء حكمه وقضائه عليكم فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي بالهرب في الأرض الفسيحة أو الهبوط في مكان بعيد الغور والعمق بحيث لا يوصل إليه فيها ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها أو التي هي أمنع لمن حل فيها عن أن
تناله أيدي الحوادث فيما ترون لو استطعتم الرقي إليها كما في قوله تعالى : إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن :
33] أو البروج والقلاع المرتفعة في جهتها على ما قيل ، وهو خلاف الظاهر ، وقال ابن زيد والفراء : إن فِي السَّماءِ صلة موصول محذوف هو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير ولا من في السماء بمعجز ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ، وضعف بأن فيه حذف الموصول مع بقاء صلته وهو لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقول حسان :
أمن يهجو رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء
على ما هو الظاهر فيه ، على أن ابن مالك اشترط في جوازه عطف الموصول المحذوف على موصول آخر مذكور كما في هذا البيت ، وبأن فيه حذف الخبر أيضا مع عدم الحاجة إليه ، ولهذا جعل بعضهم الموصول معطوفا على أنتم ولم يجعله مبتدأ محذوف الخبر ليكون العطف من عطف الجملة على الجملة ، وزعم بعضهم أن الموصول محذوف في موضعين وأنه مفعول به لمعجزين وقال : التقدير وما أنتم بمعجزين من في الأرض أي من الإنس والجن ولا من في السماء أي من الملائكة عليهم السلام فكيف تعجزون اللّه عز وجل ، ولا يخفى أن هذا في غاية البعد ولا ينبغي أن يخرج عليه كلام اللّه تعالى.
وقيل ليس في الآية حذف أصلا ، والسماء هي المظلة إلا أن أَنْتُمْ خطاب لجميع العقلاء فيدخل فيهم الملائكة ويكون السماء بالنظر إليهم والأرض بالنظر إلى غيرهم من الإنس والجن وهو كما ترى.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحرسكم من بلاء أرضي أو سماوي وَلا نَصِيرٍ يدفعه عنكم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله ، فيدخل فيها النشأة الأولى الدالة على صحة البعث والآيات الناطقة به دخولا أوليا ، وتخصيصها بدلائل وحدانيته تعالى لا يناسب المقام وَلِقائِهِ الذي تنطق به تلك الآيات أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه عز وجل يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي ييأسون منها يوم القيامة على أنه وعيد ، وإلا فالكافر لا يوصف باليأس في الدنيا لأنه لا رجاء له ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ، وجوز أن يكون المراد إظهار مباينة حالهم وحال المؤمنين لأن حال المؤمن الرجاء والخشية وحال الكافر الاغترار واليأس فهو لا يخطر بباله رجاء ولا خوفا إن أخطر المخوف بباله كان حاله اليأس بدل الخوف وإن أخطر المرجو كان حاله الاغترار بدل الرجاء ، فكأنه تنصيص على كفرهم وتعريف لحالهم ، وأن يكون الكلام على الاستعارة.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 354
شبهوا بالآيسين من الرحمة وهم الذين ماتوا على الكفر لأنه ما دامت الحياة لا يتحقق اليأس من الرحمة لرجاء الإيمان ، أو من قدر آيسا من الرحمة على الفرض دلالة على توغلهم في الكفر وعدم ارعوائهم وقرأ الذماري وأبو جعفر ، «ييسوا» بغير همز بل بياء بدل الهمزة وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في تكرير اسم الإشارة وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالأليم من الدلالة على فظاعة حالهم ما لا يخفى لكن قال الإمام : إنه تعالى أضاف الرحمة إلى نفسه عز وجل دون العذاب ليؤذن بأن رحمته جل وعلا سبقت غضبه سبحانه ، وأنت تعلم أن في الآية على هذا دلالة على سوء حالهم أيضا لإفادتها أنهم حرموا تلك الرحمة العظيمة بما ارتكبوه من العظائم فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى : إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ.
وقرأ الحسن : وسالم الأفطس بالرفع على العكس ، وقد مر ما فيه في نظائره ، والمراد بالقتل ما كان بسيف ونحوه فتظهر مقابلة الإحراق له ، ولا حاجة إلى جعل أو بمعنى بل ، والآمرون بذلك إما بعضهم لبعض أو كبرائهم قالوا لأتباعهم : اقتلوه فتستريحوا منه عاجلا أو حرقوه بالنار فإما أن يرجع إلى دينكم إذا مضته النار وإما أن يموت بها إن أصر على قوله ودينه ، وأيا ما كان ففيه إسناد ما للبعض إلى الكل ، وجاء هنا الترديد بين قتله عليه السلام وإحراقه فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل وناس بالإحراق ، وفي اقترب قالوا حرقوه اقتصروا على أحد الشيئين وهو الذي فعلوه رموه عليه السلام في النار ولم يقتلوه ثم إنه ليس المراد أنهم لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حججه عليه السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم ، بل إن ذلك هو الذي استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتي في المرة الأخيرة ، وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والأباطيل ما لا يحصى فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه اللّه تعالى منها بأن جعلها سبحانه عليه بردا وسلاما حسبما بين في مواضع أخر ، وقد مر بيان كيفية إلقائه عليه السلام فيها وإنجائه تعالى إياه منها ، وكان ذلك في كوثى من سواد الكوفة ، وكونه في المكان المشهور اليوم من أرض الرها وعنده صورة المنجنيق وماء فيه سمك لا يصطاد ولا يؤكل حرمة له لا أصل له إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنجائه عليه السلام منها لَآياتٍ بينة عجيبة وهي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها.
وعن كعب أنه لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه عليه السلام به ، ولولا وقوع اسم الإشارة في أثناء القصة لكان الأولى كونه إشارة إلى ما تضمنته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالفحص عنها ، والتأمل فيها.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 25 إلى 41]
وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34)
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39)
فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 355
وَقالَ إبراهيم عليه السلام مخاطبا لهم بعد أن أنجاه اللّه تعالى من النار.
إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم ، فالمفعول له غاية مترتبة على الفعل ومعلول له في الخارج ، أو المعنى إن مودة بعضكم بعضا هي التي دعتكم إلى اتخاذها بأن رأيتم بعض من تودّونه اتخذها فاتخذتموها موافقة له لمودتكم إياه ، وهذا كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا فيفعله مودّة له ، فالمفعول له على هذا علة باعثة على الفعل وليس معلولا له في الخارج ، والمراد نفى أن يكون فيها نفع أو ضر وأن الداعي لاتخاذها رجاء النفع أو خوف الضر ، وكأنه لم يعتبر ما جعلوه علة لاتخاذها علة وهو ما أشاروا إليه في قولهم : ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر : 3] للإشارة إلى أن ذلك لكونه أمرا موهوما لا حقيقة له مما لا ينبغي أن يكون علة باعثة وسببا حاملا لمن له أدنى عقل.
وقال بعضهم : يجوز أن يكون المخاطبون في هذه الآية أناسا مخصوصين ، والقائلون : ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أناسا غيرهم ، وقيل : إنّ الأوثان أول ما اتخذت بسبب المودة ، وذلك أنه كان أناس صالحون فماتوا وأسف عليهم أهل زمانهم فصوروا أحجارا بصورهم حبا لهم فكانوا يعظمونها في الجملة ولم يزل تعظيمها يزداد جيلا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 356
فجيلا حتى عبدت ، فالآية إشارة إلى ذلك ، والمعنى إنما اتخذ أسلافكم من دون اللّه أوثانا إلخ ، ومثله في القرآن الكريم كثير ، وثاني مفعولي اتخذتم محذوف تقديره آلهة.
وقال مكي : يجوز أن يكون اتخذ متعديا إلى مفعول واحد كما في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ [الأعراف : 152] ورد بأنه مما حذف مفعوله الثاني أيضا ، وجوز أن يكون مودة هو المفعول الثاني بتقدير مضاف أي ذات مودة وكونها ذات مودة باعتبار كونها سبب المودة ، وظاهر كلام الكشاف أن المضاف المحذوف هو لفظ سبب ، وقد يستغنى عن التقدير بتأويل مودة بمودودة ، أو بجعلها نفس المودة مبالغة ، واعترض جعل مودة المفعول الثاني بأنه معرفة بالإضافة إلى المضاف إلى الضمير والمفعول الأول نكرة وذلك غير جائز لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر. وأجيب بأنه لا يلزم من غير جواز ذلك في أصلهما عدم جوازه فيهما ، وإذا سلم اللزوم فلا يسلم كون المفعول الثاني هنا معرفة بالإضافة لما أنها على الاتساع فهي من قبيل الإضافة اللفظية التي لا تفيد تعريفا وإنما تفيد تخفيفا في اللفظ ، كذا قيل : وهو كما ترى.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر «مودة» بالنصب والتنوين بينكم بالنصب ، والوجه أن مودة منصوب على أحد الوجهين السابقين و«بينكم» منصوب به أو بمحذوف وقع صفة له ، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس «مودة بينكم» برفع مودة مضافة إلى بين وخفض بين بالإضافة ، وخرج الرفع على أن مودة خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة على أحد التأويلات المعروفة والجملة صفة أوثانا ، وجوز كونها المفعول الثاني أو على أنها خبر إن على أن ما مصدرية ، أي إن اتخاذكم ، أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعول الأول ، أي إن الذي اتخذتموه من دون اللّه أوثانا مودة بينكم ، ويجري فيه التأويلات التي أشرنا إليها.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو في رواية الأصمعي والأعشى عن أبي بكر «مودة» بالرفع والتنوين «بينكم» بالنصب ، ووجه كل معلوم مما مر. وروي عن عاصم «مودة» بالرفع من غير تنوين و«بينكم» بفتح النون ، جعله مبنيا لإضافته إلى لازم البناء فمحله الجر بإضافة مودة إليه ، ولذا سقط التنوين منها. وفي قوله تعالى : فِي الْحَياةِ الدُّنْيا على هذه القراءات والأوجه فيها أوجه من الإعراب ذكرها أبو البقاء. الأول : أن يتعلق باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة لا على جعلها موصولة أو مصدرية ، ورفع مودة لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في حيز الصلة بالخبر. الثاني : أن يتعلق بنفس مودة إذا لم يجعل بين صفة لها بناء على أن المصدر إذا وصف لا يعمل مطلقا ، وأجاز ابن عطية هذا التعلق وإن جعل بين صفة لما أنه يتسع بالظرف ما لم يتسع في غيره ، فيجوز عمل المصدر به بعد الوصف. الثالث : أن يتعلق بنفس بينكم لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم. الرابع : أن يجعل حالا من بينكم لتعرفه بالإضافة. وتعقب أبو حيان هذين الوجهين بعد نقلهما عن أبي البقاء كما ذكرنا بأنهما إعرابان لا يتعقلان. الخامس : أن يجعل صفة ثانية لمودة إذا نونت وجعل بينكم صفة لها ، وأجاز ذلك مكي وأبو حيان أيضا. السادس : أن يتعلق بمودة ويجعل بينكم ظرفا متعلقا بها أيضا ، وعمل مودة في ظرفين لاختلافهما. السابع : أن يجعل حالا من الضمير في بينكم إذا جعل وصفا لمودة والعامل الظرف لأن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال ، ولا يجوز أن يكون العامل مودة لذلك. وقال مكي : لأنك قد وصفتها ومعمول المصدر متصل به فيكون قد فرقت بين الصلة والموصول بالصفة.
وعن ابن مسعود أنه قرأ «إنما اتخذتم من دون اللّه أوثانا إنما مودة بينكم في الحياة الدنيا» بزيادة «إنما» بعد أوثانا ورفع «مودة» بلا تنوين وجر بين بالإضافة وخرجت على أن مودة مبتدأ وفي الحياة الدنيا خبره ، والمعنى إنما توادكم عليها أو مودتكم إياها كائن أو كائنة في الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يتبدل الحال حيث يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ وهم العبدة بِبَعْضٍ

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 357
وهم الأوثان وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي يلعن كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها اللّه تعالى الفريق الآخر ، وفيه تغليب الخطاب وضمير العقلاء ، وجوز أن يكون الخطاب للعبدة لا غير ، والمراد بكفر بعضهم ببعض التناكر أي ثم يوم القيامة يظهر التناكر والتلاعن بينكم أيتها العبدة للأوثان.
وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه أبدا.
وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها ، وجمع الناصرين لوقوعه في مقابلة الجمع ، أي ما لأحد منكم من ناصر أصلا فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي صدقه عليه السلام في جميع مقالاته أو بنبوته حين ادعاها لا أنه صدقه فيما دعا إليه من التوحيد ولم يكن كذلك قبل ، فإنه عليه السلام كان متنزها عن الكفر ، وما قيل : إنه آمن له عليه السلام حين رأى النار لم تحرقه ضعيف رواية وكذا دراية ، لأنه بظاهره يقتضي عدم إيمانه قبل وهو غير لائق به عليه السلام ، وحمله بعضهم على نحو ما ذكرنا أو على أن يراد بالإيمان الرتبة العالية منها وهي التي لا يرتقي إليها إلا الأفراد ، ولوط على ما في جامع الأصول ابن أخيه هاران بن تارح ، وذكر بعضهم أنه ابن أخته بالتاء الفوقية وَقالَ إبراهيم عليه السلام : كما ذهب إليه قتادة والنخعي وقيل : الضمير للوط عليه السلام وليس بشيء لما يلزم عليه من التفكيك ، والجملة استئناف بياني كأنه قيل : فماذا كان منه عليه السلام؟ فقيل : قال إِنِّي مُهاجِرٌ أي من قومي إِلى رَبِّي أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها ، وقيل : إلى حيث لا أمنع عبادة ربي ، وقيل : المعنى مهاجر من خالفني من قومي متقربا إلى ربي إِنَّهُ عز وجل هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره فيمنعني من أعدائي الْحَكِيمُ الذي لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي.
روي أنه عليه السلام هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوطا وسارة ابنة عمه إلى حران ، ثم منها إلى الشام فنزل قرية من أرض فلسطين ، ونزل لوط سذوم وهي المؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام ، وكان عمره إذ ذاك على ما في الكشاف والبحر خمسا وسبعين سنة ، وهو أول من هاجر في اللّه تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ولدا ونافلة حين أيس من عجوز عاقر ، والجملة معطوفة على ما قبل ولا حاجة إلى عطفها على مقدر كأصلحنا أمره ، ولم يذكر سبحانه إسماعيل عليه السلام ، قيل لأن المقام مقام الامتنان وذكر الإحسان وذلك بإسحاق ويعقوب لما أشرنا إليه بخلاف إسماعيل وقيل لأنه لا يناسب ذكره هاهنا لأنه ابتلي بفراقه ووضعه بمكة مع أمه دون أنيس ، وقال الزمخشري : إنه عليه السلام ذكر ضمنا وتلويحا بقوله تعالى : وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ولم يصرح به لشهرة أمره وعلو قدره ، هذا مع أن المخاطب نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو من أولاده وأعلم به ، والمراد بالكتاب جنسه المتناول للكتب الأربعة وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على ما عمل لنا فِي الدُّنْيا قال مجاهد :
بإنجائه من النار ومن الملك الجبار والثناء الحسن عليه بحيث يتولاه كل أمة ، وضم إلى ذلك ابن جريج الولد الذي قرت به عينه.
وقد يضم إلى ذلك أيضا استمرار النبوة في ذريته ، وقال السدي : إن ذلك إراءته عليه السلام مكانه من الجنة ، وقال بعضهم : هو التوفيق لعمل الآخرة ، وقيل : هو الصلاة عليه إلى آخر الدهر ، وقال الماوردي : هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لنبي غيره ، ولا يخفى حال بعض هذه الأقوال ، وذكر بعضهم أن المراد آتيناه أجره بمقابلة هجرته إلينا ، وعليه لا يصح عد الإنجاء من النار من الأجر بل يعد إعطاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم ونحوه ذلك مما كان له عليه السلام بعد الهجرة من الأجر ، وعطف هذا وما بعده من قوله تعالى : وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 358
أي لفي عداد الكاملين في الصلاح من التعميم بعد التخصيص ، بأنه لما عدد ما أنعم به عليه من النعم الدينية والدنيوية قال سبحانه : وجمعنا له مع ما ذكر خير الدارين وَلُوطاً عطف على إبراهيم أو على نوحا والكلام في قوله تعالى :
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ كالذي في القصة السابقة.
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الفعلة البالغة في القبح ، وقرأ الجمهور «أئنكم» على الاستفهام الإنكاري : ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ استئناف مقرر لكمال قبحها ، فإن إجماع جميع أفراد العالمين على التحاشي عنها ليس إلا لكونها مما تشمئز منه الطباع السليمة وتنفر منه النفوس الكريمة ، وجوز أبو حيان كون الجملة حالا من ضمير تأتون ، كأنه قيل : إنكم لتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تنكحونهم وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي وتقطعون الطريق بسبب تكليف الغرباء والمارة تلك الفعلة القبيحة وإتيانهم كرها أو وتقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث ، وقيل : تقطعون الطريق بالقتل وأخذ المال ، وقيل :
تقطعونه بقبح الأحدوثة وَتَأْتُونَ أي تفعلون فِي نادِيكُمُ أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه ، وهو اسم جنس إذ أنديتهم في مجالسهم كثيرة ، ولا يسمى ناديا إلا إذا كان فيه أهله فإذا ناموا عنه لم يطلق عليه ناد الْمُنْكَرَ
أخرج أحمد والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت : «سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه تعالى : وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فقال : كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم
، وعن مجاهد ومنصور والقاسم بن محمد وقتادة وابن زيد هو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا ، وعن مجاهد أيضا هو لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم ، وعن ابن عباس هو تضارطهم وتصافعهم فيها ، وفي رواية أخرى عنه هو الخذف بالحصى والرمي وبالبنادق والفرقعة ومضغ العلك والسواك بين الناس وحل الإزار والسباب والفحش في المزاح ولم يأت في قصة لوط عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة اللّه تعالى كما جاء في قصة إبراهيم وكذا في قصة شعيب الآتية لأن لوطا كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وقد سبقه إلى الدعاء لعبادة اللّه تعالى وتوحيده واشتهر أمره عند الخلق فذكر لوط عليه السلام ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها ، وأما إبراهيم وشعيب عليهما السلام فجاءا بعد انقراض من كان يعبد اللّه عز وجل ويدعو إليه سبحانه فلذلك دعا كل منهما قومه إلى عبادته تعالى كذا في البحر.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما تعدنا من نزول العذاب على ما في الكشاف وغيره ، وهذا ظاهر في أنه عليه السلام كان أوعدهم بالعذاب ، وقيل : أي في دعوى استحقاقنا العذاب على ما نحن عليه المفهومة من التوبيخ المعلوم من الاستفهام الإنكاري ، وقيل : أي في دعوى استقباح ذلك الناطق بها كلامك وهذا الجواب صدر عنهم في المرة الأولى من مرات مواعظ لوط عليه السلام ، وما في سورة الأعراف المذكور في قوله تعالى : وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الأعراف : 82] الآية وما في سورة النمل المذكور في قوله تعالى : فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل : 56] الآية فقد صدر عنهم بعد هذه المرة فلا منافاة بين الحصر هنا والحصر هناك ، قاله أبو حيان وتبعه أبو السعود. وتعقب بأن هذا التعيين يحتاج إلى توقيف. وأجيب بأن مضموني الجوابين يشعران بالتقدم والتأخر ، وذلك أن ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ من باب التكذيب والسخرية وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات وأَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ونحوه من باب التعذيب والانتقام ، وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم ومزيد تألمهم مع قدرتهم على التشفي ، وهذا القدر يكفي لدعوى التقدم والتأخر ، وقيل

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 359
في دفع المنافاة بين الحصرين : إن ما هنا جواب قومه عليه السلام له إذ نصحهم ، وما هناك جواب بعضهم لبعض إذ تشاوروا في أمره ، وقيل : إن أحد الجوابين صدر عن كبار قومه وأمرائهم والآخر صدر عن غيرهم ، وظاهر صنيع بعض الأجلة يقتضي اختيار أن يكون كل من الحصرين بالإضافة إلى الجواب الذي يرجوه عليه السلام في متابعته فتأمل.
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي أي بإنزال العذاب الموعود عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة وسنها فيما بعدهم والإصرار عليها واستعجال العذاب بطريق السخرية ، وإنما وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي البشارة بالولد والنافلة قالُوا أي لإبراهيم عليه السلام في تضاعيف الكلام إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي قرية سذوم وهي أكبر قرى قوم لوط وفيها نشأت الفاحشة أولا على ما قيل ، ولذا خصت بالذكر ، وفي الإشارة بهذه إشارة إلى أنها كانت قريبة من محل إبراهيم عليه السلام وإضافة مُهْلِكُوا إلى أَهْلِ لفظية لأن المعنى على الاستقبال ، وجوز كونها معنوية لتنزيل ذلك منزلة الماضي لقصد التحقيق والمبالغة إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تعليل للإهلاك بإصرارهم على الظلم وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي ، والتأكيد في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر وقال سبحانه : إِنَّ أَهْلَها دون إنهم مع أنه أظهر وأخصر تنصيصا على اتفاقهم على الفساد كما اختاره الخفاجي.
وقال بعض المدققين : إن ذلك للدلالة على أن منشأ فساد جبلتهم خبث طينتهم ، ففيه إشارة خفية إلى أن المراد من أهل القرية من نشأ فيها فلا يتناول لوطا عليه السلام ، واعترض بأنه يبعد كل البعد خفاؤها لو كانت على إبراهيم عليه السلام كما هو ظاهر قوله تعالى : قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً وقيل : يجوز أن يكون عليه السلام علم ما أشاروا إليه من عدم تناول أهل القرية إياه لكنه أراد التنصيص على حاله ليطمئن قلبه لكمال شفقته عليه ، وقيل : أراد أن يعلم هل يبقى في القرية عند إهلاكهم أو يخرج منها ثم يهلكون ، وكأن في قوله : إِنَّ فِيها دون إن منهم إشارة إلى ذلك ، وأفهم كلام بعض المحققين أن قوله : إِنَّ فِيها لُوطاً اعتراض على الرسل عليهم السلام بأن في القرية من لم يظلم بناء على أن المتبادر من إضافة الأهل إليها العموم ، وحمل الأهل على من سكن فيها وإن لم يكن تولده بها ، أو معارضة للموجب للهلاك وهو الظلم بالمانع وهو أن لوطا بين ظهرانيهم وهو لم يتصف بصفتهم ، وأن جواب الرسل المحكي بقوله تعالى : قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ تسليم لقوله عليه السلام في لوط مع ادعاء مزيد العلم به باعتبار الكيفية وأنهم ما كانوا غافلين عنه ، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله على الاعتراض ، أو بيان وقت إهلاكهم بوقت لا يكون لوط وأهله بين ظهرانيهم على المعارضة ، وفيه ما يدل على جواز تأخير البيان عن الخطاب في الجملة ، والذي يغلب على الظن أنهم أرادوا بأهل القرية من نشأ بها على ما هو المتعارف فلا يكون لوط عليه السلام داخلا في الأهل ، ويؤيد ذلك تأييدا ما قول قومه أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ وفهم إبراهيم عليه السلام ما أرادوه وعلم أن لوطا ليس من المهلكين إلا أنه خشي أن يكون هلاك قومه وهو بين ظهرانيهم في القرية فيوحشه ذلك ويفزعه.
ولعله عليه السلام غلب على ظنه ذلك حيث لم يتعرضوا لإخراجه من قرية المهلكين مع علمهم بقرابته منه ومزيد شفقته عليه فقال : إِنَّ فِيها لُوطاً على سبيل التحزن والتفجع كما في قوله تعالى : إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران : 36] وجل قصده ان لا يكون فيها حين الإهلاك فأخبروه أولا بمزيد علمهم به وأفادوه ثانيا بما يسره ويسكن جأشه نظير ما في قوله تعالى : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [آل عمران : 36] وأكدوا الوعد بالتنجية إما للإشارة إلى مزيد اعتنائهم بشأنه وإما لتنزيلهم إبراهيم عليه السلام منزلة من ينكر تنجيته لما شاهدوا منه في

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 360
حقه ، وتحمل التنجية على إخراجه من بين القوم وفصله عنهم وحفظه مما يصيبهم فإنها بهذا المعنى الفرد الأكمل ، ويلائم هذا ما قيل في قوله تعالى : إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من الباقين في القرية وهو أحد تفسيرين ، ثانيهما ما روي عن قتادة وهو تفسيره الغابرين بالباقين في العذاب فتأمل ، فكلام اللّه تعالى ذو وجوه ، وفسر الأهل هنا بأتباع لوط عليه السلام المؤمنين ، وجملة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ مستأنفة وقد مر الكلام في ذلك وكذا في الاستثناء فارجع إليه وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا المذكورون بعد مفارقتهم إبراهيم عليه السلام لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي اعتراه المساءة والغم بسبب الرسل مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء كما هو عادتهم مع الغرباء ، وقد جاؤوا إليه عليه السلام بصور حسنة إنسانية.
وقيل : ضمير بِهِمْ للقوم أي سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم ، وكذا ضمير بِهِمْ الآتي وليس بشيء ، وأَنْ مزيدة لتأكيد الكلام التي زيدت فيه فتؤكد الفعلين واتصالهما المستفاد من لما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان فكأنه قيل : لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث.
وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم : ضاقت يده ، ويقابله رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له قادرا عليه ، وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع.
وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ عطف على سيء ، وجوز أن يكون عطفا على مقدر أي قالوا : إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ [هود : 81] وقالوا إلخ ، وأيا ما كان فالقول كان بعد أن شاهدوا فيه مخايل التضجر من جهتهم وعاينوا أنه عليه السلام قد عجز عن مدافعة قومه حتى آلت به الحال إلى أن قال : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود : 80] والخوف للمتوقع والحزن للواقع في الأكثر ، وعليه فالمعنى لا تخف من تمكنهم منا ولا تحزن على قصدهم إيانا وعدم اكتراثهم بك ، ونهيهم عن الخوف من التمكن إن كان قبل إعلامهم إياه أنهم رسل اللّه تعالى فظاهر ، وإن كان بعد الإعلام فهو لتأنيسه وتأكيد ما أخبروه به.
وقال الطبرسي : المعنى لا تخف علينا وعليك ولا تحزن بما نفعله بقومك إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ فلا يصيبكم ما يصيبهم من العذاب إِلَّا امْرَأَتَكَ إنها كانَتْ في علم اللّه تعالى مِنَ الْغابِرِينَ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب «لننجينه» و«منجوك» بالتخفيف من الإنجاء ، ووافقهم ابن كثير في الثاني.
وقرأ الجمهور بشد نون التوكيد ، وفرقه بتخفيفها ، وأيا ما كان فمحل الكاف من منجوك الجر بالإضافة ولذا حذفت النون عند سيبويه و«أهلك» منصوب على إضمار فعل أي وننجي أهلك ، وذهب الأخفش وهشام إلى أن الكاف في محل النصب وأهلك معطوف عليه وحذفت النون لشدة طلب الضمير الاتصال بما قبله للإضافة ، وقال بعض الأجلة : لا مانع من أن يكون لمثل هذا الكاف محلان الجر والنصب ويجوز العطف عليها بالاعتبارين ، وقرأ نافع وابن كثير والكسائي «سي ء» بإشمام السين الضم ، وقرأ عيسى وطلحة «سوء» بضمها وهي لغة بني هذيل وبني دبير يقولون في نحو قيل وبيع قول وبوع وعليه قوله :
حوكت على نولين إذ تحاك تختبط الشوك ولا تشاك
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ استئناف مسوق لبيان ما أشير إليه بوعد التنجية من نزول العذاب عليهم ، والرجز العذاب الذي يقلق المعذب أي يزعجه من قولهم : ارتجز إذا ارتجس واضطرب وقرأ ابن عامر «منزّلون» بالتشديد. وابن محيصن «رجزا» بضم الراء بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم المعهود المستمر ،

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 361
وقرأ أبو حيوة والأعمش بكسر السين وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من القرية على ما عليه الأكثر آيَةً بَيِّنَةً قال ابن عباس : هي آثار ديارها الخربة ، وقال مجاهد : هي الماء الأسود على وجه الأرض ، وقال قتادة : هي الحجارة التي أمطرت عليهم وقد أدركتها أوائل هذه الأمة ، وقال أبو سليمان الدمشقي : هي أن أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها إلى الآن وأنكر ذوو الأبصار ذلك ، وقال الفراء : المعنى تركناها آية كما يقال : إن في السماء آية ويراد أنها آية. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتجه إلا على زيادة (من) في الواجب نحو قوله :
أمرهت منهاجبة وتيسا يريد أمهرتها. وقال بعضهم : إن ذلك نظير قولك : رأيت منه أسدا ، وقيل : الآية حكايتها العجيبة الشائعة ، وقيل :
ضمير مِنْها للفعلة التي فعلت بهم والآية الحجارة ، أو الماء الأسود والظاهر ما عليه الأكثر.
ولا يخفى معنى (من) على هذه الأقوال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار ، فالفعل منزل منزلة اللازم ولِقَوْمٍ متعلق بتركنا أو ببينة ، واستظهر الثاني هذا ، وفي الآيات من الدلالة على ذم اللواطة وقبحها ما لا يخفى ، فهي كبيرة بالإجماع ، ونصوا على أنها أشد حرمة من الزنا. وفي شرح المشارق للأكمل أنها محرمة عقلا وشرعا وطبعا ، وعدم وجوب الحد فيها عند الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه لعدم الدليل عنده على ذلك لا لخفتها ، وقال بعض العلماء : إن عدم وجوب الحد للتغليظ لأن الحد مطهر ، وفي جواز وقوعها في الجنة خلاف ، ففي الفتح قيل : إن كانت حرمتها عقلا وسمعا لا تكون في الجنة وإن كانت سمعا فقط جاز أن تكون فيها والصحيح أنها لا تكون لأن اللّه تعالى استبعدها واستقبحها فقال سبحانه : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت : 28] وسماها خبيثة فقال عز وجل كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ [الأنبياء : 74] والجنة منزهة عنها. وتعقب هذا الحموي بأنه لا يلزم من كون الشيء خبيثا في الدنيا أن لا يكون له وجود في الجنة ألا ترى أن الخمر أم الخبائث في الدنيا ولها وجود في الجنة ، وفيه بحث ، لأن خبث الخمر في الدنيا لإزالتها العقل الذي هو عقال عن كل قبيح وهذا الوصف لا يبقى لها في الجنة ولا كذلك اللواطة.
وفي الفتوحات المكية في صفة أهل الجنة أنهم لا أدبار لهم لأن الدبر إنما خلق في الدنيا لخروج الغائط وليست الجنة محلا للقاذورات ، وعليه فعدم وجودها في الجنة ظاهر ، ولا أظن ذا غيرة صادقة تسمح نفسه أن يلاط به في الجنة سرا أو علنا ، وجواز وقوعها فيها قد ينجر إلى أن تسمح نفسه بذلك أو يجبر عليه وذلك إذا اشتهى أحد أن يلوط به إذ لا بد من حصول ما يشتهيه ، وهذا وإن لم يكن قطعيا في عدم وقوع اللواطة مطلقا في الجنة إلا أنه يقوي القول بعدم الوقوع فتأمل وَإِلى مَدْيَنَ متعلق بأرسلنا مقدر معطوف على أرسلنا في قصة نوح أي وأرسلنا إلى مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ لهم يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون به غائلته ، أو الأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب عليه الرجاء إقامة المسبب مقام السبب ، وفي الكلام مضاف مقدر فالمعنى افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر ، وجوز أن لا يقدر مضاف ، وإرادة الثواب من إطلاق الزمان على ما فيه ، وقيل : الأمر برجاء الثواب أمر بسببه اقتضاء بلا تجوز فيه بعلاقة السببية.
وقال أبو عبيدة : الرجاء هنا بمعنى الخوف والمعنى وخافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام اللّه تعالى منكم إن لم تعبدوه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لأن العثو الفساد فَكَذَّبُوهُ فيما تضمنه كلامه من أنهم إن لم يمتثلوا أمره ونهيه وقع بهم العذاب وإليه ذهب أبو حيان ، وقيل : من أنه تعالى مستحق لأن يعبد وحده سبحانه وأن اليوم الآخر متحقق الوقوع أو نحو ذلك فَأَخَذَتْهُمُ بسبب تكذيبهم إياه الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة وفي سورة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 362
هود وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود : 94] أي صيحة جبريل عليه السلام فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاورها من الأرض ، وفسر مجاهد الرجفة هنا بالصيحة ، فقيل : لذلك وقيل : لأنها رجفت منها القلوب فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي بلدهم فإن الدار تطلق على البلد ، ولذا قيل : للمدينة دار الهجرة أو المراد مساكنهم وأقيم فيه الواحد مقام الجمع لأمن اللبس لأنهم لا يكونون في دار واحدة ولعل فيه إشارة إلى أن الرجفة خربت مساكنهم وهدمت ما بينها من الجدران فصارت كمسكن واحد جاثِمِينَ أي باركين على الركب ، والمراد ميتين على ما روي عن قتادة.
وفي مفردات الراغب هو استعارة للمقيمين من قولهم : جثم الطائر إذا قعد ولطىء بالأرض ويرجع هذا إلى ميتين أيضا وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بإضمار فعل ينبىء عنه ما قبله من قوله تعالى : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي وأهلكنا عادا وثمود ، وقوله تعالى : وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ عطف على ذلك المضمر أي وقد ظهر لكم أتم ظهور إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم أو بسببها. وذلك بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهابا إلى الشام وإيابا منه ، وجوز كون مِنْ تبعيضية ، وقيل : هما منصوبان بإضمار اذكروا أي واذكروا عادا وثمود.
والمراد ذكر قصتهما أو بإضمار اذكر خطابا له صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وجملة قَدْ تَبَيَّنَ حيالية ، وقيل :
هي بتقدير القول أي وقل : قد تبين ، وجوز أن تكون معطوفة على جملة واقعة في حيز القول أي اذكر عادا وثمود قائلا قد مررتم على مساكنهم وقد تبين لكم إلخ ، وفاعل تبين الإهلاك الدال عليه الكلام أو مساكنهم على أن مِنْ زائدة في الواجب ، ويؤيده قراءة الأعمش «مساكنهم» بالرفع من غير من ، وكون مِنْ هي الفاعل على أنها اسم بمعنى بعض مما لا يخفى حاله.
وقيل : هما منصوبان بالعطف على الضمير في فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والمعنى يأباه ، وقال الكسائي : منصوبان بالعطف على الذين من قوله تعالى : وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهو كما ترى ، والزمخشري لم يذكر في ناصبهما سوى ما ذكرناه أولا وهو الذي ينبغي أن يعول عليه. وقرأ أكثر السبعة «وثمودا» بالتنوين بتأويل الحي ، وهو على قراءة ترك التنوين بتأويل القبيلة ، وقرأ ابن وثاب «وعاد وثمود» بالخفض فيهما والتنوين عطفا على مدين على ما في البحر أي وأرسلنا إلى عاد وثمود وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ بوسوسته وإغوائه أَعْمالَهُمْ القبيحة من الكفر والمعاصي فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي الطريق المعهود وهو السوي الموصل إلى الحق ، وحمله على الاستغراق حصرا له في الموصل إلى النجاة تكلف وَكانُوا أي عاد وثمود لا أهل مكة كما توهم : مُسْتَبْصِرِينَ أي عقلاء يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالاستدلال والنظر ولكنهم أغفلوا ولم يتدبروا وقيل : عقلاء يعلمون الحق ولكنهم كفروا عنادا وجحودا ، وقيل : متبينين أن العذاب لاحق بهم بإخبار الرسل عليهم السلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا ما لقوا.
وعن قتادة والكلبي كما في مجمع البيان أن المعنى كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة يحسبون أنه على هدى وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه قال : أي معجبين بضلالتهم وهو تفسير بحاصل ما ذكر ، وهو مروي كما في البحر عن ابن عباس ومجاهد ، والضحاك ، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ معطوف على عادا ، وتقديم قارون لأن المقصود تسلية النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فيما لقي من قومه لحسدهم له ، وقارون كان من قوم موسى عليه السلام وقد لقي منه ما لقي ، أو لأن حاله أوفق بحال عاد وثمود فإنه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة ولم يفده الاستبصار شيئا كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئا ،

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 363
أو لأن هلاكه كان قبل هلاك فرعون وهامان فتقديمه على وفق الواقع ، أو لأنه أشرف من فرعون وهامان لإيمانه في الظاهر وعلمه بالتوراة وكونه ذا قرابة من موسى عليه السلام ، ويكون في تقديمه لذلك في مقام الغضب إشارة إلى أن نحو هذا الشرف لا يفيد شيئا ولا ينقذ من غضب اللّه تعالى على الكفر وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا عن الايمان والطاعة فِي الْأَرْضِ إشارة إلى قلة عقولهم لأن من في الأرض لا ينبغي له أن يستكبر.
وَما كانُوا سابِقِينَ أي فائتين أمر اللّه تعالى ، من قولهم : سبق طالبه أي فاته ولم يدركه ، ولقد أدركهم أمره تعالى أي إدراك فتداركوا نحو الدمار والهلاك ، وقال أبو حيان : المعنى وما كانوا سابقين الأمم إلى الكفر أي تلك عادة الأمم مع رسلهم عليهم السلام ، وليس بذاك وأيا ما كان فالظاهر أن ضمير كانوا لقارون وفرعون وهامان ، وقيل : الجملة عطف على أهلكنا المقدر سابقا وضمير - كانوا - لجميع المهلكين ، وفيه تبر للنظم الجليل فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ هذا وما بعده كالفذلكة للآيات المتضمنة تعذيب من كفر ولم يمتثل أمر من أرسل إليه ، وقال أبو السعود : هذا تفسير لما ينبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام وما بعده تفصيل للأخذ ، وفي القلب منه شيء. وكأنه اعتبر رجوع ضمير - كانوا - إلى المهلكين ، وقد علمت حاله وتقديم المفعول للاهتمام بأمر الاستيعاب والاستغراق ، وقال الفاضل : المذكور للحصر أي كل واحد من المذكورين عاقبناه بجنايته لا بعضا دون بعض ، وبحث فيه بأن كلّا متكفلة بهذا المعنى قدمت أو أخرت ، وأجيب بأنا لا نسلم أنه يفهم منها لا بعضا إذا أخرت وإنما يفهم منها بواسطة التقديم فتأمل ، والكلام في مرجع ضمير بذنبه سؤالا وجوابا لا يخفى على من أحاط علما بما قيل في قولهم : كل رجل وضيعته. وقولهم : الترتيب جعل كل شيء في مرتبته ، وهو شهير بين الطلبة فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أي ريحا عاصفا فيها حصباء ، وقيل :
ملكا رماهم بالحصباء وهم قوم لوط.
وقال ابن عطية : يشبه أن يدخل عاد في ذلك لأن ما أهلكوا به من الريح كانت شديدة وهي لا تخلو عن الحصب بأمور مؤذية ، والحاصب هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ هم مدين وثمود ولم يقل أخذناه بالصيحة ليوافق ما قبله وما بعده في إسناد الفعل إليه تعالى الأوفق بقوله تعالى : فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ دفعا لتوهم أن يكون سبحانه هو الصائح وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وهو قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وهو فرعون ومن معه ، وذكر بعضهم قوم نوح عليه السلام أيضا. واعترض بأنهم ليسوا من المذكورين ، وتعقب بأنهم أول المذكورين في هذه السورة من الأمم السالفة ولعل المعترض أراد بالمذكورين المذكورين متناسقين أي بلا فصل بأمة لم تفد قصتها إهلاكها ، وقوم نوح وإن ذكروا أولا لكن فصل بينهم وبين نظائرهم من المهلكين بقصة قوم إبراهيم عليه السلام وهي لم تفد أنهم أهلكوا ، وذكر النيسابوري أنه سبحانه قرر بقوله تعالى :
فَكُلًّا إلخ أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الأربعة فجعل ما منه تركيبهم سببا لعدمهم وما منه بقاؤهم سببا لفنائهم ، فالحاصب وهو حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر إشارة إلى التعذيب بعنصر النار ، والصيحة وهي تموج شديد في الهواء إشارة إلى التعذيب بعنصر الهواء ، والخسف إشارة إلى التعذيب بعنصر التراب ، والغرق إشارة إلى التعذيب بعنصر الماء اه ولا يخفى ما فيه وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي ما كان سبحانه مريدا لظلمهم وذلك بأن يعاقبهم من غير جرم لأنه خلاف ما تقتضيه الحكمة. وفي أنوار التنزيل أي ما كان سبحانه ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من سنته عز وجل ، ويفيد ذلك أنه لو وقع منه تعالى تعذيبهم من غير جرم لا يكون ظلما لأنه تعالى مالك الملك يتصرف به كما يشاء فله أن يثيب العاصي ويعذب المطيع ، وهذا أمر مشهور بين الأشاعرة والكلام في تحقيقه يطلب من علم الكلام. وقد أسلفنا في تفسير قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 364
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء : 23] ما ينفعك في هذا المقام تذكره فتذكر وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالاستمرار على مباشرة ما يوجب ذلك من الكفر والمعاصي باختيارهم ، وقال مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني ما حاصله : إن ظلم الكفرة أنفسهم إنما هو لسوء استعدادهم الذي هم عليه في نفس الأمر من غير مدخل للجعل فيه وبلسان ذلك الاستعداد طلبوا من الجواد المطلق جل وعلا ما صار سببا لظهور شقائهم ا ه ، والبحث في ذلك طويل الذيل فليطلب من محله ، وتقديم المعمول لرعاية رؤوس الآي مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ استئناف متضمن تقبيح حال أولئك المهلكين الظالمين لأنفسهم وأضرابهم ممن تولى غير اللّه عز وجل ، وفيه إشارة إلى أعظم أنواع ظلمهم فالمراد بالموصول جميع المشركين الذين عبدوا من دون اللّه عز وجل الأوثان.
وجوز أن يكون جميع من اتخذ غيره تعالى متكلا ومعتمدا آلهة كان ذلك أو غيرها ، ولذا عدل إلى أولياء من آلهة أي صفتهم أو شبههم كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ أي كصفتها أو شبهها.
اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بيان لصفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه ، والجملة على ما نقل عن الأخفش من لزوم الوقف على العنكبوت مستأنفة لذلك وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ إلخ في موضع الحال من فاعل اتخذت المستكن فيه ، وجوز كونه في موضع الحال من مفعوله بناء على جواز مجيء الحال من النكرة ، وعلى الوجهين وضع المظهر موضع الضمير الراجع إلى ذي الحال ، والجملة من تتمة الوصف. واللام في البيوت للاستغراق ، والمعنى مثل المتخذين لهم من دون اللّه تعالى أولياء في اتخاذهم إياهم كمثل العنكبوت وذلك أنها اتخذت لها بيتا والحال أن أوهن كل البيوت وأضعفها بيتها ، وهؤلاء اتخذوا لهم من دون اللّه تعالى أولياء والحال أن أوهن كل الأولياء وأضعفها أولياؤهم ، وإن شئت فقل : إنها اتخذت بيتا في غاية الضعف وهؤلاء اتخذوا لها أو متكلا في غاية الضعف فهم وهي مشتركان في اتخاذ ما هو في غاية الضعف في بابه ، ويجوز أن تكون جملة اتخذت حالا من العنكبوت بتقدير قد أو بدونها أو صفة لها لأن أل فيها للجنس ، وقد جوزوا الوجهين في الجمل الواقعة بعد المعرف بأل الجنسية نحو قوله تعالى : كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة : 5] وعن الفراء أن الجملة صلة لموصول محذوف وقع صفة الْعَنْكَبُوتِ أي التي اتخذت ، وخرج الآية التي ذكرناها على هذا واختار حذف الموصول في مثله ابن درستويه ، وعليه لا يوقف على العنكبوت ، وأنت تعلم أن كون الجملة صفة أظهر.
والمعنى حينئذ مثل المشرك الذي عبد الوثن بالقياس إلى الموحد الذي عبد اللّه تعالى كمثل عنكبوت اتخذت بيتا بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان ، وهو وجه حسن ذكره الزمخشري في الآية ، وقد اعتبر فيه تفريق التشبيه ، والغرض إبراز تفاوت المتخذين والمتخذ مع تصوير توهين أمر أحدهما وإدماج توطيد الآخر ، وعليه يجوز أن يكون قوله تعالى : وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ جملة حالية لأنه من تتمة التشبيه ، وإن يكون اعتراضية لأنه لو لم يؤت به لكان في ضمنه ما يرشد إلى هذا المعنى وإلى كونه جملة حالية ذهب الطيبي.
وقال صاحب الكشف : كلام الزمخشري إلى كونه اعتراضية أقرب لأن قوله : وكما أن أوهن البيوت إلخ ليس فيه إيماء إلى تقييد الأول ، وقد تعقب أبو حيان هذا الوجه بأنه لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل اللفظ ما لا يحتمله كعادته في كثير من تفسيره ، وهذه مجازفة على صاحب الكشاف كما لا يخفى ، ويجوز أن يكون المعنى مثل الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا في دينهم وتولوه من دون اللّه تعالى كمثل العنكبوت فيما نسجته واتخذته بيتا ، والتشبيه على هذا من المركب فيعتبر في جانب المشبه اتخاذ ومتخذ واتكال عليه ، وكذلك في

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 365
الجانب الآخر ما يناسبه ويعتبر تشبيه الهيئة المنتزعة من ذلك كله بالهيئة المنتزعة من هذا بالأسر ، والغرض تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها ، ومدار قطب التشبيه أن أولياءهم بمنزلة منسوج العنكبوت ضعف حال وعدم صلوح اعتماد ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ تذييلا يقرر الغرض من التشبيه.
وجوز أن يكون المعنى والغرض من التشبيه ما سمعت إلا أنه يجعل التذييل استعارة تمثيلية ويكون ما تقدم كالتوطئة لها ، فكأنه قيل : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبارة الأوثان ، وهي تقرر الغرض من التشبيه بتبعية تقرير المشبه ، وكأن التقرير في الوجه السابق بتبعية تقرير المشبه به ، وهذا قريب من تجريد الاستعارة وترشيحها ، ونظير ذلك قولك : زيد في الكرم بحر والبحر لا يخيب من أتاه إذا كان البحر الثاني مستعارا للكريم ، وذكر الطرفين إنما يمنع من كونه استعارة لو كان في جملته ، ورجح السابق لأن عادة البلغاء تقرير أمر المشبه به ليدل به على تقرير المشبه ، ولأن هذا إنما يتميز عن الألغاز بعد سبق التشبيه.
وجوز أن يكون قوله تعالى : مَثَلُ الَّذِينَ إلخ كالمقدمة الأولى ، وقوله سبحانه : وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ كالثانية وما هو كالنتيجة محذوف مدلول عليه بما بعد كما في الكشف ، والمجموع يدل على المراد من تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها على سبيل الكناية الإيمائية فتأمل ، والظاهر أن المراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء ويصيد به الذباب لا النوع الآخر الذي يحفر بيته في الأرض ويخرج في الليل كسائر الهوام ، وهي على ما ذكره غير واحد من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك ، لا لما
أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «العنكبوت شيطان مسخها اللّه تعالى فمن وجدها فليقتلها»
فإنه كما ذكر الدميري ضعيف.
وقيل : لا يسن قتلها
فقد أخرج الخطيب عن عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن» ذكر هذا الخبر الجلال السيوطي في الدر المنثور ،
واللّه تعالى أعلم بصحته وكونه مما يصلح للاحتجاج به ، ونصوا على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها مع أن الأصل في الأشياء الطهارة ، وذكر الدميري أن ذلك لا تخرجه من جوفها بل من خارج جلدها ، وفي هذا بعد. وأنا لم أتحقق أمر ذلك ولم أعين كونه من فمها أو دبرها أو خارج جلدها لعدم الاعتناء بشأن ذلك لا لعدم إمكان الوقوف على الحقيقة ، وذكر أنه يحسن إزالة بيتها من البيوت لما
أسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه قال : «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر»
وهذا إن صح عن الإمام علي كرّم اللّه تعالى وجهه فذاك ، وإلا فحسن الإزالة لما فيها من النظافة ولا شك بندبها. والتاء في العنكبوت زائدة كتاء طالوت فوزنه فعللوت وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ومن استعماله مذكرا قوله :
على هطالهم منهم بيوت كأن العنكبوت هو ابتناها
واستظهر الفاضل سعدي جلبي كون المراد به هنا الواحد ، وذهب إلى تأنيثه أيضا فذكر أنه اختير هنا تأنيثه لأنه المناسب لبيان الخور والضعف فيما يتخذه ، وقال مولانا الخفاجي معرضا به : الظاهر أن المراد الجمع لا الواحد لقوله تعالى : الَّذِينَ وأما أفراد البيت فلأن المراد الجنس ، ولذلك أنث اتَّخَذَتْ لا لأن المراد المؤنث ، وفي القاموس العنكبوت معروف وهي العنكباة والعنكبوة والعنكباء ، والذكر عنكب وهي عنكبة ، وجمعه عنكبوتات وعناكب ، والعكاب ، والعكب والأعكب أسماء الجموع ، وتعقب بأن عد ما عدا ما ذكره أولا اسم جمع لا وجه له لأن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 366
أعكب لا يصح فيه ذلك ، وذكروا في جمعه أيضا عناكيب ، واختلف في نونه فقيل أصلية ، وقيل : زائدة كالتاء ، وجمعه على عكاب يدل على ذلك. وذكر السجستاني في غريب سيبويه أنه ذكر عناكب في موضعين فقال في موضع : وزنه فناعل وفي آخر فعالل ، فعلى الأول النون زائدة وهو مشتق من العكب وهو الغلظ ا ه المراد منه ، ولعل الأقرب على ذلك كونه مشتقا من العكب بالفتح بمعنى الشدة في السير فكأنه لشدة وثبه لصيد الذباب أو لشدة حركته عند قراره أطلق عليه اسم العنكبوت لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كانوا يعلمون شيئا من الأشياء لعلموا أن هذا مثلهم أو أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن ، وقيل : أي لو كانوا يعلمون وهن الأوثان لما اتخذوها أولياء من دون اللّه تعالى ، وفي الكشف أن قوله تعالى : لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ على جميع التقادير أي المذكورة في الكشاف وقد ذكرناها فيما مر من الإيغال ، جهلهم سبحانه في الاتخاذ ثم زادهم جل وعلا تجهيلا أنهم لا يعلمون هذا الجهل البين الذي لا يخفى على من له أدنى مسكة ، ولَوْ شرطية وجوابها محذوف على ما أشرنا إليه ، وجوز بعضهم كونها للتمني فلا جواب لها وهو غير ظاهر.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 42 إلى 45]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ على إضمار القول أي قل للكفرة إن اللّه إلخ ، وقيل : لا حاجة إلى إضماره لجواز أن يكون (تدعون) من باب الالتفات للإيذان بالغضب ، وفيه بحث. وقرأ أبو عمرو وسلام «يعلم ما» بالإدغام. وأبو عمرو وعاصم بخلاف «يدعون» بياء الغيبة حملا على ما قبله ، وما استفهامية منصوبة بتدعون ويَعْلَمُ معلقة عنها فالجملة في موضع نصب بها ومِنْ الأولى متعلقة بتدعون على ما هو الظاهر ومِنْ الثانية للتبيين وجوز كونها للتبعيض ، ويجوز كون ما نافية ومن الثانية مزيدة وشيء مفعول تدعون ، أي لستم تدعون من دونه تعالى شيئا ، كأن ما يدعونه من دونه عز وجل لمزيد حقارته لا يصلح أن يسمى شيئا ، وجوز كونها مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يعلم على أنها بمعنى يعرف ناصبة لمفعول واحد ومن تبعيضية ، أي يعرف دعاءكم وعبادتكم بعض شيء من دونه وقيل : مِنْ للتبيين وشَيْءٍ بمعنى ذلك المصدر وتنوينه للتحقير ، أي يعرف دعوتكم من دونه هي دعوة حقيرة ، وجوز كونها موصولة مفعول يعلم بمعنى يعرف ومفعول تدعون عائدها المحذوف ومن إما بيان للموصول أو تبعيضية.
وجوز زيادتها على هذا الوجه وما بعده ، ولا يخفى ما فيه. والكلام على الوجهين الأولين في ما تجهيل للكفرة المتخذين من دون اللّه تعالى أولياء لما فيهما من نفي الشيئية عما اتخذوه وليا والاستفهام عنه الذي هو في معنى النفي لأنه إنكار ، وفيه توكيد للمثل لأن كون معبودهم ليس بشيء يعبأ به مناسب ولذا لم يعطف ، وعلى الوجهين الأخيرين فيها وعيد لهم لأن العلم بدعوتهم وعبادتهم عبارة عن مجازاتهم عليها وكذا العلم بما يدعونه عبارة عن مجازاتهم على دعائهم إياه ، وترك العطف فيه لأنه استئناف ، ويجوز إرادة التجهيل والوعيد في الوجوه كلها ، وقوله

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 367
تعالى : وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ في موضع الحال ويفهم منه التعليل على المعنيين ، فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعد شيئا بمن هذا شأنه ، وإن الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية القاصية كالمعدوم البحت ، وإن من هذا صفته قادر على مجازاتهم.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ أي هذا المثل ونظائره من الأمثال المذكورة في الكتاب العزيز. نَضْرِبُها لِلنَّاسِ تقريبا لما بعد من أفهامهم وَما يَعْقِلُها على ما هي عليه من الحسن واستتباع الفوائد إِلَّا الْعالِمُونَ الراسخون في العلم المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي. وروى محيي السنة بسنده عن جابر «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تلا هذه الآية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ الآية فقال العالم من عقل عن اللّه تعالى فعمل بطاعته واجتنب سخطه»
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي محقا مراعيا للحكم والمصالح على أنه حال من فاعل خلق أو ملتبسة بالحق الذي لا محيد عنه مستتبعة للمنافع الدينية والدنيوية على أنها حال من مفعوله ، فإنها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معاشهم شواهد دالة على شؤونه تعالى المتعلقة بذاته سبحانه وصفاته كما يفصح عنه قوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ دالة لهم على ما ذكر من شؤونه عز وجل ، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية والإرشاد في خلقهما للكل لأنهم المنتفعون بذلك اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي دم على تلاوة ذلك تقربا إلى اللّه تعالى بتلاوته وتذكرا لما في تضاعيفه من المعاني وتذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي داوم على إقامتها.
وحيث كانت الصلاة منتظمة للصلوات المكتوبة المؤداة بالجماعة وكان أمره صلى اللّه تعالى عليه وسلم بإقامتها متضمنا لأمر الأمة بها علل بقوله تعالى : إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ كأنه قيل : وصل بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ، ومعنى نهيها إياهم عن ذلك أنها لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والقراءة والوقوف بين يدي اللّه عز وجل والركوع والسجود له سبحانه الدال على غاية الخضوع والتعظيم كأنها تقول لمن يأتي بها لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعص ربا هو أهل لما أتيت به ، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه عز وجل وقد أتيت مما يدل على عظمته تعالى وكبريائه سبحانه من الأقوال والأفعال بما تكون به إن عصيت وفعلت الفحشاء أو المنكر كالمتناقض في أفعاله ، وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو أنا نرى كثيرا من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك ، فإن نهيها إياهم عن الفحشاء والمنكر بهذا المعنى لا يستلزم انتهاءهم. ألا ترى أن اللّه تعالى ينهى عن ذلك أيضا كما قال سبحانه : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل : 90] والناس لا ينتهون وليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه سبحانه وتعالى ، فإذا لم يكن هناك استلزام فكيف يكون هنا. وما أرى هذا الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء ، وهو توهم باطل وتخيل عاطل لا يشهد له عقل ولا يؤيده نقل. ونقل أبو حيان عن ابن عباس والكلبي وابن جريج وحماد بن أبي سليمان أن الصلاة تنهى عن ذلك ما دام المصلي فيها ، وكأنهم أرادوا أنها كالناهية للمصلي القائلة له لا تفعل ذلك ما دام فيها لأنه إذا فرغ منها فقد انقطعت الأقوال والأفعال التي كان النهي بما تدل عليه من العظمة والكبرياء.
ونقل عن القطب أنه قال في جواب الإشكال : إن الصلاة تقام لذكر اللّه تعالى كما قال عز من قائل :
أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه : 14] ومن كان ذاكرا للّه عز وجل منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه منه تعالى مما قل أو كثر وكل من تراه يصلي ويأتي الفحشاء والمنكر فهو بحيث لو لم يكن يصلي لكان أشد إتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه ومنكره ، وهو كما ترى ، وقيل : إن المراد أن الصلاة سبب للانتهاء عن ذلك ، وليس هذا كليا لما أن الصلاة في حكم النكرة وهي في الإثبات لا يجب أن تعم فينحل الإشكال ، وعلى ما قلنا لا يضر دعوى الكلية. نعم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 368
النهي الذي ذكرناه يتفاوت بحسب تفاوت أداء الصلاة فهو في صلاة أديت على أتم ما يكون من الخشوع والتدبر لما يتلى فيها مع الإتيان بفروضها وواجباتها وسننها وآدابها على أحسن أحوالها أتم ، وقد يضعف النهي فيها حتى كأنه لا تنهى كما في الصلاة التي تؤدى مع الغفلة التامة والإخلال بما يليق فيها وهي الصلاة المردودة التي تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها فتقول له : ضيعك اللّه تعالى كما ضيعتني ، وكأن مراد القائل : إن المراد بالصلاة التي تنهى عما ذكر هي الصلاة المقبولة هو هذا.
وقد يجعل الانتهاء علامة القبول. روى بعض الإمامية عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت منه ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الحسن قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»
وفي لفظ : «لم يزدد بها من اللّه تعالى إلا بعدا» وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قيل له : إن فلانا يطيل الصلاة فقال : إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها ثم قرأ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وقد يتفق لمن يكثر الصلاة أن تقع بعض صلاته على الوجه اللائق فتقبل لطفا من اللّه تعالى وكرما ، ويظهر أثر ذلك بالانتهاء عن المعاصي ، ويشير إلى هذا ما
أخرج أحمد وابن حيان والبيهقي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : «جاء رجل إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال سينهاه ما تقول»
وأصرح منه فيما ذكرنا ما
روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم الصلاة ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه فوصف له ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب
، إلا أن ابن حجر ذكر فيه أنه لم يجده في كتب الحديث. ثم إن حمل الصلاة في الآية على الصلاة المعروفة هو الظاهر المؤيد بالآثار والأخبار الصحيحة ، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد بها هنا القرآن ، وقال ابن بحر : إن المراد بها الدعاء أي أقم الدعاء إلى أمر اللّه تعالى إن الدعاء إلى أمره سبحانه ينهى عن الفحشاء والمنكر ، وكل منهما عدول عن الظاهر من غير داع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس أنه كان يقرأ «إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر» وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.
قال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو قرة ومجاهد وعطية : المعنى لذكر اللّه تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه سبحانه ، وفي لفظ لذكر اللّه تعالى العبد أكبر من ذكر العبد للّه تعالى ، وعن ابن عباس أنه قال ذلك ثم قرأ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة : 152].
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي مالك أنه قال ذكر اللّه تعالى العبد في الصلاة أكبر من الصلاة ، فذكر مصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف وكذا المفضل عليه وهو خاص على ما سمعت ، وجوز أن يكون عاما أي أكبر من كل شيء ، وقيل : المعنى ولذكر العبد للّه تعالى في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة ، وقيل : أي ولذكر العبد للّه تعالى في الصلاة أكبر من ذكره إياه سبحانه خارج الصلاة ، وقيل : أي ولذكر العبد للّه تعالى أكبر من سائر أعماله ، وروي عن جماعة من السلف ما يقتضيه.
أخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال : «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب اللّه تعالى من ذكر اللّه تعالى ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل اللّه تعالى قال : ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع لأن اللّه تعالى يقول في كتابه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 369
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء قال : «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم وأسماها في درجاتكم وخير من أن تغزوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم وخير من إعطاء الدنانير والدراهم قالوا : وما هو يا أبا الدرداء؟ قال ذكر اللّه تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ»
. وأخرج ابن جرير عن سلمان أنه سئل أي العمل أفضل؟
قال : أما تقرأ القرآن؟ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ لا شيء أفضل من ذكر اللّه ، ونسب في البحر إلى أبي الدرداء. وسلمان رضي اللّه تعالى عنهما القول الذي ذكرناه أولا عمن سمعت ، ولعل ذلك إحدى روايتين عنهما ، وجاء عن ابن عباس أيضا رواية تشعر بأن المراد بذكر اللّه تعالى ذكر العبد له سبحانه.
أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الإيمان عن عنترة قال : قلت لابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أي العمل أفضل؟ قال : ذكر اللّه أكبر وما قعد قوم في بيت من بيوت اللّه تعالى يدرسون كتاب اللّه ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف اللّه تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره وما سلك رجل طريقا يلتمس فيه العلم إلا سهل اللّه تعالى له طريقا إلى الجنة.
وقيل : المراد بذكر اللّه الصلاة كما في قوله تعالى : فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة : 9] أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به للإيذان بأن ما فيها من ذكر اللّه تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات ، وقيل : المعنى ولذكر اللّه تعالى عند الفحشاء والمنكر ، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر في الزجر من الصلاة ، (فذكر) على هذه الأقوال مصدر مضاف للمفعول والمفضل عليه محذوف ، وجوز أن لا يكون أفعل للتفضيل سواء كانت إضافة المصدر للفاعل أم للمفعول كما في اللّه أكبر وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة فيجازيكم بذلك أحسن المجازاة ، وقال أبو حيان : يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والشر فيجازيكم بحسبه ففيه وعد ووعيد وحث على المراقبة. «1»
___________
(1) تم الجزء العشرين ويتلوه إن شاء اللّه تعالى الجزء الحادي والعشرون أوله قوله تعالى : وَلا تُجادِلُوا إلخ

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 370

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 371
فهرس المجلد العاشر من روح المعاني

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 372

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 373
الفهرس تتمة سورة الفرقان الآيات : 21 - 35/ 3 الآيات : 36 - 59/ 18 الآيات : 60 - 77/ 39 سورة الشعراء الآيات : 1 - 22/ 58 الآيات : 23 - 74/ 70 الآيات : 75 - 123/ 92 الآيات : 124 - 212/ 110 الآيات : 213 - 227/ 131 سورة النمل الآيات : 1 - 12/ 151 الآيات : 13 - 21/ 163 الآيات : 22 - 37/ 181 الآيات : 38 - 55/ 196 الآيات : 56 - 68/ 213 الآيات : 69 - 84/ 226 الآيات : 85 - 93/ 239 سورة القصص الآيات : 1 - 17/ 252

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 374
الآيات : 18 - 29/ 266 الآيات : 30 - 56/ 281 الآيات : 57 - 77/ 303 الآيات : 78 - 88/ 319 سورة العنكبوت الآيات : 1 - 24/ 337 الآيات : 25 - 41/ 354 الآيات : 42 - 45/ 366

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 3
[الجزء الحادي عشر]
[تتمة سورة العنكبوت ]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 إلى 59]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ من اليهود والنصارى ، وقيل : من نصارى نجران إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالخصلة التي هي أحسن كمقابلة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم ، والمشاغبة بالنصح ، والسورة بالأناة كما قال سبحانه : ادفع بالتي هي أحسن [المؤمنون : 96 ، فصلت : 34] إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإفراد في الاعتداء والعناد ، ولم يقبلوا النصح ، ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 4
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الذين ظلموا هم الذين أثبتوا الولد والشريك أو قالوا يد اللّه تعالى مغلولة ، أو اللّه سبحانه فقير أو آذوا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهذه الغلظة التي تفهم الآية الإذن بها لا تصل إلى القتال لأولئك الظالمين من أهل الكتاب على أي وجه من الوجوه المذكورة كان ظلمهم لأن ظاهر كون السورة مكية أن هذه الآية مكية ، والقتال في المشهور لم يشرع بمكة وليست الغلظة محصورة فيه كما لا يخفى ، وقيل : المعنى ولا تجادلوا في الداخلين في الذمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فإن أولئك مجادلتهم بالسيف.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ما يقرب منه ، وتعقب بأن السورة مكية والحرب والجزية مما شرع بالمدينة ، وكون الآية بيانا لحكم آت بعد بعيد وأيضا لا قرينة على التخصيص.
وقيل : يجوز أن يكون القائل بذلك ذاهبا إلى أن الآية مدنية ومكية السورة باعتبار أغلب آياتها أو ممن يقول :
بأن الحرب شرع بمكة في آخر الأمر ، والسورة آخر ما نزل بها إلا أنه لم يقع وعدم الوقوع لا يدل على عدم المشروعية.
وعن ابن زيد أن المراد بأهل الكتاب مؤمنوا أهل الكتاب وبالتي هي أحسن موافقتهم فيما حدثوا به من أخبار أوائلهم وبالذين ظلموا من بقي منهم على كفره وهو كما ترى ، واختلف في نسخ الآية. فأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة أنه قال : نهى في هذه الآية عن مجادلة أهل الكتاب ، ثم نسخ ذلك فقال سبحانه : قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة : 29] الآية ولا مجادلة أشد من السيف ، وقال في مجمع البيان : الصحيح أنها غير منسوخة لأن المراد بالجدال المناظرة وذلك على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره.
وقال بعض الأجلة : إن المجادلة بالحسنى في أوائل الدعوة لأنها تتقدم القتال فلا يلزم النسخ ولا عدم القتال بالكلية ، وأما كون النهي يدل على عموم الأزمان فيلزم النسخ فلا يتم ما ذكر فيدفعه أن من يقاتل كمانع الجزية داخل في المستثنى فلا نسخ وإنما هو تخصيص بمتصل ، وكون ذلك يقتضي مشروعية القتال بمكة ليس بصحيح لأنه مسكوت عنه فتأمل.
وقرأ ابن عباس «ألا بالتي» إلخ ، على أن «الا» حرف تنبيه واستفتاح ، والتقدير ، ألا جادلوهم التي هي أحسن وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَالذي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي وبالذي أنزل إليكم من التوراة والإنجيل ، وهذا القول نوع من المجادلة بالتي هي أحسن ، وعن سفيان بن حسين أنه قال : هذه مجادلتهم بالتي هي أحسن ، وأخرج البخاري ، والنسائي ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون الكتاب بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم» الآية
، والتصديق والتكذيب ليسا نقيضين فيجوز ارتفاعهما.
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له في الألوهية وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مطيعون خاصة كما يؤذن بذلك تقديم لَهُ ، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه تعالى.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ تجريد للخطاب لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه في الفضل أي مثل ذلك الإنزال البديع الشأن الموافق لإنزال سائر الكتب أنزلنا إليك القرآن الذي من جملته هذه الآية الناطقة بما ذكر من المجادلة بالتي هي أحسن ، وقيل : الإشارة إلى ما تقدم لذكر الكتاب وأهله أي وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 5
فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ من الطائفتين اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والإنجيل والكلام على ظاهره ، وقيل : هو على حذف مضاف أي آتيناهم علم الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ بالكتاب الذي أنزل إليك ، وقيل : الضمير له صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو كما ترى ، والمراد بهم في قول من تقدم عهد النبي صلى تعالى عليه وسلم من أولئك حيث كانوا مصدقين بنزول القرآن حسبما علموا مما عندهم من الكتاب ، والمضارع لاستخصار تلك الصورة في الحكاية وتخصيصهم بإيتاء الكتاب للإيذان بأن ما بعدهم من معاصري رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قد نزع عنهم الكتاب بالنسخ ، وفي قول آخر معاصروه عليه الصلاة والسلام العاملون بكتابهم من عبد اللّه بن سلام وأضرابه ، وتخصيصهم بإيتاء الكتاب لما أنهم هم المنتفعون به فكأن من عداهم لم يؤتوه ، قيل : هذا يؤيد القول : بأن الآيات المذكورة مدنية إذ كونها مكية وعبد اللّه ممن أسلم بعد الهجرة بناء على أنه إعلام من اللّه تعالى بإسلامهم في المستقبل ، والتفصيل باعتبار الإعلام بعيد جدا ، وجوز الطبرسي أن يراد بالموصول المسلمون من هذه الأمة وضمير بِهِ للقرآن ، ولا يخفى ما فيه ، ولعل الأظهر كون المراد به علماء أهل الكتابين الحريون بأن ينسب إليهم إيتاء الكتاب كعبد اللّه بن سلام ، وأضرابه ، ولا بعد في كون الآيات مكية بناء على ما سمعت ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إيمانهم به مترتب على إنزاله على الوجه المذكور وَمِنْ هؤُلاءِ أي ومن العرب أو من أهل مكة على أن المراد بالموصول عبد اللّه ، واضرابه ، أو ممن في عصره صلى اللّه تعالى عليه وسلم من اليهود والنصارى على أن المراد به من تقدم مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالكتاب الذي أنزل إليك ، وَمِنْ على ما استظهره بعضهم تبعيضية واقعة موقع المبتدأ وله نظائر في الكتاب الكريم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي وَما
يَجْحَدُ به ، وأقيم هذا الظاهر مقام الضمير للتنبيه على ظهور دلالة الكتاب على ما فيه وكونه من عند اللّه عزّ وجلّ ، والإضافة إلى نون العظمة لمزيد التفخيم ، وفيما ذكر غاية التشنيع على من يجحد به.
والجحد كما قال الراغب : نفي ما في القلب ثباته وإثبات ما في القلب نفيه ، وفسر هنا بالإنكار عن علم فكأن قيل : وما ينكر آياتنا مع العلم بها إِلَّا الْكافِرُونَ أي المتوغلون في الكفر المصممون عليه فإن ذلك يمنعهم عن الإقرار والتسليم ، وقيل : يجوز أن يفسر بمطلق الإنكار ، ويراد بالكافرين المتوغلون في الكفر أيضا لدلالة فحوى الكلام ، والتعبير بآياتنا على ذلك أي وما ينكر آياتنا مع ظهورها وارتفاع شأنها إلا المتوغلون في الكفر لأن ذلك يصدهم عن الاعتناء بها والالتفات إليها والتأمل فيها يؤديهم إلى معرفة حقيقتها ، والمراد بهم من اتصف بتلك الصفة من غير قصد إلى معين ، وقيل : هم كعب بن الأشرف ، وأصحابه.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ أي وما كنت من قبل أنزلنا إليك الكتاب تقدر على أن تتلو مِنْ كِتابٍ أي كتابا على أن مِنْ صلة وَلا تَخُطُّهُ ولا تقدر على أن تخطه بِيَمِينِكَ أو ما كانت عادتك أن تتلوه ولا تخطه ، وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من الخط فهو مثل العين في قولك : نظرت بعيني في تحقيق الحقيقة وتأكيدها حتى لا يبقى للمجاز مجاز إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتاب مشركو مكة وقالوا : لعله التقطه من كتب الأوائل ، وحيث لم تكن كذلك لم يكن لارتيابهم وجه ، وكأن احتمال التعلم مما لم يلتفت إليه لظهور أن مثله من الكتاب المفصل الطويل لا يتلقى ويتعلم إلا في زمان طويل بمدارسة لا يخفى مثلها ، ووصف مشركي مكة بالإبطال باعتبار ارتيابهم وكفرهم وهو عليه الصلاة والسلام أمي فكأنه قيل : إذن لارتاب هؤلاء المبطلون الآن وكان إذ لارتيابهم وجه ، وقيل : وصفهم بذلك باعتبار ارتيابهم ، وهو صلى اللّه تعالى عليه وسلم أمي وباعتبار ارتيابهم وهو عليه الصلاة والسلام ليس بأميّ أما كونهم مبطلين

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 6
بالاعتبار الأول فظاهر ، وأما كونهم كذلك بالاعتبار الثاني فلأن غاية ما يلزم من عدم أميته صلّى اللّه عليه وسلم انتفاء أحد وجوه الإعجاز ، ويكفي الباقي في الغرض فيكون المرتاب مبطلا كالمرتاب في نبوة الأنبياء الذين لم يكونوا أميين وصحة ما جاؤوا به.
والأول أظهر ، وكون المراد بالمبطلين مشركي مكة هو المروي عن مجاهد ، وقال قتادة : هم أهل الكتاب أي لو كنت تتلو من قبل أو تخط لارتاب أهل الكتاب لأن نعتك في كتابهم أمي ، ووصفهم بالإبطال قيل : باعتبار ارتيابهم وهو عليه الصلاة والسلام أمي كما هو الواقع ، وإلا فهم ليسوا بمبطلين في ارتيابهم على فرض عدم كونه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أميا ، وفي الكشف هذا فرض وتمثيل دلالة على أن مدار الأمر على المعجز ، وأن كونه عليه الصلاة والسلام أميا لا يخط ليس مما لا يتم دعواه به ، وتلك الدلالة لا تختلف والمنكر مبطل ا ه فتأمل.
هذا واختلف في أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم هل كان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل : إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة واختاره البغوي في التهذيب وقال : إنه الأصح ، وادعى بعضهم أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية. فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ ، وروى ابن أبي شيبة ، وغيره : «ما مات صلى اللّه تعالى عليه وسلم حتى كتب وقرأ».
ونقل هذا للشعبي فصدقه وقال : سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه ، وروى ابن ماجة عن أنس قال :
«قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر»
والقدرة على القراءة فرع الكتابة ورد باحتمال إقدار اللّه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام عليها بدونها معجزة أو فيه مقدر وهو فسألت عن المكتوب فقيل : إلخ ، ويشهد للكتابة أحاديث
في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح الحديبية فأخذ رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه الحديث
،
وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي ، وأبو الفتح النيسابوري ، وأبو الوليد الباجي من المغاربة ، وحكاه عن السمناني ، وصنف فيه كتابا ، وسبقه إليه ابن منية ، ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاة وكتب به إلى علماء الأطراف فأجابوا بما يوافقه ، ومعرفة الكتابة بعد أميته صلّى اللّه عليه وسلم لا تنافي المعجزة بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم ، وردّ بعض الأجلة كتاب الباجي لما
في الحديث الصحيح - إنا أمية لا نكتب ولا نحسب.
، وقال : كل ما ورد في الحديث من قوله : كتب فمعناه أمر بالكتابة كما يقال : كتب السلطان بكذا لفلان ، وتقديم قوله تعالى : مِنْ قَبْلِهِ على قوله سبحانه : وَلا تَخُطُّهُ كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقا وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد ، وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده فقال : يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة ، وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيته ، ولا يخفى أن
قوله عليه الصلاة والسلام : «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب»
ليس نصا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام ، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو كذا وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد ، وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالكتابة فخلاف الظاهر ، وفي شرح صحيح مسلم للنواوي عليه الرحمة نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية التي ذكرناها : ولا يحسن يكتب فكتب

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 7
كالنص في أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كتب بنفسه فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه ثم قال : وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا فاللّه تعالى أعلم.
ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم يكن يقرأ ما يكتب لكن إذا نظر إلى المكتوب عرف ما فيه بإخبار الحروف إياه عليه الصلاة والسلام عن أسمائها فكل حرف يخبره عن نفسه أنه حرف كذا وذلك نظير إخبار الذراع إياه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بأنها مسمومة.
وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل بدون خبر صحيح ولم أظفر به بَلْ هُوَ أي القرآن ، وهذا إضراب عن ارتيابهم ، أي ليس القرآن مما يرتاب فيه لوضوح أمره بل هو آياتٌ بَيِّناتٌ واضحات ثابتة راسخة فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف غيره من الكتب ، وجاء في وصف هذه الأمة صدورهم أناجيلهم ، وكون ضمير هو للقرآن هو الظاهر ، ويؤيده قراءة عبد اللّه «بل هي آيات بينات» ، وقال قتادة : الضمير للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقرأ «بل هو آية بينة» على التوحيد ، وجعله بعضهم له عليه الصلاة والسلام على قراءة الجمع على معنى بل النبي وأموره آيات ، وقيل : الضمير لما يفهم من النفي السابق أي كونه لا يقرأ لا يخط آيات بينات في صدور العلماء من أهل الكتاب لأن ذلك نعت النبي عليه الصلاة والسلام في كتابهم ، والكل كما ترى ، وفي الأخير حمل الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على علماء أهل الكتاب وهو مروي عن الضحاك والأكثرون على أنهم علماء الصحابة أو النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وعلماء أصحابه ، وروي هذا عن الحسن وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما أنهم الأئمة من آل محمد صلّى اللّه عليه وسلم
وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع كونها كما ذكر إِلَّا الظَّالِمُونَ المتجاوزون للحد في الشر والمكابرة والفساد وَقالُوا أي كفار قريش بتعليم بعض أهل الكتاب.
وقيل : الضمير لأهل الكتاب لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ مثل ناقة صالح وعصا موسى ، وقرأ أكثر أهل الكوفة «آية» على التوحيد قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزلها حسبما يشاء من غير دخل لأحد في ذلك قطعا وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات لا الإتيان بما اقترحتموه فالقصر قصر قلب أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ كلام مستأنف وارد من جهته تعالى ردا على اقتراحهم وبيانا لبطلانه والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقصر ولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الناطق بالحق المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية وأنت بمعزل من مدارستها وممارستها يُتْلى عَلَيْهِمْ تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها ، وقيل : يُتْلى عَلَيْهِمْ أي أهل الكتاب بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك ، وله وجه إن كان ضمير قالوا فيما تقدم لأهل الكتاب وأما إذا كان لكفار قريش فلا يخفى ما فيه.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي الكتاب العظيم الشأن الباقي على ممر الدهور ، وقيل : الذي هو حجة بينة لَرَحْمَةً أي نعمة عظيمة وَذِكْرى أي تذكرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي همهم الإيمان لا التعنت فالجار والمجرور متعلق بذكرى والفعل مراد به الاستقبال ، ويجوز أن يكون رحمة وَذِكْرى مما تنازعا في الجار والمجرور فيجوز أن يكون الفعل للحال ، وأخرج الفريابي ، والدارمي ، وأبو داود في مراسيله ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن يحيى بن جعدة قال : «جاء ناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم فنزلت أَوَلَمْ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 8
يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
الآية»
. وأخرج الإسماعيلي في معجمه وابن مردويه عن يحيى هذا ما هو قريب مما ذكر مرويا عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه. ويُؤْمِنُونَ على هذا على ظاهره لا غير ، وتعقب بأن السياق والسباق مع الكفرة وإن الظاهر كون أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الآية جوابا لقولهم : لَوْلا أُنْزِلَ إلخ ، وفي جعل سبب النزول ما ذكر خروج عن ذلك فتأمل.
وعليه تكون الآية دليلا لمن منع تتبع التوراة ونحوها. وروي هذا المنع عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها.
أخرج ابن عساكر عن أبي مليكة قال : أهدى عبد اللّه بن عامر بن ركن إلى عائشة رضي اللّه تعالى عنها هدية فظنت أنه عبد اللّه بن عمرو فردتها وقالت : يتتبع الكتب وقد قال اللّه تعالى : أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ فقيل لها : «إنه عبد اللّه بن عامر فقبلتها» وجاء في عدة أخبار ما يقتضي المنع ،
أخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان ، عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرأه عليه والنبي عليه الصلاة والسلام يتلون وجهه فقال : «والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني ضللتم أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم».
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة «أن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل : اكتب لي من هذا الكتاب قال : نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فجعل يقرأه عليه وجعل وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يتلون فضرب رجل من الأنصار الكتاب وقال : «ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب فقال النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عند ذلك : إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون»
أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة ، وقيل : المتحيرون إلى ذلك من الأخبار ، وحقق بعضهم أن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين وذلك مما لا شبهة فيه في صدر الإسلام ، وعليه تحمل الأخبار ، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي عالما بما صدر عني من التبليغ والإنذار وبما صدر عنكم من مقابلتي بالتكذيب والإنكار فيجازي سبحانه كلا بما يليق به يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم فهو تقرير لما قبله من كفايته تعالى شهيدا ، وجوز أن يكون المعنى كفى به عزّ وجلّ شاهدا بصدقي أي مصدقا لي فيما ادعيته بالمعجزات تصديق الشاهد لدعوى المدعي ، وجملة يَعْلَمُ إما صفة شَهِيداً أو حال أو استئناف لتعليل كفايته ، وقيل عليه : إن هذا الوجه لا يلائمه قوله تعالى : بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ سواء تعلق بكفى أو بشهيدا ولا قوله سبحانه : يَعْلَمُ ما فِي السَّماوات ِ
إلخ ، وفيه تأمل.
وقد يؤيد ذلك بما
روي أن كعب بن الأشرف ، وأصحابه قالوا : يا محمد من يشهد بأنك رسول اللّه فنزلت قُلْ كَفى الآية
إلا أن في القلب من صحة هذه الرواية شيئا لما أن السياق والسباق مع كفرة قريش فلا تغفل.
وأيّا ما كان فلا منافاة بين هذه الآية ، وقوله تعالى : وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة : 23] بناء على أن المعنى لا تستشهدوا باللّه تعالى ولا تقولوا اللّه تعالى يشهد أن ما ندعيه حق كما يقوله العاجز عن إقامة البينة إما لأن الشهيد هاهنا بمعنى العالم والكلام وعد ووعيد ، وإما بمعنى المصدق بالمعجزات وليست الشهادة بأحد المعنيين هناك ، والباء في بِاللَّهِ زائدة والاسم الجليل فاعل كَفى ، وقال الزجاج : «إن الباء دخلت لتضمن كفى معنى اكتف فالباء كما قال اللقاني معدية لا زائدة ، قال ابن هشام في المغني : وهو من الحسن بمكان ويصححه قولهم : اتقى

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 9
اللّه تعالى امرؤ فعل خيرا يثب عليه أي ليتق بدليل جزم يثب ويوجبه قولهم : «كفى بهند بترك التاء فإن احتج بالفاصل فهو مجوز لا موجب بدليل وما تسقط من ورقة فإن عورض بأحسن بهند فالتاء لا تلحق صيغ الأمر وإن كان معناها الخبر ا ه».
وتعقب ذلك الشيخ يس الحمصي في حواشيه على التصريح فقال : «أقول تفسير كَفى على هذا القول باكتف غير صحيح إذ فاعل كَفى حينئذ ضمير المخاطب ، وكَفى ماض وهو لا يرفع ضمير المخاطب المستتر ا ه وفيه بعد بحث لا يخفى على المتأمل».
وظن بعض الناس أن كَفى على هذا القول اسم فعل أمر يخاطب به المفرد المذكر وغيره نحو حي في حي على الصلاة فالمعنى هنا اكتفوا باللّه ، وأنت تعلم أن هذا بعيد الإرادة من كلام الزجاج ويأباه كلام ابن هشام ، وقال ابن السراج : الفاعل ضمير الاكتفاء ، قال ابن هشام : وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر وهو قول الفارسي ، والرماني أجازوا مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح ، وأجاز الكوفيون أعماله في الظرف وغيره ، ومنع جمهور البصريين أعماله مطلقا ا ه.
وتعقب ذلك ابن الصائغ فقال : لا نسلم توقف الصحة على ذلك لجواز أن تكون الباء للحال ، وعليه يكون المعنى كَفى هو أي الاكتفاء حال كونه ملتبسا باللّه تعالى ، ولا يخفى أنه ما لم يبطل هذا القول لا يتم ما ادعاه ابن هشام من أن ترك التاء في كفى بهند يوجب كون كفى مضمنا معنى اكتف فتدبر وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : أي بغير اللّه عزّ وجلّ وهو شامل لنحو عيسى والملائكة عليهم السلام.
والباطل في الحقيقة عبادتهم وليس الباطل هنا مثله في قول حسان : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل ، وقال مقاتل :
أي بعبادة الشيطان ، وقيل : أي بالصنم وَكَفَرُوا بِاللَّهِ مع تعاضد موجبات الإيمان به عزّ وجلّ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان فاستوجبوا العقاب يوم الحساب ، وفي الكلام على ما قيل : استعارة مكنية شبه استبدال الكفر بالإيمان المستلزم للعقاب باشتراء مستلزم للخسران ، وفي الخسران استعارة تخييلية هي قرينتها لأن الخسران متعارف في التجارات ، وهذا الكلام ورد مورد الإنصاف حيث لم يصرح بأنهم المؤمنون بالباطل الكافرون باللّه عزّ وجلّ بل أبرزه في معرض العموم ليهجم به التأمل على المطلوب فهو كقوله تعالى :
إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ : 24] وكقول حسان :
فشركما لخيركما الفداء وهذا من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن وَيَسْتَعْجِلُونَكَ أي ويستعجلك كفار قريش بِالْعَذابِ على طريقة الاستهزاء والتعجيز والتكذيب به بقولهم : مَتى هذَا الْوَعْدُ وقولهم : أمطر علينا حجارة أو ائتنا بعذاب ونحو ذلك وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى قد ضربه اللّه تعالى لعذابهم وسماه وأثبته في اللوح لَجاءَهُمُ الْعَذابُ المعين لهم حسبما استعجلوا به ، وقال ابن جبير : المراد بالأجل يوم القيامة لما روي أنه تعالى وعد رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن لا يعذب قومه بعذاب الاستئصال وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة ، وقال ابن سلام : المراد به أجل ما بين النفختين ، وقيل : يوم بدر ، وقيل : وقت فنائهم بآجالهم ، وفيه بعد ظاهر لما أنهم ما كانوا يوعدون بفنائهم الطبيعي ولا كانوا يستعجلون به وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ جملة مستأنفة مبنية لما أشير إليه في الجملة السابقة من مجيء العذاب عند حلول الأجل ، أي وباللّه تعالى لَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بإتيانه ، ولعل المراد بإتيانه كذلك أنه لا يكون بطريق التعجيل عند استعجالهم والإجابة إلى مسؤولهم فإن ذلك إتيان برأيهم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 10
وشعورهم لا أنه يأتيهم وهم قارّون آمنون لا يحظرونه بالبال كدأب بعض العقوبات النازلة على بعض الأمم بياتا وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون لما أن إتيان عذاب الآخرة وعذاب يوم بدر ليس من هذا القبيل قاله بعضهم ، وقال آخرون : إتيانه كذلك من حيث إنه غير متوقع لهم وإتيان عذاب الآخرة ونحو كذلك لإنكارهم البعث ، وكذا عذاب القبر أو اعتقادهم شفاعة آلهتهم لهم في دفع العذاب عنهم ، وكذا إتيان عذاب يوم بدر لأنهم لغرورهم كانوا لا يتوقعون غلبة المسلمين ولا تخطر لهم ببال على ما بين في السير.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ استئناف مسوق لغاية تجهيلهم وركاكة رأيهم وهو ظاهر في أن ما استعجلوه عذاب الآخرة ، وجملة إِنَّ جَهَنَّمَ إلخ في موضع الحال أي يستعجلونك بالعذاب والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه محيط بهم كأنه قيل : يستعجلونك بالعذاب وأن العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم على إرادة المستقبل من اسم الفاعل ، أو كالمحيط بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي الموجبة إياه بهم على أن في الكلام تشبيها بليغا أو استعارة أو مجازا مرسلا أو تجوزا في الإسناد ، وقيل : إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة لكنها ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة ، والمراد بالكافرين المستعجلون ، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم أو جنس الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ظرف لمضمر قد طوي ذكره إيذانا بغاية كثرته وفظاعته كأنه قيل : يوم يأتيهم ويجللهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال ، وقيل : ظرف لمحيطة على معنى وإن جهنم ستحيط بالكافرين يوم يغشاهم العذاب مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي من جميع جهاتهم فما ذكر للتعميم كما في الغدو والآصال ، قيل : وذكر الأرجل للدلالة على أنهم لا يقرون ولا يجلسون وذلك أشد العذاب وَيَقُولُ أي اللّه عزّ وجلّ ، وقيل : الملك الموكل بهم.
وقرأ ابن كثير وابن عامر والبصريون «ونقول» بنون العظمة وهو ظاهر في أن القائل هو اللّه تعالى.
وقرأ أبو البرهسم «وتقول» بالتاء على أن القائل جهنم ، ونسب القول إليها هنا كما نسب في قوله تعالى :
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق : 30] وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة «ويقال» مبنيا للمفعول ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات التي من جملتها الاستعجال بالعذاب.
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
نزلت على ما روي عن مقاتل والكلبي في المستضعفين من المؤمنين بمكة أمروا بالهجرة عنها وعلى هذا أكثر المفسرين ، وعمم بعضهم الحكم في كل من لا يتمكن من إقامة أمور الدين كما ينبغي في أرض لممانعة من جهة الكفرة أو غيرهم فقال : تلزمه الهجرة إلى أرض يتمكن فيها من ذلك ، وروي هذا عن ابن جبير وعطاء ومجاهد. ومالك بن أنس ، وقال مطرف بن الشخير : إن الآية عدة منه تعالى بسعة الرزق في جميع الأرض ، وعلى القولين فالمراد بالأرض الأرض المعروفة ، وعن الجبائي أن الآية عدة منه عزّ وجلّ بإدخال الجنة لمن أخلص له سبحانه العبادة وفسر الأرض بأرض الجنة ، والمعول عليه ما تقدم ، والفاء في فَإِيَّايَ
فاء التسبب عن قوله تعالى : إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
كما تقول : إن زيدا أخوك فأكرمه وكذلك لو قلت :
إنه أخوك فإن أمكنك فأكرمه ، و(إياي) معمول لفعل محذوف يفسره المذكور ، ولا يجوز أن يكون معمولا له لاشتغاله بضميره وذلك المحذوف جزاء لشرط حذف وعوض عنه هذا المعمول ، والفاء في فَاعْبُدُونِ
هي الفاء الواقعة في الجزاء إلا أنه لما وجب حذفه جعل المفسر المؤكد له قائما مقامه لفظا وأدخل الفاء عليه إذ لا بد منها للدلالة على الجزاء ، ولا تدخل على معمول المحذوف أعني إياي وإن فرض خلوه عن فاء لتمحضه عوضا عن فعل الشرط فتعين الدخول على المفسر وأيضا ليطابق المذكور المحذوف من كل وجه ، ولزم أن يقدر الفعل المحذوف

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 11
العامل في (إياي) مؤخرا لئلا يفوت التعويض عن فعل الشرط مع إفادة ذلك معنى الاختصاص والإخلاص ، فالمعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا إلى العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها ، وجعل الشرط إن لم تخلصوا لدلالة الجواب المذكور عليه ، ولا منع من أن تكون الفاء الأولى واقعة في جواب شرط آخر ترشيحا للسببية على معنى أن أرضي واسعة وإذا كان كذلك فإن لم تخلصوا لي إلخ ، وقيل : الفاء الأولى جواب شرط مقدر وأما الثاني فتكرير ليوافق المفسر ، المفسر فيقال حينئذ : المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها ، وتكون جملة الشرط المقدرة أعني إن لم تخلصوا إلخ مستأنفة عرية عن الفاء ، وما تقدم أبعد مغزى. وجعل بعض المحققين الفاء الثانية لعطف ما بعدها على المقدر العامل في (إياي) قصدا لنحو الاستيعاب كما في خذ الأحسن فالأحسن.
وتعقب بأنه حينئذ لا يصلح المذكور مفسر لعدم جواز تخلل العاطف بين مفسر ومفسرا البتة ، وأما ما ذكره الإمام السكاكي في قوله تعالى : فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل : 51] من أن الفاء عاطفة والتقدير فإياي ارهبوا فارهبون فإنه أراد به أنها في الأصل كذلك لا في الحال على ما حققه صاحب الكشف ، هذا وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وقد ذكرنا جملة منه في أوائل تفسير سورة البقرة فراجعه مع ما هنا وتأمل واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ جملة مستأنفة جيء بها حثا على إخلاص العبادة والهجرة للّه تعالى حيث أفادت أن الدنيا ليست دار بقاء وأن وراءها دار الجزاء أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت ومفارقة البدن البتة فلا بد أن تذوقوه ثم ترجعون إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالكم فمن كانت هذه عاقبته فلا بد له من التزود والاستعداد ، وفي قوله تعالى : ذائِقَةُ الْمَوْتِ استعارة لتشبيه الموت بأمر كريه الطعم مره ، والعدول عن تذوق الموت للدلالة على التحقق ، وثُمَّ للتراخي الزماني أو الرتبي.
وقرأ أبو حيوة «ذائقة» بالتنوين «الموت» بالنصب ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه «ترجعون» مبنيا للفاعل
، وروى عاصم «يرجعون» بياء الغيبة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي لننزلنهم على وجه الإقامة ، وجملة القسم وجوابه خبر المبتدأ أعني الَّذِينَ ورد به وبأمثاله على ثعلب المانع من وقوع جملة القسم والمقسم عليه خبرا للمبتدأ ، وقوله تعالى : مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي علالي وقصورا جليلة لا قصور فيها ، وهي على ما روي عن ابن عباس من الدر والزبرجد والياقوت ، مفعول ثان للتبوئة.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وعبد اللّه ، والربيع بن خيثم ، وابن وثاب ، وطلحة ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي «لنثوينهم» بالثاء المثلثة الساكنة بعد النون وإبدال الهمزة ياء من الثواء بمعنى الإقامة فانتصاب غُرَفاً حينئذ إما بإجرائه مجرى لننزلنهم فهو مفعول به له أو بنزع الخافض على أن أصله بغرف فلما حذف الجار انتصب أو على أنه ظرف والظرف المكاني إذا كان محدودا كالدار والغرفة لا يجوز نصبه على الظرفية إلا أنه أجري هنا مجرى المبهم توسعا كما في قوله تعالى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف : 16] على ما فصل في النحو.
وروي عن ابن عامر انه قرأ «غرفا» بضم الراء تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لغرفا خالِدِينَ فِيها أي في الغرف ، وقيل : في الجنة نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي الأعمال الصالحة والمخصوص بالمدح محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه أي نعم أجرى العاملين الغرف أو أجرهم ، ويجوز كون التمييز محذوفا أي نعم أجرا أجر العاملين ، وقرأ ابن وثاب «فنعم» بفاء الترتيب الَّذِينَ صَبَرُوا صفة للعاملين أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على المدح أي صبروا على أذية المشركين وشدائد المهاجرة وغير ذلك من المحن والمشاق وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي ولم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على اللّه تعالى.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 12
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 60 إلى 69]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا لما
روي أن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة المهاجرة إلى المدينة قالوا : كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت ،
أي وكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها أو لا تدخره وإنما تصبح ولا معيشة عندها. عن ابن عيينة ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة ، وعن ابن عباس لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ويقال للعقعق مخابي إلا أنه ينساها ، وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في حضنيه والظاهر عدم صحته ، وذكر لي بعضهم أن أغلب الكوامن من الطير يدخر واللّه تعالى أعلم بصحته.
اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا اللّه تعالى لأن رزق الكل بأسباب هو عزّ وجلّ المسبب لها وحدة فلا تخافوا على معاشكم بالمهاجرة ولما كان المراد إزالة ما في أوهامهم من الهجرة على أبلغ وجه قيل : يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ دون يرزقكم وإياها وَهُوَ السَّمِيعُ البالغ في السمع فيسمع قولكم هذا الْعَلِيمُ البالغ في العلم فيعلم ما انطوت عليه ضمائركم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي أهل مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ إذ لا سبيل لهم إلى إنكاره ولا التردد فيه ، والاسم الجليل مرفوع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة السؤال عليه أو على الفاعلية لفعل محذوف لذلك أيضا فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ إنكار واستبعاد من جهته تعالى لتركهم العمل بموجبه ، والفاء للترتيب أو واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان الأمر كذلك فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده عزّ وجلّ في الألوهية مع إقرارهم بتفرده سبحانه فيما ذكر من الخلق والتسخير.
وقدر بعضهم الشرط فإن صرفهم الهوى والشيطان لمكان بناء يُؤْفَكُونَ للمفعول ، ولعل ما ذكرناه أولى.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسطه له لا غيره مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي يضيق عليه ، والضمير عائد على من يَشاءُ الذي يبسط له الرزق أي عائد عليه مع ملاحظة متعلقة فيكون المعنى أنه تعالى شأنه يوسع على شخص واحد رزقه تارة ويضيقه عليه أخرى ، والواو لمطلق الجمع فقد يتقدم التضييق على التوسيع أو عائد على من

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 13
يَشاءُ بقطع النظر عن متعلقه فالمراد من يشاء آخر غير المذكور فهو نظير عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر ، وهذا قريب من الاستخدام ، فالمعنى أنه تعالى شأنه يوسع على بعض الناس ويضيق على بعض آخر ، وقرأ علقمة «ويقدر» بضم الياء وفتح القاف وشد الدال إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيعلم أن كلّا من البسط والقدر في أي وقت يوافق الحكمة والمصلحة فيفعل كلا منهما في وقته أو فيعلم من يليق ببسط الرزق فيبسطه له ومن يليق بقدره له فيقدر له ، وهذه الآية أعني قوله تعالى : اللَّهُ يَبْسُطُ إلخ تكميل لمعنى قوله سبحانه : اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ لأن الأول كلام في المرزوق وعمومه وهذا كلام في الرزق وبسطه وقترته ، وقوله سبحانه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ إلخ معترض لتوكيد معنى الآيتين وتعريض بأن الذين اعتمدتم عليهم في الرزق مقرون بقدرتنا وبقوتنا كقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات : 58] قاله العلامة الطيبي.
وقال صاحب الكشف قدس سره : اعترض ليفيد أن الخالق هو الرزاق وأن من أفاض ابتداء وأوجد أولى أن يقدر على الإبقاء وأكد به ما ضمن في قوله عزّ وجلّ : وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنه عزّ وجلّ الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفرعها ثم إنهم يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شيء ما أصلا قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إظهار الحجة واعترافهم بما يلزمهم ، وقيل : حمده عليه الصلاة والسلام على العصمة مما هم عليه من الضلال حيث أشركوا مع اعترافهم بأن أصول النعم وفروعهما منه جلّ جلاله فيكون كالحمد عند رؤية المبتلى ، وقيل : يجوز أن يكون حمدا على هذا وذاك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد أو لا يعقلون شيئا من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى قولهم هذا فيشركون به سبحانه أخس مخلوقاته ، قيل : إضراب عن جهلهم الخاص في الإتيان بما هو حجة عليهم إلى أن ذلك لأنهم مسلوبو العقول فلا يبعد عنهم مثله ، وقوله تعالى : قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ معترض وجعله الزمخشري في سورة لقمان إلزاما وتقريرا لاستحاقه تعالى العبادة ، وقيل : لا يَعْقِلُونَ ما تريد بتحميدك عند مقالهم ذلك ، ولم يرتضه بعض المحققين لخفائه وقلة جدواه وتكلف توجيه الإضراب فيه.
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إشارة تحقير وكيف لا والدنيا لا تزن عند اللّه تعالى جناح بعوضة ،
فقد أخرج الترمذي عن سهل بن سعد قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه تعالى جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».
وقال بعض العارفين : الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب بيد مجذوم ، ويعلم مما ذكر حقارة ما فيها من الحياة بالطريق الأولى إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي إلّا كما يلهو ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون عنه ، وهذا من التشبيه البليغ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي لهي دار الحياة الحقيقية إذ لا يعرض الموت والفناء لمن فيها أو هي ذاتها حياة للمبالغة ، والْحَيَوانُ مصدر حي سمي به ذو الحياة في غير هذا المحل ، وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واوا على خلاف القياس فلامه ياء وإلى ذلك ذهب سيبويه.
وقيل : إن لامه واو نظرا إلى ظاهر الكلمة وإلى حياة علم رجل ، ولا حجة على كونه ياء في حي لأن الواو في مثله تبدل ياء لكسر ما قبلها نحو شقي من الشقوة ، وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها في هذا المقام المقتضى للمبالغة وقد علمتها في وصف الحياة الدنيا المقابلة للدار الآخرة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شرط جوابه محذوف أي لو كانوا يعلمون لما داروا عليها الدنيا التي

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 14
أصلها عدم الحياة ، ثم ما يحدث فيها من الحياة عارضة سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال وكون لَوْ للتمني بعيد فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ متصل بما دلّ عليه شرح حالهم ، والركوب الاستعلاء على الشيء المتحرك وهو متعد بنفسه كما في لِتَرْكَبُوها [النحل : 8] واستعماله هاهنا وفي أمثاله نفي للإيذان بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة وحركته قسرية غير إرادية ، والفاء للتعقب وفي الكلام معنى الغاية فكأنه قيل : هم مصروفون عن توحيد اللّه تعالى مع إقرارهم بما يقتضيه لاهون بما هو سريع الزوال ذاهلون عن الحياة الأبدية حتى إذا ركبوا في الفلك ولقوا الشدائد دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي كائنين في صورة من أخلص دينه وملته أو طاعته من المؤمنين حيث لا يذكرون إلّا اللّه تعالى ولا يدعون سواه سبحانه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلّا هو عزّ وجلّ وفيه تهكم به سواء أريد بالدين الملة أو الطاعة أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأنهم لا يستمرون على هذه الحال فهي قبيحة باعتبار المآل فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي فاجؤوا المعاودة إلى الشرك ولم يتأخروا عنها ولا وقتا.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا الظاهر أن اللام في الموضعين لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة النجاة بسبب شركهم وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها فالشرك سبب لهذا الكفران ، وأدخلت لام كي على مسببه لجعله كالغرض لهم منه فهي لام العاقبة في الحقيقة ، وقيل : اللام فيهما لام الأمر والأمر بالكفران والتمتع مجاز في التخلية والخذلان والتهديد كما تقول عند الغضب على من يخالفك : افعل ما شئت ، ويؤيده قراءة ابن كثير ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي «وليتمتعوا» بسكون اللام فإن لام كي لا تسكن ، وإذا كانت الثانية لذلك لام الأمر فالأولى مثلها ليتضح العطف ، وتخالفهما محوج إلى التكلف بأن يكون المراد كما قال أبو حيان عطف كلام على كلام لا عطف فعل على فعل ، وقوله تعالى : فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة ذلك حين يعاقبون عليه يوم القيامة مؤيد للتهديد أَوَلَمْ يَرَوْا ألم ينظروا ولم يشاهدوا أَنَّا جَعَلْنا أي بلدهم حَرَماً مكانا حرم فيه كثير مما ليس بمحرم في غيره من المواضع آمِناً أهله عما يسوءهم من السبي والقتل على أن أمنهكناية عن أمن أهله أو على أن الإسناد مجازي أو على أن في الكلام مضافا مقدرا ، وتخصيص أهل مكة وأن أمن كل من فيه حتى الطيور والوحوش لأن المقصود الامتنان عليهم ولأن ذلك مستمر في حقهم. وأخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا : يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنّا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكلنا أكلة رأس فأنزل اللّه تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
يختلسون من حولهم قتلا وسبيا إذا كانت العرب حوله في تغاور وتناهب. والظاهر أن الجملة حالية بتقدير مبتدأ أي وهم يتخطف إلخ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أن أبعد ظهور الحق الذي لا ريب فيه أو أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها بالصنم ، وقيل : بالشيطان يؤمنون وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ وهي المستوجبة للشكر حيث يشركون به تعالى غيره سبحانه ، وتقديم الصلة في الموضعين للاهتمام بها لأنها مصب الإنكار أو للاختصاص على طريق المبالغة لأن الإيمان إذا لم يكن خاصا لا يعتد به ولأن كفران غير نعمته عزّ وجلّ بجنب كفرانها لا يعد كفرانا.
وقرأ السلمي ، والحسن «تؤمنون» و«تكفرون» بتاء الخطاب فيهما وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له سبحانه شريكا وكونه كذبا على اللّه تعالى لأنه في حقه فهو كقولك : كذب على زيد إذا وصفه بما ليس فيه أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ يعني الرسول أو الكتاب لَمَّا جاءَهُ أي حين مجيئه إياه ، وفيه تسفيه لهم حيث لم يتأملوا ولم يتوقفوا حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 15
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي ثواء وإقامة لهم أو مكان يثوون فيه ويقيمون ، والكلام على كلا الوجهين تقرير لثوائهم في جهنم لأن الاستفهام فيه معنى النفي وقد دخل على نفي ونفي النفي إثبات كما في قول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
أي ألا يستوجبون الثواء أو المكان الذي يثوى فيه فيها وقد افتر وأمثل هذا الكذب على اللّه تعالى وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب أو إنكار واستبعاد لاجترائهم على ما ذكر من الافتراء والتكذيب مع علمهم بحال الكفرة أي ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا هذه الجرأة ، وجعلهم عالمين بذلك لوضوحه وظهوره فنزلوا منزلة العالم به ، والتعريف في (الكافرين) على الأول للعهد فالمراد بهم أولئك المحدث عنهم وهم أهل مكة ، وأقيم الظاهر مقام الضمير لتعليل استيجابهم المثوى ، ولا ينافي كون ظاهره أن العلة افتراؤهم وتكذيبهم لأنه لا يغايره والتعليل يقبل التعدد ، وعلى الثاني للجنس فالمراد مطلق جنس الكفرة ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا برهانيا وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا في شأننا ومن أجلنا ولوجهنا خالصا ففيه مضاف مقدر ، وقيل : لا حاجة إلى التقدير بحمل الكلام على المبالغة بجعل ذات اللّه سبحانه مستقرا للمجاهدة وأطلقت المجاهدة لتعم مجاهدة الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعهما لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا ، والمراد نزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقا لسلوكها فإن الجهاد هداية أو مرتب عليها ، وقد قال تعالى : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد : 17] وفي الحديث «من عمل بما علم ورثه اللّه تعالى علم ما لم يعلم».
ومن الناس من أول جاهَدُوا : بأرادوا الجهاد وأبقى لَنَهْدِيَنَّهُمْ على ظاهره ، وقال السدي : المعنى والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبلنا إلى الجنة ، وقيل : المعنى والذين جاهدوا في الغزو لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة ، وما ذكر أولا أولى ، والموصول مبتدأ وجملة القسم وجوابه خبره نظير ما مر من قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً [العنكبوت : 58].
وَإِنَّ اللَّهَ المتصف بجميع صفات الكمال الذي بلغت عظمته في القلوب ما بلغت لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج لهما قرينة قوية على إرادة ذلك ، وقال العلامة الطيبي : إن قوله تعالى :
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ قد طابق قوله سبحانه : جاهَدُوا لفظا ومعنى ، أما اللفظ فمن حيث الإطلاق في المجاهدة والمعية ، وأما المعنى فالمجاهد للأعداء يفتقر إلى ناصر ومعين ، ثم إن جملة قوله عزّ وجلّ : إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ تذييل للآية مؤكد بكلمتي التوكيد محلى باسم الذات ليؤذن بأن من جاهد بكليته وشراشره في ذاته جلّ وعلا تجلى له الرب عزّ اسمه الجامع في صفة النصرة والإعانة تجليا تاما ، ثم إن هذه خاتمة شريفة للسورة لأنها مجاوبة لمفتتحها ناظرة إلى فريدة قلادتها أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت : 2] لامحة إلى واسطة عقدها يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
[العنكبوت : 56] وهي في نفسها جامعة فاذة ا ه.
و(أل) في المحسنين يحتمل أن تكون للعهد فالمراد بالمحسنين الذين جاهدوا ، ووجه إقامة الظاهر مقام الضمير ظاهر وإلى ذلك ذهب الجمهور ، ويحتمل أن يكون للجنس فالمراد بهم مطلق جنس من أتى بالأفعال الحسنة ويدخل أولئك دخولا أوليا برهانيا. وقد روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه فسر الْمُحْسِنِينَ بالموحدين وفيه تأييد ما للاحتمال الثاني واللّه تعالى أعلم.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 16
ومن باب الإشارة في الآيات أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الآية قال ابن عطاء : ظن الخلق أنهم يتركون مع دعاوى المحبة ولا يطالبون بحقائقها وهي صب البلاء على المحب وتلذذه بالبلاء الظاهر والباطن ، وهذا كما قال العارف ابن الفارض قدس سره :
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم علي بما يقضي الهوى لكم عدل
وذكروا أن المحبة والمحنة توأمان «وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ إشارة إلى حال الكاذبين في دعوى المحبة وهم الذين يصرفون عنها بأذى الناس لهم إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قال ابن عطاء : أي اطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة ، وقال سهل : اطلبوه في التوكل لا في المكسب فإن طلب الرزق فيه سبيل العوام وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر من نفسي ومن الكون إليه عزّ وجلّ ، وقال ابن عطاء : أي راجع إلى ربي من جميع ما لي وعليّ ، والرجوع إليه عزّ وجلّ بالانفصال عما دونه سبحانه ، ولا يصح لأحد الرجوع إليه تعالى وهو متعلق بشيء من الكون بل لا بد أن ينفصل من الأكوان أجمع وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ سئل الجنيد قدس سره عن هذه الآية فقال : كل شيء يجتمع الناس عليه إلا الذكر فهو منكر مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ أشار سبحانه وتعالى إلى من اعتمد على غير اللّه عزّ وجلّ في أسباب الدنيا والآخرة فهو منقطع عن مراده غير واصل إليه ، قال ابن عطاء : من اعتمد شيئا سوى اللّه تعالى كان هلاكه في نفس ما اعتمد عليه ، ومن اتخذ سواه عزّ وجلّ ظهيرا قطع عن نفسه سبيل العصمة ورد إلى حوله وقوته.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ فيه إشارة إلى أن دقائق المعارف لا يعرفها إلا أصحاب الأحوال العالمون به تعالى وبصفاته وسائر شؤونه سبحانه لأنهم علماء المنهج ، وذكر أن العالم على الحقيقة من يحجزه علمه عن كل ما يبيحه العلم الظاهر ، وهذا هو المؤيد عقله بأنوار العلم اللدني إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ذكر أن حقيقة الصلاة حضور القلب بنعت الذكر والمراقبة بنعت الفكر فالذكر في الصلاة يطرد الغفلة التي هي الفحشاء والفكر يطرد الخواطر المذمومة وهي المنكر ، هذا في الصلاة وبعدها تنهى هي إذا كانت صلاة حقيقية وهي التي انكشف فيها لصاحبها جمال الجبروت وجلال الملكوت وقرت عيناه بمشاهدة أنوار الحق جلّ وعلا عن رؤية الأعمال والأعواض ، وقال جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه : الصلاة إذا كانت مقبولة تنهى عن مطالعات الأعمال والأعواض
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عطاء : أي ذكر اللّه تعالى لكم أكبر من ذكركم له سبحانه لأن ذكره تعالى بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني والسؤال ، وأيضا ذكره تعالى صفته وذكركم صفتكم ولا نسبة بين صفة الخالق جل شأنه وبين صفة المخلوق وأين التراب من رب الأرباب بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فيه إشارة إلى أن عرائس حقائق القرآن لا تنكشف إلا لأرواح المقربين من العارفين والعلماء الربانيين لأنها أماكن أسرار الصفات وأوعية لطائف كشوف الذات ،
قال الصادق على آبائه وعليه السلام : لقد تجلى اللّه تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
قال سهل : إذا عمل بالمعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين ، وكأن هذا لئلا تنعكس ظلمة معاصي العاصين على قلوب الطائعين فيكسلوا عن الطاعة ، وذكروا أن سفر المريد سبب للتخلية والتحلية ، وإليه الإشارة بما
أخرجه الطبراني والقضاعي ، والخطيب ، والشيرازي في الألقاب ، والخطيب وابن النجار ، والبيهقي عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 17
قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : سافروا تصحوا وتغنموا كل نفس ذائقة الموت فلا يمنعنكم خوف الموت من السفر وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ فلا يمنعنكم عنه فقد الزاد أو العجز عن حمله
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا قال ابن عطاء : أي الذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى محل الرضا ، والمجاهدة كما قال : الافتقار إلى اللّه تعالى بالانقطاع عن كل ما سواه ، وقال بعضهم : أي الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف لنوصلن أسرارهم إلى اللطائف ، وقيل : أي الذين جاهدوا نفوسهم لأجلنا وطلبا لنا لنهدينهم سبل المعرفة بنا والوصول إلينا ، ومن عرف اللّه تعالى عرف كل شيء ومن وصل إليه هان عنده كل شيء ، كان عبد اللّه بن المبارك يقول : من اعتاصت عليه مسألة فليسأل أهل الثغور عنها لقوله تعالى : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر نسأل اللّه تعالى التوفيق لما يحب ويرضى والحفظ التام من كل شر بحرمة حبيبه سيد البشر صلى اللّه تعالى عليه وسلم.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 18
سورة الروم
مكية كما روي عن ابن عباس ، وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم بل قال ابن عطية ، وغيره : لا خلاف في مكيتها ولم يستثنوا منها شيئا ، وقال الحسن : هي مكية إلا قوله تعالى : فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الروم : 17] الآية وهو خلاف مذهب الجمهور والتفسير المرضي كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيانه ، وآيها ستون وعند بعض تسع وخمسون ، ووجه اتصالها بالسورة السابقة على ما قاله الجلال السيوطي أنها ختمت بقوله تعالى : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت : 69] وافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر وفرح المؤمنين بذلك وأن الدولة لأهل الجهاد فيه ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة ، هذا مع تواخيها لما قبلها في الافتتاح - بالم - ولا يخفى أن قتال أهل الكتاب ليس من المجاهدة في اللّه عزّ وجلّ وبذلك تضعف المناسبة ، ومن وقف على أخبار سبب النزول ظهر له أن ما افتتحت به هذه السورة متضمنا نصرة المؤمنين بدفع شماتة أعدائهم المشركين وهم لم يزالوا مجاهدين في اللّه تعالى ولأجله ولوجهه عزّ وجلّ ولا يضر عدم جهادهم بالسيف عند النزول ، وهذا في المناسبة أوجه فيما أرى من الوجه الذي ذكره الجلال فتأمل.
[سورة الروم (30) : الآيات 1 إلى 24]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 19
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم الكلام فيه كالذي مرّ في أمثاله من الفواتح الكريمة غُلِبَتِ الرُّومُ هي قبيلة عظيمة من ولد رومي بن يونان بن علجان بن يافث نوح عليه السلام وقيل : من ولد يافان بن يافث ، وقيل : من ولد رعويل بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام ، وقال الجوهري : من ولد روم بن عيص المذكور صارت لها وقعة مع فارس على عهد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فغلبتها وقهرتها فارس فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي أقربها.
والمراد بالأرض أرض الروم على أن (أل) نائبة مناب الضمير المضاف إليه والأقربية بالنظر إلى أهل مكة لأن الكلام معهم أو المراد بها أرض مكة ونواحيها لأنها الأرض المعهودة عندهم والأقربية بالنظر إلى الروم أو المراد بالأرض أرض الروم لذكرهم والأقربية بالنظر إلى عدوهم أعني فارس لحديث المغلوبية ، وقد جاء من طرق عديدة أن الحرب وقع بين أذرعات وبصرى ، وقال ابن عباس ، والسدي : بالأردن وفلسطين ، وقال مجاهد : بالجزيرة يعني الجزيرة العمرية لا جزيرة العرب ، وجعل كل قول موافقا لوجه من الأوجه الثلاثة على الترتيب ، وصحح ابن حجر القول الأول.
وقرأ الكلبي «في أداني الأرض» وَهُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي غلب فارس إياهم على أنه مصدر مضاف إلى مفعوله أو إلى نائب فاعله إن كان مصدر المجهول ورجحه بعضهم بموافقته للنظم الجليل.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ، ومعاوية بن قرة «غلبهم» بسكون اللام ، وعن أبي عمرو أنه قرأ «غلابهم» على وزن كتاب والكل مصادر غلب ، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : سَيَغْلِبُونَ وفي ذلك تأكيد لما يفهم من السين ولكون مغلوبهم من كان غالبهم ، وفي بناء الجملة على الضمير تقوية للحكم أي سيغلبون فارس البتة ، وقوله تعالى : فِي بِضْعِ سِنِينَ متعلق بسيغلبون أيضا.
والبضع ما بين الثلاث إلى العشرة عن الأصمعي ، وفي المجمل ما بين الواحد : إلى التسعة ، وقيل : «هو ما فوق

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 20
الخمس ودون العشر» وقال المبرد : ما بين العقدين في جميع الأعداد.
روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى فغلبوا عليهم فبلغ ذلك النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان صلى اللّه تعالى عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم وفرح الكفار بمكة وشمتوا فلقوا أصحاب النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب وأنكم قاتلتمونا لنظهرن عليكم اللّه فأنزل اللّه تعالى الم غُلِبَتِ الرُّومُ الآيات فخرج أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يفرسنّ اللّه تعالى عينكم فو اللّه ليظهرنّ الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقام إليه أبيّ بن خلف فقال :
كذبت فقال له : أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه : أنت أكذب يا عدو اللّه تعالى أنا حبك «1» عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين فناحبه ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام : ما هكذا ذكرت إنما البعض ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال : لعلك ندمت؟ قال : لا تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال : قد فعلت فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبيّ كفيلا بالخطر إن غلب فكفل به ابنه عبد الرحمن فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ومات أبي من جرح جرحه النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة.
وجاء في الروايات أنهم ظهروا عليهم يوم الحديبية
، وأخرج الترمذي وحسنه أنه لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأخذ أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام :
تصدق به
، وفي رواية أبي يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام قال : «هذا السحت تصدق به».
واستشكل بأنه إن كان ذلك قبل تحريم القمار كما أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن قتادة ، والترمذي وصححه عن نيار بن مكرم السلمي وهو الظاهر لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر من آخر القرآن نزولا فما وجه كونه سحتا؟ وإن كان بعد التحريم فكيف يؤمر بالتصدق بالحرام الغير المختلط بغيره وصاحبه معلوم وفي مثل ذلك يجب رد المال عليه ، فإن قيل : إنه مال حربي والحادثة وقعت بمكة وهي قبل الفتح دار حرب والعقود الفاسدة تجوز فيها عند أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة لم يظهر قوله سحتا ، وكأني بك تمنع صحة هذه الرواية وإذا لم تثبت صحتها يبقى الأمر بالتصدق ، وحينئذ يجوز أن يكون لمصلحة رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو تصدق بحلال أما إذا كان ذلك قبل تحريم القمار كما هو المعول عليه فظاهر ، وأما إن كان بعد التحريم فلأن أبا حنيفة ، ومحمدا قالا بجواز العقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار واحتجا على صحة ذلك بما وقع من أبي بكر في هذه القصة ، وقد تظافرت الروايات أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم ينكر عليه المناحبة وإنما أنكر عليه التأجيل بثلاث سنين وأرشده إلى أن يزايدهم ، وربما يقال على تقدير الصحة : إن السحت ليس بمعنى الحرام بل بمعنى ما يكون سببا للعار والنقص في المروءة حتى كأنه يسحتها أي يستأصلها كما في
قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «كسب الحجام سحت»
فقد قال الراغب :
إن هذا لكونه ساحتا للمروءة لا للدين فكأنه صلّى اللّه عليه وسلم رأى أن تمول ذلك وإن كان حلالا مخل بمروءة أبي بكر رضي اللّه
___________
(1) قوله أناحبك أي أراهنك ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 21
تعالى عنه فأطلق عليه السحت ، ولا يأبى ذلك إذنه عليه الصلاة والسلام في المناحبة لما أنها لا تضر بالمروءة أصلا وفيها من إظهار اليقين بصدق ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه وسلم ما فيها وكان عليه الصلاة والسلام على ثقة من صلاح الصديق رضي اللّه تعالى عنه وأنه إذا أمره بالتصدّق بما يأخذه ونهاه عن تموله لم يخالفه ، وقيل : السحت هنا بمعنى ما لا شيء على من استهلكه وهو أحد إطلاقاته كما في النهاية ، والمراد هذا الذي لا شيء عليك إذا استهلكته وتصرفت فيه حسبما تشاء تصدق به كأنه عليه الصلاة والسلام بعد أن أخبر الصديق رضي اللّه تعالى عنه بأنه لا مانع له من التصرف فيه حسبما يريد أرشده إلى ما هو الأولى والأحرى
فقال : تصدق به
،
وهو كما ترى ، وقيل : إن السحت كما في النهاية يرد في الكلام بمعنى الحرام مرة وبمعنى المكروه أخرى ويستدل على ذلك بالقرائن فيجوز أن يكون في الخبر إذا صح فيه بمعنى المكروه إذ الأمر بالتصدق يمنع أن يكون بمعنى الحرام فيتعين كونه بمعنى المكروه ، وفيه نظر ، وأما تفسير السحت بالحرام والتزام القول بجواز التصدق بالحرام لهذا الخبر فمما لا يلتفت إليه أصلا فتأمل. وكانت كلتا الغلبتين في سلطنة خسرو برويز ، قال في روضة الصفا ما ترجمته : إنه لما مضى من سلطنة خسرو أربعة عشر سنة غدر الروميون بملكهم وقتلوه مع ابنه بناطوس وهرب ابنه الآخر إلى خسرو فجهز معه ثلاثة رؤساء أولى قدر رفيع مع عسكر عظيم فدخلوا بلاد الشام وفلسطين وبيت المقدس وأسروا من فيها من الأساقفة وغيرهم وأرسلوا إلى خسرو الصليب الذي كان مدفونا عندهم في تابوت من ذهب وكذلك استولوا على الإسكندرية وبلاد النوبة إلى أن وصلوا إلى نواحي القسطنطينية وأكثروا الخراب وجهدوا على إطاعة الروميين لابن قيصر فلم تحصل ، قيل : إن الروميين جعلوا عليهم حاكما شخصا اسمه هرقل وكان سلطانا عادلا يخاف اللّه تعالى فلما رأى تخريب فارس قد شاع في بلاد الروم من النهب والقتل تضرع وبكى وسأل اللّه تعالى تخليص الروميين فصادف دعاؤه هدف الإجابة فرأى في ليالي متعددة في منامه أنه قد جيء إليه بخسرو في عنقه سلسلة ، وقيل له : عجل بمحاربة برويز لأنه يكون لك الظفر والنصرة فجمع هرقل عسكره بسبب تلك الرؤيا وتوجه من قسطنطينية إلى نصيبين فسمع خسرو فجهز اثني عشر ألفا مع أمير من أمرائه فقابلهم هرقل فكسرهم وقتل منهم تسعة آلاف مع رؤسائهم.
وأنه أسلم عند ذلك ناس كثير. وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، والحسن ، ومعاوية بن قرة «غلبت الروم» على البناء للفاعل وسَيَغْلِبُونَ على البناء للمفعول ، والمعنى على ما قيل : إن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزول الآية ففتحوا بعض بلادهم ، وإضافة «غلب» عليه من إضافة المصدر إلى الفاعل ، ووفق بين القراءتين بأن الآية نزلت مرتين مرة بمكة على قراءة الجمهور ومرة يوم بدر كما رواه الترمذي وحسنه عن أبي سعيد على هذه القراءة.
وقال بعض الأجلة : الصواب أن يبقى نزولها على ظاهره ويراد بغلب المسلمين إياهم ما كان في غزوة مؤتة وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان وذلك قريب من التاريخ الذي ذكروه لنزول الآية أولا ولا حاجة إلى تعدد النزول

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 22
فإنه يجوز تخالف معنى القراءتين إذا لم يتناقضا ، وكون فريق غالبا ومغلوبا في زمانين غير متدافع فتأمل انتهى.
ولا يخفى على من سبر السبر أن هذا مما لا يكاد يتسنى لأن الروم لم يغلبهم المسلمون في تلك الغزوة بل انصرفوا عنهم بعد أن أصيبوا بجعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد اللّه بن رواحة ، وعباد بن قيس في آخرين من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين كالمغلوبين ، بل
ذكر ابن هشام أنهم لما أتوا المدينة جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون : يا فرار فررتم في سبيل اللّه تعالى وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء اللّه تعالى»
وروي أن أم سلمة قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة : مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ومع المسلمين؟ فقالت : واللّه ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار ففررتم في سبيل اللّه حتى قعد في بيته ولم يخرج ، وذكر أبياتا لقيس اليعمري يعتذر فيها مما صنع يومئذ وصنع الناس وقد تضمنت كما قال بيان أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وأن خالد بن الوليد انحاز بمن معه ، على أن فيما ذكر أنه الصواب بحثا بعد : فلعل الأول في التوفيق إذا صحت هذه القراءة ما ذكر أولا فتأمل ..
وفي البحر كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى :
الم غُلِبَتِ الرُّومُ - إلى - سِنِينَ افتتاح المسلمين بيت المقدس معينا زمانه ويومه وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى وإن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح وإنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم وكان أبو جعفر يعتقد في أبو الحكم هذا أنه كان يتطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب اللّه تعالى انتهى ، واستخرج بعض العارفين كمحيي الدين قدس سره ، والعراقي ، وغيرهم المغيبات من القرآن العظيم أمر شهير وهو مبني على قواعد حسابية وأعمال حرفية لم يرد شيء منها عن سلف الأمة ولا حجر على فضل اللّه عزّ وجلّ وكتاب اللّه تعالى فوق ما يخطر للبشر ، وقد سئل علي كرم اللّه تعالى وجهه هل أسر إليكم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم شيئا كتمه عن غيركم فقال : لا إلّا أن يؤتي اللّه تعالى عبدا فهما في كتابه ،
هذا ونسأل اللّه سبحتانه أن يوفقنا لفهم أسرار كتابه بحرمة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وأصحابه.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل هذه الحالة ومن بعدها وهو حاصل ما قيل أي من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين ، وتقديم الخبر للتخصيص ، والمعنى أن كلا من كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس إلا بأمر اللّه تعالى شأنه وقضائه عزّ وجلّ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران : 140] وقرأ أبو السمال ، والجحدري عن العقيلي «من قبل ومن بعد» بالكسر والتنوين فيهما فليس هناك مضاف إليه مقدر أصلا على المشهور كأنه قيل : للّه الأمر قبلا وبعدا أي في زمان متقدم وفي زمان متأخر ، وحذف بعضهم الموصوف ، وذكر السكاكي أن المضاف إليه مقدر في مثل ذلك أيضا والتنوين عوض عنه ، وجوز الفراء الكسر من غير تنوين ، وقال الزجاج : إنه خطأ لأنه إما أن لا يقدر فيه الإضافة فينون أو يقدر فيبنى على الضم ، وأما تقدير لفظه قياسا على قوله : بين ذراعي وجبهة الأسد فقياس مع الفارق لذكره فيه بعد وما نحن فيه ليس كذلك ، وقال النحاس للفراء في كتابه : في القرآن أشياء كثيرة الغلط ، منها أنه زعم أنه يجوز «من قبل ومن بعد» بالكسر بلا تنوين وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على أنهما نكرتان أي من متقدم ومن متأخر ، وذهب إلى قول الفراء بن هشام في بعض كتبه ، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد «للّه الأمر من قبل ومن بعد» على أن الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين.
وَيَوْمَئِذٍ أي ويوم إذ يغلب الروم فارسا يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وتغليبه من له كتاب على من لا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 23
كتاب له وغيظ من شمتهم من كفار مكة وكون ذلك مما يتفاءل به لغلبة المؤمنين على الكفار ، وقيل : نصر اللّه تعالى صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس ، وقيل : نصره عزّ وجلّ أنه ولّى بعض الظالمين بعضا وفرق بين كلمتهم حتى تناقضوا وتحاربوا وقلل كل منهما شوكة الآخر ، وعن أبي سعيد الخدري أنه وافق ذلك يوم بدر ، وفيه من نصر اللّه تعالى العزيز للمؤمنين وفرحهم بذلك ما لا يخفى ، والأول أنسب لقوله تعالى : يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أي من يشاء أن ينصره من عباده على عدوه ويغلبه عليه فإنه استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى : لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ والظاهر أن (يوم) متعلق بيفرح وكذا بِنَصْرِ وجوز تعلق (يوم) به ، وكذا جوز تعلق بِنَصْرِ بالمؤمنين ، وقيل : يَوْمَئِذٍ عطف على قبل أو بعد كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال ثم ابتدأ الاخبار بفرح المؤمنين وَهُوَ الْعَزِيزُ المبالغ في العزة والغلبة فلا يعجزه من شاء أن ينصر عليه كائنا من كان الرَّحِيمُ المبالغ في الرحمة فينصر من يشاء أن ينصره أي فريق كان ، والمراد بالرحمة هنا هي الدنيوية ، أما على القراءة المشهورة فظاهر لأن كلا الفريقين لا يستحق الرحمة الأخروية ، وأما على القراءة الأخيرة فلأن المسلمين وإن كانوا مستحقين لها لكن المراد هاهنا نصرهم الذي هو من آثار الرحمة الدنيوية ، وتقديم وصف الْعَزِيزُ لتقدمه في الاعتبار.
وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة من قوله تعالى : سَيَغْلِبُونَ وقوله سبحانه : يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ويقال له المؤكد لنفسه لأن ذلك في معنى الوعد وعامله محذوف وجوبا كأنه قيل : وعد اللّه تعالى ذلك وعدا لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أي وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عزّ وجلّ ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للتعليل الحكمي وتفخيمه ، والجملة استئناف مقرر لمعنى المصدر ، وجوز أن يكون حالا منه فيكون كالمصدر الموصوف كأنه سبحانه يقول : وعد اللّه تعالى وعدا غير مخلف وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه تعالى لا يخلف وعده لجهلهم بشؤونه عزّ وجلّ وعدم تفكرهم فيما يجب له جلّ شأنه وما يستحيل عليه سبحانه أو لا يعلمون ما سبق من شؤونه جلّ وعلا ، وقيل : لا يعلمون شيئا أو ليسوا من أولي العلم حتى يعلموا ذلك يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهو ما يحسون به من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم الملائمة لأهوائهم المستدعية لانهماكهم فيها وعكوفهم عليها.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يعلمون منافعها ومضارها ومتى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يجمعون وكيف يبنون أي ونحو ذلك مما لا يكون لهم منه أثر في الآخرة ، وروي نحوه عن قتادة ، وعكرمة.
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية : بلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن يصلي ، وقال الكرماني : كل ما يعلم بأوائل الروية فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن وقيل : هو هنا التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وتعقب بأنهما ليسا مما علموه منها بل من أفعالهم المرتبة على علمهم ، وعن ابن جبير أن الظاهر هو ما علموه من قبل الكهنة مما تسترقه الشياطين ، وليس بشيء كما لا يخفى ، وأيا ما كان فالظاهر أن المراد بالظاهر مقابل الباطن ، وتنويه للتحقير والتخسيس أي يعلمون ظاهرا حقيرا خسيسا وقيل : هو بمعنى الزائل الذاهب كما في قول الهذلي :
وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
أي يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له ولا عاقبة من الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ التي هي الغاية القصوى والمطلب الأسنى هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم فكيف يتفكرون فيها وفيما يؤدي إلى معرفتها من الدنيا وأحوالها ،

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 24
والجملة معطوفة على يَعْلَمُونَ وإيرادها اسمية للدلالة على استمرار غفلتهم ودوامها ، وهُمْ الثانية تكرير للأولى وتأكيد لفظي لها دافع للتجوز وعدم الشمول ، والفصل بمعمول الخبر وإن كان خلاف الظاهر لكن حسنه وقوع الفصل في التلفظ والاعتناء بالآخرة أو هو مبتدأ وغافِلُونَ خبره والجملة خبر هُمْ الأولى ، وجملة يَعْلَمُونَ إلخ بدل من جملة لا يَعْلَمُونَ على ما ذهب إليه صاحب الكشف فإن الجاهل الذي لا يعلم أن اللّه لا يخلف وعده أو لا يعلم شؤونه تعالى السابقة ولا يتفكر في ذلك هو الذي قصر نظره على ظاهر الحياة الدنيا ، والمصحح للبدلية اتحاد ما صدقا عليه ، والنكتة المرجحة له جعل علمهم والجهل سواء بحسب الظاهر ، وجملة وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ إلخ مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضى الجملة السابقة تقريرا لجهالتهم وتشبيها لهم بالبهائم المقصور إدراكها على ظواهر الدنيا الخسيسة دون أحوالها التي هي من مبادئ العلم بأمور الآخرة.
واختار العلامة الطيبي أن جملة يَعْلَمُونَ إلخ استئنافية لبيان موجب جهلهم بأن وعد اللّه تعالى حق وأن للّه سبحانه الأمر من قبل ومن بعد وأنه جلّ شأنه ينصر المؤمنين على الكافرين ولعله الأظهر أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا إنكار واستقباح لقصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا مع الغفلة عن الآخرة ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، وقوله سبحانه : فِي أَنْفُسِهِمْ ظرف للتفكر ، وذكره مع أن التفكر لا يكون إلا في النفس لتحقيق أمره وزيادة تصوير حال المتفكرين كما في اعتقده في قلبك وأبصره بعينك ، وقوله عزّ وجلّ : ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق إما بالعلم الذي يؤدي إليه التفكر ويدل عليه أو بالقول الذي يترتب عليه كما في قوله تعالى : وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران : 191] أي أعلموا ظاهر الحياة الدنيا فقط أو أقصروا النظر على ذلك ولم يحدثوا التفكر في قلوبهم فيعلموا أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي هم من جملتها ملتبسة بشيء من الأشياء إلا ملتبسة بالحق أو يقولوا هذا القول معترفين بمضمونه إثر ما علموه ، والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق أن يثبت لا محالة لابتنائه على الحكم البالغة التي من جملتها استشهاد المكلفين بذواتها وصفاتها وأحوالها على وجود صانعها ووحدته وعلمه وقدرته واختصاصه بالمعبودية وصحة أخباره التي من جملتها إحياؤهم بعد الفناء بالحياة الأبدية ومجازاتهم بحسب أعمالهم عما يتبين المحسن من المسيء ويمتاز درجات افراد كل من الفريقين حسب امتياز طبقات علومهم واعتقاداتهم المترتبة على أنظارهم فيما نصب في المصنوعات من الآيات والدلائل والإمارات والمخايل كما نطق به قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك : 2] فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره عليه الصلاة والسلام
بقوله : «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم اللّه تعالى وأسرع في طاعة اللّه عزّ وجلّ».
وقوله سبحانه : وَأَجَلٍ مُسَمًّى عطف على الحق أي وبأجل معين قدره اللّه تعالى لبقائها لا بد لها من أن تنتهي إليه لا محالة وهو وقت قيام الساعة وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، هذا وجوز أن يكون قوله تعالى :
فِي أَنْفُسِهِمْ متعلقا بيتفكروا ومفعولا له بالواسطة على معنى أولم يتفكروا في ذواتهم وأنفسهم التي هي أقرب المخلوقات إليهم وهم أعلم بشؤونها وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها اللّه تعالى ظاهر أو باطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت. وتعقب بأن أمر معاد الإنسان ومجازاته بما عمل من الإساءة

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 25
والإحسان هو المقصود بالذات والمحتاج إلى الإثبات فجعله ذريعة إلى إثبات معاد ما عداه مع كونه بمعزل من الأجزاء تعكيس للأمر فتدبر. وجوز أبو حيان أن يكون ما خَلَقَ إلخ مفعول يَتَفَكَّرُوا معلقا عنه بالنفي ، وأنت تعلم أن التعليق في مثله ممنوع أو قليل ، وقوله تعالى :
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ تذييل مقرر لما قبله ببيان أن أكثرهم غير مقتصرين على ما ذكره من الغفلة من أحوال الآخرة والأعراض عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها من خلق السماوات والأرض وما بينهما من المصنوعات بل هم منكرون جاحدون لقاء حسابه تعالى وجزائه عزّ وجلّ بالبعث ، وهم القائلون بأبدية الدنيا كالفلاسفة على المشهور أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ توبيخ لهم بعدم اتعاظهم بمشاهدة أحوال أمثالهم الدالة على عاقبتهم ومآلهم والهمزة للإنكار التوبيخي أو الإبطالي وحيث دخلت على النفي وإنكار النفي إثبات قيل : إنها لتقرير المنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا في الأرض ، وقوله تعالى :
فَيَنْظُرُوا عطف على يسيروا داخل في حكمه والمعنى أنهم قد ساروا في أقطار الأرض وشاهدوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المهلكة كعاد ، وثمود ، وقوله تعالى : كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً إلخ بيان لمبدأ أحوالهم ومآلها يعني أنهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي قلبوها للحرث والزراعة كما قال الفراء ، وقيل : لاستنباط المياه واستخراج المعادن وغير ذلك.
وقرأ أبو جعفر «وآثاروا» بمدة بعد الهمزة ، وقال ابن مجاهد : ليس بشيء وخرج ذلك أبو الفتح على الإشباع كقوله.
ومن ذم الزمان بمنتزاح وذكر أن هذا من ضرورة الشعر ولا يجيء في القرآن ، وقرأ أبو حيوة وأثروا من الأثرة وهو الاستبداد بالشيء وآثروا الأرض أي أبقوا فيها آثارا وَعَمَرُوها أي وعمرها أولئك الذين كانوا قبلهم بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها ، وقيل : أي أقاموا بها ، يقال عمرت بمكان كذا وعمرته أي أقمت به أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي عمارة أكثر من عمارة هؤلاء إياها والظاهر أن الأكثرية اعتبارا لكم وعممه بعضهم فقال : أكثر كما وكيفا وزمانا ، وإذا أريد العمارة بمعنى الإقامة فالمعنى أقاموا بها إقامة أكثر زمانا من إقامة هؤلاء بها ، وفي ذكر أفعل تهكم بهم إذ لا مناسبة بن كفار مكة وأولئك الأمم المهلكة فإنهم كانوا معروفين بالنهاية في القوة وكثرة العمارة وأهل مكة ضعفا ملجؤون إلى واد غير ذي زرع يخافون أن يتخطفهم الناس ، ونحو هذا يقال إذا سرت العمارة بالإقامة فإن أولئك كانوا مشهورين بطول الأعمار جدا وأعمار أهل مكة قليلة بحيث لا مناسبة يعتد بها بينها وبين أعمال أولئك المهلكين.
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فكذبوهم فأهلكهم فما كان اللّه تعالى شأنه ليهلكهم من غير جرم يستدعيه من قبلهم ، وفي التعبير عن ذلك بالظلم اظهار لكمال نزاهته تعالى عنه وإلا فقد قال أهل السنة : إن إهلاكه تعالى من غير جرم ليس من الظلم في شيء لأنه عزّ وجلّ مالك والمالك يفعل بملكه ما يشاء والنزاع في المسألة شهير وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ارتكبوا باختيارهم من المعاصي ما أوجب بمقتضى الحكمة ذلك ، وتقديم أَنْفُسَهُمْ على يَظْلِمُونَ للفاصلة وجوز أن يكون للحصر بالنسبة إلى الرسل الذين يدعونهم ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا أي عملوا السيئات ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالإساءة والإشعار بعلة الحكم ، وثُمَّ للتراخي الحقيقي أو للاستبعاد والتفاوت في الرتبة السُّواى أي العقوبة السوأى وهي العقوبة بالنار فإنها تأنيث الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن أو مصدر كالبشرى وصف به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوء ، وهي مرفوعة على أنها اسم وكان خبرها عاقِبَةَ.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 26
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنه اسم كان و«السوأى» بالنصب على الخبرية ، وقرأ الأعمش ، والحسن «السوي» بإبدال الهمزة واوا وإدغام الواو فيها ، وقرأ ابن مسعود «السوء» بالتذكير أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ علة للحكم المذكور أي لأن أو بأن كذبوا وهو في الحقيقة مبين لما أشعر به وضع الموصول موضع الضمير لأنه مجمل.
وقوله تعالى : وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ عطف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم العلية وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده ، وجوز أن يكون السُّواى مفعولا مطلقا لأساؤوا من غير لفظه أو مفعولا به له لأن أساؤوا بمعنى اقترفوا واكتسبوا ، والسوأى بمعنى الخطيئة لأنه صفة أو مصدره مؤول بها وكونه صفة مصدر أساؤوا من لفظه أي الإساءة السوأى بعيد لفظا مستدرك معنى وأَنْ كَذَّبُوا اسم كان. وكون التكذيب عاقبتهم مع أنهم لم يخلوا عنه إما باعتبار استمراره أو باعتبار أنه عبارة عن الطبع ، وجوز أن يكون أن كذبوا بدلا من السُّواى الواقع اسما لكان أو عطف بيان لها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أن كذبوا ، وأن تكون أَنْ تفسيرية بمعنى أي والمفسر إما أساؤوا أو السُّواى فإن الإساءة تكون قولية كما تكون فعلية فإذن قبلها مضمن معنى القول دون حروفه ويظهر ذلك التضمن بالتفسير ، وإذا جاز وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص : 6] فهذا أجوز فليس هذا الوجه متكلفا خلافا لأبي حيان. وجوز في قراءة الحرميين ، وأبي عمرو وأن تكون السُّواى صلة الفعل وأَنْ كَذَّبُوا تابعا له أو خبر مبتدأ محذوف أو على تقدير حرف التعليل وخبر كان محذوفا تقديره وخيمة ونحوه وتعقب ذلك في البحر فقال : هو فهم أعجمي لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف وقد تكلف له محذوف لا يدل عليه دليل ، وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم.
وقرأ عبد اللّه وطلحة «يبدى ء» بضم الياء وكسر الدال ، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر فما بالعهد من قدم.
ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء ، وتقديم المعمول للتخصيص ، وكان الظاهر يرجعون بياء الغيبة إلا أنه عدل عنه إلى خطاب المشركين لمكافحتهم بالوعيد ومواجهتهم بالتهديد وإيهام إن ذلك مخصوص بهم فهو التفات للمبالغة في الوعيد والترهيب. وقرأ أبو عمرو ، وروح «يرجعون» بياء الغيبة كما هو الظاهر وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ التي هي وقت إعادة الخلق ومرجعهم إليه عزّ وجلّ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ أي يسكتون وتنقطع حجتهم ، قال الراغب : الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل ، ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قبل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته وأبلست الناقة فهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة «1» وقال ابن ثابت : يقال أبلس الرجل إذا يئس من كل خير ، وفي الحديث «وأنا مبشرهم إذا أبلسوا»
والمراد بالمجرمين على ما أفاده الطيبي أولئك الذين أساؤوا والسوأى لكنه وضع الظاهر موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بهذا الوصف الشنيع والإشعار بعلة الحكم.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه ، والسلمي «يبلس» بفتح اللام
وخرج على أن الفعل من أبلسه إذا أسكته ، وظاهره أنه يكون متعديا وقد أنكره أبو البقاء ، والسمين ، وغيرهما حتى تكلفوا وقالوا : أصله يبلس إبلاس المجرمين على إقامة المصدر مقام الفاعل ثم حذفه وإقامة المضاف إليه مقامه. وتعقبه الخفاجي عليه الرحمة فقال : لا يخفى عدم صحته لأن إبلاس المجرمين مصدر مضاف لفاعله وفاعله هو فاعل الفعل بعينه فكيف يكون نائب الفاعل فتأمل.
وأنت تعلم أنه متى صحت القراءة لا تسمع دعوى عدم سماع استعمال أبلس متعديا.
___________
(1) قوله «الضبعة» هي شدة شهوة الناقة للفحل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 27
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ ممن أشركوهم باللّه سبحانه في العبادة ولذا أضيفوا إليهم. وقيل : إن الإضافة لإشراكهم إياهم باللّه تعالى في أموالهم والمراد بهم الأوثان ، وقال مقاتل : الملائكة عليهم السلام ، وقيل : الشياطين ، وقيل : رؤساؤهم شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب اللّه تعالى كما كانوا يزعمون ، وجيء بالمضارع منفيا بلم التي تقلبه ماضيا للتحقق ، وصيغة الجمع لوقوعها في مقابلة الجمع لوقوعها في مقابلة أي لم يكن لواحد منهم شفيع أصلا.
وقرأ خارجة عن نافع ، وابن سنان عن أبي جعفر ، والأنطاكي عن شيبة «ولم تكن» بالتاء الفوقية.
وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ أي بإلهيتهم وشركتهم كما يشير إليه العدول عن وكانوا بهم كافِرِينَ حيث يئسوا منهم ووقفوا على كنه أمرهم ، وَكانُوا للدلالة على الاستمرار لا للمحافظة على رؤوس الفواصل كما توهم.
وقيل : إنها للمضي كما هو الظاهر ، والباء في بِشُرَكائِهِمْ سببية أي وكانوا في الدنيا كافرين باللّه تعالى بسببهم ولم يرتضه بعض الأجلة إذ ليس في الأخبار بذلك فائدة يعتد بها ، ولأن المتبادر أن يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف للإبلاس وما عطف عليه ولذا قيل : إن المناسب عليه جعل الواو حالية ليكون المعنى أنهم لم يشفعوا لهم مع أنهم سبب كفرهم في الدنيا وهو أحسن من جعله معطوفا على مجموع الجملة مع الظرف ، مع أنه عليه ينبغي القطع للاحتياط إلّا أن يقال : إنه ترك تعويلا على القرينة العقلية ، وهو خلاف الظاهر ، وكتب «شفعواء» في المصحف بواو بعدها ألف وهو خلاف القياس والقياس ترك الواو أو تأخيرها عن الألف لكن الأول أحسن كما ذكر في الرسم ، وكذا خولف القياس في كتابة السُّواى حيث كتبت بالألف قبل الياء والقياس كما في الكشف الحذف لأن الهمز يكتب على نحو ما يسهل وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أعيد لتهويله وتفظيع ما يقع فيه وهو ظرف للفعل بعده ، وقوله تعالى :
يَوْمَئِذٍ
على ما ذكره الطبرسي بدل منه.
وفي البحر التنوين في «يومئذ» تنوين عوض من الجملة المحذوفة أي ويوم تقوم الساعة يوم إذ يبلس المجرمون يَتَفَرَّقُونَ وظاهره أن «يومئذ» ظرف لتقوم ، ولا يخفى ما في جعل الجملة المعوض عنها التنوين حينئذ ما ذكره من النظر.
وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى : يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ تهويل ليوم قيام الساعة إثر تهويل وفيه رمز إلى أن التفرق يقع في بعض منه ، وفي وجه الرمز إلى ذلك بما ذكر خفاء ، وضمير يَتَفَرَّقُونَ للمسلمين والكافرين الدال عليهما ، ما قبل من عموم الخلق وما بعد من التفصيل ، وذهب إلى ذلك الزمخشري ، وجماعة.
وقال في الإرشاد : هو لجميع الخلق المدلول عليهم بما تقدم من مبدئهم ومرجعهم وإعادتهم لا المجرمون خاصة ، وقال أبو حيان : يظهر أنه عائد على الخلق قبله وهو المذكور في قوله تعالى : اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ والمراد بتفرقهم اختلافهم في المحال والأحوال كما يؤذن به التفصيل ، وليس ذلك باعتبار كل فرد بل باعتبار كل فريق ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في ذلك هؤلاء في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين ، والتفصيل يؤذن بذلك أيضا ، وهذا التفرق بعد تمام الحساب.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ الروضة الأرض ذات النبات والماء ، وفي المثل أحسن من بيضة في روضة يريدون بيضة النعامة ، وباعتبار الماء قيل : أرض الوادي واستراض أي كثر ماؤه وأراضهم أرواهم بعض الري من أراضي الحوض إذا صب فيه من الماء ما يوارى أرضه ، ويقال : شربوا حتى أراضوا أي شربوا عللا بعد نهل. وقيل : معنى أراضوا صبوا اللبن على اللبن ، وظاهر تفسير الكثير للروضة اعتبار النبات والماء فيها ، وأظن أن ابن قتيبة صرح بأنه لا يقال الأرض ذات نبات بلا ماء روضة.
وقيل : هي البستان الحسن ، وقيل : موضع الخضرة ، وقال الخفاجي : الروضة البستان وتخصيصها بذات الأنهار

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 28
بناء على العرف ، وأيّا ما كان فتنوينها هنا للتفخيم والمراد بها الجنة ، والحبر السرور يقال : حبره يحبره بالضم حبرا وحبرة وحبورا إذا سره سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره ، وفي المثل امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة ، وحكى الكسائي حبرته أكرمته ونعمته ، وقيل : الحبرة كل نعمة حسنة والتحبير التحسين ، ويقال : فلان حسن الحبر والسبر بالفتح إذا كان جميلا حسن الهيئة ، واختلفت الأقوال في تفسيره هنا فأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ، وابن أبي حاتم عن الضحاك أنهما قالا : يحبرون يكرمون.
وأخرج جماعة عن مجاهد يحبرون ينعمون ، وقال أبو بكر بن عياش : يتوجهون على رؤوسهم.
وقال ابن كيسان : يحلون ، وقال الأوزاعي ، ووكيع ، ويحيى بن أبي كثير : يسمعون الأغاني ، وأخرج عبد بن حميد عن الأخير أنه قال : قيل يا رسول اللّه ما الحبر؟ فقال عليه الصلاة والسلام : اللذة والسماع.
وذكر بعضهم أن الظاهر يسرون ولم يذكر ما يسرون به إيذانا بكثرة المسار وما جاء في الخبر فمن باب الاقتصار على البعض ، ولعل السائل كان يحب السماع فذكره صلى اللّه تعالى عليه وسلم له لذلك ، والتعبير بالمضارع للإيذان بتجدد السرور لهم ففي كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا التي من جملتها الآيات الناطقة بما فصل وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي وكذبوا بالبعث ، وصرح بذلك مع اندراجه في تكذيب الآيات للاعتناء به ، وقوله تعالى : فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب بآياته تعالى وبلقاء الآخرة للإيذان بكمال تميزهم بذلك عن غيرهم وانتظامهم في سلك المشاهدات ، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار ببعد منزلتهم في الشر أي فأولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ على الدوام لا يغيبون عنه أبدا ، والظاهر أن الفسقة من أهل الإيمان غير داخلين في أحد الفريقين أما عدم دخولهم في الذين كفروا وكذبوا بالآيات والبعث فظاهر وأما عدم دخولهم في الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإما لأن ذلك لا يقال في العرف إلّا على المؤمنين المجتنبين المفسقات على ما قيل ، وإما لأن المؤمن الفاسق يصدق على المؤمن الذي لم يعمل شيئا من الصالحات أصلا فهم غير داخلين في ذلك باعتبار جميع الأفراد وحكمهم معلوم من آيات أخر فلا تغفل.
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ أثر ما بين حال فريقي المؤمنين العاملين بالصالحات والكافرين المكذبين بالآيات وما لهما من الثواب والعقاب أرشد سبحانه إلى ما ينجي من الثاني ويفضي إلى الأول من تنزيه اللّه عزّ وجلّ عن كل ما لا يليق بشأنه جلّ شأنه ومن حمده تعالى والثناء عليه ووصفه بما هو أهله من الصفات الجميلة والشؤون الجليلة ، وتقديم الأول على الثاني لما أن التخلية متقدمة على التحلية مع أنه أول ما يدعي إليه الذين كفروا المذكورون قبل بلا فصل ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وظاهر كلامهم أن (سبحان) هنا منصوب بفعل أمر محذوف فكأنه قيل : إذا علمتم ذلك أو إذا صح واتضح حال الفريقين ، ومآلهما فسبحوا سبحان اللّه إلخ أي نزهوه تعالى تنزيهه اللائق به عزّ وجلّ في هذه الأوقات ، قال في الكشف : وفيه إشكال لأن سبحان اللّه لزم طريقة واحدة لا ينصبه فعل الأمر لأنه إنشاء من نوع آخر ، والجواب أن ذلك توضيح للمعنى وأن وقوعه جواب الشرط على منوال إن فعلت كذا فنعم ما فعلت فإنه إنشاء أيضا لكنه ناب مناب الخبر وأبلغ ، كذلك هو لإنشاء تنزيهه تعالى في الأوقات هربا من وبيل عقابه وطلبا لجزيل ثوابه ، والشرط والجواب مقول على ألسنة العباد انتهى ، وفي حواشي شيخ زاده أن الأمر بل الجملة الإنشائية مطلقا لا يصح تعليقها بالشرط لأن الإنشاء إيقاع المعنى بلفظ يقارنه ولو جاز تعليقه للزم تأخره عن زمان التلفظ وأنه غير جائز وإنما المعلق بالشرط هو الإخبار عن إنشاء التمني والترجي وإنشاء المدح والذم والاستفهام ونحوها فإذا قلت : إن فعلت كذا غفر اللّه تعالى لك

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 29
أو فنعم ما فعلت كان المعنى فقد فعلت ما تستحق بسببه أن يغفر اللّه تعالى لك أو أن تمدح بسببه إلّا أن الجملة الإنشائية أقيمت مقامه للمبالغة للدلالة على الاستحقاق فمعنى الآية إذا كان الأمر كما تقرر فأنتم تسبحون اللّه تعالى في الأوقات المذكورة وهو في معنى الأمر بالتسبيح فيها انتهى.
ولعله أظهر مما في الكشف بل لا يظهر ما ذكر فيه من دعوى أن الشرط والجواب مقول على ألسنة العباد.
ويوهم كلام بعضهم أن الكلام بتقدير القول حيث قال : كأنه قيل إذا صح واتضح عاقبة المطيعين والعاصين فقولوا : نسبح سبحان إلخ ، والمعنى فسبحوه تسبيحا في الأوقات ، ولا يخفى ما فيه ، وكأني بك تمنع لزوم سبحان طريقة واحدة وهي التي ذكرت أولا ، ويجوز نصب فعل الأمر لها إذا اقتضاه المقام وأشعر به الكلام ، ولكن كأنك تميل إلى اعتبار كون الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى بأن يراد بها الأمر لتوافق جملة لَهُ الْحَمْدُ فإنها وإن كانت خبرية إلّا أن الأخبار بثبوت الحمد له تعالى ووجوبه على المميزين من أهل السماوات والأرض كما يشعر به اتباع ذلك. ذكر الوعد والوعيد وتفريعه عليه بالفاء في معنى الأمر به على أبلغ وجه على ما صرح به بعض الأجلة فكأنه حينئذ قد قيل :
فسبحوا اللّه تعالى تسبيحه اللائق به سبحانه في هذه الأوقات واحمدوه ، وظاهر كلام الأكثرين أن جملة لَهُ الْحَمْدُ إلخ معطوفة على الجملة التي قبلها وأن عَشِيًّا معطوف على حِينَ تُمْسُونَ بل هم صرحوا بهذا ، وعلى ما ذكر يكون جملة لَهُ الْحَمْدُ فاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وما أشبه الآية حينئذ بآية الوضوء على ماذهب إليه أهل السنة. وفي الكشاف أن عَشِيًّا متصل بقوله تعالى : حِينَ تُمْسُونَ وقوله تعالى : وَلَهُ الْحَمْدُ إلخ اعتراض بينهما ، ومعناه أن على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه.
وإلى كون الجملة معترضة ذهب أبو البقاء أيضا ، وجعل قوله تعالى : فِي السَّماواتِ حالا من الحمد ، وفي جواز مجيء الحال منه على احتمال كونه مبتدأ وهو الظاهر خلاف ، ولعل من لا يجوّز ذلك يجعل الجار متعلقا بالثبوت الذي تقتضيه النسبة ، والمراد بالتسبيح والحمد ظاهرهما على ما ذهب إليه جمع من الأجلة ، وقيل : المراد بالتسبيح الصلاة وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال : جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال : نعم فقرأ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ صلاة المغرب وَحِينَ تُصْبِحُونَ صلاة الصبح وَعَشِيًّا صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الظهر ، وقرأ «ومن بعد صلاة العشاء» وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ الفجر وَعَشِيًّا العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظهر ، وذهب الحسن إلى ذلك حتى أنه ذهب إلى أن الآية مدنية لما أنه يرى فرضية الخمس بالمدينة وأنه كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقت الصلاة فيه ، والصحيح أنها فرضت بمكة ويدل عليه حديث المعراج دلالة بينة.
واختار الإمام الرازي حمل التسبيح على التنزيه فقال : إنه أقوى والمصير إليه أولى لأنه يتضمن الصلاة وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعا وهو العمل الصالح ، والأول هو الأصل والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني ، وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحوال أفعاله واللسان ترجمان الجنان والأركان برهان اللسان لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان وهي مشتملة على الذكر باللسان والقصد بالجنان فهو تنزيه في التحقيق ، فإذا قال سبحانه نزهوني وهذا نوع من أنواع التنزيه والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع فيجب حمله على كل ما هو تنزيه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 30
فيكون هذا أمرا بالصلاة ، ثم إن قولنا يناسبه ما تقدم وذلك لأن اللّه تعالى لما بين أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل الصالحات حيث قال عزّ وجلّ : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال سبحانه : إذا علمتم أن ذلك المقام لمن آمن وعمل الصالحات والإيمان تنزيه بالجنان وتوحيد باللسان والعمل الصالح استعمال الأركان فالكل تنزيهات وتحميدات فسبحان اللّه أي فأتوا بذلك الذي هو الموصل إلى الحبور في الرياض والحضور على الحياض ا ه ، وأنا بالإمام أقتدي في دعوى أولوية الحمل على الظاهر ، واختار أيضا أن قوله تعالى : لَهُ الْحَمْدُ اعتراض مؤكد بين المعطوف والمعطوف عليه مطلقا ومعناه على ما سمعت عن الكشاف أن على المميزين كلهم أن يحمدوه فإن حمل التسبيح على الصلاة فهو كلام يؤكد الوجوب لأن الحمد يتجوز به عن الصلاة كالتسبيح ، ووجه التأكيد دلالته على أنه أمر عم المكلفين من أهل السماوات والأرض ، وأن حمل على الظاهر فوجهه أن ذلك جار مجرى الاستدراك للأمر بالتسبيح ، ولما كان من واد واحد كان كل منهما مؤكدا للآخر فدل على دوام وجوب الحمد في الأوقات ووجوب التسبيح على أهل السماوات والأرض ، وأما الدلالة على الوجوب فمن اتباع سبحان اللَّهِ إلخ ذكر الوعد والوعيد بالفاء فإنه يفهم تعين ذلك طريقا للخلاص عن الدركات والوصول إلى الدرجات وما يتعين طريقا لذلك كان واجبا كذا في الكشف.
وذكر الإمام أن في هذا الاعتراض لطيفة وهو أن اللّه تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه قال جلّ وعلا : بين لهم أن تسبيحهم اللّه تعالى لنفعهم لا لنفع يعود إلى اللّه عزّ وجلّ فعليهم أن يحمدوا اللّه تعالى إذا سبحوه جلّ شأنه ، وهذا كما في قوله تعالى : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات : 17].
وجوز بعضهم كون عَشِيًّا معطوفا على قوله تعالى : فِي السَّماواتِ ورد بأنه لا يعطف ظرف الزمان على المكان ولا عكسه ، وقيل : يحتمل أن يكون معطوفا على مقدر أي وله الحمد في السماوات والأرض دائما وعشيا على أنه تخصيص بعد تعميم والجملة اعتراضية أو حالية وهو كما ترى ، وتخصيص الأوقات المذكورة بالذكر لظهور آثار القدرة والعظمة والرحمة فيها ، وقدم الإمساء على الإصباح لتقدم الليل والظلمة ، وقدم العشي على الإظهار لأنه بالنسبة إلى الإظهار كالإمساء بالنسبة إلى الإصباح. وفي البحر قوبل بالعشي الإمساء وبالإظهار الإصباح لأن كلا منهما يعقب بما قابله فالعشي يعقبه الإمساء والإصباح يعقبه الإظهار ، وقال العلامة أبو السعود : إن تقديم عَشِيًّا على حِينَ تُظْهِرُونَ لمراعاة الفواصل وليس بذاك وذكر الإمام أنه قدم الإمساء على الإصباح هاهنا وأخر في قوله تعالى :
سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب : 42] لأن أول الكلام هاهنا ذكر الحشر والإعادة وكذا آخره والإمساء آخر فذكر الآخر أولا لتذكر الآخرة ، وتغيير الأسلوب في عَشِيًّا لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي كالمساء والصباح والظهيرة ، ولعل السر في ذلك على ما قيل : إنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها كالأوقات المذكورة فإن كلا منها وقت يتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا ، أما في المساء والصباح فظاهر. وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة كما مرت إليه الإشارة في سورة النور ، هذا وفضل التسبيح والتحميد أظهر من أن يستدل عليه ، وذكروا في فضل ما تضمنته الآية عدة أخبار ،
فأخرج الإمام أحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «ألا أخبركم لم سمى اللّه تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه يقول كلما أصبح وأمسى سبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون»
.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 31
وأخرج أبو داود ، والطبراني ، وابن السني ، وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «من قال حين يصبح سبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون إلى قوله تعالى : وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته»
إلى غير ذلك من الأخبار ، ولعل فيه تأييدا لكون فَسُبْحانَ إلخ مقولا على ألسنة العباد فتأمل. وقرأ عكرمة «حين تمسون وحينا تصبحون» بتنوين حين فالجملة صفة حذف منها العائد والتقدير تمسون فيه وتصبحون فيه ، وعلى قراءة الجمهور الجملة مضاف إليها ولا تقدير للضمير أصلا يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الإنسان من النطفة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ النطفة من الإنسان وهو التفسير المأثور عن ابن عباس ، وابن مسعود ، ولعل مرادهما التمثيل ، وعن مجاهد يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن ، وقيل :
أي يعقب الحياة بالموت وبالعكس وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها فالإحياء والموت مجازان وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإخراج البديع الشأن تُخْرَجُونَ من قبوركم. وقرأ ابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش «تخرجون» بفتح التاء وضم الراء ، وهذا على ما قيل نوع تفصيل لقوله تعالى : يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم : 11] وَمِنْ آياتِهِ الباهرة الدالة على أنكم تبعثون دلالة أوضح من دلالة ما سبق فإن دلالة بدأ خلقهم على إعادتهم أظهر من دلالة إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ومن دلالة إحياء الأرض بعد موتها عليها أَنْ خَلَقَكُمْ أي في ضمن خلق آدم عليه السلام لما مر مرارا من أن خلقه عليه السلام منطو على خلق ذرياته انطواء إجماليا مِنْ تُرابٍ لم يشم رائحة الحياة قط ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم ، وقيل : خلقهم من تراب لأنه تعالى خلق مادتهم منه فهو مجاز أو على تقدير مضاف ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي في الأرض تتصرفون في أغراضكم وأسفاركم ، وإِذا فجائية وثُمَّ على ما ذهب إليه أبو حيان للتراخي الحقيقي لما بين الخلق والانتشار من المدة ، وقال العلامة الطيبي : إنها للتراخي الرتبي لأن المفاجأة تأبى الحقيقي. ورد بأنه لا مانع من أن يفاجىء أحدا أمر بعد مضي مدة من أمر آخر أو أحدهما حقيقي والآخر عرفي.
وتعقب بأنه على تسليم صحته يأباه الذوق فإنه كالجمع بين الضب والنون فما ذكره الطيبي أنسب بالنظم القرآني ، والظاهر أن الجملة معطوفة على المبتدأ قبلها وهي بتأويل مفرد كأنه قيل : ومن آياته خلقكم من تراب ثم مفاجأتكم وقت كونكم بشرا منتشرين كذا قيل ، وفي وقوع الجملة مبتدأ بمثل هذا التأويل نظر إلا أن يقال : إنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ويتخيل من كلام بعضهم أن العطف على خَلَقَكُمْ بحسب المعنى حيث قال : أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين ، ويفهم من كلام صاحب الكشف في نظير الآية أعني قوله تعالى الآتي : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أنه أقيمت الجملة مقام المفرد من حيث المعنى لأنها تفيد فائدته ، والكلام على أسلوب مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران : 97] لأنه في معنى وأمن داخله ، وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ وفائدة هذا الأسلوب الإشعار بأن ذلك آية خارجة من جنس الآيات مستقلة بشأنها مقصودة بذاتها فتأمل وَمِنْ آياتِهِ الدالة على البعث أيضا أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أي لأجلكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم عليه السلام متضمن لخلقهن من أنفسكم على ما عرفت من التحقيق - فمن - تبعيضية والأنفس بمعناها الحقيقي ، ويجوز أن تكون مِنْ ابتدائية والأنفس مجاز عن الجنس أي خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر ، قيل : وهو الأوفق بقوله تعالى : لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي لتميلوا إليها يقال : سكن إليه إذا مال فإن المجانسة من دواعي النظام والتعارف كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ أي بين الأزواج إما على تغليب الرجال على النساء في الخطاب أو على حذف ظرف معطوف على الظرف المذكور
أي جعل بينكم وبينهن كما في قوله تعالى : لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 32
رُسُلِهِ
[البقرة : 285] وقيل : بين أفراد الجنس أو بين الرجال والنساء ، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى : مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فإن المراد بهما ما كان منهما بعصمة الزواج قطعا أي جعل بينكم بالزواج الذي شرعه لكم توادا وترحما من غير أن يكون بينكم سابقة معرفة ولا مرابطة مصححة للتعاطف من قرابة أو رحم. قيل : المودة والرحمة من اللّه تعالى والفرك وهو بغض أحد الزوجين الآخر من الشيطان.
وقال الحسن ومجاهد وعكرمة المودة كناية عن النكاح والرحمة كناية عن الولد ، وكون المودة بمعنى المحبة كناية عن النكاح أي الجماع للزومها له ظاهر ، وأما كون الرحمة كناية عن الولد للزومها له فلا يخلو عن بعد ، وقيل :
مودة للشابة ورحمة للعجوز ، وقيل : مودة للكبير ورحمة للصغير ، وقيل : هما اشتباك الرحم والكل كما ترى إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من خلقهم من تراب وخلق أزواجهم من أنفسهم وإلقاء المودة والرحمة فهو إشارة إلى جميع ما تقدم ، وقيل : إلى ما قبله وليس بذاك ، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإشعار ببعد منزلته لَآياتٍ عظيمة لا يكتنه كنهها كثيرة لا يقادر قدرها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في تضاعيف تلك الأفاعيل المبنية على الحكم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله مع التنبيه على أن ما ذكر ليس بآية فذة بل هي مشتملة على آيات شتى وإنها تحتاج إلى تفكر كما تؤذن بذلك الفاصلة. وذكر الطيبي أنه لما كان القصد من خلق الأزواج والسكون إليها وإلقاء المحبة بين الزوجين ليس مجرد قضاء الشهوة التي يشترك بها البهائم بل تكثير النسل وبقاء نوع المتفكرين الذين يؤديهم الفكر إلى المعرفة والعبادة التي ما خلقت السماوات والأرض إلا لها ناسب كون المتفكرين فاصلة هنا وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي لغاتكم بأن علم سبحانه كل صنف لغته أو ألهمه جلّ وعلا وضعها وأقدره عليها فصار بعض يتكلم بالعربية وبعض بالفارسية وبعض بالرومية إلى غير ذلك مما اللّه تعالى أعلم بكميته. وعن وهب أن الألسنة اثنان وسبعون لسانا في ولد حام سبعة عشر وفي ولد سام تسعة عشر ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون ، وجوز أن يراد بالألسنة أجناس النطق وأشكاله فقد اختلف ذلك اختلافا كثيرا فلا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجه ، ولعل هذا أولى مما تقدم.
والإمام حكى الوجه الأول وقدم عليه ما هو ظاهر في أن المراد بالأسنة الأصوات والنغم ونص على أنه أصح من المحكي وَأَلْوانِكُمْ بياض الجلد وسواده وتوسط فيما بينهما أو تصوير الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحلاها بحيث وقع التمايز بين الأشخاص حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة وإن كانا في غاية التشابه ، فالألوان بمعنى الضروب والأنواع كما يقال : ألوان الحديث وألوان الطعام ، وهذا التفسير أعم من الأول ، وإنما نظم اختلاف الألسنة والألوان في سلك الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم للإيذان باستقلاله والاحتراز عن توهم كونه من متممات خلقهم إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لَآياتٍ عظيمة كثيرة لِلْعالِمِينَ أي المتصفين بالعلم كما في قوله تعالى : وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت : 43] وقرأ الكثير «العالمين» بفتح اللام ، وفيه دلالة على وضوح الآيات وعدم خفائها على أحد من الخلق كافة وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ أي نومكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ لاستراحة القوى النفسانية وتقوي القوى الطبيعية وَابْتِغاؤُكُمْ أي طلبكم مِنْ فَضْلِهِ أي بالليل والنهار ، وحذف ذلك لدلالة ما قبل عليه ، ونظيره قوله :
عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ومقتلهم عند الوغى كان أغدرا
فإنه أراد يقتلون نفوسهم عند السلم وحذف لدلالة الوغى في الشطر الثاني عليه ، والنوم بالليل والابتغاء من

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 33
الفضل أي الكسب بالنهار أمران معتادان ، وأما النوم بالنهار فكنوم القيلولة ، وأما الكسب بالليل فكما يقع من بعض المكتسبين ، وأهل الحرف من السعي والعمل ليلا لا سيما في أطول الليالي وعدم وفاء نهارهم بأغراضهم ، ومن ذلك حراسة الحوانيت بالأجرة وكذا قطع البراري في الأسفار ليلا للتجارة ونحوها ، وقال الزمخشري : وهذا من باب اللف وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلّا أنه فصل بين القرينين الأولين أعني منامكم وابتغاؤكم بالقرينين الآخرين أعني الليل والنهار لأنهما ظرفان والظرف والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد وهو الوجه الظاهر لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دلّ عليه القرآن انتهى ، والظاهر أنه أراد باللف الاصطلاحي ولا يأبى ذلك توسيط الليل والنهار لأنهما في نية التأخير وإنما وسطا للاهتمام بشأنهما لأنهما من الآيات في الحقيقة لا المنام والابتغاء على ما حققه في الكشف مع تضمن توسيطهما مجاورة كل لما وقع فيه فالجار والمجرور وقيل حال مقدمة من تأخير أي كائنين بالليل والنهار ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي ذلك بالليل والنهار ، والجملة في النظم الكريم معترضة ، وعلى كلا القولين لا يرد على الزمخشري لزوم كون النهار معمولا للابتغاء مع تقدمه عليه وعطفه على معمول مَنامُكُمْ وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه جلّ وعلا.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي شأنهم أن يسمعوا الكلام سماع تفهم واستبصار ، وفيه إشارة إلى ظهور الأمر بحيث يكفي فيه مجرد السماع لمن له فهم وبصيرة ولا يحتاج إلى مشاهدة وإن كان مشاهدا.
وقال الطيبي : جيء بالفاصلة هكذا لأن أكثر الناس منسدحون بالليل كالأموات ومتردّدون بالنهار كالبهائم لا يدرون فيم هم ولم ذلك لكن من ألقى السمع وهو شهيد يتنبه لوعظ اللّه تعالى ويصغي إليه لأن مر الليالي وكر النهار ينادينان بلسان الحال الرحيل الرحيل من دار الغرور إلى دار القرار كما قال تعالى : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان : 62] وذكر الإمام أن من الأشياء ما يحتاج في معرفته إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهم إذا سمع من ذلك المرشد ، ولما كان المنام والابتغاء قد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد فيحتاج معرفة أنهما من آياته تعالى إلى مرشد يعين الفكر قيل : لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فكأنه قيل : لقوم يسمعون ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد انتهى ولعل الاحتياج إلى مرشد يعين الفكر في أن الليل والنهار من الآيات بناء على ما سمعت في بيان نكتة التوسيط أظهر فتأمل وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ذهب أبو علي إلى أنه بتقدير أن المصدرية والأصل أن يريكم فحذف أن وارتفع الفعل وهو الشائع بعد الحذف في مثل ذلك ، وشذ بقاؤه منصوبا بعده وقد روي بالوجهين قول طرفة :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وجوز كونه مما نزل فيه الفعل منزلة المصدر فلا تقدر أن بل الفعل مستعمل في جزء معناه وهو الحدث مقطوع فيه النظر عن الزمان فيكون اسما في صورة الفعل فيريكم بمعنى الرؤية ، وحمل على ذلك في المشهور قولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، وجوز فيه أن يكون مما حذف فيه أن وأيد بأنه روي فيه تسمع بالنصب أيضا ولم يرتضه بعض الأجلة لأن المعنى ليس على الاستقبال ، وأما أن تراه فالاستقبال فيه بالنسبة إلى السماع فلا ينافيه ، ومثله قوله :
فقالوا ما تشاء فقلت ألهو إلى الإصباح آثر ذي أثير
ورجح الحمل على التنزيل منزلة اللازم دلالة على أنه كالحال اهتماما بشأن المراد لقوله : آثر ذي أثير ، والتعليل بأن ما تشاء سؤال عما يشاؤوه في الحال وأن للاستقبال ليس بالوجه لأن المشيئة تتعلق بالمستقبل أبدا ، وقال الجامع

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 34
الأصفهاني : تقدير الآية ومن آياته آية يريكم البرق على أن يُرِيكُمُ صفة وحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه كما في قوله :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي فمنهما تارة أموت قيل فلا بد من راجع فقدر فيها أو بها ، ونص على الثاني الرماني كما في البحر وكلاهما لا يسد - كما في الكشف - عليه المعنى ، وقيل : التقدير ومن آياته البرق ثم استؤنف يريكم البرق ، وقيل : مِنْ آياتِهِ حال من البرق أي يريكم البرق حال كونه من آياته ، وجوز أبو حيان تعلقه يريكم ومِنْ لابتداء الغاية وفيه مخالفة لنظرائه.
وفي الكشف لعل الأوجه أن يكون من آياته خبر مبتدأ محذوف أي من آياته ما يذكر أو ما يتلى عليكم ثم قيل :
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ بيانا لذلك ثم قال : وهذا أقل تكلفا من الكل ، وأنت تعلم أن الأوجه ما توافق الآية به نظائرها.
خَوْفاً أي من الصواعق وَطَمَعاً في المطر قاله الضحاك ، وقال قتادة : خوفا للمسافر لأنه علامة المطر وهو يضره لعدم ما يكنه ولا نفع له فيه وطمعا للمقيم ، وقيل : خوفا أن يكون خلبا وطمعا أن يكون ماطرا وقال ابن سلام : خوفا من البرد أن يهلك الزرع وطمعا في المطر ، ونصبهما على العلة عند الزجاج ، وهو على مذهب من لا يشترط في نصب المفعول له اتحاد المصدر والفعل المعلل في الفاعل ظاهر وأما على مذهب الأكثرين المشترطين لذلك فقيل في توجيهه : إن ذلك على تقدير مضاف أي إرادة خوف وطمع أو على تأويل الخوف والطمع بالإخافة والأطماع إما بأن يجعل أصلهما ذلك على حذف الزوائد أو بأن يجعلا مجازين عن سببيهما.
وقيل : إن ذلك لأن إراءتهم تستلزم رؤيتهم فالمفعولون فاعلون في المعنى فكأنه قيل : لجعلكم رائين خوفا وطمعا.
واعترض بأن الخوف والطمع ليسا غرضين للرؤية ولا داعيين لها بل يتبعانها فكيف يكونان علة على فرض الاكتفاء بمثل ذلك عند المشترطين ، ووجه بأنه ليس المراد بالرؤية مجرد وقوع البصر بل الرؤية القصدية بالتوجه والالتفات فهو مثل قعدت عن الحرب جبنا ولم يرتض ذلك أبو حيان أيضا ثم قال : لو قيل على مذهب المشترطين أن التقدير يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا فحذف العامل للدلالة عليه لكان إعرابا سائغا ، وقيل : لعل الأظهر نصبهما على العلة للإراءة لوجود المقارنة والاتحاد في الفاعل فإن اللّه تعالى هو خالق الخوف والطمع ، وكون معنى قول النحاة لا بد أن يكون المفعول له فعل الفاعل أنه لا بد من كونه متصفا به كالإكرام في قولك : جئتك إكراما لك أن سلم فلا حجر من الانتصاب على التشبيه في المقارنة والاتحاد المذكور.
وتعقب بأن كون المعنى ما ذكر مما لا شبهة فيه وقد ذكره صاحب الانتصاف وغيره فإن الفاعل اللغوي غير الفاعل الحقيقي فالتوقف فيه وادعاء أنه لا حجر من الانتصاب على التشبيه مما لا وجه له ، وأنا أميل إلى عدم اشتراط الاتحاد في الفاعل لكثرة النصب مع عدم الاتحاد كما يشهد بذلك التتبع والرجوع إلى شرح الكافية للرضى ، والتأويل مع الكثرة مما لا موجب له ، وجوز أن يكون النصب هنا على المصدر أي تخافون خوفا وتطمعون طمعا على أن تكون الجملة حالا ، وأولى منه أن يكونا نصبا على الحال أي خائفين وطامعين.
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً وقرأ غير واحد بالتخفيف فَيُحْيِي بِهِ أي بسبب الماء الْأَرْضَ بأن يخرج سبحانه به النبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع جلّ شأنه وحكمته سبحانه ، وقال الطيبي : لما كان ما ذكر تمثيلا لإحياء

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 35
الناس وإخراج الموتى وكان التمثيل لإدناء المتوهم المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة لقوم يعقلون. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ. أي بقوله تعالى قوما أو بإرادته عزّ وجلّ ، والتعبير عنها بالأمر للدلالة على كمال القدرة والغنى عن المبادئ والأسباب ، وليس المراد بإقامتهما إنشاءهما لأنه قد بين حاله بقوله تعالى : وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس كما قيل فإن ذلك من تتمات إنشائهما وإن لم يصرح به تعويلا على ما ذكر في موضع آخر من قوله تعالى : خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [لقمان : 10] الآية بل قيامهما وبقاؤهما على ما هما عليه إلى أجلهما الذي أشير إليه بقوله تعالى فيما قبل : ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم : 8].
ولما كان البقاء مستقبلا باعتبار أواخره وما بعد نزول هذه الآية أظهرت هنا كلمة أَنْ التي هي علم في الاستقبال. والإمام ذهب إلى أن القيام بمعنى الوقوف وعدم النزول ثم قال على ما لخصه بعضهم : ذكرت أَنْ هاهنا دون قوله تعالى : وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل - بأن - العلم في الاستقبال وجعل مصدرا ليدل على الثبوت ، وإراءة البرق لما كانت من الأمور المتجددة جيء بلفظ المستقبل ولم يذكر معه ما يدل على المصدر ا ه ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ إِذا الأولى شرطية والثانية فجائية نائية مناسب الفاء في الجزاء لاشتراكهما في التعقيب. والجملة الشرطية قيل : معطوفة على أَنْ تَقُومَ على تأويل مفرد كأنه قيل : ومن آياته قيام السماء والأرض بأمره ثم خروجكم من قبوركم بسرعة إذا دعاكم ، وصاحب الكشف يقول : إنها أقيمت مقام المفرد من حيث المعنى وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ وذلك على أسلوب مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران : 97] وفائدته ما سمعته قريبا ، وظاهر كلام بعض الأفاضل أن العطف عليه ظاهر في عدم قصد عد ما ذكر آية.
واختار أبو السعود عليه الرحمة كون العطف من عطف الجمل وأن المذكور ليس من الآيات قال : حيث كانت آية قيام السماء والأرض بأمره تعالى متأخرة عن سائر الآيات المعدودة متصلة بالبعث في الوجود أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا فقيل : ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ الآية ، والكلام مسوق للأخبار بوقوع البعث ووجوده بعد انقضاء أجل قيامهما مترتب على تعدد آياته تعدد آياته تعالى الدالة عليه غير منتظم في سلكها كما قيل كأنه قيل : ومن آياته قيام السماء والأرض على هيئتهما بأمره عزّ وجلّ إلى أجل مسمى قدره اللّه تعالى لقيامهما ثم إذا دعاكم أي بعد انقضاء الأجل في الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال سبحانه : أيها الموتى أخرجوا فجأتم الخروج منها ، ولعل ما أشار إليه صاحب الكشف أدق وأبعد مغزى فتأمل ، وَمِنَ الْأَرْضِ متعلق بدعا ومِنْ لابتداء الغاية ويكفي في ذلك إذا كان الداعي هو اللّه تعالى نفسه لا الملك بأمره سبحانه كون المدعو فيها يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بدعوة فإنه إذا جاء نهر اللّه جلّ وعلا بطل نهر معقل.
نعم جوز كون ذلك صفة لها وأن يكون حالا من الضمير المنصوب ولا يتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها ، وقال ابن عطية : إن مِنْ عندي لانتهاء الغاية وأثبت ذلك سيبويه ، وقال أبو حيان : إنه قول مردود عند أصحابنا ، وظواهر الأخبار أن الموتى يدعون حقيقة للخروج من القبور ، وقيل : المراد تشبيه ترتب حصول الخروج على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه ، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو تخييلية ومكنية بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم متهيئين لذلك وإثبات الدعوة لهم قرينتها أو هي تصريحية تبعية في قوله تعالى : دَعاكُمْ إلى آخرها ، وثم إما للتراخي الزماني أو للتراخي الرتبي ، والمراد عظم ما في المعطوف من إحياء الموتى في نفسه وبالنسبة إلى المعطوف عليه فلا ينافي قوله تعالى الآتي : وَهُوَ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 36
أَهْوَنُ عَلَيْهِ
وكونه أعظم من قيام السماء والأرض لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات ، فاندفع ما قاله ابن المنير من أن مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا مع إن كون المعطوف في مثله ارفع درجة أكثري لا كلي كما صرح به الطيبي فلا مانع من اعتبار التراخي الرتبي لو لم يكن المعطوف أرفع درجة ، ويجوز حمل التراخي على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي.
وقرأ السبعة ما عدا حمزة والكسائي «تخرجون» بضم التاء وفتح الراء ، وهذه الآية ذكر أنها مما تقرأ على المصاب ، أخرج ابن أبي حاتم عن الأزهر بن عبد اللّه الجرازي قال : يقرأ على المصاب إذا أخذ.
[سورة الروم (30) : الآيات 25 إلى 40]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وذكر الإمام.
وأبو حيان في وجه ترتيب الآيات وتذييل كل منهما بما ذيل كلاما طويلا أن احتجته فارجع إليه.
وَلَهُ عزّ وجلّ خاصة كل مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والثقلين خلقا وملكا وتصرفا ليس لغيره سبحانه شركة في ذلك بوجه من الوجوه كُلٌّ لَهُ لا لغيره جلّ وعلا قانِتُونَ منقادون لفعله لا يمتنعون عليه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 37
جلّ شأنه من الشؤون وإن لم ينقد بعضهم لأمره سبحانه فالمراد طلعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة ، وهذا حاصل ما روي عن ابن عباس ، وقال الحسن : قانِتُونَ قائمون بالشهادة على وحدانيته تعالى كما قال الشاعر :
وفي كل شي ء له آية تدل على أنه واحد وقال ابن جبير : قانِتُونَ مخلصون ، وقيل : مقرون بالعبودية ، وعليهما ليس العموم على ظاهره وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت والتكرير لزيادة التقرير لشدة إنكارهم البعث والتمهيد لما بعده من قوله تعالى :
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الضمير المرفوع للإعادة وتذكيره لرعاية الخبر أو لأنها مؤولة بأن والفعل وهو في حكم المصدر المذكر أو لتأويلها بالبعث ونحوه ، وكونه راجعا إلى مصدر مفهوم من يُعِيدُهُ وهو لم يذكر بلفظ الإعادة لا يفيد على ما قيل لأنه اشتهر به فكأنه إذا فهم منه يلاحظ فيه خصوص لفظه والضمير المجرور للّه تعالى شأنه ، وأَهْوَنُ للتفضيل أي والإعادة أسهل على اللّه تعالى من المبدأ ، والأسهلية على طريقة التمثيل بالنسبة لما يفعله البشر مما يقدرون عليه ، فإن إعادة شي ء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء ، والمراد التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث وإلا فكل الممكنات بالنسبة إلى قدرته تعالى عزّ وجلّ سواء فكأنه قيل : وهو أهون عليه بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم.
وذكر الزمخشري وجها آخر للتفضيل وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والأفعال أما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور ، وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة ، وأما تفضل والتفضل حاله بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله ، وأما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى الإخلال به فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها منه كانت أدخلها في التأتي والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت كذلك كانت أهون من الإنشاء ا ه. قال في التقريب : وفيه نظر لأنه مبني على الوجوب العقلي ولأن الوجوب إذا كان بالذات نافي القدرة كالامتناع وإلا كان ممكنا فتساوى الفعلان لاشتراكهما في مصحح المقدورية وهو الإمكان.
وتعقبه في الكشف بقوله أقول : أنه غير واجب بالذات ولا يلزم منه المساواة مع التفضل في سهولة التأتي وأما المساواة في مصحح المقدورية فلا مدخل لها فيما نحن فيه ، والحاصل منه أنه لو سلم منه أن الداعي إلى فعله أقوى فلا شك أنه أقرب إلى الوجود مما لا يكون الداعي كذلك. نعم إذا خلص الداعي إلى القسمين صارا سواء ، وليس البحث على ذلك التقدير ا ه.
والحق ما قاله أبو السعود من أنه ليس المراد بأهونية الفعل أقربيته إلى الوجود باعتبار كثرة الأمور الداعية للفاعل إلى إيجاده وقوة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتيه وصدوره عنه عند تعلق قدرته بوجوده وكونه واجبا بالغير ، ولا تفاوت في ذلك بين أن يكون ذلك التعلق بطريق الإيجاب أو بطريق الاختيار. وروى الزجاج عن أبي عبيدة وكثير من أهل اللغة أن أَهْوَنُ هاهنا بمعنى هين ، وروي ذلك عن ابن عباس ، والربيع ، وكذا هو في مصحف عبد اللّه ، وهذا كما يقال : اللّه تعالى أكبر أي كبير وأنت أوحد الناس أي واحدهم وإني لأوجل أي وجل. وفي الكشف التحقيق أنه من باب الزيادة المطلقة ، وإنما قيل بمعنى الهين لأنه يؤدي مؤداه ، وقيل : أفعل على ظاهره وضمير عليه عائد على الخلق على معنى أن الإعادة أيسر على المخلوق لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنسانا والإعادة لا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 38
تحتاج إلى التدريجات في الأطوار إنما يدعوه اللّه تعالى فيخرج وأما على معنى أن الإعادة أسهل على المخلوق أي أن يعيدوا شيئا ويفعلوه ثانيا بعد ما زاولوا فعله وعرفوه أولا أسهل من أن يفعلوه أولا قبل المزاولة وإذا كان هذا حال المخلوق فما بالك بالخالق ، ولا يخفى أن الظاهر رجوع الضمير إليه تعالى ، ثم إن الجار والمجرور صلة أَهْوَنُ وقدمت الصلة في قوله تعالى : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم : 9 ، 21] وأخرت هنا لأنه قصد هنالك الاختصاص وهو محزه فقيل هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وإن كان صعبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى ، ولما أخبر سبحانه بأن الإعادة أهون عليه على طريق التمثيل عقب ذلك بقوله تعالى : وَلَهُ تعالى شأنه خاصة الْمَثَلُ أي الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال الْأَعْلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فضلا عما يساويه فكأنه قيل هذا لتفهيم العقول القاصرة إذ صفاته تعالى عجيبة وقدرته جلّ شأنه عامة وحكمته سبحانه تامة فكل شي ء بدأ وإعادة وإيجادا وإعداما على حد سواء ولا مثل له تعالى ولا ند ، وعن قتادة ، ومجاهد أن الْمَثَلُ الْأَعْلى لا إله إلّا اللّه ، ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية في ذاته تعالى وصفاته سبحانه ، والكلام عليه مرتبط بما قبله أيضا كأنه قيل :
ما ذكر لتفهيم العقول القاصرة لأنه تعالى لا يشاركه أحد في ذاته تعالى وصفاته عزّ وجلّ ، وقيل : مرتبط بما بعده من قوله تعالى : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ وقال الزجاج : المثل قوله تعالى : هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قد ضربه اللّه تعالى مثلا فيما يسهل ويصعب عندكم وينقاس على أصولكم فاللام في المثل للعهد وهو محمول على ظاهره غير مستعار للوصف العجيب الشأن فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ متعلق بمضمون الجملة المتقدمة على معنى أنه سبحانه قد وصف بذلك وعرف به فيهما على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وقيل : بالأعلى ، وقيل : بمحذوف هو حال منه أو من الْمَثَلُ أو من ضميره في الْأَعْلى وقيل : متعلق بما تعلق به لَهُ أي له في السماوات والأرض المثل الأعلى ، والمراد أن دلالة خلقهما على عظيم القدرة أتم من دلالة الإنشاء فهو أدل على جواز الإعادة ولهذا جعل أعلى من الإنشاء فتأمل وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن وإعادته الْحَكِيمُ الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا يتبين به بطلان الشرك مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي منتزعا من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم وأظهرها دلالة على ما ذكر من بطلان الشرك لكونها بطريق الأولوية ، ومِنْ لابتداء الغاية وقوله تعالى : هَلْ لَكُمْ إلى آخره تصوير للمثل ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي ولَكُمْ خبر مقدم وقوله تعالى : مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في موضع الحال من شُرَكاءَ بعد لأنه نعت نكرة تقدم عليها والعامل فيها كان في البحر هو العالم في الجار والمجرور الواقع خبرا ومِنْ للتبعيض وما واقعة على النوع ، وقوله تعالى : مِنْ شُرَكاءَ مبتدأ ومِنْ مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام ، وقوله تعالى : فِي ما رَزَقْناكُمْ متعلق بشركاء أي هل شركاء فيما رزقناكم من الأموال وما يجري مجراها مما تتصرفون فيه كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم من نوع العبيد والإماء كائنون لكم.
وجوز أن يكون لَكُمْ متعلقا بشركاء ويكون فِي ما رَزَقْناكُمْ في موضع الخبر كما تقول : لزيد في المدينة مبغض فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ وفي المدينة الخبر أي هل شركاء لكم كائنون مما ملكته إيمانكم كائنون فيما رزقناكم ، وقوله تعالى : فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ جملة في موضع الجواب للاستفهام الإنكاري وَفِيهِ متعلق بسواء ، وفي الكلام محذوف معطوف على (أنتم) أي فأنتم وهم أي المماليك مستوون فيه لا فرق بينكم وبينهم في التصرف فيه ، وقيل : لا حذف و(أنتم) شامل للمماليك بطريق التغليب ، وقوله تعالى : تَخافُونَهُمْ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 39
خبر آخر لأنتم ، وقال أبو البقاء : حال من ضمير (أنتم) الفاعل في سَواءٌ وقوله تعالى : كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ في موضع الصفة لمصدر محذوف أي تخافونهم أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم يعني الأحرار المساهمين لكم ، والمقصود نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية أي لا ترضون بأن يشارككم فيما رزقناكم من الأموال ونحوها مماليككم وهم أمثالكم في البشرية غير مخلوقين لكم بل للّه تعالى فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية التي هي من خصائصه تعالى الذاتية مخلوقه سبحانه بل مصنوع مخلوقه جلّ وعلا حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه.
وقرأ ابن أبي عبلة «أنفسكم» بالرفع على أن المصدر مضاف للمفعول وأَنْفُسِكُمْ فاعلة ، قال أبو حيان : وهو وجه حسن ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل الواضح نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبينها ونوضحها لا تفصيلا أدنى منه فإن التمثيل تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحسوس وإبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس فيكون في غاية الإيضاح والبيان.
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يستعملون عقولهم في تدبير الأمثال ، وقيل : في تدبير الأمور مطلقا ويدخل في ذلك الأمثال دخولا أوليا ، وخصهم بالذكر مع عموم تفصيل الآيات للكل لأنهم المنتفعون بها ، وذكر العرمة الطيبي أنه لما كان ضرب الأمثال لإدناء المتوهم إلى المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وهذه النكتة هنا أظهر منها فيما تقدم فتذكر.
وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصّل» بياء الغيبة رعيا لضرب إذ هو مسند لما يعود للغائب وقراءة الجمهور بالنون للحمل على رَزَقْناكُمْ وذكر بعض العلماء أن في هذه الآية دليلا على صحة أصل الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض كأنه قيل : الممتنع المستقبح شركة العبيد لساداتهم أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا تمتنع ولا تستقبح بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أعراض عن مخاطبتهم ومحاولة إرشادهم إلى الحق بضرب المثل وتفصيل الآيات واستعمال المقدمات الحقة المعقولة وبيان لإستحالة تبعيتهم للحق كأنه قيل : لم يعقلوا شيئا من الآيات المفصلة بل اتبعوا أَهْواءَهُمْ الزائغة ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون واضعون للشي ء في غير موضعه أو ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بِغَيْرِ عِلْمٍ أي جاهلين ببطلان ما أتوا منكبين عليه لا يصرفهم عنه صارف حسبما يصرف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي خلق فيه الضلال وجعله كاسبا له باختياره وَما لَهُمْ أي لمن أضله اللّه تعالى ، والجمع باعتبار المعنى مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من الضلال ويحفظونهم من تبعاته وآفاته على معنى ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور في مقابلة الجمع بالجمع ، ومَنْ مزيدة لتأكيد النفي ، والكلام مسوق لتسلية رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وتوطئة لأمره عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً قال العلامة الطيبي : إنه تعالى عقيب ما عدد الآيات البينات والشواهد الدالة على الوحدانية ونفي الشرك وإثبات القول بالمعاد وضرب سبحانه المثل وقال سبحانه : كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أراد جلّ شأنه أن يسلي حبيبه صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه ويوطنه على اليأس من إيمانهم فأضرب تعالى عن ذلك وقال سبحانه : بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ وجعل السبب في ذلك أنه عزّ وجلّ ما أراد هدايتهم وأنه مختوم على قلوبهم ولذلك رتب عليه قوله تعالى : فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ على التقريع والإنكار ثم ذيل سبحانه الكل بقوله تعالى : وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني إذا أراد اللّه تعالى منهم ذلك فلا مخلص لهم منه ولا أحد ينقذهم لا أنت ولا غيرك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فاهتم بخاصة نفسك ومن

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 40
تبعك وأقم وجهك إلخ ا ه ، ومنه يعلم حال الفاء في قوله تعالى : فَمَنْ وكذا في قوله سبحانه : فَأَقِمْ وقدر النيسابوري للثانية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فأقم إلخ ، ولعل ما أشار إليه الطيبي أولى ، ثم إنه يلوح من كلامه احتمال أن يكون الموصول قائما مقام ضمير الَّذِينَ ظَلَمُوا فتدبر.
و«أقم» من أقام العود ويقال قوم العود أيضا إذا عدله ، والمراد الأمر بالإقبال على دين الإسلام والاستقامة والثبات عليه والاهتمام بترتيب أسبابه على أن الكلام تمثيل لذلك فإن من اهتم بشيء محسوس بالبصر عقد إليه طرفة وسدد إليه نظره وأقبل عليه بوجه غير ملتفت عنه فكأنه قيل : فعدل وجهك للدين وأقبل عليه إقبالا كاملا غير ملتفت يمينا وشمالا ، وقال بعض الأجلة : إن إقامة الوجه للشيء كناية عن كمال الاهتمام به ، ولعله أراد بالكناية المجاز المتفرع على الكناية فإنه لا يشترط فيه إمكان إرادة المعنى الحقيقي ، ونصب حَنِيفاً على الحال من الضمير في (أقم) أو من الدين ، وجوز أبو حيان كونه حالا من الوجه ، وأصل الحنف الميل من الضلال إلى الاستقامة وضده الجنف بالجيم فِطْرَتَ اللَّهِ نصب على الإغراء أي الزموا فطرة اللّه تعالى ، ومن أجاز إضمار أسماء الأفعال جوز أن يقدر هنا عليكم اسم فعل ، وقال مكي : هو نصب بإضمار فعل أي اتبع فطرة اللّه ودل عليه قوله تعالى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ لأن معناه اتبع الدين ، واختاره الطيبي وقال : أنه أقرب في تأليف النظم لأنه موافق لقوله تعالى : بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ ولترتب قوله تعالى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ عليه بالفاء.
وجوز أن يكون نصبا بإضمار أعني وأن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف دل عليه ما بعد أي فطركم فطرة اللّه ، ولا يصح عمل فطر المذكور بعد فيه لأنه من صفته ، وأن يكون منصوبا بما دل عليه الجملة السابقة على أنه مصدر مؤكد لنفسه. وأن يكون بدلا من حَنِيفاً والمتبادر إلى الذهن النصب على الإغراء ، وإضمار الفعل على خطاب الجماعة مع أن المتقدم فَأَقِمْ هو ما اختاره الزمخشري ليطابق قوله تعالى : مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وجعله حالا من ضمير الجماعة المسند إليه الفعل ، وجعل قوله تعالى : وَاتقوا وَأَقِيمُوا وَلا تَكُونُوا معطوفا على ذلك الفعل.
وقال الطيبي : بعد ما اختار تقرير اتبع ورجحه بما سمعت : وأما قوله تعالى : مُنِيبِينَ فهو حال من الضمير في (أقم) وإنما جمع لأنه مردد على المعنى لأن الخطاب للنبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وهو خطاب لأمته فكأنه قيل : أقيموا وجوهكم منيبين.
وقال الفراء : أي أقم وجهك ومن تبعك كقوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ [هود : 112] فلذلك قال سبحانه : مُنِيبِينَ وفي المرشد أن مُنِيبِينَ متعلق بمضمر أي كونوا منيبين لقوله تعالى بعد : وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ا ه. ولا يخفى على المنصف حسن كلام الزمخشري ، وما أن ذكر من خطابه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم خطاب الأمة يؤكد الدلالة وعلى ذلك المضمر لا أنه يجوز أن يكون مُنِيبِينَ حالا من الضمير في (أقم) وظاهر كلام الفراء يقتضي كون الحال من مذكور ومحذوف وهو قليل في الكلام ، وإضمار كونوا مع إضمار فعل ناصب لفطرة اللّه موجب لكثرة الإضمار ، وإضماره دون إضمار فيما قيل موجب لارتكاب خلاف المتبادر هناك ، والفطرة على ما قال ابن الأثير للحالة كالجلسة والركبة من الفطر بمعنى الابتداء والاختراع ، وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهيؤ لإدراكه ، وقالوا : معنى لزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به باتباع الهوى وتسويل شياطين الأنس والجن ، ووصفها بقوله تعالى : الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لتأكيد وجوب امتثال الأمر ، وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام.
وفي الخبر ما يدل عليه ،
أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمر الصفار قال : سألت عن قتادة عن قوله تعالى :
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها فقال : حدثني أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 41
تعالى عليه وسلم فطرة اللّه التي فطر الناس عليها دين اللّه تعالى»
والمراد بفطرهم على دين الإسلام خلقهم قابلين له غير نابين عنه ولا منكرين له مجاوبا للعقل مساوقا للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر ،
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ما من مولود يولد إلّا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء»
والمراد بالناس على التفسيرين جميعهم.
وزعم بعضهم أن المراد بهم على التفسير الثاني المؤمنون وليس بشيء. واستشكل الاستغراق بأنه ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع على الكفر. وأجيب بأن معنى ذلك أنه قدر أنه لو عاش يصير كافرا بإضلال غيره له أو بآفة من الآفات البشرية ، وهذا على ما قيل هو المراد من
قوله عليه الصلاة والسلام : «الشقي شقي في بطن أمه»
وذلك لا ينافي الفطر على دين الإسلام بمعنى خلقه متهيأ له مستعدا لقبوله فتأمل فالمقام محتاج بعد إلى تحقيق ، وقيل :
فطرة اللّه العهد المأخوذ على بني آدم ، ومعنى فطرهم على ذلك على ما قيل خلقهم مركوزا فيهم معرفته تعالى كما أشير إليه بقوله سبحانه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : 25 ، الزمر : 38] وقوله سبحانه : لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الامتثال به فالمراد بخلق اللّه فطرته المذكورة أولا ففيه إقامة المظهر مقام المضمر من غير لفظه السابق ، والمعنى لا صحة ولا استقامة لتبديل فطرة اللّه تعالى بالإخلال بموجبها وعدم ترتيب مقتضاها عليها باتباع الهوى وقبول وسوسة الشياطين ، وقيل : المعنى لا يقدر أحد على أن يغير خلق اللّه سبحانه وفطرته عزّ وجلّ فلا بد من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من إدراكه ضرورة ، فإن التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعا فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإخلال به بما ذكر من اتباع الهوى ووسوسة الشياطين ، وقال الإمام : يحتمل أن يقال : إن اللّه تعالى خلق خلقه للعبادة وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق اللّه أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية ، وهذا لبيان فساد قول من يقول : العبادة لتحصيل الكمال وإذا كمل للعبد بها لا يبقى عليه تكليف.
وقول المشركين : إن الناقض لا يصلح لعبادة اللّه تعالى وإنما يعبد نحو الكواكب وهي عبيد اللّه تعالى ، وقول النصارى : إن عيسى عليه السلام كمل بحلول اللّه تعالى فيه وصار إلها ا ه وفيه ما فيه ، ومما يستغرب ما روي عن ابن عباس من أن معنى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ النهي عن خصاء الفحول من الحيوان ، وقيل : إن الكلام متعلق بالكفرة كأنه قيل : فأقم وجهك للدين حنيفا والزم فطرة اللّه التي فطر الناس عليها فإن هؤلاء الكفرة خلق اللّه تعالى لهم الكفر ولا تبديل لخلق اللّه أي أنهم لا يفلحون. وأنت تعلم أنه لا ينبغي حمل كلام اللّه تعالى على نحو هذا ذلِكَ إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو إلى لزوم فطرة اللّه تعالى المستفاد من الإغراء أو إلى الفطرة والتذكير باعتبار الخبر أو بتأويل المشار إليه بمذكر الدِّينُ الْقَيِّمُ المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف عن الحق بوجه من الوجوه كما ينبىء عنه صيغة المبالغة ، وأصله قيوم على وزن فيعل اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيصدون عنه صدودا.
وقيل : أي لا علم لهم أصلا ولو علموا لعلموا ذلك على أن الفعل منزل منزلة اللازم مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل من ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى ، ومن النواب أي النحل سميت

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 42
بذلك لرجوعها إلى مقرها ، وقيل : أي منقطعين إليه تعالى من الناب السن خلف الرباعية لما يكون بها من الانقطاع ما لا يكون بغيرها. وتعقب بأنه بعيد لأن الناب يأتي وهذا واوي ، وقد تقدم غير بعيد عدة أقوال في وجه نصبه ، وزاد عليها في البحر القول بكونه نصبا على الحال من النَّاسَ في قوله تعالى : فَطَرَ النَّاسَ وقدمه على سائر الأقوال وهو كما ترى ، وتقدم أيضا ما قيل في عطف قوله تعالى : وَاتَّقُوهُ أي من مخالفة أمره تعالى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ المبدلين لفطرة اللّه سبحانه تبديلا ، والظاهر أن المراد بهم كل من أشرك باللّه عزّ وجلّ ، والنهي متصل بالأوامر قبله ، وقيل : بأقيموا الصلاة ، والمعنى ولا تكونوا من المشركين بتركها وإليه ذهب محمد بن أسلم الطوسي وهو كما ترى ، وقوله تعالى : مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين بإعادة الجار ، وتفريقهم لدينهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم ، وقيل : اختلافهم في اعتقاداتهم مع اتحاد معبودهم ، وفائدة الإبدال التحذير عن الانتماء إلى حزب من أحزاب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين.
وقرأ حمزة ، والكسائي «فارقوا» أي تركوا دينهم الذي أمروا به أو الذي اقتضته فطرتهم وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا تشايع كل فرقة أمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ من الدين المعوج المؤسس على الرأي الزائغ والزعم الباطل فَرِحُونَ مسرورون ظنا منهم أنه حق ، والجملة قيل اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من تفريق دينهم وكونهم شيعا ، وقيل : في موضع نصب على أنها صفة شِيَعاً بتقدير العائد أي كل حزب منهم ، وزعم بعضهم كونها حالا. وجوز أن يكون فَرِحُونَ صفة لكل كقول الشماخ :
وكل خليل غير هاضم نفسه لوصل خليل صارم أو معارز
والخبر هو الظرف المتقدم أعني قوله تعالى : مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ فيكون منقطعا عما قبله ، وضعف بأنه يوصف المضاف إليه في نحوه صرح به الشيخ ابن الحاجب في قوله :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
وفي البحر أن وصف المضاف إليه في نحوه هو الأكثر وأنشد قوله :
جادت عليه كل عين ترة فتركن كل حديقة كالدرهم
وما قيل : إنه إذا وصف به كُلُّ دل على أن الفرح شامل للكل وهو أبلغ ليس بشيء بل العكس أبلغ لو تؤمل أدنى تأمل وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه تعالى من دعاء غيره عزّ وجلّ من الأصنام وغيرها ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصا من تلك الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ الذي كانوا دعوه منيبين إليه يُشْرِكُونَ أي فاجأ فريق منهم الإشراك وذلك بنسبة خلاصهم إلى غيره تعالى من صنم أو كوكب أو نحو ذلك من المخلوقات وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك ، وتنكير ضُرٌّ ورَحْمَةً للتعليل إشارة إلى أنهم لعدم صبرهم يجزعون لأدنى مصيبة ويطغون لأدنى نعمة ، و«ثم» للتراخي الرتبي أو الزماني لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه للعاقبة وكونها تقتضي المهلة ولذا سميت لام المآل والشرك والكفر متقاربان لا مهلة بينهما كما قيل لا وجه له ، وقيل : للأمر وهو للتهديد كما يقال عند الغضب اعصني ما استطعت وهو مناسب لقوله سبحانه : فَتَمَتَّعُوا فإنه أمر تهديدي ، واحتمال كونه ماضيا معطوفا على يُشْرِكُونَ لا يخفى حاله ، والفاء للسببية ، والتمتع التلذذ ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم. وقرأ أبو العالية «فيمتعوا» بالياء التحتية مبنيا للمفعول وهو معطوف على (يكفروا) فسوف يعلمون بالياء التحتية أيضا ، وعن أبي العالية أيضا «فيتمتعوا» بياء تحتية قبل التاء وهو معطوف على (يكفروا) أيضا ، وعن ابن مسعود «وليتمتعوا» باللام والياء

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 43
التحتية وهو عطف على «ليكفروا» أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً التفات من الخطاب إلى الغيبة إيذانا بالإعراض عنهم وتعديدا لجناياتهم لغيرهم بطريق المباثة ، وأَمْ منقطعة ، والسلطان لحجة فالإنزال مجاز عن التعليم أو الإعلام ، وقوله تعالى : فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بمعنى فهو يدل على أن التكلم مجاز عن الدلالة ، ولك أن تعتبر هنا جميع ما اعتبروه في قولهم : نطقت الحال من الاحتمالات ، ويجوز أن يراد بسلطانا ذا سلطان أي ملكا معه برهان فلا مجاز أولا وآخرا.
وجملة هو يَتَكَلَّمُ جواب للاستفهام الذي تضمنته أَمْ إذ المعنى بل أأنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي بإشراكهم باللّه عزّ وجلّ ، وصحته على أن (ما) مصدرية وضمير بِهِ له تعالى أو بالأمر الذي يشركون بسببه وألوهيته على أن (ما) موصولة وضمير بِهِ لها والباء سببية ، والمراد نفي أن يكون لهم مستمسك يعول عليه في شركهم وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي نعمة من صحة وسعة ونحوهما فَرِحُوا بِها بطرا وأشرا فإنه الفرح المذموم دون الفرح حمدا وشكرا ، وهو المراد في قوله تعالى : «قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا» وقال الامام : المذموم الفرح بنفس الرحمة والممدوح الفرح برحمة اللّه تعالى من حيث إنها مضافة إلى اللّه تعالى وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بشؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي فاجؤوا القنوط من رحمته عزّ وجلّ ، والتعبير بإذا أولا لتحقق الرحمة وكثرتها دون المقابل ، وفي نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة تعليم للعباد أن لا يضاف إليه سبحانه الشر وهو كثير كقوله تعالى : أَنْعَمْتَ والْمَغْضُوبِ في [الفاتحة : 7] ، وعدم بيان سبب إذاقة الرحمة وبيان سبب إصابة السيئة إشارة إلى أن الأول تفضل والثاني عدل ، والتعبير بالمضارع في إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ لرعاية الفاصلة والدلالة على الاستمرار في القنوط ، والمراد بالناس إما فريق آخر غير الأول على أن التعريف للعهد أو للجنس وإما الفريق الأول لكن الحكم الأول ثابت لهم في حال تدهشهم كمشاهدة العرق وهذا الحكم في حال آخر لهم فلا مخالفة بين قوله تعالى : «وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه» وقوله سبحانه : «وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم ينقطون» فلا يحتاج إلى تكلف التوفيق بأن الدعاء اللساني جار على العادة فلا ينافي القنوط القلبي ولذا سمع بعض الخائضين في دم عثمان رضي اللّه
تعالى عنه يدعو في طوافه ويقول : اللهم اغفر لي ولا أظنك تفعل ، أو المراد يفعلون فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء ، ولا يخفى أن في المفاجأة نبوة ما عن هذا فتأمل.
وقرىء «يقنطون» بكسر النون أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسطه تعالى له وَيَقْدِرُ أي ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه ، وهذا إما باعتبار شخصين أو باعتبار شخص واحد في زمانين ، والمراد إنكار فرحهم وقنوطهم في حالتي الرخاء والشدة أي أو لم يروا ذلك فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور أي البسط وضده أو جميع ما ذكر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة وللّه تعالى در من قال :
نكد الأريب وطيب عيش الجاهل قد أرشداك إلى حكيم كامل
قال الطيبي : كانت الفاصلة قوله تعالى : لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إيذانا بأنه تعالى يفعل ذلك بمحض مشيئته سبحانه وليس الغنى بفعل العبد وجهده ولا العدم بعجزه وتقاعده ولا يعرف ذلك إلا من آمن بأن ذلك تقدير العزيز العليم كما قال :
كم من أريب فهم قلبه مستكمل العقل مقلّ عديم
ومن جهول مكثر ماله ذلك تقدير العزيز العليم

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 44
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من الصلة والصدقة وسائر المبرات وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ما يستحقانه ، والخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم على أنه عليه الصلاة والسلام المقصود أصالة وغيره من المؤمنين تبعا ، وقال الحسن : هو خطاب لكل سامع ، وجوز غير واحد أن يكون لمن بسط له الرزق ، ووجه تعلق هذا الأمر بما قبله واقترانه بالفاء على ما ذكره الزمخشري أنه تعالى لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك ، وحاصله على ما في الكشف أن امتثال أوامره تعالى مجلبة رضاه والحياة الطيبة تتبعه كما أن عصيانه سبحانه مجلبة سخطه والجدب والضيقة من روادفه فإذا استبان ذلك فآت يا محمد ومن تبعه أو فآت يا من بسط له الرزق ذا القربى حقه إلخ ، وذكر الإمام وجها آخر مبنيا على أن الأمر متفرع على حديث البسط والقدر وهو أنه تعالى لما بين أنه سبحانه يبسط ويقدر أمر جلّ وعلا بالإنفاق إيذانا بأنه لا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن اللّه تعالى إذا بسط الرزق لا ينقص بالإنفاق وإذا قدر لا يزداد بالإمساك كما قيل :
إذ جادت الدنيا عليك فجد بها على الناس طرّا إنها تتقلب
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب
قال صاحب الكشف روح اللّه تعالى روحه : إن ما ذكره الزمخشري أوفق لتأليف النظم الجليل فإن قوله تعالى :
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لتتميم الإنكار على من فرح بالنعمة عن شكر المنعم ويئس عند زوالها عنه ، والظاهر على ما ذكره الإمام أن المراد بالحق الحق المالي وكذا المراد به في جانب المسكين وابن السبيل ، وحمل ذلك بعضهم على الزكاة المفروضة. وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة واستثناء هذه الآية ودعوى أنها مدنية يحتاج إلى نقل صحيح ، وسبق النزول على الحكم بعيد ولذا لم يذكر هنا بقية الأصناف ، وحكي أن أبا حنيفة استدل بالآية على وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا أو عاجزا عن الكسب ، ووجه بأن (آت) أمر للوجوب ، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي ولو كان المراد الزكاة لم يقدم حق ذوي القربى إذ الظاهر من تقديمه المغايرة ، والشافعية أنكروا وجوب النفقة على من ذكر وقالوا : لا نفقة بالقرابة إلّا على الولد والوالدين على ما بين في الفقه ، والمراد بالحق المصرح به في ذي القربى صلة الرحم بأنواعها وبالحق المعتبر في جانب المسكين وابن السبيل صدقة كانت مفروضة قبل فرض الزكاة أو الزكاة المفروضة والآية مدنية أو مكية والنزول سابق على الحكم. واعترض على هذا بأنه إذا فسر حق الأخيرين بالزكاة وجب تفسير الأول بالنفقة الواجبة لئلا يكون لفظ الأمر للوجوب والندب ، ولذا استدل أبو حنيفة عليه الرحمة بالآية على ما تقدم ، وفيه بحث.
وقال بعض أجلّة الشافعية رادا على الاستدلال : إنه كيف يتم مع احتمال أن يكون الأمر بإيتاء الصدقة أيضا بدليل ما تلاه ، ثم إن ذَا الْقُرْبى مجمل عند المستدل ومن أين له أنه بين بذي الرحم المحرم ، وكذلك قوله تعالى :
حَقَّهُ ثم قال : والحق أنه أمر بتوفير حقه من الصلة لا خصوص النفقة وصلة الرحم من الواجبات المؤكدة انتهى ، والحق أحق بالاتباع ، ودليل الإمام عليه الرحمة ليس هذا وحده كما لا يخفى على علماء مذهبه.
وخص بعض الخطاب به صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وقال : المراد بذي القربى بنو هاشم وبنو المطلب أمر صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن يؤتيهم حقهم من الغنيمة والفيء ، وفي مجمع البيان للطبرسي من الشيعة المعنى وآت يا محمد ذوي قرابتك حقوقهم التي جعلها اللّه تعالى لهم من الأخماس. وروى أبو سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه الصلاة والسلام فاطمة رضي اللّه تعالى عنها فدكا وسلمه إليها ، وهو المروي عن أبي جعفر ، وأبي عبد اللّه
انتهى وفيه أن هذا ينافي ما اشتهر عند الطائفتين من أنها رضي اللّه تعالى عنها ادعت فدكا بطريق

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 45
الإرث ، وزعم بعضهم أنها ادعت الهبة وأتت على ذلك بعلي والحسن والحسين رضي اللّه تعالى عنهم وبأم أيمن رضي اللّه تعالى عنها فلم يقبل منها لمكان الزوجية والبنوة وعدم كفاية المرأة الواحدة في الشهادة في هذا الباب فادعت الإرث فكان ما كان وهذا البحث مذكور على أتم وجه في التحفة إن أردته فارجع إليه ، وخص بعضهم ابْنَ السَّبِيلِ بالضيف وحقه بالإحسان إليه إلى أن يرتحل والمشهور أنه المنقطع عن ماله وبين المعنيين عموم من وجه ، وقدم ذو القربى اعتناء بشأنه وهو السر في تقديم المفعول الثاني على العطف والعدول عن وآت ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقهم ، وعبر عن القريب بذي القربى في جميع المواضع ولم يعبر عن المسكين بذي المسكنة لأن القرابة ثابتة لا تتجدد وذو كذا لا يقال في الأغلب إلا في الثابت ألا ترى أنهم يقولون لمن تكرر منه الرأي الصائب فلان ذو رأي ويكاد لا تسمعهم يقولون لمن أصاب مرة في رأيه كذلك وكذا نظائرة كذا قال الإمام : ذلِكَ أي الإيتاء المفهوم من الأمر خَيْرٌ في نفسه أو خير من غيره لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي ذاته سبحانه أي يقصدونه عزّ وجلّ بمعروفهم خالصا أو جهته تعالى أي يقصدون جهة التقرب إليه سبحانه لا جهة أخرى والمعنيان كما في الكشف متقاربان ولكن الطريقة مختلفة.
وَأُولئِكَ المتصفون بالإيتاء هُمُ الْمُفْلِحُونَ حيث حصلوا بإنفاق ما يفنى النعيم المقيم ، والحصر إضافي على ما قيل : أي أولئك هم المفلحون لا الذين بخلوا بما لهم ولم ينفقوا منه شيئا.
وقيل : هو حقيقي على أن المتصفين بالإيتاء المذكور هم الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وأنابوا إليه تعالى واتقوه عزّ وجلّ فلا منافاة بين هذا الحصر والحصر المذكور في أول سورة البقرة فتأمل وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً الظاهر أنه أريد به الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرمها الشارع إليه ذهب الجبائي وروي ذلك عن الحسن ويشهد له ما روي عن السدي من أن الآية نزلت في ربا ثقيف كانوا يرون وكذا كانت قريش ، وعن ابن عباس ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، وطاوس وغيرهم أنه أريد به العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة وعليه فتسميتها ربا مجاز لأنها سبب للزيادة ، وقيل : لأنها فضل لا يجب على المعطي.
وعن النخعي أن الآية نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضيل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع لهم وهي رواية عن ابن عباس فالمراد بالربا العطية التي تعطى للأقارب للزيادة في أموالهم ، ووجه تسميتها بما ذكر معلوم مما ذكرنا ، وأيا ما كان - فمن - بيان - لما - لا للتعليل.
وقرأ ابن كثير «أتيتم» بالقصر ومعناه على قراءة الجمهور أعطيتم وعلى هذه القراءة جئتم أي ما جئتم به من عطاء ربا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي ليزيد ذلك الربا ويزكو في أموال الناس الذين آتيتموهم إياه ، وقال ابن الشيخ :
المعنى على تفسير الربا بالعطية ليزيد ذلك الربا في جذب أموال الناس وجلبها ، وفي معناه ما قيل ليزيد ذلك بسبب أموال الناس وحصول شيء منها لكم بواسطة العطية ، وعن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي رجاء ، والشعبي ، ونافع ، ويعقوب ، وأبي حيوة «لتربوا» بالتاء الفوقية مضمومة وإسناد الفعل إليهم وهو باب الأفعال المتعدية لواحد بهمزة التعدية والمفعول محذوف أي لتربوه وتزيدوه في أموال الناس أو هو من قبيل يجرح في عراقيبها نصلى أي لتربوا وتزيدوا أموال الناس ، ويجوز أن يكون ذلك للصيرورة أي لتصيروا ذوي ربا في أموال الناس. وقرأ أبو مالك «لتربوها» بضمير المؤنث وكان الضمير للربا على تأويله بالعطية أو نحوها فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي فلا يبارك فيه في تقديره تعالى وحكمه عزّ وجلّ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي من صدقة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه تعالى خالصا فَأُولئِكَ هُمُ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 46
الْمُضْعِفُونَ
أي ذوو الأضعاف على أن مضعفا اسم فاعل من أضعف أي صار ذا ضعف بكسر فسكون بأن يضاعف له ثواب ما أعطاه كما قوى وأيسر إذا صار ذا قوة ويسار فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله ، ويجوز أن يكون من أضعف والهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة. ويؤيد هذا الوجه قراءة أبي «المضعفون» اسم مفعول ، وكان الظاهر أن يقال : فهو يربو عند اللّه لأنه الذي تقتضيه المقابلة إلا أنه غير في العبارة إذا أثبت غير ما قبله وفي النظم إذا أتى فيما قبل بجملة فعلية وهنا بجملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع ضمير الفصل لقصد المبالغة فأثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة على طريق التأكيد بالاسمية والضمير وحصر ذلك فيهم بالاستحقاق مع ما في الإشارة من التعظيم لدلالته على علو المرتبة وترك ما أتوا وذكر المؤتى إلى غير ذلك ، والالتفات عن الخطاب حيث قيل : فأولئك دون فأنتم للتعظيم كأنه سبحانه خاطب بذلك الملائكة عليهم السلام وخواص الخلق تعريفا لحالهم ، ويجوز أن يكون التعبير بما ذكر للتعميم بأن يقصد بأولئك هؤلاء وغيرهم ، والراجع في الكلام إلى ما محذوف إن جعلت موصولة وكذلك إن جعلت شرطية على الأصح لأنه خبر على كل حال أي فأولئك هم المضعفون به أو فمؤتوا على صيغة اسم الفاعل أولئك المضعفون ، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وعلى تقدير مؤتوه العام لا يكون هناك التفات بالمعنى المتعارف ، واعتبار الالتفات أولى ، وفي الكشاف أن الكلام عليه أملأ بالفائدة وبين ذلك بأن الكلام مسوق لمدح المؤتين حثا في الفعل وهو على تقدير الالتفات من وجوه.
أحدها الإشارة بأولئك تعظيما لهم والثاني تقريه الملائكة عليهم السلام بمدحهم. والثالث ما في نفس الالتفات من الحسن. والرابع ما في أولئك على هذا من الفائدة المقررة في نحو فذلك أن يهلك فحسبي ثناؤه بخلافه إذا جعل وصفا للمؤتين وعلى ذلك التقدير يفيد تعظيم الفعل لا الفاعل وإن لزم بالعرض فلا يعارض ما يفيده بالأصالة فتأمل ، والآية على المعنى الأول للربا في معنى قوله عزّ وجلّ : يمحق اللّه الربا ويربي الصدقات [البقرة : 276] سواء بسواء ، والذي يقتضيه كلام كثير أنها تشعر بالنهي عن الربا بذلك المعنى لكن أنت تعلم أنها لو أشعرت بذلك لأشعرت بحرمة الربا بمعنى العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة على تقدير تفسير الربا بها مع أنهم صرحوا بعدم حرمة ذلك على غيره صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وحرمتها عليه عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى : ولا تمنن تستكثر [المدثر : 6] وكذا صرحوا بأن ما يأخذه المعطي لتلك العطية من الزيادة على ما أعطاه ليس بحرام ودافعه ليس بآثم لكنه لا يثاب على دفع الزيادة لأنها ليست صلة مبتدأة بل بمقابلة ما أعطي أولا ولا ثواب فيما يدفع عوضا وكذا لا ثواب في إعطاء تلك العطية أولا لأنها شبكة صيد ، ومعنى قول بعض التابعين الجانب المستغزر يثاب من هبته أن الرجل الغريب إذا أهدى إليك شيئا لتكافئه وتزيده شيئا فأثبه من هديته وزده.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ الظاهر أن الاسم الجليل مبتدأ والَّذِي خبره والاستفهام إنكاري ومِنْ شُرَكائِكُمْ خبر مقدم ومِنْ مبتدأ مؤخر ومِنْ فيه للتبعيض ومِنْ ذلِكُمْ صفة شَيْءٍ قدمت عليه فأعربت حالا ومِنْ فيه للتبعيض أيضا وشَيْءٍ مفعول يفعل ومِنْ الداخلة عليه مزيدة لتأكيد الاستغراق ، وجوز الزمخشري أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والَّذِي صفته والخبر هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ إلخ والرابط اسم الإشارة المشار به إلى أفعاله تعالى السابقة - فمن ذلكم - بمعنى من أفعاله ، ووقعت الجملة المذكورة خبرا لأنها خبر منفي معنى وإن كانت استفهامية ظاهرا فكأنه قيل : اللّه الخالق الرازق المميت المحيي لا يشاركه شيء ممن لا يفعل أفعاله هذه ، وبعضهم جعلها خبرا بتقدير القول فكأنه قيل : اللّه الموصوف بكونه خالقا ورازقا ومميتا ومحييا مقول في حقه هل من شركائكم من هو موصوف بما هو موصوف به.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 47
وتعقب ذلك أبو حيان بأن اسم الإشارة لا يكون رابطا إلا إذا أشير به إلى المبتدأ وهو هنا ليس إشارة إليه لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى وخالفه الناس وذلك في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ [البقرة : 234] فإن التقدير يتربصن أزواجهم فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الَّذِينَ فحصل به الربط.
وكذلك قدر الزمخشري من ذلكم بمن أفعاله المضاف إلى ضمير المبتدأ لكن لا يخفى أن الإضافة غير معتبرة وعلى تقدير اعتبارها يلزم تقدير مضاف آخر ، وجوز أن تكون مِنْ الأولى لبيان من يفعل ومتعلقها محذوف ومَنْ يَفْعَلُ فاعل لفعل محذوف أي هل حصل واستقر من يفعل كائنا من شركائكم ، وكذا جوز في مِنْ الثانية أن تكون لبيان المستغرق ، وقيل : إن من الأولى ومن الثانية زائدتان كالثالثة وهو كما ترى ، والآية على ما قلناه أولا متضمنة جملتين دلت الأولى على إثبات ما هو من اللوازم المساوية للألوهية من الخلق والرزق والإماتة والإحياء له عزّ وجلّ وأفادت الثانية بواسطة عكس السالبة الكلية نفيها رأسا عن شركائهم الذين اتخذوهم شركاء له سبحانه من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار ، والعقل حاكم بأن ما يتخذ شريكا كالذي اتخذ في الحكم المذكور أعني نفي تلك الأفعال منه ، وإن شئت جعلت شُرَكائِكُمْ شاملا للصنفين ويفهم من ذلك عدم صحة الشركة إذ لا يعقل شركة ما ليس باله لعدم وجود لازم الألوهية فيه لمن هو إله في الألوهية ولتأكيد ذلك قال سبحانه وتعالى : سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن شركهم ، والتعبير بالمضارع لما في الشرك من الغرابة أو للإشعار باستمراره وتجدده منهم ، وأشار بعضهم إلى أن تينك الجملتين يؤخذ منهما مقدمتان موجبة وسالبة كلية مرتبتان على هيئة قياس من الشكل الثاني وأن قوله تعالى : سُبْحانَهُ إلخ يؤخذ منه سالبة كلية هي نتيجة ذلك القياس فتكون الجملتان المذكورتان في حكم قياس من الشكل الثاني ، وقوله تعالى : سُبْحانَهُ إلخ في حكم النتيجة له ، ولا يخفى احتياج ذلك إلى تكلف فتأمل جدا ، وقرأ الأعمش ، وابن وثاب «تشركون» بتاء الخطاب
[سورة الروم (30) : الآيات 41 إلى 60]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 48
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الصيادين والغاصة ومحق البركات من كل شيء وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضارع ، وعن ابن عباس أجدبت الأرض وانقطعت مادة البحر وقالوا : إذا انقطع القطر عميت دواب البحر ، وقال مجاهد : ظهر الفساد في البر بقتل ابن آدم أخاه وفي البحر بأخذ السفن غصبا ، وفي رواية عن ابن عباس بأخذ جلندي كل سفينة غصبا ، ولعل المراد التمثيل ، وكذا يقال في قتل ابن آدم أخاه وكان أول معصية ظهرت في البر قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذبا وكان لا يفترس الأسد البقر ولا الذئب الغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعر ما في الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصد الحيوان بعضه بعضا.
وذكر أن أول معصية في البحر غصب جلندي كل سفينة تمر عليه فكأن تخصيص الآمرين بالذكر لذلك ، وأيا ما كان فالبر والبحر على ظاهرهما ، وعن مجاهد البر البلاد البعيدة من البحر والبحر السواحل والمدن التي عند البحر والأنهار ، وقال قتادة : البر الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمود والبحر المدن ، والعرب تسمي الأمصار بحارا لسعتها ، ومنه قول سعد بن عبادة في عبد اللّه بن أبي ابن سلول ، ولقد أجمع أهل هذه البحيرة يعني المدينة ليتوجوه.
قال أبو حيان : ويؤيد هذا قراءة عكرمة «والبحور» بالجمع ورويت عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وجوز النحاس أن يكون البحر على ظاهره إلا أن الكلام على حذف مضاف أي مدن البحر فهو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف : 82] وجوز أيضا أن يراد بالفساد المعاصي من قطع الطريق والظلم وغيرهما ، و(أل) في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ للجنس وكذا في الْفَسادُ أي ظهر جنس الفساد من الجدب والموتان ونحوهما في جنس البر وجنس البحر بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بسبب ما فعله الناس من المعاصي والذنوب وشؤمه وهذا كقوله تعالى : وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى : 30] وهو على التفسير الأول للفساد ظاهر وأما على تفسيره بالمعاصي فالمعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر بكسب الناس إياها وفعلهم لها ، ومعنى قوله تعالى : لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ على الأول ظاهر وهو أن اللّه تعالى قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لعلهم يرجعون عما هم عليه وأما على الثاني فاللام مجاز على معنى أن ظهور المعاصي بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم اللّه تعالى وبال أعمالهم إرادة الرجوع فكأنهم إنما فسدوا وتسببوا لفشو المعاصي في الأرض لأجل ذلك.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 49
وقرأ السلمي ، والأعرج ، وأبو حيوة ، وسلام ، وسهل ، وروح ، وابن حسان ، وقنبل من طريق ابن مجاهد ، وابن الصباح ، وأبي الفضل الواسطي عنه ومحبوب عن أبي عمرو «لنذيقهم» بالنون ، وظهور الفساد المذكور على ما أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة كان قبل أن يبعث النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فلما بعث عليه الصلاة والسلام رجع من رجع من الناس عن الضلال والظلم ، وقيل : كان أوائل البعثة وذلك أن كفار قريش فعلوا ما فعلوا من المعاصي والإصرار على الشرك وإيذاء الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فدعا صلى اللّه تعالى عليه وسلم عليهم فأقحطوا وحل بهم من البلاء ما حل فأخبر اللّه سبحانه أن ذلك بسبب معاصيهم ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
وفسر هذا القائل : النَّاسِ بكفار قريش ، وقيل : كان في زمان سابق على زمان النزول أعم من أن يكون الزمان الذي قبيل البعثة أو بعيدها أو غير ذلك ، وحكم الآية عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة ، ومن هنا قيل : من أذنب ذنبا يكون جميع الخلائق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماءه يوم القيامة لأنه تعالى يمنع المطر بشؤم المعصية فيتضرر بذلك أهل البر والبحر جميعا ، وروي عن شقيق الزاهد أنه قال : من أكل الحرام فقد خان جميع الناس ، ووجه تعلق الآية بما قبلها أن فيها نعي ما يعم الشرك وغيره من المعاصي وفيما قبل نعي الشرك وفيها من تخويف المشركين ما فيها.
وقال الإمام : في وجه التعلق هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء : 22] وإذا كان الشرك سببه جعل اللّه تعالى إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لفسدت السماوات والأرض كما قال سبحانه : تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم : 90] وإلى هذا أشار عزّ وجلّ بقوله سبحانه : لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا انتهى ، فتأمل وأنصف. وقوله تعالى : قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ مسوق لتأكيد تسبب المعاصي لغضب اللّه تعالى ونكاله حيث أمروا بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك اللّه تعالى الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم ويتحققوا صدق ما تقدم ، وقوله تعالى : كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أن الشرك وحده لم يكن سبب لتدمير جميعهم بل هو سبب للتدمير في أكثرهم وما دونه من المعاصي سبب له في قليل منهم.
وجوز أن يكون للدلالة على أن سوء عاقبتهم لفشو الشرك وغلبته فيهم ففيه تهويل لأمر الشرك بأنه فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ أي إذا كان الأمر كذلك فأقم وتمام الكلام فيما هنا يعلم مما تقدم في هذه السورة الكريمة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ جوز أن يتعلق بمرد وهو مصدر بمعنى الرد ، والمعنى لا يرده سبحانه بعد أن يجيء به ولا رد له من جهته عزّ وجلّ فيفيد انتفاء رد غيره تعالى له بطريق برهاني ، واعترض بأنه لو كان كذلك للزم تنوين يَوْمٌ لمشابهته للمضاف.
وأجيب بأنه مبني على ما قاله ابن مالك في التسهيل من أنه قد يعامل الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه وحمل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام «لا مانع لما أعطيت»
وتفصيله في شرحه ، وبعضهم جعله متعلقا بمحذوف يدل عليه مَرَدَّ أي لا يرد من جهته تعالى أي لا يرده هو عزّ وجلّ وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف والتقدير هو أي الرد المنفي كائن من اللّه تعالى ، والجملة استئناف جواب سؤال تقديره ممن ذلك الرد المنفي؟ وقيل : هو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا للا ، وقيل : متعلق بالنفي أو بما دلّ عليه ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة اليوم ، وجوز كثير تعلقه بيأتي أي من قبل أن يأتي من اللّه تعالى يوم لا يقدر أحد أن يرده.
وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى وهو مع ذلك قليل الفائدة وارتضاه الطيبي فقال : هذا الوجه

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 50
أبلغ لإطلاق الرد وتفخيم اليوم وإن إتيانه من جهة عظيم قادر ذي سلطان قاهر ومنه يعلم أن ذلك ليس قليل الفائدة.
نعم إن فيه الفصل الملبس وحال سائر الأوجه لا يخفى على ذي تمييز يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يأتي يَصَّدَّعُونَ أصله يتصدعون فقلبت تاؤه صادا وأدغمت والتصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير ، وقيل : يتفرقون تفرق الأشخاص على ما ورد في قوله تعالى : يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة : 4] لا تفرق الفريقين فإن المبالغة في التفرق المستفادة من يَصَّدَّعُونَ إنما تناسب الأول ، ورجح الثاني بأنه المناسب للسياق والسباق إذا الكلام في المؤمنين والكافرين فما ذكر بيان لتباينهم في الدارين ويكفي للمبالغة شدة بعد ما بين المنزلتين حسا ومعنى وهو تفسير رواه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة ، وروي أيضا عن ابن زيد مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره وهي النار المؤبدة ففي الكلام مضاف مقدر أو الكفر مجاز عن جزائه بل عن جميع المضار التي لا ضرر وراءها ، وأفراد الضمير باعتبار لفظ مَنْ وفيه إشارة إلى قلة قدرهم عند اللّه تعالى وحقارتهم مع ما علم من كثرة عددهم ، وجمعه في قوله تعالى : وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ باعتبار معناها ، وفيه مع رعاية الفاصلة إشارة إلى كثرة قدرهم وعظمهم عند اللّه تعالى ، ويَمْهَدُونَ من مهد فراشه وطأه أي يوطؤون لأنفسهم كما يوطىء الرجل لنفسه فراشه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه وينغص عليه مرقده من نتوء أو ق أو بعض ما يؤذي الراقد فكأنه شبه حالة المكلف مع عمله الصالح وما يتحصل به من الثواب ويتخلص من العقاب بحالة من يمهد فراشه ويوطؤه ليستريح عليه ولا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه ، وجوز أن يكون المعنى فعلى أنفسهم يشفقون على أن ذلك من قولهم في المثل للمشفق أم فرشت فأنامت فيكون الكلام كناية إيمائية عن الشفقة والمرحمة والأولى أظهر ، والظاهر أن هذه التوطئة
لما بعد الموت من القبر وغيره ، وأخرج جماعة عن مجاهد أنه قال : فلأنفسهم يمهدون أي يسوون المضاجع في القبر وليس بذاك. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص وقيل : للاهتمام ، ومقابلة من كَفَرَ - بمن عمل صالحا - لا بمن آمن إما للتنويه بشأن الإيمان بناء على أنه المراد بالعمل الصالح وإما لمزيد الاعتناء بشأن المؤمن العامل بناء على أن المراد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي والقالبي ويشعر بأن المراد بمن عمل صالحا المؤمن العالم قوله تعالى : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ فإنه علّة ليمهدون وأقيم فيه الموصول مقام الضمير تعليلا للجزاء لما أن الموصول في معنى المشتق والتعليق به يفيد عليه مبدأ الاشتقاق ، وذكر مِنْ فَضْلِهِ للدلالة على أن الإثابة تفضل محض وتأويله بالعطاء أو الزيادة على ما يستحق من الثواب عدول عن الظاهر ، وجوز أن يكون ذلك علّة ليصدعون والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء بفحوى قوله تعالى : إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فإن عدم المحبة كناية عن البغض في العرف. وهو يقتضي الجزاء بموجبه فكأنه قيل : وليعاقب الكافرين. وفي الكشاف أن تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده تعالى إلّا المؤمن الصالح ، وقوله تعالى : إِنَّهُ إلخ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس ويعني بذلك كل كلامين يقرر الأول الثاني وبالعكس سواء كان صريحا وإشارة أو مفهوما ومنطوقا وذلك كقول ابن هانىء :
فما جازه جود ولا حل دونه ولكن يصير الجود حيث يصير
وبيانه فيما نحن فيه أن قوله تعالى : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يدل بمنطوقه على ما قرر على اختصاصهم بالجزاء التكريمي وبمفهومه على أنهم أهل الولاية والزلفى ، وقوله سبحانه : إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لتعليل الاختصاص يدل بمنطوقه على أن عدم المحبة يقتضي حرمانهم وبمفهومه على أن الجزاء لأضدادهم. موفر فهو جلّ وعلا محب

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 51
للمؤمنين ، وذكر العلامة الطيبي الظاهر أن قوله تعالى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ الآية بتمامها كالمورد للسؤال والخطاب لكل أحد من المكلفين وقوله تعالى : مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ الآية وارد على الاستئناف منطو على الجواب فكأنه لما قيل : أقيموا على الدين القيم قبل مجيء يوم يتفرقون فيه فقيل : ما للمقيمين على الدين وما على المنحرفين عنه وكيف يتفرقون ، فأجيب من كفر فعليه كفره الآية ، وأما قوله
هذا ولما ذكر سبحانه ظهور
مبني على أن الرياح للرحمة والريح للعذاب ، وفي نهاية العرب تقول : لا تلقح السحاب إلّا من رياح مختلفة فكأنه قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم اللهم اجعلها لقاحا للسحاب ولا تجعلها عذابا ثم قال : وتحقيق ذلك مجيء الجمع في آيات الرحمة والواحد في قصص العذاب كالريح العقيم وريحا صرصرا ، وقال بعضهم : إن ذاك لأن الريح إذا كانت واحدة جاءت من جهة واحدة فصدمت جسم الحيوان والنبات من جهة واحدة فتؤثر فيه أثرا أكثر من حاجته فتضره ويتضرر الجانب المقابل لعكس ممرها ويفوته حظه من الهواء فيكون داعيا إلى فساده بخلاف ما إذا كانت رياحا فإنها تعم جوانب الجسم فيأخذ كل جانب حظه فيحدث الاعتدال ، وأنت تعلم أنه قد تفرد الريح حيث لا عذاب كما في قوله تعالى : وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يوسف : 22] وقوله سبحانه : وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [الأنبياء : 81] والحديث مختلف فيه فرمز السيوطي لحسنه ، وقال الحافظ الهيثمي : في سنده حسين بن قيس وهو متروك وبقية رجاله رجال الصحيح ، ورواه ابن عدي في الكامل من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور ، ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي. نعم إن الحافظ عزاه في الفتح لأبي يعلى وحده عن أنس رفعه ، وقال إسناده صحيح فليحفظ ذلك.
وقرأ ابن كثير ، والكسائي ، والأعمش «الريح» مفردا على إرادة معنى الجمع ولذا قال سبحانه : مُبَشِّراتٍ أي بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني المنافع التابعة لها كتذرية الحبوب وتخفيف العفونة وسقي الأشجار إلى غير ذلك من اللطف والنعم ، وقيل : الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها ، ولأوجه التخصيص ، والواو للعطف ، والعطف على علة محذوفة دلّ عليها مُبَشِّراتٍ أي ليبشركم وليذيقكم أو على

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 52
مُبَشِّراتٍ باعتبار المعنى فإن الحال قد يقصد بها التعليل نحو أهن زيدا مسيئا أي لإساءته فكأنه قيل : لتبشركم وليذيقكم ، وكونه من عطف التوهم أو توهم على يُرْسِلَ بإضمار فعل معلل والتقدير ويرسلها ليذيقكم ، وكون التقدير ويجري الرياح ليذيقكم بعيد قيل : أو على جملة ومن آياته إلخ بتقدير وليذيقكم أرسلها أو فعل ما فعل ، ولم يعتبره بعضهم لأن المقصود اندراج الإذاقة في الآيات ، وقيل : الواو زائدة وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ في البحر عند هبوبها بِأَمْرِهِ عزّ وجلّ وإنما جيء بهذا القيد لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية فلا بد من انضمام إرادته تعالى وأمره سبحانه للريح حتى يتأتى المطلوب ، وقيل : للإشارة إلى أن هبوبها مواتية أمر من أموره تعالى التي لا يقدر عليها غيره عزّ وجلّ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بتجارة البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولتشكروا نعمة اللّه تعالى فيما ذكر لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ
اعتراض لتسليته صلّى اللّه عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد لمن عصاه ، وفي ذلك أيضا تحذير عن الإخلال بمواجب الشكر.
والمراد بقومهم أقوامهم والإفراد للاختصار حيث لا لبس والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى أقوامهم كما أرسلناك إلى قومك جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
أي جاء كل قوم رسولهم بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
الفاء فصيحة أي فآمن بعض وكذب بعض فانتقمنا ، وقيل : أي فكذبوهم فانتقمنا منهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بالعلة والتنبيه على مكان المحذوف ، وجوز أن تكون تفصيلا للعموم بأن فيهم مجرما مقهورا ومؤمنا منصورا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
فيه مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على اللّه تعالى أن ينصرهم وإشعار بأن الانتقام لأجلهم ، والمراد بهم ما يشمل الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وجوز تخصيص ذلك بالرسل بجعل التعريف عهديا ، وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا ، وفي بعض الآثار ما يشعر بعدم اختصاصه بها وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة.
أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على اللّه تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا عليه الصلاة والسلام وكان حقا علينا نصر المؤمنين»
وفي هذا إشعار بأن قًّا
خبر كان وصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
الاسم كما هو الظاهر ، وإنما آخر الاسم لكون ما تعلق به فاصلة وللاهتمام بالخبر إذ هو محط الفائدة على ما في البحر.
قال ابن عطية : ووقف بعض القراء على قًّا
على أن اسم كان ضمير الانتقام أي وكان الانتقام حقا وعدلا لا ظلما ، ورجوعه إليه على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة : 8] ولَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
جملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر المؤيد بالخبر وإن لم يكن فيه محذور من حيث المعنى اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ استئناف مسوق لبيان ما أجمل فيما سيق من أحوال الرياح فَتُثِيرُ سَحاباً تحركه وتنشره فَيَبْسُطُهُ بسطا تاما متصلا تارة فِي السَّماءِ في سمتها لا في نفس السماء بالمعنى المتبادر كَيْفَ يَشاءُ سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك فالجملة الإنشائية حال بالتأويل وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي قطعا تارة أخرى.
وقرأ ابن عامر بسكون السين على أنه مخفف من المفتوح أو جمع كسفة أي قطعة أو مصدر كعلم وصف به مبالغة أو بتأويله بالمفعول أو بتقدير ذا كسف فَتَرَى يا من يصح منه الرؤية الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي فرجه جمع خلل في التارتين الاتصال والتقطع فالضمير للسحاب وهو اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه ، وجوز على قراءة «كسفا» بالسكون أن يكون له ، وليس بشيء.
فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بلادهم وأراضيهم ، والباء في بِهِ للتعدية إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 53
فاجاؤوا الاستبشار بمجيء الخصب وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ الودق مِنْ قَبْلِهِ أي التنزيل لَمُبْلِسِينَ أي آيسين ، والتكرير للتأكيد ، وأفاد كما قال ابن عطية الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار ، وذلك أن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ يحمل الفسحة في الزمان فجاء مِنْ قَبْلِهِ للدلالة على الاتصال ودفع ذلك الاحتمال ، وقال الزمخشري : أكد ليدل على بعد عهدهم بالمطر فيفهم منه استحكام يأسهم ، وما ذكره ابن عطية أقرب لأن المتبادر من القبلية الاتصال وتأكيد دال على شدته. وأبو حيان أنكر على كلا الشيخين وقال : ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر وإنما هو عندي لمجرد التأكيد ويفيد رفع المجاز فقط ، وقال قطرب : ضمير قَبْلِهِ للمطر فلا تأكيد. وأنت تعلم أنه يصير التقدير من قبل تنزيل المطر من قبل المطر وهو تركيب لا يسوغ في كلام فصيح فضلا عن القرآن ، وقيل : الضمير للزرع الدال عليه المطر أي من قبل تنزيل المطر من قبل أن يزرعوا ، وفيه أن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ متعلق بمبلسين ولا يمكن تعلق مِنْ قَبْلِهِ به أيضا لأن حرفي جر بمعنى لا يتعلقان بعامل واحد إلّا أن يكون بوساطة حرف العطف أو على جهة البدل ولا عاطف هنا ولا يصح البدل ظاهرا ، وجوز بعضهم فيه بدل الاشتمال مكتفيا فيه يكون الزرع ناشئا عن التنزيل فكان التنزيل مشتملا عليه وهو كما ترى.
وقال المبرد : الضمير للسحاب لأنهم لما رأوا السحاب كانوا راجين المطر ، والمراد من قبل رؤية السحاب ، ويحتاج أيضا إلى حرف عطف حتى يصح تعلق الحرفين بمبلسين ، وقال علي بن عيسى : الضمير للإرسال ، وقال الكرماني : للاستبشار لأنه قرن بالإبلاس ومن عليهم به ، وأورد عليهما أمر التعلق من غير عطف كما أورد على من قبلهما فإن قالوا بحذف حرف العطف ففي جوازه في مثل هذا الموضع قياسا خلاف. واختار بعضهم كونه للاستبشار على أن مِنْ متعلقة بينزل ومِنْ الأولى متعلقة بمبلسين لأنه يفيد سرعة تقلب قلوبهم من اليأس إلى الاستبشار بالإشارة إلى غاية تقارب زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالتنزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية فتأمل ، وإِنْ مخففة من الثقيلة واللام في لمبلسين هي الفارقة ، ولا ضمير شأن مقدرا لإن ، لأنه إنما يقدر للمفتوحة وأما المكسورة فيجب إهمالها كما فصله في المغني ، وبعض الأجلة قال بالتقدير فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ المترتبة على تنزيل المطر من النبات والأشجار وأنواع الثمار ، والفاء للدلالة على سرعة ترتبها عليه.
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو بكر «أثر» بالإفراد وفتح الهمزة والثاء ، وقرأ سلام «إثر» بكسر الهمزة وإسكان الثاء ، وإسكان الثاء ، وقوله تعالى : كَيْفَ يُحْيِ أي اللّه تعالى الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها في حيز النصب بنزع الخافض وكَيْفَ معلق لانظر أي فانظر لإحيائه تعالى البديع للأرض بعد موتها ، وقال ابن جني : على الحالية بالتأويل أي محييا ، وأيا ما كان فالمراد بالأمر بالنظر التنبيه علي عظيم قدرته تعالى وسعة رحمته عزّ وجلّ مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث.
وقرأ الجحدري ، وابن السميفع ، وأبو حيوه «تحي» بتاء التأنيث والضمير عائد على الرحمة ، وجوز على قراءة الحرميين ومن معهما أن يكون الضمير للأثر على أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه ، وليس بشيء كما لا يخفى إِنَّ ذلِكَ العظيم الشأن لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية ، وقيل : يحتمل أن يكون النبات الحادث من أجزاء نباتية تفتتت وتبدّدت واختلطت بالتراب الذي فيه عروقها في بعض الأعوام السالفة فيكون كالإحياء بعينه بإعادة المواد والقوى لا بإعادة القوى فقط ، وهو احتمال واهي القوى بعيد ، ولا نسلم أن المسلم المسترشد يعلم وقوعه ، وقوله تعالى : وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرّر لمضمون ما قبله أي مبالغ في القدرة على جميع

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 54
الأشياء التي من جملتها إحياؤهم لما أن نسبة قدرته عزّ وجلّ إلى الكل سواء.
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا أي النبات المفهوم من السياق كما قال أبو حيان أو الأثر المدلول عليه بالآثار أو النبات المعبر عنه بها على ما قاله بعضهم ، والنبات في الأصل مصدر يقع على القليل والكثير ثم سمي به ما ينبت ، وقال ابن عيسى : الضمير للسحاب لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر ، وقيل : للريح وهي تذكر وتؤنث ، وكلا القولين ضعيفان كما في البحر.
وقرأ جناح بن حبيش «مصفارا» بألف بعد الفاء ، واللام في لَئِنْ موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط ، والفاء في فَرَأَوْهُ فصيحة ، واللام في قوله تعالى : لَظَلُّوا لام جواب القسم الساد مسد الجوابين والماضي بمعنى المستقبل كما قاله أبو البقاء ، ومكي ، وأبو حيان ، وغيرهم ، وعلل ذلك بأنه في المعنى جواب (إن) وهو لا يكون إلّا مستقبلا ، وقال الفاضل اليمني : إنما قدروا الماضي بمعنى المستقبل من حيث إن الماضي إذا كان متمكنا متصرفا ووقع جوابا للقسم فلا بد فيه من قد واللام معا فالقصر على اللام لأنه مستقبل معنى وفيه نظر ، وقدروه بمضارع مؤكد بالنون أي وباللّه تعالى لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفار فرأوه مصفرا بعد خضرته ونضارته ليظلنّ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الإرسال أو من بعد اصفرار زرعهم ، وقيل : من بعد كونهم راجين مستبشرين يَكْفُرُونَ من غير تلعثم نعمة اللّه تعالى ، وفيما ذكر من ذمهم بعدم تثبتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفي الإفراط والتفريط ما لا يخفى حيث كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على اللّه سبحانه في كل حال ويلجؤوا إليه عزّ وجلّ بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر ولا ييأسوا من روح اللّه تعالى ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جلّ وعلا برحمته ولا يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه تعالى إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه جلّ شأنه فعكسوا الأمر وأبوا ما يجديهم وأتوا بما يؤذيهم ، ولا يخفى ما في الآيات من الدلالة على ترجيح جانب الرحمة على جانب العذاب فلا تغفل.
وقوله تعالى : فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى تعليل لما يفهم من الكلام السابق كأنه قيل : لا تحزن لعدم اهتدائهم بتذكيرك فإنك إلخ ، وفي الكشف اعلم أن قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ كلام سبق مقرر لما فهم من قوله سبحانه : لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ
[الروم : 47] الآية لدلالته على أنه عزّ وجلّ ينتقم من المكذبين برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وينصر متابعيه فذكر فيه من البينات ما أجمل هنالك مما يدل على القدرة والحكمة والرحمة واختير من الأدلة ما يجمع الثلاثة وفيه ما يرشد إلى تحقيق طرفي الإيمان أعني المبدأ والمعاد وصرح بكفرانهم بالنعمة وذمهم في الحالات الثلاث لأن ذلك مما يعرفه أهل الفطرة السليمة ويتخلق به وأدمج فيه دلالته على المعاد بقوله تعالى :
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ ولما فرغ من حديث ذمهم بنى على هذا المدمج وما دل عليه سياق الكلام من تماديهم في الضلالة مثل هذه البينات التي لا أتم منها في الدلالة فقال سبحانه : فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ إلى قوله تعالى : فَهُمْ مُسْلِمُونَ وفيه أنهم إذا لا محالة من الذين ينتقم منهم وأنك وأشياعك من المنصورين واللّه تعالى أعلم ا ه ، فتأمله مع ما ذكرنا.
وقد تقدم الكلام في هذه الجملة خالية عن الفاء في سورة النمل وكذا في قوله تعالى : وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ بيد أنا نذكر هنا ما ذكره الأجلة في سماع الموتى وفاء بما وعدنا هنالك فنقول ومن اللّه تعالى التوفيق : نقل عن العلامة ابن الهمام أنه قال : أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالا بقوله تعالى : فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ونحوها يعني من قوله تعالى : وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر : 22] ولذا لم يقولوا بتلقين القبر وقالوا : لو حلف لا

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 55
يكلم فلانا فكلمه ميتا لا يحنث ، وحكى السفاريني في البحور الزاخرة أن عائشة ذهبت إلى نفي سماع الموتى ووافقها طائفة من العلماء على ذلك ، ورجحه القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا - يعني الحنابلة - في كتابه الجامع الكبير واحتجوا بقوله تعالى : فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ونحوه ، وذهبت طوائف من أهل العلم إلى سماعهم في الجملة.
وقال ابن عبد البر : إن الأكثرين على ذلك وهو اختيار ابن جرير والطبري وكذا ذكر ابن قتيبة ، وغيره ، واحتجوا بما
في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي اللّه تعالى عنهما قال : «لما كان يوم بدر وظهر عليهم - يعني مشركي قريش - رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا وفي رواية أربع وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى أي بئر من أطواء بدر وأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعد ربي حقا؟ فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : يا رسول اللّه ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال : والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، زاد في رواية لمسلم عن أنس «ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا»
وبما
أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال : «كانت امرأة بالمدينة تقمّ المسجد فماتت فلم يعلم بها النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فمر على قبرها فقال عليه الصلاة والسلام : ما هذا القبر؟ فقالوا : أم محجن قال :
التي كانت تقم المسجد؟ قالوا : نعم فصف الناس فصلى عليها فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أي العمل وجدت أفضل؟ قالوا يا رسول اللّه أتسمع؟ قال : ما أنتم بأسمع منها فذكر عليه الصلاة والسلام أنها أجابته قم المسجد»
وبما
رواه البيهقي ، والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال :
«أشهد أنكم أحياء عند اللّه تعالى فزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة»
وبما
أخرج ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح عن ابن عباس مرفوعا «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه»
وبما أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : «الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له : أتسمع ما يقال لك؟ فإذا بلغ حفرته دفنه معه» وبما
في الصحيحين من قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم»
وأجابوا عن الآية فقال السهيلي :
إنها كقوله تعالى : أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ أي إن اللّه تعالى هو الذي يسمع ويهدي.
وقال بعض الأجلة : إن معناها لا تسمعهم إلّا أن يشاء اللّه تعالى أو لا تسمعهم سماعا ينفعهم ، وقد ينفى الشيء لانتفاء فائدته وثمرته كما في قوله تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها [الأعراف : 279] الآية ، وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في قوله تعالى : وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ ويكون نكتة العدول عن - فإنك لا تسمع الموتى ولا الصم - إلى ما في النظم الجليل العناية بنفي الإسماع ويجوز أن لا يعتبر فيه ويبقى الكلام على ظاهره ويكون نكتة العدول الإشارة إلى أن لا تُسْمِعُ في كل من الجملتين بمعنى.
وقال الذاهبون إلى عدم سماعهم : الأصل عدم التأويل والتمسك بالظاهر إلى أن يتحقق ما يقتضي خلافه ، وأجابوا عن كثير مما استدل به الآخرون فقال بعضهم : إن ما وقع في حديث أبي طلحة رضي اللّه تعالى عنه يجوز أن يكون معجزة له صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وهو مراد من قال : إنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهي من خوارق العادة ، والكلام في موافقها وهو الذي نفي في آية فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ونحوها وفي قوله عليه الصلاة والسلام : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»
دون ما أنتم بأسمع لما يقال ونحوه منهم تأييد ما لذلك ، وحديث أبي الشيخ مرسل وحكم الاستدلال به معروف ، على أن احتمال الخصوصية قائم فيه أيضا : وفي صحيح البخاري قال قتادة :

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 56
أحياهم اللّه تعالى يعني أهل الطوى حتى أسمعهم قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما ، ويؤيد ما
أخرج البخاري ، ومسلم ، والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال : «وقف النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم على قليب بدر فقال : هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام : إنهم الآن يسمعون ما أقول»
حيث قيد صلى اللّه تعالى عليه وسلم سماعهم بالآن ، وإذا قلنا ، بأن الميت يسأل سبعة أيام في قبره مؤمنا كان أو منافقا أو كافرا وإنه حين السؤال تعاد إليه روحه كان لك أن تقول : يجوز أن يكون خطاب أهل القليب حين إعادة أرواحهم إلى أبدانهم للسؤال فإنه كما في حديث أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي كان في اليوم الثالث من قتلهم ، ويحتمل أن يكون خطابه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لأم محجن كان وقت السؤال بأن يكون ذلك قبل مضي سبعة أيام عليها ، وعليه لا يكون سماعهم من المتنازع فيه لأنهم حين سمعوا أحياء لا موتى ، ويرد على هذا أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال عليه الصلاة والسلام : ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ، ولم ينكر ذلك عليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بل
قال له عليه الصلاة والسلام له : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»
ولو كان الأمر كما قال قتادة لكان الظاهر أن يقول صلى اللّه تعالى عليه وسلم له رضي اللّه تعالى عنه : ليس الأمر كما تقول إن اللّه عزّ وجلّ أحياهم لي أو نحو ذلك ، وعائشة رضي اللّه تعالى عنها أنكرت ما وقع في الحديث مما استدل به على المقصود ،
ففي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال : ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، فقالت : وهل ابن عمر إنما قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن» قالت : وذلك مثل قوله : إن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول إنما قال : «إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق» ثم قرأت فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
[فاطر :
22] وتعقب ذلك السهيلي فقال : عائشة رضي اللّه تعالى عنها لم تحضر قول النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظه عليه الصلاة والسلام ، وقد قالوا له : يا رسول اللّه أتخاطب قوما قد جيفوا؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم
قالوا : وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين يعني كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين ا ه هو كلام قوي ، ولا يقدح عدم حضورها في روايتها لأنه مرسل صحابي وهو محمول على أنه سمع ذلك ممن حضره أو من النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، ولو كان ذلك قادحا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر السابقة فإنه لم يحضر أيضا ، ولا مانع من أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام قال اللفظين جميعا فإنه كما علم من كلام السهيلي لا تعارض بينهما ، وقال بعضهم فيما رواه البيهقي ، والحاكم وصححه ، وغيرهما : إنا لا نسلم صحته وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار ، وإن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء أما الشهداء فيسمعون في الجملة لامتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند اللّه عزّ وجلّ ، وقيل في حديث ابن عبد البر : إن عبد الحق وإن قال إسناده صحيح إلا أن الحافظ ابن رجب تعقبه وقال : إنه ضعيف بل منكر وفي حديث ابن أبي الدنيا إنه على تسليم صحته لا يثبت المطلوب لأن خطاب الملك عليه السّلام للروح الذي بيده وهو ليس بميت ، وفي حديث الصحيحين من سماع العبد قرع نعال أصحابه إذا دفنوه وانصرفوا عنه إنه إذ ذاك تعود إليه روحه للسؤال فيسمع وهو حي والجمهور على عود الروح إلى الجسد أو بعضه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء اللّه تعالى منهم ووراء ذلك مذاهب ، فمذهب ابن جرير وجماعة من الكرامية أن السؤال في القبر على البدن فقط وأن اللّه تعالى يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم ، وعلى هذا المذهب يمكن أن يقال نحو ما
قيل على الأول ، ومذهب ابن حزم وابن ميسرة إنه على الروح فقط ، ومذهب أبي الهذيل واتباعه أن الميت لا يشعر بشي ء

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 57
أصلا إلا بين النفختين ، والحق أن الموتى يسمعون في الجملة وهذا على أحد وجهين ، أولهما أن يخلق اللّه عزّ وجلّ في بعض أجزاء الميت قوة يسمع بها متى شاء اللّه تعالى السلام ونحوه مما يشاء اللّه سبحانه سماعه إياه ولا يمنع من ذلك كونه تحت أطباق الثرى وقد انحلت منه هاتيك البنية وانفصمت العرى ولا يكاد يتوقف في قبول ذلك من يجوز أن يرى أعمى الصين بقة أندلس ، وثانيهما أن يكون ذلك السماع للروح بلا وساطة قوة في البدن ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك مطلقا بعد مفارقتها البدن بدون وساطة قوى فيه وحيث كان لها على الصحيح تعلق لا يعلم حقيقته وكيفيته إلا اللّه عزّ وجلّ بالبدن كله أو بعضه بعد الموت وهو غير التعلق بالبدن الذي كان لها قبلة أجرى اللّه سبحانه عادته بتمكينها من السمع وخلقه لها عند زيارة القبر وكذا عند حمل البدن إليه وعند الغسل مثلا ولا يلزم من وجود ذلك التعلق والقول بوجود قوة السمع ونحوه فيها نفسها أن تسمع كل مسموع لما أن السماع مطلقا وكذا سائر الإحساسات ليس الا تابعا للمشيئة فما شاء اللّه تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه من السلام ونحوه ، وهذا الوجه الذي يترجح عندي ولا يلزم عليه التزام القول بأن أرواح الموتى مطلقاه إلا هو عزّ وجلّ فلتكن الروح حيث شاءت أو لا تكن في مكان كما هو رأي من يقول بتجردها.
ويؤخذ من كلام ذكره العارف ابن مرجان في شرح اسماء اللّه تعالى الحسنى تحقيق على وجه آخر وهو أن للشخص نفسا مبرأة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وروحا أوجدها اللّه تبارك وتعالى من باطن ما برأ منه النفس وهي للنفس بمنزلة النفس للجسم فالنفس حجابها وبعد المفارقة في العبد المؤمن تجعل الحقيقة الروحانية عامرة العلو من السماء الدنيا إلى السماء السابعة بل إلى حيث شاء اللّه تعالى من العلو في سرور ونعيم وتجعل الحقيقة النفسانية عامرة السفل من قبره إلى حيث شاء اللّه تعالى من الجو ولذلك لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم موسى قائما يصلي في قبره وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده عليه الصلاة والسلام إلى السماء ولقيهما عليهما السلام بعد الصعود في السماوات العلا فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما وكذا يقال في الكافر إلا أن الحقيقة الروحانية له لا تكون عامرة العلو فلا تفتح لهم أبواب السماء بل تكون عامرة دار شقائها والعياذ باللّه تعالى ، وبين الحقيقتين اتصال وبوساطة ذلك ومشيئته عزّ وجلّ يسمع من سلم عليه في قبره السلام ولا يختص السماع في السلام عند الزيارة ليلة الجمعة ويومها وبكرة السبت أو يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها بل يكون ذلك في السلام عند الزيارة مطلقا فالميت يسمع اللّه تعالى روحه السلام عليه من زائره في أي وقت كان ويقدره سبحانه على رد السلام كما صرح في بعض الآثار.
وما أخرجه العقيلي من أنهم يسمعون السلام ولا يستطيعون رده محمول على نفي استطاعة الرد على الوجه المعهود الذي يسمعه الاحياء ، وقيل : رد السلام وعدمه مما يختلف باختلاف الأشخاص فرب شخص يقدره اللّه تعالى على الرد ولا يثاب عليه لانقطاع العمل وشخص آخر لا يقدره عزّ وجلّ ، وعندي أن التعلق أيضا مما يتفاوت قوة وضعفا بحسب الأشخاص بل وبحسب الأزمان أيضا وبذلك يجمع بين الاخبار والآثار المختلفة.
وأما الجواب عن الآية التي الكلام فيها ونحوها مما يدل بظاهره على نفي السماع فيعلم مما تقدم فليفهم واللّه تعالى أعلم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ مبتدأ وخبر أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى : وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء : 28] فمن ابتدائية وفي الضعف استعارة مكنية حيث شبه بالأساس والمادة وفي إدخال من عليه تخييل ، ويجوز أن يراد من الضعف الضعيف بإطلاق المصدر على الوصف مبالغة أو بتأويله به أو

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 58
يراد من ذي ضعف والمراد بذلك النطفة أي اللّه تعالى الذي ابتدأ خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة كقوله تعالى :
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة : 8 ، المرسلات : 20] وهذا التفسير وإن كان مأثورا عن قتادة إلا أن الأول أولى وأنسب بقوله تعالى : ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً وذلك عند بلوغكم الحلم أو تعلق الروح بأبدانكم ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً إذا أخذ منكم السن والمراد بالضعف هنا ابتداؤه ولذا أخر الشيب عنه أو الأعم فقوله سبحانه :
شَيْبَةً للبيان أو للجمع بين تغيير قواهم وظواهرهم ، وفتح عاصم وحمزة ضاد «ضعف» في الجمع وهي قراءة عبد اللّه : وأبي رجاء.
وقرأ الجمهور بضمها فيه والضم والفتح لغتان في ذلك كما في الفقر والفقر الفتح لغة تميم والضم لغة قريش ، ولذا اختار النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قراءة الضم كما
ورد حديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، وأحمد وابن المنذر والطبراني والدارقطني وغيرهم عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما انه قال : قرأت على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي بالفتح فقال : مِنْ ضَعْفٍ يا بني أي بالضم
لأنها لغة قومه عليه الصلاة والسلام ولم يقصد صلى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك رد القراءة الأخرى لأنها ثابتة بالوحي أيضا كالقراءة التي اختارها ، وروي عن عاصم الضم أيضا ، وعنه أيضا الضم في الأولين والفتح في الأخير ، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري ، والضحاك الضم في الأول والفتح فيما بعد.
وقرأ عيسى بضم الضاد والعين وهي لغة أيضا فيه. وحكي عن كثير من اللغويين أن الضعف بالضم ما كان في البدن والضعف بالفتح ما كان في العقل ، والظاهر انه لا فرق بين المضموم والمفتوح وكونهما مما يوصف به البدن والعقل ، والمراد بضعف الثاني عين الأول ، ونكر لمشاكلة قُوَّةً وبالأخير غيره فإنه ضعف الشيخوخة وذاك ضعف الطفولية ، والمراد بقوة الثانية عين الأولى ونكرت لمشاكلة ضَعْفاً وحديث النكرة إذا أعيدت كانت غير أغلبي ، وتكلف بعضهم لتحصيل المغايرة فيما نكر وكرر في الآية فتدبر يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة وخلقها أما بمعنى خلق أسبابها أو محالها واما إيجادها أنفسها وهو الظاهر ولا داعي للتأويل فإنها ليست بعدم صرف وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ المبالغ في العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأحوال المختلفة مع إمكان غيره من أوضح دلائل العلم والقدرة.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علما لها بالغلبة كالنجم للثريا والكوكب للزهرة ، والمراد بقيامها وجودها أو قيام الخلائق فيها يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا أي ما أقاموا في القبور كما روي عن الكلبي ومقاتل ، والمراد به ما أقاموا بعد الموت غَيْرَ ساعَةٍ أي قطعة من الزمان قليلة ، وروى غير واحد عن قتادة أنهم يعنون ما لبثوا في الدنيا كذلك وقيل : يعنون ما لبثوا فيما بين فناء الدنيا والبعث وهو ما بين النفختين ، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم «ما بين النفختين أربعون قيل أربعون يوما يا أبا هريرة قال أبيت قيل أربعون شهرا قال أبيت قيل أربعون سنة قال أبيت»
وعنى بقوله رضي اللّه تعالى عنه أبيت : امتنعت من بيان ذلك لكم أو أبيت أن أسأل النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن ذلك ، ولهذا الحديث قيل لا يعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة. وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن بعضهم دعوى اتفاق الروايات على أن ما بين النفختين أربعون عاما ، وأنا أقول : الحق أنه لا يعلمه إلا اللّه تعالى ودعوى الاتفاق لم يقم عندي دليل عليها.

روح المعاني ، ج 11 ، ص : 59
وذكر الزمخشري أن ذلك وقت ينقطع عذابهم فيه واستقلوا مدة لبثهم كذبا على ما روي عن الكلبي أو نسيانا لما عراهم من هول المطلع على ما قيل ، وجوز أن يكون استقلالهم تلك المدة بالإضافة إلى مدة عذابهم يومئذ ولا يبعد علمهم بها سواء كان هذا القول في أول وقت الحشر أو في أثنائه أو بعد دخول النار ، وجوز أن يكونوا عدوا مدة بقائهم في الدنيا ساعة لعدم انتفاعهم بها والكثير بلا نفع قليل كما أن القليل مع النفع كثير فالكلام تأسف وتحسر على إضاعتهم أيام حياتهم ، وبين الساعة وساعة جناس تام مماثل كما أطبق عليه البلغاء إلا من لا يعتد به ولا يضر في ذلك اختلاف الحركة الإعرابية ولا وجود أل في إحدى الكلمتين لزيادتها على الكلمة ، وكذا لا يضر اتحاد مدلولهما في الأصل لأن المعرف فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمان لمكان النقل في المعرف وصيرورته علما على القيامة كسائر الأعلام المنقولة وأخذ أحدهما من الآخر لا يضر أيضا كما يوضح ذلك ما قرروه في جناس الاشتقاق ، وظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز ولذا أنكر التجنيس هنا إذا التجنيس المذكور لا يكون بين حقيقة ومجاز فلا تجنيس في نحو ركبت حمارا ولقيت حمارا معهما تعني رجلا بليدا واشتهر أنه لم يقع في القرآن الكريم هذا النوع من الجناس إلا في هذا الموضع ، واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر عليه الرحمة موضعا آخر وهو قوله تعالى يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [النور : 43 ، 44] لأن الأبصار الأول جمع بصر والابصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة ، وتعقب بأنه وإن كان الأبصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة إلا أنه ليس من باب الحقيقة بل بطريق المجاز والاستعارة لأن البصيرة ما تجمع على أبصار بل على بصائر ، فقد قال علماء العربية : إن صيغة أفعال من جموع القلة لا تطرد إلا في اسم
ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار أو مكسورها كعنب وأعناب أو مضمومها كرطب وأرطاب ساكن العين كثوب وأثواب أو محركها كما تقدم وكعضد وأعضاد وفخذ وأفخاذ ، وصيغة فعائل من جموع الكثرة لا تطرد إلا في اسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثة مدة كسحابة وسحائب وبصيرة وبصائر وحلوبة وحلائب وشمال وشمائل وعجوز وعجائز وسعيد علم امرأة وسعائد فاستعيرت الأبصار للبصائر بجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز وقد سمعت أن هذا النوع لا يكون بين حقيقة ومجاز فليحفظ كَذلِكَ أي مثل ذلك الإفك كانُوا أي في الدنيا يُؤْفَكُونَ أي يصرفون عن الصدق والتحقيق ، والغرض من سوق الآية الإغراق في وصف المجرمين بالتمادي في التكذيب والإصرار على الباطل أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة فسوق الكلام للتعجب من اغترارهم بلا مع السراب والغرض أن يحقر عندهم ما فيه من التمتعات وزخارف الدنيا كي يقلعوا عن العناد ويرجعوا إلى سبيل الرشاد فكأنه : قيل مثل ذلك الإفك العجيب الشأن كانوا يؤفكون في الدنيا اغترار بما عدده ساعة استقصارا والصارف لهم هو اللّه تعالى أو الشيطان أو الهوى ، وأيا ما كان فليس ذاك إلا لسوء اختيارهم وخباثة استعدادهم ، وفي الآية على أحد الأقوال دليل على وقوع الكذب في الآخرة من الكفرة.
واستدل بها بعضهم على نفي عذاب القبر ، وليس بشيء وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ في الدنيا من الملائكة أو الإنس أو منهما جميعا لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في علمه وقضائه أو ما كتبه وعينه سبحانه أو اللوح المحفوظ أو القرآن وهو قوله تعالى : وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون : 100] وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم - وفيه من البعد ما فيه - إن الكلام على التقديم والتأخير والأصل وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في كتاب اللّه لقد لبثتم إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ والكلام ولما قالوه مؤكد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...