الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج19.وج20.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

19. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 300
له فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي : أعوذ باللّه تعالى من الشيطان الرجيم ثلاثا فقال إبليس : أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ قال النبي : بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم فأجد كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي : إن اللّه تعالى يقول : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ قال إبليس : قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي : ويقول اللّه تعالى وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف : 200 ، فصلت : 36] وإني واللّه تعالى ما أحسست بك قط إلا استعذت باللّه تعالى منك قال إبليس :
صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي : أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم قال : آخذه عند الغضب وعند الهوى لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ
فيكون لكل باب فرقة تغلب عليها قوة ذلك الباب ، نسأل اللّه تعالى أن يجيرنا منها بحرمة سيد ذوي الألباب صلى اللّه عليه وسلم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 45 إلى 99]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69)
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 301
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي مستقرون في ذلك خالدون فيه ، والمراد بهم - على ما في الكشاف عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها ، وفيه أن المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهي عنه ، ونقل الإمام عن جمهور الصحابة والتابعين وذكر أنه المنقول عن الخير أن المراد بهم الذين اتقوا الشرك ثم قال : وهذا هو الحق الصحيح ، والذي يدل عليه أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى ، والذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا ، ولهذا قالوا : ظاهر الأمر لا يفيد التكرار فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم ، وأيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس : إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وعقيب قوله تعالى : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر ، فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولو كانوا من أهل المعصية ، وهذا تقرير بين وكلام ظاهر اه. وقد يقال : لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وأن المطلق يحمل على الكامل والكامل ما أشار إليه الزمخشري ولا بأس بالحمل عليه وقيل إنه الأنسب.
وإخراج العصاة من النار ثابت بنصوص أخر ، وكذا إدخال التائبين الجنة بل غيرهم أيضا فلا يلزم القائل بذلك القول بما عليه المعتزلة من تخليد أصحاب الكبائر كما لا يخفى ، وأل للاستغراق وهو إما مجموعي فيكون لكل واحد من المتقين جنة وعين أو إفرادي فيكون لكل جنات وعيون ، والمراد بالعيون يحتمل كما قيل أن يكون الأنهار المذكورة في قوله تعالى : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد : 15] الآية ، ويحتمل أن يكون منابع مغايرة لتلك الأنهار وهو الظاهر ، وهل كل من المتقين مختص بعيونه أو ليس مختصا بل تجري من بعض إلى بعض احتمالان فإنه يمكن أن يكون لكل واحد عين وينتفع بها من في معيته ، ويمكن أن تجري العين من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد ، وضم العين من عُيُونٍ هو الأصل وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام وقرأ الباقون بالعكس وهو لمناسبة الياء. ادْخُلُوها أمر لهم بالدخول من قبله تعالى ، وهو بتقدير القول على أنه حال أي وقد قيل لهم ادخلوها ، فلا يرد أنه بعد الحكم بأنهم في الجنة كيف يقال

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 302
لهم ادخلوها ، وجوز أن يقدر مقولا لهم ذلك والمقارنة عرفية لاتصالهما ، وقيل : يقدر يقال لهم فيكون مستأنفا ، ووجه ذكر هذا الأمر بعد الحكم السابق بأنهم لما ملكوا جنات كثيرة كانوا كلما خرجوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها إلى آخره ، وهو إنما يجري على تقدير أن يكون لكل جنات وبغير ذلك مما فيه دخل. وقرأ الحسن «أدخلوها» على أنه ماض مبني للمفعول من باب الأفعال والهمزة فيه للقطع ، وأصل القياس أن لا يكسر التنوين قبلها إلا أن الحسن كسره على أصل التقاء الساكنين إجراء لهمزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط. وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك إلا أنه ضم التنوين بإلقاء حركة همزة القطع عليه ، وعنه «أدخلوها» بفتح الهمزة عليه وكسر الخاء على أنه أمر للملائكة بإدخالهم إياها ، وفتح في هذه القراءة التنوين بإلقاء فتحة الهمزة عليه وعلى القراءة بصيغة الماضي لا حاجة إلى تقدير القول ، والفاعل عليها هو اللّه تعالى أي أدخلهم اللّه سبحانه إياها بِسَلامٍ أي ملتبسين به أي سالمين أو مسلما عليكم وعلى الأول يراد سلامتهم من الآفة والزوال في الحال ، ويراد بالأمن في وقوله سبحانه : آمِنِينَ الأمن من طرو ذلك في الاستقبال فلا حاجة إلى تخصيص السلامة بما يكون جسمانيا والأمن بغيره وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي حقد ، وأصله على ما قيل من الغلالة وهو ما يلبس بين الثوبين الشعار والدثار وتستعار للدرع كما يستعار الدرع لها ، وقيل : قيل للحقد غل أخذا له من انغل في كذا وتغلل إذا دخل فيه ، ومنه قيل للماء الجاري بين الشجر غلل ، وقد يستعمل الغل فيما يضمر في القلب مما يذم كالحسد والحقد وغيرهما ، وهذا النزع قيل في الدنيا ،
فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن كثير النوا قال : قلت لأبي جعفر إن فلانا حدثني عن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضي اللّه تعالى عنهم «1» وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قال : واللّه إنها لفيهم أنزلت وفيمن تنزل إلا فيهم؟ قلت : وأي غل هو؟ قال : غل الجاهلية إن بني تيم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا فأخذت أبا بكر الخاصرة فجعل علي كرم اللّه تعالى وجهه يسخن يده فيكوي بها خاصرة أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه فنزلت هذه الآية ،
ويشعر بذلك على ما قيل ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم وغيرهم من طرق عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال لابن طلحة : إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال اللّه تعالى : وَنَزَعْنا الآية فقال رجل من همذان : إن اللّه سبحانه أعدل من ذلك فصاح علي كرم اللّه تعالى وجهه عليه صيحة تداعى لها القصر ، وقال : فمن إذن إن لم نكن نحن أولئك؟ وقيل : إن ذلك في الآخرة بعد دخول الجنة ،
فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق القاسم عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا تدانوا وتقابلوا على السرر نزع اللّه تعالى ما في صدورهم في الدنيا من غل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم بن رشيد قال : ينتهي أهل الجنة إلى باب الجنة وهم يتلاحظون تلاحظ القيران فإذا دخلوها نزع اللّه تعالى ما في صدورهم من الغل ،
وقيل : فيها قبل الدخول ،
فقد أخرج ابن أبي حاتم أيضا عن الحسن قال : بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «يحيس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل».
وهذا ونحوه يؤيد ما قاله الإمام في المتقين ، وقيل : معنى الآية طهر اللّه تعالى قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع سبحانه منها كل غل وألقى فيها التواد والتحاب ، والآية ظاهرة في وجود الغل في صدورهم
___________
(1) رأيت في بعض النسخ زيادة وعثمان رضي اللّه تعالى عنه وآخر الخبر لا يقتضيها فتأمل اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 303
قبل النزع فتأمل.
إِخْواناً حال من الضمير فِي جَنَّاتٍ وهي حال مترادفة إن جعل ادْخُلُوها حالا من ذلك أيضا أو حال من فاعل ادْخُلُوها وهي مقدرة إن كان النزع في الجنة أو من ضمير آمِنِينَ أو الضمير المضاف إليه في صُدُورِهِمْ وجاز لأن المضاف بعض من ذلك وهي حال مقدرة أيضا ، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى : عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ويجوز أن يكونا صفتين - لإخوانا - أو حالين من الضمير المستتر فيه لأنه في معنى المشتق أي متصافيين ، ويجوز أن يكون مُتَقابِلِينَ حالا من المستتر في عَلى سُرُرٍ سواء كان حالا أو صفة ، وأبو حيان لا يرى جواز الحال من المضاف إليه إذا كان جزأه أو كجزئه ويخصه فيما إذا كان المضاف مما يعمل في المضاف إليه الرفع أو النصب ، وزعم أن جواز ذلك في الصورتين السابقتين مما تفرد به ابن مالك. ولم يقف على أنه نقله في فتاويه عن الأخفش وجماعة وافقوه فيه ، واختار كون إِخْواناً منصوبا على المدح والسرر بضمتين جمع سرير وهو معروف وأخذه من السرور إذ كان ذلك لأولي النعمة ، وإطلاقه على سرير الميت للتشبيه في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار اللّه عزّ وجلّ وخلاصه من سجنه المشار إليه بما جاء
في بعض الآثار «الدنيا سجن المؤمن».
وكلب وبعض بني تميم يفتحون الراء وكذا كل مضاعف فعيل ، ويجمع أيضا على أسرة ، وهي على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما من ذهب مكللة باليواقيت والزبرجد والدر ، وسعة كل كسعة ما بين صنعاء إلى الجابية. وفي كونهم على سرر إشارة إلى أنهم في رفعة وكرامة تامة.
وروي عن مجاهد أن الأسرة تدور بهم حيثما داروا فهم في جميع أحوالهم متقابلون لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ، فالتقابل التواجه وهو نقيض التدابر ، ووصفهم بذلك إشارة إلى أنهم على أشرف أحوال الاجتماع. وقيل : هو إشارة إلى أنهم يجتمعون ويتنادمون ، وقيل : معنى مُتَقابِلِينَ متساوين في التواصل والتزاور.
وفي بعض الأخبار أن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار كل واحد منهم إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان لا يَمَسُّهُمْ فِيها أي في تلك الجنات نَصَبٌ تعب ما إما بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من السعي في تحصيل ما لا بد لهم منه لحصول كل ما يشتهونه من غير مزاولة عمل أصلا ، وإما بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم. وفي بعض الآثار أن قوة الواحد منهم قوة أربعين رجلا من رجال الدنيا والجملة استئناف نحوي أو بياني أو حال من الضمير في فِي جَنَّاتٍ أو من الضمير في إِخْواناً أو من الضمير في مُتَقابِلِينَ أو من الضمير في عَلى سُرُرٍ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أي هم خالدون فيها. فالمراد استمرار النفي وذلك لأن إتمام النعمة بالخلود ، وهذا متكرر مع آمِنِينَ إن أريد منه الأمن من زوالهم عن الجنة وانتقالهم منها ، وارتكب ذلك للاعتناء والتأكيد وإن أريد به الأمن من زوال ما هم عليه من النعيم والسرور والصحة لا يتكرر ، وبحث بعضهم في لزوم التكرار بأن الأمن من الشيء لا يستلزم عدم وقوعه كأمن الكفرة من مكر اللّه تعالى مثلا وأنه يجوز أن يكون المراد زوال أنفسهم بالموت لا الزوال عن الجنة ، وتعقب بأن الثاني في غاية البعد فإنه لا يقال للميت : إنه فيها وإن دفن بها كالأول فإن اللّه تعالى إذا بشرهم بالأمن منه كيف يتوهم عدم وقوعه نَبِّئْ عِبادِي قيل : مطلقا ، وقيل :
الذين عبر عنهم بالمتقين أي أخبرهم أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ وهذا إجمال لما سبق من الوعد والوعيد وتأكيد له ، وأَنَا إما مبتدأ أو تأكيد أو فصل ، وهو إما مبتدأ أو فصل ، وأن وما بعدها - قال أبو حيان : - ساد مسد مفعولي نَبِّئْ إن قلنا : إنها تعدت إلى ثلاثة ومسد واحد إن قلنا تعدت إلى اثنين ، وفي ذكر المغفرة إشعار على ما قيل بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب إذ لو أريد ذلك لم يكن لذكرها موقع ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 304
وقيل : إن ذكرها حينئذ لدفع توهم أن غير أولئك المتقين لا يكون في الجنة بأنه يدخلها وإن لم يتب لأنه تعالى الغفور الرحيم ، وله وجه ، وفي توصيف ذاته تعالى بالمغفرة والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل سبحانه : وإني أنا المعذب المؤلم ترجيح لجانب الوعد على الوعيد وإن كان الأليم على ما قال غير واحد في الحقيقة صفة العذاب ، وكذا لا يضر في ذلك الإضافة لأنها لا تقتضي حصول المضاف إليه بالفعل كما إذا قيل ضربي شديد فإنه يصح أن يراد منه ذاك شدبد إذا وقع ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة ، ويقوي أمر الترجيح الإتيان بالوصفين بصيغتي المبالغة ، وكذا ما
أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : اطلع علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال : ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال : إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إن اللّه تعالى يقول لم تقنط عبادي؟ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الآية ،
وتقديم الوعد أيضا يؤيد ذلك ، وفيه إشارة إلى سبق الرحمة حسبما نطق به الخبر المشهور.
ومع هذا كله في الآية ما تخشع منه القلوب ،
فقد أخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية : بلغنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «لو يعلم العبد قدر عفو اللّه تعالى لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه»
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «إن اللّه سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند اللّه تعالى من العذاب لم يأمن من النار»
ثم إنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ذكر ما يحقق ذلك لما تضمنه من البشرى والإهلاك بقوله سبحانه : وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إلخ ، وقيل : إنه تفصيل لما تضمنته الآية السابقة منهما لا من الوعيد فقط كما قيل ، والمراد بضيف إبراهيم الملائكة عليهم السلام الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط عليه السلام ، وإنما سموا ضيفا لأنهم في صورة من كان ينزل به عليه السلام من الأضياف وكان لا ينزل به أحد إلا أضافه ، وكان لقصره عليه السلام أربعة أبواب من كل جهة باب لئلا يفوته أحد ، ولذا كان يكنى أبا الضيفان ، واختلف في عددهم كما تقدم ، وهو في الأصل مصدر والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث للمثنى والمجموع والمؤنث فلا حاجة إلى تكلف إضمار أي اصحاب ضيف كما قاله النحاس وغيره ، ولم يتعرض سبحانه لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط عليه السلام كما يأتي إن شاء اللّه تعالى ذكره.
وقرأ أبو حيوة «ونبيهم» بإبدال الهمزة ياء إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ نصب على أنه مفعول بفعل محذوف معطوف على نَبِّئْ أي واذكر وقت دخولهم عليه أو ظرف - لضيف - بناء على أنه مصدر في الأصل ، وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له بناء على أنه مصدر الآن مضاف إلى المفعول حيث كان التقدير أصحاب ضيف حسبما سمعته عن النحاس وغيره ، وأن يكون ظرفا لخبر مضافا إلى ضَيْفِ أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه فَقالُوا عند ذلك :
سَلاماً مقتطع من جملة محكية بالقول وليس منصوبا به أي سلمت سلاما من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية ، وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولا سلاما قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه ، وقوله عليه السلام هذا كان - عند غير واحد - بعد أن قرب إليهم العجل الحنيذ فلم يأكلوا منه ، وكان العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما يقدم له ظنوا أنه لم يجىء بخير ، وقيل : كان عند ابتداء دخولهم حيث دخلوا عليه عليه الصلاة والسلام بغير إذن وفي وقت لا يطرق في مثله ، وتعقب بأنه لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا به

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 305
ولم يكن عليه السلام ليقرب إليهم الطعام ، وأيضا قوله تعالى : فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود : 70] ظاهر فيما تقدم ولعل هذا التصريح كان بعد الإيجاس.
وقيل : يحتمل أن يكون القول هنا مجازا بأن يكون قد ظهرت عليه عليه الصلاة والسلام مخايل الخوف حتى صار كالقائل المصرح به ، وإنما لم يذكر هنا تقريب الطعام اكتفاء بذكره في غير هذا الموضع كما لم يذكر رده عليه السلام السلام عليهم لذلك ، وقد تقدم ما ينفعك هنا مفصلا في هود فتذكره. قالُوا لا تَوْجَلْ لا تخف وقرأ الحسن «لا توجل» بضم التاء مبنيا للمفعول من الإيجال ، وقرئ «لا تواجل» من واجله بمعنى أوجله و«لا تأجل» بإبدال الواو ألفا كما قالوا تابة في توبة. إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهي بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانا طويلا.
بِغُلامٍ هو إسحاق عليه السلام لأنه قد صرح به في موضع آخر ، وقد جعل سبحانه البشارة هنا لإبراهيم وفي آية أخرى لامرأته ولكل وجهة ، ولعلها هنا كونها أوفق بإنباء العرب عما وقع لجدهم الأعلى عليه السلام ، ولعله سبحانه لم يتعرض ببشارة يعقوب اكتفاء بما ذكر في سورة هود ، والتنوين للتعظيم أي بغلام عظيم القدر عَلِيمٍ ذي علم كثير ، قيل : أريد بذلك الإشارة إلى أنه يكون نبيا فهو على حد قوله تعالى : وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا [الصافات :
112] قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي بذلك عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ وأثر في والاستفهام للتعجب ، وعَلى بمعنى مع مثلها في قوله تعالى : وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة : 177] على أحد القولين في الضمير ، والجار والمجرور في موضع الحال فيكون قد تعجب عليه السلام من بشارتهم إياه مع هذه الحال المنافية لذلك ، ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار وعَلى على ما سمعت بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون البشارة مع الحال المذكورة. وزعم بعض المنتمين إلى أهل العلم أن الأول جعل عَلى بمعنى في مثلها في قوله تعالى : وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ [القصص :
15] وقوله سبحانه : وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة : 102] لوجهين الاستغناء عن التقدير وكون المصاحبة لصدقها بأول المس لا تنافي البشارة ، وهو لعمري ضرب من الهذيان كما لا يخفى على إنسان ثم إنه عليه السلام زاد في ذلك فقال : فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي فبأي أعجوبة تبشرون أو بأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يقع عادة بشارة بغير شيء ، وجوز أن تكون الباء للملابسة والاستفهام سؤال عن الوجه والطريقه أي تبشرون ملتبسين بأي طريقة ولا طريق لذلك في العادة.
وقرأ الأعرج «بشرتمون» بغير همزة الاستفهام ، وابن محيصن «الكبر» بضم الكاف وسكون الباء. وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة بدون ياء على إدغام نون الجمع في نون الوقاية والاكتفاء بالكسرة عن الياء. وقرأ نافع بكسر النون مخففة ، واعترض على ذلك أبو حاتم بأن مثله لا يكون إلا في الشعر وهو مما لا يلتفت إليه ، وخرج على حذف نون الرفع كما هو مذهب سيبويه استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية على الياء. وقيل : حذفت نون الوقاية وكسرت نون الرفع وحذفت الياء اجتزاء بالكسرة وحذفها كذلك كثير فصيح وقد قرئ به في مواضع عديدة ، ورجح الأول بقلة المئونة واحتمال عدم حذف نون في هذه القراءة بأن يكون اكتفى بكسر نون الرفع من أول الأمر خلاف المنقول في كتب النحو والتصريف وإن ذهب إليه بعضهم.
وقرأ الحسن كابن كثير إلا أنه أثبت الياء وباقي السبعة يقرؤون بفتح النون وهو نون الرفع.
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق ، وهو أمر من له الأمر القادر على خلق الولد من غير أبوين فكيف بإيجاده من شيخ وعجوز فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ أي الآيين

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 306
من خرق العادة لك فإن ظهور الخوارق على يد الأنبياء عليهم السلام كثير حتى لا يعد بالنسبة إليهم مخالفا للعادة ، وكأن مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبني على سنة اللّه تعالى المسلوكة فيما بين عباده جلّ وعلا لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته جل جلاله ، فإنه عليه السلام بل النبي مطلقا أجل قدرا من ذلك ، وينبئ عنه قول الملائكة عليهم السلام : فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ على ما فيه من المبالغة دون أن يقولوا : من الممترين ونحوه قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ استفهام إنكاري أي لا يقنط مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي الكفرة المخطئون طريق معرفة اللّه تعالى فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته سبحانه وتعالى ، وهذا كقول ولده يعقوب : إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف : 87] ومراده عليه السلام نفي القنوط عن نفسه بأبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة علي ، وفي التعرض لعنوان الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة.
وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وأبو عمرو في رواية «القنطين» والنحويان والأعمش «يقنط» بكسر النون ، وباقي السبعة بفتحها ، وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما والأشهب بضمها ، وهو شاذ وماضيه مثله في التثليث. واستدل بالآية على تفسير «الضالين» بما سمعت لما سمعت من الآية على أن القنوط وهو - كما قال الراغب : - اليأس من الخير كفر ، والمسألة خلافية ، والشافعية على أن ذاك وكذا الأمن من المكر من الكبائر
«للحديث الموقوف على ابن مسعود أو المرفوع من الكبائر الإشراك باللّه تعالى واليأس من روح اللّه تعالى والأمن من مكر اللّه تعالى»
وقال الكمال بن أبي شريف : العطف على الإشراك بمعنى مطلق الكفر يقتضي المغايرة فإن أريد باليأس إنكار سعة الرحمة الذنوب وبالأمن اعتقاد أنه لا مكر فكل منهما كفر اتفاقا لأنه رد للقرآن العظيم ، وإن أريد استعظام الذنوب واستبعاد العفو عنها استبعادا يدخل في حد اليأس وغلبة الرجاء المدخل له في حد الأمن فهو كبيرة اتفاقا اه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر.
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ لعله عليه السلام علم أن كمال المقصود ليس البشارة من مقالة لهم في أثناء المحاورة مطوية هنا ، وتوسيط قالَ بين كلاميه عليه السلام مشيرا إلى أن هناك ما طوي ذكره ، وخطابه لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردا عن ذلك مع تصديره بالفاء ظاهر في أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة ما فهم منه ذلك فلا حاجة إلى الالتجاء أن علمه عليه السلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد ولذلك اكتفى بواحد في زكريا ومريم عليهما السلام ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها على أن فيما ذكر بحثا فقد قيل : إن التعذيب كالبشارة لا يحتاج أيضا إلى العدد ألا يرى أن جبريل عليه السلام قلب مدائنهم بأحد جناحيه ، وأيضا يرد على قوله : ولذلك اكتفى إلخ أن زكريا عليه السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى : فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آل عمران : 39] وأما مريم عليها السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله : لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم : 19] وقوله تعالى : فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [الأنبياء : 91 ، التحريم : 12] وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات ، وأيضا يخدش قوله : ولو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها ما في قصة مريم عليها السلام قالت : إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم :
18 ، 19].
فيجوز أن يكون قولهم : لا تَوْجَلْ تمهيدا للبشارة. وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها السلام

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 307
لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلا عاجلته بالاستعاذة فلم تدعه يبتدئ بالبشارة بخلاف ما نحن فيه ، وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك واللّه تعالى يجري الأمور للناس على ما اعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه السلام في ذلك وإن قيل : المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه السلام كقولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين ، وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوى ذكره بأنه بعيد وتوسيط قالَ والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه ، أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالا إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام ، وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى؟ ، وأما الثالث فلجواز أن يقال : إنه عليه السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من اللّه تعالى إلا بعد البشارة ولم يك يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم ، وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال : إنه لا يحسن أيضا عند قوله : إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ على تقدير أن يكون علم عليه السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر.
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ هم قوم لوط عليه السلام ، وجيء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذما لهم إِلَّا آلَ لُوطٍ قال الزمخشري : يجوز أن يكون استثناء من قوم بملاحظة الصفة فيكون الاستثناء منقطعا لأنهم ليسوا قوما مجرمين ، واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الاستثناء ليس مما يقتضيه المقام ، ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الاتصال على تقدير آخر ، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستتر في مُجْرِمِينَ فيكون الاستثناء متصلا لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له ، وقوله تعالى إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ خبر الأبناء على ما سمعت سابقا ، وعن الرضي أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا بمعنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها بمعنى لكن قالوا إنها الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حمارا أي لكن حمارا لم يجىء قالوا وقد يجيء خبرها ظاهرا نحو قوله تعالى إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ [يونس :
98] وقال الكوفيون إلا في ذلك بمعنى سوى والنصب بعدها في الانفصال كالنصب في الاتصال ، وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفيا وإثباتا كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول : لي عليك ديناران سوى الدينار الفلاني وذلك إذا كان صفة ، وأيضا معنى لكن الاستدراك ، والمراد به فيها دفع توهم المخاطب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها مع أنه ليس بداخل وهذا هو معنى الاستثناء المنقطع بعينه انتهى ، وزعم بعضهم أن في كون إلا الاستثنائية تعمل عمل لكن خفاء من جهة العربية وقال : إنه في المعنى خبر وليس خبرا حقيقيا كما صرح به النحاة ، ومما نقلناه يعلم ما فيه من النظر. نعم صرح الزمخشري بأن الجملة على تقدير الانقطاع جارية مجرى خبر لكن وهو ظاهر في أنها ليست خبرا في الحقيقة وذكر أنه إنما قال ذلك لأن الخبر محذوف أي لكن آل لوط ما أرسلنا إليهم والمذكور دليله لتلازمهما ولذا لم يجعله نفس الخبر بل جار مجراه ، وفيه غفلة عن كونه مبنيا على ما نقل عن سيبويه ، وزعم بعض أنه قال ذلك لأن الجملة المصدرة بأن يمتنع أن تكون خبرا للكن فليراجع ، وقيل :
قال ذلك لأن المذكور إلا لا لكن وهو كما ترى ، وعلى تقدير الاتصال يكون الآل مخرجين من حكم المستثنى منه وهو الإجرام داخلين في حكم الإرسال بمعنى مطلقا فيكون الملائكة قد أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 308
هؤلاء ، وجملة إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ على هذا مستأنفة استئنافا بيانا كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم حين قالوا : إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ فما حال آل لوط ، فقالوا : إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ إلخ وقوله سبحانه : إِلَّا امْرَأَتَهُ على التقديرين عند جار اللّه مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ولم يجوز أن يكون من الاستثناء من الاستثناء في شيء قال : لأن ذلك إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كقوله المطلق أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة والمقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما ، وهاهنا قد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين وإِلَّا امْرَأَتَهُ تعلق - بمنجوهم - فأنى يكون استثناء من استثناء انتهى.
وقد يتوهم أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك فلا اختلاف إذ التقدير إلا آل لوط لم نهلكهم فهو بمعنى منجوهم فيكون من الاستثناء من الاستثناء على أحد التقديرين. وأجاب عن ذلك صاحب التقريب بأن شرط الاستثناء المذكور أن لا يتخلل لفظ بين الاستثناءين متعدد يصلح أن يكون مستثنى منه وهاهنا قد تخلل لَمُنَجُّوهُمْ ولو قيل إلا آل لوط إلا امرأته لجاز ذلك وتعقب بأنه لا يدفع الشبهة لأن السبب حينئذ في امتناعه وجود الفاصل لا اختلاف الحكمين فلا وجه للتعبير به عنه ، وفي الكشف المراد من اتحاد الحكم اتحاده شخصا وعددا فلا يرد أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك كان قوله سبحانه : إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ وقوله تعالى : إِلَّا آلَ لُوطٍ في معنى واحد فالاستثناء من الأول في المعنى ، وإنما شرط الاتحاد لأن المتصل كاسمه لا يجوز تخلل جملة بين العصا ولحائها وكذلك في المنقطع وبه يتضح حال ما تقدم أتم اتضاح ، وفيه أيضا ، فإن قلت : لم لا يرجع الاستثناء إليهما؟ قلت : لأن الاستثناء متعلق بالجملة المستقلة والخلاف في رجوعه إلى الجملتين فصاعدا لا إلى جملة ، وبعض جملة سابقة ، هذا والمعنى مختلف في ذلك ومحل الخلاف الجمل المتعاطفة لا المنقطع بعضها عن بعض انتهى ، والأمر كما ذكر في تعيين محل الخلاف ، والمسألة قل من تعرض لها من النحاة وفيها مذاهب.
الأول وهو الأصح وعليه ابن مالك أن الاستثناء يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض كما في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النور : 6] الآية فإن إِلَّا الَّذِينَ فيه عائد إلى فسقهم وعدم قبول شهادتهم معالا إلى الجلد للدليل ، ولا يضر اختلاف العامل لأن ذلك مبني على أن إلا هي العاملة الثاني أنه يعود للكل إن سيق الكل لغرض واحد نحو حبست داري على أعمامي ووقفت بستاني على أخوالي وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا وإلا فللأخيرة فقط نحو أكرم العلماء واحبس دارك على أقاربك وأعتق عبيدك إلا الفسقة منهم. الثالث إن كان العطف بالواو عاد للكل أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة وعليه ابن الحاجب ، الرابع أنه خاص بالأخيرة واختاره أبو حيان. الخامس إن اتحد العامل فللكل أو اختلف فللأخيرة إذ لا يمكن حمل المختلفات في مستثنى واحد وعليه البهاباذي ، وهو مبني على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون إلا ، هذا ويوهم كلام بعضهم أنه لو جعل الاستثناء من آلَ لُوطٍ لزم أن تكون امرأته غير مهلكة أو غير مجرمة وهو توهم فاحش لأن الاستثناء من آلَ لُوطٍ إن قلنا به بملاحظة الحكم عليهم بالإنجاء وعدم الإهلاك أو بعدم الإجرام والصلاح فتكون الامرأة محكوما عليها بالإهلاك أو الإجرام.
ويرشدك إلى هذا ما ذكره الرضي فيما إذا تعدد الاستثناء وأمكن استثناء كل تال من متلوه نحو جاءني المكيون إلا قريشا إلا بني هاشم إلا بني عقيل حيث قال : لا يجوز في الموجب حينئذ في كل وتر إلا النصب على الاستثناء لأنه عن موجب ، والقياس أن يجوز في كل شفع الإبدال والنصب على الاستثناء لأنه غير موجب والمستثنى منه مذكور ، والكلام في وتر وشفع غير الموجب على عكس هذا ، وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي خلافا للكسائي حيث قال : إن المستثنى مسكوت عن نفي الحكم عنه أو ثبوته له ، ولا دلالة في الكلام على شيء من ذلك ، واستفادة الإثبات في كلمة التوحيد من عرف الشرع ، وكما

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 309
وقع الخلاف في هذه المسألة بين النحويين وقع بين الأئمة المجتهدين وتحقيق ذلك في محله. واختار ابن المنير كون إِلَّا آلَ لُوطٍ مستثنى من قَوْمٍ مُجْرِمِينَ على أنه منقطع قال : وهو أولى وأمكن لأن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعدا من حيث إن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول ، وهنا الدخول متعذر مع التنكير ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ تعم فيتحقق الدخول لولا الاستثناء ، ومن ثمة لم يحسن رأيت قوما إلا زيدا وحسن ما رأيت أحدا إلا زيدا انتهى. ورد بأن هذا ليس نظير رأيت قوما إلا زيدا بل من قبيل رأيت قوما أساؤوا إلا زيدا فالوصف يعينهم ويجعلهم كالمحصورين ، قال في همع الهوامع :
ولا يستثنى من النكرة في الموجب ما لم تفد فلا يقال : جاء قوم إلا رجلا ولا قام رجال إلا زيدا لعدم الفائدة ، فإن أفاد جاز نحو فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً [العنكبوت : 14] وقام رجال كانوا في دارك إلا رجلا ، على أن المراد بالقوم أهل القرية كما صرح به في آية أخرى فهم معنى محصورون ، ونقل المدقق عن السكاكي أنه صرح في آخر بحث الاستدلال من كتابه بأن الاستثناء من جمع غير محصور جائز على المجاز ، مع أن بعض الأصوليين أيضا جوزوا الاستثناء من النكرة في الإيجاب وأطلقوا القول في ذلك. نعم المصرح به في كثير من كتب النحو نحو ما في الهمع.
وزعم بعضهم أنه ينبغي أن يكون الاستثناء من الظاهر والضمير منقطعا ، وعلل ذلك بأن الضمير في الصفة هو عين الموصوف المقيد بالصفة ، وذكر الجلال السيوطي أن بعض الفضلاء رفع هذا مع عدة أسئلة نثرا ونظما إلى الكمال ابن الهمام ولم يذكر أنه أجاب عنها ، والجواب عما زعمه هنا قد مرت إليه الإشارة ، وأما الجواب عن سائر ما استشكله وسئل عنه الكمال فيغني عنه الاطلاع على السؤال فإنه مما يتعجب منه ، ومن هنا قال الشهاب : أظن أن ابن الهمام إنما سكت عن جواب «1» ذلك لوضوح اندفاعه وأنه لا ينبغي أن يصدر عمن تحلى بحلية الفضل ، نعم بعد كل حساب الذي ينساق إلى الذهن أن الاستثناء من الظاهر لكن الرضي أنه إذا اجتمع شيئان فصاعدا يصلحان لأن يستثنى منهما فهناك تفصيل فإما أن يتغايرا معنى أولا فإن تغايرا وأمكن اشتراكهما في ذلك الاستثناء بلا بعد اشتركا فيه نحو ما بر أب وابن إلا زيدا أي زيد أب بار وابن بار ، فإن لم يمكن الاشتراك نحو فضل ابن أبا إلا زيدا أو كان بعيدا نحو ما ضرب أحد أحدا إلا زيدا فإن الأغلب مغايرة الفاعل للمفعول نظرنا فإن تعين دخول المستثنى في أحدهما دون الآخر فهو استثناء منه وليه أولا نحو ما فدى وصي نبيا إلا عليا كرم اللّه تعالى وجهه ، وإن احتمل دخوله في كل واحد منهما فإن تأخر عنهما المستثنى فهو من الأخير نحو ما فضل ابن أبا إلا زيدا وكذا ما فضل أبا ابن إلا زيد لأن اختصاصه بالأقرب أولى لما تعذر رجوعه إليهما ، وإن تقدمهما معا فإن كان أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى فالاستثناء منه لأن مرتبته بعد الفعل فكأن الاستثناء وليه بعده نحو ما فضل إلا زيدا أبا ابن أو من ابن ، وإن لم يكن أحدهما مرفوعا فالأول أولى به لقربه نحو ما فضلت إلا زيدا واحدا على أحد ويقدر للأخير عامل ، وإن توسطهما فالمتقدم أحق به لأن أصل المستثنى تأخره عن المستثنى منه نحو ما فضل أبا إلا زيد ابن ويقدر أيضا للأخير عامل ، وإن لم يتغايرا
معنى اشتركا فيه ، وإن اختلف العاملان فيهما نحو ما ضرب أحد وما قتل إلا خالدا لأن فاعل قتل ضمير أحد انتهى.
وجزم ابن مالك فيما إذا تقدم شيئان مثلا يصلح كل منهما للاستثناء منه بأن الاستثناء من الأخير وأطلق القول في ذلك فليتأمل ذاك مع ما نحن فيه ، وقال القاضي البيضاوي : إنه على الانقطاع يجوز أن يجعل إِلَّا امْرَأَتَهُ مستثنى
___________
(1) وكلا الأمرين مذكور في حواشيه على البيضاوي فارجع إليها إن أردت ذلك اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 310
من آلَ لُوطٍ أو من ضمير لَمُنَجُّوهُمْ وعلى الاتصال يتعين الثاني لاختلاف الحكمين اللهم إلا إذا جعلت جملة إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ معترضة انتهى ، ومخالفته لما نقل عن الزمخشري ظاهرة حيث جوز الاستثناء من المستثنى في الانقطاع ومنعه الزمخشري مطلقا ، وحيث جعل اختلاف الحكمين في الاتصال وأثبته الزمخشري مطلقا أيضا وبين اختلاف الحكمين بنحو ما بين به في كلام الزمخشري ، ولم يرتض ذلك مولانا سري الدين وقال : المراد بالحكمين المفاد بطريق استثناء الثاني من الأول وهو على تقدير الاتصال إجرام الامرأة والحكم المقصود بالإفادة وهو الحكم عليها بالإهلاك وبين اتحاد هذا الحكم المقصود مع الحكم المفاد بالاستثناء على تقدير الانقطاع بأنه على ذلك التقدير تكون إلا بمعنى لكن وإِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ خبرا له ثابتا كالإخراج منه فيكون الحكم الحاصل من الاستثناء منه بعينه هو الحكم المقصود بالإفادة ويقال على تقدير الاتصال والاعتراض إن الحكمين وإن اختلفا ظاهرا إلا أنه لما كانت الجملة المعترضة كالبيان لما يقتضيه الاستثناء الأول كان في المعنى كأنه هو وصار الإخراج منه ، كالإخراج منه وهذا بخلاف ما إذا كان استئنافا فإنه يكون منقطعا ويكون جوابا لسؤال مقدر ولا يتم الجواب بدون الاستثناء ولا يخلو عن الاعتراض. وقال بعضهم في توجيه الاستثناء على هذا : إن هناك حكمين الإجرام والإنجاء فيجر الثاني الاستثناء إلى نفسه كيلا يلزم الفصل إلا إذا جعل اعتراضا فإن فيه سعة حتى يتخلل بين الصفة وموصوفها فيجوز أن يكون استثناء من آلَ لُوطٍ ولذا جوز الرضي أن يقال : أكرم القوم والنحاة بصريون إلا زيدا ، ويرد عليه أن كون الحكم المفاد بالاستثناء غير الحكم المقصود بالإفادة باقيا بحاله ولا يحتاج الأمر إلى ما سمعت وهو كما سمعت ، والذي ينساق إلى الذهن ما ذكره الزمخشري. وفي الحواشي الشهابية أنه الحق دراية ورواية.
أما الأول فلأن الحكم المقصود بالإخراج منه هو الحكم المخرج منه الأول والثاني حكم طارئ من تأويل إلا بلكن وهو أمر تقديري ، وأما الثاني فلما ذكر في التسهيل من أنه إذا تعدد الاستثناء فالحكم المخرج منه حكم الأول ، ومما يدل عليه أنه لو كان الاستثناء مفرغا في هذه الصورة كما إذا قلت : لم يبق في الدار إلا اليعافير أبقاها الزمان إلا يعفور صيد منها فإنه يتعين إعرابه بحسب العامل الأول كقولك : ما عندي إلا عشرة إلا ثلاثة ، ثم إن كلامه مبني على أمر ومانع معنوي لا على عدم جواز تخلل كلام منقطع بين المستثنى والمستثنى منه كما قيل وإن كان مانعا أيضا كما صرح به الرضي فتدبر انتهى ، فافهم ذاك واللّه سبحانه يتولى هداك. وقرأ الاخوان «لمنجوهم» بالتخفيف.
قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في عذاب اللّه تعالى كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أو الباقين مع الكفرة لتهلك معهم ، وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «قدرنا» بالتخفيف ، وكسرت همزة «أن» لتعليق الفعل بوجود لام الابتداء التي لها صدر الكلام ، وعلق مع أن التعليق في المشهور من خواص أفعال القلوب - قال الزمخشري - لتضمن فعل التقدير معنى العلم ، ولذلك فسره العلماء تقدير اللّه تعالى أفعال العباد بالعلم ، والمراد بتضمنه ذلك قيل المعنى المصطلح ، وقيل : التجوز عن معناه الذي كأنه في ضمنه لأنه لا يقدر إلا ما يعلم ذكره المدقق توجيها لكلام الزمخشري ، ثم قال : وليس ذلك من باب تضمين الفعل معنى فعل آخر في شيء حتى يعترض بأنه لا ينفع الزمخشري لبقاء معنى الفعلين. نعم هو على أصلهم من أنه كناية معلوم محقق لا مقدر مراد ، وقال القاضي : جاز أن يقال : أجري مجرى القول لأن التقدير بمعنى القضاء قول ، وأما أنا فلا أنكر على جار اللّه أن التعليق لتضمن معنى العلم وإنما أنكر نفي كونه مقدورا مرادا انتهى ، وإنما أنكره لأنه اعتزال تأباه الظواهر ، ومن هنا قال إبراهيم النخعي فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم : بيني وبين القدرية هذه الآية وتلاها.
والظاهر أن هذا من كلام الملائكة عليهم السلام وإنما أسندوا ذلك إلى أنفسهم وهو فعل اللّه سبحانه لما لهم من

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 311
الزلفى والاختصاص ، وهذا كما يقول حاشية السلطان أمرنا ورسمنا بكذا والآمر هو في الحقيقة ، وقيل : ولا يخفى بعده هو من كلام اللّه تعالى فلا يحتاج إلى تأويل قيل : وكذا لا يحتاج إليه إذا كان المراد بالتقدير العلم مجازا.
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ شروع في بيان إهلاك المجرمين وتنجية آل لوط ، ووضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك ، وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكي عنه عليه السلام بقوله تعالى قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ إنما قاله عليه السلام بعد اللتيا والتي حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل ولم يشاهد من المرسلين عند مقاساة الشدائد ومعاناة المكائد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشمه في تخليصهم إنكارا لخذلانهم وتركهم نصره في مثل المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا عليهم السلام مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود : 80] حسبما فصل في سورة هود لا أنه عليه السلام قاله عند ابتداء ورودهم له على معنى أنكم قوم تنكركم نفسي وتنفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر كما قيل كيف لا وهم بجوابهم المحكي بقوله سبحانه قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون ويشكون ويكذبونك فيه ، قد قشروا العصا وبينوا له عليه السلام جلية الأمر فأنى يعتريه بعد ذلك المساءة وضيق الذرع قاله العلامة أبو السعود وهو كلام معقول. وجعل بَلْ إضرابا عما حسبه عليه السلام من ترك النصرة له والمعنى ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك فيه حين تتوعدهم به.
وجعله غير واحد بعد أن فسر قوله عليه السلام : بما سمعت إضرابا عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم به ويكذبونك ، ولم يقولوا - بعذابهم - مع حصول الغرض ليتضمن الكلام الاستئناس من وجهين تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام ففيه تذكير لما كان يكابد منهم منهم من التكذيب. قيل : وقد كنى عليه السلام عن خوفه ونفاره بأنهم منكرون فقابلوه عليه السلام بكناية أحسن وأحسن. ولا يمتنع فيما أرى حمل الكلام على الكناية على ما نقلناه عن العلامة أيضا ، ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة - كما قال - للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه السلام بإهلاك قومه المجرمين وتنجية آل عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه السلام بهما ، وحيث كان ذلك مستدعيا لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك اجمالا ثم ذكر فعل القوم وما فعل بهم ، ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعي ثقة بمراعاته في موضع آخر ، ونسبة المجيب بالعذاب إليه عليه السلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه كأنهم جاؤوه به وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به فالباء للتعدية ، وجوز أن تكون للملابسة ، وجوز الوجهان في الباء في قوله سبحانه : وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق المتيقن الذي لا مجال للامتراء والشك فيه وهو عذابهم ، عبر عنه بذلك تنصيصا على نفي الامتراء عنه ، وجوز أن يراد بِالْحَقِّ الإخبار بمجيء العذاب المذكور.
وقوله تعالى : وَإِنَّا لَصادِقُونَ تأكيد له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر «1» الحق أي المطابق للواقع وإنا لصادقون في ذلك الخبر أو في كل خبر فيكون كالدليل على صدقهم فيه ، وعلى الأول تأكيدا إثر تأكيد ، ومن الناس من جوز
___________
(1) ويجوز وصف الخبر بالحق وإن كان الأكثر وصفه بالصدق اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 312
كون الباء للملابسة وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المفعول ، ولا يخفى حاله.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ شروع في ترتيب مبادئ النجاة أي اذهب بهم في الليل. وقرأ الحجازيان بالوصل على أنه من سرى لا من أسرى كما في قراءة الجمهور وهما بمعنى على ما ذهب إليه أبو عبيدة وهو سير الليل. وقال الليث : يقال :
أسرى في السير أول الليل وسرى في السير آخره ، وروى صاحب الإقليد «فسر» من سار وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني وهو عام ، وقيل : إنه مختص في السير بالنهار وليس مقلوبا من سرى.
بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بطائفة منه أو من آخره ، ومن ذلك قوله :
افتحي الباب وانظري في النجوم كم علينا من قطع ليل بهيم
وقيل : هو بعد ما مضى منه شيء صالح ، وفي الكلام تأكيد أو تجريد على قراءة الجماعة على ما قيل ، وعلى قراءة «سر» لا شيء من ذلك ، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء اللّه تعالى. وحكى منذر بن سعيد أن فرقة قرأت «بقطع» بفتح الطاء.
وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وكن على اثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أحوالهم ، ولعل إيثار الاتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر كما قيل للمبالغة في ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه عادة الغفلة عن حال المتأخر ، والالتفات المنهي عنه بقوله تعالى : وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أي منك ومنهم أَحَدٌ فيرى ما وراء من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه العذاب فالالتفات على ظاهره ، وجوز أن يكون المعنى لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما يصيب المجرمين فالالتفات مجاز لأن الالتفات إلى الشيء يقتضي محبته وعدم مفارقته فيتخلف عنده ، وذكر جار اللّه أنه لما بعث اللّه تعالى الهلاك على قومه ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا لم يكن له بد من الاجتهاد في شكر اللّه تعالى وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بم خلفه قلبه وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ولئلا يتخلف أحد منهم لغرض فيصيبه العذاب وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به ، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم فيرقوا لهم وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ويمضوا قدما غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي له أخادعه كما قال :
تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخذعا
أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يتلفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة اه. قال المدقق : وخلاصة ذلك أن فائدة الأمر والنهي أن يهاجر عليه الصلاة والسلام على وجه يمكنه وأهله التشمر لذكر اللّه تعالى والتجرد لشكره وفيه مع ذلك إرشاد إلى ما هو أدخل في الحزم للسير وأدب المسافرة وما على الأمير والمأمور فيها وتنبيه على كيفية السفر الحقيقي وأنه أحق بقطع العوائق وتقديم العلائق وأحق وإشارة إلى أن الإقبال بالكلية على اللّه تعالى إخلاص فلله تعالى در التنزيل ولطائفه التي لا تحصى اه ، وأنت تعلم أن كون الفائدة المهاجرة على وجه يمكن معه التشمر لذكر اللّه تعالى والتجرد لشكره غير متبادر كما لا يخفى ، ولعله لذلك تركه بعض مختصري كتابه وإنما لم يستثن سبحانه إلا مرأة عن الإسراء أو الالتفات اكتفاء بما ذكر في موضع آخر وليس نحو ذلك بدعا في التنزيل وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قيل : أي إلى حيث يأمركم اللّه تعالى المضي إليه وهو الشام على ما روي عن ابن عباس والسدي ، وقيل : مصر وقيل : الأردن وقيل : موضع نجاة غير معين فعدى امْضُوا إلى حَيْثُ وتؤمرون إلى الضمير المحذوف على الاتساع.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 313
واعترض بأن هذا مسلم في تعدية تؤمرون إلى حيث فإن صلته وهي الباء محذوفة إذ الأصل تؤمرون به أي بمضيه فأوصل بنفسه وأما تعدية امْضُوا إلى حيث فلا اتساع فيها بل هي على الأصل لكونه من الظروف المبهمة إلا أن يجعل ما ذكر تغليبا ، وأجيب بأن تعلق حَيْثُ بالفعل هنا ليس تعلق الظرفية ليتجه تعدي الفعل إليه بنفسه لكونه من الظروف المبهمة فإنه مفعول به غير صريح نحو سرت إلى الكوفة ، وقد نص النحاة على أنه قد يتصرف فيه فالمحذوف ليس في بل إلى فلا إشكال اه ، والمذكور في كتب العربية أن الأصل في حيث أن تكون ظرف مكان وترد للزمان قليلا عند الأخفش كقوله :
للفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه
أراد حين تهدي ، ولا تستعمل غالبا إلا ظرفا وندر جرها بالباء في قوله :
كان منا بحيث يفكى الإزار وبإلى في قوله :
إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وبفي في قوله :
فأصبح في حيث التقينا شريدهم طليق ومكتوف اليدين ومرعف
وقال ابن مالك : تصرفها نادر ، ومن وقوعها مجردة عن الظرفية قوله :
إن حيث استقر من أنت راعيه حمى فيه عزة وأمان
فحيث اسم إن ، وقال أبو حيان : إنه غلط لأن كونها اسم إن فرع عن كونها تكون مبتدأ ولم يسمع في ذلك البتة بل اسم إن في البيت - حمى - و- حيث - الخبر لأنه ظرف ، والصحيح أنها لا تتصرف فلا تكون فاعلا ولا مفعولا به ولا مبتدأ اه ، ونقل ابن هشام وقوعها مفعولا به عن الفارسي ، وخرج عليه قوله تعالى : «اللّه أعلم حيث يجعل رسالته» وذكر أنها قد تخفض بمن وبغيرها وأنها لا تقع اسما لأن خلافا لابن مالك ، وزعم الزجاج أنها اسم موصول ، ومما ذكرنا يظهر حال التصرف فيها ، واعترض ما ذكره المجيب بأنه وإن رفع به إشكال التعدي لكنه غير صحيح لأنهم قد صرحوا بأن الجمل المضاف إليها لا يعود منها ضمير إلى المضاف ، قال نجم الأئمة : اعلم أن الظرف المضاف إلى الجملة لما كان ظرفا للمصدر الذي تضمنته الجملة لم يجز أن يعود من الجملة ضمير إليه فلا يقال : يوم قدم زيد فيه لأن الربط الذي يطلب حصوله حصل بإضافة الظرف إلى الجملة وجعله ظرفا لمضمونها فيكون كأنك قلت : يوم قدوم زيد فيه اه ، و«حيث» على ما ذكروا تلزم في الغالب الإضافة إلى الجملة وكونها فعلية أكثر وإضافتها إلى مفرد قليلة نحو :
بيض المواضي حيث ليّ العمائم وحيث سهيل طالعا ، ولا يقاس على ذلك عند غير الكسائي ، وأقل من ذلك عدم إضافتها لفظا بأن تضاف إلى محذوفة معوضا عنها ما كقوله :
إذا ريدة من حيث ما نفحت له أي من حيث هبت وهي هنا مضافة للجملة بعدها فكيف يقدر الضمير في «يؤمرون» عائدا عليها ، وقد نص بعضهم على أن حَيْثُ لا يصح عود الضمير عليها والذي في البحر أنها ظرف مكان مبهم تعدى إليها امْضُوا بنفسه كما تقول : قعدت حيث قعد زيد ، والظاهر أن تعلق الفعل بها كما قال المجيب ليس تعلق الظرفية فلعل ذلك مبني على تضمين فعل صالح لأن يتعلق به الظرف المذكور كالحلول والتوطن وغيرهما.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 314
ونقل عن بعضهم القول بأن حَيْثُ هنا ظرف زمان أي امضوا حين أمرتم ، والمراد بهذا الأمر ما سبق من قوله تعالى : فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ورد بأن الظاهر على هذا أمرتم دون تُؤْمَرُونَ مع أن فيه استعمال حَيْثُ في أقل معنييها ورودا من غير موجب ، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المضارع مستعمل في مقام الماضي على المعنى الذي أشير إليه أولا وهو يقتضي تقدم أمر بالمضي إلى مكان فإن كان فصيغة المضارع لاستحضار الصورة ، وإيثار المضي إلى ذلك على ما قيل دون الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة المناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين. وَقَضَيْنا أي أوحينا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ مقضيا مثبتا فقضى مضمن معنى أوحى ولذا عدى تعديته ، وجعل المضمن حالا كما أشرنا إليه أحد الوجهين المشهورين في التضمين وذلك مبهم يفسره أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ على أنه بدل منه كما قال الأخفش ، وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأمر إذا جعل بيانا لذلك لا بدلا ، وعن الفراء أن ذاك على إسقاط الباء أي بأن دابر إلخ ، ولعل المشار إليه بذلك الأمر عليه الأمر الذي تضمنه قوله تعالى :
وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي أوحينا ذلك الأمر المتعلق بنجاته ونجاة آله ملابسا لبيان حال قومه المجرمين من قطع دابرهم ، وهو حسن إلا أنه لا يخلو عن بعد ، وقرأ زيد بن علي ، والأعمش رحمهم اللّه تعالى «إن» بكسر الهمزة وخرج على الاستئناف البياني كأنه قيل : ما ذلك الأمر؟ فقيل في جوابه : إن دابر إلخ أو على البدلية بناء على أن في الوحي معنى القول ، قيل : ويؤيده قراءة عبد اللّه «وقلنا إن دابر» إلخ وهي قراءة تفسير لا قرآن لمخالفتها لسواد المصحف ، والدابر الآخر وليس المراد قطع آخرهم بل استئصالهم حتى لا يبقى منهم أحد مُصْبِحِينَ أي داخلين في الصباح فإن الافعال يكون للدخول في الشيء نحو أتهم وأنجد. وهو من أصبح التامة حال من هؤُلاءِ وجاز بناء على أن المضاف بعضه ، وقد قيل : بجواز مجيء الحال من المضاف إليه فيما كان المضاف كذلك ، وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم. وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها ، وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم ، وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها ، واختار أبو حيان كونه حالا من الضمير المستكن في مَقْطُوعٌ الراجع إلى دابِرَ وجاز ذلك مع الاختلاف افرادا وجمعا رعاية للمعنى لأن ذلك في معنى دابري هؤلاء فيتفق الحال وصاحبها جمعية.
وقدر الفراء وأبو عبيد إذا كانوا مصبحين كما تقول : أنت راكبا أحسن منك ماشيا. وتعقب بأنه إن كان تقدير معنى فصيح وإن كان بيان إعراب فلا ضرورة تدعو إلى ذلك كما لا يخفى وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ شروع في حكاية ما صدر من القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل وما ترتب عليه مما أشير إليه أولا على سبيل الإجمال ، وهذا مقدم وقوعا على العلم بهلاكهم كما سمعت والواو لا تدل على الترتيب ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون هذا بعد العلم بذلك وما صدر منه عليه السلام من المحاورة معهم كان على جهة التكتم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم ، ولا يخفى أن كون المساءة وضيق الذرع من باب التكتم والإملاء أيضا مما يأبى عنه الطبع السليم ، والمراد بالمدينة سذوم «1» وبأهلها أولئك القوم المجرمون ، ولعل التعبير عنهم بذلك للإشارة إلى كثرتهم مع ما فيه من الإشارة إلى مزيد فظاعة فعلهم ، فإن اللائق بأهل المدينة أن يكرموا الغرباء الواردين على مدينتهم ويحسنوا المعاملة معهم فهم عدلوا عن هذا اللائق مع من حسبوهم غرباء واردين إلى قصد الفاحشة إلى ما سبقهم بها أحد من العالمين وجاؤوا منزل لوط عليه
___________
(1) بفتح السين على وزن فعول بفتح الفاء وذاله معجمة وروي إهماله ، وقيل : إنه خطأ ، وفي الصحاح والدال غير معجمة ، وهو معرب ولذا قيل إنه بالإعجام بعد التعريب والإهمال قبله ، وسميت هذه المدينة باسم ملك من بقايا اليونان وكان ظلوما غشوما وكان بمدينة سرمين من أرض قنسرين قاله الطبري اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 315
السلام يَسْتَبْشِرُونَ مستبشرين مسرورين إذ قيل لهم : إن عنده عليه السلام ضيوفا مردا في غاية الحسن والجمال فطمعوا قاتلهم اللّه تعالى فيهم قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي الضيف كما قدمنا في الأصل مصدر ضافه فيطلق على الواحد والجمع ولذا صح جعله خبرا - لهؤلاء - ، وإطلاقه على الملائكة عليهم السلام بحسب اعتقاده عليه السلام لكونهم في زي الضيف ، وقيل : بحسب اعتقادهم لذلك ، والتأكيد ليس لإنكارهم ذلك بل لتحقيق اتصالهم به وإظهار اعتنائه بهم عليهم السلام وتشميره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم عن السوء ، ولذلك قال : فَلا تَفْضَحُونِ أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر أولا تفضحوني بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه ، يقال : فضحته فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار ، ويقال : فضح الصبح إذا تبين للناس وَاتَّقُوا اللَّهَ في مباشرتكم لما يسوءني وَلا تُخْزُونِ أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض بالسوء لمن أجرتهم فهو من الخزي بمعنى الذل والهوان ، وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عنه بقوله : فَلا تَفْضَحُونِ أكثر تأثيرا في جانبه عليه السلام وأجلب للعار إليه إذ التعرض للجار قبل العلم ربما يتسامح فيه وأما بعد العلم والمناصبة بحمايته والذب عنه فذاك أعظم العار ، عبر عليه السلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي وأمرهم بتقوى اللّه تعالى في ذلك ، وجوز أن يكون ذلك من الخزاية وهي الحياء أي لا تجعلوني أستحيي من الناس بتعرضكم لهم بالسوء ، واستظهر بعضهم الأول ، وإنما لم يصرح عليه السلام بالنهي عن نفس تلك الفاحشة قيل : لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك ، وقيل : رعاية لمزيد الأدب مع ضيفه حيث لم يصرح بما يثقل على سمعهم وتنفر عنه طباعهم ويرى الحر الموت ألذ طعما منه ، وقال بعض الأجلة : المراد باتقوا اللّه أمرهم بتقواه سبحانه عن
ارتكاب الفاحشة. وتعقب بأنه لا يساعد ذلك توسيطه بين النهيين المتعلقين بنفسه عليه السلام. وكذلك قوله تعالى : قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن إجارة أحد منهم وحيلولتك بيننا وبينه أو عن ضيافة أحد منهم ، والهمزة للإنكار والواو على ما قال غير واحد للعطف على مقدر أي ألم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه السلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه ويحول بينهم وبين من يعرضون له وكانوا قد نهوه عن تعاطي مثل ذلك فكأنهم قالوا : ما ذكرت من الفضيحة والخزي إنما جاءك من قبلك لا من قبلنا إذ لولا تعرضك لما تتصدى له لما اعتراك ، ولما رآهم لا يقلعون عما هم عليه قالَ هؤُلاءِ بَناتِي يعني نساء القوم أو بناته حقيقة. وقد تقدم الكلام في ذلك ، واسم الإشارة مبتدأ وبَناتِي خبره ، وفي الكلام حذف أي فتزوجوهن ، وجوز أن يكون بَناتِي بدلا أو بيانا والخبر محذوف أي أطهر لكم كما في الآية الأخرى ، وأن يكون هؤُلاءِ في موضع نصب بفعل محذوف أي تزوجوا بناتي ، والمتبادر الأول. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شك في قبولهم لقوله فكأنه قال : إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون ، وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل اللّه تعالى دون ما حرم ، والوجه الأول كما في الكشف أوجه.
وفي الحواشي الشهابية أنه أنسب بالشك ، ويفهم صنيع بعضهم ترجيح الثاني قيل لتبادره من الفعل ، وعلى الوجهين المفعول مقدر ، وجوز تنزيل الوصف منزلة اللازم ، وجواب الشرط محذوف أي فهو خير لكم أو فاقضوا ذلك لَعَمْرُكَ قسم من اللّه تعالى بعمر نبينا صلى اللّه عليه وسلم على ما عليه جمهور المفسرين.
وأخرج البيهقي في الدلائل وأبو نعيم وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : ما خلق اللّه تعالى وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى اللّه عليه وسلم وما سمعت اللّه سبحانه أقسم بحياة أحد غيره قال تعالى :
لَعَمْرُكَ إلخ ، وقيل : هو قسم من الملائكة عليهم السلام بعمر لوط عليه السلام ، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول أي قالت الملائكة للوط عليهم السلام : لَعَمْرُكَ إلخ ، وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهدا له وقرينة عليه ، فلا يرد ما قاله صاحب الفرائد من أنه تقدير من غير ضرورة ولو ارتكب مثله لأمكن إخراج كل نص عن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 316
معناه بتقدير شيء فيرتفع الوثوق بمعاني النص ، وأيّا ما كان - فعمرك - مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي قسمي أو يميني أو نحو ذلك ، والعمر بالفتح والضم البقاء والحياة إلا أنهم التزموا الفتح في القسم لكثرة دوره فناسب التخفيف وإذا دخلته اللام التزم فيه الفتح وحذف الخبر في القسم ، وبدون اللام يجوز فيه النصب والرفع وهو صريح ، وهو مصدر مضاف للفاعل أو المفعول ، وسمع فيه دخول الباء وذكر الخبر قليلا ، وذكر أنه إذا تجرد من اللام لا يتعين للقسم ، ونقل ذلك عن الجوهري ، وقال ابن يعيش : لا يستعمل إلا فيه أيضا وجاء شاذا «عملي» وعدوه من القلب ، وقال أبو الهيثم :
معنى لَعَمْرُكَ لدينك الذي تعمر ويفسر بالعبادة ، وأنشد :
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك اللّه كيف يلتقيان
أراد عبادتك اللّه تعالى فإنه يقال - على ما نقل عن ابن الأعرابي - عمرت ربي أي عبدته ، وفلان عامر لربه أي عابد ، وتركت فلانا يعمر ربه أي يعبده وهو غريب. وفي البيت توجيهات فقال سيبويه فيه : الأصل عمرتك اللّه تعالى تعميرا فحذف الزوائد من المصدر وأقيم مقام الفعل مضافا إلى مفعوله الأول ، ومعنى عمرتك أعطيتك عمرا بأن سألت اللّه تعالى أن يعمرك فلما ضمن عمر معنى السؤال تعدى إلى المفعول الثاني - أعني الاسم الجليل - فهو على هذا منصوب ، وأجاز الأخفش رفعه ليكون فاعلا أي عمرك اللّه سبحانه تعميرا ، وجوز الرضي أن يكون - عمرك - فيه منصوبا على المفعول به لفعل محذوف أي أسأل اللّه تعالى عمرك وأسأل متعد إلى مفعولين ، أو يكون المعنى أسألك بحق تعميرك اللّه تعالى أي اعتقادك بقاءه وأبديته تعالى فيكون انتصابه بحذف حرف القسم نحو اللّه لأفعلن ، وهو مصدر محذوف الزوائد مضاف إلى الفاعل والاسم الجليل مفعول به له ، ولا بأس بإضافة - عمر - إليه تعالى ، وقد جاء مضافا كذلك قال الشاعر :
إذا رضيت علىّ بنو قشير لعمر اللّه أعجبني رضاها
وقال الأعشى :
ولعمر من جعل الشهور علامة منها تبين نقصها وكمالها
وزعم بعضهم أنه لا يجوز أن يقال : لعمر اللّه تعالى لأنه سبحانه أزلي أبدي ، وكأنه توهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك ، وجاء في كلامهم إضافته لضمير المتكلم ، قال النابغة لعمري وما عمري عليّ بهين.
وكره النخعي ذلك لأنه حلف بحياة المقسم ، ولا أعرف وجه التخصيص فإن في لَعَمْرُكَ خطابا لشخص حلفا بحياة المخاطب وحكم الحلف بغير اللّه تعالى مقرر على أتم وجه في محله.
وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما و«عمرك» بدون لام إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم يَعْمَهُونَ يتحيرون فكيف يسمعون النصح ، وأصل العمه عمى البصيرة وهو مورث للحيرة وبهذا الاعتبار فسر بذلك ، والضمائر لأهل المدينة ، والتعبير بالمضارع بناء على المأثور في الخطاب لحكاية الحال الماضية ، وقيل : ونسب إلى ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما الضمائر لقريش ، واستبعده ابن عطية وغيره لعدم مناسبة السباق والسياق ، ومن هنا قيل : الجملة اعتراض وجملة يَعْمَهُونَ حال من الضمير في الجار والمجرور ، وجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في سَكْرَتِهِمْ والعامل السكرة أو معنى الإضافة ، ولا يخفاك حاله ، وقرأ الأشهب «سكرتهم» بضم السين ، وابن أبي عبلة «سكراتهم» بالجمع ، والأعمش «سكرهم» بغير تاء ، وأبو عمرو في رواية الجهضمي «أنهم» بفتح الهمزة ، قال أبو البقاء : وذلك على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 317
تقدير زيادة اللام ، ومثله قراءة سعيد بن جبير «ألا إنهم ليأكلون الطعام «1»» بالفتح بناء على أن لام الابتداء إنما تصحب إن المكسورة الهمزة وكأن التقدير على هذه القراءة لعمرك قسمي على أنهم فافهم.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني صيحة هائلة ، والتعريف للجنس ، وقيل : صيحة جبريل عليه السلام فالتعريف للعهد وقال الإمام : ليس في الآية دلالة على هذا التعيين فإن ثبت بدليل قوي قيل به.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية : الصيحة مثل الصاعقة فكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس ، قال المدقق : والجمع بين - مصبحين ومشرقين - باعتبار الابتداء والانتهاء بأن يكون ابتداء العذاب عند الصبح وانتهاؤه عند الشروق وأخذ الصيحة قهرها إياهم وتمكنها منهم ، ومنه الأخيذ الأسير ، ولك أن تقول : مَقْطُوعٌ بمعنى يقطع عما قريب انتهى ، وقيل : مُشْرِقِينَ حال مقدرة فَجَعَلْنا عالِيَها أي المدينة كما هو الظاهر. وجوز رجوعه إلى القرى وإن لم يسبق ذكرها والمراد بعاليها وجه الأرض وما عليه وهو المفعول الأول لجعل وسافِلَها الثاني له ، وقد تقدم الكلام في ذلك وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ في تضاعيف ذلك حِجارَةً كائنة مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجر وهو في المشهور معرب سنك كل ، وذهب أبو عبيد وطائفة إلى أنه عربي وأنه يقال فيه «سجين» بالنون واحتجوا بقول تميم بن مقبل :
ضربا تواصى به الأبطال سجينا وهو كما ترى. وسئل الأصمعي عن معناه في البيت فقال : لا أفسره إذ كنت أسمع وأنا حدث - سخينا - بالخاء المعجمة أي سخنا وسجين بالجيم أيضا ، وقيل : هو مأخوذ من السجل وهو الكتاب أي من طين كتب عليه أسماؤهم أو كتب اللّه تعذيبهم به ، وقد مر الكلام في ذلك أيضا.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من القصة لَآياتٍ لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال ابن عباس : للناظرين ، وقال جعفر بن محمد رضي اللّه تعالى عنهما : للمتفرسين ،
وقال مجاهد : للمعتبرين ، وقيل غير ذلك وهي معان متقاربة. وفي البحر التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب ، وقال ثعلب :
التوسم النظر من القرن إلى القدم واستقصاء وجوه التعريف ، قال الشاعر :
أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إليّ عريفهم يتوسم
وذكر أن أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة محماة في جلد البعير أو غيره ، ويقال :
توسمت فيه خيرا أي ظهرت علاماته لي منه ، قال عبد اللّه بن رواحة في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
إني توسمت فيك الخير أعرفه واللّه يعلم أني ثابت البصر
والجار والمجرور في موضع الصفة لَآياتٍ أو متعلق به ، وهذه الآية - على ما قال الجلال السيوطي - أصل في الفراسة ،
فقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه تعالى»
ثم قرأ الآية وكان بعض المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام جريا على طريق إياس بن معاوية وَإِنَّها أي المدينة المهلكة وقيل القرى لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها وقيل : الضمير للآيات ، وقيل : للحجارة ، وقيل :
للصيحة أي وإن الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله تعالى : وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود : 83] ومُقِيمٍ قيل معلوم ، وقيل : معتد دائم السلوك إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمرأى من
___________
(1) سورة الفرقان ، الآية : 20.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 318
الناس يشاهدونها عند مرورهم عليها لَآيَةً عظيمة لِلْمُؤْمِنِينَ باللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه وسلم فإنهم الذين يعرفون أن سوء صنيعهم هو الذي ترك ديارهم بلاقع ، وأما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية ، وافراد الآية بعد جمعها فيما سبق قيل لما أن المشاهد هاهنا بقية الآثار لا كل القصة كما فيما سلف ، وقيل : للإشارة إلى أن المؤمنين يكفيهم آية واحدة وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ هم قوم شعيب عليه السلام والأيكة في الأصل الشجرة الملتفة واحدة الأيك ، قال الشاعر :
تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردا أسف لثاته بالإثمد
والمراد بها غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار بناء على ما روي أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون الغيضة وعامة شجرها الدوم - وقيل السدر - فبعث اللّه تعالى إليهم شعيبا فكذبوه فأهلكوا بما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى ، وقيل : بلدة كانوا يسكنونها ، وإطلاقها على ما ذكر إما بطريق النقل أو تسمية المحل باسم الحال فيه ثم غلب عليه حتى صار علما ، وأيد القول بالعلمية أنه قرئ في [الشعراء : 176 ، وص : 13] «ليكة» ممنوع الصرف ، وإِنْ عند البصريين هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف واللام هي الفارقة ، وعند الفراء هي النافية ولا اسم لها واللام بمعنى إلا ، والمعول عليه الأول أي وأن الشأن كان أولئك القوم متجاوزين عن الحد فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ جازيناهم على جنايتهم السابقة بالعذاب والضمير لأصحاب الأيكة.
وزعم الطبرسي أنه لهم ولقوم لوط وليس بذاك. روى غير واحد عن قتادة قال : ذكر لنا أنه جل شأنه سلط عليهم الحر سبعة أيام لا يظلهم منه ظل ولا يمنعهم منه شيء ثم بعث سبحانه عليهم سحابة فجعلوا يلتمسون الروح منها فبعث عليهم منها نارا فأكلتهم فهو عذاب يوم الظلة وَإِنَّهُما أي محلي قوم لوط وقوم شعيب عليهما السلام وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وقيل : الضمير للأيكة ومدين ، والثاني وإن لم يذكر هنا لكن ذكر الأول يدل عليه لإرسال شعيب عليه الصلاة والسلام إلى أهلها.
فقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث اللّه تعالى إليهم شعيبا عليه السلام»
ولا يخلو عن بعد بل قيل : إن القول الأول كذلك أيضا لأن الأخبار عن مدينة قوم لوط عليه السلام بأنها لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي لبطريق واضح يتكرر مع الاخبار عنها آنفا ، بأنها لبسبيل مقيم على ما عليه أكثر المفسرين ، وجمع غيرها معها في الأخبار لا يدفع التكرار بالنسبة إليها وكأنه لهذا قال بعضهم : الضمير يعود على لوط وشعيب عليهما السلام أي وإنهما لبطريق من الحق واضح.
وقال الجبائي : الضمير لخبر هلاك قوم لوط وخبر هلاك قوم شعيب ، والإمام اسم لما يؤتم به وقد سمي به الطريق واللوح المحفوظ ومطلق اللوح المعد للقراءة وزيج البناء ويراد به على هذا اللوح المحفوظ.
وقال مؤرج الإمام : الكتاب في لغة حمير ، والاخبار عنهما بأنهما في اللوح المحفوظ إشارة إلى سبق حكمه تعالى بهلاك القومين لما علمه سبحانه من سوء أفعالهم وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ يعني ثمود الْمُرْسَلِينَ حين كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام ، فإن من كذب واحدا من رسل اللّه سبحانه فكأنما كذب الجميع لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار ، وقيل : المراد بالمرسلين صالح عليه السلام ومن معه من المؤمنين على التغليب وجعل الأتباع مرسلين كما قيل : الخبيبون لخبيب بن الزبير وأصحابه ، وقال الشاعر :
قدني من نصر الخبيبين قدي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 319
والقول بأنه أنزل كل من الناقة وسقبها منزلة رسول لأنه كالداعي لهم إلى اتباع صالح عليه السلام فجمع بهذا الاعتبار لا اعتبار له أصلا فيما أرى.
والحجر واد بين الحجاز والشام كانوا يسكنونه ، قال الراغب : يسمى ما أحيط به الحجارة حجرا وبه سمي حجر الكعبة وديار ثمود ، وقد نهى صلى اللّه عليه وسلم أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم كما في صحيح البخاري وغيره عن الدخول على هؤلاء القوم إلا أن يكونوا باكين حذرا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
وجاء عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن الناس عام غزوة تبوك استقوا من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بإهراق القدور وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت ترد الناقة وَآتَيْناهُمْ آياتِنا من الناقة وسقبها وشربها ودرها.
وذكر بعضهم أن في الناقة خمس آيات خروجها من الصخرة. ودنو نتاجها عند خروجها. وعظمها حتى لم تشبهها ناقة. وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا ، وقيل : كانت لنبيهم عليه السلام معجزات غير ما ذكر ولا يضرنا أنها لم تذكر على التفصيل ، وهو على الإجمال ليس بشيء ، وقيل : المراد بالآيات الأدلة العقلية المنصوبة لهم الدالة عليه سبحانه المبثوثة في الأنفس والآفاق وفيه بعد ، وقيل : آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام.
وأورد عليه أنه عليه السلام ليس له كتاب مأثور إلا أن يقال : الكتاب لا يلزم أن ينزل عليه حقيقة بل يكفي كونه معه مأمورا بالأخذ بما فيه ويكون ذلك في حكم نزوله عليه ، وقد يقال : بتكرار النزول حقيقة ولا يخفى قوة الإيراد ، وقيل : يجوز أن يراد بالآيات ما يشمل ما بلغهم من آيات الرسل عليهم السلام ، ومتى صح أن يقال : إن تكذيب واحد منهم في حكم تكذيب الكل فلم لم يصح أن يقال : إن ما يأتي به واحد من الآيات كأنه أتى به الكل وفيه نظر ، وبالجملة الظاهر هو التفسير الأول فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ غير مقبلين على العمل بما تقتضيه ، وتقديم المعمول لرعاية تناسب رؤوس الآي.
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من نزول العذاب بهم ، وقيل : من الموت لاغترارهم بطول الأعمار ، وقيل : من الانعدام ونقب اللصوص وتحزيب الأعداء لمزيد وثاقتها ، وقال ابن عطية : أصح ما يظهر لي في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة فكانوا لا يعملون بحسبها بل يعملون بحسب الأمن ، وتفريع قوله تعالى :
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أظهر في تأييد الأول ووقع في سورة [الأعراف : 78 ، 91 ، 155] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ووفق بينهما بأن الصيحة تفضي إلى الرجفة أو هي مجاز عنها ، واستشكل التقييد - بمصبحين - مع ما روي في ترتيب أحوالهم بعد أن أوعدهم عليه السلام بنزول العذاب من أنه لما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت لها قلوبهم ، فإن هذا يقتضي أن أخذ الصيحة إياهم بعد الضحوة لا مصبحين. وأجيب بأنه إن صحت الرواية يحمل مُصْبِحِينَ على كون الصيحة في النهار دون الليل أو أطلق الصبح على زمان ممتد إلى الضحوة وقيل : يجمع بين الآية والخبر بنحو ما جمع به بين الآيتين آنفا ، وفيه تأمل فتأمل.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ولم يدفع عنهم ما نزل بهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ من نحت البيوت الوثيقة أو منه ومن جمع الأموال والعدد بل خروا جاثمين هلكى - فما - الأولى نافية وتحتمل الاستفهام وما الثانية يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة واستظهره أبو حيان والعائد عليه محذوف أي الذي كانوا يكسبونه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 320
وفي الإرشاد أن الفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا يرجونه لا عدم الإغناء المطلق فإنه أمر مستمر ، وفي الآية من التهم بهم ما لا يخفى.
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا خلقا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور ، وقد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ولا بد فننتقم أيضا من أمثال هؤلاء ، فالجملة الأولى إشارة إلى عذابهم الدنيوي والثانية إلى عقابهم الأخروي ، وفي كلتا الجملتين من تسليته صلى اللّه عليه وسلم ما لا يخفى مع تضمن الأولى الإشارة إلى وجه إهلاك أولئك بأنه أمر اقتضته الحكمة ، وفي التفسير الكبير في وجه النظم أنه تعالى لما ذكر إهلاك الكفار فكأنه قيل : كيف يليق ذلك بالرحيم؟ فأجاب سبحانه بأنه إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض.
وتعقبه المفسر بأنه إنما يستقيم على قول المعتزلة ، ثم ذكر وجها آخر لذلك وهو أن المقصود من هذه القصة تصبير النبي صلى اللّه عليه وسلم على سفاهة قومه فإنه عليه الصلاة والسلام إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياءهم عليهم السلام بمثل هذه المعاملات الفاسدة هان عليه عليه الصلاة والسلام تحمل سفاهة قومه ، ثم إنه تعالى لما بين إنزال العذاب على الأمم السالفة المكذبة قال له صلى اللّه عليه وسلم إن الساعة لآتية وإن اللّه تعالى ينتقم لك فيها من أعدائك ويجاريك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك ، وإلى جواز تفسير الحق بالعدل ذهب شيخ الإسلام وأشار إلى أن الباء للسببية وإن المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال ، وذكر أنه ينبئ عن ذلك الجملة الثانية ولعل جعل كل جملة إشارة إلى شيء حسبما أشرنا إليه أولى.
واستدل بالأولى بعض الأشاعرة على أن أفعال العباد مطلقا مخلوقة له تعالى لدخولها فيما بينهما ، وزعم بعض المعتزلة الرد بها على القائلين بذلك لأن المعاصي من الأفعال باطلة فإذا كانت مخلوقة له سبحانه لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق ، وهو كلام خال عن التحقيق فَاصْفَحِ أي أعرض عن الكفرة المكذبين الصَّفْحَ الْجَمِيلَ وهو ما خلا عن عتاب على ما روى غير واحد عن علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وفسر الراغب الصَّفْحَ نفسه بترك التثريب وذكر أنه أبلغ من العفو وفي أمره صلى اللّه عليه وسلم بذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قادر على الانتقام منهم فكأنه قيل : أعرض عنهم وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم ، وحاصل ذلك أمره صلى اللّه عليه وسلم بمخالفتهم بخلق رضي وحلم وتأن بأن ينذرهم ويدعوهم إلى اللّه تعالى قبل القتال ثم يقاتلهم ، وعلى هذا فالآية غير منسوخة ، وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك أنها منسوخة بآية السيف ، وكأنهم ذهبوا إلى أن المراد بها مداراتهم وترك قتالهم ، وآثر هذا الأخير العلامة الطيبي قال : ليكون خاتمة القصص جامعة للتسلي والأمر بالمداراة وتخلصا إلى مشرع آخر وهو قوله تعالى الآتي : وَلَقَدْ إلى آخره ففيه حديث الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا وهو من أعظم أنواع الضر لكن ذكر في الكشف أن الذي يقتضيه النظم أن قوله تعالى : وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ إلى آخره جمع بين حاشيتي مفصل الآيات البرهانية والامتنانية ملخص منها مع زيادة مبالغة من الحصر ليقيه المحتج به إلى المعاندين ويتسلى به عن استهزاء الجاحدين وتمهيد لتطرية ذكر المقصود من كون الذكر كاملا في شأن الهداية وافيا بكل ما علق به من الغرض القائم له بحق الرعاية ، ثم قال : ومنه يظهر أن الآية عطف على وَما خَلَقْنَا إلخ عطف الخاص على العام إشارة إلى
أن أتم النعم وأحق دليل وأحق ما يتشفى به عن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 321
الغليل وإن من أوتيه لا يضره فقد شيء سواه ومن طلب الهوى في غيره ترك وهواه اه فتدبر إِنَّ رَبَّكَ الذي يبلغك إلى غاية الكمال هُوَ الْخَلَّاقُ لك ولهم ولسائر الأشياء على الإطلاق الْعَلِيمُ بأحوالك وأحوالهم وبكل شيء فلا يخفى عليه جل شأنه شيء مما جرى بينك وبينهم فحقيق أن تكل الأمور إليه ليحكم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم سبحانه أن الصفح الجميل اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح ، فهو تعليل للأمر بالصفح على التقديرين على ما قيل ، وقال بعض المدققين : إنه على الأخير تذييل للأمر المذكور وعلى الأول لقوله سبحانه : إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما والجحدري والأعمش ومالك بن دينار «هو الخالق» وكذا في مصحف أبي. وعثمان رضي اللّه تعالى عنهما وهو صالح للقليل والكثير والْخَلَّاقُ مختص بالكثير والْعَلِيمُ أوفق به ، وهو على ما قيل أنسب بما تقدم من قوله سبحانه : وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً أي سبع آيات وهي الفاتحة وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبي جعفر وأبي عبد اللّه والحسن ومجاهد وأبي العالية والضحاك وابن جبير وقتادة رضي اللّه تعالى عنهم.
وجاء ذلك مرفوعا أيضا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حديث أبيّ وأبي هريرة رضي اللّه تعالى عنهما ، وقيل : سبع سور وهي الطول وروي ذلك أيضا عن عمر وابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وهي في رواية : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة سورة واحدة ، وفي أخرى عد براءة دون الأنفال السابعة ، وفي أخرى عد يونس دونهما ، وفي أخرى عد الكهف ، وقيل : السبع آل حم ، وقيل : سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء عليهم السلام ، على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أوتي ما يتضمن سبعا منها وإن لم يكن بلفظها وهي الأسباع ، وعن زياد بن أبي مريم هي أمور سبع : الأمر والنهي والبشارة والانذار وضرب الأمثال وتعداد النعم وأخبار الأمم ، وأصح الأقوال الأول. وقد أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ورفعوه ، وقال أبو حيان : إنه لا ينبغي العدول عنه بل لا يجوز ذلك. وأورد على القول بأنها السبع الطول أن هذه السورة مكية وتلك السبع مدنية ، وروي هذا عن الربيع ، فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن جرير وغيرهما أنه قيل له : إنهم يقولون : هي السبع الطول فقال : لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء وأجيب بأن المراد بإيتائها إنزالها إلى السماء الدنيا ولا فرق بين المدني والمكي فيها.
واعترض بأن ظاهر آتَيْناكَ يأباه ، وقيل : إنه تنزيل للمتوقع منزلة الواقع في الامتنان ومثله كثير مِنَ الْمَثانِي بيان للسبع وهو - على ما قال في موضع من الكشاف - جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر ويجوز أن يكون مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى : ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك : 4] أي كرة بعد كرة ونحو قولهم لبيك وسعديك وأراد كما في الكشف أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار ويحتمل أن يريد أن مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو كَرَّتَيْنِ ثم جمع مبالغة وقوله من التثنية إيضاح للمعنى لأنه من الثني بمعنى التثنية والأول أرجح نظرا إلى ظاهر اللفظ والثاني نظرا إلى الأصل وقال في موضع آخر : إنه من التثنية أو الثناء والواحدة مثناة أو مثنية بفتح الميم على ما في أكثر النسخ وإلا قيس على ما قال المدقق بحسب اللفظ أن ذلك مشتق من الثناء أو الثنى جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثني ولا بعد في باب العدل أن يكون منقولا عنه لا مخترعا ابتداء ، وإطلاق ذلك على الفاتحة لأنها تكرر قراءتها في الصلاة وروي هذا عن الحسن وأبي عبد اللّه رحمهما اللّه تعالى وعن الزجاج لأنها تثنى بما يقرأ بعدها من القرآن وقيل ونسب إلى الحسن أيضا : لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وتعقب بأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورة كما سمعت غير مرة مكية وقيل : لأن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 322
كثيرا من ألفاظها مكرر كالرحمن والرحيم وإياك والصراط وعليهم ، وقيل : لاشتمالها على الثناء على اللّه تعالى والقولان كما ترى ، وقيل ونسب إلى ابن عباس ومجاهد أن إطلاق المثاني على الفاتحة لأن اللّه سبحانه استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها لغيرهم ، وروي هذا الادخار في غيرها أيضا وفي غيرها أن ذلك لأنه تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه أو لما فيه من الثناء عليه تعالى بما هو أهله جل شأنه أو لأنه مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز أو يثنى بذلك على المتكلم به ، وعن أبي زيد البلخي أن إطلاق المثاني على ذلك لأنه يثني أهل الشر عن شرهم فتأمل ، وجوز أن يراد بالمثاني القرآن كله وأخرج ذلك ابن المنذر وغيره عن أبي مالك وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في توجيه إطلاقها عليه مع الاختلاف في الإفراد والجمع ، وأن يراد بها كتب اللّه تعالى كلها - فمن - للتبعيض وعلى الأول للبيان وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بالنصب
عطف على سبعا فإن أريد بها الآيات أو السور أو الأمور السبع التي رويت عن زياد فهو من عطف الكل على الجزء بأن يراد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين أو من عطف العام على الخاص بأن يراد به المعنى المشترك بين الكل والبعض وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه وإن أريد بها الأسباع فهو من عطف أحد الوصفين على الآخر كما في قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام. البيت ، بناء على أن القرآن في نفسه الأسباع أي ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم ، واختار بعضهم تفسير الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كالسبع المثاني بالفاتحة لما
أخرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «الحمد للّه رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»
وفي الكشف كونهما الفاتحة أوفق لمقتضى المقام لما مر في تخصيص الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر : 1] بالسورة وأشد طباقا للواقع فلم يكن إذ ذاك قد أوتي صلى اللّه عليه وسلم كله اه ، وأمر العطف معلوم مما قبله. وقرأت فرقة «والقرآن» بالجر عطفا على الْمَثانِي ، وأبعد من ذهب إلى أن الواو مقحمة والتقدير سبعا من المثاني القرآن العظيم لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمع بنظرك طموح راغب ولا تدم نظرك إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من زخارف الدنيا وزينتها أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفرة اليهود والنصارى والمشركين ، وقيل : رجالا مع نسائهم ، والنهي قيل له صلى اللّه عليه وسلم وهو لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة ، وقيل : هو لأمته وإن كان الخطاب له عليه الصلاة والسلام ، وأيد بما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية : نهي الرجل أن يتمنى مال صاحبه نعم كان صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول الآية شديد الاحتياط فيما تضمنته ، فقد أخرج أبو عبيد. وابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير أنه عليه الصلاة والسلام مر بإبل لحي يقال لهم بنو الملوح أو بنو المصطلق قد عنست في أبوالها وأبعارها من السمن فتقنع بثوبه ومر ولم ينظر إليها لقوله تعالى : لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية ، ويعد نحو هذا الفعل من باب سد الذرائع. ومنهم من أيد الأول بهذا وبدلالة ظاهر السياق عليه ، وحاصلها مع ما قبل قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة فعليك أن تستغني بذلك ولا ترغب في متاع الدنيا ، وجعل من ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»
بناء على أن «يتغن» من الغنى المقصور كيستغني وليس مقصورا على الممدود ، ويشهد لذلك ما
في الحديث الصحيح في الخيل «وأما التي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا»
وعن أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا. وقد أخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة ما هو بمعناه ، وقال العراقي : إن الخبر مروي لكن لم أقف على روايته عن أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه في شيء من كتب الحديث.
وحكى بعضهم في سبب نزول الآية أنه وافت من بصرى وأذرعات سبع قوافل لقريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البر والطيب والجواهر فقال المسلمون : لو كانت لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل اللّه تعالى فنزلت ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 323
فكأنه سبحانه يقول : قد أعطيتكم سبعا هي خير من سبع قوافل ، وروي هذا عن الحسن بن الفضل. وتعقب بأنه ضعيف أو لا يصح لأن السورة مكية وقريظة والنضير كانوا بالمدينة فكيف يصح أن يقال ذلك وهو كما ترى. نعم
روي أنه صلى اللّه عليه وسلم وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها إلخ
وهو غير معروف ، وقد قالوا : إنه لم يعهد سفره صلى اللّه عليه وسلم للشام ، واستؤنس بخبر النزول على أن النهي معني به سيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام كالنهي في قوله تعالى :
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ حيث إنهم لم يؤمنوا ، وكان صلى اللّه عليه وسلم يود أن يؤمن كل من بعث إليه وشق عليه الصلاة والسلام لمزيد شفقته بقاء الكفرة على كفرهم ولذلك قيل له : وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وكأن مرجع الجملة الأولى إلى النهي عن الالتفات إلى أموالهم ومرجع هذه الجملة إلى النهي عن الالتفات إليهم ، وليس المعنى لا تحزن عليهم حيث إنهم المتمتعون بذلك فإن التمتع به لا يكون مدارا للحزن عليهم ، وكون المعنى لا تحزن على تمتعهم بذلك فالكلام على حذف مضاف لا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع إليه وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ كناية عن التواضع لهم والرفق بهم ، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحيه له ، والجناحان من ابن آدم جانباه وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي المنذر الكاشف نزول عذاب اللّه تعالى ونقمه المخوفة بمن لم يؤمن كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قيل : إنه متعلق بقوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْناكَ إلخ على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أي اتيناك سبعا من المثاني إيتاء كإنزالنا أنزلنا وهو في معنى أنزلنا عليك ذلك إنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عنادا وعداوة : بعضه موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما ، وتفسير الْمُقْتَسِمِينَ المذكورين بأهل الكتاب مما روي عن الحسن. وغيره ، وفي الدر المنثور أخرج البخاري وسعد بن منصور والحاكم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية : هم أهل الكتاب جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ، وجاء ذلك مرفوعا أيضا ،
فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن الحبر قال : «سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : أرأيت قول اللّه تعالى : كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قال عليه الصلاة والسلام : اليهود والنصارى قال : الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ما عضين؟ قال صلى اللّه عليه وسلم :
آمنوا ببعض وكفروا ببعض»
أو اقتسموه لأنفسهم استهزاء به فقد روي عن عكرمة أن بعضهم كان يقول : سورة البقرة لي وبعضهم سورة آل عمران لي وهكذا ، وجوز أن يراد بالمقتسمين أهل الكتاب ويراد من القرآن معناه اللغوي أي المقروء من كتبهم أي الذين اقتسموا ما قرؤوا من كتبهم وحرفوه وأقروا ببعض وكذبوا ببعض ، وحمل توسط قوله تعالى : لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلخ بين المتعلق والمتعلق على امداد ما هو المراد بالكلام من التسلية. وتعقب القول بهذا التعلق بأنه جل هذا المقام عن التشبيه فلقد أوتي صلى اللّه عليه وسلم ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله ، وفي حمل القرآن على معناه اللغوي ما فيه ، وقيل : هو متعلق بقوله تعالى : وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لأنه في قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل : أنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود هو ما جرى على قريظة. والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك. وتعقب بأن المشبه به العذاب المنذر ينبغي أن يكون معلوما حال النزول وهذا ليس كذلك فيلغو التشبيه ، وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الاعجاز لكن إذا صادف مقاما يقتضيه كما في قوله تعالى : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح : 1] ونظائره ، على أن تخصيص الاقتسام باليهود بمجرد اختصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى في الاقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة ، وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقسام تخصيص من غير مخصص ، وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش وهي اثنا عشر ، وقال ابن السائب : ستة عشر رجلا حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 324
والسائب بن صيفي والنضر بن الحارث. وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة ، أرسلهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ليقفوا على مداخل طرق مكة لينفروا الناس عن الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر ، ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر إلى غير ذلك من هذيانهم فأهلكهم اللّه تعالى يوم بدر وقبله بآفات ، ويجعل الذين منصوبا - بالنذير - على أنه مفعوله الأول وكَما مفعوله الثاني أي أنذر المعضين الذين يجزئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة وهذوا مثل هذيانهم.
وتعقب بأن فيه مع ما فيه من المشاركة لما سبق في عدم كون العذاب الذي شبه به العذاب المنذر واقعا ومعلوما للمنذرين أنه لا داعي إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم في ذلك فإن وصفهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما وصفوا به من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذار ، على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوصا بهم بل هو عام لكلا الفريقين وغيرهم ، مع أن بعض من عد من المنذرين على قول كالوليد بن المغيرة والأسود وغيرهما قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر ، ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى ، وقيل : إنه صفة لمفعول الذين أقيم مقامه بعد حذفه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل الطرق كما حرر ، أي النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين.
وتعقب أيضا بأن فيه مع ما مر أنه يقتضي أن يكون كَما أَنْزَلْنا من مقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو لا يصلح لذلك ، واعتذر له بأنه كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا والآمر الملك كما تقدم غير بعيد أو حكاية لقول اللّه تعالى ، وفيه من التعسف ما لا يخفى ، وأيضا فيه إعمال الوصف الموصوف في المفعول وهو مما لا يجوز.
وأجيب بأن الكوفية تجوزه والقائل بنى الكلام على ذلك أو أن المراد بالمفعول المفعول الغير الصريح وتقديره بعذاب وهو لا يمنع الوصف من العمل فيه ، وقيل : المراد بالمقتسمين على تقدير الوصفية الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه السلام فأهلكهم اللّه تعالى ، والاقتسام بمعنى التقاسم ، ولا إشكال في التشبيه لأن عذابهم أمر محقق نطق به القرآن العظيم فيصح أن يقع مشبها به للعذاب المنذر ، والموصول إما مفعول أول - للنذير - أو لما دل هو عليه من أنذر. وتعقب أيضا بأن فيه بعد إغماض العين عما في المفعولية من الخلاف أو الخفاء أنه لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه تشبيه عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكهم في السبب ، فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التبييت الذي هو السبب لهلاك أولئك مع أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوما ولا وجودا تصحح وقوع أحدهما في جانب والآخر في جانب ، واتفاق الفريقين على مطلق الاتفاق على الشرور المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل ، وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملة القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل اه ، وهذا الجعل مروي عن ابن زيد ، وفي رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أخرجها البيهقي.
وأبو نعيم في الدلائل ما يقتضيه ، ومن هنا قيل بمنع عدم اللياقة ، وبعض من يسلمها يقول : يجوز أن يكون الموصول صفة الْمُقْتَسِمِينَ مرادا بهم أولئك الرهط ، ومعنى جعلهم القرآن عضين حكمهم بأنه مفترى وتكذيبهم به والمراد منه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 325
معناه اللغوي فيؤول إلى وصفهم بتكذيبهم بكتابهم وإعراضهم عن الإيمان به والعمل بما فيه ويوافق ما مر من قوله تعالى فيهم وفي قومهم : وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [الحجر : 81] بناء على أن المراد بالآيات آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام حسبما قيل به فيما سبق ، وإن أبيت ذلك بناء على ما سمعت هنالك التزمنا كون الموصول مفعولا وقلنا : فائدة التعرض للعنوانين المذكورين على الوجه المذكور الإشارة إلى تفظيع أمر التكذيب وكونه في سببيته للعذاب كالاقتسام على قتل النبي ، ويلتزم ما يشعر به هذا من أفظعية الاقتسام المزبور لأنه لا يكون إلا عن تكذيب ومزيد عداوة للنبي ، وفيه بحث ، وقيل : المصحح لوقوع أحد العنوانين في جانب والآخر في جانب أن التكذيب ينجر بزعم المكذبين إلى إبطال أمر النبي عليه الصلاة والسلام وإطفاء نوره وهو العلة الغائية لذلك والاقتسام المذكور كذلك وهو كما ترى ، وقال أبو البقاء وليته لم يقل : كَما أَنْزَلْنا متعلق بقوله تعالى : مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي متعناهم تمتيعا كما أنزلنا ، والمعنى نعمنا بعضهم كما عذبنا بعضهم.
وذكر ابن عطية وغيره أنه يحتمل أن يكون المعنى قل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا على المقتسمين أي أهل الكتاب ، ومرادهم على ما قيل أن ما في كَما موصولة ، والمراد من المشابهة المستفادة في الكاف الموافقة وهي مع ما في حيزها في محل النصب على الحالية من مفعول قُلْ أي قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقا لذلك ، والأنسب على هذا حمل الاقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضا بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبي صلى اللّه عليه وسلم. وأنت تعلم أن فيه بعدا لكنه أولى بالنسبة إلى بعض ما تقدم ، وقريب منه ما قيل : المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني إيتاء موافقا للإيتاء الذي أنزلناه على أهل الكتابين وأخبرناهم به في كتبهم ، وفيه ما فيه.
وأما جعلها زائدة والمعنى أنا النذير المبين ما أنزلنا فحاله غني عن التنبيه عليه ، وقال العلامة أبو السعود بعد نقل أقوال عقبها بما عقبها : والأقرب من الأقوال المذكورة أن كَما أَنْزَلْنا متعلق بقوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْناكَ إلخ ، وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين ، وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية ، وحديث جلالة المقام عن التشبيه من لوائح النظر الجليل.
والمعنى لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما ، وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلقيهما ، والعدول عن تطبيق ما في جانب المشبه به على ما في جانب المشبه بأن يقال : كما آتينا المقتسمين حسبما وقع في قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلخ للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فإن الأول على وجه التكرمة والامتنان فشتان بينه وبين الثاني ، ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبها به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم. وتقدم وجوده على المشبه زمانا لا لمزية تعود إلى ذاته ، ونظير ذلك ما قيل في الصلوات الإبراهيمية فليس في التشبيه إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلا عن إيهام ما تعلقب به الأول مما تعلق به الثاني ، وإنما ذكروا بعنوان الاقتسام إنكارا لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذانا بأنهم كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراك في العلة والاتحاد في الحقيقة التي هي مطلق الوحي ، وتوسيط قوله تعالى : لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتي النبي صلى اللّه عليه وسلم.
ولقد بين أولا علو شأنه ورفعة مكانه صلى اللّه عليه وسلم بحيث يستوجب اغتباطه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءه به عما سواه ، ثم نهي عن الالتفات إلى زهرة الدنيا وعبر سبحانه عن إيتائها لأهلها بالتمتع المنبئ عن وشك زوالها عنهم ، ثم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 326
عن الحزن لعدم إيمان المنهمكين فيها ، وأمر بمراعاة المؤمنين والاكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قوامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم. ثم رجع إلى كيفية إتيانه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم من العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم في كونه وحيا صادقا ، فتأمل واللّه تعالى عنده علم الكتاب اه وهو كلام ظاهر عليه مخايل التحقيق.
وفي البحر بعد نقل أكثر هذه الأقوال : وهذه أقوال وتوجيهات مكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره صلى اللّه عليه وسلم بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه للمؤمنين أمره صلى اللّه عليه وسلم أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر صلى اللّه عليه وسلم بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمر صلى اللّه عليه وسلم بأن يقول لهم : إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لكم ولغيركم كما قال سبحانه : إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات : 45] وتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف ، والتقدير وقل قولا مثل ما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم ، فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفار المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالفا لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمن كما تنذر الكافر كما قال تعالى : إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ «1» لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف : 188] اه بحروفه ، وهو كما ترى ركيك لفظا ومعنى واللّه تعالى أعلم بمراده وعنده علم الكتاب ، وعضين جمع عضه وأصلها عضوة بكسر العين وفتح الضاد بمعنى جزء فهو معتل اللام من عضاه بالتشديد جعله أعضاء وأجزاء فالمعنى جعلوا القرآن أجزاء.
وقيل : العضه في لغة قريش السحر فيقولون للساحر : عاضه وللساحرة عاضهة ، وفي حديث رواه ابن عدي في الكامل ، وأبو يعلى في مسنده «لعن اللّه تعالى العاضهة والمستعضهة»
وأراد صلى اللّه عليه وسلم الساحرة والمستسحرة أي المستعملة لسحر غيرها ، وهو على هذا مأخوذ من عضهته فاللام المحذوفة هاء كما في شفة وشاة على القول بأن أصلهما شفهة وشاهة بدليل جمعهما على شفاه وشياه وتصغيرهما على شفيهة وشويهة.
وعن الكسائي أنه من عضهه عضها وعضيهة رماه بالبهتان ، قيل : وأخذ العضه بمعنى السحر من هذا لأن البهتان لا أصل له والسحر تخييل أمر لا حقيقة له ، وذهب الفراء إلى أنه من العضاه وهي شجرة تؤذي كالشوك واختار بعضهم الأول ، وجمع السلامة لجبر ما حذف منه كعزين وسنين وإلا فحقه أن لا يجمع جمع السلامة المذكر لكونه غير عاقل ولتغير مفرده ومثل هذا كثير مطرد ، ومن العرب من يلزمه الياء ويجعل الإعراب على النون فيقول : عضينك كسنينك وهذه اللغة كثيرة في تميم وأسد ، وفي التعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذي الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض للتنصيص على قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أي لنسألنّ يوم القيامة أصناف الكفرة مطلقا المقتسمين وغيرهم سؤال تقريع وتوبيخ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضية دخولا أوليا أو لنجازينهم على ذلك ، وعلى التقديرين لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن : 39] لأن المراد هنا حسبما أشرنا إليه إثبات سؤال التقريع والتوبيخ أو المجازاة بناء على أن السؤال مجاز عنها وهناك نفي سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم وروي هذا عن ابن عباس ، وضعف هذا الإمام بأنه لا معنى لتخصيص نفي سؤال الاستفهام بيوم القيامة لأن ذلك السؤال محال عليه تعالى في كل وقت.
___________
(1) وقع في الأصل بشير ونذير إلخ والتلاوة كما ذكرنا اه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 327
وأجيب بأنه بناء على زعمهم كقوله تعالى : وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً [إبراهيم : 21] فإنه يظهر لهم في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء فلا يحتاج إلى الاستفهام. وقيل : المراد لا سؤال يومئذ منه تعالى ولا من غيره بخلاف الدنيا فإنه ربما سأل غيره فيها. ورد بأن قوله : لأنه سبحانه عالم بجميع أعمالهم يأباه.
واختار غير واحد في الجمع أن النفي بالنسبة إلى بعض المواقف والإثبات بالنسبة إلى بعض آخر ، وسيأتي تمام الكلام في ذلك ، واستظهر بعضهم عود الضمير في لَنَسْئَلَنَّهُمْ إلى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ للقرب ، وجوز أن يعود على الجميع من مؤمن وكافر لتقدم ما يشعر بذلك من قوله سبحانه : وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ وما للعموم كما هو الظاهر ، وأخرج ابن جرير : وغيره وعن أبي العالية أنه قال في الآية : يسأل العباد كلهم يوم القيامة عن خلتين عما كانوا يعبدون وعما أجابوا به المرسلين.
وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «يسألون عن قول لا إله إلا اللّه» وأخرجه البخاري في تاريخه ، والترمذي من وجه آخر عن أنس موقوفا ، وروي أيضا عن ابن عمر ، ومجاهد ،
والمعنى على ما في البحر يسألون عن الوفاء بلا إله إلا اللّه والتصديق لمقالها بالأعمال ، والفاء قيل لترتيب الوعيد على أعمالهم التي ذكر بعضها ، وقيل :
لتعليل النهي والأمر فيما سبق ، وزعم أنها الفاء الداخلة على خبر الموصول كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم مبني على أن الذين مبتدأ وقد علمت حال ذلك ، وفي التعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به صلى اللّه عليه وسلم فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ قال الكلبي : أي أظهره واجهر به يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا ، ومن ذلك قيل للفجر صديع «1» لظهوره.
وجوز أن يكون أمرا من صدع الزجاجة وهو تفريق أجزائها أي افرق بين الحق والباطل ، وأصله على ما قيل الإبانة والتمييز ، والباء على الأول صلة وعلى الثاني سببية ، و«ما» جوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي بالذي تؤمر به فحذف الجار فتعدى الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذف ، ولعل القائل بذلك لم يعتبر حذفه مجرورا لفقد شرط حذفه بناء على أنه يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثلما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا ، وقيل : التقدير فاصدع بما تؤمر بالصدع به فحذفت الباء الثانية ثم الثالثة ثم لام التعريف ثم المضاف ثم الهاء ، وهو تكلف لا داعي له ويكاد يورث الصداع ، والمراد بما يؤمر به الشرائع مطلقا ، وقول مجاهد : كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم إن المعنى اجهر بالقرآن في الصلاة يقتضي بظاهره التخصيص ولا داعي له أيضا كما لا يخفى ، وأظهر منه في ذلك ما روي عن ابن زيد أن المراد بِما تُؤْمَرُ القرآن الذي أوحي إليه صلى اللّه عليه وسلم أن يبلغهم إياه ، وأن تكون مصدرية أي فاصدع بمأموريتك وهو الذي عناه الزمخشري بقوله : أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول ، وتعقبه أبو حيان بأنه مبني على مذهب من يجوز أن يراد بالمصدر أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز.
ورد بأن الاختلاف في المصدر الصريح هل يجوز انحلاله إلى حرف مصدري وفعل مجهول أم لا أما أن الفعل المجهول هل يوصل به حرف مصدري فليس محل النزاع ، فإن كان اعتراضه على الزمخشري في تفسيره بالأمر وأنه كان ينبغي أن يقول بالمأمورية فشيء آخر سهل ، ثم لا يخفى ما في الآية من الجزالة ، وقال أبو عبيدة : عن رؤية ما في القرآن منها ، ويحكى أن بعض العرب سمع قارئا يقرأها فسجد فقيل له في ذلك فقال : سجدت لبلاغة هذا الكلام ، ولم يزل صلى اللّه عليه وسلم مستخفيا كما روي عن عبد اللّه بن مسعود قبل نزول ذلك فلما نزلت خرج هو وأصحابه عليه الصلاة والسلام وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
___________
(1) كما في قوله. كأن بياض غرته صديع. اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 328
أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم فليست الآية منسوخة ، وقيل : هي من آيات المهادنة التي نسختها آية السيف ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك أو بك وبالقرآن كما روي عن ابن عباس بقمعهم وتدميرهم.
أخرج الطبراني في الأوسط ، والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل ، وابن مردويه بسند حسن قال : المستهزءون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عطيل السهمي والعاص بن وائل فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه فأراه الوليد فأومأ جبريل عليه السلام ألى أكحله فقال صلى اللّه عليه وسلم : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ، ثم أراه الأسود ابن المطلب فأوما إلى عينيه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه. ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ثم أراه الحارث فأومأ إلى بطنه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ، ثم أراه العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه. فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا فأصاب أكحله فقطعها ، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول : يا بني ألا تدفعون عني قد هلكت أطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه ، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج رجيعه من فيه فمات منه ، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل في أخمص قدمه شوكة فقتلته ،
وقال الكرماني في شرح البخاري : إن المستهزئين هم السبعة الذين ألقوا الأذى ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي كما جاء في حديث البخاري وهم : عمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط ، وعمارة بن الوليد ، وفي الأعلام للسهيلي أنهم قذفوا بقليب بدر وعدهم بخلاف ما ذكر. وفي الدر المنثور وغيره روايات كثيرة مختلفة في عدتهم «1» وأسمائهم وكيفية هلاكهم وعد الشعبي منهم هبار بن الأسود. وتعقبه في البحر بأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة فعده وهم ، وهذا متعين إذا كانت كفايته عليه السلام إياهم بالإهلاك كما هو الظاهر ، وقد ذكر الإمام نحو ما ذكرنا من اختلاف الروايات ثم قال : ولا حاجة إلى شيء من ذلك ، والقدر المعلوم أنهم كانوا طائفة لهم قوة وشوكة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على مثل هذه السفاهة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في علو قدره وعظم منصبه ، ودل القرآن على أن اللّه سبحانه أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم.
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي اتخذوا إلها يعبدونه معه تعالى ، وصيغة الاستقبال لاستحضار الحال الماضية ، وفي وصفهم بذلك تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتهوين للخطب عليه عليه الصلاة والسلام بالإشارة إلى أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به صلى اللّه عليه وسلم بل اجترءوا على العظيمة التي هي الإشراك به سبحانه فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يأتون ويذرون وفيه من الوعيد ما لا يخفى.
وفي البحر أنه وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وشركهم في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من كلمات الشرك والاستهزاء ، وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقق ما تتضمنه من التسلية. وصيغة المضارع لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فافزع إلى ربك فيما نابك من ضيق الصدر بالتسبيح ملتبسا بحمده أي قل : سبحان اللّه والحمد للّه أو فنزهه عما يقولون حامدا له سبحانه على أن هداك للحق ، فالتسبيح والحمد بمعناهما اللغوي كما أنهما على الأول بمعناهما العرفي أعني قول تينك الجملتين ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم ما لا يخفى من
___________
(1) عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهم كانوا ثمانية اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 329
اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر المذكور وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء. وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من
قوله صلى اللّه عليه وسلم «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»
وليس هذا موضع سجدة خلافا لبعضهم. وفي أمره صلى اللّه عليه وسلم بما ذكر إرشاد له إلى ما يكشف به الغم الذي يجده كأنه قيل : افعل ذلك يكشف عنك ربك الغم والضيم الذي تجده في صدرك ولمزيد الاعتناء بأمر الصلاة جيء بالأمر بها كما ترى مغايرا للأمر السابق على هذا الوجه المخصوص. وفي ذلك من الترغيب فيها ما لا يخفى. وقد كان صلى اللّه عليه وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة. وصح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة»
وذكر بعضهم أن في الآية إشارة إلى الترغيب بالجماعة فيها. وإن في عدم تقييد السجود بنحو له أو لربك إشارة إلى أنه مما لا يكاد يخطر بالبال إيقاعه لغيره تعالى فتدبر.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه ، قيل : وفي الإظهار بالعنوان السالف آنفا تأكيد لما سبق من إظهار اللطف به صلى اللّه عليه وسلم والإشعار بعلة الأمر بالعبادة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت كما روي عن ابن عمر والحسن وقتادة وابن زيد ، وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي ، وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه ، والمعنى دم على العبارة ما دمت حيّا من غير إخلال بها لحظة ، وقال ابن بحر : اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلى اللّه عليه وسلم ، وأيا ما كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود ، وقالوا : إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين ، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين.
وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء ، أفترى أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يتضح له ليلتئذ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود؟ اللّه أكبر لا يتجاسر على ذلك من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان ، وأيضا لم يزل صلى اللّه عليه وسلم ما دام حيا آتيا بمراسم العبادة قائما بأعباء التكليف لم ينحرف عن الجادة قدر حادة أفيقال : إنه لم يأته عليه الصلاة والسلام حتى توفي ذلك اليقين ولذلك بقي في مشاق التكليف إلى أن قدم على رب العالمين؟ لا أرى أحدا يخطر له ذلك بجنان ولو طال سلوكه في مهامه الضلالة وبان. نعم ذكر بعض العلماء الكرام في قوله تعالى : وَلَقَدْ نَعْلَمُ إلخ كلاما متضمنا شيئا مما يذكره الصوفية لكنه بعيد بمراحل عن مرام أولئك اللئام ، ففي الكشف أنه تعالى بعد ما هدم قواعد جهالات الكفرة وأبرق وأرعد بما أظهر من صنيعه بالقائلين نحو مقالات أولئك الفجرة فذلك الكلام بقوله سبحانه : وَلَقَدْ نَعْلَمُ مؤكدا هذا التأكيد البالغ الصادر عن مقام تسخط بالغ وكبرياء لينفس عن حبيبه عليه الصلاة والسلام أشد التنفيس ، ثم أرشد إلى ما هو أعلى من ذلك مما تأهله لمسامرة الجليس للجليس وقال تعالى : فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ إشارة إلى التوجه إليه بالكلية والتجرد التام عن الأغيار والتحلي بصفات من توجه إليه بحسن القبول والافتقار إذ ذلك مقتضى التسبيح والحمد لمن عقلهما ، ثم قال سبحانه : وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ دلالة على الاقتراب المضمر فيه لأن السجود غاية الذلة والافتقار وهو مظهر الفناء حتى نفسه وشرك البقاء بمن أمره بخمسه ، وقوله تعالى شأنه : وَاعْبُدْ رَبَّكَ إلخ ظاهره ظاهر وباطنه يومي إلى أن السفر في اللّه تعالى لا ينقطع والشهود الذي عليه يستقر لا يحصل أبدا فما من طامة إلا وفوقها طامة.
إذا تغيبت بدا وإن بدا غيبني
وعن لسان هذا المقام رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه : 114] اه ، هذا ولا يخفى مما ذكره غير واحد من المفسرين

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 330
مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها ، وأن قوله سبحانه : وَلَقَدْ نَعْلَمُ إلخ في مقابلة وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر : 6] واللّه تعالى أعلم وأحكم.
ومن باب الإشارة فيما تقدم من الآيات : ما قالوه مما ملخصه نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي أخبرهم بأني أغفر خطرات قلوب العارفين بعد إدراكهم مواضع خطرها وتداركهم ما هو مطلوب منهم وأرحمهم بأنواع الفيوضات وأوصلهم إلى أعلى المكاشفات والمشاهدات وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ وهو عذاب الاحتجاب والطرد عن الباب.
وقال ابن عطاء : هذه الآية إرشاد له صلى اللّه عليه وسلم إلى كيفية الإرشاد كأنه قيل : أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبيل الاستقامة في الطاعة فإن من غلب عليه رجاؤه عطله ومن غلب عليه خوفه أقنطه وذكر بعضهم أن فيها إشارة إلى ترجيح جانب الخوف على الرجاء لأنه سبحانه أجرى وصفي الرحمة على نفسه عزّ وجلّ ولم يجر العذاب على ذلك السنن ، وأنت تعلم أن المذكور في كثير من الكتب أنه ينبغي للإنسان أن يكون معتدل الرجاء والخوف إلا عند الموت فينبغي أن يكون رجاؤه أزيد من خوفه ، وفي المقام كلام طويل يطلب من موضعه لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال النووي : أي بحياتك التي خصصت بها من بين العالمين ، وقال القرشي : هذا قسم بحياة الحبيب صلى اللّه عليه وسلم.
وإنما أقسم سبحانه بها لأنها كانت به تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين ، وذكروا أن للفراسة مراتب فبعضها يحصل بعين الظاهر ، وبعضها ما يدركه آذان العارفين مما ينطق به الحق بألسنة الخلق ، وبعضها ما يبدو في صورة المتفرس من أشكال تصرف الحق سبحانه وإنطاقه وجوده له حتى ينطق جميع شعرات بدنه بألسنة مختلفة فيرى ويسمع من ظاهر نفسه ما يدل على وقوع الأمور الغيبية ، وبعضها ما يحصل بحواس الباطن حيث وجدت بلطفها أوائل المغيبات باللائحة ، وبعضها ما يحصل من النفس الأمارة بما يبدو فيها من التمني والاهتزاز وذلك سر محبته فإن اللّه تعالى إذا أراد فتح الغيب ألقى في النفس آثار بواديه إما محبوبة فتتمنى وإما مكروهة فتنفر ولا يعرف ذلك إلا رباني الصفة ، وبعضها ما يحصل للقلب إما بالإلهام وإما بالكشف ، وبعضها ما يحصل للعقل وذلك ما يقع من أثقال الوحي الغيبي عليه ، وبعضها ما يحصل للروح بالواسطة وغير الواسطة ، وبعضها ما يحصل لعين السر وسمعه ، وبعضها ما يحصل في سر السر ظهور عرائس أقدار الغيبة ملتبسات بإشكال إلهية ربانية روحانية فيبصر تصرف الذات في الصفات ويسمع الصفات بوصف الحديث والخطاب من الذات بلا واسطة وهناك منتهى الكشف والفراسة. وسئل الجنيد رضي اللّه تعالى عنه عن الفراسة فقال : آيات ربانية تظهر في أسرار العارفين فتنطق ألسنتهم بذلك فتصادف الحق ، ولهم في ذلك عبارات أخرى.
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ
روى عمرو بن دينار عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : الصفح الجميل صفح لا توبيخ فيه ولا حقد بعده مع الرجوع إلى ما كان قبل ملابسة المخالفة ،
وقيل : الصفح الجميل مواساة المذنب برفع الخجل عنه ومداواة موضع آلام الندم في قلبه وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وهي الصفات السبعة أعني الحياة والعلم والقدرة والإرادة والبصر والسمع والكلام ، ومعنى كونها مثاني أنها ثنى وكرر ثبوتها له صلى اللّه عليه وسلم ، فكانت له عليه الصلاة والسلام أولا في مقام وجود القلب وتخلقه بأخلاقه واتصافه بأوصافه ، وثانيا في مقام البقاء بالوجود الحقاني ، وقيل : معنى كونها مثاني أنها ثواني الصفات القائمة بذاته سبحانه عزّ وجلّ ومواليدها ، وجاء «لا زال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وهو عندهم : الذات الجامع لجميع الصفات لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ إلى

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 331
آخره. قال بعضهم في ذلك : غار الحق سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام أن يستحسن من الكون شيئا ويعيره طرفه وأراد منه صلى اللّه عليه وسلم أن تكون أوقاته مصروفة إليه وحالاته موقوفة عليه وأنفاسه النفيسة حبيسة عنده ، وكان صلى اللّه عليه وسلم كما أراد منه سبحانه ولذلك وقع في المحل الأعلى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم : 17] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قد مر عن الكشف ما فيه مقنع لمن أراد الإشارة من المسترشدين ، هذا وأسأل اللّه سبحانه أن يحفظنا من سوء القضا ويمن علينا بالتوفيق إلى ما يحب ويرضى بحرمة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين ما جرى في تفسير كتاب اللّه تعالى قلم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 332
سورة النّحل
وتسمى كما أخرج ابن أبي حاتم سورة النعم قال ابن الفرس : لما عدد اللّه تعالى فيها من النعم على عباده ، وأطلق جمع القول بأنها مكية وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أحد ، وفي رواية عنه أنها كلها مكية إلا قوله تعالى : وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [النحل :
95] إلى قوله سبحانه : بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل : 96 ، 97] وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد أن أربعين آية منها نزلت بمكة وبقيتها نزلت بالمدينة ، وهي مائة وثمان وعشرون آية ، قال الطبرسي وغيره : بلا خلاف ، والذي ذكره الداني في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث وقيل أربع وقيل خمس في سائر المصاحف ، وتحتوي من المنسوخ قيل على أربع آيات بإجماع وعلى آية واحدة على مختلف فيها ، وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء اللّه تعالى ، ولما ذكر في آخر السورة السابقة المستهزءون المكذبون له صلى اللّه عليه وسلم ابتدئ هنا بعد قوله تعالى :
[سورة النحل (16) : الآيات 1 إلى 50]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 333

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 334
بقوله عزّ وجلّ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه وسبب نزوله.
وفي البحر في بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : 92] كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا فقيل : أَتى أَمْرُ اللَّهِ فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة ، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام بأول هذه فإن قوله سبحانه وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر : 99] الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا : أَتى أَمْرُ اللَّهِ وانظر كيف جاء في المتقدمة يَأْتِيَكَ بلفظ المضارع وفي المتأخرة أتى بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله ، والأمر واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في البحر ، وفسر بما يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة ، وعن ابن جريج تفسيره بنزول العذاب فقط فقال : المراد بالأمر هنا ما وعد اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم من النصر والظفر على الأعداء والانتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والاستيلاء على المنازل والديار ، وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أن المراد به الأحكام والحدود والفرائض ، وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض اللّه تعالى وحدوده سبحانه ، والتعبير عن ذلك بأمر اللّه للتهويل والتفخيم ، وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ وقضائه الغالب ، وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع ، وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه فالماضي باق على حقيقته ، ولعل ما أخرجه ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج النبي صلى اللّه عليه وسلم مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر اللّه وعدا فلا تستعجلوه وقوعا وهو كما ترى ، وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي بمعنى المضارع على طريق الاستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 335
قوله سبحانه «1» فإنه لو وقع ما استعجل. وهو الذي يميل إليه القلب ، والضمير المنصوب في تَسْتَعْجِلُوهُ على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه ، وقيل : يعود على اللّه سبحانه أي فلا تستعجلوا اللّه تعالى بالعذاب أو بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الحج : 47 ، العنكبوت : 53 ، 54] وهو خلاف الظاهر ، لكن قيل : إن ذلك أوفق بما بعد ، والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه قراءة ابن جبير «فلا يستعجلوه» على صيغة نهي الغائب ، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر اللّه تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة ، أما الأول فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة «2» أو ما يعمها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه ، وأما الثاني فلأن الاستعجال من المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمهما صيغة واحدة ، والالتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معا من غير أن يكون هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل.
وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما
روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى :
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر : 1] قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئا فنزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء : 1] فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرفع الناس رؤوسهم فلما نزل فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنوا ثم قال صلى اللّه عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه إن كادت لتسبقني»
ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمئنانهم إنما هو وقوفهم على أن المراد بالإتيان هو الإتيان الادعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة ، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع المستحيل بعد ، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر اللّه إنما هو الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل. نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر اللّه تعالى العذاب الموعود للكفرة خاصة ، لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كذا قاله أبو السعود.
وبحث فيه من وجوه ، أما أولا فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين الاستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلا لا عده عاجلا وسياق ما روي يدل على الأخير ، فإنه لما سمعوا صدر الكلام حملوه على الظاهر فاضطربوا فقيل لهم : فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي لا تعدوه عاجلا ، على أن عدم تصور المعنى الأول أيضا منهم في حيز المنع لجواز أن يستعجلوه لتشفي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والاستهزاء بهم والضحك منهم ، وأما ثانيا فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله مذهب ذلك القائل ، وأما ثالثا فلأن القول بكون القراءة على صيغة نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند ظاهر ، وأما رابعا فلأن نفي دلالة ما روي على عموم الخطاب غير موجه لعموم لفظ الناس ، وأما خامسا فلأن قوله : بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر اللّه تعالى إنما هو الساعة إلى آخره ، يرد عليه أنه لا دلالة فيه أصلا على عدم العموم فضلا أن تكون واضحة ، وقد عرفت ما في قوله : وقد عرفت ، وأما سادسا فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره في تفسير قوله : أَتى أَمْرُ اللَّهِ حيث قال : أي الساعة أو ما يعمها
___________
(1) قوله والقرينة عليه قوله سبحانه إلخ كذا بخطه ولعله سقط منه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ مقول القول بدليل ما ذكره من التعليل اه.
(2) قال تعالى : يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 336
وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر؟ وفي بعض الأبحاث نظر.
وقال بعض الفضلاء بعض الفضلاء : قد يقال : إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه ابن مردويه عن الحبر قال : «لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا». وهذا أيضا على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال : إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة بقوله سبحانه : فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنت قلوبهم وسكنوا ، وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الاستعجال الحقيقي ، واستدل على كون الخطاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى : سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ :
لما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة اللّه تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدا يحجزه عن إمضاء وعيده أو إنجاز وعده قيل بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات : إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا ، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين ، وقيل في وجه الارتباط على ذلك التقدير : إنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه واخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا : أَتى أَمْرُ اللَّهِ إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف ، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتبار ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحا له ، وأيضا فإن قوله تعالى : أَتى أَمْرُ اللَّهِ تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه ، وأنت تعلم أن الارتباط على ما قرر أولا أظهر منه على هذا التقرير فافهم ، ثم إن ما تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني أظهر ، ولا بد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك.
وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» بتاء الخطاب على وفق فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وقرأ باقي السبعة والأعرج وأبو جعفر وأبو رجاء والحسن بياء الغيبة ، وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضا على قراءة «تشركون» بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين. نعم في ذلك على تقدير عموم الخطاب تغليبان على ما قيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم في الخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك ، وعلى قراءة «يستعجلوه» ويُشْرِكُونَ بالتحتية فيهما لا التفات ولا تغليب يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قيل هو إشارة إلى طريق علم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بإتيان ما أوعد به وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك ، وقال في الكشف :
التحقيق أن قوله سبحانه : أَتى أَمْرُ اللَّهِ تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكنا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلخ تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ أولا ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع والعقل ، وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائم بتحرير العقلي وتهذيبه أيضا فليس النظر إلى دليل السمع بل إلى من قام به من الملائكة والرسل عليهم السلام وهم القائمون بالأمرين جميعا فافهم. وأخذ سيبويه منه أن جعل يُنَزِّلُ حالا من ضمير يُشْرِكُونَ لا يطابق المقام البتة انتهى.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 337
وما ذكره من أمر الحالية إشارة إلى الاعتراض على شيخه العلامة الطيبي حيث جعل ذلك أحد احتمالين في الجملة ، ثانيهما كونها مستأنفة وهو الظاهر ، وما أشار إليه من وجه الربط وادعى أنه التحقيق لا يخلو عما هو خلاف المتبادر ، والتعبير بصيغة الاستقبال للإشارة إلى أن التنزيل عادة مستمرة له تعالى ، والمراد بالملائكة عند الجمهور جبريل عليه السلام ويسمى الواحد بالجمع - كما قال الواحدي - إذا كان رئيسا ، وعند بعض هو عليه السلام ومن معه من حفظة الوحي.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ينزل» مخففا من الإنزال ، وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما والأعمش وأبو بكر ينزل مشددا مبنيا للمفعول والملائكة بالرفع على أنه نائب الفاعل والجحدري كذلك إلا أنه خفف ، وأبو العالية والأعرج والمفضل عن عاصم «تنزّل» بتاء فوقية مفتوحة وتشديد الزاي مبنيا للفاعل وقد حذف منه أحد التاءين وأصله تتنزل ، وابن أبي عبلة «ننزل» بنون العظمة والتشديد ، وقتادة بالنون والتخفيف ، وفي هاتين القراءتين كما في البحر التفات بِالرُّوحِ أي الوحي كما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ويدخل في ذلك القرآن ، وروي عن الضحاك والربيع بن أنس الاقتصار عليه ، وأيّا ما كان فإطلاق «الروح» على ذلك بطريق الاستعارة المصرحة المحققة ، ووجه الشبه أن الوحي يحيي القلوب الميتة بداء الجهل والضلال أو أنه يكون به قوام الدين كما أن بالروح يكون قوام البدن ، ويلزم ذلك استعارة مكنية وتخييلية وهي تشبيه الجهل والضلال بالموت وضد ذلك بالحياة أو تشبيه الدين بإنسان ذي جسد وروح ، وهذا كما إذا قلت : رأيت بحرا يغترف الناس منه وشمسا يستغيثون بها فإنه يتضمن تشبيه علم الممدوح بالماء العظيم والنور الساطع لكنه جاء من عرض فليس - كأظفار المنية - وليس غير كونه استعارة مصرحة ، وجعل ذلك في الكشف من قبيل الاستعارة بالكناية وليس بذاك ، والباء متعلقة بالفعل السابق أو بما هو خال من مفعوله أي ينزل الملائكة ملتبسين بالروح ، وقوله سبحانه : مِنْ أَمْرِهِ بيان للروح المراد به الوحي ، والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور ، ولا يخرج ذلك الروح من الاستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة : 187] لما قالوا : من أن بينهما بونا بعيدا لأن نفس الفجر عين المشبه شبه بخيط ، وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبها به ولذا
بينت به الروح الحقيقية في قوله تعالى : قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء : 85] كما تبين به المجازية ، ولو قيل : يلقى أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الاستعارة فليس وزان مِنْ أَمْرِهِ وزان مِنَ الْفَجْرِ وليس كل بيان مانعا من الاستعارة كما يتوهم من كلام المحقق في شرح التلخيص.
وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الروح على معنى حال كونه ناشئا ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقا - بينزل - ومِنْ سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو لأجله ، والأمر على هذا واحد الأوامر ، وعلى ما قبله قيل : فيه احتمالان. وذهب بعضهم إلى أن «الروح» هو جبريل عليه السلام وأيده بقوله تعالى : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء :
193] وجعل الباء بمعنى مع ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن «الروح» خلق من خلق اللّه تعالى كصور بني آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم ، وروي ذلك عن ابن جريج وعليه حمل بعضهم ما في الآية هنا.
وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه ، وأضعف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روي عن مجاهد أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه روح من تلك الأرواح عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي أن ينزل عليهم لا لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك.
والآية دليل على أن النبوة عطائية كما هو المذهب الحق ، ويرد بها أيضا على بعض المتصوفة القائلين بأنه لا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 338
حاجة للخلق إلى إرسال الرسل عليهم السلام قالوا : الرسل سوى اللّه تعالى وكل ما سواه سبحانه حجاب عنه جل شأنه فالرسل حجاب عنه تعالى وكل ما هو حجاب لا حاجة للخلق فالرسل لا حاجة إليهم ، وهذا جهل ظاهر ، ولعمري إنه زندقة وإلحاد ، وفساده مثل كونه زندقة في الظهور ، ويكفي في ذلك منع الكبرى القائلة بأن كل ما سواه سبحانه إلخ فإن الرسل وسيلة إلى اللّه تعالى والوصول إليه عز وجل لا حجاب ، وهل يقبل ذو عقل أن نائب السلطان في بلاده حجاب عنه؟ وهب هذا القائل أمكنه الوصول إليه سبحانه بلا واسطة بقوة الرياضة والاستعداد والقابلية فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكنه كيف يصنعون.
وممن ينتظم في سلك هؤلاء الملحدين البراهمة فإنهم أيضا نفوا النبوة لكنهم استدلوا بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف فيأتي بالحسن ويجتنب القبيح ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك ، فالأنبياء عليهم السلام إما أن يأتوا بما يوافق العقل فلا حاجة معه إليهم أو بما يخالفه فلا التفات إليهم ، وجوابه أن هذا مبني على القول بالحسن والقبح العقليين ، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف وتم الأمر في إبطاله ، وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي ، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤوا بما يوافق العقل لا حاجة إليهم لجواز أن يعرفوا المكلف بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له أو يؤكدوا حكمه بحكمهم ، ودليلان أقوى من دليل ، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤوا بما يخالف العقل لا يلتفت إليهم لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عليه ، على أن ذلك فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه بنفسه كوجوب صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال ، وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله أَنْ أَنْذِرُوا بدل من الروح على أن أَنْ هي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم : كتبت إليه بأن قم ، ولا ضير في ذلك كما حقق في موضعه أي ينزلهم ملتبسين بطلب الإنذار منهم. وجوز ابن عطية وأبو البقاء وصاحب الغنيان كون أَنْ مفسرة فلا موضع لها من الإعراب ، وذلك لما في تنزيل الملائكة بالوحي من معنى القول كأنه قيل : يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا ، وجوز الزمخشري ذلك وكون أَنْ المخففة من المثقلة وأمر البدلية على حاله قال : والتقدير بأنه أنذروا أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا.
وتعقبه أبو حيان بأن جعلها مخففة وإضمار اسمها وهو ضمير الشأن وتقدير القول حتى يكون الخبر جملة خبرية تكلف لا حاجة إليه مع سهولة جعلها الثنائية التي من شأنها نصب المضارع ، وفيه بحث ، ففي الكشف أن تحقيق وصل الأمر بهذا الحرف ناصبة كانت أو مخففة وإضمار القول قد سلف إنما الكلام في إيثار المخففة هاهنا وفي يونس والناصبة في نوح وهي الأصل لقلة التقدير ، وذلك لأن مقام المبالغة يقتضي إيثار المخففة ، ولهذا جعل بدلا والمبدل منه ما عرف شأنه ، وكذاك في يونس معناه أعجبوا من هذا الأمر المحقق وهو أن الشأن كذا ، وأما في نوح فكلام ابتدائي ، وجعلهم فائدة القول أن لا يقع الطلبي خبرا من ضيق العطن فذلك في ضمير الشأن غير مسلم لأنه متحد بما بعده وهو كما تقول : كلامي اضرب زيدا انتهى. وقرئ لينذروا والإنذار الإعلام كما قيل خلا أنه مختص بإعلام المحذور أي اعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فالضمير للشأن وهو من خلاف مقتضى الظاهر ، وفائدة تصدير الجملة به الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما في ذلك من زيادة تقرير في الذهن ، وأَنْ وما بعدها في موضع المفعول الثاني - لأنذروا - دون تقدير جار فيه والمفعول الأول محذوف. والمراد العموم أي أعلموا الناس أن الشأن الخطير هذا ، ووجه انباء مضمونه عن المحذور بأنه ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الإشراك ، ولا يشترط تحقق المحذور كالاتصاف المذكور بالفعل في تحقق ماهية الإنذار ، وإن أبيت إلا الاشتراط فتحقق الاتصاف في بعض أفراد المنذرين لا سيما الأكثر بالفعل كاف.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 339
وقال الراغب : الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور وهو قريب مما تقدم ، ومحصله على العبارتين التخويف ، ومن هنا جوز بعضهم تفسيره بذلك وقدر المفعول الأول خاصا وأَنْ وما بعدها في موضع المفعول الثاني بتقدير الجار أي خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأن الشأن الخطير هذا ، وذلك كما جوز تفسيره بالإعلام ، وجعل المفعول الأول عاما ولم يقدر جارا في الثاني ، وذكر أن ذلك أصل معناه وأن تخصيصه بإعلام المحذور طارئ فإن أريد ذلك الأصل كان تعلقه بما بعده ظاهرا غاية الظهور ، وإن أريد غيره احتاج إلى التوجيه ، وقد علمته فيما إذا كان المفعول الأول عاما ، والأمر فيما إذا كان خاصا بعد ذلك أظهر من أن يذكر.
وذكر بعض الفضلاء أن الثابت في اللغة أن نذر بالشيء كفرح به فحذره وأنذره إذا أعلمه بما يحذره وليس فيها مجيئه بمعنى التخويف فأصله الإعلام مع التخويف فاستعملوه بكل من جزئي معنييه الإعلام والتخويف انتهى وفيه غفلة عما أشرنا إليه ، وكأنه لهذا قيل : إنه لم يأت بشيء يعتد به فَاتَّقُونِ جعله أبو السعود خطابا للمستعجلين على طريقة الالتفات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على من يشاء تنزيلهم عليه من عباده وأمر المنزل عليهم بأن ينذروا الناس بأنه تعالى لا شريك له في الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه وفروعه التي من جملتها الاستعجال والاستهزاء انتهى.
وهو على ما يقتضيه الظاهر مبني على ما مال إليه من اختصاص الخطاب السابق بكفرة ، وجعل بعضهم هذا الخطاب رجوعا أيضا إلى خطاب قريش لكنه متفرع على التوحيد ، ووجه تفرعه عليه أنه سبحانه وتعالى إذا كان واحدا لم يتصور تخليص أحد لأحد من عذابه إذا أراد ذلك ولم يجوز جعله من جملة الموحى به على معنى أعلموهم قولي أن الشأن لا إله إلا أنا فاتقون أو خوفوهم بذلك معللا بأنه لو كان ذلك لقيل - إن - بالكسر لا بالفتح.
وتعقب بمنع اللزوم فإن أن ليست بعد قول صريح أو مقدر وإنما ذكروا ذلك في بيان المعنى لتصويره ، واختير أنه إذا كان الإنذار بمعنى التخويف فالظاهر دخول هذا الأمر في المنذر به لأنه هو المنذر به في الحقيقة وهو المقصود بالذكر ، وإذا كان بمعنى الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى وهو متفرع عليها على طريق الالتفات ، ولا يخلو عن مناقشة فتأمل ، والذي يميل إليه القلب أن المجموع داخل في حيز الإنذار وهو مشتمل على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى التي هي أقصى كمال القوة العملية فإن النفوس البشرية لها نسبة إلى عالم الغيب تستعد بها لقبول الصور والتحلي بالمعارف والإدراكات من ذلك العالم ، ونسبة إلى عالم الشهادة تستعد بها لأن تتصرف في أجسام هذا العالم ويسمى استعدادها الحاصل لها باعتبار النسبة الأولى قوة نظرية واستعدادها باعتبار النسبة الثانية قوة عملية ، وأشرف كمالات القوة النظرية معرفة أن لا إله إلا اللّه تعالى ، وأشرف كمالات القوة العملية الإتيان بالأعمال الصالحة الواقية عن خزي يوم القيامة.
وقدم قوله تعالى : لا إِلهَ إِلَّا أَنَا على قوله سبحانه : فَاتَّقُونِ للإشارة إلى أن ما يستند إلى القوة النظرية أعلى كمالا مما يستند إلى القوة العملية ، والكمال الإنساني باعتبار هاتين القوتين يسمى كمالا نفسانيا ، وله كمالات أخر هي كمالاته البدنية وقواه الحيوانية ، وقد فصل ذلك في موضعه. ثم إنه تعالى شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم السلام فقال عز قائلا : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.
وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ونبه على أن كل

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 340
واحد يكفي صارفا للمشركين عما هم فيه من الشرك وعليه مدار السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتي الرعاية والهداية ، وانظر إلى فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه : وَاصْبِرْ [النحل : 127] إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار البلاغة وأنوار الإعجاز والمراد بالسماوات والأرض إما هذه الأجرام والأجسام المعلومة ، وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك ملتبسا بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر مريد منفرد بالألوهية والربوبية والإلزام إمكان التمانع المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام ولذا عقب هذا بقوله تعالى : تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وقرأ الأعمش «فتعالى» بالفاء ، وما يحتمل أن تكون مصدرية أي تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم ، وأن تكون موصولة على معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبدئ ولا يعيد ، واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام والأجسام كما يقوله المجسمة ، ووجه ذلك أنها تدل على احتياج الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا لاحتاج إليه فلا يكون خالقا ، وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة من الآية أظهر ، وقرأ الكسائي «تشركون» بالتاء.
خَلَقَ الْإِنْسانَ أي هذا النوع غير الفرد الأول منه مِنْ نُطْفَةٍ أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا فَإِذا هُوَ بعد الخلق من ذلك خَصِيمٌ منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم ، وهو صيغة مبالغة ، وقال الواحدي : بمعنى مخاصم ، وفعيل بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى المخالط والعشير بمعنى المعاشر.
مُبِينٌ مظهر للحجة لقن بها وقيل : المعنى أوجده من ذلك فإذا هو خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس : 78] والأول أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته ، وبين الإمام وجه الاستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الاستدلال بخلق تلك بالاستدلال بخلقه : اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن ، وصدر الآية إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وعجزها إشارة إلى الاستدلال بأحواله ، وتقرير الأول أن يقال : إن النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث لم يكن الأمر فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية علمنا أن المقتضي لها هو الفاعل الحكيم المختار ، وإن كان الثاني قلنا : إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا وحينئذ لو كان المدبر لها قوة طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرىّ الشكل فكان يلزم أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن لذلك علمنا أن المقتضي هو الفاعل المختار أيضا جل شأنه وأيضا أن النطفة رطبة سريعة الاستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة القلب يمكن حصوله في الفوق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب المعين دائما مع إمكان غيره علمنا أن حدوثه على ذلك الترتيب ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
ولا يصح أن يقال : إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك في موضعه. وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجئ إلى

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 341
الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة اللّه تعالى وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والاطلاع على كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والاختيار ، والثاني قيل : أنسب بمقام تعداد هنات الكفرة فإنه قد اشتمل من بيان جراءة من كفر على اللّه تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه في الكفر.
وذكر بعضهم أنه يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة يس بعد ما ذكر مثله : قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فإنه نص فيما ذكر فيكون صدر الآية للاستدلال وعجزها لتقرير الوقاحة ، وتعقب بأنه ليس بشيء لأن مدار ما قبلها في تلك السورة على ذكر الحشر والنشر ومكابرتهم فيه بخلاف هذه ولكل مقام مقال ، وأما كون الآية مسوقة لتقرير وقاحة الإنسان لانتفاء التنافي بين الاستدلال على الوحدانية والقدرة وتقرير وقاحة المنكرين ولذا جعل التتميم لما قبله تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فعدم المنافي لا يقتضي وجود المناسب ، وعندي لكل وجهة.
وفي الكشف المعنيان ملائمان للمقام إلا أن في الثاني زيادة ملائمة مع قوله : تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم إنه أدمج فيه المعنى الأول ، وروى الواحدي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بعظم رميم وقال : يا محمد أترى أن اللّه تعالى يحيي هذا بعد ما قد رم فنزلت نظير ما في آخر يس ،
والمشهور أن تلك هي النازلة في تلك القصة ، ثم وجه التعقيب وإذا الفجائية في قوله سبحانه : فَإِذا هُوَ إلى آخره مع أن كونه خصيما مبينا بأي معنى أريد لم يعقب خلقه من نطفة إذ بينهما وسائط أنه بيان لأطواره إلى كمال عقله فالتعقيب باعتبار آخرها فلا وجه لتقدير الوسائط ولا للقول بأنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه فافهم. وَالْأَنْعامَ وهي الأزواج الثمانية من الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز ، قال الراغب : ولا يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل ، وخصها بعضهم هنا بذلك وليس بشيء ، والنصب على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله تعالى : خَلَقَها وهو أرجح من الرفع في مثل هذا الموضع لتقدم الفعلية وقرئ به في الشواذ أو على العطف على الإنسان وما بعد بيان ما خلق لأجله والذي بعده تفصيل لذلك ، وقوله سبحانه :
لَكُمْ إما متعلق - بخلقها - وقوله تعالى : فِيها خبر مقدم وقوله جل وعلا : دِفْءٌ مبتدأ مؤخر والجملة حال من المفعول أو الجار والمجرور الأول خبر للمبتدأ المذكور والثاني متعلق بما فيه من معنى الاستقرار ، وقيل : حال من الضمير المستكن فيه العائد على المبتدأ ، وقيل : حال من «دف ء» إذ لو تأخر لكان صفة ، وجوز أبو البقاء أن يكون الثاني هو الخبر والأول في موضع الحال من مبتدئه ، وتعقبه أبو حيان بأن هذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى لا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها فلا يجوز قائما في الدار زيد فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف وإن توسطت فالأخفش على الجواز والجمهور على المنع ، وجوز أبو البقاء أيضا أن يرتفع دِفْ ءٌ - بلكم - أو - بفيها - والجملة كلها حال من الضمير المنصوب ، وتعقبه أبو حيان أيضا بأن ذلك لا يعد من قبيل الجملة بل هو من قبيل المفرد ، ونقل أنهم جوزوا أن يكون لَكُمْ متعلقا - بخلقها - وجملة فيها دِفْءٌ استئناف لذكر منافع الانعام ، واستظهر كون جملة لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مستأنفة ، ثم قال : ويؤيد الاستئناف فيها الاستئناف في مقابلتها أعني قوله تعالى : وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فقابل سبحانه المنفعة الضرورية بالمنفعة الغير الضرورية ، وإلى نحو ذلك ذهب القطب فاختار أن الكلام قد تم عند خَلَقَها لهذا العطف وخالفه في ذلك صاحب الكشف فقال : إن قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 342
خَلَقَها لَكُمْ بناء على تفسير الزمخشري له بقوله : ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان طرف من ترشيح المعنى الثاني في قوله سبحانه : فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ لما في الالتفات المشار إليه من الدلالة عليه ، وأما الحصر المشار إليه بقوله : ما خلقها إلا لكم فمن اللام المفيدة للاختصاص سيما وقد نوع الخطاب بما يفيد زيادة التمييز والاختصاص ، وهذا أولى من جعل لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مقابل لَكُمْ فِيها جَمالٌ لإفادته المعنى الثاني وأبلغ على أنه يكون فِيها دِفْءٌ تفصيلا للأول وكرر لَكُمْ في الثاني لبعد العهد وزيادة التقريع اه ، والحق في دعوى أولوية تعلق لَكُمْ بما قبله معه كما لا يخفى ، والدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن ، وتقول العرب : دفئ يومنا فهو دفيء إذا حصلت فيه سخونة ودفئ الرجل دفاء ودفاء بالفتح والكسر ورجل دفآن وامرأة دفأى ويجمع الدفء على ادفاء ، والمراد به ما يعم اللباس والبيت الذي يتخذ من أوبارها وأصوافها ، وفسره ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره بالثياب.
وأخرج عبد الرزاق وغيره عنه رضي اللّه تعالى عنه أيضا أنه نسل كل دابة ، ونقله الأموي عن لغة بعض العرب والظاهر هو الأول. وقرأ الزهري وأبو جعفر «دفّ» بضم الفاء وشدها وتنوينها ، ووجه ذلك في البحر بأنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء وحذفت ثم شدد الفاء إجراء للوصول مجرى الوقف إذ يجوز تشديدها في الوقف.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «دف» بنقل الحركة والحذف دون تشديد ، وفي اللوامح قرأ الزهري «دف» بضم الفاء من غير همزة وهي محركة بحركتها ، ومنهم من يعوض عن هذه الهمزة فيشدد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا. واعترض بأن التشديد وقفا لغة مستقلة وإن لم يكن ثمة حذف من الكلمة الموقوف عليها ودفع بأنه إنما يكون ذلك إذا وقف على آخر حرف منها أما إذا وقف على ما قبل الآخر منها كقاض فلا.
وَمَنافِعُ هي درها وركوبها والحراثة بها والنضح عليها وغير ذلك ، وإنما عبر عنها بها ليشمل الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم ، وقدم الدفء رعاية لأسلوب الترقي إلى الأعلى وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم ونحو ذلك - فمن - تبعيضية ، والأكل إما على معناه المتبادر وإما بمعنى التناول الشامل للشرب فيدخل في العد الألبان ، وجوز أن تكون من ابتدائية وأن تكون للتبعيض مجازا أو سببية أي تأكلون ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب باكتراء الإبل مثلا وأثمان نتاجها وألبانها وجلودها والأول أظهر وأدخل ما يحصل من اكترائها من الإجارة التي يتوصل بها إلى مصالح كثيرة في المنافع ، وتغيير النظم الجليل قيل للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحق فإن الدفء والمنافع التي أشرنا إليها والجمال يحصل منها وهي باقية على حالها ولذلك جعلت محال لها بخلاف الأكل ، وتقديم الظرف للحصر على معنى أن الأكل منها هو المعتاد المعتمد في المعاش من بين سائر الحيوانات فلا يرد الأكل من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فإنه من قبيل التفكه ، وكذا لا يرد أكل لحم الخيل عند من أباحه لأنه ليس من المعتاد المعتمد أيضا ، والحاصل أن الحصر إضافي وبذلك لا يرد أيضا أكل الخبز والبقول ونحوها ، ويضم إلى هذا الوجه في التقديم رعاية الفواصل ، وجعله لمجرد ذلك كما في الكشف قصور ، وأبو حيان ينكر كون التقديم مطلقا للحصر فينحصر وجهه هنا حينئذ في الرعاية المذكورة.
وَلَكُمْ فِيها مع ما ذكر من المنافع الضرورية جَمالٌ زينة في أعين الناس وعظمة ووجاهة عندهم ، والمشهور إطلاقه على الحسن الكثير ، ويكون في الصورة بحسن التركيب وتناسق الأعضاء وتناسبها ، وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة وفي الأفعال بكونها ملائمة للمصلحة من درء المضرة وجلب المنفعة وهو في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 343
الأصل مصدر - جمل - بضم الميم ويقال للرجل جميل وجمال وجمال على التكثير وللمرأة جميلة وجملاء عند الكسائي وأنشد :
فهي جملاء كبدر طالع بذت الخلق جميعا بالجمال
ورأى بعضهم إطلاقه على التجمل فظن أنه مصدر بإسقاط الزوائد حِينَ تُرِيحُونَ أي تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها يقال : أراح الماشية إذا ردها إلى المراح وقتئذ وَحِينَ تَسْرَحُونَ تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها يقال : سرحها يسرحها سرحا وسروحا وسرحت هي يتعدى ولا يتعدى ، والفعل الأول وكذا الثاني متعد والمفعول محذوف لرعاية الفواصل ، وتعيين الوقتين لأن ما يدور عليه أمر الجمال من تزين الأفنية وتجاوب ثغائها ورغائها إنما هو عند الذهاب والمجيء في ذينك الوقتين ، وأما عند كونها في المسارح فتنقطع إضافتها الحسية إلى أربابها ، وعند كونها في الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظر.
وتقديم الإراحة على السرح مع أنها متأخرة في الوجود عنه لكونها أظهر منه في استتباع ما ذكر من الجمال وأتم في استجلاب الانس والبهجة إذ فيها حضور بعد غيبة وإقبال بعد ادبار على أحسن ما يكون ملأى البطون حافلة الضروع. وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري «حينا» فيهما بالتنوين وفك الإضافة على أن كلتا الجملتين صفة لحينا قبلها والعائد محذوف كما في قوله تعالى : وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ [البقرة : 48 ، 123] أي حينا تريحون فيه وحينا تسرحون فيه ، والعامل في حِينَ إما المبتدأ لأنه بمعنى التجمل كما قيل وإما خبره لما فيه من معنى الاستقرار.
وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لجمال وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ أي أحمالكم الثقيلة جمع ثقل ، وقيل أجسامكم كما قيل في قوله تعالى : وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة : 2] حيث فسرت الأثقال فيه بأجسام بني آدم.
إِلى بَلَدٍ روي عن ابن عباس أنه اليمن والشام ومصر وكأنه نظر إلى أنها متاجر أهل مكة كما يؤذن به ما في تفسير الخازن عنه رضي اللّه تعالى عنه من أنه قال : يريد من مكة إلى اليمن وإلى الشام ، وفي رواية أخرى عنه وعن الربيع بن أنس وعكرمة أنه مكة وكأنهم نظروا إلى أن أثقالهم وأحمالهم عند القفول من متاجرهم أكثر وحاجتهم إلى الحمولة أمس ، والظاهر أنه عام لكل بلد سحيق وإلى ذلك ذهب أبو حيان ، وجعل ما ورد من التعيين كالمذكور وكالذي نقله عن بعضهم من أنها مدينة الرسول صلى اللّه عليه وسلم محمولا على التمثيل لا على أن المراد ذلك المعين دون غيره لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأقفال فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم لو لم تكن الأنعام ولم تخلق إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أي مشقتها وتعبها ، وقيل : المعنى لم تكونوا بالغيه بها إلا بما ذكر وحذف بها لأن المسافر لا بدله من الأثقال ، والمراد التنبيه على بعد البلد وأنه مع الاستعانة بها بحمل الأثقال لا تصلون إليه إلا بالمشقة ، ولا يخفى أن الأول أبلغ. وقرأ مجاهد والأعرج وأبو جعفر وعمرو بن معين وابن أرقم «بشق» بفتح الشين وروي ذلك عن نافع وأبي عمرو وكلا ذلك لغة ، والمعنى ما تقدم ، وقيل : الشق بالفتح المصدر وبالكسر الاسم يعني المشقة وعلى الكسر بهذا المعنى جاء قوله :
وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب من شقها ودؤوب
فإنه أراد من مشقتها ، وعن الفراء أن المفتوح مصدر من شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع والمكسور النصف يقال : أخذت شق الشاة أي نصفها ، وجاء «اتقوا النار ولو بشق تمرة»
والمعنى إلا بذهاب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 344
نصف الأنفس كأن الأنفس تذوب تعبا ونصبا لما ينالها من المشقة كما يقال لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك أو قطعة من كبدك وهو من المجاز ، وجوز بعضهم أن يكون على تقدير مضاف أي إلا بشق قوى الأنفس ، والاستثناء مفرغ أي لم تكونوا بالِغِيهِ بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس ، وجعل أبو البقاء الجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي مشقوقا عليكم وضمير تَحْمِلُ للأنعام إلا أن الحمل المذكور باعتبار بعض أنواعها وهي الإبل ومثله كثير ، ومن هنا يظهر ضعف استدلال بعضهم بهذا الاسناد على أن المراد بالأنعام فيما مر الإبل فقط ، وتغيير النظم الكريم السابق الدال على كون الانعام مدارا للنعم إلى الفعلية المفيدة للحدوث قيل لعله للإشعار بأن هذه النعمة ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي الشمول للأوقات والاطراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعم السالفة فإنها بحسب المنشأ خاصة كما سمعت بالإبل وبحسب المتعلق بالمتقلبين في الأرض للتجارة وغيرها في أحايين غير مطردة ، وأما سائر النعم المعدودة فموجودة في جميع الأصناف وعامة لكافة المخاطبين دائما وفي عامة الأوقات اه. واحتج كما قال الإمام منكر وكرامات الأولياء بهذه الآية لأنها تدل على أن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى آخر إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الجمال. ومثبتو الكرامات يقولون : إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى آخر بعيد في زمان قليل من غير تعب وتحمل مشقة فكان ذلك على خلاف الآية فيكون باطلا وإذا بطلت في هذه الصورة بطلت في الجميع إذ لا قائل بالفرق.
وأجاب بأنا نخصص عموم الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات اه. ولعل القائلين بعدم ثبوت طي المسافة للأولياء يستندون إلى هذه الآية لكن هؤلاء لا ينفون الكرامات مطلقا فلا يصح قوله إذ لا قائل بالفرق ، ومن أنصف علم أن الاستدلال بها على هذا المطلب مما لا يكاد يلتفت إليه بناء على أنها مسوقة للامتنان ويكفي فيه وجود هذا في أكثر الأحايين لأكثر الناس فافهم إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ولذلك أسبغ عليكم النعم الجليلة ويسر لكم الأمور الشاقة العسيرة وَالْخَيْلَ هو كما قال غير واحد اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل ، وذكر الراغب أنه في الأصل يطل على الأفراس والفرسان ، وهو عطف على الأنعام أي وخلق الخيل وَالْبِغالَ جمع بغل معروف وَالْحَمِيرَ جمع حمار كذلك ويجمع في القلة على أحمرة وفي الكثرة على حمر وهو القياس ، وقرأ ابن أبي عبلة برفع «الخيل» وما عطف عليه لِتَرْكَبُوها تعليل لخلق المذكورات ، والكلام في تعليل أفعال اللّه تعالى مبسوط في الكلام وَزِينَةً عطف على محل لِتَرْكَبُوها فهو مثله مفعول لأجله وتجريده عن اللام دونه لأن الزينة فعل الزائن وهو الخالق تعالى ففاعل الفعلين المعلل والمعلل به واحد بخلاف فاعل الركوب وفاعل المعلل به فشرط النصب الذي اشترطه من اشتراطه موجود في المعطوف دون المعطوف عليه قاله غير واحد ، وذكر بعض المدققين أن في عدم مجيئها على سنن واحد دلالة على أن المقصود الأصلي الأول فجيء بالحروف الموضوعة لذلك وسيق لخطاب وأعيد الضمير للثلاثة في لِتَرْكَبُوها وجيء بالثاني تتميما ودلالة على أنه لما كان من مقاصدهم عد في معرض الامتنان وإلا فليس التزين بالعرض الزائل مما يقصده أهل اللّه تعالى وهم أهل الخطاب بالقصد الأول واعترض ما تقدم بأنه وإن ثبت اتحاد الفاعل لكن لم تتم به شروط صحة النصب لفقد شرط آخر منها وهو المقارنة في الوجود فإن الخلق متقدم على
الزينة. وأجيب بأن ذلك على إرادة إرادة الزينة كما قيل في ضربت زيدا تأديبا أن التأديب بتأويل إرادته ، وجوز أبو البقاء كون زِينَةً مصدرا لفعل محذوف أي ولتتزينوا بها زينة ، وقال ابن عطية إنه مفعول به لفعل محذوف أي وجعلها زينة ، وروى قتادة عن ابن عباس أنه قرأ «لتركبوها زينة» بغير واو ، قال صاحب اللوامح إن زِينَةً حينئذ نصب على الحال من الضمير في خَلَقَها أو من الضمير في لِتَرْكَبُوها ولم يعين الضمير وعينه ابن عطية فقال هو

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 345
المنصوب ، وقال غير واحد تجوز الحالية من كل من الضميرين أي لتركبوها متزينين أو متزينا بها ، وقال الزمخشري بعد حكاية القراءة : أي خلقها زينة لتركبوها ، ومراده على ما قيل أن الزينة إما ثاني مفعولي - خلق - على إجرائه مجرى جعل أو هو حال عن المفعولات الثلاثة على الجمع ، وجوز كونه مفعولا له لِتَرْكَبُوها وهو بمعنى التزين فلا يرد عليه اختلاف فاعل الفعلين قيل : وأما لزوم تخصيص الركوب المطلوب بكونه لأجل الزينة وكون الحكمة في خلقها ذلك وكون ذلك هو المقصود الأصلي لنا فلا ضير فيه لأن التجمل بالملابس والمراكب لا مانع منه شرعا وهو لا ينافي أن يكون لخلقها حكم أهم كالجهاد عليها وسفر الطاعات ، وإنما خص لمناسبته لمقام الامتنان مع أن الزينة على ما قال الراغب ما لا يشين في الدنيا ولا في الآخرة ، وأما ما يزين في حالة دون أخرى فهو من وجه شين اه فتأمل ولا تغفل.
واستدل بالآية على حرمة أكل لحوم المذكورات لأن السوق في معرض الاستدلال بخلق هذه النعم منة على هذا النوع دلالة على التوحيد وسوء صنيع من يقابلها بالإشراك والحكيم لا يمن بأدنى النعمتين تاركا أعلاهما ، كيف وقد ذكر أماما.
وروى ابن جرير وغيره القول بكراهة أكل لحوم الخيل لهذه الآية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وروي عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنه قال : رخص بعض العلماء في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله ، وفي رواية أخرى أنه قال أكرهه والأولى تلوح إلى قوله بكراهة التنزيه والثانية تدل على التحريم بناء على ما روي عن أبي يوسف أنه سأله إذا قلت : في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ فقال : التحريم ، وكأنه لهذا قال صاحب الهداية الأصح أن كراهة أكل لحمها تحريمية عند الإمام ، وفي العمادية أنه رضي اللّه تعالى عنه رجع عن القول بالكراهة قبل موته بثلاثة أيام وعليه الفتوى ، وقال صاحباه والإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنهم : لا بأس بأكل لحوم الخيل. وأجاب بعض الشافعية عن الاستدلال بالآية بمنع كون المذكور أدنى النعمتين بالنسبة إلى الخيل قال : ذلك لأن الآية وردت للامتنان عليهم على نحو ما ألفوه ، ولا ينكر ذو أرب أن معظم الغرض من الخيل الركوب والزينة لا الأكل بخلاف النعم ، وذكر أغلب المنفعتين وترك أدناهما ليس بدعا بل هو دأب اختصارات القرآن وذكره في الأول إن لم يصر حجة لنا في الاكتفاء مع التنبيه على أنه نزر في المقابل فلا يصير حجة علينا ، فظهر أنه لا استدلال لا من عبارة الآية ولا من إشارتها.
واستدلوا على الحل بما
صح من حديث جابر أنه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية والبغال وأذن عليه الصلاة والسلام في لحم الخيل يوم خيبر ،
وفيه دليل عندهم على أن الآية لا تدل على التحريم لإفادته أن تحريم لحوم الحمر الأهلية إنما وقع عام خيبر كما هو الثابت عند أكثر المحدثين وهذه السورة مكية فلو علم التحريم مما فيها كان ثابتا قبله ، وبحث فيه بأن السورة وإن كانت مكية يجوز كون هذه الآية مدنية ، وفيه أن مثل ذلك يحتاج إلى الرواية ومجرد الجواز لا يكفي ، وعورض
حديث جابر بما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي وابن المنذر عن خالد بن الوليد قال : «نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحمير»
والترجيح كما قال في الهداية للمحرم ، لكن أنت تعلم أن هذا الخبر يوهي أمر الاستدلال لما أن خالدا قد أسلم بالمدينة والآية مكية فلو كان التحريم معلوما منها لما كان للنهي الذي سمعه كثير فائدة ، والجملة الاستدلال بالآية على حرمة لحوم الخيل لا يسلم من العثار فلا بد من الرجوع في ذلك إلى الأخبار. والحكم عند تعارضها لا يخفى على ذوي الاستبصار ، والذي أميل إليه الحل واللّه تعالى أعلم وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي ويخلق غير ذلك الذي فصله سبحانه لكم ، والتعبير عنه بما ذكر لأن مجموعه غير معلوم ولا يكاد يكون معلوما فالكلام إجمالا لما عدا الحيوانات المحتاج غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري ، والعدول إلى صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار والتجدد أو لاستحضار الصورة ، ويجوز أن يكون

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 346
إخبارا منه تعالى بأن له سبحانه ما لا علم لنا به من الخلائق ف ما لا تَعْلَمُونَ على ظاهره
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن مما خلق اللّه تعالى لأرضا لؤلؤة بيضاء مسيرة ألف عام عليها جبل من ياقوتة حمراء محدق بها في تلك الأرض ملك قد ملأ شرقها وغربها له ستمائة رأس في كل رأس ستمائة وجه في كل وجه ستمائة ألف وستون ألف فم في كل فم ستون ألف لسان يثني على اللّه تعالى ويقدسه ويهلله ويكبره بكل لسان ستمائة ألف وستين ألف مرة فإذا كان يوم القيامة نظر إلى عظمة اللّه تعالى فيقول : وعزتك ما عبدتك حق عبادتك فذلك قوله تعالى : وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وفي رواية أخرى عنه أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد جمالا إلى جماله وعظما إلى عظمه ثم ينتفض فيخلق اللّه تعالى من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك فدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إلى يوم القيامة.
وروي هذا أيضا عن الضحاك ومقاتل وعطاء ،
ومما لا نعلمه أرض السمسمة التي ذكر عنها الشيخ الأكبر قدس سره ما ذكر ، وجابرصا وجابلقا حسبما ذكر غير واحد ، وإن زعمت ذلك من الخرافات كالذي ذكره عصرينا رئيس الطائفة الذين سموا أنفسهم بالكشفية ودعاهم أعداؤهم من الإمامية بالكشفية في غالب كتبه مما تضحك منه لعمر أبيك الثكلى ويتمنى العالم عند سماعه لمزيد حيائه من الجهلة نزوله إلى الأرض السفلى فاقنع بما جاء في الآثار ، ولا يثنينك عنه شبه الفلاسفة إذا صح سنده فإنها كسراب بقيعة ، والذي أظنه أنه ليس أحد من الكفار فضلا عن المؤمنين يشك في أن للّه تعالى خلقا لا نعلمهم ليحتاج إلى إيراد الشواهد على ذلك ، ويجوز أن يكون المراد بهذا الخلق الخلق في الجنة أي ويخلق في الجنة غير ما ذكر من النعم الدنيوية ما لا تعلمون أي ما ليس من شأنكم أن تعلموه ، وهو ما أشير إليه
بقوله صلى اللّه عليه وسلم حكاية عن اللّه تعالى : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ القصد مصدر بمعنى الفاعل ، يقال : سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك ولا يعدل عنه ، فهو نحو نهر جار وطريق سائر وعَلَى للوجوب مجازا والكلام على حذف مضاف أي متحتم عليه تعالى متعين كالأمر الواجب لسبق الوعد بيان ، وقيل : هداية الطريق المستقيم الموصل لمن سلكه إلى الحق هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه ، أو هو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل وعَلَى على حالها المار إلا أنه لا حاجة إلى تقدير المضاف أي عليه سبحانه تقويم السبيل وتعديلها أي جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق على حد صغر البعوضة وكبر الفيل وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب.
وجوز أن يكون القصد بمعنى القاصد أي المستقيم كما في التفسير الأول وعَلَى ليست للوجوب واللزوم والمعنى أن قصد للسبيل ومستقيمه موصل إليه تعالى ومار عليه سبحانه ، وفيه تشبيه ما يدل على اللّه عز وجل بطريق مستقيم شأنه ذلك ، وقد ذكر نحو هذا ابن عطية وهو كما ترى ، وأل في السبيل للجنس عند كثير فهو شامل للمستقيم وغير ، وإضافة القصد بمعنى المستقيم إليه من إضافة العام إلى الخاص ، وإضافة الصفة إلى الموصوف خلاف الظاهر على ما قيل وقيل : أل للعهد. والمراد سبيل الشرع وقوله تعالى : وَمِنْها جائِرٌ أي عادل عن المحجة منحرف عن الحق لا يوصل سالكه إليه ظاهر في إرادة الجنس إذ البعضية إنما تتأتى على ذلك ، فإن الجائر على إرادة العهد ليس من

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 347
ذلك بل قسيمه ، ومن أراده أعاد الضمير على المطلق الذي في ضمن ذلك المقيد أو على المذكور بتقدير مضاف أي ومن جنسها جائر ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود على سبيل الشرع ، والمراد بهذا البعض فرق الضلالة من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو جائر عن قصد السبيل وزعم بعضهم أن الضمير يعود على الخلائق أي ومن الخلائق جائر عن الحق ، وأيد بقراءة عيسى ، ورويت عن ابن مسعود «ومنكم» وأخرجها ابن الأنباري في المصاحف عن علي كرم اللّه تعالى وجهه لكن بالفاء بدل الواو وليس بذاك ، والتأنيث لأن السبيل تؤنث وتذكر ، والجار والمجرور قيل خبر مقدم وجائِرٌ مبتدأ مؤخر ، وقيل : هو في محل رفع بالابتداء إما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف أي بعض السبيل أو بعض من السبيل جائر ، والجملة على ما اختاره بعض المحققين اعتراضية جيء بها لبيان الحاجة إلى البيان أو التعديل بنصب الأدلة والإرسال والانزال الأمور المذكورة سابقا وإظهار جلالة قدر النعمة في ذلك ، وذلك هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهداية المستلزمة للاهتداء إليه فإن ذلك ليس على اللّه سبحانه أصلا بل هو مخل بحكمته كما يشير إليه قوله تعالى : وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فإن معناه ولو شاء هدايتكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية مستلزمة للاهتداء إليه لفعل ولكن لم يشأ لأن مشيئته تابعة للحكمة ولا حكمة في تلك المشيئة لما أن الذي يدور عليه فلك التكليف إنما هو الاختيار الذي عليه ترتب الأعمال التي بها يرتبط الجزاء ، وقيد أَجْمَعِينَ للمنفي لا للنفي فيكون المراد سلب العموم لا عموم السلب ، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر أن يقال : وعلى اللّه قصد السبيل وجائرها أو وعليه جائرها إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأن الضلال لا يضاف إليه تعالى تأدبا فهو كقوله تعالى : الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة : 7].
وزعم الزمخشري أن المخالفة بين أسلوبي الجملتين للإيذان بما يجوز إضافته من السبيلين إليه تعالى وما لا يجوز وعنى الإشارة إلى ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من عدم جواز إضافة الضلال إليه سبحانه لأنه غير خالقه وجعلوا الآية للمخالفة حجة لهم في هذه المخالفة. وأجاب بعض الجماعة بأن المراد على اللّه تعالى بحسب الفضل والكرم بيان الدين الحق والمذهب الصحيح فأما بيان كيفية الإغواء والإضلال فليس عليه سبحانه ، وبحث فيه بأنه كما أن بيان الهداية وطريقها متحتم فكذا ضده وليس إرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب إلا لذلك.
وقال ابن المنير : إن المخالفة بين الأسلوبين لأن سياق الكلام لإقامة الحجة على الخلق بأنه تعالى بين السبيل القاصد والجائر وهدى قوما اختاروا الهدى وأضل آخرين اختاروا الضلالة ، وقد حقق أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران هو من حيث كونه موجودا مخلوق للّه تعالى ومضاف إليه سبحانه بهذا الاعتبار ، وهو من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وتيسره عليه يضاف إلى العبد وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى اللّه تعالى باعتبار خلقه لها وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له. والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر ليناسب ذلك إقامة الحجة ألا للّه الحجة البالغة ، وأنكر بعض المحققين أن يكون هناك تغيير الأسلوب لأمر مطلوب بناء على أن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك لنكتة أهم منه ، وليس المراد من بيان قصد السبيل مجرد إعلام أنه مستقيم حتى يصح إسناد أنه جائر إليه تعالى فيحتاج إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة ، وقد بين ذلك في مواضع غير معدودة بل المراد نصب الأدلة للهداية إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال : وجائرها حتى يصرف ذلك الإسناد منه تعالى إلى غيره سبحانه لنكتة ولا يتوهمه متوهم حتى يقتضي الحال دفع ذلك بأن يقال لا جائرها ثم يغير سبك النظم عنه لداعية أقوى منه ، وذكر أن الجملة اعتراضية حسبما نقلناه سابقا ، وهو

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 348
كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ، بيد أن لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يراد ببيان السبيل المستقيم وببيان السبيل الجائر نصب الأدلة الدالة على حقية الأول ليهتدي إليه وبطلان الثاني ليحذر ولا يعول عليه وهذا غير مجرد الإعلام الذي ذكره ونسبته إليه تعالى ممكنة بل قال بعضهم : إن الحق أن المعنى على اللّه تعالى بيان طريق الهداية ليهتدوا إليه وبيان غيرها ليحذروه لكن اكتفى بأحدهما للزوم الآخر له.
وفي الكشف أن تغاير الأسلوبين على أصل أهل السنة واضح أيضا إذ لا منكر أن الأول هو المقصود لذاته فبيان طريق الضلالة إجمالا قدر ما يمتاز قصد السبيل منه في ضمن بيان قصد السبيل ضرورة وبيانه التفصيلي ليس مما لا بد من وقوعه ولا أن الوعد جرى به على مذهب اه فليتأمل ، ثم إن الآية منادية على خلاف ما زعمه المعتزلة ومنهم الزجاج «1» من عدم استلزام تعلق مشيئته تعالى بشيء وجوده وقد التجئوا إلى التزام تفسيرها بالقسرية ، وقال أبو علي منهم : المعنى لو شاء لهداكم إلى الثواب أو إلى الجنة بغير استحقاق وكل ذلك خلاف الظاهر كما لا يخفى.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً شروع في نوع آخر من النعم الدالة على توحيده سبحانه ، والمراد من الماء نوع منه وهو المطر ، ومن السماء إما السحاب على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل ، وإما الجرم المعروف والكلام على حذف مضاف أي من جانب السماء أو جهتها وحملها على ذلك بدون هذا يقتضيه ظاهر بعض الأخبار ولا أقول به ، ومِنَ على كل تقدير ابتدائية وهو متعلق بما عنده ، وتأخير المفعول الصريح عنه ليظمأ الذهن إليه فيتمكن أتم تمكن عند وروده عليه ، وقوله تعالى : لَكُمْ يحتمل أن يكون خبرا مقدما ، وقوله سبحانه : مِنْهُ في موضع الحال من قوله عز وجل : شَرابٌ أي ما تشربون وهو مبتدأ مؤخر أو هو فاعل بالظرف الأول والجملة صفة لماء ومِنَ تبعيضية وليس في تقديمها إيهام حصر ، ومن توهمه قال : لا بأس به لأن جميع المياه العذبة المشروبة بحسب الأصل منه كما ينبئ عنه قوله تعالى : فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر : 21] وقوله سبحانه : فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون : 18] ويحتمل أن يكون متعلقا بما عنده ومِنْهُ شَرابٌ مبتدأ وخبر أو شراب فاعل بالظرف والجملة ومن كما تقدم.
وتعقب بأن توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثاني منهما بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة النظم الجليل وهو كذلك وَمِنْهُ شَجَرٌ أي نبات مطلقا سواء كان له ساق أم لا كما نقل عن الزجاج وهو حقيقة في الأول ، ومن استعماله في الثاني قول الراجز :
نعلفها اللحم إذا عز الشجر والخيل في إطعامها اللحم ضرر
فإنه قيل : الشجر فيه بمعنى الكلأ لأنه الذي يعلف ، وكذا فسره في النهاية بذلك في
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت»
ولعل ذلك لأنه جاء في الحديث النهي عن منع فضل الماء كمنع فضل الكلأ وتشارك الناس في الماء والكلأ والنار ، وأبقاه بعضهم على حقيقته ولم يجعله مجازا شاملا ، ومِنَ إما للتبعيض مجازا لأن الشجر لما كان حاصلا بسقيه جعل كأنه منه كقوله : أسنمة الإبال في ربابه. يعني به المطر الذي ينبت به ما تأكله الإبل فتسمن أسنمتها ، وإما للابتداء أي وكائن منه شجر ، والأول أولى بالنسبة إلى ما قبله.
وقال أبو البقاء هي سببية أي وبسببه إنبات شجر ، ودل على ذلك يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وجوز ابن الأنباري
___________
(1) فائدة هذا أن ابن عطية لم يعرف ذلك فقال إذ رأى تفسيره المشيئة بمشيئة القسر إن هذا تفسير أهل البدعة وقد وقع فيه من غير قصد اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 349
الوجهين الأولين على ما يقتضيه ظاهر قوله : الكلام على تقدير مضاف إما قبل الضمير أي من جهته أو من سقيه شجر وإما قبل شجر أي ومنه شراب شجر كقوله تعالى : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة : 93] أي حبه اه وهو بعيد وإن قيل : الإضمار أولى من المجاز لا العكس الذي ذهب إليه البعض وصحح المساواة لاحتياج كل منهما إلى قرينة.
فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون يقال : أسام الماشية وسومها جعلها ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت ، وأصل ذلك على ما قال الزجاج السومة وهي كالسمة العلامة لأن المواشي تؤثر علامات في الأرض والأماكن التي ترعاها. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما تُسِيمُونَ بفتح التاء فإن سمع سام متعديا كان هو وأسام بمعنى وإلا فتأويل ذلك أن الكلام على حذف مضاف أي تسيم مواشيكم يُنْبِتُ أي اللّه عز وجل يقال نبت الشيء وأنبته اللّه تعالى فهو منبوت وقياس هذا منبت ، وقيل : يقال أنبت الشجر لازما وأنشد الفراء :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت ، وكان الأصمعي ينكر مجيء أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر «ننبت» بنون العظمة ، والزهري «ينبّت» بالتشديد وهو للتكثير في قول ، واستظهر أبو حيان أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبي «ينبت» بفتح الياء ورفع المتعاطفات بعد على الفاعلية ، وجملة ينبت لَكُمْ بِهِ أي بما أنزل من السماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ يحتمل أن تكون صفة أخرى - لماء - وأن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : وهل له منافع أخر؟ فقيل : ينبت لكم به إلخ ، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار وأن الإنبات سنته سبحانه الجارية على ممر الدهور أو لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة ، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما أشرنا إليه آنفا مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرة ابتداء ، وتقديم الزرع على ما عداه قيل : لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وقوت أكثر العالم وفيه مناسبة للكلأ المرعى ، ثم الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه ادام من وجه وفاكهة من وجه ، وقد ذكر الأطباء له منافع جمة ، وذكر غير يسير منها في التذكرة ، والظاهر من كلام اللغويين أنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة وأنه يطلق على الشجر المخصوص وعلى ثمرته.
واستظهر أن المراد به هنا الأول وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في ذلك ، وأكثر ما ينبت في المواضع التي زاد عرضها على الميل واشتد بردها وكانت جبلية ذات تربة بيضاء أو حمراء ، ثم النخيل على الأعناب لظهور دوامها بالنسبة إليها فإن الواحدة منها كثيرا ما تتجاوز مائة سنة وشجرة العنب ليست كذلك ، نعم الزيتونة أكثر دواما منهما فإن الشجرة منه قد تدوم ألف سنة مع أن ثمرتها كثيرا ما يقتات بها حتى جاء
في الخبر «ما جاع بيت وفيه تمر»
وأكثر ما تنبت في البلاد الحارة اليابسة التي يغلب عليها الرمل كالمدينة المشرفة والعراق وأطراف مصر ، وهي على ما قال الراغب جمع نخل وهو يطلق على الواحد والجمع ويقال للواحدة نخلة ، وأما الأعناب فجمع عنبة بكسر العين وفتح النون والباء وقد جاءت ألفاظ مفردة على هذا الوزن غير قليلة.
وقد ذكر في القاموس عدة منها ، ونسب الجوهري إلى قلة الاطلاع في قوله : إن هذا البناء في الواحد نادر وجاء منه العنبة والتولة والحبرة والطيبة والخيرة ولا أعرف غير ذلك وذكر الجوهري أنه إن أردت جمعه في أدنى العدد جمعته بالتاء وقلت عنبات وفي الكثير عنب وأعناب اه ، ولينظر هذا مع عدهم أفعالا من جموع القلة ، ويطلق العنب كما قال الراغب على ثمرة الكرم وعلى الكرم نفسه ، والظاهر أن المراد هو الثاني.
وذكر أبو حيان في وجه تأخير الأعناب أن ثمرتها فاكهة محضة ، وفيه أنه إن أراد بثمرتها العنب ما دام طريا قبل أن يقترب فيمكن أن يسلم وإن أراد به المتزبب فغير مسلم ، وفي كلام كثير من الفقهاء في بحث زكاة الفطر أن في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 350
الزبيب اقتياتا بل ظاهر كلامهم أنه في ذلك بعد التمر وقبل الأرز ، والباحث في هذا لا ينفي الاقتيات كما لا يخفى على الواقف على البحث ، وفي جمع النَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ إشارة إلى أن ثمارها مختلفة الأصناف ففي التذكرة عند ذكر التمر أنه مختلف كثير الأنواع كالعنب حتى سمعت أنه يزيد على خمسين صنفا ، وعند ذكر العنب أنه يختلف بحسب الكبر والاستطالة وغلظ القشر وعدم العجم وكثرة الشحم واللون والطعم وغير ذلك إلى أنواع كثيرة كالتمر اه ، وأنا قد سمعت من والدي عليه الرحمة أنه سمع في مصر حين جاءها بعد عوده من الحج لزيارة أخيه المهاجر إليها لطلب العلم أن في نواحيها من أصناف التمر ما يقرب من ثلاثمائة صنف والعهدة على من سمع منه هذا ، وللعلامة أبي السعود هنا ما يشعر ظاهره بالغفلة وسبحان من لا يغفل وكان الظاهر تقديم غذاء الإنسان لشرفه على غذاء ما يسام لكن قدم ذاك - على ما قال الإمام - للتنبيه على مكارم الأخلاق وأن يكون اهتمام الإنسان بمن تحت يده أقوى من اهتمامه بنفسه ، والعكس في قوله تعالى : كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه : 54] للإيذان بأن ذلك ليس بلازم وإن كان من الأخلاق الحميدة ، وهو على طبق ما ورد في الخبر «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وقيل : لأن ذلك مما لا دخل للخلائق فيه ببذر وغرس فالامتنان به أقوى ، وقيل : لأن أكثر المخاطبين من أصحاب المواشي وليس لهم زرع ولا شيء مما ذكر ، وقال شهاب الدين في وجه ذلك. ولك أن تقول لما سبق ذكر الحيوانات المأكولة والمركوبة ناسب تعقيبها بذكر مشربها ومأكلها لأنه أقوى في الامتنان بها إذ خلقها ومعاشها لأجلهم فإن من وهب دابة مع علفها كان أحسن ، كما قيل : من الظرف هبة الهدية مع الظرف اه ولا يخلو عن حسن.
والأولى عليه أن يراد من قوله تعالى : لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ما يشرب ، وأما ما قيل : إن ما قدم من الغذاء للإنسان أيضا لكن بواسطة فإنه غذاء لغذائه الحيواني فلا يدفع السؤال لأنه يقال بعد : كان ينبغي تقديم ما كان غذاء له بغير واسطة ، لا يقال : هذا السؤال إنما يحسن إذا كان المراد من المتعاطفات المذكورات ثمراتها لا ما يحصل منها الثمرات لأن ذلك ليس غذاء الإنسان لأنا نقول : ليس المقصود من ذكرها إلا الامتنان بثمراتها إلا أنها ذكرت على نمط سابقها المذكور في غذاء الماشية ويرشد إلى أن الامتنان بثمراتها قوله سبحانه : وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وإرادة الثمرات منها من أول الأمر بارتكاب نوع من المجاز في بعضها لهذا إهمال لرعاية غير أمر يحسن له حملها على ما قلنا دون ذلك ، منه يُنْبِتُ إذ ظاهره يقتضي التعلق بنفس الشجرة لا بثمرتها فليعمل بما يقتضيه في صدر الكلام وإن اقتضى آخره اعتبار نحو ما قيل في : غلفتها تبنا وماء باردا.
كذا قيل وفيه تأمل ، ومعنى بعضهم كون الإنبات مما يقتضي التعلق المذكور فقد قال سبحانه : فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس : 27 - 31] وجوز أن لا يكون الملحوظ فيما عد مجرد الغذائية بل ما يعمها وغيرها على معنى ينبت به لنفعكم ما ذكر والنفع يكون بما فيه غذاء وغيره ، ومِنْ للتبعيض والمعنى وينبت لكم بعض كل الثمرات ، وإنما قيل ذلك لما في الكشاف وغيره من أن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة ، وقال بعض الأجلة : المراد بعض مما في بقاع الإمكان من ثمر القدرة الذي لم تجنه راحة الوجود ، وهو أظهر وأشمل وأنسب بما تقدم لأنه سبحانه كما عقب ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل بقوله تعالى : وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ عقب ذكر الثمرات المنتفع بها بمثله إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنزال الماء وإنزال ما فصل لَآيَةً عظيمة دالة على تفرده تعالى بالإلهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في الأرض وربما انبسطت فيها وإن كانت صلبة وينشق أعلاها وإن كانت منتسكسة في الوقوع فيخرج منها ساق فينمو فيخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 351
أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الماء والأرض والهواء وغيرها بالنسبة إلى الكل علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلا عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة أخس الأشياء كالجماد تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، وللّه تعالى در من قال :
تأمل في رياض الورد وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن اللّه ليس له شريك
وحيث كان استدلاله بما ذكر لاشتماله على أمر خفي محتاج إلى التفكر والتدبر لمن له نظر سديد ختم الآية بالتفكر وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان خلفة لمنامكم واستراحتكم وسعيكم في مصالحكم من الإسامة وتعهد حال الزرع ونحو ذلك وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزروع وإنضاج الثمرات وتلوينها وغير ذلك من التأثيرات المترتبة عليهما بإذن اللّه تعالى حسبما يقوله السلف في الأسباب والمسببات ، وليس المراد بتسخير ذلك للمخاطبين تمكينهم من التصرف به كيف شاؤوا كما في قوله تعالى : سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [الزخرف : 13] ونحوه بل تصريفه سبحانه لذلك حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم كأن ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم قاله بعض المحققين.
وقال آخرون : إن أصل التسخير السوق قهرا ولا يصح إرادة ذلك لأن القهر والغلبة مما لا يعقل فيما لا شعور له من الجمادات كالشمس والقمر وعدم تعقله في نحو الليل والنهار أظهر من ذلك فهو هنا مجاز عن الإعداد والتهيئة لما يراد من الانتفاع ، وفي ذلك إيماء إلى ما في المسخر من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين.
وذكر الإمام في المراد من التسخير نحو ما ذكر أولا ثم ذكر وجها آخر قال فيه : إنه لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب الهيئة وهو أنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق فاللّه تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب فكانت هذه الحركة قسرية فلذا ورد فيها لفظ التسخير ، وذكر أيضا أن حدوث الليل والنهار ليس إلا بسبب حركة الفلك الأعظم دون حركة الشمس وأما حركتها فهي سبب لحدوث السنة ولذا لم يكن ذكر الليل والنهار مغنيا عن ذكر الشمس اه ولا يعترض عليه بأن ما ذكره من قوله : إن حدوث الليل والنهار إلى آخره لا يتأتى في عرض تسعين لأن الليل والنهار لا يحصلان إلا بغروب الشمس وطلوعها وهي هناك لا تغرب ولا تطلع بحركة الفلك الأعظم بل بحركتها الخاصة ولذا كانت السنة يوما وليلة لما أن ذلك العرض غير مسكون وكذا ما يقرب منه فلا يدخل في حيز الامتنان. نعم في كلامه عند المتمسكين بأذيال الشريعة غير ذلك فلينظر وفي كون الشمس والقمر مما لا شعور لهما خلاف بين العلماء فذهب البعض إلى أنهما عالمان وهو الذي تقتضيه الظواهر وإليه ذهب الصوفية والفلاسفة ، ولم أشعر بوقوع خلاف في أن الليل والنهار مما لا شعور لهما ، نعم رأيت في البهجة القادرية عن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره العزيز أن الشهر أو الأسبوع يأتيه في صورة شخص فيخبره بما يحدث فيه من الحوادث ، ولعل هذا على نحو ظهور القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب وقوله لمن كان يحفظه :
«أنا الذي أسهرتك في الدياجي وأظمأتك في الهواجر»
وظهور الموت في صورة كبش أملح وذبحه بين الجنة والنار يوم القيامة كما جاء في الخبر ، وعليك بالإيمان بما جاء عن الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وسلم وأنت في الإيمان بغيره بالخيار ، وإيثار صيغة الماضي قيل للدلالة على أن ذلك التسخير أمر واحد

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 352
مستمر وإن تجددت آثاره وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ مبتدأ وخبر أي وسائر النجوم البيانية وغيرها في حركاتها وأوضاعها المتبدلة وغير المتبدلة وسائر أحوالها مسخرات لما خلقت له بخلقه تعالى وتدبيره الجاري على وفق مشيئته فالأمر واحد الأمور ، وجوز أن يكون واحد الأوامر ويراد منه الأمر التكويني عند من لا يقول بإدراك النجوم ، والمعنى أنها مسخرة لما خلقت له بقدرته تعالى وإيجاده ، قيل : وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من الجديدين والنيرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص بل ذكر على وجه يفيد أنها تحت ملكوته عز وجل من غير دلالة على شيء آخر ، ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلا الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار ، وقرأ ابن عامر برفع الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أيضا فيكون المبتدأ الشمس والبواقي معطوفة عليه ومُسَخَّراتٌ خبر عن الجميع ، ولا يتأتى على هذه القراءة ما قيل في وجه عدم نسبة تسخير ذلك إليهم بأداة الاختصاص كما لا يخفى ، واعتبار عدم كون ظهور المنافع بمثابة السابق بالنظر إلى المجموع كما ترى.
ومن الناس من قال في ذلك : إن المراد بتسخير الليل والنهار لهم نفعهم بهما من حيث إنهما وقتا سعى في المصالح واستراحة ومن حيث ظهور ما يترتب عليه منافعهم مما نيط به صلاح المكونات التي من جملتها ما فصل وأجمل مثلا كالشمس والقمر فيهما ، ويؤول ذلك بالآخرة إلى النفع بذلك وهو معنى تسخيره لهم ، فيكون تسخير الليل والنهار لهم متضمنا لتسخير ذلك لهم فحيث أفاده الكلام أولا استغنى عن التصريح به ثانيا وصرح بما هو أعظم شأنا منه وهو أن تلك الأمور لم تزل ولا تزال مقهورة تحت قدرته منقادة لإرادته ومشيئته سواء كنتم أو لم تكونوا فليتدبر ، وقرأ الجمهور والنجوم - و- مسخرات بالنصب فيهما وكذا فيما تقدم ، وخرج ذلك على أن النُّجُومُ مفعول أول لفعل محذوف ينبئ عنه الفعل المذكور ومُسَخَّراتٌ مفعول ثان له ، أي وجعل النجوم مسخرات ، وجوز جعل - جعل - بمعنى خلق المتعدي لمفعول واحد - فمسخرات - حال ، واستظهر أبو حيان كون النُّجُومُ معطوفا على ما قبله بلا إضمار ومُسَخَّراتٌ حينئذ قيل حال من الجميع على أن التسخير مجاز عن النفع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات لما خلقت له مما هو طريق لنفعكم وإلا فالحمل على الظاهر دال على أن التسخير في حال التسخير بأمره ولا كذلك لتأخر الأول ، وقيل : لذلك أيضا : إن المراد مستمرة على السخير بأمره الإيجادي لأن الأحداث لا يدل على الاستمرار ، وجوز بعض أجلة المعاصرين أن يكون حالا موكدة بتقدير بِأَمْرِهِ متعلقا ب يَسْخَرْ والكلام من باب التنازع ، وقبوله مفوض إليك ، وقيل : هو مصدر ميمي كمسرح منصوب على أنه مفعول مطلق - لسخر - المذكور أولا وسخرها مسخرات على منوال ضربته ضربات ، وجمع إشارة إلى اختلاف الأنواع ، وفي إفادة تسخير ما ذكر إيذان بالجواب عما عسى يقال : إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فإن ذلك إن سلم فلا ريب في أنها ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة
فلا بد من موجد ضرورة احتياج الممكن في وجوده إلى مخصص لئلا يلزم من الوقوع على بعض الوجوه مع احتمال غيره ترجيح بلا مرجح مختار لما أن الإيجاب ينافي الترجيح واجب الوجود دفعا للدور أو التسلسل كذا قاله بعض الأجلة ، واعترضه المولى العمادي بأنه مبني على حسبان ما ذكر أدلة الصانع تعالى وقدرته واختياره ، وليس الأمر كذلك فإنه مما لا ينازع فيه الخصم ولا يتلعثم في قبوله قال تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت : 61] وقال سبحانه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت : 63] الآية وإنما ذلك أدلة التوحيد من حيث إن من هذا شأنه لا يتوهم أن يشاركه شيء في شيء فضلا أن يشاركه الجماد في الألوهية اه ، وتعقب بأن كون ما ذكر أدلة التوحيد لا يأبى
أن يكون فيه إيذان بالجواب عما عسى يقال وأي ضرر في أن يساق شيء لأمر ويؤذن بأمر آخر ، ولعمري لا أرى لهذا الاعتراض وجها بعد قول القائل في ذلك إيذان بالجواب عما عسى يقال إلخ حيث لم يبت

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 353
القول وأقحم عسى في البين لكن للقائل كلام يدل دلالة ظاهرة على أنه اعتبر الأدلة المذكورة أدلة على وجود الصانع عز شأنه أيضا وقد سبقه في ذلك الإمام.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي التسخير المتعلق بما ذكر لَآياتٍ باهرة متكاثرة على ما يقتضيه المقام لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد العقل من غير تأمل وتفكر كأنه لمزيد ظهورها مدركة ببداهة العقل بخلاف الآثار السفلية في ذلك كذا قالوا ، وهو ظاهر على تقدير كون الاستدلال على الوحدانية لا على الوجود أيضا ، وأما إذا كان الاستدلال على ذلك ففي دعوى الظهور المذكور بحث لانجرار الكلام على ذلك إلى إبطال التسلسل فكيف تكون الدلالة ظاهرة غير محوجة إلى فكر. وأجيب عنه بأن الاستدلال بالدور أو التسلسل إنما هو بعد التفكر في بدء أمرها وما نشأ منه من اختلاف أحوالها فافهم.
وجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك والمشار إليه نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية الإدراك من أساطين علماء الحكمة وحينئذ قطع الآية بقوله سبحانه هنا : يَعْقِلُونَ للإشارة إلى احتياج ذلك إلى التفكر أكثر من غيره والأول أولى كما لا يخفى وَما ذَرَأَ أي خلق ومنه الذرية على قول والعطف عند بعض على النُّجُومُ رفعا ونصبا على أنه مفعول - لجعل - وما موصولة أي والذي ذرأه لَكُمْ فِي الْأَرْضِ من حيوان ونبات ، وقيل : من المعادن ولا بأس في التعميم فيما أرى حال كونه مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه كما قال جمع من المفسرين وهو مجاز معروف في ذلك ، قال الراغب :
الألوان يعبر بها عن الأجناس والأنواع يقال : فلان أتى بألوان من الحديث والطعام وكان ذلك لما أن اختلافها غالبا يكون باختلاف اللون ، وقيل : المراد المعنى الحقيقي أي مختلفا ألوانه من البياض والسواد وغيرهما والأول أبلغ أي ذلك مسخر للّه تعالى أو لما خلق له من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف الألوان والأصنام لتتمتعوا بأي صنف شئتم منه ، وذهب بعضهم إلى أن الموصول معطوف على الليل وقيل عليه : إن في ذلك شبه التكرار بناء على أن اللام في لَكُمْ للنفع وقد فسر سَخَّرَ لَكُمُ لنفعكم فمآل المعنى نفعكم بما خلق لنفعكم فالأولى جعله في محل نصب بفعل محذوف أي خلق أو أنبت كما قاله أبو البقاء ويجعل مُخْتَلِفاً حالا من مفعوله واعتذر بأن الخلق للإنسان لا يستلزم التسخير لزوما عقليا ، فإن الغرض قد يتخلف مع أن الإعادة لطول العهد لا تنكر.
ورد بأنه غفلة عن كون المعنى نفعكم وما ذكر علاوة مبني على كون لَكُمْ متعلقة - بسخر - أيضا وهي عند ذلك الذاهب متعلقة كما هو الظاهر بذرأ وفي الحواشي الشهابية أن هذا ليس بشيء لأن التكرار لما ذكر وللتأكيد أمر سهل ، وكون المعنى نفعكم لا يأباه مع أن هذه الآية سيقت كالفذلكة لما قبلها ولذا ختمت بالتذكر ، وليس لمن يميز بين الشمال واليمين أن يقول : ما مبتدأ ومُخْتَلِفاً حال من ضميره المحذوف ، وجملة قوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ خبره والرابط اسم الإشارة على حد ما قيل في قوله تعالى : وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف : 26] كأنه قيل ، وما ذرأه لكم في الأرض إن فيه لآية ، وحاصله تعالى أن فيما ذرأ لآية لظهور مخالفة الآية عليه السباق والسياق بل عدم لياقته لأن يكون محملا لكلام اللّه تعالى الجليل أظهر من أن ينبه عليه ، «و» ألوانه ، على ألوان الاحتمالات مرفوع بمختلفا وقدر بعضهم ليصح رفعه به موصوفا وقال : أي صنفا مختلفا ألوانه وهو مما لا حاجة إليه كما يخفى على من له أدنى تدرب في علم النحو ، ثم إن المشار إليه ما ذكر من التسخير ونحوه ، وقيل : اختلاف الألوان وتنوين آية للتفخيم آية فخيمة بينة الدلالة على أن من هذا شأنه واحد لا ينبغي أن يشبهه شيء في شيء وختم الآية بالتذكر إما لما في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 354
الحواشي الشهابية من أنها كالفذلكة لما قبلها وإما للإشارة إلى أن الأمر ظاهر جدا غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم الضرورية ، وقال بعضهم : يذكرون أن اختلاف طبائع ما ذكر وهيئاته وأشكاله مع اتحاد مادته يدل على الفاعل الحكيم المختار ، وهو ظاهر في أن ما ذكر دليل على إثبات وجود الصانع كما أنه دليل على وحدانيته وهو الذي ذهب إليه الإمام واقتدى به غيره ، ولم يرتضه شيخ الإسلام بناء على أن الخصم لا ينازع في الوجود وإنما ينازع في الوحدانية فجيء بما هو مسلم عنده من صفات الكمال للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شيء في الألوهية ، وقال لبعضهم : لا مانع من أن يكون المراد الاستدلال بما ذكر من الآيات على مجموع الوجود والوحدانية والخصم ينكر ذلك وإن لم ينكر الوجود وكان في أخذ الوجود في المطلوب إشارة إلى أن القول به مع زعم الشركة في الألوهية مما لا يعتد به وليس بينه وبين عدم القول به كثير نفع فتدبر ذاك واللّه تعالى يتولى هداك وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ شروع في نوع آخر من النعم متعلق بالبحر إثر تفصيل النوع المتعلق بالبر ، وجعله بعضهم عديلا لقوله تعالى : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ فلذا جاء على أسلوبه جملة اسمية معرفة الجزأين ، وما وقع في البين إما مترتب على ذلك الماء المنزل وإما متضمن لمصلحة ما يترتب عليه ، والبحر على ما في البحر يشمل الملح والعذب ، والمعنى جعل لكم ذلك بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وهو السمك ، والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للإشارة إلى قلة عظامه وضعفها في أغلب ما يصطاد للأكل بالنسبة إلى الأنعام الممتن بالأكل منها فيما سبق ، وقيل : للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل.
ومن متعلق - بتأكلوا - أو حال مما بعده وهي ابتدائية ، وجوز أن تكون تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي من حيوانه ، وحينئذ يجوز أن «1» من اللحم الطري لحم السمك كما يجوز أن يراد منه السمك والطري فعيل من طرو يطرو طراوة مثل سرو يسرو سراوة ، وقال الفراء : من طرى يطري طراء وطراوة كشقي يشقى شقاء وشقاوة ، والطراوة ضد اليبوسة ، ووصفه بذلك للإشعار بلطافته والتنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله فإنه لكونه رطبا مستعد للتغير فيسرع إليه الفساد والاستحالة ، وقد قال الأطباء : إن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ففيه إدماج لحكم طبي ، وهذا على ما قيل لا ينافي تقديده وأكله محللا كما توهم ، وفي جعل البحر مبتدأ أكله على أحد الاحتمالين إيذان بالمسارعة أيضا.
وزعم بعضهم أن في الوصف إيذانا أيضا بكمال قدرته تعالى في خلقه عذبا طريا في ماء مر لا يشرب ، وفيه شيء لا يخفى ، ولا يؤكل عندنا من حيوان البحر إلا السمك ، ويؤيده تفسير اللحم به المروي عن قتادة وغيره وعن مالك وجماعة من أهل العلم اطلاق جميع ما في البحر ، واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان ، وعن الشافعي أنه أطلق ذلك كله ، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : هو»
السمك وما في البحر من الدواب. نعم يكره عندنا أكل الطافي منه وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجه الماء
لحديث جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ما نضب الماء عنه فكلوا وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا
وهو مذهب جماعة من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، وميتة البحر
في خبر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»
ما لفظه ليكون موته مضافا إليه لا ما مات فيه من غير آفة ، وما قطع
___________
(1) قوله : يجوز أن من اللحم إلخ كذا بخطه ولعله يجوز أن يراد من اللحم إلخ.
(2) قوله. هو أي اللحم الطري اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 355
بعضه فمات يحل أكل ما أبين وما بقي لأن موته بآفة وما أبين من الحي فهو ميت وإن كان ميتا فميتته حلال ، ولو وجد في بطن السمكة سمكة أخرى تؤكل لأن ضيق المكان سبب موتها ، وكذا إذا قتلها طير الماء وغيره أو ماتت في حب ماء ، وكذا إن جمع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منه وهو يقدر على أخذه بغير صيد فمات فيها ، وإن كان لا يؤخذ بغير صيد فلا خير في أكله لأنه لم يظهر لموته سبب ، وإذا ماتت السمكة في الشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكلت شيئا ألقاه في الماء لتأكل منه فماتت منه وذلك معلوم فلا بأس بأكلها لأن ذلك في معنى ما انحسر عنه الماء ، وفي موت الحر والبرد روايتان إحداهما وهي مروية عن محمد يؤكل لأنه مات بسبب حادث وكان كما لو ألقاه الماء على اليبس والأخرى ورويت عن الإمام أنه لا يؤكل لأن الحر والبرد صفتان من صفة الزمان وليسا من أسباب الموت في الغالب ، ولا بأس بأكل الجريث والمار ماهي ، واشتهر عن الشيعة حرمة أكل الأول فليراجع ، واستدل قتادة كما أخرج ابن أبي شيبة عنه بالآية على حنث من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لما فيها من إطلاق اللحم عليه ، وروي ذلك عن مالك أيضا. وأجيب بأن مبنى الإيمان على ما يتفاهمه الناس في عرفهم لا على الحقيقة اللغوية ولا على استعمال القرآن ، ولذا لما أفتى الثوري بالحنث في المسألة المذكورة للآية وبلغ أبا حنيفة عليه الرحمة قال للسائل :
ارجع واسأله عمن حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض هل يحنث لقوله تعالى : جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً [نوح : 19] فقال له : كأنك السائل أمس؟ فقال : نعم ، فقال : لا يحنث في هذا ولا في ذاك ورجع عما أفتى به أولا ، والظاهر أن متمسك الإمام قد كان العرف وهو الذي ذهب إليه ابن الهمام لا ما في الهداية كما قال من أن القياس الحنث ، ووجه الاستحسان أن التسمية القرآنية مجازية لأن منشأ اللحم الدم ولا دم في السمك لسكونه الماء مع انتقاضه بالألية فانها تنعقد من الدم ولا يحنث بأكلها.
واعترض بأنه يجوز أن يكون في المسألة دليلان ليس بينهما تناف ، وما ذكر من النقض مدفوع بأن المذكور كل لحم ينشأ من الدم ولا يلزم عكسه الكلي. وتعقب بأن إطلاق اللحم على السمك لغة لا شبهة فيه فينتقض الطرد والعكس فمراد المعترض الرد عليه بزيادة في الإلزام. نعم قد يقال : مراده بالمجاز المذكور أنه مجاز عرفي كالدابة إذا أطلقت على الإنسان فيرجع كلامه إلى ما قاله الإمام وحينئذ لا غبار عليه ، وما ذكره بيان لوجه الاستعمال العرفي فلا يرد عليه شيء وهو كما ترى ، وعلى طرز ما قاله الإمام يقال فيمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا أنه لا يحنث مع أن اللّه سبحانه سمى الكافر دابة في قوله تعالى : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال : 55] وفي الكشاف بيانا لعدم إطلاق اللحم على السمك عرفا أنه إذا قال واحد لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار عليه أي وهو دليل على عدم إطلاق اللحم عليه في العرف فحيث كانت الايمان مبنية على العرف لم يحنث بأكله. واعترض بأنه لو قال لغلامه : اشتر لحما فاشترى لحم عصفور كان حقيقا بالإنكار مع الحنث بأكله. وتعقب بأن الإنكار إنما جاء من ندرة اشتراء مثله لأنه غير متعارف وفيما نحن فيه اشتراء السمك ولحمه متعارف فليس محل الإنكار إلا عدم إطلاق اللحم عليه وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً كاللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها أي تلبسها نساءكم وجهه ذلك بأنه أسند إلى الرجال لاختلاطهم بالنساء وكونهم متبوعين أو لأنهم سبب لتزينهن فإنهن يتزين ليحسن في أعين الرجال فكان ذلك زينتهم ولباسهم.
وقال ابن المنير : وللّه تعالى در مالك رضي اللّه تعالى عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها ، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل ، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن حتى جعل كحظ المرأة من مالها وزينتها فعبر عن حظه في لبسها بلبسه كما يعبر عن حظها سواء مؤيدا بالحديث المروي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 356
في الباب اه. ويفهم منه جواز اعتبار المجاز في الطرف ، وصرح بذلك بعضهم وفسر «تلبسون» بتتمتعون وتتلذذون ، ويجوز أن يكون المجاز في النقص وما أظهر في التفسير مراد في النظم ، وقيل : الكلام على التغليب أو من باب بنو فلان قتلوا زيدا ففيه إسناد للبعض إلى الكل. وتعقب بأنه وجه لكلا الوجهين أما الأول فلعدم التلبس بالمسند وهو اللبس ، وأما الثاني فلأنه لا يتم بدون المجاز في الطرف فلا وجه للعدول عن اعتباره على النحو السابق إلى هذا ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى كل ذلك فإنه لا مانع من تزين الرجال باللؤلؤ. وتعقب بأنه بعد تسليم أنه لا مانع منه شرعا مخالف للعادة المستمرة فيأباه لفظ المضارع الدال على خلافه ، ولا يصح ما يقال : إن في البحر زمردا بحريا وبفرض الصحة يجيء هذا أيضا ، ولعله لما أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم أخفى التصريح بنسبة اللبس إليهن ليكون اللفظ كالمعنى واستدل أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة بالآية على أن اللؤلؤ يسمى حليا حتى لو حلف لا يلبس حليا فلبسه حنث. وأبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه يقول : لا يحنث لأن اللؤلؤ وحده لا يسمى حليا في العرف وبائعه لا يقال له بائع الحلي كذا في أحكام الجصاص. واستدل بعضهم بالآية على أنه لا زكاة في حلي النساء ،
فأخرج ابن جرير عن أبي جعفر أنه سئل هل في حلي النساء صدقة؟ قال : لا هي كما قال اللّه تعالى : حِلْيَةً تَلْبَسُونَها
وهو كما ترى ، ثم إن اللحم الطري يخرج من البحر العذب والبحر الملح والحلية إنما تخرج من الملح ، وقيل : إن العذب يخرج منه لؤلؤ أيضا إلا أنه لا يلبس إلا قليلا والكثير التداوي به ، ولم نر من ذكر ذلك في أكثر الكتب المصنفة لذكر مثل ذلك.
وأخرج البزار عن أبي هريرة قال : كلم اللّه تعالى البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للبحر الغربي : إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال : أغرقهم. قال : بأسك في نواحيك وحرمه الحلية والصيد وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال : أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها فأثابه سبحانه الحلية والصيد ، وأخرج نحو ذلك ابن أبي حاتم من طريق عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن كعب الأحبار ، واللّه تعالى أعلم بصحة ذلك ، وظاهر كلام الأكثرين حمل الْبَحْرَ في الآية على البحر الملح وهو مملوء من السمك بل قيل إن السمك يطلق على كل ما فيه من الحيوانات ولا يكون اللؤلؤ إلا في مواضع مخصوصة منه.
وَتَرَى الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ جواري فيه جمع ما خرة بمعنى جارية ، وأصل المخر الشق يقال : مخر الماء الأرض إذا شقها وسميت السفن بذلك لأنها تشق الماء بمقدمها ، وقال الفراء : هو صوت جري الفلك بالرياح وَلِتَبْتَغُوا عطف على تستخرجوا وما عطف عليه وما بينهما اعتراض لتمهيد مبادئ الابتغاء ودفع كونه باستخراج الحلية ، وعدل عن نمط الخطاب السابق واللاحق - أعني خطاب الجمع إلى خطاب المفرد - المراد به كل من يصلح للخطاب إيذانا بأن ذاك غير مسوق مساقهما ، وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفا على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، وأن يكون متعلقا بفعل محذوف أي فعل ذلك لتبتغوا ، وهو تكلف يغني اللّه تعالى عنه.
مِنْ فَضْلِهِ من سعة رزقه بركوبها للتجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تقومون بحق نعم اللّه تعالى بالطاعة والتوحيد ، ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر لأنها أقوى في باب الأنعام من حيث إنه جعل ركوب البحر مع كونه مظنة الهلاك لأن راكبيه كما قال عمر رضي اللّه تعالى عنه دود على عود سببا للانتفاع وحصول المعاش وهو من كمال النعمة لقطع المسافة الطويلة في زمن قصير مع عدم الاحتياج إلى الحل والترحال والحركة مع الاستراحة والسكون ، وما أحسن ما قيل في ذلك :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 357
وإنا لفي الدنيا كركب سفينة نظن وقوفا والزمان بنا يسري
وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر قيل للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا.
واستدل بالآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة وإليه ذهب جماعة ، وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث غاز أو حاج أو معتمر وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت ، وقد مر تمام الكلام في ذلك أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد ، والميد اضطراب الشيء العظيم ، ووجه كون الإلقاء مانعا عن اضطراب الأرض بأنها كسفينة على وجه الماء والسفينة إذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى شيء وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة تستقر فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت فالجبال بالنسبة إليها كالأجرام الثقيلة الموضوعة في السفينة بالنسبة إليها.
وتعقبه الإمام لوجوه : الأول على مذهب الحكماء القائلين بأن حركة الأجسام أو سكونها لطبائعها أن الأرض أثقل من الماء فيلزم أن تغوص فيه لا أن تطفو أو ترسي بالجبال وهذا بخلاف السفينة فإنها متخذة من الخشب وبين أجزائه هواء يمنعه من السكون ويفضي به إلى الميد لولا الثقيل. والثاني على مذهب أهل الحق القائلين بأنه ليس للأجسام طبائع تقتضي السكون أو الحركة فما سكن ساكن وما تحرك متحرك في بر وبحر إلا بمحض قدرة اللّه تعالى وحده. والثاني أن إرساء الأرض بالجبال لئلا تميد وتبقى واقفة على وجه الماء إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت على وجهه ساكنا وحينئذ يقال : إن سبب سكونه في حيزه المخصوص طبيعته المخصوصة فلم لا يقال في سكون الأرض في هذا الحيز إنه بسبب طبيعتها المخصوصة أيضا ، وإن قلنا : إنه بمحض قدرته سبحانه فلم لم يقل : إن سكون الأرض أيضا كذلك فلا يعقل الإرساء بالجبال على التقديرين.
والثالث أنه يجوز أن تميد الأرض بكليتها ولا تظهر حركتها ولا يشعر بها أهلها ويكون ذلك نظير حركة السفينة من غير شعور راكبها بها ولا يأبى الشعور بحركتها عند احتقان البخار فيها لأن ذلك يكون في قطعة صغيرة منها وهو يجري مجرى الاختلاج الذي يحصل في عضو معين من البدن ، ثم قال : والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال : ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة وثبت أن هذه الجبال على سطح الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة وحينئذ نقول لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت ملساء خالية عنها لصارت بحيث تتحرك على الاستدارة كالأفلاك لبساطتها أو تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت هذه الجبال وكانت كالخشونات على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لمنعها إياها عن الحركة المستديرة اه وقد تابع الإمام في هذا الحل العلامة البيضاوي ، واعترض عليه بأنه لا وجه لما ذكره على مذهب أهل الحق ولا على مذهب الفلاسفة ، أما الأول فلأن ذات شيء لا تقتضي تحركه وإنما ذلك بإرادة اللّه تعالى ، وأما الثاني فلأن الفلاسفة لم يقولوا : إن حق الأرض أن تتحرك بالاستدارة لأن في الأرض ميلا مستقيما وما هو كذلك لا يكون فيه مبدأ ميل مستدير على ما ذكروا في الطبيعي.
وأورد أيضا على منع الجبال لها من الحركة أنه قد ثبت في الهندسة أن أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى قطر الأرض نسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ولا ريب في أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج تلك الكرة عن الاستدارة بحيث يمنعها عن الحركة ، وكذا حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض ، ثم قيل : الصحيح أن يقال خلق اللّه تعالى الأرض مضطربة لحكمة لا يعلمها إلا هو ثم أرساها بالجبال على جريان عادته في جعل الأشياء منوطة بالأسباب ، وقال بعض المحققين في الجواب : إن المقصود أن الأرض من حيث كونها كرة حقيقية بسيطة مع قطع النظر عن كونها عنصرا كان حقها أحد الأمرين لأنها من تلك الحيثية إما ذو ميل مستدير

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 358
كالأفلاك فكان حقها حينئذ أن تتحرك مثلها على الاستدارة وإما ذو ميل مستقيم فحقها السكون لكنها تتحرك بأدنى قاسر ، أما السكون فلأن الجسم الحاصل في الحيز الطبيعي لما يتحرك حركة طبيعية آنية لاستلزامها الخروج عن الحيز الطبيعي ولا يتصور من الأرض الحركة الإرادية لكونها عديمة الشعور ، وأما التحرك بأدنى قاسر فيحكم به بالضرورة من له تخيل صحيح ، واستوضح ذلك من كرة حقيقية على سطح حقيقي فإنها لا تماسه إلا بنقطة فبأدنى شيء ولو نفخة تتدحرج عن مكانها. نعم الواقع في نفس الأمر أحد الأمرين معينا وذكرهما توسيع للدائرة وهو أمر شائع فيما بينهم فيندفع قوله : وأما الثاني فلأن الفلاسفة إلخ ، وأما قوله : إنه قد ثبت في الهندسة إلخ فجوابه أنهم قد صرحوا في كتب الهيئة بأن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر فنسبة كل جبل وإن كانت كالنسبة المذكورة لكن يجوز أن يكون مجموعها مانعا عن حركتها كالحبل المؤلف من الشعرات المخالف حكمه حكم كل شعرة ، على أن تلك النسبة باعتبار الحجم ومنعها عن حركتها باعتبار الثقل وثقل هذه الجبال يكاد أن يقاوم ثقل الأرض لأن الجبال أجسام صلبة حجرية والأرض رخوة متخلخلة كالكرة الخشبية التي ألزقت عليها حبات من حديد ، وما يقال : من أن فيه غير ذلك ابتناء على
قواعد الفلسفة فلا يطعن فيه لأن ذلك الابتناء غير مضر إن لم يخالف القواعد الشرعية كما فيما نحن فيه ، واعترض على ما ادعى المعترض صحته بأنه يرد عليه ما أورده ، وظني أنه بعد الوقوف على مراده لا يرد عليه شيء مما ذكر ، ونحن قد أسلفنا نحوه وأطنبنا الكلام في هذا المقام ومنه يظهر ما هو الأوفق بقواعد الإسلام ، ثم ما ذكره المجيب من أن المصرح به في كتب الهيئة أن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر خلاف المشهور وهو أن في الإقليم الأول عشرين وفي الثاني سبعة وعشرين وفي الثالث ثلاثة وثلاثين وفي الرابع خمسة وخمسين وفي الخامس ثلاثين وفي كل من السادس والسابع أحد عشر والمجموع مائة وسبعة وثمانون جبلا على أن كلامه لا يخلو عن مناقشة فتدبر ، ومعنى أَلْقى على ما نقل ابن عطية عن المتأولين خلق وجعل ، واختار هو أنه أخص من ذلك وذلك أنه يقتضي أن اللّه سبحانه أوجد الجبال من محض قدرته واختراعه لا من الأرض ووضعها عليها وأيد بأخبار رووها في هذا المقام وقد تقدم بعضها ، ولم يعد بعلى كما في قوله تعالى : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه : 39] للإشارة إلى كمال الجبال ورسوخها وثباتها في الأرض حتى كأنها مسامير في ساحة وانظر هل تعد من الأرض فيحنث من حلف لا يجلس على الأرض إذا جلس عليها أم لا فلا يحنث لم يحضرني من تعرض لذلك ، والظاهر الأول لعد العرف إياها منها وإن كان ظاهر هذه الآية كغيرها عدم العد ، وقوله تعالى : وَأَنْهاراً عطف على رواسي والعامل فيه أَلْقى إلا أن تسلطه عليه باعتبار ما فيه من معنى الجعل والخلق أو تضمينه إياه ، وعلى التقديرين لا إضمار وهو الذي اختاره غير واحد ، وجوز أن يكون مفعولا به لفعل مضمر وليس إجماعا خلافا لابن عطية. أي وجعل أو خلق أنهارا نظير ما قيل في قوله : علفتها تبنا وماء باردا.
وقدر أبو البقاء شق والعطف حينئذ من عطف الجمل وكأنه لما كان أغلب منابع الأنهار من الجبال ذكر الأنهار بعد ما ذكر الجبال ، وقوله تعالى : وَسُبُلًا عطف على أَنْهاراً أي وجعل طرقا لمقاصدكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لها فالتعليل بالنظر إلى قوله تعالى : وَسُبُلًا كما هو الظاهر ، ويجوز أن يكون تعليلا بالنظر إلى جميع ما تقدم لأن تلك الآثار العظام تدل على بطلان الترك ، وقيل : تدل على وجود فاعل حكيم ففي قوله تعالى :
تَهْتَدُونَ تورية حينئذ وَعَلاماتٍ معالم يستدل بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب ، فقد حكي أن من الناس من يشم التراب فيعرف بشمه الطريق وإنها مسلوكة أو غير مسلوكة ولذا سميت المسافة مسافة أخذا لها من السوف بمعنى الشم ، وأخرج ابن جرير ، وغيره عن ابن عباس أنها معالم الطرق بالنهار. وعن الكلبي أنها الجبال وعن قتادة أنها النجوم ، وقال ابن عيسى : المراد منها الأمور التي يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة ، والظاهر ما ذكر أولا وأغرب ما فسرت به وأبعده أن المراد منها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تكون في بحر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 359
الهند الذي يسار إليه من اليمن ، سميت بذلك لأنها إذا ظهرت كانت علامة للوصول إلى بلاد الهند وأمارة للنجاة وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ بالليل في البر والبحر ، والمراد بالنجم الجنس فبينما الخنس وغيرها مما يهتدى به ، وعن السدي تخصيص ذلك بالثريا والفرقدين وبنات نعش والجدي وعن الفراء تخصيصه بالجدي والفرقدين ، وعن بعضهم أنه الثريا فإنه علم بالغلبة لها ، ففي الحديث إذا طلح النجم ارتفعت العاهة ، وقال الشاعر :
حتى إذا ما استقر النجم في غلس وغودر البقل ملويّ ومحصود
وعن ابن عباس أنه سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال : هو الجدي
ولو صح هذا لا يعدل عنه ، والجدي هو جدي الفرقد ، وهو على ما في المغرب بفتح الجيم وسكون الدال والمنجمون يصغرونه فرقا بينه وبين البرج ، وقيل : إنه كذلك لغة ، واستدل على إرادة ما يعم ذلك بما في اللوامح أنه قرأ «وبالنجم» بضمتين وعن ابن وثاب أنه قرأ بضم فسكون فإن ذلك في القراءتين جمع كسقف وسقف ورهن ورهن والتسكين قيل للتخفيف ، وقيل : لغة ، والقول بأن ذلك جمع على فعل أولى مما قيل : إن أصله النجوم فحذفت الواو وزعم ابن عصفور أن قولهم : النجم من ضرورة الشعر وأنشد :
إن الذي قضى بذا قاض حكم أن يرد الماء إذ غاب النجم
وهو نظير قوله : حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق. والضمير يحتمل أن يكون عاما لكل سالك في البر والبحر من المخاطبين فيما تقدم ، وتغيير التعبير للالتفات ، وتقديم الجار والمجرور للفاصلة والضمير المنفصل للتقوى ، ويحتمل أن يكون الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين للاهتداء في مسايرهم بالنجم ، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب ، وتقديم الجار والضمير للتخصيص كأنه قيل : وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون ، فالاعتبار بذلك والشكر عليه بالتوحيد ألزم لهم وأوجب عليهم ، وجعل بعضهم الآية أصلا لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق فلا بأس بتعلم ما يفيد تلك المعرفة ، لكن معرفة عين القبلة على التحقيق بالنجوم متعسر بل متعذر كما أفاده العلامة الرباني أبو العباس أحمد بن البناء لأنه إن اعتبر ذلك بما يسامت رؤوس أهل مكة من النجوم فليس مسقط العمود منه على بسيط مكة هو العمود الواقع منه على بسيط غيرها من المدن ، وإن اعتبر بالجدي فلا يلزم من أن يكون في مكة على الكتف أو على المنكب أن يكون في غيرها كذلك إلا لمن يكون في دائرة السمت المارة برؤوس أهل مكة والبلد الآخر ، وذلك مجهول لا يتوصل إليه إلا بمعرفة ما بين الطولين والعرضين وهو شيء اختلف في مقداره ولم يتعين الصحيح فيه ، وقول من قال : إن ذلك يعرف بجعل المصلي مثلا الشمس بين عينيه إذا استوت في كبد السماء أطول يوم في السنة فمتى فعل ذلك فقد استقبل البيت إن أراد بكبد السماء فيه كبد سماء بلده فليس بصحيح لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في بلدين متنائيين كثيرا ، وإن أراد به كبد سماء مكة فلا يعلم ذلك في بلد آخر إلا بمعرفة ما بين البلدين في الطول ، وقد سمعت ما في ذلك من الاختلاف ، ويقال نحو هذا فيما يشبه ما ذكر بل قال قدس سره : إن معرفة ذلك على التحقيق بما يذكرونه من الدائرة الهندية ونحوها متعذر أيضا لأن مبنى جميع ذلك على معرفة
الأطوال والعروض ودون تحقيق ذلك خرط القتاد ، فلا ينبغي أن يكون الواجب على المصلي إلا تحري الجهة ومعرفة الجهة تحصل بالنجوم وكذا بغيرها مما هو مذكور في محله أَفَمَنْ يَخْلُقُ ما ذكر من المخلوقات البديعة أو يخلق كل شيء يريده كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا ما جليلا أو حقيرا ، وهو تبكيت للكفرة وإبطال لإشراكهم وعبادتهم غيره تعالى شأنه من الأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينه سبحانه وبينه بعد تعداد ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرا ، وتعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المشابهة المذكورة على ما فعل سبحانه من الأمور

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 360
العظيمة الظاهرة الاختصاص به تعالى شأنه المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به غير آية والاقتصار على ذكر الخلق من بين ما تقدم لكونه أعظمه وأظهره واستتباعه إياه أو لكون كل من ذلك خلقا مخصوصا أي أبعد ظهور اختصاصه سبحانه بمبدئية هذه الشؤون الواضحة الدالة على وحدانيته تعالى وتفرده بالألوهية واستحقاق العبادة يتصور المشابهة بينه وبين ما هو بمعزل عن ذلك بالمرة كما هو قضية إشراككم ، وكان حق الكلام بحسب الظاهر في بادئ النظر أفمن لا يخلق كمن يخلق ، لكن قيل : حيث كان التشبيه نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النظم الكريم مراعاة لحق سبق الملكة على العدم وتفاديا عن توسيط عدمها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها وتنبيها على كمال قبح ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجرد رفع أصنامهم عن محلها بل حط لمنزلة الربوبية إلى مرتبة الجماد ولا ريب أنه أقبح من الأول ، والمراد بمن لا يخلق كل ما هذا شأنه من ذوي العلم كالملائكة وعيسى عليهم السلام وغيرهم كالأصنام ، وأتى بمن تغليبا لذوي العلم على غيرهم مع ما فيه من المشاكلة أو ذوو العلم خاصة ويعرف منه حال غيرهم بدلالة النص ، فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة ذوي العلم فما ظنك بالجماد ، وقيل : المراد به الأصنام خاصة ، والتعبير بمن إما للمشاكلة أو بناء على ما عند عبدتهما ، والأولى ما تقدم ، ودخول الأصنام في حكم عدم المشابهة إما بطريق الاندراج أو بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريق البرهاني قاله بعض المحققين.
واستدل بالآية على بطلان مذهب المعتزلة في زعمهم أن العباد خالقون لأفعالهم.
وقال الشهاب بعد أن قرر تقدير المفعول عاما على طرز ما ذكرنا : وجوز أن يكون العموم فيه مأخوذا من تنزيل الفعل منزلة اللازم أنه علم من هذا عدم توجه الاحتجاج بها على المعتزلة في إبطال قولهم بخلق العباد أفعالهم كما وقع في كتب الكلام لأن السلب الكلي لا ينافي الإيجاب الجزئي اه حسبما وجدناه في النسخ التي بأيدينا ولعلها سقيمة وإلا فلا أظن إلا كبوة جواد وهو ظاهر أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لجلائه لا يحتاج إلى شيء سوى التذكر وهو مراجعة ما سبق تصوره وذهل عنه ، وقدر بعضهم المفعول عدم المساواة ، وذكر أنه لعدم سبقه حتى يتصور فيه حقيقة التذكر بأن يتصور ويذهل عنه جعل التذكر استعارة تصريحية للعلم به ، وقيل : الاستعارة مكنية في المفعول المقدر وإثبات التذكر تخييل فتذكر.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها تذكير اجمالي لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها ، وفصل ما بينهما بقوله تعالى : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ كما قيل للمبادرة إلى الزام الحجة والقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل التي هي أدلة التوحيد ، ودلالتها عليه وإن لم تكن مقصورة على حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها عليه من حيثية الإنعام أيضا لكنها حيث كانت من مستتبعات الحيثية الأولى استغني عن التصريح بها ثم بين حالها بطريق الإجمالي أي إن تعدوا نعمه تعالى الفائضة عليكم مما ذكر ومما يذكر لا تطيقوا حصرها وضبط عددها فضلا عن القيام بشكرها ، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك حسبما من اللّه تعالى به إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ حيث يستر ما فرط منكم من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على ذلك رَحِيمٌ حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان التي من جملتها المساواة بين الخالق وغيره ، وكل من ذينك الستر والإفاضة وأيما نعمة ، فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء ، وتقديم المغفرة على الرحمة لتقدم التخلية على التحلية وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي تضمرونه من العقائد والأعمال وَما تُعْلِنُونَ أي تظهرونه منهما ، وحذف العائد لمراعاة الفواصل أي يستوي بالنسبة إلى علمه سبحانه المحيط الأمران ، وفي تقديم الأول على الثاني تحقيق للمساواة على أبلغ وجه ، وفي ذلك من الوعيد والدلالة على اختصاصه تعالى بصفات الإلهية ما لا يخفى ، أما الأول فلأن علم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 361
الملك القادر بمخالفة عبده يقتضي مجازاته ، وكثيرا ما ذكر علم اللّه تعالى وقدرته وأريد ذلك ، وأما الثاني فبناء على ما قيل : إن تقديم المسند إليه في مثل ذلك يفيد الحصر ، ومن هنا قيل : إنه سبحانه أبطل شركهم للأصنام أولا بقوله تعالى : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ وأبطله ثانيا بقوله تبارك اسمه : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إلخ كأنه قيل : إنه تعالى عالم بذلك دون ما تشركون به فإنه لا يعلم ذلك بل لا يعلم شيئا أصلا فكيف يعد شريكا لعالم السر والخفيات.
وفي الكشف أن في الجملة الأولى إشعارا بأنه تعالى وما كلفهم حق الشكر لعدم الإمكان وتجاوز سبحانه عن الممكن إلى السهل الميسور ، وفي الثانية ما يشعر بأنهم قصروا في هذا الميسور أيضا فاستحقوا العتاب.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ شروع في تحقيق أن آلهتهم بمعزل عن استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعداد أحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة ، وكأنها إنما شرحت مع ظهورها للتنبيه على كمال حماقة المشركين وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهة الذين تعبدونهم أيها الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ سبحانه لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً من الأشياء أصلا أي ليس من شأنهم ذلك ، وذكر بعض الأجلة أن ذكر هذا بعد نفي التشابه والمشاركة للاستدلال على ذلك فكأنه قيل : هم لا يخلقون شيئا ولا يشارك من يخلق من لا يخلق فينتج من الثالث هم لا يشاركون من يخلق ويلزمه أن من يخلق لا يشاركهم فلا تكرار ، وقيل عليه : إنه مبني على أن من يخلق ومن لا مجرى على غير معين ، ويفهم من سابق كلام هذا البعض أنه بنى الكلام على أن الأول هو اللّه تعالى والثاني الأصنام ، ويقتضي تقريره هناك عدم الحاجة إلى هذه المقدمة للعلم بها وكونها مفروغا عنها ، فالوجه أن التكرار لمزاوجة قوله تعالى وَهُمْ يُخْلَقُونَ وتعقب بأن المصرح به العموم في الموضعين وأما التخصيص فيهما بما ذكر فلأن من يخلق عندنا مخصوص به تعالى في الخارج اختصاص الكوكب النهاري بالشمس وإن عم باعتبار مفهومه ، ومن لا يخلق وإن عم ذهنا وخارجا فتفسيره بمن عبد لاقتضاء المقام له ، ومقتضى التقرير ليس عدم الحاجة إلى المقدمة بل هو كونها في غاية الظهور بحيث لا يحتاج إلى إثباتها وهذا مصحح لكونها جزءا من الدليل ، وإذا ظهر المراد بطل الإيراد اه ، ولعل الأوجه في توجيه الذكر ما أشرنا إليه أولا ، وحيث إنه لا تلازم أصلا بين نفي الخالقية وبين المخلوقية أثبت ذلك لهم صريحا على معنى شأنهم أنهم يخلقون إذ المخلوقية مقتضى ذواتهم لأنها ممكنة مفتقرة في وجودها وبقائها إلى الفاعل ، وبناء الفعل للمفعول - كما قال بعض الأجلة - لتحقيق التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وما نفي عنهم من وصف
الخالقية والمخلوقية وللإيذان بعدم الحاجة إلى بيان الفاعل لظهور اختصاص بفاعله جل جلاله. ولعل تقديم الضمير هنا لمجرد التقوى ، والمراد بالخلق منفيا ومثبتا المعنى المتبادر منه.
وجوز أن يراد من الثاني النحت والتصوير بناء على أن المراد من الذين يدعونهم الأصنام ، والتعبير عنهم بما يعبر عنه عن العقلاء لمعاملتهم إياهم معاملتهم ، والتعبير عن ذلك بالخلق لرعاية المشاكلة ، وفي ذلك من الإيماء بمزيد ركاكة عقول المشركين ما فيه حيث أشركوا بخالقهم مخلوقيهم ، وإرادة هذا المعنى من الأول أيضا ليست بشيء إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور عليه استحقاق العبادة أصلا. وقرأ الجمهور بالتاء المثناة من فوق في «تسرون» و«تعلنون» و«تدعون» وهي قراءة مجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم ، وفي المشهور عنه أنه قرأ بالياء آخر الحروف في الأخير وبالتاء في الأولين ، وقرئت الثلاثة بالياء في رواية عن أبي عمرو وحمزة ، وقرأ الأعمش «واللّه يعلم الذي تبدون وما تكتمون والذين تدعون» إلخ بالتاء من فوق في الأفعال الثلاثة ، وقرأ طلحة «ما تخفون» و«ما تعلنون». و«تدعون» بالتاء كذلك ، وحملت القراءتان على التفسير لمخالفتهما لسواد المصحف ، وقرأ محمد اليماني

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 362
«يدعون» بضم الياء وفتح العين مبنيا للمفعول أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم أَمْواتٌ خبر ثان للموصول أو خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات ، وصرح بذلك لما أن إثبات المخلوقية لهم غير مستدع لنفي الحياة عنهم لما أن بعض المخلوقين أحياء ، والمراد بالموت على أن يكون المراد من المخبر عنه الأصنام عدم الحياة بلا زيادة عما من شأنه أن يكون حيا.
وقوله سبحانه : غَيْرُ أَحْياءٍ خبر بعد خبر أيضا أو صفة أَمْواتٌ وفائدة ذكره التأكيد عند بعض ، واختير التأسيس وذلك أن بعض ما لا حياة فيه قد تعتريه الحياة كالنطفة فجيء به للاحتراز عن مثل هذا البعض فكأنه قيل : هم أموات حالا وغير قابلين للحياة مآلا ، وجوز أن يكون المراد من المخبر عنه بما ذكر ما يتناول جميع معبوداتهم من ذوي العقول وغيرهم فيرتكب في أَمْواتٌ عموم المجاز ليشمل ما كان له حياة ثم مات كعزيز أو سيموت كعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام وما ليس من شأنه الحياة أصلا كالأصنام.
وغَيْرُ أَحْياءٍ على هذا إذا فسر بغير قابلين للحياة يكون من وصف الكل بصفة البعض ليكون تأسيسا في الجملة وإذا اعتبر التأكيد فالأمر ظاهر ، وجوز أن من أولئك المعبودين الملائكة عليهم الصلاة والسلام وكان أناس من المخاطبين يعبدونهم ، ومعنى كونهم أمواتا أنهم لا بد لهم من الموت وكونهم غير أحياء غير تامة حياتهم والحياة التامة هي الحياة الذاتية التي لا يرد عليها الموت ، وجوز في قراءة وَالَّذِينَ يَدْعُونَ بالياء آخر الحروف أن يكون الأموات هم الداعين ، وأخبر عنهم بذلك تشبيها لهم بالأموات لكونهم ضلالا غير مهتدين ، ولا يخفى ما فيه من البعد وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ الضمير الأول للآلهة والثاني لعبدتها ، والشعور العلم أو مباديه ، وقال الراغب : يقال شعرت أي أصبت الشعر ، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر ، قيل : وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته ، ثم ذكر أن المشاعر الحواس وأن معنى لا تشعرون لا تدركون بالحواس وأن لو قيل في كثير مما جاء فيه لا تشعرون لا تعقلون لم يجز إذ كثير مما لا يكون محسوسا يكون معقولا ، وأَيَّانَ عبارة عن وقت الشيء ويقارب معنى متى ، وأصله عند بعضهم أي أو أن أي أي وقت فحذف الألف ثم جعل الواو ياء وأدغم وهو كما ترى.
وقرأ أبو عبد الرحمن «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة قومه سليم ، والظاهر أنّه معمول ليبعثون والجملة في موضع نصب - بيشعرون - لأنه معلق عن العمل أي ما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم ، وهذا من باب التهكم بهم بناء على إرادة الأصنام لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير. وفي البحر أن فيه تهكما بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم ، ولعل هذا جار على سائر الاحتمالات في الآلهة ، وفيه تنبيه على أن البعث من لوازم التكليف لأنه للجزاء والجزاء للتكليف فيكون هو له وأن معرفة وقته لا بد منه في الألوهية ، وقيل : ضميرا يَشْعُرُونَ ويُبْعَثُونَ للآلهة ويلزم من نفي شعورهم بوقت بعثهم نفي شعورهم بوقت بعث عبدتهم وهو الذي يقتضيه الظاهر ، ومن جوز أن يكون المراد من الأموات الكفرة الضلال جعل ضميري الجمع هنا لهم ، والكلام خارج مخرج الوعيد أي وما يشعر أولئك المشركون متى يبعثون إلى التعذيب ، وقيل : الكلام تم عند قوله تعالى : وَما يَشْعُرُونَ وأَيَّانَ يُبْعَثُونَ ظرف لقوله سبحانه إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ على معنى أن الإله واحد يوم القيامة نظير مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة : 4] قال أبو حيان : ولا يصح هذا القول لأن أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفا إما استفهاما أو شرطا وتتمحض للظرفية بمعنى وقت مضافا للجملة بعده نحو وقت يقوم زيد أقوم ، على أن هذا التعلق في نفسه خلاف الظاهر ، والظاهر أن قوله سبحانه : إِلهُكُمْ تصريح بالمدعى وتلخيص للنتيجة غب إقامة الحجة فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وأحوالها التي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 363
من جملتها البعث وما يعقبه من الجزاء قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ للوحدانية جاحدة لها أو للآيات الدالة عليها وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها ، والفاء للإيذان بأن إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار وقع موقع النتيجة للدلائل الظاهرة والبراهين القطعية فهي للسببية كما في قولك : أحسنت إلى زيد فإنه أحسن إلي ، والمعنى أنه قد ثبت بما قرر من الدلائل والحجج اختصاص الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار ، وبناء الحكم على الموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة له ، فإن الكفر بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب يؤدي إلى قصر النظر على العاجل وعدم الالتفات إلى الدلائل الموجب لإنكارها وإنكار موادها والاستكبار عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به ، وأما الإيمان بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى الالتفات إلى الدلائل والتأمل فيها رغبة ورهبة فيورث ذلك يقينا بالوحدانية وخضوعا لأمر اللّه تعالى قاله بعض المحققين.
ومن الناس من قال : المراد وهم مستكبرون عن الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واتباعه ، فيكون الإنكار إشارة إلى كفرهم باللّه تعالى والاستكبار إشارة إلى كفرهم برسوله صلى اللّه عليه وسلم والأول أظهر ، وإسناد الإنكار إلى القلوب لأنها محله وهو أبلغ من إسناده إليهم ، ولعله إنما لم يسلك في إسناد الاستكبار مثل ذلك لأنه أثر ظاهر كما تشير إليه الآية بعد وقد قال بعض العلماء : كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان لا جَرَمَ أي حق أو حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من الإنكار وَما يُعْلِنُونَ من الاستكبار ، وقال يحيى بن سلام والنقاش : المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو كما ترى ، وأيا ما كان فالمراد من العلم بذلك الوعيد بالجزاء عليه ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع - بلا جرم - بناء على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه والجمهور من أنها اسم مركب مع لا تركيب خمسة عشر وبعد التركيب صار معناها معنى فعل وهو حق فهي مؤولة بفعل. وأبو البقاء يؤولها بمصدر قائم مقامه وهو حقا ، وقيل : مرفوع - بجرم - نفسها على أنها فعل ماض بمعنى ثبت ووجب ولا نافية لكلام مقدر تكلم به الكفرة كقوله سبحانه : فَلا أُقْسِمُ [القيامة : 1 ، البلد : 1] على وجه. وذهب الزجاج إلى أنه منصوب على المفعولية - لجرم - على أنها فعل أيضا لكن بمعنى كسب وفاعلها مستتر يعود إلى ما فهم من السياق ولا كما في القول السابق ، وقيل : إنه خبر لا حذف منه حرف الجر وجَرَمَ اسمها ، والمعنى لا صدأ ولا منع في أن اللّه يعلم إلخ ، وقد مر تمام الكلام في ذلك.
وقرأ عيسى الثقفي «إن» بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله على ما قال أبو حيان ، ونقل عن بعضهم أنه قد يغني لا جَرَمَ عن القسم تقول : لا جرم لآتينك وحينئذ فتكون الحملة جواب القسم إِنَّهُ جل جلاله لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي مطلقا ويدخل فيه من استكبر عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليه دخولا أوليا ، وجوز أن يراد به أولئك المستكبرون والأول أولى ، وأيا ما كان فالاستفعال ليس للطلب مثله فيما تقدم ، وجوز كونه عاما مع حمل الاستفعال على ظاهره من الطلب أي لا يحب من طلب الكبر فضلا عمن اتصف به ، وقد فرق الراغب بين الكبر والتكبر والاستكبار بعد القول بأنها متقاربة ، والحق أنه قد يستعمل بعضها موضع بعض ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ذكر ذلك آنفا وأظنه قد تقدم أيضا والجملة تعليل لما تضمنه الكلام السابق من الوعيد ، والمراد من نفي الحب البغض وهو عند البعض مؤول بنحو الانتقام والتعذيب ، والأخبار الناطقة بسوء حال المتكبر يوم القيامة كثيرة جدا.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لأولئك المستكبرين ، وهو بيان لإضلالهم غب بيان ضلالهم ، وقيل : الضمير لكفار قريش الذين كانوا - كما روي عن قتادة - يقعدون بطريق من يغدو على النبي صلى اللّه عليه وسلم ليطلع على جلية أمره فإذا مر بهم قال

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 364
لهم : ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمد عليه الصلاة والسلام قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما كتبه الأولون كما قالوا :
اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ [الفرقان : 5] فالأساطير جمع اسطار جمع سطر فهو جمع الجمع وقال المبرد : جمع أسطورة كأرجوحة وأراجيح ومقصودهم من ذلك أنه لا تحقيق فيه ، وقيل : القائل لهم بعض المسلمين ليعلموا ما عندهم وقيل : القائل بعضهم على سبيل التهكم وإلا فهو لا يعتقد إنزال شيء ، ومثل هذا يقال في الجواب عن تسميته بالمنزل في الجواب بناء على تقدير المبتدأ فيه ذلك ، ويجوز أن يسموه بما ذكر على الفرض والتسليم ليردوه كقوله هذا رَبِّي [الأنعام : 77 ، 78] وقيل : قدروه منزلا مجاراة ومشاكلة.
وفي الكشاف أن ماذا منصوب - بأنزل - أي أي شيء أنزل ربكم أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله ربكم ، فإذا نصبت فمعنى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما تدعون نزوله ذلك ، وإذا رفعت فالمعنى المنزل ذلك كقوله تعالى :
ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة : 219] فيمن رفع اه ، وقد خفي تحقيق مرامه على بعض المحققين ، فقد قال صاحب الفرائد : الوجه أن يكون مرفوعا بالابتداء بدليل رفع أَساطِيرُ فإن جواب المرفوع مرفوع وجواب المنصوب منصوب ولم يقرأ أحد هنا بالنصب.
وقال صاحب التقريب : إن في كلام الزمخشري نظرا وبينه بما بينه وأجاب بما أجاب ، وأطال الطيبي الكلام في ذلك ، وقد أجاد صاحب الكشف في هذا المقام فقال : إن قوله أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله إيضاح وإلا فالمعنى ما الذي أنزله على المصرح به في المفصل إذ لا وجه لحذف الضمير من غير استطالة «1» مع أن اللفظ يحتمل النصب والرفع احتمالا سواء ، وعلى ذلك يلوح الفرق بين التقديرين ظهورا بينا ، فإن المنصوب وإن دل على ثبوت أصل الفعل وأن السؤال عن المفعول متقاعد عن دلالة المرفوع فقد علم أن الجملة التي تقع صلة للموصول حقها أن تكون معلومة للمخاطب وأين الحكم المسلم المعلوم من غيره ، وإذا ثبت ذلك فليعلم أنه على تقديرين لم يطابق به الجواب لقوله في قالُوا خَيْراً [النحل : 30] طوبق به الجواب بخلاف أَساطِيرُ وقوله هنا كقوله تعالى ماذا يُنْفِقُونَ إلى آخره فيمن رفع تشبيه في العدول إلى الرفع لا وجهه فإن الجواب هنالك طبق السؤال بخلاف ما نحن فيه ، وإنما قدر ما تدعون نزوله على تقدير النصب لأن السائل لم يكن معتقدا لإنزال محقق بل سئل عن تعيين ما سمع نزوله في الجملة فيكفي في رده إلى الصواب ما تدعون نزوله أساطير ، وأما على تقدير الرفع فلما دل على أن الإنزال عنده محقق مسلم لا نزاع فيه وإنما السؤال عن التعيين للمنزل أجيب بأن ذلك المحقق عندك أساطير تهكما إذ من المعلوم أن المنزل لا يكون أساطير فبولغ في رده إلى الصواب بالتهكم به وأنه بت الحكم بالتحقيق في غير موضعه فأرى السائل أنه طوبق ولم يطابق في الحقيقة بل بولغ في الرد ، ويشبه أن يكون الأول جوابا للسؤال فيما بينهم أو الوافدين ، والثاني جوابا عن سؤال المسلمين على ما ذكر من الاحتمالين لا العكس على ما ظن ، هذا هو الأشبه في تقرير قوله الموافق لما ذكره من بعد على ما مر.
وجعل ما ذكره هنالك وجها ثالثا وأنه طوبق به الجواب هاهنا وتوجيه اختلاف التقديرين ادعاء ونزولا بما مهدناه وإن ذهب إليه الجمهور تكلف عنه غنى اه. وقرئ «أساطير» بالنصب كما نص عليه أبو حيان. وغيره فإنكار صاحب الفرائد من قلة الاطلاع لِيَحْمِلُوا متعلق - بقالوا - كما هو الظاهر أي قالوا ذلك لأن يحملوا أَوْزارَهُمْ أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم ، وهو جمع وزر ويقال للثقل تشبيها بوزر الجبل ، ويعبر بكل منهما عن الإثم كما في
___________
(1) فيه تأمل فتأمل اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 365
هذه الآية ، وقوله تعالى ليحملوا أثقالهم : كامِلَةً لم ينقص منها شيء ولم يكفر بنحو نكبة تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين ، وقال الإمام معنى ذلك أنه لا يخفف من عذابهم شيء بل يوصل إليهم بكليته ، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة ، وحمل الأوزار مجاز عن العقاب عليها. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أن الكافر يتمثل عمله في صورة أقبح ما خلق اللّه تعالى وجها وأنتنه ريحا فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده وكلما يخاف شيئا زاده خوفا فيقول : بئس الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول : وما تعرفني؟ فيقول : لا. فيقول : أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا وكان منتنا فلذلك تراني منتنا طاطئ إليّ أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فيركبه وهو قوله تعالى : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ليحملوا وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ أي وبعض أوزار من ضل بإضلالهم على معنى ومثل بعض أوزارهم - فمن - تبعيضية لأن مقابلته لقوله تعالى : كامِلَةً يعين ذلك.
والمراد بهذا البعض حصة التسبب فالمضل والضال شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر وللضال أوزار غير ذلك وليست تلك محمولة ، وقال الأخفش : إن مِنْ زائدة أي وأوزار الذين يضلونهم على معنى أنهم يعاقبون عقابا يكون مساويا لعقاب كل من اقتدى بهم ، وإلى الزيادة ذهب أبو البقاء واعترض على التبعيض بأنه يقتضي أن المضل غير حامل كل أوزار الضال وهو مخالف
للمأثور «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا»
وفيه أن المأثور يدل على التبعيض لا أن بينهما مخالفة كما لا يخفى ، ولتوهم هذه المخالفة قال الواحدي : إن من للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الاتباع ، وتعقبه أبو حيان بأن من التي لبيان الجنس لا تقدر بما ذكروا وإنما تقدر بقولنا الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش وإن اختلفا في التقدير ، ولام لِيَحْمِلُوا للعاقبة لأن الحمل مترتب على فعلهم وليس باعثا ولا غرضا لهم ، وعن ابن عطية أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا أي قدر صدور ذلك ليحملوا ، ويجيء حديث تعليل أفعال اللّه تعالى بالأغراض وأنت تدري أن فيه خلافا.
وجوز في البحر كونها لام الأمر الجازمة على معنى أن ذلك الحمل متحتم عليهم فيتم الكلام عند قوله سبحانه : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ والظاهر العاقبة ، وصيغة الاستقبال في يُضِلُّونَهُمْ للدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال قولهم لا حال الحمل.
بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول كأنه قيل : يضلون من لا يعلم أنهم ضلال على الباطل ، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على ذي لب وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء وفيه زيادة تعيير لهم وذم إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم ، وقيل : إنه حال من الفاعل أي يضلون غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال ، وقيل : المعنى حينئذ يضلون جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال ، ونقل القول بالحالية عن الفاعل بنحو هذا المعنى عن الواحدي ، وزعم بعضهم أنه الوجه لا الحالية من المفعول ، وأيد بأن التذييل بقوله تعالى : أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ وقوله سبحانه : مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقويه ، وليس بذاك ، وما ذكر ظن من هذا المؤيد أنه إذا جعل حالا من المفعول لم يكن له تعلق بما سيق له الكلام من حال المضلين وقد هديت إلى وجهه.
ورجحه أبو حيان بأن المحدث عنه هو المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية فاعتباره ذا الحال أولى ، ويرد عليه مع ما يعلم مما ذكر أن القرب يعارضه فلا يصلح مرجحا ، وقيل : هو حال من ضمير الفاعل في قالُوا على معنى قالوا ذلك غير عالمين بأنهم يحملون يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال وأيد بقوله تعالى : وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 366
حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ
من حيث إن حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان العذاب من حيث لا يشعرون ، ويرده أن الحمل المذكور كما هو صريح الآية إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب الدنيوي كما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى وجوز أن يكون حالا من الفاعل والمفعول كما قال ذلك ابن جني في قوله : فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ [مريم : 27] وهو خلاف الظاهر ، واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ويميز بين المحق والمبطل ولا يعذر بالجهل ، وهو ظاهر على ما قدمناه من الوجه الأوجه أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم عليهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل ، والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وهو هاهنا على ما قيل مجاز عن مباشرة أسبابه وترتيب مقدماته لأن ما بعد يدل على أنه لم يحصل الصرف ، وجوز أن يرتكب فيه التجريد أي سووا منصوبات وحيلا ليخدعوا بها رسل اللّه عليهم الصلاة والسلام فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي من جهة الدعائم والعمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت فمن ابتدائية والبنيان اسم مفرد مذكر ، ونقل الراغب عن بعض اللغويين أنه جمع بنيانة مثل شعير وشعيرة وتمر وتمرة ونخل ونخلة وإن هذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه ، وأصل الإتيان كما قال المجيء بسهولة وهو مستحيل بظاهره في حقه سبحانه ولذلك احتاج بعضهم إلى تقدير مضاف أي أمر اللّه تعالى وروي ذلك عن قتادة ، وجعل ذلك في الكشاف من قبيل أتى عليه الدهر بمعنى أهلكه وأفناه ، وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف.
وقرئ «بنيتهم» وهو بمعنى بنائهم يقال بنيت أبني أبناء وبنية وبنى نعم كثيرا ما يعبر بالبنية عن الكعبة وقرأ جعفر بيتهم والضحاك «بيوتهم» فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي سقط عليهم سقف بنيانهم إذ لا يتصور له القيام بعد تهدم قواعده ومِنْ متعلق بخر وهي لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من السقف مؤكدة ، وقال ابن عطية وابن الأعرابي إن مِنْ فَوْقِهِمْ ليس بتأكيد لأن العرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا انهدم في ملك القائل وإن لم يقع عليه حقيقة فهو لبيان أنهم كانوا تحته حين هدم. ومن الناس من زعم أن على بمعنى عن وهي للتعليل والكلام على تقدير مضاف أي خر من أجل كفرهم السقف وجيء بقوله تعالى : مِنْ فَوْقِهِمْ مع خر لدفع توهم أن يكون قد خروهم ليسوا تحته ، ولا يخفى أنه تطويل من غير طائل بل كلام لا ينبغي أن يتفوه به فاضل والكلام تمثيل يعني أن حالهم في تسويتهم المنصوبات والحيل ليمكروا بها رسل اللّه تعالى عليهم الصلاة والسلام وإبطال اللّه إياها وجعلها سببا لهلاكهم كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا تحته ، ووجه الشبه أن ما نصبوه وخيلوه سبب التحصن والاستيلاء صار سبب البوار والفناء فالأساطين بمنزلة المنصوبات وانقلابها عليهم مهلكة كانقلاب تلك الحيل على أصحابها والبنيان ما كان زوروه وروجوا فيه تلك المنصوبات وتواطؤوا عليه من الرأي المدعم بالمكائد ، ويشبه ذلك قولهم ، من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا.
ويقرب من هذا ما قيل إن المراد أحبط اللّه تعالى أعمالهم ، وقيل الأمر مبني على الحقيقة ، وذلك أن نمرود بن كنعان بنى صرحا ببابل ليصعد بزعمه إلى السماء ويعرف أمرها ويقاتل أهلها وأفرط في علوه فكان طوله في السماء على ما حكى النقاش وروي عن كعب فرسخين. وقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ووهب : كان ارتفاعه خمسة آلاف ذراع وعرشه ثلاثة آلاف ذراع فبعث اللّه تعالى عليه ريحا فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه فهلكوا ، وقيل :
هدمه جبريل عليه السلام بجناحه ولما سقط تبلبلت الناس من الفزع فتكلّموا يومئذ بثلاث وسبعين لسانا فلذلك سميت

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 367
بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية ، ولا يخفى ما في هذا الخبر من المخالفة للمشهور لأن موجبه أن هلاك نمرود كان بما ذكر والمشهور أنه عاش بعد قصة الصرح وأهلكه اللّهتعالى ببعوضة وصلت لدماغه إظهارا لكمال خسته وعجزه وجازاه سبحانه من جنس عمله لأنه صعد إلى جهة السماء بالنسور فأهلكه اللّه تعالى بأخس الطيور ، وما ذكر في وجه تسمية المكان المعروف ببابل هو المشهور ، وفي معجم البلدان أن مدينة بابل يوراسف الجبار واشتق اسمها من المشتري لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري وأخربها الإسكندر ، وما ذكر من أن اللسان كان قبل ذلك السريانية ذكره البغوي ونظر فيه الخازن بأن صالحا عليه السلام وقومه كانوا قبل وكانوا يتكلمون بالعربية وكان قبائل قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس يتكلمون بالعربية أيضا وقد يدفع بالعناية.
وقال الضحاك : الآية إشارة إلى قوم لوط عليه السلام وما فعل بهم وبقراهم ، والكلام أيضا مبني على الحقيقة واختار جماعة بناءه على التمثيل حسبما سمعت وعليه فالمراد على المختار من الذين كفروا من قبل ما يشمل جميع الماكرين الذين هدم عليهم بنيانهم وسقط في أيديهم وقرأ الأعرج السقف وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما ومجاهد السَّقْفُ بضم السين فقط وكلاهما جمع سقف وفعل وفعل على ما قال أبو حيان محفوظان في جمع فعل وليسا مقيسين فيه ويجمع على سقوف وهو القياس.
وقرأت فرقة السَّقْفُ بفتح السين وضم القاف وهي لغة في السقف ، وذكر أن الأصل مضموم القاف وساكنه مخففة وكثر استعماله على عكس قولهم رجل بفتح فضم ورجل بفتح فسكون وهي لغة تميمية وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون ، والمراد به العذاب العاجل ، وفي عطف هذه الجملة على ما تقدم تهويل لأمر هلاكهم ، ويدل على أن المراد به العاجل قوله سبحانه : ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذلهم ، والظاهر أن ضمائر الجمع - للذين مكروا - من قبل كأنه قيل : قد مكر الذين من قبلهم فعذبهم اللّه تعالى في الدنيا ثم يعذبهم في العقبى ، وثُمَّ للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما تدل عليه من التراخي الزماني ، وتقديم الظرف على الفعل قيل لقصر الاخزاء على يوم القيامة ، والمراد به ما بين بقوله سبحانه : وَيَقُولُ أي لهم تفضيحا وتوبيخا أَيْنَ شُرَكائِيَ إلى آخره ، ولا شك أن ذلك لا يكون إلا في ذلك اليوم ، وقال بعض المحققين : ليس التقديم لذلك بل لأن الأخبار بجزائهم في الدنيا مؤذن بأن لهم جزاء أخرويا فتبقى النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن المقصود بالذكر جزاؤهم لا كونه في الآخرة ، وذكر أيضا أن الجملة المذكورة عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي هذا الذي فهم من التمثيل من عذاب هؤلاء الماكرين القائلين في القرآن العظيم أساطير الأولين أو ما هو أعم منه ، ومما ذكر من عذاب أولئك الماكرين من قبل جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة يخزيهم إلى آخره ، ثم قال :
والضمير إما للمغترين في حق القرآن الكريم أو لهم ولمن مثلوا بهم من الماكرين ، وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق اه.
وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه فليتأمل ، وفسر بعضهم الاخزاء بما هو من روادف التعذيب بالنار لأنه الفرد الكامل وقد قال تعالى : إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران : 192] وقيل عليه : إن قوله سبحانه : أَيْنَ شُرَكائِيَ إلى آخره يأباه لأنه قبل دخولهم النار. وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب ، وأنت تعلم أن الأولى مع هذا حمله على مطلق الإذلال ، وإضافة الشركاء إلى نفسه عز وجل لأدنى ملابسة بناء على زعمهم أنهم شركاء للّه سبحانه عما يشركون فتكون الآية كقوله تعالى : أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام : 22].
وجوز أن يكون ما ذكر حكاية منه تعالى لإضافتهم فإنهم كانوا يضيفون ويقولون : شركاء اللّه تعالى ، وفي ذلك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 368
زيادة في توبيخهم ليست في أين أصنامكم مثلا لو قيل ، ولا يخفى أن هذا خزي وإهانة بالقول فإذا فسر الإخزاء فيما تقدم بالتعذيب بالنار كانت الآية مشيرة إلى خزيين فعلي وقولي ، وأشير إلى الأول أولا لأنه أنسب بسابقه. وقرأ الجمهور «شركائي» ممدودا مهموزا مفتوح الياء ، وفرقة كذلك إلا أنهم سكنوا الياء فتسقط في الدرج لالتقاء الساكنين ، والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه بالقصر وفتح الياء ، وأنكر ذلك جماعة وزعموا أن هذه القراءة غير مأخوذ لأن قصر الممدود لا يجوز إلا ضرورة ، وليس كما قالوا فإنه يجوز في السعة ، وقد وجه أيضا بأن الهمزة المكسورة قبل الياء حذفت للتخفيف وليس كقصر الممدود مطلقا ، مع أنه قد روي عن ابن كثير قصر التي في [القصص : 62 ، 74] ووَرائِي في [مريم : 5] ، وعن قنبل قصر أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى في [العلق : 7] فكيف يعد ذلك ضرورة.
نعم قال أبو حيان : إن وقوعه في الكلام قليل فاعرف ذلك فقد غفل عنه كثير من الناس.
الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم في شأنهم وتزعمون أنهم شركاء حقا حين بينوا لكم ضد ذلك ، وفسر بعضهم المشاقة بالمعاداة ، وتفسيرها بالمخاصمة ليظهر تعلق فِيهِمْ به ولا يحتاج إلى جعل في للسببية أولى ، وقيل : للمخاصمة مشاقة أخذا من شق العصا أو لكون كل من المتخاصمين في شق والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة على طريق الاستهزاء والتبكيت ، فإنهم كانوا يقولون : إن صح ما تقولون فالأصنام تشفع لنا ، والاستفسار عن مكانتهم لا يوجب غيبتهم حقيقة بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به فليس هناك شركاء ولا أماكنها.
وقيل : إن ذلك يوجب الغيبة ، ويقال : إنه يحال بينهم وبين شركائهم حينئذ ليتفقدوهم في ساعة علقوا الرجاء بها فيهم أو أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب. ولا يحتاج إلى هذا بعد ما علمت على أنه أورد على قوله ليتفقدوهم إلى آخره أنه ليس بسديد ، فإنه قد تبين للمشركين حقيقة الأمر فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور منهم التفقد.
وأجيب بأنه يجوز أن يغفلوا لعظم الهول عن ذلك فيتفقدوهم ، ثم إن ما ذكر يقتضي حشر الأصنام وهو الذي يدل عليه كثير من الآيات كقوله تعالى : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء : 98] وقوله سبحانه : وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة : 24 ، التحريم : 6] على قول ، ولا أرى مانعا من حمل الشركاء على معبوداتهم الباطلة بحيث تشمل ذوي العقول أيضا. وقرأ الجمهور «تشاقون» بفتح النون ، ونافع بكسرها ورويت عن الحسن ، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم. وقرأت فرقة بتشديدها على أنه أدغم نون الرفع في نون الوقاية. والكسر على حذف ياء المتكلم والاكتفاء به أي تشاقونني. على أن مشاقة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم كمشاقة اللّه تعالى شأنه ولولا ذلك لم يصح تعليق المشاقة به سبحانه. أما إذا كانت بمعنى المخاصمة فظاهر أنهم لم يخاصموا اللّه تعالى ، وأما إذا كانت بمعنى العداوة فلأنهم لا يعتقدون أنهم أعداء للّه تعالى : وأما قوله تعالى لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة : 1] يعني المشركين فمؤول أيضا بغير شبهة قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من أهل الموقف وهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم ، واقتصر يحيى بن سلام على المؤمنين والأمر فيه سهل ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهم أنهم الملائكة عليهم السلام. ولم نقف على تقييده إياهم. وعن مقاتل أنهم الحفظة منهم. ويشعر كلام بعضهم بأنهم ملائكة الموت حيث أورد على القول بأنهم الملائكة أن الواجب حينئذ يتوفونهم مكان تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وأنه يلزم منه الإبهام في موضع التعيين والتعيين في موضع الإبهام. وهو كما قال الشهاب في غاية السقوط ، وقيل : المراد كل من اتصف بهذا العنوان من ملك وانسي وغير ذلك.
والذي يميل إليه القلب السليم القول الأول أي يقول أولئك توبيخا للمشركين وإظهارا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 369
للشماتة بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم وتحقيقا لما أوعدوهم به. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه وتحتمه حسبما هو المعهود في إخباره تعالى كقوله سبحانه : وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الأعراف : 44].
إِنَّ الْخِزْيَ الذلّ والهوان. وفسره الراغب بالذلّ الذي يستحى منه الْيَوْمَ منصوب بالخزي على رأي من يرى إعمال المصدر باللام كقوله : ضعيف النكاية أعداءه. أو بالاستقرار في الظرف الواقع خبرا لإن ، وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر في الظرف. وأل للحضور أي اليوم الحاضر ، وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق وَالسُّوءَ العذاب ومن الخزي به جعل ذكر هذا للتأكيد عَلَى الْكافِرِينَ باللّه تعالى وآياته ورسله عليهم السلام الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بتأنيث الفعل ، وقرأ حمزة والأعمش «يتوفاهم» بالتذكير هنا وفيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، والوجهان شائعان في أمثال ذلك.
وقرئ بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ويجتلب في مثله حينئذ همزة وصل في الابتداء وتسقط في الدرج وإن لم يعهد همزة وصل في أول فعل مضارع. وفي مصحف عبد اللّه بتاء واحدة في الموضعين ، وفي الوصول أوجه الإعراب الثلاثة : الجر على أنه صفة الْكافِرِينَ أو بدل منه أو بيان له ، والنصب والرفع على القطع للذم وجوز ابن عطية كونه مرتفعا بالابتداء وجملة فَأَلْقَوُا خبره. وتعقبه أبو حيان بأن زيادة الفاء في البر لا تجوز هنا إلا على مذهب الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقا نحو زيد فقام أي قام ، ثم قال : ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولا وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه اه بلفظه. ونقل شهاب عنه أنه قال : إن المنع مع ما ضمن معناه أولى. وتعقبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذ صح مباشرته للفعل وما تضمن معناه ليس كذلك ، وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله وجد له كلاما آخر يشعر بها.
واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال : فيكون ذلك داخلا في المقول ، فإن كان القول يوم القيامة يكون تَتَوَفَّاهُمُ بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية ، وإن كان في الدنيا أي لما أخبر سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال أهل العلم : إن الخزي اليوم الذي أخبر اللّه تعالى أنه يخزيهم فيه والسوء على الكافرين يكون تَتَوَفَّاهُمُ على بابه ، ويشمل من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه ، وعلى ما ذكره ابن عطية يحتمل أن يكون الَّذِينَ إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم وأن يكون إخبارا منه تعالى ، والظاهر أن القول يوم القيامة فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفي الملائكة إياهم كما قيل آنفا لما فيها من الهول ، وفي تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره ، وفيه النديم لهم لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم الملائكة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي حال كونهم مستمرين على الشرك الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي الاستسلام كما قاله الأخفش وقال قتادة : الخضوع ، ولا بعد بين القولين. والمراد عليهما أنهم أظهروا الانقياد والخضوع ، وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهارهم الانقياد وإشعارا بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب.
والجملة قيل عطف على قوله تعالى : وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقا لما حاق بهم من الخزي على رؤوس الأشهاد. وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدنيا من الكبر وشدة الشكيمة ، ولعله مراد من قال : إن الكلام قد تم عند قوله تعالى : أَنْفُسِهِمْ ثم عاد إلى حكاية حالهم يوم القيامة ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 370
وقيل : عطف على قالَ الَّذِينَ وجوز أبو البقاء وغيره العطف على تَتَوَفَّاهُمُ واستظهره أبو حيان ، لكن قال الشهاب : إنه إنما يتمشى على كون تَتَوَفَّاهُمُ بمعنى الماضي ، وقد تقدم لك القول بأن الجملة خبر الَّذِينَ مع ما فيه. واعترض الأول بأن قوله تعالى : ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ إما أن يكون منصوبا بقول مضمر وذلك القول حال من ضمير ألقوا أي ألقوا السلم قائلين ما كنا إلى آخره أو تفسيرا للسلم الذي ألقوه بناء على أن المراد به القول الدال عليه بدليل الآية الأخرى فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ [النحل : 86] وأيّا ما كان فذلك العطف يقتضي وقوع هذا القول منهم يوم القيامة وهو كذب صريح ولا يجوز وقوعه يومئذ.
وأجيب بأن المراد ما كنا عاملين السوء في اعتقادنا أي كان اعتقادنا أن عملنا غير سيىء ، وهذا نظير ما قيل في تأويل قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام : 23] وقد تعقب بأنه لا يلائمه الرد عليهم ب بَلى إِنَّ اللَّهَ إلى آخره لظهور أنه لإبطال النفي ولا يقال : الرد على من جحد واستيقنت نفسه لأنه يكون كذبا أيضا فلا يفيد التأويل.
ومن الناس من قال بجواز وقوع الكذب يوم القيامة ، وعليه فلا إشكال ، ولا يخفى أن هذا البحث جار على تقدير كون العطف على قالَ الَّذِينَ أيضا إذ يقتضي كالأول وقوع القول يوم القيامة وهو مدار البحث.
واختار شيخ الإسلام عليه الرحمة العطف السابق وقال : إنه جواب عن قوله سبحانه أَيْنَ شُرَكائِيَ وأرادوا بالسوء الشرك منكرين صدوره عنهم ، وإنما عبروا عنه بما ذكر اعترافا بكونه سيئا لا إنكارا لكونه كذلك مع الاعتراف بصدوره عنهم ، ونفى أن يكون جوابا عن قول أولي العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزي والسوء ، ولعله متعين على تقدير العطف على قالَ الَّذِينَ إلى آخره ، وإذا كان العطف على تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ كان الغرض من قولهم هذا الصادر منهم عند معاينتهم الموت استعطاف الملائكة عليهم السلام بنفي صدور ما يوجب استحقاق ما يعانونه عند ذلك ، وقيل : المراد بالسوء الفعل السيئ أعم من الشرك وغيره ويدخل فيه الشرك دخولا أوليا أي ما كنا نعمل سوءا ما فضلا عن الشرك ، ومِنْ على كل حال زائدة وسُوءٍ مفعول لنعمل بَلى رد عليهم من قبل اللّه تعالى أو من قبل أولي العلم أو من قبل الملائكة عليهم السلام ، ويتعين الأخير على كون القول عند معاينة الموت ومعاناته أي بلى كنتم تعملون ما تعملون.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خطاب لكل صنف منهم أن يدخل بابا من أبواب جهنم ، والمراد بها إما المنفذ أو الطبقة ، ولا يجوز أن يكون خطابا لكل فرد لئلا يلزم دخول الفرد من الكفار من أبواب متعددة أو يكون لجهنم بعدد الافراد ، وجوز أن يراد بالأبواب أصناف العذاب ، فقد جاء إطلاق الباب على الصنف كما يقال : فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا مانع في كون الخطاب لكل فرد ، وأبعد من قال : المراد بتلك الأبواب قبور الكفرة المملوءة عذابا مستدلا بما
جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار»
خالِدِينَ فِيها حال مقدرة إن أريد بالدخول حدوثه ، ومقارنة إن أريد به مطلق الكون ، وضمير فِيها قيل : للأبواب بمعنى الطبقات ، وقيل : لجهنم ، والتزم هذا وكون الحال مقدرة من أبعد ، وحمل الخلود على المكث الطويل للاستغناء عن هذا الالتزام وإن كان واقعا في كلامهم خلاف المعهود في القرآن الكريم فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي عن التوحيد ، وذكرهم بعنوان التكبر للإشعار بعليته لثوائهم فيها ، وقد وصف سبحانه الكفار فيما تقدم بالاستكبار وهنا بالتكبر ، وذكر الراغب أنهما والكبر تتقارب فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من أعجابه بنفسه ، والاستكبار على وجهين : أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيرا ، وذلك متى كان على ما يحب وفي المكان الذي يحب وفي الوقت الذي يحب وهو محمود. والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 371
وهو مذموم ، والتكبر على وجهين أيضا : الأول أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره ، وعلى هذا وصف اللّه تعالى بالمتكبر. والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا وذلك في وصف عامة الناس ، والتكبر على الوجه الأول محمود وعلى الثاني مذموم ، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم أو أبوابها إن فسرت بالطبقات ، والفاء عاطفة ، واللام جيء بها للتأكيد اعتناء بالذم لما أن القوم ضالون مضلون كما ينبئ عنه قوله تعالى : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وللتأكيد اعتناء بالمدح جيء باللام أيضا فيما بعد من قوله سبحانه : وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ لأن أولئك القوم على ضد هؤلاء هادون مهديون ، وكأنه لعدم هذا المقتضي في آيتي الزمر والمؤمن لم يؤت باللام ، وقيل : فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وقيل : التأكيد متوجه لما يفهم من الجملة من أن جهنم مثواهم ، وحيث إنه لم يفهم من الآيات قبل هنا فهمه منها قبل آيتي تينك السورتين جيء بالتأكيد هناك ولم يجئ به هنا اكتفاء بما هو كالصريح في إفادة أنها مثواهم مما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى هناك.
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي المؤمنين ، وصفوا بذلك إشعارا بأن ما صدر عنهم من لجواب ناشئ من التقوى.
ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا ف ماذا اسم واحد مركب للاستفهام بمعنى أي شيء محله النصب ب أَنْزَلَ وخَيْراً مفعول لفعل محذوف ، وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وليس من الإنزال في شيء. نعم قرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «خير» بالرفع - فما - اسم استفهام و«ذا» اسم موصول بمعنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم ، وخَيْرٌ خبر مبتدأ محذوف فيتوافق جملتا الجواب والسؤال في كون كل منهما جملة اسمية ، وجعل ماذا منصوبا على المفعولية كما مر ورفع خَيْرٌ على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأولى ، وفي الكشف أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب الكشاف في هذا المقام أن فائدة النصف مع أن الرفع أقوى دفع الالتباس ليكون نصا في المطلوب كما أوثر النصب في قوله تعالى : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر : 49] لذلك وينحل مراده من ذلك بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقا والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق.
هذا ولم نجد في السائل هنا خلافا كما في السائل فيما تقدم ، والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل الوفد الذي كان سائلا أولا في بعض الأقوال المحكية هناك ، وذكر أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبي حاتم ، فقد أخرج عن السدي قال اجتمعت قريش فقالوا : إن محمدا صلى اللّه عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد صلى اللّه عليه وسلم فينزل بهم قالوا له : يا فلان ابن فلان فيعرفه بنسبه ويقول : أنا أخبرك عن محمد صلى اللّه عليه وسلم هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله تعالى : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإذا كان الوافد ممن عزم اللّه تعالى له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال : بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد صلى اللّه عليه وسلم فيقولون : خيرا إلخ ، نعم يجوز عقلا أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالاستلذاذ بسماع الجواب وكثيرا ما يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذا بمدامة ذكره وتشنيفا لسمعه بسني دره
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 372
بل يجوز أيضا أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة فِي هذِهِ الدار الدُّنْيا حَسَنَةٌ مثوبة حسنة جزاء إحسانهم ، والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا ، والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح ، وقيل : المدح والثناء منه تعالى ، وقال الإمام : يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى : «والذين اهتدوا زادهم هدى» وقيل : متعلق بما قبله ، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقا بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لإحسانهم في الدنيا في الآخرة ، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال ، والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده اللّه تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا ، واختير كونه متعلقا بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه : وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ والكلام كما يشعر به كلام غير واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب.
وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية والزجاج وابن الأنباري وغيرهم ، وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى للذين اتقوا على قولهم وهو في الوعد هاهنا نظير لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ في الوعيد فيما مر ، وجوز أن يكون خَيْراً مفعول قالُوا وعمل فيه لأنه في معنى الجملة كقال قصيدة أو صفة مصدر أي قولا خيرا ، وهذه الجملة بدل. فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الإعراب ، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا إلا أن اللّه سبحانه سماه خيرا ثم حكاه كما تقول : قال فلان جميلا من قصدنا وجب حقه علينا ، وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة اللّه تعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول أَنْزَلَ «1» ويكون تسميته خيرا من اللّه تعالى كما في قوله سبحانه : لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف : 9] ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه ، وأما قولهم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى ، وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوبا - بأنزل - لأن هذا القول ليس منزلا من اللّه تعالى ، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشئ من قلة التدبر. وفي البحر الظاهر أن لِلَّذِينَ إلخ مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل اللّه تعالى في الوحي ، وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضا ، ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل ، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه.
جَنَّاتُ عَدْنٍ خبر مبتدأ محذوف كما اختاره الزجاج وابن الأنباري أي هي جنات ، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات أو هو المخصوص بالمدح يَدْخُلُونَها نعت لجنات عند الحوفي بناء على أن عَدْنٍ نكرة وكذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم. وجوزوا أن يكون جَنَّاتُ مبتدأ وجملة يَدْخُلُونَها خبره وجملة تجري إلخ حال ، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها ، قال أبو حيان. وهذه القراءة تقوي كون «جنات» مرفوعا مبتدأ والجملة بعده خبره ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «ولنعمة دار المتقين» بتاء مضمومة ودار مخفوضة فيكون «نعمة» مبتدأ مضافا إلى دار وجنات خبره. وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع «يدخلونها» بالياء على الغيبة والفعل
___________
(1) وقد نص سعد بن جلي على عدم المانع من جعله مفعول أنزل مقدرا اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 373
مبني للمفعول ، ورويت عن أبي جعفر ، وشيبة لَهُمْ فِيها أي في تلك الجنات ما يَشاؤُنَ الظرف الأول خبر - لما - والثاني حال منه ، والعامل ما في الأول من معنى الحصول والاستقرار أو متعلق به لذلك أي حاصل لهم فيها ما يشاؤون من أنواع المشتهيات وتقديمه للاحتراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو لما مرّ غير مرة من أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده فضل تمكن. وذكر بعضهم أن تقديم فيها للحصر وما للعموم بقرينة المقام فيفيد أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة فتأمله.
والجملة في موضع الحال نظير ما تقدم ، وزعم أن لهم متعلق بتجري أي تجري من تحتها الأنهار لنفعهم وفِيها ما يَشاؤُنَ مبتدأ وخبر في موضع الحال لا يخفى حاله عند ذوي التمييز كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء الأوفى يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي جنسهم فيشمل كل من يتقي من الشرك والمعاصي وقيل من الشرك ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولا أوليا ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو المذكورين فيكون فيه تحسير للكفرة ، قيل : وهذه الجملة تؤيد كون قوله سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا عدة فإن جعل ذلك جزاء لهم ينظر إلى الوعد به من اللّه تعالى وإذا كان مقول القول لا يكون من كلامه تعالى حتى يكون وعدا منه سبحانه ، وقيل : إنها تؤيد كون جَنَّاتُ خبر مبتدأ محذوف لا مخصوصا بالمدح لأنه إذا كان مخصوصا بالمدح يكون كالصريح في أن جَنَّاتُ عَدْنٍ جزاء للمتقين فيكون كَذلِكَ إلخ تأكيدا بخلاف ما إذا كان خبر مبتدأ محذوف فإنه لم يعلم صريحا أن جنات عدن جزاء للمتقين وفيه نظر وكذا في سابقه إلا أن في التعبير بالتأبيد ما يهون الأمر الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ نعت للمتقين وجوز قطعه ، وقوله سبحانه : طَيِّبِينَ حال من ضميرهم ، ومعناه على ما روي عن أبي معاذ طاهرين من دنس الشرك وهو المناسب لجعله في مقابلة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في وصف الكفرة بناء على أن المراد بالظلم أعظم أنواعه وهو الشرك لكن قيل عليه : إن ذكر الطهارة عن الشرك وحده لا فائدة فيه بعد وصفهم بالتقوى.
وأجيب بأن فائدة ذلك الإشارة إلى أن الطهارة عن الشرك هي الأصل الأصيل. وفي إرشاد العقل السليم بعد تفسير الظلم بالكفر وتفسير طيبين بطاهرين عن دنس الظلم وجعله حالا قال : وفائدته الإيذان بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم ، ففيه حث للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله.
وقال مجاهد : المراد - بطيبين - زاكية أقوالهم وأفعالهم ، وهو مراد من قال : طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وإلى هذا ذهب الراغب حيث قال الطيب من الإنسان من تعرى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتحلى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال وإياهم قصد بقوله سبحانه : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ.
وانتصر لذلك بأن وصفهم بأنهم متقون موعودون بالجنة في مقابلة الأعمال يقتضي ما ذكر ، وحملوا الظلم فيما مر على ما يعم الكفر والمعاصي لأن ذلك مجاب بقولهم : ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ فلا تفوت المناسبة في جعل هذا مقابلا لذاك لكن في الاستدلال بما ذكر في الجواب على إرادة العام ما لا يخفى ، والكثير على تفسير الطيب بالطاهر عن قاذورات الذنوب مطابق الذي لا خبث فيه ، وقيل : المعنى فرحين ببشارة الملائكة عليهم السلام إياهم أو بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس ، فالمراد بالطيب طيب النفس وطيبها عبارة عن القبول مع انشراح الصدر يَقُولُونَ حال من الملائكة ، وجوز أن يكون «الذين» مبتدأ خبره هذه الجملة أي قائلين أو قائلون لهم :
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يحيقكم بعد مكروه.
قال القرطبي : وروى نحوه البيهقي عن محمد بن كعب القرظي إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه السلام فقال : السلام عليك يا ولي اللّه إن اللّه تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 374
أعدها اللّه تعالى لكم ووعدكم إياها وكأنها إنما لم توصف لشهرة أمرها.
وفي إرشاد العقل السليم اللام للعهد أي جَنَّاتُ عَدْنٍ إلخ ولذلك جردت عن النعت وهو كما ترى ، والمراد دخولهم فيها بعد البعث بناء على أن المتبادر الدخول بالأرواح والأبدان والمقصود من الأمر بذلك قبل مجيء وقته البشارة بالجنة على أتم وجه ويجوز أن يراد الدخول حين التوفي بناء على حمل الدخول على الدخول بالأرواح كما يشير إليه
خبر «القبر روضة من رياض الجنة»
وكون البشارة بذلك دون البشارة بدخول الجنة على المعنى الأول لا يمنع عن ذلك على أن لقائل أن يقول : إن البشارة بدخول الجنة بالأرواح متضمنة للبشارة بدخولها بالأرواح والأبدان عند وقته ، وكون هذا القول كسابقه عند قبض الأرواح هو المروي عن ابن مسعود ، وجماعة من المفسرين ، وقال مقاتل والحسن : إن ذلك يوم القيامة ، والمراد من التوفي وفاة الحشر أعني تسليم أجسادهم وإيصالها إلى موقف الحشر من توفي الشيء إذا أخذه وافيا ، وجوز حمل التوفي على المعنى المتعارف مع كون القول يوم القيامة إما بجعل الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يقولون مبتدأ وخبرا أو بجعل يقولون حالا مقدرة من الملائكة والَّذِينَ على حاله أولا وحال ذلك لا يخفى بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة بالذي كنتم تعملونه من ذلك ، والباء للسببية العادية ، وهي فيما
في الصحيحين من قوله صلى اللّه عليه وسلم : «لن يدخل الجنة أحدكم بعمله» الحديث
للسببية الحقيقية فلا تعارض بين الآية والحديث وبعضهم جعل الباء للمقابلة دفعا للتعارض لْ يَنْظُرُونَ
أي ما ينتظر كفار مكة المار ذكرهم لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم كما روي عن قتادة ومجاهد ، وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش «يأتيهم» بالياء آخر الحروف وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
أي القيامة كما روي عمن تقدم أيضا ، وقال بعضهم : المراد به العذاب الدنيوي دونها لا لأن انتظارها يجامع انتظار إتيان الملائكة فلا يلائمه العطف بأو لا لأنها ليست نصا في العناد إذ يجوز أن يعتبر منع الخلو ويراد بإيرادها كفاية كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى : لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
فأصابهم الآية صريح في أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوي وفيه منع ظاهر ، ويؤيد إرادة الأول التعبير - بيأتي - دون يأتيهم ، وقيل : المراد بإتيان الملائكة إتيانهم للشهادة بصدق النبي صلى اللّه عليه وسلم أي ما ينتظرون في تصديقك إلا أن تنزل الملائكة تشهد بنبوتك فهو كقوله تعالى : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام : 8] والجمهور على الأول ، وجعلوا منتظرين لذلك مجازا لأنه يلحقهم لحوق الأمر المنتظر كما قيل.
واختير أن ذلك لمباشرتهم أسباب العذاب الموجبة له المؤدية إليه فكأنهم يقصدون إيتاءه ويتصدون لوروده ، ولا يخفى ما في التعبير بالرب وإضافته إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم من اللطف به عليه الصلاة والسلام ، وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى وجه ربط الآيات ذلِكَ
أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب عَلَ الَّذِينَ
خلوانْ قَبْلِهِمْ
من الأمم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
إذ أصابهم جزاء فعلهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بالاستمرار على فعل القبائح المؤدي لذلك ، قيل : وكان الظاهر أن يقال : ولكن كانوا هم الظالمين في سورة الزخرف لكنه أوثر ما عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آئلة إليهم وعاقبته مقصورة عليهم مع استلزام اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي أجزية أعمالهم السيئة على طريقة إطلاق اسم السبب على المسبب إيذانا بفظاعته ، وقيل : الكلام على حذف المضاف.
وتعقب بأنه يوهم أن لهم أعمالا غير سيئة والتزم ومثل ذلك بنحو صلة الأرحام ، ولا يخفى أن المعنى ليس على التخصيص ، والداعي إلى ارتكاب أحد الأمرين أن الكلام بظاهره يدل على أن ما أصابهم سيئة ، وليس بها.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 375
وقد يستغنى عن ارتكاب ذلك لما ذكر بأن ما يدل عليه الظاهر من باب المشاكلة كما في قوله تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : 4] كما في الكشاف وَحاقَ بِهِمْ أي أحاط بهم ، وأصل معنى الحيق الإحاطة مطلقا ثم خص في الاستعمال بإحاطة الشر ، فلا يقال : أحاطت به النعمة بل النقمة. وهذا أبلغ وأفظع من أصابهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي من العذاب كما قيل على أن ما موصولة عبارة عن العذاب ، وليس في الكلام حذف ولا ارتكاب مجاز على نحو ما مر آنفا ، وقيل : ما مصدرية وضمير بِهِ للرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يذكر ، والمراد أحاط بهم جزاء استهزائهم بالرسول صلى اللّه عليه وسلم أو موصولة عامة للرسول عليه الصلاة والسلام وغيره وضمير بِهِ عائد عليها والمعنى على الجزاء أيضا ، ولا يخفى ما فيه ، وايا ما كان ف بِهِ متعلق - بيستهزئون - قدم للقاصلة ، هذا ثم إن قوله تعالى : لْ يَنْظُرُونَ
إلخ على ما في الكشف رجوع إلى عد ما هم فيه من العناد والاستشراء في الفساد وأنهم لا يقلعون عن ذلك كأسلافهم الغابرين إلى يوم التناد ، وما وقع من أحوال أضدادهم في البين كان لزيادة التحسير والتبكيت والتخسير ، وفيه دلالة على أن الحجة قد تمت وأنه صلى اللّه عليه وسلم أدى ما عليه من البلاغ المبين ، وقوله تعالى : فَأَصابَهُمْ عطف على عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مترتب إذ المعنى كذلك التكذيب والشرك فعل أسلافهم وأصابهم ما أصابهم ، وفيه تحذير مما فعله هؤلاء وتذكير لقوله سبحانه : قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل : 26] ولا يخفى حسن الترتب على ذلك لأن التكذيب والشرك تسببا لإصابة السيئات لمن قبلهم ، وقوله سبحانه : ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
اعتراض واقع حاق موقعه ، وجعل ذلك راجعا إلى المفهوم من قوله تعالى : لْ يَنْظُرُونَ
أي كذلك كان من قبلهم مكذبين لزمتهم الحجة منتظرين فأصابهم ما كانوا منتظرين سديد حسن إلا أن معتمد الكلام الأول وهو أقرب مأخذا ، ودلالةعَلَ
عليه أظهر ، فهذه فذلكة ضمنت محصل ما قابلوا به تلك النعم والبصائر وأدمج فيها تسليته صلى اللّه عليه وسلم والبشرى بقلب الدائرة على من تربص به وبأصحابه عليه الصلاة والسلام الدوائر وختمت بما يدل على أنهم انقطعوا فاحتجوا بآخر ما يحتج به المحجوج يتقلب عليه فلا يبصر إلا وهو مثلوج مشجوج وهو ما تضمنه قوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فهو من تتمة قوله سبحانه : لْ يَنْظُرُونَ
ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة [الأنعام : 148] في قوله سبحانه : سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وكذلك في سورة الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة وقالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت : 14] ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه : قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام : 149] وفي إرشاد العقل السليم أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد بالموصول ، والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر ، والمعنى لو شاء اللّه تعالى عدم عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك نَحْنُ وَلا آباؤُنا الذين نهتدي بهم في ديننا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من السوائب والبحائر وغيرها - فمن - الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق وكذا الثالثة ونَحْنُ لتأكيد ضمير عَبَدْنا لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسنا له ، وتقدير مفعول شاءَ عدم العبادة مما صرح به بعضهم ، وكان الظاهر أن يضم إليه عدم التحريم. واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج إلى المشيئة كما ينبئ عنه
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «ما شاء اللّه تعالى كان وما لم يشأ لم يكن»
حيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ما شاء اللّه تعالى كان وما شاء عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود ، وهو معنى قولهم : علة العدم عدم علة الوجود ، فالأولى أن يقدر المفعول وجوديا كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك سهل.
وفي تخصيص الإشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه ، وغرضهم من ذلك كما قال بعض

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 376
المحققين تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا ، فإن حاصله أن ما شاء اللّه تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئا ونحلل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء من ذلك وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك بل شاء ما نحن عليه وتحقق أن ما تقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم ورد اللّه تعالى عليهم بقوله سبحانه عز وجل : كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل الشنيع فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم أي أشركوا باللّه تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ الذين أمروا بتبليغ رسالات اللّه تعالى وعزائم أمره ونهيه. إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ليست وظيفتهم إلا الإبلاغ للرسالة الموضح طريق الحق والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت : 69].
وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي يدور عليها فلك التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقيقة الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئة اللّه تعالى بذلك ، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين والفاء على هذا للتعليل كأنه قيل كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسل عليهم السلام ليس شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي لا تحقيق مضمونها قسرا والجاء اه ، وكأني بك لا تبريه من تكلف.
وهو متضمن للرد على الزمخشري فقد سلك في هذا المقام الغلو في المقال وعدل عن سنن الهدى إلى مهواة الضلال فذكر أن هؤلاء المشركين فعلوا ما فعلوا من القبائح ثم نسبوا فعلهم إلى اللّه تعالى وقالوا : لَوْ شاءَ اللَّهُ إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوه على ربهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن اللّه سبحانه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة اللّه تعالى من أفعال العباد وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم ، واللّه تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال ، ولعمري أنه فسر الآيات على وفق هواه وهي عليه لا له لو تدبر ما فيها وحواه ، وقد رد عليه غير واحد من المحققين وأجلة المدققين وبينوا أن الآية بمعزل عن أن تكون دليلا لأهل الاعتزال كما أن الشرطية لا تنتج مطلوب أولئك الضلال ، وقد تقدم نبذة من الكلام في ذلك ، ثم إن كون غرض المشركين من الشرطية تكذيب الرسل عليهم السلام هو أحد احتمالين في ذلك ، قال المدقق في الكشف في نظير الآية : إن قولهم هذا إما لدعوى مشروعية ما هم عليه ردا للرسل عليهم السلام أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون ، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء اللّه تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء اللّه تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك ، ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية ، وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى ، والثاني على ما فيه حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك ومثله في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه ، وذكر أن معنى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 377
يدحض بباطله الحق الأبلج إذ بعد ذلك التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدي نفعا مجادلة المعاندين ، وجوز أن يكون قولهم هذا منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء اللّه تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو إنكارا لقبح ما أنكر عليهم من الشرك والتحريم محتجين بأن ذلك لو كان مستقبحا لما شاء اللّه تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه ملجأ إليه ، وأشير إلى جواب الشبهة الأولى بقوله سبحانه : فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره كأنه قيل : إن فائدة البعثة البلاغ الموضح للحق فإن ما شاء اللّه تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا يمتنع مطلقا كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب أخر قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنها تؤدي إلى هدى من شاء اللّه تعالى على سبيل التوسط ، وأما الشبهة الثانية فقد أشير إلى جوابها في قوله تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الخالية رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هو كل ما يدعو إلى الضلالة ، وقال الحسن : هو الشيطان ، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعو إليه.
فَمِنْهُمْ أي من أولئك الأمم مَنْ هَدَى اللَّهُ إلى الحق من عبادته أو اجتناب الطاغوت بأن وفقهم لذلك وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ثبتت ووجبت إذ لم يوفقهم ولم يرد هدايتهم ، ووجه الإشارة أن تحقق الضلال وثباته من حيث إنه وقع قسيما للهداية التي هي بإرادته تعالى ومشيئته كان هو أيضا كذلك.
وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلا يجوز اتصاف اللّه سبحانه بها فظاهر الفساد لأن القبيح كسب القبيح والاتصاف به لا إرادته وخلقه على ما تقرر في الكلام. وأنت تعلم أن كلتا الإشارتين في غاية الخفاء ، ولينظر أي حاجة إلى الحصر وما المراد به على جعل فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره مشيرا إلى جواب الشبهة الأولى.
وقال الإمام : إن المشركين أرادوا من قولهم ذلك أنه لما كان الكل من اللّه تعالى كان بعثه الأنبياء عليهم السلام عبثا فنقول : هذا اعتراض على اللّه تعالى وجار مجرى طلب العلة في أحكامه تعالى وأفعاله وذلك باطل إذ للّه سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذاك. والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله سبحانه : وَلَقَدْ بَعَثْنا إلى آخره حيث بين فيه أن سنته سبحانه في عباده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادته ونهيهم عن عبادة غيره ، وأفاد أنه تعالى وإن أمر الكل ونهاهم إلا أنه جل جلاله هدى البعض وأضل البعض ، ولا شك أنه إنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين ، فكان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن اللّه المتعال ، فثبت أن اللّه تعالى إنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك ، وهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب ، ومعنى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره أنه تعالى أمر الرسل عليهم السلام بالتبليغ فهو الواجب عليهم ، وأما أن الإيمان هل يحصل أو لا يحصل فذاك لا تعلق للرسل به ولكن اللّه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه اه وهو كما ترى.
ونقل الواحدي في الوسيط عن الزجاج أنهم قالوا ذلك على الهزو ولم يرتضه كثير من المحققين ، وذكر بعضهم أن حمله على ذاك لا يلائم الجواب. نعم قال في الكشف عند قوله تعالى : وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ [الزخرف : 20] إنهم دفعوا قول الرسل عليهم السلام بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة وهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم إلى العباد وشاء جحودهم وشاء دخولهم النار ، فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة ، وقال في موضع آخر عند نظير الآية أيضا : إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 378
العلم ، وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات اللّه تعالى فرع العلم بذاته والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون ، وأطال الكلام في هذا المقام في سورة الزخرف.
وذكر أن في كلامهم تعجيز الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا أمر به ولا ينهى إلا وهو لا يريده ، وهذا تعجيز من وجهين إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم القدرية اه ويجوز أن يقال : إن المشركين إنما قالوا ذلك إلزاما بزعمهم حيث سمعوا من المرسلين وأتباعهم أن ما شاء اللّه تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإلا فهم أجهل الخلق بربهم جل شأنه وصفاته إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان : 24] ومرادهم إسكات المرسلين وقطعهم عن دعوتهم إلى ما يخالف ما هم عليه والاستراحة عن معارضتهم فكأنهم قالوا : إنكم تقولون ما شاء اللّه تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فما نحن عليه مما شاءه اللّه تعالى وما تدعونا إليه مما لم يشأه وإلا لكان ، واللائق بكم عدم التعرض لخلاف مشيئة اللّه تعالى ، فإن وظيفة الرسول الجري على إرادة المرسل لأن الإرسال إنما هو لتنفيذ تلك الإرادة وتحصيل المراد بها ، وهذا جهل منهم بحقيقة الأمر وكيفية تعلق المشيئة وفائدة البعثة ، وذلك لأن مشيئته تعالى إنما تتعلق وفق علمه وعلمه إنما يتعلق وفق ما عليه الشيء في نفسه ، فاللّه تعالى ما شاء شركهم مثلا إلا بعد أن علم ذلك وما علمه إلا وفق ما هو عليه في نفس الأمر فهم مشركون في الأزل ونفس الأمر إلا أنه سبحانه حين أبرزهم على وفق ما علم فيهم لو تركهم وحالهم كان لهم الحجة عليه سبحانه إذا عذبهم يوم القيامة إذ يقولون حينئذ : ما جاءنا من نذير فأرسل جل شأنه الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل فليس على الرسل إلا تبليغ الأوامر والنواهي لتقوم الحجة البالغة للّه تعالى ، فالتبليغ مراد اللّه تعالى من الرسل عليهم السلام لإقامة حجته تعالى على خلقه به ، وليس مراده من خلقه إلا ما هم عليه في نفس الأمر خيرا كان أو شرا. وفي الخبر يقول اللّه تعالى : «يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد اللّه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»
ولا منافاة بين الأمر بشيء وإرادة غيره منه تعالى لأن الأمر بذلك حسبما يليق بجلاله وجماله ، والإرادة حسبما يستدعيه في الآخرة الشيء في نفسه ، وقد قرر الجماعة انفكاك الأمر عن الإرادة في الشاهد أيضا وذكر بعض الحنابلة الانفكاك أيضا لكن عن الإرادة التكوينية لا مطلقا ، والبحث مفصل في موضعه ، وإذا علم ذلك فاعلم أن قوله سبحانه : فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ يتضمن الإشارة إلى ردهم كأنه قيل : ما أشرتم إليه من أن اللائق بالرسل ترك الدعوة إلى خلاف ما شاء اللّه تعالى منا والجري على وفق المشيئة والسكوت عنا باطل لأن وظيفتهم والواجب عليهم هو التبليغ وهو مراد اللّه تعالى منهم لتقوم به حجة اللّه تعالى عليكم لا السكوت وترك الدعوة ، وفي قوله سبحانه : وَلَقَدْ بَعَثْنا إلخ إشارة يتفطن لها من له قلب إلى أن المشيئة حسب الاستعداد الذي عليه الشخص في نفس الأمر فتأمل فإن هذا الوجه لا يخلو عن بعد ودغدغة. والذي ذكره القاضي في قوله تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنا إلخ أنه بين فيه أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدي من أراد سبحانه اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه.
وفي إرشاد العقل السليم أنه تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه فلك الثواب والعقاب من الأفعال الاختيارية ، والمعنى أنا بعثنا في كل أمة رسولا يأمرهم بعبادة اللّه تعالى واجتناب الطاغوت فأمروهم فتفرقوا فمنهم من هداه اللّه تعالى بعد صرف قدرته واختياره الجزئي إلى تحصيل ما هدى إليه ومنهم من ثبت على الضلالة لعناده وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق ، والفاء في فَمِنْهُمْ نصيحة كما أشير إليه ، وكان الظاهر في القسم الثاني - ومنهم من أضل اللّه - إلا أنه غير الأسلوب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 379
إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى : وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء : 80] وأَنِ يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا اللّه فَسِيرُوا أيها المشركون المكذبون القائلون : لو شاء اللّه ما عبدنا من دونه فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبرون ، وترتب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأن ذلك غني عن البيان ، وفي عطف الأمر الثاني بالفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المنقذين من الضلال إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والحرص فرط الإرادة.
وقرأ النخعي «وإن» بزيادة واو وهو والحسن وأبو حيوة «تحرص» بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة ، والجمهور تَحْرِصْ بكسر الراء مضارع حرص بفتحها وهي لغة الحجاز فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ جواب للشرط على معنى فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع حرصك شيئا فإن اللّه تعالى لا يهدي من يضل ، والمراد بالموصول قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإشعار بعلة الحكم ، ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولا أوليا ، ومعنى الآية على ما قيل : إنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولا بد من نحو هذا التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل ، ومَنْ على هذا مفعول يَهْدِي كما هو الظاهر ، وقيل : إن يهدي مضارع هدى بمعنى اهتدى فهو لازم ومَنْ فاعله وضمير الفاعل في يُضِلُّ للّه تعالى والعائد محذوف أي من يضله ، وقد حكي مجيء هدى بمعنى اهتدى الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة والحسن والأعرج ومجاهد وابن سيرين والعطاردي ومزاحم الخراساني وغيرهم «لا يهدى» بالبناء للمفعول - فمن - نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر ، وهذه القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله اللّه تعالى لا يهديه كل أحد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن اللّه تعالى لا يهديه فقط وإن كان من لم يهد اللّه فلا هادي له ، وهذا - على ما قيل - إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا قلنا به فهما بمعنى إلا أن هذه صريحة في عموم الفاعل بخلاف تلك مع أن المتعدي هو الأكثر. وقرأت فرقة منهم عبد اللّه «لا يهدّي» بفتح الياء وكسر الهاء والدال وتشديدها ، وأصله يهتدي فأدغم كقولك في يختصم يخصم.
وقرأت فرقة أخرى «لا يهدي» بضم الياء وكسر الدال ، قال ابن عطية : وهي ضعيفة ، وتعقبه في البحر بأنه إذا ثبت هدى لازما بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية ، فالمعنى لا يجعل مهتديا من أضله.
وأجيب بأنه يحتمل أن وجه الضعف عنده عدم اشتهار أهدى المزيد. وقرئ «يضلّ» بفتح الياء ، وفي مصحف أبي «فإن اللّه لا هادي لمن أضل» وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذاب عنهم وهو تتميم بإبطال ظن أن آلهتهم تنفعهم شيئا وضمير لهم عائد على معنى من وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تفيد انقسام الآحاد على الآحاد لا لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم.
ثم إن أول هذه الآيات ربما يوهم نصرة مذهب الاعتزال لكن آخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب أهل الحق ، ولعل الأمر غني عن البيان وللّه تعالى الحمد على ذلك وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث ، وهو على ما في الكشاف وغيره عطف على قوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قيل : ولتضمن الأول إنكار التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل حسن العطف بينهما ، والضمير لأهل مكة أيضا أي حلفوا باللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مصدر منصوب على الحال أي جاهدين في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 380
أيمانهم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه يستحيل إعادة المعدوم ، وقد ذهب إلى هذه الاستحالة الفلاسفة ولم يوافقهم في دعوى ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية وأبو الحسين البصري من المعتزلة ، واحتجوا عليها بما رده المحققون ، وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات عليه ، فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي علي بن سينا أنه قال : كل من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والتعصب شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة وفي قسم هؤلاء الكفار على عدم البعث إشارة كما قال في التفسير إلى أنهم يدعون العلم الضروري بذلك.
وأنت تعلم أنه إذا جوز إعادة المعدوم بعينه كما هو رأي جمهور المتكلمين فلا إشكال في لبعث أصلا. وأما إن قلنا بعدم جواز الإعادة لقيام القاطع على ذلك فقد قيل : نلتزم القول بعدم انعدام شيء من الأبدان حتى يلزم في البعث إعادة المعدوم وإنما عرض لها التفرق ويعرض لها في البعث الاجتماع فلا إعادة لمعدوم ، وفيه بحث وإن أيد بقصة إبراهيم عليه السلام ومن هنا قال المولى ميرزاجان : لا مخلص إلا بأن يقال ببقاء النفس المجردة «1» وإن البدن المبعوث مثل البدن الذي كان في الدنيا وليس عينه بالشخص ولا ينافي هذا قانون العدالة إذ الفاعل هو النفس ليس إلا والبدن بمنزلة السكين بالنسبة إلى القطع فكما أن الأثر المترتب على القطع من المدح والذم والثواب والعقاب إنما هو للقاطع لا للسكين كذلك الأثر المترتب على أفعال الإنسان إنما هو للنفس وهي المتلذذة والمتألمة تلذذا أو تألما عقليا أو حسيا فليس يلزم خلاف العدالة ، وأما الظواهر الدالة على عود ذلك الشخص بعينه فمؤولة لفرض القاطع الدال على الامتناع ، وذلك بأن يقال : المراد إعادة مادته مع صورة كانت أشبه الصور إلى الصورة الأولى فتدبر وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في سورة يس تحقيق هذا المطلب على أتم وجه.
ونقل عن ابن الجوزي وأبي العالية أن هذه الآية نزلت لأن رجلا من المسلمين تقاضى دينا على رجل من المشركين فكان فيما تكلم به المسلم والذي أرجوه بعد الموت فقال المشرك : وإنك لتبعث بعد الموت وأقسم باللّه لا يبعث اللّه من يموت فقص اللّه تعالى ذلك ورده أبلغ رد بقوله سبحانه : بَلى لإيجاب النفي أي بلى يبعثهم وَعْداً مصدر مؤكد لما دل عليه بَلى إذ لا معنى له سوى الوعد بالبعث والإخبار عنه ، ويسمى نحو هذا مؤكدا لنفسه وجوز أن يكون مصدرا لمحذوف أي وعد ذلك وعدا عَلَيْهِ صفة وَعْداً والمراد وعدا ثابتا عليه إنجازه وإلا فنفس الوعد ليس ثابتا عليه ، وثبوت الإنجاز لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث من مقتضيات الحكمة.
حَقًّا صفة أخرى - لوعدا - وهي مؤكدة إن كان بمعنى ثابتا متحققا ومؤسسة إن كان بمعنى غير باطل أو نصب على المصدرية بمحذوف أي حق حقا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لجهلهم بشؤون اللّه تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه وعلى أن البعث مما تقتضيه الحكمة لا يَعْلَمُونَ أنه تعالى يبعثهم ، ونعى عليهم عدم العلم بالبعث دون العلم بعدمه الذي يزعمونه على ما يقتضيه ظاهر قسمهم ليعلم منه نعي ذاك بالطريق «2».
وجوز أن يكون للإيذان بأن ما عندهم بمعزل عن أن يسمى علما بل هو توهم صرف وجهل محض ، وتقدير مفعول يَعْلَمُونَ ما علمت هو الأنسب بالسياق ، وجوز أن يكون التقدير لا يعلمون أنه وعد عليه حق فيكذبونه
___________
(1) بناء على تسليم وجود النفس المجردة وإلا فيكفي بقاء مادة البدن تدبر اه منه. [.....]
(2) قوله بالطريق هكذا بخطه ولعله بالطريق الأولى.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 381
قائلين : لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون : 83 ، النمل : 68] لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلق بما دل عليه بَلى وهو يبعثهم ، والضمير لمن يموت الشامل للمؤمنين والكافرين إذ التبيين يكون للمؤمنين أيضا فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين أي يبعثهم ليبين لهم بذلك وبما يحصل لهم بمشاهدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورها الحقيقية الشأن الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ «1» من الحق الشامل لجميع ما خالفوه مما جاء به الرسل المبعوثون فيهم ويدخل فيه البعث دخولا أوليا ، والتعبير عن ذلك بالموصول للدلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلة للتبيين ، وتقديم الجار والمجرور لرعاية رؤوس الآي وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه تعالى بالإشراك وإنكار البعث الجسماني وتكذيب الرسل عليهم السلام أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في كل ما يقولونه ويدخل فيه قولهم : لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ دخولا أوليا.
ونقل في البحر القول بتعلق لِيُبَيِّنَ إلخ بقوله تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه وأنهم كانوا على الضلالة قبل بعثه مفترين على اللّه سبحانه الكذب ولا يخفى بعد ذلك وتبادر ما تقدم ، وجعل التبيين والعلم المذكورين غاية للبعث كما في إرشاد العقل السليم باعتبار وروده في معرض الرد على المخالفين وابطال مقالة المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويأخذ بهم إلى الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقق البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان أزجر عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلي لأصلين رغما لأنفك وإظهارا لكذبك ، ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع المغيا بها وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذي هو الغاية القصوى للخلق المغيا بمعرفته عز وجل وعبادته ، وإنما لم يذكر ذلك لتكرر ذكره في مواضع وشهرته ، وفيه أنه إنما لم يدرج على الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال مثلا : وإن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما يتعلق به التبيين الذي هو عبارة عن إظهار ما كان مبهما قبل ذلك بأن يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون ، وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل ، ويستفاد من تحقيقه في نظير ما هنا أنه لما كان مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وكان معنى تبيين الصدق إظهار ذلك المدلول وقطع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له عقليا ناسب أن يعلق التبيين بالذي فيه يختلفون من الحق ، وليس بين الصدق والحق كثير فرق ، ولما كان الكذب أمرا حادثا لا دلالة الخبر عليه حتى يتعلق به التبيين والإظهار بل هو نقيض مدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا ناسب أن يعلق العلم بأنهم كانوا
كاذبين فليتدبر.
قيل : ولكون العلم بما ذكر من روادف ذلك التبيين قيل وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا دون وليجعل الذين كفروا عالمين ، وخص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الذين كفروا كانوا كاذبين تنبيها على أن الأهم علمهم وقيل :
لم يقل ذلك لأن علم المؤمنين بما ذكر حاصل قبل ذلك أيضا. وتعقب بأن حصول مرتبة من مراتب العلم لا يأبى حصول مرتبة أعلا منها فلم لم يقل ذلك إيذانا بحصول هذه المرتبة من العلم لهم حينئذ ، ولعل فيه غفلة عن مراد القائل ، وجوز أن يراد من علم الكفرة بأنهم كانوا كاذبين تعذيبهم على كذبهم فكأنه قيل : ليظهر للمؤمنين والكافرين الحق وليعذب الكافرون على كذبهم فيما كانوا يقولونه من أنه تعالى لا يبعث من يموت ونحوه ، وهذا كما يقال للجاني : غدا تعلم جنايتك ، وحينئذ وجه تخصيص الاسناد بهم ظاهر ، وهو كما ترى. وزعم بعض الشيعة أن الآية في
___________
(1) في الأصل «فيه يختلفون» وبني عليه قوله الآتي وتقديم الجار والمجرور لرعاية رؤوس الآي ولكن التلاوة (يختلفون فيه) اه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 382
علي كرم اللّه تعالى وجهه والأئمة من بنيه رضي اللّه تعالى عنهم وأنها من أدلة الرجعة التي قال بها أكثرهم ، وهو زعم باطل ، والقول بالرجعة محض سخافة لا يكاد يقول بها من يؤمن بالبعث ، وقد بين ذلك على أتم وجه في التحفة الاثني عشرية ، ولعل النوبة تفضي إن شاء اللّه تعالى إلى بيانه ، وما
أخرجه ابن مردويه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه إنه قال : إن قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ الآية نزلت في غير مسلم الصحة ،
وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على ما يزعمونه من الرجعة بأن يقال إنه رضي اللّه تعالى عنه أراد أنها نزلت بسببي ، ويكون رضي اللّه تعالى عنه هو الرجل الذي تقاضى دينا له على رجل من المشركين فقال ما قال كما مر عن ابن الجوزي وأبي العالية ، وأخرجه عن أبي العالية عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واستنبط الشيخ بهاء الدين من الآية دليلا على أن الكذب مخالفة الواقع ولا عبرة بالاعتقاد وهو ظاهر فافهم.
إِنَّما قَوْلُنا استئناف لبيان التكوين على الإطلاق ابتداء أو إعادة بعد التنبيه على إنية البعث ومنه يعلم كيفيته - فما - كافة وقَوْلُنا مبتدأ ، وقوله تعالى : لِشَيْءٍ متعلق به واللام للتبليغ كما في قولك : قلت لزيد قم فقام ، وقال الزجاج : هي لام السبب أي لأجل إيجاد شيء ، وتعقب بأنه ليس بواضح والمتبادر من الشيء هنا المعدوم وهو أحد إطلاقاته ، وقد برهن الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة على أن إطلاق الشيء على المعدوم حقيقة كإطلاقه على الموجود وألف في ذلك رسالة جليلة سماها جلاء الفهوم ، ويعلم منها أن القول بذلك الإطلاق ليس خاصا بالمعتزلة كما هو المشهور ، ولهذا أول هنا من لم يقف على التحقيق من الجماعة فقال : إن التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئا قبل ذلك.
وفي البحر نقلا عن ابن عطية أن في قوله تعالى : لِشَيْءٍ وجهين : أحدهما أنه لما كان وجوده حتما جاز أن يسمى شيئا وهو في حال العدم ، والثاني أن ذلك تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها وأن ما كان منها موجودا كان مرادا وقيل له كن فكان فصار مثالا لما يتأخر من الأمور بما تقدم ، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئا اه ، وفيه من الخفاء ما فيه ، وأيّا ما كان فالتنوين للتنكير أي لشيء أي شيء كان مما عز وهان إِذا أَرَدْناهُ ظرف - لقولنا - أي وقت تعلق إرادتنا بإيجاده أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ في تأويل مصدر خبر للمبتدأ ، واللام في لَهُ كاللام في لِشَيْءٍ فَيَكُونُ إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون ، وإما جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون ، وقيل : إنه بعد تقدير هو تكون الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أي ما أردناه فهو يكون ، وكان في الموضعين تامة ، والذي ذهب إليه أكثر المحققين وذكره مقتصرا عليه شيخ الإسلام أنه ليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال : إنه يلزم أحد المحالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل أو يقال : إِنَّما مستدعية انحصار قوله تعالى في قوله تعالى : كُنْ وليس يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله سبحانه : إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس : 82] فإن المراد بالأمر الشأن الشامل للقول والفعل ومن ضرورة انحصاره في كلمة كن انحصار أسبابه على الإطلاق في ذلك بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات حسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع ، فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون ، ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد بالقول المطلق.
وقيل : إن الكلام على حقيقته وبذلك جرت العادة الإلهية ونسب إلى السلف ، وأجيب لهم عن حديث لزوم أحد المحذورين تارة بأن الخطاب تكويني ولا ضير في توجهه إلى المعدوم ، وتعقب بأنه قول بالتمثيل وتارة بأن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 383
المعدوم ثابت في العلم ويكفي في صحة خطابه ذلك حتى أن بعضهم قال بأنه مرئي له تعالى في حال عدمه ، وتعقب بما يطول ، وأما حديث الانحصار فقالوا إن الأمر فيه هين ، وقد مر بعض الكلام في هذا المقام.
واحتج بعض أهل السنة بالآية بناء على الحقيقة على قدم القرآن قال : إنها تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فلو كان كن حادثا لزم التسلسل وهو محال فيكون قديما ومتى قيل بقدم البعض فليقل بقدم الكل ، وتعقب بأن كلمة إذا لا تفيد التكرار ولذا إذا قال لامرأته : إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرات لا تطلق إلا طلقة واحدة فلا يلزم أن يكون كل محدث محدثا بكلمة كن فلا يلزم التسلسل على أن القول بقدم كُنْ ضروري البطلان لما فيه من ترتب الحروف ، وكذا يقال في سائر الكلام اللفظي.
وقال الإمام : إن الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه : الأول أن قوله تعالى : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ يقتضي كون القول واقعا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث ، والثاني أنه علق القول بكلمة إِذا ولا شك أنها تدخل للاستقبال ، والثالث أن قوله تعالى : أَنْ نَقُولَ لا خلاف في أنه ينبئ عن الاستقبال ، والرابع أن قوله سبحانه كُنْ فَيَكُونُ كن فيه مقدمة على حدوث المكون ولو بزمان واحد والمقدم على المحدث كذلك محدث فلا بد من القول بحدوث الكلام. نعم إنها تشعر بحدوث الكلام اللفظي الذي يقول به الحنابلة ومن وافقهم ولا تشعر بحدوث الكلام النفسي. والأشاعرة في المشهور عنهم لا يدعون إلا قدم النفسي وينكرون قدم اللفظي ، وهو بحث أطالوا الكلام فيه فليراجع. وما ذكر من دلالة إِذا ونَقُولَ على الاستقبال هو ما ذكره غير واحد ، لكن نقل أبو حيان عن ابن عطية أنه قال : ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد لا إلى الإرادة ، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به لأن ذينك قديمان فمن أجل المراد عبر بإذا ونقول. وأنت تعلم أنه لا كلام في قدم الإرادة لكنهم اختلفوا في أنها هل لها تعلق حادث أم لا فقال بعضهم بالأول ، وقال آخرون : ليس لها إلا تعلق أزلي لكن بوجود الممكنات فيما لا يزال كل في وقته المقدر له. فاللّه تعالى تعلقت إرادته في الأزل بوجود زيد مثلا في يوم كذا وبوجود عمرو في يوم كذا وهكذا ، ولا حاجة إلى تعلق حادث في ذلك اليوم ، وأما الأمر فالنفسي منه قديم واللفظي حادث عن القائلين بحدوث الكلام اللفظي.
وأما الزمان فكثيرا ما لا يلاحظ في الأفعال المستندة إليه تعالى ، واعتبر كان اللّه تعالى ولا شيء معه وخلق اللّه تعالى العالم ونحو ذلك ولا أرى هذا الحكم مخصوصا فيما إذا فسر الزمان بما ذهب إليه الفلاسفة بل يطرد في ذلك وفيما إذا فسر بما ذهب إليه المتكلمون فتأمل واللّه تعالى الهادي. وجعل غير واحد الآية لبيان إمكان البعث ، وتقريره أن تكوين اللّه تعالى بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم التسلسل ، وكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده وظاهره أنه قول بإعادة المعدوم ، وظواهر كثير من النصوص أن البعث بجمع الأجزاء المتفرقة ، وسيأتي تحقيق ذلك كما وعدناك آنفا إن شاء اللّه تعالى.
وقرأ ابن عامر والكسائي هاهنا وفي [يس : 82] فَيَكُونُ بالنصب ، وخرجه الزجاج على العطف على نَقُولَ أي فإن يكون أو على أن يكون جواب كُنْ ، وقد رد هذا الرضي وغيره بأن النصب في جواب الأمر مشروط بسببية مصدر الأول للثاني وهو لا يمكن هنا لاتحادهما فلا يستقيم ذاك ، ووجه بأن مراده أنه نصب لأنه مشابه لجواب الأمر لمجيئه بعده وليس بجواب له من حيث المعنى لأنه لا معنى لقولك : قلت لزيد اضرب تضرب.
وتعقب بأنه لا يخفى ضعفه وأنه يقتضي إلغاء الشرط المذكور ، ثم قيل : والظاهر أن يوجه بأنه إذا صدر مثله عن البليغ على قصد التمثيل لسرعة التأثير بسرعة مبادرة المأمور إلى الامتثال يكون المعنى أن أقل لك اضرب تسرع إلى

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 384
الامتثال فيكون المصدر المسبب عنه مسبوكا من الهيئة لا من المادة ، ومصدر الثاني من المادة أو محصل المعنى وبه يحصل التغاير بين المصدرين ويتضح السببية والمسببية ، وقال بعضهم : إن مراد من قال إن النصب للمشابهة لجواب الأمر أن فَيَكُونُ كما في قراءة الرفع معطوف على ما ينسحب عليه الكلام أو هو بتقدير فهو يكون خبر لمبتدأ محذوف إلا أنه نصب لهذه المشابهة ، وفيه ما فيه وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي في حقه - ففي - على ظاهرها ففيه إشارة إلى أنها هجرة متمكنة تمكن الظرف في مظروفه فهي ظرفية مجازية أو لأجل رضاه - ففي - للتعليل كما في
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «إن امرأة دخلت النار في هرة»
والمهاجرة في الأصل مصارمة الغير ومتاركته واستعملت في الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان أي والذين هجروا أوطانهم وتركوها في اللّه تعالى وخرجوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي من بعد ظلم الكفار إياهم. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : هم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ظلمهم أهل مكة فخرجوا من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ثم بوأهم اللّه تعالى المدينة بعد ذلك حسبما وعد سبحانه بقوله جل وعلا : لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي مباءة حسنة ، وحاصله لننزلهم في الدنيا منزلا حسنا ، وعن الحسن دارا حسنة ، والتقدير الأول أظهر لدلالة الفعل عليه ، والثاني أوفق بقوله تعالى : تَبَوَّؤُا الدَّارَ [الحشر : 9] ، وأيّا ما كان - فحسنة - صفة محذوف منصوب نصب الظروف ، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا لنبوئنهم على معنى لنعطينهم منزلة حسنة ، وفسر ذلك بالغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة ، وقيل : هي ما بقي لهم في الدنيا من الثناء وما صار لأولادهم من الشرف ، وعن مجاهد أن التقدير معيشة حسنة أي رزقا حسنا وقيل :
التقدير عطية حسنة ، والمراد بالعطية المعطى ، ويفسر ذلك بكل شيء حسن ناله المهاجرون في الدنيا ، وقدر بعضهم تبوئة حسنة فهو صفة مصدر محذوف ، وقد تعتبر هذه التبوئة بحيث تشمل إعطاء كل شيء حسن صار للمهاجرين على نحو السابق. وفي البحر أن الظاهر أن انتصاب حَسَنَةً على المصدر على غير الصدر لأن معنى لنبوئنهم لنحسنن إليهم فحسنة بمعنى إحسانا ، وعلى جميع التقادير الَّذِينَ هاجَرُوا مبتدأ وجملة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ خبره.
وجوز أبو البقاء أن يكون الَّذِينَ منصوب بفعل محذوف يفسره المذكور ، والأول متعين عند أبي حيان قال :
وفيه دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدأ خلافا لثعلب ، والذي ذهب إليه بعض المحققين أن الخبر في مثل ذلك «إنما هو جملة الجواب المؤكدة بالقسم وهي إخبارية لا إنشائية ، واعترض على أبي البقاء في الوجه الثاني بأنه لا يجوز النصب بالفعل المحذوف إلا حيث يجوز للمذكور أن يعمل في ذلك المنصوب حتى يصح أن يكون مفسرا وما هنا ليس كذلك فإنه لا يجوز زيدا لأضربن فلا يجوز زيدا لأضربنه ، والجار والمجرور متعلق بما عنده ، وقيل :
بمحذوف وقع حالا من حَسَنَةً هذا.
ونقل عن ابن عباس أن الآية نزلت في صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام ، فأما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه قال : ربح البيع يا صهيب وقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : نعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه ، والجمهور على ما روي عن قتادة بل قال ابن عطية : إنه الصحيح ، ولم نجد لهذا الخبر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما سندا يعول عليه. وذكر العلامة الشيخ بها الدين السبكي في شرح التلخيص كغيره من المحدثين مثل الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحيم العراقي وولده الفقيه الحافظ أبي زرعة وغيرهما فيما نسب لعمر رضي اللّه تعالى عنه فيه من قوله : نعم العبد صهيب إلى آخره أنا لم نجده في شيء من كتب الحديث بعد الفحص الشديد ، وهذا يوقع شبهة قوية في صحة ذلك. نعم في الدر المنثور ، أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في هؤلاء الذين

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 385
هاجروا : هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ظلمهم ثم قال : وظلمهم الشرك ، لكن يقتضي هذا بظاهره أنه رضي اللّه تعالى عنه كان يقرأ «ظلموا» بالبناء للفاعل.
وأورد على الخبرين أنه قيل : إن السورة مكية إلا ثلاث آيات في آخرها فإنها مدنية ، ويلتزم إذا صح الخبر الذهاب إلى أن فيها مدنيا غير ذلك ، أو القول بأن المراد من المكي ما نزل في حق أهل مكة ، أو أن هذه الآية لم تنزل بالمدينة وأن المكي ما نزل بغيرها ، أو القول بأن ذلك من الإخبار بالشيء قبل وقوعه ، والكل كما ترى ، ولا يرد على القول الأول الذي عليه الجمهور أنه مخالف للقول المشهور في السورة لأن هجرة الحبشة كانت قبل هجرة المدينة فلا مانع من كون الآية مكية بالمعنى المشهور عليه ، لكن قيل : إن قتادة القائل بما تقدم قائل بأن هذه الآية إلى آخر السورة مدنية وهو آب عما ذكر ، ومن هنا حمل بعضهم ما نقل عنه سابقا على أن نزولها كان بين الهجرتين بالمدينة ، ولا يمكن الجمع بين هذه الأقوال أصلا ، والذي ينبغي أن يعول عليه أن السورة مكية إلا الآيات ليست هذه منها بل هي مكية نزلت بين الهجرتين فيمن ذكره الجمهور ، واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وقال بعضهم : إن الذين هاجروا عام في المهاجرين كائنا من كان فيشمل أولهم وآخرهم وكان هذا من قائله اعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما هو المقرر عندهم. وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وعبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه. ونعيم بن ميسرة. والربيع بن خيثم - لنثوينهم - بالثاء المثلثة من أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه ، قال في البحر : وانتصاب (حسنة) على تقدير إثواءة حسنة أو على نزع الخافض أي في حسنة أي دار حسنة أو منزلة حسنة ولا مانع على ما قيل من اعتبار تضمين الفعل معنى نعطيهم كما أشير إليه أولا. واستدل بالآية على أحد الأقوال على شرف المدينة وشرف إخلاص العمل للّه تعالى وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أي أجر أعمالهم المذكورة في الدار الآخرة أَكْبَرُ مما يعجل لهم في الدنيا.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له : خذ بارك اللّه تعالى لك هذا ما وعدك اللّه تعالى في الدنيا وما أخر لك في الآخرة أفضل ثم يقرأ هذه الآية ، وقيل : المراد أكبر من أن يعلمه أحد قبل مشاهدته ، ولا يخفى ما في مخالفة أسلوب هذا الوعد لما قبله من المبالغة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفرة الظالمين أي لو علموا أن اللّه تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين ، وقيل : هو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في الاجتهاد ولما تألموا لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها ولازدادوا سرورا. وفي المعالم لا يجوز ذلك لأن المهاجرين يعلمونه ودفع بأن المراد علم المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة أو المراد العلم التفصيلي. وجوز أن يكون الضمير للمتخلفين عن الهجرة يعني لو علم المتخلفون عن الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم.
الَّذِينَ صَبَرُوا على ما نالهم من الظلم ولم يرجعوا القهقرى وعلى مفارقة الوطن وهو حرم اللّه سبحانه المحبوب لكل مؤمن فضلا عمن كان مسقط رأسه وعلى احتمال الغربة بين أناس أجانب في النسب لم يألفهم وعلى غير ذلك ، ومحل الموصول النصب بتقدير أعني أو الرفع بتقدير - هم - ويجوز أن يكون تابعا للذين هاجروا بدلا أو بيانا أو نعتا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ منقطعين إليه معرضين عمن سواه مفوضين إليه الأمر كله كما يفيده حذف متعلق التوكل ، وقيل : تقديم الجار والمجرور المؤذن بالحصر وكونه لرعاية الفواصل غير متعين ، وصيغة الاستقبال إما للاستمرار أو لاستحضار تلك الصورة البديعة ، والجملة إما معطوفة على الصلة أو حال من ضمير صبروا.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ رد لقريش حيث أنكروا رسالة النبي صلى اللّه عليه وسلم وقالوا : اللّه تعالى أعظم أن يكون رسوله بشرا هلا بعث إلينا ملكا أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا نبعث للدعوة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 386
العامة إلا بشرا نوحي إليهم بواسطة الملك في الأغلب الأوامر والنواهي ليبلغوها ، ويحترز بالدعوة العامة عن بعث الملك للأنبياء عليهم السلام للتبليغ أو لغيرهم كبعثه لمريم للبشارة ، وبالأغلب بعض أقسام الوحي مما لم يكن بواسطة الملك كما يشير إليه قوله تعالى : وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى : 51] وقرأ الجمهور «يوحى» بالياء وفتح الحاء. وفرقة بالياء وكسرها وعبد اللّه والسلمي وطلحة. وحفص بالنون وكسرها. وفي ذلك من تعظيم أمر الوحي ما لا يخفى. ولما كان المقصود من الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تنبيه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى قاله ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ، وتسمية الكتاب تعلم مما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وعن مجاهد تخصيصه بالتوراة لقوله تعالى : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء : 105] فأهله اليهود.
قال في البحر والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب لأنهم الذين لا يتهمون عند أهل مكة في إخبارهم بأن الرسل عليهم السلام كانوا رجالا فاخبارهم بذلك حجة عليهم ، والمراد كسر حجتهم وإلزامهم وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج فيه إلى أخبار هؤلاء ، وقد أرسل المشركون بعد نزولها إلى أهل يثرب يسألونهم عن ذلك ، وقال الأعمش وابن عيينة وابن جبير : المراد من أسلم منهم كعبد اللّه بن سلام وسلمان الفارسي رضي اللّه تعالى عنهما وغيرهما.
ويضعفه أن قول من أسلم لا حجة فيه على الكفار ومنه يعلم ضعف ما قاله أبو جعفر. وابن زيد من أن المراد الذكر القرآن لأن اللّه تعالى سماه ذكرا في مواضع منها ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا ، وأهل الذكر على هذا المسلمون مطلقا ، وخصهم بعض الإمامية بالأئمة أهل البيت احتجاجا بما رواه جابر. ومحمد بن مسلم منهم عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه قال : نحن أهل الذكر ، وبعضهم فسر الذكر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم لقوله تعالى : ذِكْراً رَسُولًا [الطلاق : 10 ، 11] على قول ، ويقال على مقتضى ما في البحر : كيف يقنع كفار أهل مكة بخبر أهل البيت في ذلك وليسوا بأصدق من رسول اللّه عندهم وهو عليه الصلاة والسلام المشهور فيما بينهم بالأمين ، ولعل ما رواه ابن مردويه منا موافقا بظاهره لمن زعمه ذلك البعض من الإمامية
عن أنس قال : «سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : إن الرجل ليصلي ويصوم ويحج ويعتمر وإنه لمنافق قيل : يا رسول اللّه بماذا دخل عليه النفاق؟ قال : يطعن على إمامه وإمامه من قال اللّه تعالى في كتابه : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إلى آخره»
مما لا يصح ، وأنا أقول يجوز أن يراد من أهل الذكر أهل القرآن وإن قال أبو حيان ما قال وستعلم وجهه قريبا إن شاء اللّه تعالى المنان ، وقال الرماني والزجاج ، والأزهري : المراد بأهل الذكر علماء أخبار الأمم السالفة كائنا من كان فالذكر بمعنى الحفظ كأنه قيل : اسألوا المطلعين على أخبار الأمم يعلموكم بذلك إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وجواب إن إما محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فاسألوا ، وإما نفس ما قبله بناء على جواز تقدم الجواب على الشرط. واستدل بالآية على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا صبيا ولا ينافيه نبوة عيسى عليه السلام في المهد فإن النبوة أعم من الرسالة ولا يقتضي صحة القول بنبوة مريم أيضا لأن غايته نفي رسالة المرأة ، ولا يلزم من ذلك إثبات نبوتها ، وذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد ، ولا ينافي ما دلت عليه الآية من نفي إرسال الملائكة عليهم السلام قوله تعالى : جاعل الملائكة رسلا لأن المراد جاعلهم رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم السلام لا للدعوة العامة وهو المدعى كما علمت فالرسول إما بالمعنى المصطلح أو بالمعنى اللغوي ، وقال الجبائي : إن الملائكة عليهم السلام لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم السلام إلا ممثلين بصور الرجال ورد بما
روي أن نبينا صلى اللّه عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين
وهو وارد على الحصر المقتضي للعموم فلا يرد عليه أنه لا دلالة فيما روى على رؤية من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام على صورته مع أنه إذا ثبت ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 387
ولم يثبت أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام فلا مانع من ثبوته لغيره قاله الشهاب ، وذكر أنه نقل الإمام عن القاضي أن مراد الجبائي أنهم لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحضرة أممهم إلا وهم على صور الرجال كما
روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمحضر من أصحابه في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وفي صورة أعرابي لم يعرفوه.
واستدل بها أيضا على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم.
وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد العام في الفروع وانظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لا سيما إذا قلنا إن المسألة المأمورين بالمراجعة فيه والسؤال عنها من الأصول ، ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم غير المجتهد عاميا كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الاعتقادية وغيرها وبين أن يكون المجتهد حيا أو ميتا اه.
وصحيح هو وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقا سواء كان له قاطع أو لا وسواء كان مجتهدا بالفعل أو له أهلية الاجتهاد ، ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع وتقليد غيره من المجتهدين نعم ذكر العلامة ابن حجر ، وغيره أنه يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدونا محفوظ الشروط والمعتبرات فقول السبكي :
إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على ما لم يحفظ ولم تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت كتبها كمذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وغيرهم ، ثم إن تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل وأما للإفتاء والقضاء فيتعين أحد المذاهب الأربع ، واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم العبادي ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو محتملا ، ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين أنه لا يفتى ولا يقضى بكل مهما لاحتمال كونه مرجوحا ويجوز العلم به وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه الآية فقال : لما لم يكن أحد المجتهدين عالما وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم لقوله تعالى : فَسْئَلُوا الآية فإن لم يجب فلا أقل من الجواز ، وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب بعض الصحابة وأقروا الحكم عليه ، والصحيح ما سمعت أولا ، وما ذكر ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد. واحتج بها أيضا نفاة القياس فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس وإلا وجب عليه سؤال من كان عالما بها بظاهر الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه السؤال لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس ، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر الآية فوجب أن لا يجوز. وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل.
وقال بعضهم : إذا كان المكلف ممن يقدر على القياس كان ممن يعلم فلا يجب عليه السؤال فتأمل.
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ أي بالمعجزات والكتب ، والأولى للدلالة على الصدق ، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف.
وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف. والجار المجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جوابا عن سؤال من قال : بم أرسلوا؟ فقيل : أرسلوا بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.
وجوز الزمخشري والحوفي تعلقه - بأرسلنا - السابق داخلا تحت حكم الاستثناء مع رِجالًا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات وهو في معنى قولك : ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالا بالبينات ، ومثل ما ضربت إلا زيدا بسوط ، وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة سيئان دون عطف وأنه يجري في الاستثناء المفرغ ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره.
وقال في الكشف : والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس. أو وجوب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 388
أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورا وأن يجب نحو ما ضرب إلا زيدا عمرا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك ، وكل ذلك ظاهر الانتفاء. والزمخشري جوز ذلك وصرح به في مواضع من كشافه ، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيدا بسوط ضربت زيدا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيدا فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه ، وهو حسن لولا أن الاستعمال والقياس آبيان ، وقال بعضهم : إنه متعلق به فمن غير دخوله مع رجالا تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا.
وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا وما ظن من غير الثلاثة معمولا لما قبل إلا قدر له عامل ، وأجاز الكسائي أن يقع معمولا لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرا ، ومخفوض كما مر إلا زيد بعمرو ولا يعذب إلا اللّه بالنار ، ومرفوع كما ضرب إلا زيدا عمرو ، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع ، والأخفش في الظرف والجار والحال ، فما ذكر مبني على مذهب الكسائي والأخفش ، لكن قال الشهاب : إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع ، وجوز أن يكون متعلقا بما رفع صفة - لرجالا - أي رجالا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالا منه ، قيل : لأنه نكرة متقدمة ، نعم قيل : بجواز وقوعه حالا من ضمير الرجال في إِلَيْهِمْ وقيل : يجوز كونه حالا من رِجالًا لأنه نكرة موصوفة ، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا قياسا ونقله عن سيبويه وإن كان دون الاتباع في القوة.
وجوز أيضا تعلقه - بنوحي - وقوله سبحانه : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول ، وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره ، وما نقل من منعه ليس بثبت ، ثم إذا كان اعتراضا متخللا بين مقصوري حرف الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا أرسلنا رجالا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجالا متلبسون بالبينات ، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسبا لما تخلل بينهما ، وأشبه إلا وجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض موقعه اللائق به لفظا ومعنى قاله في الكشف.
وجوز أن يتعلق - بتعلمون - فلا اعتراض ، وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي ، فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل ، فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلا إياه ، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشا لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول : إن كون الرسل عليهم السلام رجالا أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم ، فإنكاركم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت «1» من حيث الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره ، قاله في الكشف أيضا ، ثم قال : ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فانكارهم انكارهم ، ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولا انتهى. ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن ، وما ذكر أبو حيان في تضعيفه من أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزامهم ناشئ من عدم الوقوف على هذا التحقيق الأنيق ، وهذا ظاهر على تقدير تعلق بِالْبَيِّناتِ - بيعلمون - والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض ، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول ، فافهم ذاك ، واللّه تعالى يتولى هداك
___________
(1) وزعم بعضهم أن التبكيت إنما جاء من (إن) فتدبر اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 389
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر ولأنه سبب له ، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرا ، وقيل : المراد بالذكر العلم وليس بذاك لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بافانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبئ عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال ، وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المحمل وشرح ما أشكل إذا هما المحتاجان للتبيين ، وأما النص والظاهر فلا يحتاجان إليه.
وقيل : المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى ، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية ، واستأنس له بما
أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال : «قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقاما أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه»
وهذا في معنى ما ذكر غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه ، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار ، ولعل قوله عز وجل : وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ إشارة إلى ذلك أي وطلب إن يتأملوها فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب ، وقال بعض المعتزلة : أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال : وفيه دلالة على أن اللّه تعالى إرادة من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر ، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب ، ومن قدرها منا أراده منها ، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر ، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلا بد من العدول عنه إلى مقابله ، وقيل : أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل ، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى اللّه عليه وسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ هم عند أكثر المفسرين أهل مكة الذين مكروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وراموا ضد أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم عن الإيمان ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنهم نمروذ بن كنعان وقومه ، وعمم بعضهم فقال : هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم السلام ، وتعقب بأن المراد تحذير أهل مكة عن إصابة ما أصاب الأولين من فنون العذاب المعدودة فالمعول عليه ما عند الأكثر ، و«السيئات» نعت لمصدر محذوف أي مكروا المكرات السيئات التي قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكور على تضمينه معنى فعل متعد كعمل أي عملوا السيئات ماكرين فقوله تعالى أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ مفعول لأمن أو السَّيِّئاتِ مفعول لأمن بتقدير مضاف أو تجوز أي عقاب السيئات أو على أن
السَّيِّئاتِ بمعنى العقوبات التي تسوءهم ، وأَنْ يَخْسِفَ بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذي من جملته انباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ على توجيه الإنكار إلى المعطوفين أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف ، وقيل : هو للعطف على مقدر ينبئ عنه الصلة أي أمكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ ، وخسف يستعمل لازما ومتعديا يقال : - كما قال الراغب - خسفه اللّه تعالى وخسف هو وكلا الاستعمالين محتمل هنا ، فالباء إما للتعدية أو للملابسة والْأَرْضَ إما مفعول به أو نصب بنزع الخافض أي فأمن الذي مكروا السيئات أن يغيبهم اللّه تعالى في الأرض أو يغيبها بهم كما فعل بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها كجهة مأمنهم أو الجهة التي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 390
يرجون إتيان ما يشتهون منها ، وقال البيضاوي أي بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط ، وكأن التخصيص بجانب السماء لأن ما يجيء منه لا يشعر به غالبا بخلاف ما يجيء من الأرض فإنه محسوس في الأكثر ، ولعل اعتباره أوفق بالمقابلة ، ويحتمل أن يكون مراده بما من جانب السماء ما لا يكون على يد مخلوق سواء نشأ من الأرض أو السماء كما قيل. دعها سماوية تجري على قدر. فيكون مجازا ، لكن قيل عليه : إنه لا يلائم المثال وإن كان لا يخصص أَوْ يَأْخُذَهُمْ أي العذاب أو اللّه تعالى رجح الأول بالقرب والثاني بكثرة إسناد الأخذ إليه تعالى في القرآن العظيم مع أنه جل شأنه هو الفاعل الحقيقي له.
فِي تَقَلُّبِهِمْ أي حركتهم إقبالا وإدبارا ، والمراد على ما أخرجه ابن جرير. وغيره عن قتادة ، وروي عن ابن عباس في أسفارهم ، وحمله على ذلك - قال الإمام - مأخوذ من قوله تعالى : لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران : 196] أو المراد في حال ما يتقلبون في قضاء مكرهم والسعي في تنفيذه ، وقيل : المراد في حال تقلبهم على الفرش يمينا وشمالا ، وهو في معنى ما جاء في رواية عن ابن عباس أيضا في منامهم ، ولا أراه يصح.
وقال الزجاج : المراد ما يعم سائر حركاتهم في أمورهم ليلا أو نهارا والجمهور على الأول والأخذ في الأصل جوز الشيء وتحصيله ، والمراد به القهر والإهلاك ، والجار والمجرور إما في موضع الحال أو متعلق بالفعل قبله والأول أولى نظرا إلى أنه الظاهر في نظيره الآتي إن شاء اللّه تعالى لكن الظاهر فيما قبله الثاني فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين اللّه تعالى بالهرب والفرار على ما يوهمه حال التقلب والسير أو ما هم بممتنعين كما يوهمه مكرهم وتقلبهم فيه ، والفاء قيل :
لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على شدته وفظاعته حسبما
قال صلى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»
والجملة الاسمية للدلالة على دوام النفي والتأكيد يعود إليه أيضا.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي مخافة وحذر من الهلاك والعذاب بأن يهلك قوما قبلهم أو يحدث حالات يخاف منها غير ذلك كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل فيتخوفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون ويروى نحوه عن الضحاك ، وهو على ما قال الزمخشري ويقتضيه كلام ابن بحر خلاف قوله تعالى : مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ.
وقال غير واحد من الأجلة : على أن ينقصهم شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته ، وروي تفسيره بذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أيضا.
وذكر الهيثم بن عدي أن التنقص بهذا المعنى لغة أزدشنوءة ، ويروى أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال على المنبر ما تقولون فيها أي الآية والتخوف منها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص فقال : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال : نعم قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته :
تخوف الرحل منها تامكا قردا «1» كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم ، والجار والمجرور قال أبو البقاء : في موضع الحال من الفاعل أو المفعول في يأخذهم.
وقال الخفاجي : الظاهر أنه حال من المفعول وكأنه أراد على تفسيري التخوف ويتخوف من الجزع به على التفسير الثاني ، والمراد من ذكر هذه المتعاطفات بيان قدرة اللّه تعالى على إهلاكهم بأي وجه كان لا الحصر ، ثم إن
___________
(1) قوله : تامكا أي سناما ، وقوله : قردا أي متراكما والنبعة شجر يتخذ منه القسيّ ، والسفن بفتح السين والفاء المبرد اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 391
بعضهم اعتبر في التقابل بينهما أن المراد بخسف الأرض بهم إهلاكهم من تحتهم وبإتيان العذاب من حيث لا يشعرون إهلاكهم من فوقهم وحيث قوبلا بإهلاكهم في تقلبهم وأسفارهم كان المعتبر فيهما سكونهم في مساكنهم وأوطانهم والمقابلة بين أخذهم على تخوف على المعنى الأول والأخذ بغتة المشعر به من حيث لا يشعرون ظاهرة ، واعتبر عدم الشعور في الأخذ في التقلب والخسف لقرينة الأخذ على تخوف على ذلك المعنى وحمل سائرها على عذاب الاستئصال دون الأخذ على تخوف على المعنى الثاني ومجمل القول في ذلك أنه اعتبر في كل اثنين من الأربعة منع الجمع لكن بعد أن يراد بالعام منهما للمقابلة ما عدا الخاص سواء كان بين الإثنين عموم من وجه أو مطلقا.
وذكر الإمام ، وابن الخازن في حاصل الآية أنه تعالى خوفهم بخوف يحصل في الأرض بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تأتي قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ، وكان الظاهر في الآية أن يقال : أو يعذبهم من حيث لا يشعرون ليناسب ما قبله وما بعده بناء على أن إسناد الفعل فيهما إليه تعالى وما قبله فقط بناء على أن إسناد الفعل فيما بعد إلى العذاب مع كونه أخصر مما في النظم الجليل لكنه عدل عنه إلى ذلك لكونه أبلغ في التخويف وأدل على استحقاق العذاب من حيث إن فيه إشعارا بأن هناك عذابا موجودا مهيئا لا يحتاج إلا إلى الإتيان دون الإحداث وليس في - يعذبهم - إشعار كذلك على أن ما في النظم الجليل أبعد من أن يتوهم فيه معنى غير صحيح كما يتوهم في البدل المفروض حيث يتوهم فيه أنه سبحانه يعذبهم من حيث لا يشعرون بالعذاب وهو كما ترى. وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون بالإتيان وجيء بفي مع التقلب وبعلى مع التخوف قيل : لأن في التقلب حركتين فكان الشخص المتقلب بينهما ولا كذلك التخوف ، وقيل لما كان التقلب شاغلا الإنسان بسائر جوارحه حتى كأنه محيط به وهو مظروف فيه جيء بنفي معه ، والتخوف أي المخافة إنما يقوم بعضو من أعضائه فقط وهو القلب المحيط به بدن الإنسان فلذا جيء بعلى معه ، وقيل : إن على بمعنى مع كما في قوله تعالى : وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة : 177] أي يأخذهم مصاحبين لذلك ولما كان التخوف نفسه نوعا من العذاب لما فيه من تألم القلب ومشغولية الذهن وكان الأخذ مشيرا إلى نوع آخر من العذاب أيضا جيء بعلى التي بمعنى مع ليكون المعنى يعذبهم مع عذابهم ولم يعتبر ذلك مع التقلب مرادا به الإقبال والإدبار في الأسفار والمتاجر مع أنه
جاء «السفر قطعة من العذاب»
لأنهم لا يعدون ذلك عذابا وفي القلب من هذا شيء فتدبر وتأمل فأسرار كتاب اللّه تعالى لا تحصى فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ جعله ابن بحر تعليلا للأخذ على تخوف بناء على أن المراد به أخذهم على حدوث حالات يخاف منها كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل لا بغتة فإن في ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن فيها التلافي فكأنه قيل : أو يأخذهم على تخوف ولا يفاجئهم لأنه سبحانه رؤوف رحيم وذلك أنسب برأفته ورحمته جلّ وعلا ، وجوز أن يكون تعليلا لذلك على المعنى الأخير فإن في تنقصهم شيئا بعد شيء دون أخذهم دفعة إمهالا في الجملة وهو مطلقا من آثار الرحمة ، وقيل : هو تعليل لما يفهم من الآية من أنه سبحانه قادر على إهلاكهم بأي وجه كان لكنه تعالى لم يفعل ، وقيل : هو كالتعليل للأمن المستفهم عنه ، والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير الخطاب من آثار رحمته جلّ شأنه.
أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. والرؤية بصرية مؤدية إلى التفكر والضمير للذين مكروا السيئات أي ألم ينظر هؤلاء الماكرون ولم يروا متوجهين إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ.
وقيل : الضمير للناس الشامل لأولئك وغيرهم والإنكار بالنسبة إليهم وقرأ السلمي والأعرج والإخوان «أو لم تروا» بتاء الخطاب جريا على أسلوب قوله تعالى : «فإن ربكم» كما أن الجمهور قرؤوا بالياء جريا على أسلوب قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 392
«أفأمن الذين مكروا» وذكر الخفاجي وغيره أن قراءة التاء على الالتفات أو تقدير قل أو الخطاب فيها عام للخلق و«ما» موصولة مبهمة ، وقوله تعالى : مِنْ شَيْءٍ بيان لها لكن باعتبار صفته وهي قوله تعالى : يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ فهي المبينة في الحقيقة والموصوف توطئة لها وإلا فأي بيان يحصل به نفسه ، والتفيؤ تفعل من فاء يفيء فيئا إذا رجع وفاء لازم وإذا عدي فبالهمزة أو التضعيف كأفاءه اللّه تعالى وفيأه فتفيأ وتفيا مطاوع له لازم ، وقد استعمله أبو تمام متعديا في قوله من قصيدة يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني :
طلبت ربيع ربيعه الممهى لها وتفيأت ظلّا له ممدودا
ويحتاج ذلك إلى نقل من كلام العرب ، والظلال جمع ظل وهو في قول ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس والفيء ما يكون بالعشي وهو ما انصرفت عنه الشمس وأنشدوا له قول حميد بن ثور يصف سرحة وكنّى «1» بها عن امرأة :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشيّ تذوق
ونقل ثعلب عن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل وما لم تكن عليه فهو ظل فالظل أعم من الفيء ، وقيل : هما مترادفان يطلق كل منهما على ما كان قبل الزوال وعلى خلافه ، وأنشد أبو زيد للنابغة الجعدي :
فسلام الإله يغدو عليهم وفيوء الفردوس ذات الضلال
والمشهور أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال ، ومن هنا قال الأزهري : إن تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار ، وقال أبو حيان : إن الاعتبار من أول النهار إلى آخره ، وإضافة الضلال إلى ضمير المفرد لأن مرجعه وإن كان مفردا في اللفظ لكنه كثير في المعنى ، ونظير ذلك أكثر من أن يحصى ، والمعنى أو لم يروا الأشياء التي ترجع وتتنقل ظلالها عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ والمراد بها الأشياء الكثيفة من الجبال والأشجار وغيرها سواء كان جمادا أو انسابا على ما عليه بعض المفسرين ، وخصها بعضهم بالجمادات التي لا يظهر لظلالها أثر سوى التفيؤ بواسطة الشمس على ما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى دون ما يشمل الحيوان الذي يتحرك ظله بتحركه ، وكلا القولين على تقدير كون مِنْ بيانية كما سمعت وذهب بعض المحققين إلى العموم لكنه جعل من ابتدائية متعلقة - بخلق - المراد بما خلقه من شيء عالم الأجسام المقابل لعالم الروح والأمر الذي لم يخلق من شيء بل وجد بأمر كُنْ كما قال سبحانه : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف : 54] ، ولا يخفى بعده ، واعترض أيضا بأن السموات والجن من عالم الأجسام والخلق ولا ظل لها ومقتضى عموم ما أنه لا يخلو شيء منها عنه بخلاف ما إذا جعلت من بيانية و«يتفيؤ» صفة شيء مخصصة له. ورد بأن جملة يَتَفَيَّؤُا حينئذ ليست صفة - لشي ء - إذ المراد إثبات ذلك لما خلق من شيء لإله وليس صفة - لما - لتخالفهما تعريفا وتنكيرا بل هي مستأنفة لإثبات أن له ظلالا متفيئة وعموم «ما» لا يجوب أن يكون المعنى لكل منه هذه الصفة.
وتعقب بأنه إن أريد أنه لا يقتضي العموم ظاهرا فممنوع وإن أريد أنه يحتمل فلا يرد ردا لأنه مبني على الظاهر المتبادر ، والمراد باليمين والشمائل على ما قيل جانبا الشيء استعارة من يمين الإنسان وشماله أو مجازا من إطلاق
___________
(1) حيث يقول :
أبى اللّه إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العضاه تروق
اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 393
المقيد على المطلق أي ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن جانبي كل واحد منها ترجع من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإن لها مشارق ومغارب بحسب مداراتها اليومية حال كون الظلال سُجَّداً لِلَّهِ أي منقادة له تعالى جارية على ما أراد من الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها له وهو المراد بسجودها ، وقد يفسر باللصوق في الأرض أي حال كونها لاصقة بالأرض على هيئة الساجد ، وقوله تعالى : وَهُمْ داخِرُونَ حال من ضمير «ظلاله» الراجع إلى شيء ، والجمع باعتبار المعنى وصح مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء ، وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم فإنه التصاغر والذل ، قال ذو الرمة :
فلم يبق إلا داخر في مخيس «1» ومنحجر في غير أرضك في حجر
فالكلام على الاستعارة أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب ، ووجه التعبير بهم يعلم مما ذكر ، ويجوز أن يعتبر وجهه أولا ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة له أي والحال أن أصحاب تلك الضلال ذليلة منقادة لحكمه تعالى ، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به ، وجوز كون سُجَّداً والجملة حالين من الضمير أي ترجع ظلال تلك الأجرام حال كون تلك الأجرام منقادة له تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما.
والمراد بالسجود أيضا الانقياد سواء كان بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة ، فلا يرد على احتمال أن يكون المراد ب ما خَلَقَ شاملا للعقلاء وغيرهم كيف يكون سُجَّداً حالا من ضميره وسجود العقلاء غير سجود غيرهم.
وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز ، والأمر على احتمال أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر ، وزعم بعضهم أن السجود حقيقة مطلقا وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعي ذلك الحياة والعلم لتقصد العبادة ، وليس بشيء كما لا يخفى ، ثم إن قلنا على هذا الوجه : إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالان مترادفتان ، وتعدد الحال جائز عند الجمهور ، ومن لم يجوز جعل الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين ، وإن قلنا :
إنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة ، وقال أبو البقاء : سُجَّداً حال من الظلال وَهُمْ داخِرُونَ حال من الضمير في سُجَّداً ويجوز أن يكون حالا ثانية معطوفة اه ، وفيه القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون سُجَّداً حالا من ضمير ظِلالُهُ والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري ، ورجحه في الكشف فقال : إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد : 15] فجاعلهما حالا من الضمير في ظِلالُهُ مقصر ، وفيه تكميل حسن لما وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخور الذي هو أبلغ لأنه انقياد قهري مع صفة المنقاد ، ولم يجعل حالا من الراجع إلى الموصول في خَلَقَ اللَّهُ إذ المعنى على تصوير سجود الظل وذيه وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخور ، والعامل في الحال الثاني يَتَفَيَّؤُا على ما قال ابن مالك في قوله تعالى : بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة : 135] اه ، ومنه يعلم ما في إعراب أبي البقاء. نعم إن في هذا الوجه بعدا لفظيا والأمر فيه هين ، وأما جعل وَهُمْ داخِرُونَ حالا من ضمير يَرَوْا فمما لا يصح بحال كما لا يخفى.
هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم. الأول أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيها لهما بيمين الإنسان وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى أقوى الجانبين فهو اليمين والجانب الآخر الشمال
___________
(1) أي سجن اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 394
فالظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها. والثاني يمين البلد وشماله ، وذلك أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل الكلي وهو «كجل يز أو كحله» «1» على اختلاف الأرصاد فإن في الصيف تحصل الشمس على يمين تلك البلدة وحينئذ تقع الأظلال على يسارها وفي الشتاء بالعكس ، ولا يخفى ما في الثاني فإنه مختص بقطر مخصوص والكلام ظاهر في العموم ، وقيل : المراد باليمين والشمال يمين مستقبل الجنوب وشماله ، وعَنِ كما قال الحوفي متعلقة ب يَتَفَيَّؤُا وقال أبو البقاء : متعلقة بمحذوف وقع حالا ، وقيل : هي اسم بمعنى جانب فتكون في موضع نصب على الظرفية. ولهم في توحيد الْيَمِينِ وجمع الشَّمائِلِ - وهو جمع غير قياسي - كلام طويل.
فقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ المفرد كقوله تعالى : جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام : 1] وخَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [البقرة : 7] وقيل : إذا فسرنا اليمين بالمشرق كان النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين واحدة ، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأضلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع ، وقيل : اليمين مفرد لفظا لكنه جمع معنى فيطابق الشمائل من حيث المعنى ، وقال الفراء : إنه يحتمل أن يكون مفردا وجمعا فإن كان مفردا ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإن كان جمعا ذهب إلى كلها لأن ما خلق اللّه لفظه واحد ومعناه الجمع ، وقال الكرماني : يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف لأن الظل يفيء من الجهات كلها فبدأ باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها أو تيمنا بذكرها ، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين الشمال واليمين من التضاد ، ونزل الخلف والقدام منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف ، وهو قريب من الأول ، وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته ومجازه وفي صحته مقال ، وقيل : المراد باليمين يمين الواقف مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل : يتفيؤ ظلاله عن الجنوب إلى الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة شمالي وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين ، وهو كما ترى ، ونقل أبو حيان عن استاذه أبي الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة ، وهو في العشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان.
هذا من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق سُجَّداً المجاور له شمالا كما أفرد الأول ليطابق ضمير ظِلالُهُ المجاور له يمينا ، ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع أيضا. فحصل في الآية مطلقة اللفظ للمعنى جهة المشرق وبالشمال جهة المغرب ، وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة الثانية مغربة ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما أفرد النُّورِ في كل القرآن ، وجمع ما يدل على الجهة الثانية كما جمع الظلمة كذلك وإفراده النور وجمع الظلمة تقدم الكلام فيهما ، وقد يقال : إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلا عن أن يقع ضوؤها على ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات ، ولا يعكر على هذا أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيرا ما يرتكب أمر لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر ، وآخر أيضا وهو أنه لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبة لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو اللّه تعالى ولا كذلك جهة المغرب ، ولا يناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك و«كلتا يديه يمين» ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة
___________
(1) يساوي في حساب الجمل : 167.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 395
الخلق إليه تعالى ، وآخر أيضا وهو أن الظل الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة المغرب يتعلق به ذلك ، فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط السماء ، ووقت العصر بصيرورته مثل الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة ، ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس ، وما ألطف وقوع سُجَّداً بعد الشَّمائِلِ على هذا وآخر أيضا وهو أوفق بباب الإشارة وسيأتي فيه إن شاء اللّه تعالى الفتاح ، وبعد لمسلك الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك.
وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة للّه تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه ، ثم قال :
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس؟ قلنا : قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته فلا بد أن يكون تحركه من غيره ولا بد من الاستناد بالآخرة إلى واجب الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا التقدير.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص ، نعم في كون ذلك مستندا إليه تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف ، ومذهب السلف غير خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر منك ، ثم الظاهر أن المراد بالظلال الظلال المبسوطة وتسمى المستوية ، ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها أيضا تتفيؤ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل ، وقرأ أبو عمرو ، وعيسى. ويعقوب «تتفيؤ» بالتاء على التأنيث ، وأمر التأنيث والتذكير في الفعل المسند لمثل الجمع المذكور ظاهر.
وقرأ عيسى «ظلله» وهو جمع ظلة كحلة وحلل قال صاحب اللوامح : الظلة بالضم الغيم وأما بالكسر فهو الفيء والأول جسم والثاني عرض ، فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى ، وأما في العامة فعلى الاستعارة اه ، ويلوح منه القول بالقراءة بالرأي ، ومن الناس من فسر الظلال في قراءة العامة بالأشخاص لتكون على نحو قراءة عيسى ، وأنشدوا لاستعمال الظلال في ذلك قول عبدة :
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية وفار للقوم باللحم المراجيل
فإنه إنما تنصب الأخبية لا الظل الذي هو الفيء ، وقول الآخر :
يتبع أفياء الظلال عشية فإنه أراد أفياء الأشخاص. وتعقب ذلك الراغب بأنه لا حجة فيما ذكر فإن قوله : رفعنا ظل أخبية معناه رفعنا الأخبية فرفعنا به ظلها فكأنه رفع الظل ، وقوله : أفياء الظلال فالظلال فيه عام والفيء خاص والإضافة من إضافة الشيء إلى جنسه ، وقال بعضهم : المراد من الظلة في قراءة عيسى الظل الذي يشبه الظلة ، والمراد بها شيء كهيئة الصفة في الانتفاع به وقيل : الكلام في تلك القراءة على حذف مضاف أي ظلال ظلله ، وتفسر الظلة بما هو كهيئة الصفة ، والمتبادر من الظل حينئذ الظل المعكوس. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر ما ذكر أردفه بما يفيده تأكيدا مع زيادة سجود ما لا ظل له فقال سبحانه وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أو أنه سبحانه بعد ما بين سجود الظلال وذويها من الأجرام السفلية الثابتة في أحيازها ودخورها له سبحانه شرع في شأن سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا؟ فقال عز من قائل ما قال ، والمراد بالسجود على ما ذكره غير واحد الانقياد سواء كان انقيادا لإرادته وتأثيرها طبعا أو انقيادا لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض من غير جمع بين الحقيقة والمجاز ولكون الآية آية سجدة لا بد من دلالتها على السجود المتعارف ولو ضمنا ، والاسم الجليل متعلق - بيسجد - والتقدير لإفادة القصر وهو ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الأفراد كما يؤذن به

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 396
قوله تعالى : وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في السموات وما في الأرض مِنْ دابَّةٍ بيان لما فيهما بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء ، والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الدبيب بكونه على وجه الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين ، وقوله سبحانه : وَالْمَلائِكَةُ عطف على محل الدابة المبين به وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن مِنْ البيانية لا تكون ظرفا لغوا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة عليهم السلام ، وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد بما في السموات الجسمانيات ويلتزم القول بتجرد الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون فيما في السموات لأن المجردات ليست في حيز وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في السموات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة والأصل في التقابل التغاير ، والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا يكون مقابلها من الأجسام وأن الجسم لا بد فيه من حركة جسمانية ، ولا يخفى أنه دليل اقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصا بعد تعميم كما سمعت آنفا أو هو بيان لما في الأرض ، والدابة اسم لما يدب على الأرض والْمَلائِكَةُ عطف على ما في السموات وهو تكرير له وتعيين إجلالا وتعظيما ، وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على العام لذلك أيضا ، وجوز أن يراد مما في السموات الخلق الذين يقال لهم الروح ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهم السلام فيكون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض ، والمراد بالملائكة عليهم السلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولا يراد بالدابة ما يشملهم ، و«ما» إذا قلنا : إنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعري فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب ، وأما إن قلنا : إن وضعها
لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أولا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب ، وفي أنوار التنزيل إن ما لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا ، وفي الكشاف إنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من ، وحاصله على ما في الكشف إن من للعقلاء والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما ، وأراد أن لا دليل في اللفظ ، وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام
العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى. وقيل بناء على أن ما مختصة بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء : إن الإتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم اللّه تعالى من الإتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم وَهُمْ أي الملائكة مع علو شأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته تعالى شأنه والسجود له ، وتقديم الضمير ليس للقصر ، والسين ليست للطلب وقيل : له على معنى لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله والاتصاف به.
وإذا قلنا إن صيغة المضارع للاستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي. والجملة إما حال من فاعل يَسْجُدُ مسندا إلى الملائكة أو استئناف للإخبار عنهم ، بذلك ، وإنما لم يجعل الضمير - لما - لاختصاصه بأولى العلم وليس المقام مقام التغليب ، وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه : يَخافُونَ رَبَّهُمْ وممن صرح بعود الضمير فيه على ما أبو سليمان الدمشقي ، وقال أبو حيان : إنه الظاهر ، وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم مِنْ فَوْقِهِمْ إما متعلق - بيخافون - وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالا من رَبَّهُمْ أي كائنا من فوقهم ، ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى ، ومذهب السلف قد أسلفناه لك وأظنه على ذكر منك.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 397
والجملة حال من الضمير في لا يَسْتَكْبِرُونَ وجوز أن تكون بيانا لنفي الاستكبار وتقريرا له لأن من خاف اللّه تعالى لم يستكبر عن عبادته ، واختاره ابن المنير وقال : إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الاستكبار وليدل على ثبوت هذه الصفة أيضا على الإطلاق ، ولا بد أن يقال على تقدير الحالية : إنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في أفصحه على الصحيح ، وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم.
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه ، واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء ، أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر ، وأما على الخوف فهو أظهر من أن يخفى ، وأما على الرجاء فلاستلزام الخوف على ما قيل ، وقيل : إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم الأكرمين كان من الرجاء بمكان مكين ، وزعم بعضهم أن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب ، ويرده ، قوله تعالى : وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء : 28 ، 29] ولا ينافي ذلك عصمتهم ، وقال الإمام : الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال ، وذكر أنه نقل عن ابن عباس واستدل له بقوله تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر : 28] وفي القلب منه شيء ، والحق أن الآية لا تصلح دليلا لكون الملائكة أفضل من البشر. واستدل بها فرقة على ذلك من أربعة أوجه ذكرها الإمام ولم يتعقبها بشيء لأنه ممن يقول بهذه الأفضلية ، وموضع تحقيق ذلك كتب الكلام.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : أَتى أَمْرُ اللَّهِ وهو القيامة الكبرى التي يرتفع فيها حجب التعينات ويضمحل السوي ، ولما كان صلى اللّه عليه وسلم مشاهدا لذلك في عين الجمع قال أَتى ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر للكل لا يكون إلا بعد حين قال : فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ لأن هذا ليس وقت ظهوره ، ثم أكد شهوده لوجه اللّه تعالى وفناء الخلق في القيامة : سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ بإثبات وجود الغير ، ثم فصل ما شاهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لا يحتجب بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس فقال : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ وهو العلم الذي تحيا به القلوب عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم المخلصون له أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وقال بعضهم : أي خوفوا الخلق من الخواطر الرديئة الممزوجة بالنظر إلى غيري وخوفهم من عظيم جلالي ، وهذا وحي تبليغ وهو مخصوص بالمرسلين عليهم السلام ، وذكروا أن الوحي إذا لم يكن كذلك غير مخصوص بهم بل يكون للأولياء أيضا الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت : 30] وقد روي عن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة تزاحمهم في مجالسهم ، ثم إنه تعالى عدد الصفات وفصل النعم فقال :
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إلخ ، وفي قوله سبحانه : وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إلخ إشارة كما نقل عن الجنيد قدس سره إلى أنه ينبغي لمن أراد البلوغ إلى مقصده أن يكون أول أمره وقصده الجهد والاجتهاد ليوصله بركة ذلك إلى مقصوده ، وذكروا أن المحمولين من العباد إلى المقاصد أصناف وكذا المحول عليه ، فمحمول بنور الفعل ، ومحمول بنور الصفة ، ومحمول بنور الذات ، فالمحمول بنور الفعل يكون بلده مقام الخوف والرجاء ومحلته صدق اليقين وداره مربع الشهود ، والمحمول بنور الصفة يكون بلده مقام المعرفة ومحلته صفو الخلة وداره دار المودة ، والمحول بنور الذات يكون بلده التوحيد ومحلته الفناء وداره البقاء ، وهذه الأصناف للسالك ، وأما المجذوب فمحول على مطية الفضل إلى بلد المشاهدة ، وفي قوله سبحانه : وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ تحيير للإفهام وتعجيز أي تعجيز عن أن تدرك الملك العلام وقال بعضهم : إن فيها تعليما للوقوف عند ما لا يدركه العقل من آثار الصنع

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 398
وفنون العلم وعدم مقابلة ذلك الإنكار حيث أخبر سبحانه أنه يخلق ما لا يعلم بمقتضى القوى البشرية المعتادة وإنما يعلم بقوة إلهية وعناية صمدية ، ألا ترى الصوفية الذين منّ اللّه تعالى عليهم بما من كيف علموا عوالم عظيمة نسبة عالم الشهادة إليها كنسبة الذرة إلى الجبل العظيم ، وممن زعم الانتظام في سلكهم كالكفشية الملقبين أنفسهم بالكشفية من ذكر من ذلك أشياء لا يشك العاقل في أنها لا أصل لها بل لو عرض كلامهم في ذلك على الأطفال أو المجانين لم يشكوا في أنه حديث خرافة صادر عن محض التخيل ، وأنا أسأل اللّه تعالى أن لا يبتلي مسلما بمثل ما ابتلاهم ، وقد عزمت حين رأيت بعض كتبهم التي ألفها بعض معاصرينا منهم مما اشتمل على ذلك على أن أصنع نحو ما صنعوا مقابلة للباطل بمثله لكن منعني الحياء من اللّه والاشتغال بخدمة كلامه سبحانه والعلم بأن تلك الخرافات لا تروج إلا عند من سلب منه الإدراك والتحقق بالجمادات ، وقال الواسطي في الآية : المعنى يخلق فيكم من الأفعال ما لا تعلمون أنها لكم أم عليكم وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي السبيل القصد وهو التوحيد وَمِنْها جائِرٌ وهو ما عدا ذلك وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ لكنه لم يشأ لعدم استعدادكم ولتظهر صفات جماله وجلاله سبحانه : وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وهم الأوتاد أرباب التمكين أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي تضطرب ، ومن الكلام المشهور على الألسنة لو خلت قلبت وَأَنْهاراً وهم العلماء الذين تحيا بفرات علومهم أشجار القلوب وَسُبُلًا وهم المرشدون الداعون إليه تعالى وَعَلاماتٍ وهي الآيات الآفاقية والأنفسية وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ وهي الأنوار التي تلوح للسالك من عالم الغيب.
وقال بعضهم : ألقى في أرض القلوب رواسي العلوم الغيبية والمعارف السرمدية وأجرى فيها أنهار أنوار المعرفة والمكاشفة والمحبة والشوق والعشق والحكمة والفطنة وأوضح سبلا للأرواح والعقول والأسرار ، فسبيل الأرواح إلى أنوار الصفات ، وسبيل العقول إلى أنوار الآيات ، وسبيل الأسرار إلى أنوار الذات ، والسبل في الحقيقة غير متناهية ، ومن كلامهم الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق. والعلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم ، وأخص العلامات في العالم الأولياء ، والنجوم أهل المعارف الذين يسبحون في أفلاك الديمومية بأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم من اقتدى بهم يهتدي إلى مقصوده الأبدي ، وفي الحديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
والمراد بهم خواصهم ليتأتى الخطاب ، ويجوز أن يراد كلهم والخطاب لنا ولا مانع من ذلك على مشرب القوم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ما أعظمها آية في النهي على من يستغيث بغير اللّه تعالى من الجمادات والأموات ويطلب منه ما لا يستطيع جلبه لنفسه أو دفعه عنها.
وقال بعض أكابر السادة الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم : إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحق فيه فإن ذلك غير محظور لأنه استغاثة بالحق حينئذ ، وأنا أقول إذا كان الأمر كذلك فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر؟ وأيضا إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له من تلك الحيثية أيضا ، ولعل القائل بذلك قائل بهذا. بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيح ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره ، فالطريق المأمون عند كل رشيد الاستغاثة والاستعانة على اللّه عز وجل فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده ، فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ذكروا أن السابقين الموحدين يتوفاهم اللّه تعالى بذاته ، وأما الأبرار والسعداء فقسمان ، فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرد وصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفاهم ملك الموت ، ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهاد

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 399
المتشرعين الذين لم يتجردوا عن علائق البدن بالتحلية والتخلية تتوفاهم ملائكة الرحمة ، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم ملائكة الرحمة ، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم الملائكة أيضا ولكن ملائكة العذاب ويتشكلون لهم على صورة أخلاقهم الذميمة كما يتشكل ملائكة الرحمة لمن تقدم على صورة أخلاقهم الحسنة الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ طابت نفوسهم في خدمة مولاها وطابت قلوبهم في محبة سيدها وطابت أرواحهم بطيب مشاهدة ربها وطابت أسرارهم بطيب الأنوار ، وقيل : طيبة أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك الشهوات.
وقيل : طيبة أرواحهم بالموت لكونه باب الوصال وسبب الحياة الأبدية وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قالوه إلزاما بزعمهم للموحدين وما دروا أنه حجة عليهم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما عليه الشيء في نفسه فلولا أنهم في نفس الأمر مشركون ما شاء اللّه تعالى ذلك فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ هم أهل القرآن المتخلقون بأخلاقه القائمون بأمره ونهيه الواقفون على ما أودع فيه من الأسرار والغيوب وقليل ما هم فالمراد بالذكر القرآن كما في قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
وفيه إشارة إلى أن اللّه تعالى لم يظهر مكنونات أسرار كتابه إلا لنبيه صلى اللّه عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام الأمين المؤتمن على الأسرار. وقد أشار سبحانه له عليه الصلاة والسلام بتبيين ذلك وقد فعل ولكن على حسب القابليات - لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم ولا تمنحوها غير أهلها فتظلموها - ولا تودع الأسرار إلا عند الأحرار. وذلك لأنها أمانة وإذا أودعت عند غيرهم لم يؤمن عليها من الخيانة. وخيانتها افشاؤها وإفشاؤها خطر عظيم. ولذا قيل :
من شاوروه فأبدى السر مشتهرا لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وجانبوه فلم يسعد بقربهم وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يصطفون مذيعا بعض سرهم حاشا ودادهم من ذاكم حاشا
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي ذات وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ قيل : أي يتمثل صوره ومظاهره عَنِ الْيَمِينِ جهة الخير وَالشَّمائِلِ جهات الشرور ، ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي لا ينسب إلا إليه تعالى وحد اليمين ولما كانت جهة الشمال إشارة إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه قوله : والشر ليس إليك ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير تعدد ظاهر جمع الشمال. وقيل في وجه الأفراد والجمع : إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفيء عنه من الشر لا يكون إلا متعددا فلذا جمع الشمال ولا كذلك ما تفيء عنه من الخير فلذا أفرد اليمين فليتأمل وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ينقاد ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أي موجود يدب ويتحرك من العدم إلى الوجود وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ لأنه القاهر المؤثر فيهم وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ طوعا وانقيادا ، واللّه تعالى الهادي سواء السبيل.
ثم إنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات ، خاضعة منقادة له تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقال عز قائلا :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 400
[سورة النحل (16) : الآيات 51 إلى 87]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 401
وَقالَ اللَّهُ عطفا على قوله سبحانه : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ وجوز أن يكون معطوفا على وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ وقيل : إنه معطوف على ما خَلَقَ اللَّهُ على أسلوب :
علفتها تبنا وماء باردا
أي أو لم يروا إلى ما خلق اللّه ولم يسمعوا إلى ما قال اللّه ولا يخفى تكلفه ، وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه تعالى متعين الألوهية وإنما المنهي عنه هو الإشراك به لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ الهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه برفض أيهما كان ، ولم يذكر المقول لهم للعموم أي قال تعالى لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم السلام : لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ المشهور أن اثْنَيْنِ وصف لإلهين وكذا «واحد» في قوله سبحانه :
إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ صفة لإله ، وجيء بهما للإيضاح والتفسير لا للتأكيد وإن حصل. وتقرير ذلك أن لفظ «إلهين» حامل لمعنى الجنسية أعني الإلهية ومعنى العدد أعني الاثنينية وكذا لفظ «إله» حامل لمعنى الجنسية والوحدة ، والغرض المسوق له الكلام في الأول النهي عن اتخاذ الإثنين من الإله لا عن اتخاذ جنس الإله ، وفي الثاني اثبات الواحد من الإله لا إثبات جنسه فوصف «إلهين» باثنين «وإله» بواحد إيضاحا لهذا الغرض وتفسيرا له ، فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو نعم الرجل زيد. وكذا المثنى كقوله :
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها الكلام

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 402
وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف ، وما يفهم منه أنه تأكيد فمعناه أنه محقق ومقرر من المتبوع فهو تأكيد لغوي لا أنه مؤكد أمر المتبوع في النسبة أو الشمول ليكون تأكيدا صناعيا كيف وهو إنما يكون بتقرير المتبوع بنفسه أو بما يوافقه معنى أو بألفاظ محفوظة ، فما قيل : إن مذهبه إن ذلك من التأكيد الصناعي ليس بشيء إذ لا دلالة في كلامه عليه. وقد أورد السكاكي الآية في باب عطف البيان مصرحا بأنه من هذا القبيل فتوهم منه بعضهم أنه قائل بأن ذلك عطف بيان صناعي ، وهو الذي اختاره العلامة القطب في شرح المفتاح نافيا كونه وصفا ، واستدل على ذلك بأن معنى قولهم : الصفة تابع يدل على معنى في متبوعه أنه تابع ذكر ليدل على معنى في متبوعه على ما نقل عن ابن الحاجب ، ولم يذكر اثْنَيْنِ وواحِدٌ للدلالة على الاثنينية والوحدة اللتين في متبوعهما فيكونا وصفين بل ذكرا للدلالة على أن القصد من متبوعهما إلى أحد جزئيه أعني الاثنينية والوحدة دون الجزء الآخر أعني الجنسية ، فكل منهما تابع غير صفة يوضح متبوعه فيكون عطف بيان لا صفة.
وقال العلامة الثاني : ليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفا صناعيا ، ويكون إيراده في ذلك المبحث مثل إيراد كل رجل عارف وكل إنسان حيوان في بحث التأكيد ومثل ذلك عادة له. وتعقب العلامة الأول بأنه إن أريد أنه لم يذكر إلا ليدل على معنى في متبوعه فلا يصدق التعريف على شيء من الصفة لأنها البتة تكون لتخصيص أو تأكيد أو مدح أو نحو ذلك وإن أريد أنه ذكر ليدل على هذا المعنى ويكون الغرض من دلالته عليه شيئا آخر كالتخصيص والتأكيد وغيرهما فيجوز أن يكون ذكر اثنين اثْنَيْنِ وواحِدٌ للدلالة على الاثنينية والوحدة ويكون الغرض من هذا بيان المقصود وتفسيره ، كما أن الدابر في أمس الدابر ذكر ليدل على معنى الدبور والغرض منه التأكيد بل الأمر كذلك عند التحقيق ، ألا ترى أن السكاكي جعل من الوصف ما هو كاشف وموضح ولم يخرج بهذا عن الوصفية. وأجيب بأنا نختار الشق الثاني ونقول : مراد العلامة من قوله : ذكر ليدل على معنى في متبوعه أن يكون المقصود من ذكر الدلالة على حصول المعنى في المتبوع ليتوسل بذلك إلى التخصيص أو التوضيح أو المدح أو الذم إلى غير ذلك وذكر اثْنَيْنِ وواحِدٌ ليس للدلالة على حصول الاثنينية والوحدة في موصوفيهما بل تعيين المقصود من جزئيهما فلا يكونان صفة ، وذكر الدابر ليدل على حصول الدبور في الأمس ثم يتوسل بذلك إلى التأكيد وكذا في الوصف الكاشف بخلاف ما نحن فيه فتدبره فإنه غامض ، ولم يجوز العلامة الأول البدلية فقال : وإما أنه ليس ببدل فظاهر لأنه لا يقوم مقام المبدل منه.
ونظر فيه العلامة الثاني بأنا لا نسلم أن البدل يجب صحة قيامه مقام المبدل منه فقد جعل الزمخشري «الجن» في قوله تعالى : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام : 100] بدلا من شُرَكاءَ ومعلوم أنه لا معنى لقولنا وجعلوا للّه الجن. ثم قال : بل لا يبعد أن يقال : الأولى أنه بدل لأنه المقصود بالنسبة إذ النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله على ما مر تقريره. وتعقب بأن الرضي قد ذكر أنه لما لم يكن البدل معنى في المتبوع حتى يحتاج إلى المتبوع كما احتاج الوصف ولم يفهم معناه من المتبوع كما فهم ذلك في التأكيد جاز اعتباره مستقلا لفظا أي صالحا لأن يقوم مقام المتبوع اه.
ولا يخفى أن صحة إقامته بهذا المعنى لا تقتضي أن يتم معنى الكلام بدونه حتى يرد ما أورد وقيل : إن ذكر «اثنين» للدلالة على منافاة الاثنينية للألوهية وذكر الوحدة للتنبيه على أنها من لوازم الألوهية.
وجعل ذلك بعضهم من روادف الدلالة على كون ما ذكر مساق النهي والإثبات وهو الظاهر وإن قيل فيه ما قيل.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 403
وزعم بعضهم أن تَتَّخِذُوا متعد إلى مفعولين وأن اثْنَيْنِ مفعوله الأول وإِلهَيْنِ مفعوله الثاني والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين ، وقيل : الأول مفعول أول والثاني ثان ، وقيل إِلهَيْنِ مفعوله الأول. واثْنَيْنِ باق على الوصفية والتوكيد والمفعول الثاني محذوف أي معبودين ، ولا يخفى ما في ذلك ، وإثبات الوحدة له تعالى مع أن المسمى المعين لا يتعدد بمعنى أنه لا مشارك له في صفاته وألوهيته فليس الحمل لغوا ، ولا حاجة لجعل الضمير للمعبود بحق المفهوم من الجلالة على طريق الاستخدام كما قيل ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيقه في سورة الإخلاص. وفي التعبير بالضمير الموضوع للغائب التفات من التكلم إلى الغيبة على رأي السكاكي المكتفي بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام وإن لم يسبق الذكر على ذلك الوجه ، وإما قوله تعالى : فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم على مذهب الجمهور أيضا ، والنكتة فيه بعد النكتة العامة أعني الإيقاظ وتطرية الإصغاء المبالغة في التخويف والترهيب فإن تخويف الحاضر مواجهة أبلغ من تخويف الغائب سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام.
والفاء في فَإِيَّايَ واقعة في جواب شرط مقدور و«إياي» مفعول لفعل محذوف يقدر مؤخرا يدل عليه فَارْهَبُونِ أي إن رهبتم شيئا فإياي ارهبوا ، وقول ابن عطية : إن «إياي» منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية ، وهي أنه إذا كان المعمول ضميرا منفصلا والفعل متعد إلى واحد هو الضمير وجب تأخر الفعل نحو إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة : 5] ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله :
إليك حتى بلغت إياكا وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة ، وقيل : لأن المفسر حقه أن يذكر بعد المفسر ، ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي ارهبوني لا غير فإنا ذلك الإله الواحد القادر على الانتقام وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عطف على قوله سبحانه : إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أو على الخبر أو مستأنف جيء به تقريرا لعلة انقياد ما فيهما له سبحانه خاصة وتحقيقا لتخصيص الرهبة به تعالى ، وتقدم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى التخصيص ، وكذا يقال فيما بعد أي له تعالى وحده ما في السموات والأرض وملكا وَلَهُ وحده الدِّينُ أي الطاعة والانقياد كما هو أحد معانيه. ونقل عن ابن عطية وغيره واصِباً أي واجبا لازما لا زوال له لما تقرر أنه سبحانه الإله وحده الحقيق بأن يرهب ، وتفسير واصِباً بما ذكر مروى عن ابن عباس. والحسن. وعكرمة. ومجاهد والضحاك. وجماعة وأنشدوا لأبي الأسود الدؤلي :
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال ابن الأنباري : هو من الوصب بمعنى التعب أو شدته ، وفاعل للنسب كما في قوله :
وأضحى فؤادي به فاتنا أي ذا وصب وكلفة ، ومن هنا سمي الدين تكليفا ، وقال الربيع بن أنس : واصِباً خالصا ، ونقل ذلك أيضا عن الفراء ، وقيل : الدين الملك والواصب الدائم ، ويبعد ذلك قول أمية بن الصلت :
وله الدين واصبا له الم لك وحمد له على كل حال
وقيل : الدين الجزاء والواصب كما في سابقه أي له تعالى الجزاء دائما لا ينقطع ثوابه للمطيع وعقابه للعاصي ، وأيا ما كان فنصب واصِباً على أنه حال من ضمير الدِّينُ المستكن في الظرف والظرف عامل فيه أو حال من الدِّينُ والظرف هو العامل على رأي من يرى جواز اختلاف العامل في الحال والعامل في صاحبها. واستدل بالآية

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 404
على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ الهمزة للإنكار والفاء للتعقيب أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصبا المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به تعالى تتقون غيره ، والمنكر تقوى غير اللّه تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير ، وأولى الهمزة لا للاختصاص حتى يرد أن إنكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا ينافي جوازها ، وقيل : يصح أن يعتبر الاختصاص بالإنكار فيكون التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الاختصاص. وفي البحر أن هذا الاستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته سبحانه وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تعالى - فما - موصولة مبتدأ متضمنة معنى الشرط ومن الله خبرها والفاء زائدة في الخبر لذلك التضمن ومِنْ نِعْمَةٍ بيان للموصول وبِكُمْ صلته ، وأجاز الفراء وتبعه الحوفي أن تكون ما شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما يكن بكم من نعمة إلخ. واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فعل الشرط إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الاشتغال نحو وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة : 6] وأن تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله كقوله :
فطلقها فلست لها بكفء وإلا يعل مفرقك الحسام
وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله :
قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيرا معدما قالت وإن
وقوله : ية على الوجهين من حيث إن الشرط لا بد أن يكون سببا للجزاء كما تقول : إن تسلم تدخل الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس ، فإن الأول وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سببا للثاني وهو كونها من اللّه من جهة كونه فرعا عنه. وأجاب في إيضاح المفصل بأن الآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها أو شكوا فيه أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سبب للإخبار بكونها من اللّه تعالى فيتحقق أن الشرط والمشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول سببا والثاني مسببا ، وقد وهم من قال : إن الشرط قد يكون مسببا. وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس سببا للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود نه تذكيرهم وتعريفهم فالاتصال سبب العلم بكونها من اللّه تعالى ، وهذا أولى مما قدره ابن الحاجب من أنه سبب الإعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت بهم النعم وجهلوا معطيها أو شكوا فيه ، ألا ترى إلى ما بني عليه بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن يضطرون إليه عند الإلجاء ويكفرون بعد الإنجاء انتهى. وفيه أنه يدفع ما ذكره بأن علمهم نزل لعدم الاعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه : أما أعطيتك كذا أما وأما ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ مساسا يسيرا فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيد تقديم الجار والمجرور ، والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة ، قال الأعشى يصف راهبا :
يداوم من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا
وقرأ الزهري «تجرون» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم ، وفي ذكر المساس المنبئ عن أدنى إصابة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 405
وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية الضُّرُّ بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراده النعمة بالجملة الاسمية المؤذنة بالدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيراد ما المعربة عن العموم على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة.
ولعل إيراد «إذا» دون - أن - للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب قاله المولى أبو السعود ، وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى تأمل ، وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ : وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوى انكار اتقاء غيره سبحانه لكن ذكر النفع الذي يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل : يظهر ارتباط «وما بكم من نعمة فمن اللّه» بما قيله ، وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ما يتعلق بذلك ، واستدل بالآية على أن للّه تعالى نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ أي رفع ما مسكم من الضر إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه ، والخطاب في الآية إن كان عاما - فمن - للتبعيض والفريق الكفرة ، وإن كان خاصا بالمشركين كما استظهره في الكشف - فمن - للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل ، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون - من - تبعيضية أيضا لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرا شديدا كما يدل عليه قوله تعالى : فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان : 32] على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر ، وإِذا الأولى شرطية والثانية فجائية والجملة وبعدها جواب الشرط ، واستدل أبو حيان باقترانها بإذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، وبِرَبِّهِمْ متعلق - بيشركون - والتقديم لمراعاة رؤوس الآي ، والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الإشراك الذي هو غاية في الكفران.
وثُمَّ قال في إرشاد العقل السليم : ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة عليه من مفاجآت الإشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال.
وفي الكشف متعقبا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى : ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ ثُمَّ إِذا كَشَفَ وهو على وجهين واللّه تعالى أعلم. أحدهما أن يكون قوله سبحانه وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ من تتمة السابق على معنى إنكار اتقاء غير اللّه تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو سبحانه القادر على سلبها ، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم إشراكهم به تعالى كفرانا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الإنكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الأعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة ، وأبعد منه الإعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة.
والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع وثُمَّ في الأول لتراخي الزمان إشعارا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء ، وفيه الإشعار بتراخي الرتبة أيضا على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده ، اه وهو كلام نفيس ، وللطيبي كلام طويل في هذا المقام إن أردته فارجع إليه.
وقرأ الزهري «ثم إذا كاشف» وفاعل هنا بمعنى فعل ، وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم ، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود إن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير : إياك ثم إياك أن تستغيث

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 406
باللّه تعالى إذا خطب دهاك فإن اللّه تعالى لا يعجل في إغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين فإنهم يعجلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت اللّه أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلّال المبين ، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم ، فالكفر بمعنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة ، وهي استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم وإشراكهم غير كفران ما أنعم اللّه تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائية له مقصودة منه ، وجوز أن يكون الكفر بمعنى الجحود أي إنكار كون تلك النعمة من اللّه تعالى واللام هي اللام ، والمعنيان متقاربان فَتَمَتَّعُوا أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما يقول السيد لعبده افعل ما تريد ، والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط.
وقرأ أبو العالية «فيمتّعوا» بضم الياء التحتية ساكن الميم مفتوح التاء مضارع متع مخففا مبنيا للمفعول وروى ذلك مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهو معطوف يكفروا على أن يكون الأمران عرضا لهم من الإشراك ، ويجوز أن يكون لام لِيَكْفُرُوا لام الأمر والمقصود منه التهديد بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم ، فالفاء واقعة في جواب الأمر وما بعدها منصوب بإسقاط النون ، ويجوز جزمه بالعطف أيضا كما ينصب بالعطف إذا كانت اللام جارة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب ، وفيه وعيد شديد حيث لم يذكر المفعول إشعارا بأنه لا يوصف.
وقرأ أبو العالية أيضا «يعلمون» بالياء التحتية وروى ذلك مكحول عن أبي رافع أيضا وَيَجْعَلُونَ قيل معطوف على يُشْرِكُونَ وليس بشيء ، وقيل : لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعدادا لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون ، مما قص عليك ويجعلون لِما لا يَعْلَمُونَ أي لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وإنها لا تضر ولا تنفع على أن ما موصولة والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء إنها جماد على أن ما موصولة أيضا عبارة عن الآلهة ، وضمير يَعْلَمُونَ عائد عليه ، ومفعول يَعْلَمُونَ مترك لقصد العموم ، وجوز أن ينزل منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم ، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم ، ويجوز أن تكون ما مصدرية وضمير الجمع للمشركين واللام تعليلية لا صلة الجعل كما في الوجهين الأولين ، وصلته للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جهلهم نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الحرث والأنعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة ، وقيل : عند عذاب القبر ، وقيل : عند القرب من الموت عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ من قبل بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها ، وفي تصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون : الملائكة بنات اللّه تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها ، وقال الإمام : أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لاستتارها عن العيون كالنساء ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ التأنيث.
ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الاطراد ، وقيل : أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه الأغياء فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهن فيسكنهن في محل أمين ومكان مكين ، والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه الصورة ، وهذا أولى مما ذكره الإمام ، وأما عدم التوالد فلا يناسب ذلك.
سُبْحانَهُ تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قوله ذلك أو تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة ، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 407
وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني البنين وما مفروع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه ، وجوز الفراء. والحوفي أنه في محل نصب معطوف على الْبَناتِ كأنه قيل :
ويجعلون لهم ما يشتهون. واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أي مر هو بنفسه ويجوز زيد ظنه قائما وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير اسما ظاهرا «1» كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميرا منفصلا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز ، فإذا عطف «ما» على الْبَناتِ أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو يَجْعَلُونَ إلى ضميره المتصل وهو هم المجرور باللام في غير ما استثني وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال - لأنفسهم - وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل بمعنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعا بالجاعلين بل بما يشتهون ، ومحصله - كما قال الخفاجي - المنع في المتعدي بنفسه مطلقا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه. وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى : وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم : 25].
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ [القصص : 32] والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولا لا ثانيا وتبعا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية ، وقال الخفاجي : هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أي أخبر بولادتها ، وأصل البشارة الإخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم حملت على مطلق الأخبار ، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع النظر عن كونها وقيل : إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر ، وأيّا ما كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار مُسْوَدًّا من الكآبة والحياة من الناس ، وأصل معنى ظل أقام نهارا على الصفة التي تسند إلى الاسم ، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار خصوصا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصل طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والفكرة والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى ، قيل : إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى مشرقا متلألئا ، وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية ، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن إرداءه واسوداده فلذلك كني عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد ، ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم «إنه الظاهر» والظاهر أن
وَجْهُهُ اسم ظل ومُسْوَدًّا خبره ، وجوز كون الاسم ضميرا لأحد ووجهه بدلا منه ولو رفع مُسْوَدًّا على أن وَجْهُهُ مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر ظَلَّ صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا وَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء غيظا وأصل الكظم مخرج النفس يقال : أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه ، ومنه كظم الغيظ لاخفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.
___________
(1) قوله اسما ظاهرا وقوله بعده أو ضميرا منفصلا كذا بخطه فليتأمل.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 408
وفعيل إما بمعنى مفعول كما أشير إليه أو صيغة مبالغة ، والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت اثنى ولم تلد ذكرا ، ويؤيده ما روى الأصمعي أن امرأة ولدت بنتا سمتها الذلفاء فهجرها زوجها فانشدت :
ما لأبي الذلفاء لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
يحرد أن لا نلد البنينا وإنما نأخذ ما يعطينا
والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى ، والجملة في موضع الحال من الضمير في ظَلَّ وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من وجه ، وجوز غيره أيضا حاليته من ضمير مُسْوَدًّا يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ يستخفي من قومه مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ عرفا وهو الأنثى ، والتعبير عنهما - بما - لاسقاطها بزعمهم عن درجة العقلاء ، والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في وهو كظيم إلا كونه من وجهه ، والجاران متعلقان - بيتوارى - ومِنَ الأولى ابتدائية ، والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك ، ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر ابنته أو بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبر فيها ما يصنع أَيُمْسِكُهُ أيتركه ويربيه عَلى هُونٍ أي ذل ، والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه ، وقيل : حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهانا ذليلا ، وجملة أَيُمْسِكُهُ معمولة لمحذوف معلق بالاستفهام عنها وقع حالا من فاعل يَتَوارى أي محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه أَمْ يَدُسُّهُ يخفيه فِي التُّرابِ والمراد يئده ويدفنه حيا حتى يموت وإلى هذا ذهب السدي. وقتادة. وابن جريج وغيرهم ، وقيل : المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حيا أم بأمر آخر فقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق.
روي أن رجلا قال : يا رسول اللّه والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ، وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى اللّه عليه وسلم :
«ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار»
وكان بعضهم يغرقها ، وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك ، ولما كان الكل إماتة تفضي إلى الدفن في التراب قيل : أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وقيل : المراد اخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس في التراب ، وتذكير الضميرين للفظ ما. وقرأ الجحدري بالتأنيث فيهما عودا على قول سبحانه : بِالْأُنْثى أو على معنى ما. وقرئ بتذكير الأول وتأنيث الثاني ، وقرأ الجحدري أيضا ، وعيسى «هوان» بفتح الهاء وألف بعد الواو ، وقرئ «على هون» بفتح الهاء وإسكان الواو وهو بمعنى الذل أيضا ، ويكون بمعنى الرفق واللين وليس بمراد ، وقرأ الأعمش «على سوء» وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة لمخالفتها السواد أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ حيث يجعلون لمن تنزه عن الصحابة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين ، فمدار الخطأ جعلهم ذلك للّه تعالى شأنه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه ، وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى : تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم : 22] ، وقال ابن عطية : هذا استقباح منه تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو الوأد مع أن رزق الجميع على اللّه سبحانه فكأنه قيل : ألا ساء ما يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جدا ، وروى الأول عن السدي وعليه الجمهور ، والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الفكرة ، وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه : وَإِذا بُشِّرَ إلخ هذا صنيع مشركي العرب أخبركم اللّه تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم اللّه تعالى له وقضاء اللّه تعالى خير من قضاء المرء لنفسه ، ولعمري ما ندري أي خبر لرب جارية خير لأهلها من غلام ، وإنما أخبركم اللّه عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه.
واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 409
القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منها والتباعد عنها قال : فحكم هؤلاء القائلين مشابه لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحانه إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه عز وجل. وأجيب عن ذلك بأنه لما ثبت بالدليل استحالة الصحابة والولد عليه سبحانه أردفه عز وجل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى ، ألا ترى أن رجلا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية ، وقد ثبت بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه الوجوه الإقناعية ، وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالقها هو اللّه تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا سوء التعصب لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ممن ذكرت قبائحهم مَثَلُ السَّوْءِ صفة السوء التي هي كالمثل في القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم ويبقى به ذكرهم ، وإيثار الذكور للاستظهار ، ووأد البنات لدفع العار أو خشية الإملاق على حسب اختلاف أغراض الوائدين المنادي كل واحد من ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ.
وعن ابن عباس مَثَلُ السَّوْءِ النار ، وأظنه لا يصح عنه رضي اللّه تعالى عنه ، ومنه ابن عطية حمل المثل على الصفة وقال : إنه لا يضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ بل هو على بابه ، وذلك أنهم قالوا : إن البنات للّه سبحانه فقد جعلوا للّه عز وجل مثلا فإن البنات من البشر وكثرة البنات أمر مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء الذي أخبر اللّه تعالى بأنه لهم ، وليس في البنات فقط بل لما جعلوا له تعالى البنات جعله هو سبحانه لهم على الإطلاق في كل سوء ولا غاية أبعد من عذاب النار اه ، وهو أشبه عندي بالرطانة كما لا يخفى ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقا وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما يقول «1» علوا كبيرا. وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أن المثل الأعلى شهادة على لا إله إلا اللّه وهو رواية عن ابن عباس. والذي أخرجه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره هو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى :
11]. وَهُوَ الْعَزِيزُ المنفرد بكمال القدرة على كل شيء ومن ذلك مؤاخذتهم بقبائحهم ، وقيل : هو الذي لا يوجد له نظير الْحَكِيمُ الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة.
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ الظالمين مطلقا ، وقيل : بالكفر والمؤاخذة مفاعلة من فاعل بمعنى فعل وهو الظاهر ، وقال ابن عطية : هي مجاز كأن العبد يأخذ حق اللّه تعالى بمعصيته واللّه تعالى يأخذ منه بعاقبته وكذا الحال في مؤاخذة الخلق بعضهم بعضا بِظُلْمِهِمْ أي بسبب كفرهم ومعاصيهم بناء على الظلم فعل ما لا ينبغي ووضعه في غير موضعه وقد يخص بالكفر والتعدي على الغير ويدخل فيه ما عد من القبائح ، وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى : وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وإيذان بأن ما أتاه هؤلاء الكفرة من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه ما تَرَكَ عَلَيْها أي على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى : مِنْ دَابَّةٍ بناء على شهرة كون الدبيب في الأرض أي ما ترك عليها شيئا من الدواب أصلا بل أهلكها بالمرة ، أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤم ذلك فقد قال سبحانه : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَ
___________
(1) قوله عما يقول كذا بخطه والظاهر «عما يقولون» إلخ.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 410
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال : 25] وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال : بلى واللّه إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها من ظلم الظالم ، وأخرج أيضا هو فيه وغيره عن ابن مسعود قال : كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية ، وأخرج أحمد في الزهد عنه أنه قال :
ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ثم قال : أي واللّه زمن غرق قوم نوح عليه السلام ، وقيل : المراد من دابة ظالمة على أن التنوين للنوع وهو مخصوص بالكفار والعصاة من الأنس ، وقيل : منهم ومن الجن ، وقيل : المراد الدابة الظالمة الفاعلة لما ينبغي شرعا أو عرفا فيدخل بعض الدواب إذا ضر غيره ، وقالت فرقة منهم ابن عباس : المراد بالدابة المشرك فقد قال تعالى : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال : 55] وقال الجبائي : الدابة على عمومها فتشمل سائر الحيوانات ، والمراد بالناس الظالمون مطلقا ووجه الملازمة أنه تعالى لو آخذهم بما كسبوا من كفر أو معصية لعجل هلاكهم وحينئذ لا يبقى لهم نسل ، ومن المعلوم أن لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العقاب وإذا هلكوا جميعا وبطل نسلهم لا يبقى أحد من الناس وحينئذ يهلك الدواب لأنها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى :
خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة : 29] وبتخصيص الناس يسقط الاستدلال بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام ، وقال بعض المحققين : لا حاجة إلى التخصيص في ذلك والآية من باب بنو تميم قتلوا قتيلا لتظافر الأدلة والنصوص على عصمة الأنبياء عليهم السلام. فلا يقال : الأصل الحمل على الحقيقة.
واستدل بعضهم للتخصيص بقوله تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر : 32] وألا يفسد التقسيم ، وقد يقال : إنه ما أحد إلا وهو متصف بظلم إلا أن مراتبه مختلفة فحسنات الأبرار سيئات المقربين ، والعصمة التي تدعى للأنبياء عليهم السلام إنما هي العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى غيرهم وأما العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى مقامهم ومرتبتهم فلا تدعى لهم إذ قد وقع ذلك منهم كما يشهد به كثير من الآيات ، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو أن اللّه تعالى يؤاخذني وعيسى ابن مريم بذنوبنا - وفي لفظ - بما جنت هاتان الإبهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا»
نعم إنه لا يقال لنبي هو ظالم ولا للأنبياء عليهم السلام هم ظالمون ويقال الناس ظالمون وهذا نظير قولهم : لا يقال للّه سبحانه خالق القردة والخنازير ويقال هو خالق كل شيء ، ورب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا ، وأمر التقسيم هين عند المتأمل فليتأمل ، ومن الناس من احتج بالآية على أن أصل المضمار الحرمة إذ لو كان الضرر مشروعا فإما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم أولا وكلا القسمين باطل ، أما الأول فللآية وذلك من وجهين.
الأول أنها لمكان لو تقتضي أن تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة. الثاني أن مقتضى المؤاخذة عدم ترك دابة على ظهرها ونحن نشاهد أنه سبحانه قد ترك كثيرا من الدواب فيجب القطع بأنه تعالى لم يؤاخذ بالظلم ، وأما الثاني فباطل بالإجماع فثبت بمقتضى آية تحريم المضار ، ويؤكد ذلك آيات أخر وأخبار وحينئذ يقال : إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من جميع الوجوه فإن وجدنا نصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا بالحرمة بناء على الأصل الذي قرر. واستدل بها المعتزلة على أن العباد خالقون لأفعالهم ووجه مع رده غنى عن البنيان وَلكِنْ لا يؤاخذهم بذلك بل يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سماه سبحانه وعينه لأعمالهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المسمى لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً أقل مدة وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه ، وقد مر الكلام في نظيرها وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ أي يثبتون له سبحانه وينسبون إليه بزعمهم ما يَكْرَهُونَ الذي يكرهونه لأنفسهم من البنات ، والتعبير - بما - عند أبي حيان على إرادة النوع ، وهذا على ما

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 411
سمعت تكرير لما سبق تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى : وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي يجعلون للّه تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي العاقبة الحسنى عند اللّه عز وجل ولا يتعين إرادة الجنة.
وعن بعضهم أن المراد بها ذلك بناء على أن منهم من يقر بالبعث وهذا بالنسبة لهم أو أنه على الفرض والتقدير كما روي أنهم قالوا : إن كان محمد صلى اللّه عليه وسلم صادقا في البعث فلنا الجنة بما نحن عليه ، قيل : وهو المناسب لقوله تعالى الآتي : لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ لظهور دلالته على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة ، فلا يرد أنهم كيف قالوا ذلك وهم منكرون للبعث ، وعن مجاهد أنهم يرادوا بالحسنى البنين وليس بذاك وقال بعض المحققين : المراد - بما يكرهون - أعم مما تقدم فيشمل البنات وقد علم كراهتهم لها وإثباتها للّه تعالى بزعمهم والشركاء في الرياسة فإن أحدهم لا يرضى أن يشرك في ذلك ويزعم الشريك له سبحانه والاستخفاف برسل اللّه تعالى عليهم السلام فإنهم يغضبون لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل اللّه تعالى عليهم السلام وأراذل الأموال فإنهم كانوا إذا رأوا ما عينوه للّه تعالى من أنعامهم أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها ولو فعل نحو ذلك معهم غضبوا ، وعلى هذا يفسر الجعل بما يعم الزعم والاختيار وما تعم القلاء وغيرهم ولا يخلو الكلام عن نوع تكرير ، والمراد من تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ يكذبون وهو من بليغ الكلام وبديعه ، ومثله قولهم : عينها تصف السحر أي ساحرة وقدها يصف الهيف أي هيفاء ، وقول أبي العلاء المعري :
سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك ، والظاهر أن الْكَذِبَ مفعول تَصِفُ وأَنَّ لَهُمُ بدل منه أو بتقدير بأن لهم ولما حذفت الباء صار في موضع نصب عند سيبويه ، وعند الخليل هو في موضع جر ، وجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف كما أشرنا إليه في بيان المعنى ، وجوز أبو البقاء كون الْكَذِبَ بدلا - مما يكرهون - وهو كما ترى. وقرأ الحسن. ومجاهد باختلاف أَلْسِنَتُهُمُ بإسقاط التاء وهي لغة تميم ، واللسان يذكر ويؤنث قيل :
ويجمع المذكر على ألسنة نحو حمار وأحمرة والمؤنث على ألسن كذراع واذرع. وقرأ معاذ بن جبل. وبعض أهل الشام «الكذب» بثلاث ضمات وهو جمع كذوب كصبر وصبور وهو مقيس. وقيل : جمع كاذب نحو شارف وشرف وهو غير مقيس ، ورفعه على أنه صفة الألسنة أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى حينئذ مفعول تَصِفُ لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ لَهُمُ مكان ما زعموه من الحسنى النَّارَ التي ليس وراء عذابها عذاب وهو علم في السوأى ، وكلمة لا رد لكلام وجَرَمَ بمعنى كسب وأَنَّ لَهُمُ في موضع نصب على المفعولية أي كسب ما صدر منهم إن لهم ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج ، وقال قطرب : جَرَمَ بمعنى ثبت ووجب وإن لهم في موضع رفع على الفاعلية له ، وقيل : لا جَرَمَ بمعنى حقا وأَنَّ لَهُمُ فاعل حق المحذوف ، وقد مر تمام الكلام في ذلك وحلا. وقرأ الحسن.
وعيسى بن عمر «إن لهم» بكسر الهمزة وجعل الجملة جواب قسم أغنت عنه لا جَرَمَ وكذا قرآ بالكسر في قوله تعالى : وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي مقدمون معجل بهم إليها على ما روي عن الحسن. وقتادة من افرطته إلى كذا قدمته وهو معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه ومنه أنا «فرطكم على الحوض» أي متقدمكم وكثيرا ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح نحو دلو فارط وفرط ، وأنشدوا للقطامي :
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فرّاط لوراد
وقال مجاهد ، وابن جبير ، وابن أبي هند : أي متركون في النار منسيون فيها أبدا من أفرطت فلانا خلفي إذا تركته ونسيته ، وقرأ ابن عباس. وابن مسعود وأبو رجاء ، وشيبة ونافع. وأكثر أهل المدينة مُفْرَطُونَ بكسر الراء اسم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 412
فاعل من أفرط اللازم إذا تجاوز أي مجاوز والحد في معاصي اللّه تعالى. وقرأ أبو جعفر «مفرّطون» بتشديد الراء وكسرها من فرط في كذا إذا قصر أي مقصرون في طاعة اللّه تعالى ، وعنه أنه قرأ «مفرّطون» بتشديد الراء وفتحها من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى تقدم أي مقدمون إلى النار.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم عما كان يناله من جهالات قومه الكفرة ووعيد لهم على ذلك ، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم التأكيد أي أرسلنا رسلا إلى أمم من قبل أمتك أو من قبل إرسالك إلى هؤلاء فدعوهم إلى الحق فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة فلم يتركوها ولم يمتثلوا دعوة الرسل عليهم السلام ، وقد تقدم الكلام في نسبة التزيين إلى الشيطان فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي قرين الأمم وبئس القرين أو متولي اغوائهم وصرفهم عن الحق الْيَوْمَ أي يوم زين الشيطان أعمالهم فيه ، وهو وإن كان ماضيا واليوم المعرف معروف في زمان الحال كالآن لكان صور بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها ، وسمى مثل ذلك حكاية الحال الماضية وهو استعارة من الحضور الخارجي للحضور الذهني أو المراد باليوم مدة الدنيا لأنها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما أي فهو وليهم في الدنيا وَلَهُمْ في الأخرى عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب النار ، وقد ورد إطلاق اليوم على مدتها كثيرا فهو مجاز متعارف وليس فيه حكاية لما مضى أو يوم القيامة الذي فيه عذابهم لكن صور بصورة الحال استحضارا له كما في الوجه الأول إلا أنه حكاية آتية وفي الأول حكاية حال ماضية وليس من مجاز الأول ، والولي على هذا بمعنى الناصر أي لا ناصر لهم في ذلك اليوم غيره وهو نفي للناصر على أبلغ وجه على حد قوله :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
ولا يجوز أن يكون بمعنى المتولي للإغواء إذا لا إغواء ثمة ولا بمعنى القرين لأنه في الدرك الأسفل من النار ، وجوز بعضهم باعتبار أنه معهم في النار في الجملة ولا يضر اختلافهم في الدركات ، والظاهر أن ضمائر الجمع كلها للأمم كما أشرنا إليه في بعضها ، وجوز الزمخشري أن يكون ضمير وَلِيُّهُمُ المضاف إليه لقريش لا للأمم والْيَوْمَ بمعنى الزمان الذي وقع فيه الخطاب أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم.
وأن يكون الضمير للمتقدمين ، والكلام على حذف مضاف أي ولي أمثالهم ، والمراد من الأمثال قريش.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه بعدا لاختلاف الضمائر من غير داع إليه ولا إلى تقدير المضاف. ورد بأن لفظ اليوم داع إليه ، وقال الطيبي : إن الوجه وعليه النظم الفائق لأن في تصدير القسمية بقوله تعالى : تَاللَّهِ بعد إنكارهم الرسالة وتعداد قبائحهم الإشعار بأن ما ذكر كالتسلية فكأنه قيل : إن الأمم الخالية مع الرسالة السالفة لم تزل على هذه الوتيرة فلك أسوة بالرسل عليهم السلام وقومك خلف لتلك الأمم فلا تهتم لذلك فإن ربك ينتقم لك منهم في الدنيا والآخرة فاشتغل أنت بتبليغ ما أنزل إليك وتقرير أنواع الدلائل المنصوبة على الوحدانية وبالتنبيه على إقامة على نعم اللّه تعالى المتظاهرة اه.
وقال في الكشف : لا ترجيح لهذا الوجه من حيث التسلي إذ الكل مفيد لذلك على وجه بين وإنما الترجيح للوجه الصائر إلى استحضار الحال لما فيه من مزيد التشفي اه ، والحق أن ما ذكره الزمخشري غير ظاهر وما قيل : إن لفظ الْيَوْمَ داع إليه في حيز المنع ، وقصارى ما يقال : وجود القرينة المصححة لا المرجحة هذا. وذكر في الكشف في بيان ربط الآيات أن قوله سبحانه : وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ إلى هذا الموضع فن آخر من كفرانهم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 413
وتعداد قبائحهم ، وجاز أن يكون من تتمة سابقه على منوال وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل : 53] إلا أنه بنى على الغيبة دلالة على أنه فن آخر ، وهذا قريب المتناول ، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ فإن ما وقع من الكلام بعده من تتمته اعتراضا واستطرادا كأنه قيل : ذاك معتقدهم في المعاد وهذا في المبتدأ وهم فيما بين ذلك متدينون بهذا الدين القويم ومع اختلاف العقيدة في المبدأ والمعاد يدعون أن لهم الحسنى فيحق لهم ضد ذلك حقا ثم قال : وقوله تعالى وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ شديد الملائمة على هذا الوجه قوله سبحانه هنالك : لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ [النحل : 39] ، ولقوله تعالى : وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل : 44] وفيه أن من استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم اه.
وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد ، والمراد بالكتاب القرآن فإنه الحقيق بهذا الاسم ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم اختلفوا فيه من البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والتحريم والإقرار والإنكار ومقتضى رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم السالفة أن يرجع ضمير إليهم واخْتَلَفُوا إليهم أيضا لكن منع عنه عدم تأتي تبيين الذي اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعا إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعا إلى الناس مطلقا لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولا أوليا.
وَهُدىً وَرَحْمَةً عظيمين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصهم بالذكر لكونهم المغتنمين آثاره. والاسمان - قال أبو حيان :
- في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب أَنْزَلْنا ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه ، ولما لم يتحد في لِتُبَيِّنَ لأن فاعل الإنزال هو اللّه تعالى لا الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت العلة بالحرف.
وقال الزمخشري : هما معطوفان على محل لِتُبَيِّنَ وهو ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه ، ألا ترى أنه لو نصب لم يجز لاختلاف الفاعل اه. وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا ليس على ما ينبغي.
وقال الحلبي : إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار والمجرور والنصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمرا بالعطف على المحال وللخفاجي هاهنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع ، ولعله إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة لتقدمه في الوجه في الوجود عليهما وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً تقدم الكلام في مثله ، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيدا لمضمونه وتوحيدا لما يعقبه من أدلة التوحيد فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بما أنبت به فيها من أنواع النباتات بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليابس ، وليس المراد إعادة اليابس بل إنبات مثله ، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة ، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد ، والآية دليل لمن قال : إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض ميتة لَآيَةً وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته جل شأنه ، والإشارة بما يدل على البعد إما لتعظيم المشار إليه أو لعدم ذكره صريحا لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ قال المولى ابن الكمال : أريد بالسمع القبول كما في سمع اللّه لمن حمده أي لقوم يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها ، وإنما خص كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله تعالى : هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف : 52] وربما قررناه تبين وجه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 414
العدول عن - يبصرون - إلى يَسْمَعُونَ انتهى ، وقال الخفاجي : اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلا وكتبا فكفروا بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخرة عقبه بأنه أرسله صلى اللّه عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة لمن أرسل إليه إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه وأنهم سيدخلون في دينه أفواجا أفواجا ثم أتبع ذلك على سبيل التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال الأمطار التي أحيت موات الأرض وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ولولا هذا لكان قوله تعالى : وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً كالأجنبي عما قبله وبعده ، وقوله سبحانه : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ تتميم لقوله تعالى : وَما أَنْزَلْنا إلخ وللمقصود بالذات منه فالمناسب يَسْمَعُونَ لا يبصرون ولو كان تتميما لملاصقة من الإنبات لم يكن - ليسمعون - بمعنى يقبلون مناسبة أيضا ، ثم قال : ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه : يمكن أن يحمل على يسمعون قولي واللّه أنزل إلخ فإنه مذكر وحامل على تأمل مدلوله انتهى ، وفي قوله عقبه : بأنه أرسله صلى اللّه عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة إلخ خفاء كما لا يخفى ، ومتى كان تتميما لقوله تعالى : وَما أَنْزَلْنا إلخ لم يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر ، وفي البحر أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله سبحانه لقوم يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام :
122] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله سبحانه : يَسْمَعُونَ أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع انصاف وتدبر ، ولملاحظة هذا المعنى واللّه تعالى أعلم لم يختم سبحانه - بلقوم يبصرون - وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد انتهى.
وفيه أيضا من التكلف ما فيه ، وأقول : لعل الأظهر أن المشار إليه ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماع على ظاهره والكلام تتميم لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى يَسْمَعُونَ للإشارة إلى ظهور هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط ، ويكفي في ربط الآية بما قبلها تشارك الكتاب والمطر في الإحياء لكن في ذاك إحياء القلوب وفي هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي معبرا يعبر به من الجهل إلى العلم ، وأصل معنى العبر والعبور والتجاوز من محل إلى آخر ، وقال الراغب : العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها ، والمشهور عمومه فاطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة؟ والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة نُسْقِيكُمْ استئناف بياني كأنه قيل كيف العبرة فيها؟ فقيل : نسقيكم مِمَّا فِي بُطُونِهِ ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه ، وضمير بُطُونِهِ للأنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه ، ولذا جاء الوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل.
ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردا وكلامه رحمه اللّه تعالى متناقض ظاهرا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه : وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد ، ألا ترى أنك تقول : أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وإياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع ، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت ، ثم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 415
قال : وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك تخرجه إلى فعائل كما تقول جدود وجدائد وركوب وركائب. ولو فعلت ذلك بما فعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء ، ويقوي ذلك أن بعض العرب تقول : أتى للواحد فيضم الألف ، وأما أفعال فقد يقع للواحد ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ وقال أبو الخطاب سمعت العرب تقول : هذا ثوب أكياس انتهى.
وقال رحمه اللّه تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى ، وقد اضطرب الناس في التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء الثاني على ظاهره من أن أفعالا لا يكون من أبنيته المفرد فحمل قوله أولا وأما أفعال فقد يقع للواحد إلخ : على أن بعض العرب قد يستعمله فيه مجازا كالأنعام بمعنى النعم كما قال الشاعر :
تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي
وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعا بدليل ما صرح به في الموضع الآخر من أنه لا يكون إلا جمعا. واعترض عليه بأن مقصود سيبويه بما ذكره أولا الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه : منها أن الأولين لا يقعان على الواحد بخلاف الآخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود. نعم لا كلام في تدافع كلاميه ، وأيضا لو كان كذلك لم يختص ببعضهم ، وأيضا إن التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى صيغتي منتهى الجموع. وتعقبه الخفاجي بقوله : والحق أنه لا تدافع بين كلاميه فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن الأولتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فأشبهتا الآحاد ثم قوى ذلك بأن قوما من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفردا حقيقة ، ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك ، وقد أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض ، ومن ما ذكره بعد بناء على اللغة المتداولة ، وقوله : إن مقصوده أولا الفرق بوجوه لا وجه له كما يعرفه حملة الكتاب انتهى ، ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد المذكر إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض العرب ومن قال : إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحده كما في قول ابن الحاجب : المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن أل الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير كل منهما على الآخر.
وفي البحر أعاد الضمير مذكرا مراعاة الجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه حجاز عوده عليه مذكرا كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه وقيل جمع التكثير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه مفردا كقوله :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى : كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [المدثر : 54 ، 55] فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام : 78] ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب.
واعترض بأنه كيف جمع - نعم - وهي تخصيص بالإبل والإنعام تقال للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساويا.
وأجيب بأن من يراه جمعا له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل التفرقة ناشئة من الاستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد الأنواع.
وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه. والحسن ، وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما. وابن عامر. ونافع. أبو بكر. وأهل

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 416
المدينة نُسْقِيكُمْ بفتح النون هنا وفي المؤمنين على أن مضارع سقى وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا قول لبيد :
سقى قومي بني مجد وأسقي نميرا والقبائل من هلال
وقال بعض : يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه ، وقيل : سقاه بمعنى رواه بالماء وأسقاه بمعنى جعله شرابا معدا له ، وفيه كلام بعد فتذكر. وقرأ أبو رجا «يسقيكم» بالياء مضمومة والضمير عائد على اللّه تعالى.
وقال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون عائدا على النعم وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث ، والمعنى وإن لكم في الأنعام نعما يسقيكم أي يجعل لكم سقيا. وهو كما ترى. وقرأت فرقة منهم أبو جعفر «تسقيكم» بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة انتهى ، ولم يبين وجه ضعفها ، وكأنه واللّه تعالى أعلم عنى به اجتماع التأنيث في «تسقيكم» والتذكير في بُطُونِهِ وغفل أن مثل ذلك لا يعد ضعفا لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين.
مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً الفرث على ما في الصحاح السرجين ما دام في الكرش والجمع فروث. وفي البحر كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعي ، وبَيْنِ تقتضي متعددا وهو هنا الفرث والدم فيكون مقتضى ظاهر النظم توسط اللبن بينهما ، وروى ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما.
وروي نحوه عن ابن جبير فالبينية على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك الإمام الرازي بقوله : ولقائل أن يقول :
اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحس فإن الحيوانات تذبه دائما ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في الكبد ينضج ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية ، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة ، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث ، وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع ، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب اللّه تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن ، لا يقال : إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن لأنا نقول : الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حارا يابسا ومزاج الأنثى باردا رطبا فإن الولد إنما يتولد في داخل بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد فتتسع للولد ، ثم إن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك قبل في الرحم ، ومن تدبر في بدائع صنع اللّه تعالى فيما ذكر من الاخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته :
حكم حارت البرية فيها وحقيق بأنها تحتار
وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري أجزاء منه إلى الضرع ويستحيل لبنا بتدبير الحكيم العليم ، وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 417
بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روي «1» عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذو البدن فإن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب واللّه تعالى أعلم ، ومِنْ الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوف من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت ، وهي متعلقة - بنسقيكم - ومِنْ الثانية ابتدائية وهي أيضا متعلقة - بنسقيكم - فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الاسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما ولَبَناً مفعول ثان - لنسقيكم - وتقديم ذلك عليه لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكنه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه ، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراءى نارهما فإن لذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر ، وجوز أن يكون مِنْ بَيْنِ حالا من لَبَناً قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة.
وجوز أن تكون مِنْ الأولى ابتدائية كالثانية فيكون مِنْ بَيْنِ بدل اشتمال مما تقدم خالِصاً مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أو صافيا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في حلقهم لدهنيته.
أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «ما شرب أحد لبنا فشرق إن اللّه تعالى يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين».
وقرأت فرقة «سيّغا» بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر «سيغا» مخففا من سيغ كهين المخفف من هين واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه ، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسلك البول بها أيضا وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا.
وفي التفسير الكبير قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر ، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرا انقلب به لبنا ثم دبر تدبيرا آخر حدث من ذلك اللبن الدهن والجبن ، وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع.
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ متعلق بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما ، وحذف لدلالة نُسْقِيكُمْ قبله عليه ، وقوله تعالى : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً بيان وكشف عن كنه الاسقاء أو - بتتخذون - ومِنْهُ من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في الدار فيها أو خبر لمحذوف صفته تَتَّخِذُونَ أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وضمير مِنْهُ عائد إلى على المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرف أريد به الجنس ، وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو على ثمر المقدر ، و«السكر» الخمر قال الأخطل :
___________
(1) أي أن صح اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 418
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء «1» والسكر
وهو في الأصل مصدر سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. واستشهد له بقوله :
وجاؤونا بهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاحي
وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك ، وإليه ذهب صاحب الكشاف وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه ، وقدم الوجه الأول من أوجهه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به الطيبي وبينه بما بينه ، وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون أخويه. وفي الكشف بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار العصير وأنه لا يصلح عطفا في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح بيانا للعبرة في الأنعام ، وفيه أن تَتَّخِذُونَ لا يصلح كشفا عن كنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق الحسن بالتمر والزبيب أيضا وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى : نُسْقِيكُمْ ليجعل مدركا لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف على مجموع السابق ، وأوثر الفعلية لمكان قربه من نُسْقِيكُمْ وقوله تعالى تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً تم البيان عنده ثم أتي بفائدة زائدة ، وأظهر الأوجه ما ذكر آخرا أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخدون ليكون عطفا للاسمية على الاسمية أعني قوله تعالى : وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفي بكونه عطفا على ما هو عبرة ولم يصرح ، وأفيد بالتبعيض أن من ثمراتها ما يؤكل قبل الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوش وغير ذلك اه ، وما ذكره في التأويل من بيان البيان عند سَكَراً محوج إلى جعل رِزْقاً معمولا لعامل آخر ولا يخفى بعده ، والظاهر أنه لا ينكره ، وما ذكره من الوجه الأظهر ذكره الحوفي كصاحبه ، ولا يرد عليه أن فيه حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضا من مجرور من أو في المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق ، وقد يحذف موصوفا بالجملة في غير ذلك كقول الراجز :
ما لك عندي غير سهم وحجر وغير كبداء شديد الوتر
جادت بكفّي كان من أرمى البشر أراد رجل نعم قال الطبري : التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه ، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين وكأنه اعتبر ما موصولة وحذف الموصول مع إبقاء الصلة لا يجوز عنهم ، ولعلهم يفرقون بين الموصول والموصوف فيما ذكر ، وقال العلامة ابن كمال في بعض رسائله : لا وجع لما اختاره صاحب الكشاف يغني به تعليق الجار - بنسقيكم - محذوفا وتقدير العصير مضافا لأنه حينئذ لا يتناول المأكول وهو أعظم صنفي ثمراتهما يعني النخيل والأعناب والمقام مقام الامتنان ومقتضاه استيعاب الصنفين ثم قال : والعجب منه وممن اتبعه كالبيضاوي كيف اتفقوا على تفسير الرزق الحسن بما ينتظم التمر والزبيب ومع ذلك يقولون : إن المعنى ومن عصيرهما تتخذون سكرا ورزقا حسنا فإنه لا انتظام بين هذين الكلامين فالوجه أن يتعلق الجار - بتتخذون - ويكون منه تكرير الظرف للتأكيد اه وهو الذي استظهره أبو حيان وقد سبقت الإشارة إلى الاعتراض بما تعجب منه مع الجواب بما فيه بعد ، ونقل عنه أنه جعله متعلقا بما في الاسقاء من معنى الإطعام أي نطعمكم من ثمرات النخيل والأعناب لينتظم المأكول منهما والمشروب المتخذ من عصيرهما. وفيه من البعد ما فيه.
___________
(1) هو نوع من الأشربة اه عنه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 419
وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم ، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضا ولا يجوز عند المعترض. واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك ، وقيل : إنه معطوف على الأنعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة وَتَتَّخِذُونَ بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر - في - بدل من وضمير مِنْهُ لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبرا بما قيل في ضمير بُطُونِهِ وتفسير «السكر» بالخمر هو المروي عن ابن مسعود. وابن عمر. وأبي رزين. والحسن. ومجاهد.
والشعبي. والنخعي. وابن أبي ليلى. وأبي ثور. والكلبي. وابن جبير مع خلق آخرين ، والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة :
90] على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها ، وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير ، وقيل : نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روي عن ابن عباس أن «السكر» هو الخل بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن «السكر» المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشده :
جعلت اعراض الكرام سكرا وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى الخمر أشبه منه بالطعام ، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتمزيق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة ، وكأنه لهذا قال الزجاج : إن قول أبي عبيدة لا يصح ، وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلا ولذا قيل : الغيبة فاكهة القراء ، وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا : المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة ، واستدلوا عليه بأن اللّه تعالى امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما
روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «حرم اللّه تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر «1» من كل شراب» أخرجه الدارقطني ،
وإلى حل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي : وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه. وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والبيضاوي بعد أن فسر «السكر» بالخمر تردد في أمر نزولها فقال : إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة ، ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابلة الحسن وهو مقتضى لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة ، واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها.
وفي الكشاف بعد أن فسر «السكر» أيضا بما ذكر قال : وفيه وجهان : أحدهما أن تكون منسوخة ، والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة ، ونقل صاحب الكشف أن القول بكونها منسوخة الأقاويل ، ثم قال : وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن ، وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة ، وعلى الأول يكون رمزا إلى أن السكر وإن كان مباحا فهو مما يحسن اجتنابه اه. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم أن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام ، وذكر أن كلام الزمخشري ومن تبعه ناشئ عن الغفلة عن هذا ، ولعل عدم وصف «السكر» بما وصف به ما بعده لعلم اللّه تعالى أنه سيكون رجسا يحكم
___________
(1) بضم السين اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 420
الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل : تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات. وأنت تعلم أن العطف ظاهره المغايرة.
هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافة سبحانه لنفسه بقوله تعالى : نُسْقِيكُمْ بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً باهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزل منزلة اللازم ، قال أبو حيان : ولما كان مفتتح الكلام وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ناسب الختم بقوله سبحانه : - يعقلون - لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا أقول : إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث إن العقار كما قيل للعقول عقال :
إذا دارها بالأكف السقاة لخطابها أمهروها العقولا
فافهم ذاك واللّه تعالى يتولى هداك وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ألهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير وفسر بعضهم الإيحاء إليها بتسخيرها لما أريد منها ، ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإيحاء لأنه إنما يكون للعقلاء وليس النحل منها. نعم يصدر منها أفعال ويوجد فيها أحوال يتخيل بها أنها ذوات عقول وصاحبة فضل بمقصر عنه الفحول ، فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون نافذ الحكم على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير ، وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها ، وهي تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها ، وفي ذلك سر لطيف فإنهم قالوا : ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة ولها أحوال كثيرة عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثير من الناس وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا يمنعون إرادة الحقيقة ، وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلا وأنبياء والشرع يأبى ذلك.
وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسمع عن أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم ، والنحل جنس واحده نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه : أَنِ اتَّخِذِي وقرأ ابن وثاب «النحل» بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون اتباعا لحركة النون ، وأَنِ إما مصدرية بتقدير باء الملابسة أي بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار معناه المشهور معنى القول دون حروفه ، وذلك كاف في جعلها تفسيرية : وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال : إن ذلك نظرا لأن الوحي هنا بمعنى الإلهام إجماعا وليس في الإلهام معنى القول مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أو كارا ، وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه تشبيها له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة القسمة كما سمعت :
وقرئ «بيوتا» بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول بالضم.
وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي يعرشه الناس أي يرفعه من الكروم كما روي عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض ، ومِنَ في المواضع الثلاثة للتبعيض بحسب الأفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبني في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك ، وبعضهم قال : إن مِنَ للتبعيض بحسب الأفراد فقط ، والمعنى الآخر معلوم من خارج لا من مدلول مِنَ إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا ابن كمال تأليف مفرد في المسألة فليراجع ، وأيّا ما كان ففيه مع ما يأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى من

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 421
البديع صنعة الطباق ، وتفسير البيوت بما تبنيه هو الذي ذهب إليه غير واحد ، وقال أبو حيان : الظاهر أنها عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار والخلايا التي يصنعها ابن آدم للنحل والكوى التي تكون في الحيطان ، ولما كان النحل نوعين منه من مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا ونحوها شمل الأمر بالاتخاذ البيوت النوعين.
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من جميعها ، وهي جمع ثمرة محركة حمل الشجرة ، وأخذ بظاهر ذلك ابن عطية فقال : إنما تأكل النوار من الأشجار ، ويقال الثمرة للشجرة أيضا كما في القاموس ، قيل : وهو المناسب هنا إذ التخصيص بحمل الشجر خلاف الواقع لعموم أكلها للأوراق والأزهار والثمار. وتعقب بأنه لا يخفى أن إطلاق الثمرة على الشجرة مجاز «1» غير معروف وكونها تأكل من غيرها غير معلوم وغير مناف للاقتصار على أكل ما ينبت فيها والعموم في كل على ما يشير إليه كلام البعض عرفي ، وجوز أن يكون مخصوصا بالعادة أي كلي من كل ثمرة تشتهينها ، وقيل : للتكثير ، قال الخفاجي : ولو أبقي على ظاهره أيضا جاز لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر للتخلية والإباحة ، وأيّا ما - فمن - للتبعيض.
وقال الإمام : رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء ظل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد تكون تلك الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل الترنجبين فإنه ظل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض البلدان ، وأما القسم الأول فهو الذي ألهم اللّه تعالى النحل حتى تلتقطه من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت به إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها فالمجتمع من ذلك هو العسل ، ومن الناس من يقول : إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ثم تقيئه ، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة للاستقراء ، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه ظل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا هاهنا ، وأيضا فنحن نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل حتى إنا إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا لها بقية منه لغذائها ، وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية اه. وأنت تعلم أن ظاهر كُلِي يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييدا له من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة ، فقد ذكر بعض أجلة الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل.
نعم لتلك المشابهة يطلق عليها اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لا طل الندا كما زعم وإن قالوا : هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول بفارس ويجمع كالمن ، ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنيط أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكنه أغلظ ، والأمر في مشاهدة تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائميا ، وينقل عن بعض الطيور التي تكمن شتاء التغذي بالرجيع. ويؤيد المشهور ما
روي عن الأمير علي كرم اللّه تعالى وجهه في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيه لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل ،
وجاء عنه كرم اللّه تعالى وجهه أيضا أما العسل فونيم ذباب ،
وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال المعري :
والنحل يجني المر من زهر الربا فيعود شهدا في طريق رضابه
___________
(1) يبعد هذا ذكره في القاموس اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 422
وقال الحريري :
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن ترد ذمه قيء الزنابير «1»
وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيرا حملها لأوراق الأزهار بفمها إلى بيوتها وهو مما يستأنس به للأكل ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى أيضا ما يؤيده ، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي طرقه سبحانه راجعة إلى بيوتك بعد الأكل ، فالمراد بالسبل مسالكها في العود ، ويحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة للمرعى «2» ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها ، وفي إضافة السبل إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيء لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها ، وقيل : المراد من السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه ، وحينئذ فمعنى كُلِي اقصدي الأكل ، وقيل : السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل ، وقيل : مجاز عن طرق إحالة الغذاء عسلا ، و«اسلكي» متعد من سلكت الخيط في الإبرة سلكا لا لازم من سلك في الطريق سلوكا ، ومعوله محذوف أي فاسلكي ما أكلت في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك.
وتعقب بأن السلك في تلك المسالك ليس فيه لها اختيار حتى تؤمر به فلا بد أن يكون الأمر تكوينيا ، ورد بأنه ليس بشيء لأن الإدخال باختيارها فلا يضره كون الإحالة المترتبة عليه ليست اختيارية وهو ظاهر فليس كما زعم ذُلُلًا أي مذللة ذللها اللّه تعالى وسهلها لك فهو جمع ذلول حال من السبل وروي هذا عن مجاهد.
وجعل ابن عبد السلام وصف السبل بالذلل دليلا على أن المراد بالسبل مسالك الغذاء لا طرق الذهاب أو الإياب قال : لأن النحل تذهب وتؤوب في الهواء وهو ليس طرقا ذللا لأن الدلول هو الذي يذلل بكثرة الوطء والهواء ليس كذلك وفيه نظر.
وقال قتادة : أي مطيعة منقادة فهو حال من الضمير في فَاسْلُكِي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها استئناف عدل به عن خطاب النحل إلى الكلام مع الناس لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع اللّه تعالى التي هي موضع عبرتهم بعد ما أمرت بما أمرت شَرابٌ يعني العسل ، وسمي بذلك لأنه مما يشرب حتى قيل : إنه لا يقال : أكلت عسلا وإنما يقال : شربت عسلا ، وكأنه سبحانه إنما لم يعبر بالإخراج مسندا إليه تعالى اكتفاء بإسناد الإيحاء بالمبادي إليه جل شأنه وفيه إيذان بعظيم قدرته عز وجل بحيث إن ما يشعر بإرادة الشيء كاف في حصوله. ومِنْ لابتداء الغاية ، وذكر سبحانه مبدأ الغاية الأولى وهي البطون ولم يذكر سبحانه مبدأ الغاية الأخيرة والجمهور على أنه يخرج من أفواهها ، وزعم بعضهم أنه أبلغ في القدرة ، وبيت الحريري على ذلك وكذا قول الحسن : لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم ، وقيل : من أدبارها وهو ظاهر ما روى عن يعسوب المؤمنين كرم اللّه تعالى وجهه.
وقال آخرون : لا ندري إلا ما ذكره اللّه تعالى. وحكي أن سليمان عليه السلام. والإسكندر. وأرسطو صنعوا لها بيوتا من زجاج لينظروا إلى كيفية صنيعها وهل يخرج العسل من فيها أم من غيره فلم تضع من العسل شيئا حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة ، وقال بعضهم : المراد بالبطون الأفواه ، وسمي الفم بطنا لأنه في حكمه ولأنه مما يبطن ولا يظهر ، وهذا تأويل من ذهب إلى أنها تلتقط الذرات الصغيرة من الطل وتدخرها في بيوتها وهو العسل. وأنت تعلم أن الظاهر من البطن الجارحة المعروفة فالآية تؤيد القول المشهور في تكون العسل. وفي الكشف
___________
(1 ، 2) في نسخة وإن ذممت تقل قيء الزنابير اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 423
أن في قوله تعالى : ثُمَّ كُلِي إشارة إلى أن لمعدة النحل في ذلك تأثيرا وهو المختار عند المحققين من الحكماء ، ومن جعل العسل نباتيا محضا وفسر البطون بأفواه النحل فليت شعري ماذا يصنع بقوله سبحانه : ثُمَّ كُلِي وأجيب بأنّه يفسر الأكل بالالتقاط وهو كما ترى أن دفع الفساد لا يدفع الاستبعاد ، ومن الناس من زعم أنها تجتني زهرا وطلا فالمجتنى من الزهر نفسه يكون عسلا والمجتنى من الطل يكون موما «1» والعقل يجوز العكس ولعله أقرب من ذلك مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بالبياض والصفرة والحمرة والسواد إما لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله وإما لاختلاف المرعى أو لاختلاف الفصل أو لاختلاف سن النحل ، فالأبيض لفتيها والأصفر لكهلها والأحمر لمسنها والأسود للطاعن في ذلك جدا.
وتعقب بأنه مما لا دليل عليه ، وقد سألت جمعا ممن أثق بهم قد اختبروا أحوالها فذكروا أنهم قد استقرؤوا وسبروا فرأوا أقوى الأسباب الظاهرة لاختلاف الألوان اختلاف السن بل قال بعضهم : ما علمنا لذلك سببا إلا هذا بالاستقراء ، وحينئذ يكون ما ذكر مؤيدا للقول المشهور في تكون العسل كما لا يخفى على من له أدنى ذوق.
فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه عسل فله دخل في أكثر ما به الشفاء من المعاجين والتراكيب ، وقيل عليه : إن دخوله في ذلك لا يقتضي أن يكون له دخل في الشفاء بل عدم الضرر إذ قيل : إن إدخاله في التراكيب لحفظها ولذا ناب عنه في ذلك السكر ، والذي رأيناه في كثير من كتب الطب أنه يحفظ قوى الأدوية طويلا ويبلغها منافعها ، ولا يخفى على المنصف أن ما يحفظ القوى ويبلغ منافع الدواء يصدق عليه أن له دخلا في الشفاء ، ولم يشتهر أن السكر ينوب منابه في ذلك.
وفي البحر أن العسل موجود كثيرا في أكثر البلاد وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث مصنوع للبشر ، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأدوية والأشربة إلا العسل اه ، وفي شرح الشمائل أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل السكر ، وذكر غير واحد أنه ليس المراد بالناس هنا العموم لأن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل كأمراض الصفراء فإنه مضر للصفراوي ، ولو يسلم أن السكنجبين الذي الذي هو خل وعسل كما ينبئ عنه أصل معناه نافع له ، والنافع نوع آخر من السكنجبين فإنه ثقل إلى ما ركب من حامض وحلو ، وله أنواع كثيرة ألفت في جمعها الرسائل حتى قالوا بحرمة تناوله عليه وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم ، والتنوين في شِفاءٌ إما للتعظيم أي شفاء أي شفاء ، وإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا أن كل أحد يستشفي به.
ولا يرد أن اللبن أيضا كذلك بل قلما يوجد شيء من العقاقير إلا وفيه شفاء للناس بهذا المعنى لما قيل : إن التنصيص على هذا الحكم فيه لإفادة ما يكاد يستبعد من اشتمال ما يخرج على اختلاف ألوانه من هذه الدود التي هي أشبه شيء بذوات السموم ولعلها ذات سم أيضا فإنها تلسع وتؤلم وقد يرم الجلد من لسعها وهو ظاهر في أنها ذات سم على شِفاءٌ لِلنَّاسِ ويفهم من ظاهر بعض الآثار أن الكلام على عمومه. فقد أخرج حميد ابن زنجويه عن نافع ان ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلا فقلنا له : تداوي الدمل بالعسل فقال : أليس اللّه تعالى يقول فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ؟.
وأنت تعلم أنه لا بأس بمداواة الدمل بالعسل فقد ذكر الأطباء أنه ينقي الجروح ويدمل ويأكل اللحم الزائد
___________
(1) قوله يكون موما هذه لفظة تركية ومعناها بالعربية الشمع اه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 424
والحق أنه لا مساغ للعموم إذ لا شك في وجود مرض لا ينفع فيه العسل ، والآثار المشعرة بالعموم اللّه تعالى أعلم بصحتها. وأما ما
أخرجه أحمد. والبخاري. ومسلم. وابن مردويه «عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إن أخي استطلق بطنه فقال : اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال : سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال : اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال : ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : صدق اللّه تعالى وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه فبرأ»
فليس صريحا في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علمه اللّه سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض الاستطلاق قد يشفى بالعسل ، ففي طبقات الأطباء أنه إنما قال صلى اللّه عليه وسلم ذلك لأنه علم أن في معدة المريض رطوبات لزجة غليظة قد أزلقت معدته فكلما مر به شيء من الأدوية القابضة لم يؤثر فيه والرطوبات باقية على حالها والأطعمة تزلق عنها فيبقى الإسهال فلما تناول العسل جلا تلك الرطوبات وأحدرها فكثر الإسهال أولا بخروجها وتوالي ذلك حتى نفذت الرطوبة بأسرها فانقطع إسهاله وبرئ ،
فقوله صلى اللّه عليه وسلم : «صدق اللّه تعالى»
يعني بالعلم الذي عرف نبيه عليه الصلاة والسلام به ، وقوله «كذب بطن أخيك»
يعني ما كان يظهر من بطنه من الإسهال وكثرته بطريق العرض وليس هو بإسهال ومرض حقيقي فكان بطنه كاذبا اه. وقال بعضهم : المراد - بصدق اللّه تعالى - صدق سبحانه في أن العسل فيه الشفاء ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «كذب بطن أخيك»
من المشاكلة الضدية كقولهم : من طالت لحيته تكوسج عقله ، وهو على الأول استعارة مبنية على تشبيه البطن بالكاذب في كون ما ظهر من إسهالها ليس بأمر حقيقي وإنما هو لما عرض لها ، وعلى ذلك قول الأطباء : زحير كاذب وزحير صادق. وأنكر بعضهم هذا النوع من المشاكلة وقال : إنها ليست معروفة وإنه إنما عبر به لأن بطنه كأنه كذب قوله اللّه تعالى بلسان حاله وهو ناشئ من قلة الاطلاع. وقد وقع نظير هذه القصة في زمن المأمون ، وذلك أن ثمامة العبسي وكان من خواصه مرض بالإسهال فكان يقوم في اليوم والليلة مائة مرة وعجز الأطباء عن علاجه فعالجه يزيد بن يوحنا طبيب المأمون بالمسهل أيضا فبرئ وكان قد ظن الأطباء أنه يموت بسبب ذلك ولا يبقى لغده ، وذكر الطبيب حين سأله المأمون عن وجه الحكمة فيما فعل فذكر أنه كان في جوف الرجل كيموس فاسد فلا يدخله غذاء ولا دواء إلا أفسده فعلمت أنه لا علاج له إلا قلع ذلك بالإسهال ، ومنه يعلم أن ما فعله النبي صلى اللّه عليه وسلم كان من معجزاته الدالة على علمه بدقائق الطب من غير تعليم ، وكذا يعلم أن ما طعن به بعض الملحدين ومن في قلبه مرض من أنه كيف يداوي الإسهال بالعسل وهو مسهل باتفاق الأطباء ناشئ عن الجهل بالدقائق وعدم الوقوف على الحقائق. ونقل عن مجاهد. والضحاك. والفراء ، وابن كيسان وهو رواية عن ابن عباس. والحسن أن ضمير فِيهِ للقرآن والمراد أن في القرآن شفاء لأمراض الجهل والشرك وهدى ورحمة ، واستحسن ذلك ابن النحاس.
وقال القاضي أبو بكر العربي : أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر ، ورجوع الضمير للكتاب في قوله سبحانه : وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مما لا يكاد يقوله أمثال هؤلاء الكرام والعلماء الأعلام. نعم كون القرآن شفاء مما لا كلام فيه ، وقد أخرج الطبراني. وغيره عن ابن مسعود «عليكم بالشفاءين العسل والقرآن» هذا.
وقدم سبحانه الأخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعا وأعظم شأنا وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده ، ثم ذكر اللبن لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده ، وقد يستغنى بشربه عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب الماء عدة من السنين مكتفيا بشرب اللبن ، وسمعنا نحو ذلك عن بعض رؤساء الأعراب ، وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره صلى اللّه عليه وسلم حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل ، ثم الخمر لأنها أقرب إلى

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 425
الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد جعلها إداما كالعسل فإنه كثيرا ما يؤدم به الخبز ويؤكل ، وبينها وبين اللبن نوع مشابهة من حيث إن كلا منهما يخرج من بين أجزاء كثيفة وما أشبه ثقله بالفرث ، وإذا لوحظ السوغ في اللبن وعدمه في الخمر بناء على ما يقولون : إنها ليست سهلة المرور في الحلق ولذا يقطب شاربها عند الشرب وقد يغص بها كان بينهما نوع من التضاد ، ويحسن إيقاع الضد بعد الضد كما يحسن إيقاع المثل بعد المثل ، وإذا لوحظ مآل أمرهما شرعا رأيت أن الخمر لم يسغ شربها بعد نزول الآية فيه وشرب اللبن لم يزل سائغا وبذلك يقوى التضاد ، ويقويه أيضا أن اللبن يخرج من بطن حيوان ولا دخل لعمل البشر فيه والخمر ليست كذلك ، وأما ذكر الرزق الحسن بعد الخمر وتقديمه على العسل فالوجه فيه ظاهر جدا ، ولعل ما اعتبرناه في وجه تقديم الخمر على العسل وذكره بعد اللبن أقوى مما يصح اعتباره في العسل وجها لتقديمه على الخمر وذكره بعد اللبن ، فلا يرد أن في كل جهة تقديما فاعتبارها في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، وقد جاء ذكر الماء واللبن والخمر والعسل في وصف الجنة على هذا الترتيب قال تعالى : فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد : 15] فتأمل فلمسلك الذهن اتساع واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه.
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من آثار قدرة اللّه تعالى لَآيَةً عظيمة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن من تفكر في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة التي مرت الإشارة إليها وخروج هذا الشراب الحلو المختلف الألوان وتضمنه الشفاء جزم قطعا أن لها ربا حكيما قادرا ألهمها ما ألهم وأودع فيها ما أودع ، ولما كان شأنها في ذلك عجيبا يحتاج إلى مزيد تأمل ختم سبحانه الآية بالتفكر. ومن بدع تأويلات الرافضة على ما في الكشاف أن المراد بالنحل علي كرم اللّه تعالى وجهه وقومه. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل : جعل اللّه تعالى طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهما ، وستسمع إن شاء اللّه تعالى ما يقوله الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم في باب الإشارة ، ثم إنه سبحانه لما ذكر من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته بين ذلك فقال عز قائلا : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ حسبما تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال مختلفة ، والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه : وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ولذا قيل : إنه معطوف على مقدر أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم إلخ ، وأَرْذَلِ الْعُمُرِ أخسه وأحقره وهو وقت الهرم الذي تنقص فيه القوى وتفسد الحواس ويكون حال الشخص فيه كحالة وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة. ومن هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى : وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس : 68] ففيه مجاز ، وأخرج ابن جرير عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أن «أرذل العمر» خمس وسبعون سنة
وعن قتادة أنه تسعون ، وقيل :
خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص القوى لم يعمر ، ولعل التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد.
والخطاب إن كان للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي والمستقبل فيه ظاهر ، وإن كان عاما فالمضي بالنسبة إلى وقت وجودهم والاستقبال بالنسبة إلى الخلق ، وعلى التقدير الظاهر أن مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يعم المؤمن مطلقا والكافر ، وقيل : إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى أرذل العمر لقوله تعالى : ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التين : 5 ، 6] وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عكرمة أنه قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ، والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأينا مسلما قارئ القرآن قد رد إلى ذلك ، والاستدلال

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 426
بالآية على خلافه فيه نظر ، وكان من دعائه صلى اللّه عليه وسلم كما أخرجه البخاري. وابن مردويه عن أنس «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات».
لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام للصيرورة والعاقبة وهي في الأصل للتعليل وكي مصدرية والفعل منصوب بها والمنسبك مجرور باللام والجار والمجرور متعلق - بيرد. ، وزعم الحوفي أن اللام لام كي دخلت على كي للتوكيد وليس بشيء ، والعلم بمعنى المعرفة ، والكلام كناية عن غاية النسيان أي ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه من ساعته يقول لك : من هذا؟ فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه ، وقيل : المراد لئلا يعلم زيادة علم على علمه ، وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا فالعلم بمعنى العقل لا بمعناه الحقيقي كما في سابقه ، وفيه دلالة على وقوفه وأنه لا يقدر على علم زائد ، والوجه المعتمد الأول ، ونصب - شيئا - على المصدرية أو المفعولية ، وجوز فيه التنازع بين يعلم وعلم ، وكون مفعول - علم - محذوفا لقصد العموم أي لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكل شيء ومن ذلك وجه الحكمة في الخلق والتوفي والرد إلى أرذل العمر قَدِيرٌ على كل شيء ومنه ما يشاؤه سبحانه من ذلك ، وقيل : عليم بمقادير أعماركم قدير على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني ، وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم رتب الأبنية وعدل الأمزجة على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى القطائع لما بلغ هذا المبلغ ، وقيل : إنه تعالى لما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ذكر أنه جل شأنه مستمر على العلم الكامل والقدرة الكاملة لا يتغيران بمرور الأزمان كما يتغير علم البشر وقدرتهم ، ويفيد الاستمرار الجملة الاسمية ، والكمال صيغة فعيل ، وقدم صفة العلم لتجاوز انتفاء العلم عن المخاطبين مع أن تعلق صفة العلم بالشيء أول لتعلقه صفة القدرة به ، ولا يخفى عليك ما هو الأولى من الثلاثة فدبر.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا فيه على غيرهم وهم الملاك بِرَادِّي أي بمعطي رِزْقِهِمْ الذي رزقهم إياه عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية والمرزوقية فَهُمْ أي الملاك الذين فضلوا والمماليك فِيهِ أي في الرزق سَواءٌ لا تفاضل بينهم ، والجملة اسمية واقعة موقع فعل منصوب في جواب النفي أي لا يردونه عليهم فيستووا فيه ويشتركوا ، وجوز أن تكون في تأويل فعل مرفوع معطوف على قوله تعالى : بِرَادِّي أي لا يردونه عليهم فلا يستوون ، والمراد بذلك توبيخ الذين يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته وتقريعهم والتنبيه على كمال قبح فعلهم كأنه قيل : إنكم لا ترضون بشركة عبيدكم لكم بشيء لا يختص بكم بل يعمكم وإياهم من الرزق الذي هم أسوة لكم في استحقاقه وهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية للّه عز سلطانه فما بالكم تشركون به سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به جل وعلا من الألوهية والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته الذي هو بمعزل عن درجة الاعتبار ، وهو على ما صرح به جماعة على شاكلة قوله تعالى : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ [الروم : 28] يعنون بذلك أنه مثل ضرب لكمال قباحة ما فعلوه ، وفي قوله أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قرينة - كما قيل - على ذلك ، وكذا في قوله تعالى :
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ على مقدر وهي داخلة في الحقيقة على الفعل أعني يَجْحَدُونَ ولتضمن الجحود معنى الكفر جيء بالباء في معموله المقدم عليه للاهتمام أو لإبهام الاختصاص مبالغة أو لرعاية رؤوس الآي ، والمراد بالنعمة قيل الرزق وقيل ولعله الأولى : ما يشمله وغيره من النعم الفائضة عليهم منه سبحانه أي يشركون به تعالى فيجحدون

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 427
نعمته تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا ما أفيض عليهم من اللّه تعالى من النعم إلى شركائهم ويجحدوا كونهم من عنده جل وعلا ، وجوز كون المراد بنعمة اللّه تعالى ما أنعم سبحانه به من إقامة الحجج وإيضاح السبل وإرسال الرسل عليهم السلام ولا نعمة أجل من ذلك ، فمعنى جحودهم ذلك إنكاره وعدم الالتفات إليه ، وصيغة الغيبة لرعاية فَمَا الَّذِينَ وقرأ أبو بكر عن عاصم. وأبو عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه «تجحدون» بالتاء على الخطاب رعاية لبعضكم ، هذا وجوز أن يكون معنى الآية أن اللّه تعالى فضل بعضا على بعض في الرزق وأن المفضلين لا يردون من رزقهم على من دونهم شيئا وإنما أنا رازقهم فالمالك والمملوك في أصل الرزق سواء وإن تفاوتا كما وكيفا ، والمراد النهي عن الإعجاب والمن اللذين هما مقدمتا الكفران.
والعطف على مقدر أيضا أي أيعجبون ويمنون فيجحدون نعمة اللّه تعالى عليهم ، وقيل : التقدير ألا يفهمون فيجحدون واختار في الكشاف أن المعنى أنه سبحانه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم وكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تساووا في الملبس والمطعم كما
يحكى عن أبي ذر رضي اللّه تعالى عنه أنه سمع رسول اللّه يقول : «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون»
فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت ، وحاصله إن اللّه تعالى فضلكم على أمثالكم فكان عليكم أن تردوا من ذلك الفضل عليهم شكرا لنعمته تعالى لتكونوا سواء في ذلك الفضل ويبقى لكم فضل الإفضال والتفضل. فالآية حث على حسن الملكة وأدمج أنهم وعبيدهم مربوبون بنعمته تعالى ذلك مع تقلبهم فيها ليكون تمهيدا لكفرانهم نعمه سبحانه السوابغ إلى أن جعلوا له عز وجل أندادا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا فعبدوها عبادته تعالى أو أشد وأسد ، وفي ذلك من البعد ما فيه ، والعطف فيه على مقدر أيضا كألا يعرفون ذلك فيجحدون.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم ونوعكم وهو مجاز في ذلك ، والأشهر من معاني النفس الذات ولا يستقيم هنا كغيره فلذا ارتكب المجاز وهو إما في المفرد أو الجمع ، واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح من الجن أَزْواجاً لتأنسوا بها وتقيموا بذلك مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم.
وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذا خلق آدم وحواء عليهما السلام فإن حواء خلقت من نفسه عليه السلام ، وتعقب بأنه لا يلائمه جمع الأنفس والأزواج ، وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي منها فوضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن المراد جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره بَنِينَ وبأن نتيجة الزواج هو التوالد وَحَفَدَةً جمع حافد ككاتب وكتبة ، وهو من قولهم : حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا إذا أسرع في الخدمة والطاعة ، وفي الحديث «إليك نسعى ونحفد» وقال جميل :
حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال
وقد ورد الفعل لازما ومتعديا كقوله :
يحفدون الضيف في أبياتهم كرما ذلك منهم غير ذل
وجاء في لغة - كما قال أبو عبيدة - أحفد أحفادا ، وقيل : الحفد سرعة القطع ، وقيل : مقاربة الخطو ، والمراد بالحفدة على ما روي عن الحسن. والأزهري وجاء في رواية عن ابن عباس واختاره ابن العربي أولاد الأولاد ، وكونهم من الأزواج حينئذ بالواسطة ، وقيل : البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فانهن في الغالب يخدمن في البيوت أتم خدمة ، وقيل : البنون والعطف لاختلاف الوصفين البنوة والخدمة ، وهو منزل منزلة تغاير الذات ، وقد مر نظيره فيكون

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 428
ذلك امتنانا بإعطاء الجامع لهذه الوصفين الجليلين فكأنه قيل : وجعل لكم منهن أولادا هم بنون وهم حافدون أي جامعون بين هذين الأمرين ، ويقرب منه ما روي عن ابن عباس من أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم ، وكذا ما نقل عن مقاتل من العكس ، وكأن ابن عباس نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة «1» ومقاتل نظر إلى أن الصغار أقرب للانقياد لها وامتثال الأمر بها واعتبر الحفد بمعنى مقاربة الخط ، وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأول ، وأخرجه ابن جرير.
وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم - على ما قيل - أزواج البنات ويقال لهم أصهار ، وأنشدوا :
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس عليّ أبية عيوني لأصهار اللئام تدور
والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على بَنِينَ لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات ليسوا من الأزواج ، وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر وفيه دغدغة لا تخفى.
وقيل : لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند العامة وأما عند العرب فلا كما في الصحاح ، وتجعل مِنْ سببية ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى. وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للامتنان ولا يمتن بذلك.
وأجيب أن الامتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح. وقيل : الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة. والنصب أيضا بمقدر أي وجعل لكم خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم في أموركم.
وقال ابن عطية بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك : وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا يخفى أن باعتبار الغالب ، ويحتمل أن يحمل قوله تعالى : مِنْ أَزْواجِكُمْ على العموم والاشتراك أي جعل من أزواج البشر البنين والحفدة ويستقيم على هذا الحفدة على مجراها في اللغة إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اه ، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدا ، وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مكر غير مرة من التشويق ، وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن لإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمدادا للتشويق وتقوية له.
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ وهو معناها اللغوي ، وجوز مجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال. وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر ، وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام ، وأيضا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه ، ومن للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم ، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان ، وقيل : المراد بها ما أتي من غير نصب ، وقيل : الغنائم ، وليس بشيء.
أَفَبِالْباطِلِ وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة ، والجار
___________
(1) هنا بياض بالأصل.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 429
والمجرور متعلق بقوله تعالى : يُؤْمِنُونَ وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان هُمْ يَكْفُرُونَ أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم ، وقيل : الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة اللّه تعالى ما أحل لهم. والآية على هذا ظاهرة لتعلق بقوله سبحانه : وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فقط دون ما قبله أيضا والظاهر تعلقها بهما ، ومن ذلك يظهر حال من أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة اللّه تعالى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري ، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة ، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا سيما وقد حصروا ، وأيضا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة اللّه تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس ، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في الكشف ، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدا وتخصيصا ، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول ، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفا عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد ، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء يَكْفُرُونَ على هم المفيد لتقوى الحكم ، وجعل كلام الزمخشري مشيرا إلى ذلك كله فتدبر.
وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد ، والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفا.
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم اللّه سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالبال كان إيمانهم بغيره بمنزلة العدم وإن النعم كلها من اللّه تعالى إما بالذات أو بالواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر اللّه من لا يشكر الناس بقي المخالفة. وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيا وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف ، وجوز أن يكون التقديم للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق كفرانهم بنعمة اللّه تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران ، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين ، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبا لهم مما فعلوه.
وفي البحر أن السلمي قرأ «تؤمنون» بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم ، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في البحر مجردا عن الكفرة غير مندرج في التقريع. هذا بقي أنه وقع في [العنكبوت : 67] أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ بدون ضمير ووقع هنا ما سمعت بالضمير ، وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى : فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارا بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيا في الذم بعيدا عن اللغوية ، ثم قال : وقيل إنه أجري على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد بمنكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول ، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل : أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ بدون ضمير وقيل : وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ به ، وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا ، وقيل : آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب ، وتخصيص هذه بالزيادة دون أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 430
الأولى على الثانية. واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير.
وقد يقال : إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير ويبنى الفعل عليه إفادة للتقوى استغناء بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك ، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت : 52] ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جيء فيها بما يفيد التقوى ، أو يقال : إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما يفيد كفرهم بها على وجه يشعر باستبعاد وقوعه منهم فجيء بالضمير فيه ولما لم يكن ما هنالك كذلك لم يؤت فيه بما ذكر ، ولعل التعبير هنا - بيكفرن - وفيما قبل يَجْحَدُونَ لأن ما قبل كان مسبوقا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم واللّه تعالى بأسرار كتابه أعلم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال أبو حيان : هو استئناف إخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفيه تبيين لقوله تعالى : أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وقال بعض أجلة المحققين : لعله عطف على يَكْفُرُونَ داخل تحت الإنكار التوبيخي أي أيكفرون بنعمة اللّه ويعبدون من دونه سبحانه ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً أي ما لا يقدر أن يرزقهم شيئا لا من السموات مطرا ولا من الأرض نباتا - فرزقا - مصدر ، وشَيْئاً نصب على المفعولية له وإلى ذلك ذهب أبو علي. وغيره. وتعقبه ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن والمصدر إنما هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن.
ورد عليه بأن مكسور الراء مصدر أيضا كالعلم وسمع ذلك فيه فصح أن يعمل في المفعول ، وقيل : هو اسم مصدر والكوفي يجوز عمله في المفعول - فشيئا - مفعوله على رأيهم ، وجوز أن يكون بمعنى مرزوق وشَيْئاً بدل منه أي لا يملك لهم شيئا. وأورد عليه السمين. وأبو حيان أنه غير مفيد إذ من المعلوم أن الرزق من الأشياء والبدل يأتي لأحد شيئين البيان والتأكيد وليسا بموجودين هنا. وأجيب بأن تنوين شَيْئاً للتقليل والتحقير فإن كان تنوين رِزْقاً كذلك هو مؤكد وإلا فمبين وحينئذ فيصح فيه أن يكون بدل بعض أو كل ولا إشكال.
وجوز أن يكون شَيْئاً مفعولا مطلقا ليملك أي لا يملك شيئا من الملك ومِنَ السَّماواتِ إما متعلق بقوله تعالى : لا يَمْلِكُ أو بمحذوف وقع صفة - لرزقا - أي رزقا كائنا منهما ، واطلاق الرزق على المطر لأنه ينشأ عنه.
وَلا يَسْتَطِيعُونَ جوز أن يكون عطفا على صلة ما وأن يكون مستأنفا للإخبار عن حال الآلهة ، واستطاع متعد ومفعوله محذوف هو ضمير الملك أي لا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم ، فالكلام تتميم لسابقه وفيه من الترقي ما فيه فلا يكون نفي استطاعة الملك بعد نفي ملك الرزق غير محتاج إليه ، وإن جعل المفعول ضمير الرزق كما جوزه في الكشاف يكون هذا النفي تأكيدا لما قبله. وأورد عليه أنه قد قرر في المعاني أن حرف العطف لا يدخل مبين المؤكد والمؤكد لما بينها من كمال الاتصال. ودفع بأن ذلك غير مسلم عند النحاة وليس مطلقا عند أهل المعاني ألا ترى قوله تعالى : كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ : 4 ، 5] نعم يرد عليه حديث أن التأسيس خير من التأكيد ، وجوز ولعله الأولى أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم فيكون المراد نفي الاستطاعة عنهم مطلقا على حد يعطي ويمنع فالمعنى أنهم أموات لا قدرة لهم أصلا فيكون تذييلا للكلام السابق ، وفيه ما فيه على الوجه الأول وزيادة.
وجمع الضمير فيه وتوحيده في لا يَمْلِكُ لرعاية جانب اللفظ أولا والمعنى ثانيا فإن «ما» مفرد بمعنى الآلهة ومثل هذه الرعاية وارد في الفصيح وإن أنكره بعضهم لما يلزمه من الإجمال بعد البيان المخالف للبلاغة فإنه مردود كما بين في محله ، وقد روعي أيضا في التعبير حال معبوداتهم في نفس الأمر فإنها أحجار وجمادات فعبر عنها - بما -

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 431
الموضوعة في المشهور لغير العالم وحالها باعتبار اعتقادهم فيها أنها آلهة فعبر عنها بضمير الجمع الموضوع لذوي العلم ، هذا إذا كان المراد بما الأصنام ، ولا يخفى عليك الحال إذا كان المراد بها المعبودات الباطلة مطلقا ملكا كانت أو بشرا أو حجرا أو غيرها.
وجوز أن يكون ضمير الجمع عائدا على الكفار كضمير يَعْبُدُونَ وما على المعنى المشهور فيها على معنى أنهم مع كونهم أحياء متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئا فكيف بالجماد الذي لا حس له ، فجملة لا يَسْتَطِيعُونَ معترضة لتأكيد نفي الملك عن الآلهة والمفعول محذوف كما أشير إليه ، وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكنه سالم عن مخالفة المشهور في العود على المعنى بعد مراعاة اللفظ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ التفات إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي ، والفاء للدلالة على ترتيب النهي على ما عدد من النعم الفائضة عليهم منه تعالى وكون آلهتهم بمعزل من أن يملكوا لهم رزقا فضلا عما فضل ، والأمثال جمع مثل كعلم ، والمراد من الضرب الجعل فكأنه قيل : فلا تعجلوا للّه تعالى الأمثال والأكفاء فالآية كقوله تعالى : «فلا تجعلوا للّه أندادا» وهذا ما يقتضيه ظاهر كلام ابن عباس ، وفقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال في الآية :
يقول سبحانه لا تجعلوا معي إلها غيري فإنه لا إله غيري.
وجعل كثير الأمثال جمع مثل بالتحريك ، والمراد من ضرب المثل للّه سبحانه الإشراك والتشبيه به جل وعلا من باب الاستعارة التمثيلية ، ففي الكشف أن اللّه تعالى جعل المشرك به الذي يشبهه تعالى بخلقه بمنزلة ضارب المثل فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة وذاتا بذات كما أن ضارب المثل كذلك فكأنه قيل : ولا تشركوا باللّه سبحانه ، وعدل عنه إلى المنزل دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفا وذاتا ، وفي لفظ الْأَمْثالَ لمن لا مثال له أصلا نعي عظيم عليهم بسوء فعلهم ، وفيه إدماج أن الأسماء توقيفية وهذا هو الظاهر لدلالة الفاء وعدم ذكر ضرب مثل منهم سابقا ، وهذا الوجه هو الذي اختاره الزمخشري وكلام الحبر رضي اللّه تعالى عنه لا يأباه فقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تعليل للنهي أي إنه تعالى يعلم كنه ما تفعلون وعظمه وهو سبحانه معاقبكم عليه أعظم العقاب وأنتم لا تعلمون كنهه وكنه عقابه فلذا صدر منكم وتجاسرتم عليه.
وجوز أن يكون المراد النهي عن قياس اللّه تعالى على غيره بجعل ضرب المثل استعارة للقياس ، فإن القياس إلحاق شيء بشيء وهو عند التحقيق تشبيه مركب بمركب ، والفرق بينه وبين الوجه السابق قليل ، وأمر التعليل على حاله. وجوز الزمخشري وغيره أن يكون المراد النهي عن ضرب الأمثال للّه سبحانه حقيقة والمعنى فلا تضربوا للّه تعالى الأمثال التي يضربها بعضكم لبعض إن اللّه تعالى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ، ووجه التعليل ظاهر ، واللام على سائر الأوجه متعلقة - بتضربوا - وزعم ابن المنير تعلقها - بالأمثال - فيما إذا كان المراد التمثيل للإشراك والتشبيه ثم قال : كأنه قيل فلا تمثلوا اللّه تعالى ولا تشبهوه ، وتعلقها - بتضربوا - على هذا الوجه ثم قال كأنه قيل فلا تمثلوا للّه تعالى الأمثال فإن ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير العالم ليبين له ما خفي عنه واللّه تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة ، وليس بشيء والمعنى الذي ذكره على تقدير تعلقه بالفعل خلاف ما يقتضيه السياق وإن كان التعليل عليه أظهر ، ومن هنا قال العلامة المدقق في الكشف في ذلك بعد أن قال إنه نهى عن ضرب الأمثال حقيقة : كأنه أريد المبالغة في أن لا يلحدوا في أسمائه تعالى وصفاته فإنه إذا لم يجز ضرب المثل والاستعارات يكفي فيها شبه ما والإطلاق لتلك العلاقة كاف فعدم جواز إطلاق الأسماء من غير سبق تعليم منه وإثبات الصفات أولى وأولى ، ووجه ربط قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 432
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا إلخ على هذا عند المدقق أنه تعالى بعد أن نهاهم عن ضرب الأمثال له سبحانه ضرب مثلا دل به على أنهم ليسوا أهلا لذلك وإنهم إذا كانوا على هذا الحد من المعرفة والتقليد أو المكابرة فليس لهم إلى ضرب الأمثال المطابقة المستدعي ذكاء وهداية سبيل ، وقال غيره في ذلك ولعله أظهر منه إنه تعالى لما ذكر أنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنهم لا يعلمون علمهم كيف تضرب الأمثال في هذا الباب فقال تعالى : ضَرَبَ إلخ.
ووجه الربط على ما تقدم من أن النهي عن الإشراك أنه سبحانه لما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك عقبه بالكشف لذي البصيرة عن فساد ما ارتكبوه بقوله سبحانه : ضَرَبَ إلخ أي أورد وذكر ما يستدل به على تباين الحال بين جنابه تعالى شأنه وبين ما أشركوه به سبحانه وينادي بفساد ما هم عليه نداء جليا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ بدل من مثلا وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام ويحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدا اللّه تعالى ، وقد أدمج فيه على ما قيل إن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة ، وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الجزالة وَمَنْ رَزَقْناهُ مَنْ نكرة موصوفة على ما استظهره الزمخشري ليطابق عَبْداً فإنه أيضا نكرة موصوفة وإلى ذلك ذهب أبو البقاء ، وقال الحوفي : هي موصولة واستظهره أبو حيان ، وزعم بعضهم أن ذلك لكون استعمالها موصولة أكثر من استعمالها موصوفة ، والأول مختار الأكثرين أي حرا رزقناه بطريق الملك والالتفات إلى التكلم للاشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق ، وفي اختيار ضمير العظمة تعظيم لأمر ذلك الرزق ويزيد ذلك تعظيما قوله سبحانه : مِنَّا أي من جنابنا الكبير المتعالي رِزْقاً حَسَناً حلالا طيبا أو مستحسنا عند الناس مرضيا ويؤخذ منه على ما قيل كونه كثيرا بنا على أن القلة التي هي أخت العدم لا حسن في ذاتها فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ تفضلا وإحسانا ، والفاء لترتب الإنفاق على الرزق كأنه قيل : ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق وإيثار المنزل من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق واستمرار التجددي سِرًّا وَجَهْراً أي حال السر وحال الجهر أو انفاق سر وانفاق جهر والمراد بيان عموم إنفاقه للأوقات
وشموله إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرا.
وجوز أن يكون وصفه بالكثرة مأخوذا من هذا بناء أن المراد منه كيف يشاء وهو يدل على أنحاء التصرف وسعة المتصرف منه ، وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه ، وقد مر الكلام في ذلك والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال : وحرا مالكا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لما في إرشاد العقل السليم من توخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته تعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم اللّه تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين هَلْ يَسْتَوُونَ جمع الضمير وإن تقدمه اثنان وكان الظاهر - يستويان - للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما وإن أخرج ابن عساكر. وجماعة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الآية نزلت في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرا وجهرا وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان ينهاه واللّه تعالى أعلم بصحته. وقيل نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه وعبد له ولا يصح إسناده كما في البحر ، وفيه أنه يحتمل أن يكون الجمع باعتبار أن المراد - بمن - الجمع وأن يكون باعتبار عود الضمير على العبيد والأحرار وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة «عبد مملوك» وَمَنْ رَزَقْناهُ عليهما ، والمعول عليه ما ذكر أولا ، والمعنى هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية للّه سبحانه وأن ما ينفقه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 433
الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا تملكه بل هو مما أعطاه اللّه تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه وهو الأصنام ، وقيل : إن هذا تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق شبه الأول بمملوك لا تصرف له لأنه لإحباط عمله وعدم الاعتداد بأفعاله واتباعه لهواه كالعبد المنقاد الملحق بالبهائم بخلاف المؤمن الموفق ، وجعله تمثيلا لذلك مروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقتادة ولا تعيين أيضا وإن قيل : إن الآية نزلت في أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه. وأبي جهل ، على أن أبا حيان قال إنه لا يصح إسناد ذلك ، هذا ثم اعلم أنهم اختلفوا في العبد هل يصح له ملك أم لا قال في الكشاف : المذهب الظاهر أنه لا يصح وبه قال الشافعي ، وقال ابن المنير على ما لخصه في الكشف من كلام طويل إنه يصح له الملك عند مالك : وظاهر الآية تشهد له لأنه أثبت له العجز بقوله تعالى : مَمْلُوكاً ثم نفي القدرة العارضة بتمليك السيد بقوله سبحانه : لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وليس المعنى القدرة على التصرف لأن مقابله وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً والحمل على إخراج المكاتب مع شذوذه إيجاز مع إخلال كما قال إمام الحرمين رحمه اللّه تعالى في «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» الحمل على المكاتبة بعيد لا يجوز والمأذون لم يخرج لما مر من أن المراد بالقدرة ما هو ، وليس لقائل أن يقول : إنه صفة لازمة موضحة فالأصل في الصفات التقيد اه.
وتعقبه المدقق بقوله : والجواب أن المعنى على نفي القدرة عن التصرف فالآية واردة في تمثيل حال الأصنام به تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكلما بولغ في حال عجز المشبه به وكمال المقابل دل في المشبه به أيضا على ذلك فالذي يطابق المقام القدرة على التصرف وهو في مقابلة قوله تعالى : يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً وما ذكره لا حاصل له ولا إخلال في إخراج المكاتب لشمول اللفظ مع أن المقام مقام مبالغة فما يتوهم دخوله بوجهه ينبغي أن ينفى وأين هذا مما نقله عن إمام الحرمين اه. واستدل بالآية أيضا على أن العبد لا يملك الطلاق أيضا وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : ليس للعبد طلاق إلا بإذن سيده وقرأ الآية وقد فصلت أحكام العبيد في حكم الفقه على أتم وجه الْحَمْدُ لِلَّهِ أي كله له سبحانه لا يستحقه أحد غيره تعالى لأنه جل شأنه المولى للنعم وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائط فضلا عن استحقاق العبادة.
وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق فيما ذكر راجع إليه تعالى كما لوح به رَزَقْناهُ وقال غير واحد هذا حمد على ظهور المحجة وقوة هذه الحجة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها أو لا يعلمون ظهور ذلك وقوة ما هنالك فيبقون على شركهم وضلالهم ، ونفي العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لم يعملوا بموجبه عنادا وقيل : المراد بالأكثر الكل فكأنه قيل : هم لا يعلمون ، وقيل : ضمير هم للخلق والأكثر هم المشركون ، وكلا القولين خلاف الظاهر.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح ، وأبهم ثم بين بقوله تعالى : رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لما تقدم والبكم الخرس المقارن للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره لعدم النطق ، والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل أحد فكأنه قيل : أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة لسوء فهمه وإدراكه وَهُوَ كَلٌّ ثقيل وعيال عَلى مَوْلاهُ على من يعوله ويلي أمره ، وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقا ، وقوله سبحانه :
أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أي حيثما يرسله مولاه في أمر لا يأت بنجح وكفاية مهم ، بيان لعدم قدرته على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 434
مصالح مولاه. وقرأ عبد اللّه في رواية «توجهه» على الخطاب ، وقرأ علقمة. وابن رئاب. ومجاهد. وطلحة وهي رواية أخرى عن عبد اللّه «يوجه» بالبناء للفاعل والجزم ، وخرج على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الأبكم أي يوجهه ، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الأبكم ويكون الفعل لازم وجه بمعنى توجه ، وعلى ذلك جاء قول الأضبط بن قريع السعدي :
أينما أوجه ألق سعدا وعن علقمة وعائشة وابن وثاب أيضا «يوجه» بالجزم والبناء للمفعول ، وفي رواية أخرى عن علقمة. وطلحة أنهما قرءا «يوجه» بكسر الجيم وضم الهاء ، قال صاحب اللوامح : فإن صح ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف أو لم يرد - بأينما - الشرط ، والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير المفعول به فيكون حذف الياء من آخر «يأت» للتخفيف ، وتعقبه أبو حيان بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الاستفهام. ونقل عن أبي حاتم أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم ، ثم قال : والذي توجه به هذه القراءة أن أَيْنَما شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه من الشرط ثم حذفت ياء يَأْتِ تخفيفا أو جزم على توهم أنه جيء بأينما جازمة كقراءة من قرأ - إنه من يتقي ويصبر - في أحد الوجهين ، ويكون معنى يوجه يتوجه كما مر آنفا هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ومن هو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل وَهُوَ في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي ، فالجملة حالية مبنية لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدما على تكميل الغير أتى بها اسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي الحال.
فلا يقال : الأنسب تقديمها في النظم الكريم ، ومقابلة تلك الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلها ونهايته فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هاديا مهديا ، وتغيير الأسلوب حيث لم يقل : والآخر يأمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين الفريقين ، ويقال هنا كما قيل في المثل السابق : إنه حيث لم يستو الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر على شيء كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى أي مهم من مهماته لا ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو - هو - في استحقاق المعبودية أحرى وأولى ، وقيل : هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وإيّا ما كان فليس المراد - برجلين - رجلان معينان بل رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقا ، وما روي من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار أو الأبكم أبي بن خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال أبو حيان : لا يصح إسناده ، وما أخرج ابن جرير. وابن عساكر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إلخ في عثمان بن عفان ومولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفي عليه ويكفله ويكفيه المئونة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق صحته لا يضرنا في إرادة الموصوفين مطلقا بحيث يدخل فيهما من ذكر فقد صرحوا بأن خصوص السبب لا ينافي العموم.
هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون ، وهو دليل على أنه مختاره ثم قال : اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضي بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه ، ولا يبعد أن يقال : إن اللّه تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 435
للاستدلال بعدم تساويهما على امتنان التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي اه ، ولا يخفى أنه لا كلام في حسن اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء.
وَلِلَّهِ تعالى خاصة لا لأحد غيره استقلالا ولا اشتراكا غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين بحيث لا سبيل لهم إلى إدراكها حسا ولا فهمها عقلا ، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع فيهما حالا أو مآلا وإما باعتبار الغيبة عن أهلهما ، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف. والمراد بيان الاختصاص به تعالى من حيث المعلومية وحسبما ينبئ عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية والمملوكية وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر ، وفيه - كما في إرشاد العقل السليم - إشعار بأن علمه تعالى حضوري وأن تحقق الغيوب في نفسها بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ولذلك لم يقل تعالى : وللّه علم غيب السموات والأرض ، وقيل : المراد بغيب السموات والأرض ما في قوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان : 34] الآية ، وقيل : يوم القيامة ، ولا يخفى أن القول بالعموم أولى.
وَما أَمْرُ السَّاعَةِ التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بالسماوات والأرض من حيث الغيبة عن أهلهما أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها أي وما شأنها في سرعة المجيء إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أي كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. وفي البحر اللمح النظر بسرعة يقال : لمحه لمحا ولمحانا إذا نظره بسرعة أَوْ هُوَ أي أمرها أَقْرَبُ أي من ذلك وأسرع بأن يقع في بعض أجزاء زمانه فإن رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها وإن قصر حركة أينية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هو كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضا بل بأن يقع فيما يقال له آن وهو جزء غير منقسم من أجزاء الزمان كآن ابتدائية الحركة ، و«أو» قال الفراء : بمعنى بل.
ورده في البحر بأن بل للإضراب وهو لا يصح هنا بقسميه ، أما الإبطال فلأنه يؤول إلى أن الحكم السابق غير مطابق فيكون الإخبار به كذبا واللّه سبحانه وتعالى منزه عن ذلك ، وأما الانتقال فلأنه يلزمه التنافي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر وكونه أقرب فلا يمكن صدقهما معا ويلزم الكذب المحال أيضا. وأجيب باختبار الثاني ولا تنافي بين تشبيهه في السرعة بما هو غاية ما يتعارفه الناس في بابه وبين كونه في الواقع أقرب من ذلك ، وهذا بناه على أن الغرض من التشبيه بيان سرعته لا بيان مقدار زمان وقوعه وتحديده. وأجيب أيضا بما يصححه بشقيه وهو أنه ورد على عادة الناس يعني أن أمرها إذا سئلتم عنها أن يقال فيه : وهو كلمح البصر ثم يضرب عنه إلى ما هو أقرب. وقيل : هي للتخيير. ورده في البحر أيضا بأنه إنما يكون في المحظورات كخذ من مالي دينارا أو درهما أو في التكليفات كآية الكفارات. وأجيب بأن هذا مبني على مذهب ابن مالك من أن أَوْ تأتي للتخيير وأنه غير مختص بالوقوع بعد الطلب بل يقع في الخبر ويكثر في التشبيه حتى خصه بعضهم به. وفي شرح الهادي اعلم أن التخيير والإباحة مختصان بالأمر إذ لا معنى لهما في الخبر كما أن الشك والإبهام مختصان بالخبر.
وقد جاءت الإباحة في غير الأمر كقوله تعالى : كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً إلى قوله سبحانه : أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة : 17 - 19] أي بأي هذين شبهت فأنت مصيب وكذا إن شبهت بهما جميعا ، ومثله في الشعر كثير ، وقيل : إن المراد تخيير المخاطب بعد فرض الطلب والسؤال فلا حاجة إلى البناء على ما ذكر ، وهو كما ترى ، وزعم بعضهم أن التخيير مشكل من جهة أخرى وهي أن أحد الأمرين من كونه كلمح البصر أو أقرب غير مطابق للواقع فكيف يخبر اللّه تعالى بين ما لا يطابقه ، وفيه أن المراد التخيير في التشبيه وأي ضرر في عدم وقوع المشبه به بل قد يستحسن فيه عدم الوقوع كما في قوله :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 436
أعلام ياقوت نشر ن على رماح من زبرجد
وقال ابن عطية : هي للشك على بابها على معنى أنه لو اتفق أن يقف على أمرها شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هو كلمح البصر أو أقرب. وتعقبه في البحر أيضا بأن الشك بعيد لأن هذا إخبار من اللّه تعالى عن أمر الساعة والشك مستحيل عليه سبحانه أي فلا بد أن يكون ذلك بالنسبة إلى غير المتكلم ، وفي ارتكابه بعد ، ويدل على أن هذا مراده تعليله البعد بالاستحالة فليس اعتراضه مما يقضي منه العجب كما توهم ، وقال الزجاج : هي للإبهام وتعقب بأنه لا فائدة في إبهام أمرها في السرعة وإنما الفائدة في إبهام وقت مجيئها. وأجيب بأن المراد أنه يستبهم على من يشاهد سرعتها هل هي كلمح البصر أو أقل فتدبر. والمأثور عن ابن جريج أنها بمعنى بل وعليه كثيرون ، والمراد تمثيل سرعة مجيئها واستقرابه على وجه المبالغة ، وقد كثر في النظم مثل هذه المبالغة ، ومنه قول الشاعر :
قالت له البرق وقالت له الري ح جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال إن نشطت أضحكتكما منكما
إن ارتداد الطرف قد فته إلى المدى سبقا فمن أنتما
وقيل : المعنى وما أمر إقامة الساعة المختص علمها به سبحانه وهي إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخل تحت دائرة الإمكان في سرعة الوقوع وسهولة التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الأقوال في أَوْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن جملة الأشياء أن يجيء بها في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك ، وتقول على الثاني : ومن جملة ذلك أمر إقامتها فهو سبحانه قادر عليه فالجملة في موضع التعليل. وفي الكشف على تقدير عموم الغيب وشموله لجميع ما غاب في السموات والأرض إن قوله تعالى : وَما أَمْرُ السَّاعَةِ كالمستفاد من الأول وهو كالتمهيد له أي يختص به علم كل غيب الساعة وغيرها فهو الآتي بها للعلم والقدرة ، ولهذا عقب بقوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ إلخ ، وأما إذا أريد بالغيب الساعة فهو ظاهر اه. ولا يخفى الحال على القول بأن المراد بالغيب ما في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان : 34] الآية ، وعلى القول الأخير في الغيب يكون ذكر الساعة من وضع الظاهر موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ عطف على قوله تعالى : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل :
72] منتظم معه في سلك أدلة التوحيد ، ويفهم من قول العلامة الطيبي أنه تعالى عقب قوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بقوله جل وعلا : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ إلخ معطوفا بالواو إيذانا بأن مقدوراته تعالى لا نهاية لها والمذكور بعض منها أن العطف على قوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ إلخ ، والذي تنبسط له النفس هو الأول.
والأمهات بضم الهمزة «1» وفتح الهمزة جمع أم والهاء فيه مزيدة وكثر زيادتها فيه وورد بدونها ، والمعنى في الحالين واحد ، وقيل : ذو الزيادة للأناسي والعاري عنها للبهائم ، ووزن المفرد فعل لقولهم الأمومة ، وجاء بالهاء كقول قصي بن كلاب عليهما الرحمة :
___________
(1) قوله : وفتح الهمزة كذا بخط المؤلف ولعله سبق قلم وصوابه وفتح الميم.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 437
أمهتي خندف والياس أبي وهو قليل ، وأقل من ذلك زيادة الهاء في الفعل كما قيل في إهراق ، وفيه بحث فارجع إلى الصحاح وغيره.
وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم هنا ، وفي الزمر ، والنجم. والروم ، والكسائي بكسر الميم فيهن والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم ، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم ، قال أبو حاتم : حذف الهمزة رديء ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب ، وكانت كذلك على ما في البحر لأن كسر الميم إنما هو لإتباعها حركة الهمزة فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الإتباع بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر الميم على حركتها لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً في موضع الحال وشَيْئاً منصوب على المصدرية أو مفعول تَعْلَمُونَ ، والنفي منصب عليه ، والعلم بمعنى المعرفة أي غير عارفين شيئا أصلا من حق المنعم وغيره ، وقيل : شيئا من منافعكم ، وقيل : مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة ، وقيل : مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، والظاهر العموم ولا داعي إلى التخصيص. وعن وهب يولد المولود خدرا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما.
وادعى بعضهم أن النفس لا تخلو في مبدأ الفطرة عن العلم الحضوري وهو علمها بنفسها إذ المجرد لا يغيب عن ذاته أصلا ، فقد قال الشيخ في بعض تعليقاته عند إثبات تجرد النفس : إنك لا تغفل عن ذاتك أصلا حال من الأحوال ولو في حال النوم والسكر ، ولو جوز أن يغفل عن ذاته في بعض الأحوال حتى لا يكون بينه وبين الجماد في هذه الحالة فرق فلا يجدي هذا البرهان معه ، وقال بهمنيار في التحصيل في فصل العقل والمعقول : ثم إن النفس الإنسانية تشعر بذاتها فيجب أن يكون وجودها عقليا فيكون نفس وجودها نفس إدراكها ولهذا لا تعزب عن ذاتها البتة ، ومثله في الشفاء ، وأنت تعلم أن عدم الخلو مبني على مقدمات خفية كتجرد النفس الذي أنكره الطبيعيون عن آخرهم وإن كل مجرد عالم ولا يتم البرهان عليه ، وأيضا ما نقل من أن علم النفس بذاتها عين ذاتها لا ينافي أن يكون لكون الذات علما بها شرط فما لم يتحقق ذلك لا شرط لم تكن الذات علما بها كما أن لكون المبدأ الفياض خزانة لمعقولات زيد مثلا شرطا إذا تحقق تحقق وإلا فلا ، ويؤيد ذلك أن علم النفس بصفاتها أيضا نفس صفاتها عندهم ومع ذلك يجوز الغفلة عن الصفة في بعض الأحيان كما لا يخفى.
وأيضا إذا قلنا : إن حقيقة الذات غير غائبة عنها ، وقلنا : إن ذلك علم بها يلزم أن يكون حقيقة النفس المجردة معلومة لكل أحد ومن البين أنه ليس كذلك ، على أن المحقق الطوسي قد منع قولهم : إنك لا تغفل عن ذاتك أبدا ، وقال : إن المغمى عليه ربما غفل عن ذاته في وقت الإغماء ، ومثله كثير من الأمراض النفسانية ، ومن العجائب أن بعض الأجلة ذكر أن المراد بخلوها في مبدأ الفطرة خلوها حال تعلقها بالبدن ، وقال : إنه لا ينافي ذلك ما قاله الشيخ من أن الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري لأن حال التعلق سابق على ذلك وذلك بعد أن ذكر أن الخلو في مبدأ الفطرة إنما يظهر لذوي الحدس بملاحظة حال الطفل وتجارب أحواله ووجه العجب ظاهر فافهم ولا تغفل.
وتفسير العلم بالمعرفة مما ذهب إليه غير واحد ، وفي أمالي العز لا يجوز أن يجعل باقيا على بابه ويكون شَيْئاً مصدرا أي لا تعلمون علما لوجهين. الأول أنه يلزم حذف المفعولين وهو خلاف الأصل. الثاني أنه لو كان باقيا على بابه لكان الناس يعلمون المبتدأ الذي هو أحد المفعولين قبل الخروج من البطون وهو محال لاستحالة العلم على من لم يولد ، بيان ذلك أنا إذا قلنا : علمت زيدا مقيما يجب أن يكون العلم بزيد متقدما قبل هذا العلم وهذا العلم إنما يتعلق بإقامته ، وكذلك إذا قلت : ما علمت زيدا مقيما فالذي لم يعلم هو إقامة زيد وأما هو فمعلوم وذلك مستفاد من جهة الوضع فحيث أثبت العلم أو نفي فلا بد أن يكون الأول معلوما فيتعين حمل العلم على المعرفة اه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 438
ويعلم منه عدم استقامة جعل العلم على بابه ، وشَيْئاً مفعوله الأول والمفعول الثاني محذوف. وقوله تعالى :
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يحتمل أن يكون جملة ابتدائية ويحتمل أن يكون معطوفا على الجملة الواقعة خبرا والواو لا تقتضي الترتيب ، ونكتة تأخيره أن السمع ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك وذلك بعد الإخراج ، وجعل إن تعدى لواحد بأن كان بمعنى خلق - لكم - متعلق به وإن تعدى لاثنين بأن كان بمعنى صير فهو مفعوله الثاني ، وتقديم الجار والمجرور على المنصوبات لما مر غير مرة.
والمعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية ، وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في هذا المقام ومستمد ما ذهب إليه الكثير من الحكماء من أن النفس في أول أمرها خالية عن العلوم فإذا استعملت الحواس الظاهرة أدركت بالقوة الوهمية أمورا جزئية بمشاركات ومباينات جزئية بينها فاستعدت لأن يفيد عليها المبدأ الفياض المشاركات الكلية ، ويثبتون للنفس أربع مراتب. مرتبة العقل الهيولاني. ومرتبة العقل بالملكة. ومرتبة العقل بالفعل ومرتبة العقل المستفاد ، ويزعمون أن النفس لا تدرك الجزئي المادي ، ولهم في هذا المقام كلام طويل وبحث عريض.
وأهل السنة يقولون : إن النفس تدرك الكلي والجزئي مطلقا باستعمال المشاعر وبدونه كما فصل في محله ، وتحقيق هذا المطلب بما له وما عليه يحتاج إلى بسط كثير ، وقد عرض والمستعان بالحي القيوم جل جلاله وعم نواله من الحوادث الموجبة لاختلال أمر الخاصة والعامة ما شوش ذهني وحال بين تحقيق ذلك وبيني ، أسأل اللّه سبحانه أن يمن علينا بما يسر الفؤاد وييسر لنا ما يكون عونا على تحصيل المراد وبالجملة المأثور عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في هذه الآية أنه قال : يريد سبحانه أنه جعل لكم ذلك لتسمعوا مواعظ اللّه تعالى وتبصروا ما أنعم اللّه تعالى به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالا وتعقلوا عظمته سبحانه. وقيل المعنى جعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة التي هي دلائل سمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم والأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته تعالى وغرائب مخلوقاته سبحانه فتستدلوا بها على وحدانيته جل وعلا. والافئدة لتعقلوا بها معاني الأشياء التي جعلها سبحانه دلائل لكم ، والسمع والأبصار على هذين القولين على ظاهرهما ولم نر من جوز إخراجهما عن ذلك.
وجوز أن يراد بهما الحواس الظاهرة على الأول ، والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدر ، وهذا الجمع على ما في الكشاف من جموع القلة الجارية مجرى جموع الكثرة والقلة إذا لم يرد في السماع غيرهما كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير فجرى ذلك المجرى ، وقال الزجاج : لم يجمع فؤاد على أكثر العدد وربما قيل : أفئدة وفئدان كما قيل : أغربة وغربان في جمع غراب ، وفي التفسير الكبير لعل الفؤاد إنما جمع على بناء القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثير وأما الفؤاد فقليل لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليس لهم ذلك بل يكونون مشتغلين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلذا ذكر في جمعه جمع القلة اه ، ويرد عليه الأبصار فإنه جمع قلة أيضا. وفي البحر بعد نقله أنه قول هذياني ولولا جلالة قائله لم نسطره في الكتب وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري مما ذكر سابقا إلا أن قوله : لم يجيء في جمع شسع إلا شسوع ليس بصحيح بل جاء فيه اشساع جمع قلة على قلة اه فاحفظ ولا تغفل.
وزعم بعضهم أن الفؤاد إنما يدرك ما ليس بمحدود بنحو أين وكيف وكم وغير ذلك وإن لكل مدرك قوة مدركة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 439
له تناسبه لا يمكن أن يدرك بغيرها على نحو المحسوسات الظاهرة من الأصوات والألوان والطعوم ونحوها والحواس الظاهرة من السمع والبصر والذوق إلى غير ذلك وهو كما ترى.
وإفراد السمع باعتبار أنه مصدر في الأصل ، وقيل : إنما أفرد وجمع الأبصار للإشارة إلى أن مدركاته نوع واحد ومدركات البصر أكثر من ذلك وتقديمه لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر ، وقيل : لأن مدركاته أقل من مدركاته ، والخلاف في الأفضل منهما شهير وقد مر ، وتقديمها على الأفئدة المشار بها إلى العقل لتقدم الظاهر على الباطن أو لأن لهما مدخلا في إدراكه في الجملة بل هما من خدمه والخدم تتقدم بين يدي السادة ، وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة أو لأن مدركاتهما أقل قليل بالنسبة إلى مدركاته كيف لا ومدركاته لا تكاد تحصى وإن قيل : إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا كذلك ، واستأنس بعضهم بذكر ما يشير إليه فقط دون ضم ما يشير إلى سائر المشاعر الباطنة إليه لنفي الحواس الخمس الباطنة التي أثبتها الحكماء بما لا يخلو عن كدر ، وتفصيل الكلام في محله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كي تعرفوا ما أنعم سبحانه به عليكم طورا غب طور فتشكروه ، وقيل : المعنى جعل ذلك كي تشكروه تعالى باستعمال ما ذكر فيما خلق لأجله أَلَمْ يَرَوْا وقرأ حمزة. وابن عامر.
وطلحة. والأعمش ، وابن هرمز ا لم تروا بالتاء الفوقية على أنه خطاب العامة ، والمراد بهم جميع الخلق المخاطبون قبل في قوله تعالى : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا على أن المخاطب من وقع في قوله تعالى :
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بتلوين الخطاب لأنه المناسب للاستفهام الإنكاري ولذا جعل قراءة الجمهور بياء الغيبة باعتبار غيبة يَعْبُدُونَ ولم يجعلوا ذلك التفاتا وحينئذ فالإنكار باعتبار اندراجهم في العامة ، والرؤية بصرية أي ألم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ جمع طائر كركب وراكب ويقع على الواحد أيضا وليس بمراد ويقال في الجمع أيضا طيور وأطيار مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران ، وفيه إشارة إلى أن طيرانها ليس بمقتضى طبعها فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء المتباعد من الأرض واللوح والسكاك أبعد منه ، وقيل : الجو مسافة ما بين السماء والأرض والجو لغة فيه ، وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمال القدرة ، وعن السدي تفسير الجو بالجوف وفسرت السماء على هذا بجهة العلو والطير قد يطير في هذه الجهة حتى يغيب عن النظر ولم يعلم منتهى ارتفاعه في الطيران إلا اللّه تعالى ، وعن كعب أن الطير لا ترتفع أكثر من اثني عشر ميلا.
ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو عن الوقوع إِلَّا اللَّهُ عز وجل بقدرته الواسعة فإنّ ثقل جسدها ورقة الهواء يقتضيان سقوطها ولا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها ، والجملة إما حال من الضمير المستتر في مُسَخَّراتٍ أو من الطَّيْرِ وإما مستأنفة إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من التسخير في الجو والإمساك فيه ، وقيل : المشار إليه ما اشتملت عليه هذه الآية والتي قبلها لَآياتٍ دالة على كمال قدرته جل شأنه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي من شأنهم أن يؤمنوا ، وخص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به ، واقتصر الإمام على جعل المشار إليه ما في هذه الآية قال : وهذا دليل على كمال قدرة اللّه تعالى وحكمته سبحانه فإنه جل شأنه خلق الطائر خلقة معها يمكنه الطيران أعطاه جناحا يبسطه مرة ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا اه.
وكذا المولى أبو السعود قال : إن في ذلك الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها أن يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير لآيات ظاهرة ، وذكر أن تسخيرها بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة. وتعقب ذلك أبو حيان بقوله : والذي نقوله إنه كان يمكن الطائر أن يطير ولو لم يخلق له جناح وإنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة اللّه تعالى ولا نقول : إنه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 440
لولا الجناح ولطف الجو والآلات ما أمكن الطيران اه وأنا لا أظن أن أحدا ينفي الإمكان الذاتي للطيران بدون الجناح مثلا لكن لا يبعد نفيه بدون لطف المطار والكثير متى خرق كان المطار لطيفا فافهم. واستدل بالآية على أن العبد خالق لأفعاله ، وأولها القاضي وهو ارتكاب لخلاف الظاهر لغير دليل.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ معطوف على ما مر ، وتقديم لَكُمْ على ما بعده للتشويق والإيذان من أول الأمر بأن هذا الجعل لمنفعتهم ، وقوله تعالى : مِنْ بُيُوتِكُمْ تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة وتأكيد لما سبق من التشويق والإضافة للعهد أي من بيوتكم المعهود التي تبنونها من الحجر والمدر والأخشاب سَكَناً فعل بمعنى مفعول كنقض وأنشد الفراء :
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا يا ويح نفسي من حفر القراميص
وليس بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية أي موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم ، وجوز أن يكون المعنى تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً أي بيوتا أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة وهي القباب المتخذة من الأدم والظاهر أنه لا يندرج في هذه البيوت البيوت المتخذة من الشعر والصوف والوبر ، وقال ابن سلام وغيره : بالاندراج لأنها من حيث إنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها. واعترض بأن مِنْ على الأول تبعيضية وعلى إرادة البيوت التي من الشعر ونحوه ابتدائية. فإذا عمم ذلك يلزم استعمال المشترك في معنييه وأجيب بأن القائل بذلك لعله يرى جواز هذا الاستعمال ، وممن قال بذلك البيضاوي وهو شافعي. وقيل : الجلود مجاز عن المجموع تَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفيفة سهلة المأخذ فالسين ليست للطلب بل للوجدان كأحمدته وجدته محمودا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وقت ترحالكم في النقض والحمل وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ووقت نزولكم وإقامتكم في مسايركم حسبما يتفق في الضرب والبناء ، وجوز أن يكون المعنى تجدونها خفيفة في أوقات السفر وفي أوقات الحضر ، واختار ابن المنير الأول وقال : إنه التفسير لأن المنة في خفتها في السفر أتم وأقوى إذ لا يهم المقيم أمرها ، قال في الكشف : وهو حق ، وقال بعض الفضلاء : ينبغي أن يكون الثاني أولى للعموم فإن حالتي السفر اندرجتا في يوم ظعنكم حيث أريد به مقابل الحضر والخفة على المقيم نعمة في حقه أيضا فإنه يضربها وقد ينقلها من مكان إلى مكان قريب لداع يدعو إليه فالأولى أن لا تخلو الآية عن التعرض لذلك اه ولا يخفى أن الاندراج ظاهر إن أريد بالظعن مقابل الحضر وأما إذا أريد به مقابل النزول كما سمعت فغير ظاهر.
نعم يجوز إرادة ذلك ، وقرأ الحرميان. وأبو عمرو «ظعنكم» بفتح العين. وباقي السبعة بسكونها وهما لغتان والفتح على ما في المعالم أجزلهما ، وقيل : الأصل الفتح والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق كالشعر والشعر.
وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها عطف على قوله تعالى : ومِنْ جُلُودِ والضمير للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أَثاثاً أي متاع البيت كالفرش وغيرها كما قال المفضل ، قال الفراء : لا واحد له من لفظه كما أن المتاع كذلك ولو جمعت قلت : أأثثة في القليل وأثث في الكثير. وقال أبو زيد : واحدة أثاثة وأصله - كما قال الخليل - من قولهم : أثث النبات والشعر وهو أثيث إذا كثر قال امرؤ القيس :
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
ونصبه على أنه معطوف على بُيُوتاً مفعول جعل فيكون مما عطف فيه جار ومجرور مقدم ومنصوب على مثلهما نحو ضربت في الدار زيدا وفي الحجرة عمرا وهو جائز وليس بمستقبح كما زعم في الإيضاح.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 441
وجوز أن يكون نصبا على الحال فيكون من عطف الجار والمجرور فقط على مثله أي وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها حال كونها أثاثا. وتعقبه السمين بأن المعنى ليس على هذا وهو ظاهر.
وَمَتاعاً أي شيثا يتمتع به وينتفع في المتجر والمعاش قاله المفضل ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما المتاع الزينة ، وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد ، والعطف لتنزيل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى كما في قوله : وألفى قولها كذبا ومينا. والأول أولى إِلى حِينٍ إلى انقضاء حاجاتكم منه ، وعن مقاتل إلى بلى ذلك وفنائه وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إلى الموت ، والكلام في ترتيب المفاعيل مثله فيما مر غير مرة.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من غير صنع منكم ظِلالًا أشياء تستظلون بها من الغمام والشجر والجبال وغيرها وهو الذي يقتضيه الظاهر وروي ذلك عن قتادة ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ومجاهد الاقتصار على الغمام ، وعن الزجاج وقتادة أيضا الاقتصار على الشجر ، وعن ابن قتيبة الاقتصار على الشجر والجبال ولعل كل ذلك من باب التمثيل ، وعن ابن السائب أن المراد ظلال البيوت وهو كما ترى ، ومن سبحانه بما ذكر لأن تلك الديار كانت غالبة الحرارة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً مواضع تستكنون فيها من الغيران ونحوها ، والواحد كن وأصله السترة من أكنه وكنه أي ستره ويجمع على أكنان وأكنة.
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل لكم لباسا من القطن والكتان والصوف وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ خصه بالذكر كما قال المبرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر أعني البرد ، ولم يخص هو بالذكر اكتفاء لأن وقاية الحر أهم عندهم لما مر آنفا.
وقال بعضهم : من الرأس خص الحر بالذكر لأن وقايته أهم. وتعقب دعوى الأهمية بأنه يبعدها ذكر وقاية البرد سابقا في قوله تعالى : لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ثم قيل : وهذا وجه الاقتصار على الحر هنا لتقدم ذكر خلافه ثمت.
واعترض بأنا لا نسلم أن إثبات الدفء هناك يبعد دعوى الأهمية بل في تغاير الأسلوبين ما يشعر بهذه الأهمية ، وقال الزجاج : خص الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد ، وذكر ذلك الزمخشري بعد ذكر الأهمية ، وقال في الكشف : هو الوجه ، وتخصيص الحر بالذكر لما قدمه في الوجه الأول يعني الأهمية ، وما قيل : من أولوية الأول لقوله تعالى : مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا فليس بشيء لأنه تعالى عقبه بقوله سبحانه مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً كيف وهو في مقام الاستيعاب اه ، وصاحب القيل هو ابن المنير ، وقد اعترض أيضا على قوله : إن ما يقي من الحر يقي من البرد بأنه خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء اه فتدبر.
وَسَرابِيلَ من الجواشن والدروع تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحروب من الضرب والطعن ، وقال بعضهم : أصل البأس الشدة وأريد به هنا الحرب ، والكلام على حذف مضاف أي أذى بأسكم ، وعلى الأول لا حاجة إليه وقد رجح لذلك كَذلِكَ أي مثل ذلك الإتمام للنعمة في الماضي يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في المستقبل ، ومن هنا قيل :
كما أحسن اللّه فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي
أو مثل هذا الإتمام البالغ يتم نعمته عليكم ، وإفراد النعمة إما لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جناب الكبرياء شيء قليل. وقرأ ابن عباس «تتم» بتاء مفتوحة و«نعمته» الرفع على الفاعلية وإسناد التمام إليها على الاتساع ، وعنه أيضا رضي اللّه تعالى عنه «نعمه» بصيغة الجمع لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 442
عليكم من النعم فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوا به تعالى وحده وتذروا ما كنتم به تشركون على أن الإسلام بمعناه المعروف أي رديف الإيمان ، ويجوز أن يكون بمعناه اللغوي وهو الاستسلام والانقياد أي لعلكم تستسلمون له سبحانه وتنقادون لأمره عز وجل ، وأيّا ما كان فهو موضوع موضع سببه كما أشير إليه أو مكنى به عنه.
وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «تسلمون» بفتح التاء واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك ، وقيل : تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل ، ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقا ليشمل آفة الحر والبرد ، والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني.
هذا وفي بعض الآثار أن أعرابيا سمع قوله تعالى : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً إلى آخر الآيتين فقال عند كل نعمة : اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه : لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ اللهم هذا فلا فنزلت فَإِنْ تَوَلَّوْا فعل ماض على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسلية له عليه الصلاة والسلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب ، وقال ابن عطية : تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان ، وجوز أن يكون تَوَلَّوْا مضارعا حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه : إنه لا يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين ، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على اللّه تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة اللّه سبحانه أصلا فإنهم يعرفونها أنها من اللّه تعالى ثُمَّ يُنْكِرُونَها بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلا وذلك كفران منزل منزلة الإنكار.
وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال : إنكارهم إياها قولهم : ورثناها من آبائنا ، وأخرج هو وغيره أيضا عن عون بن عبد اللّه أنه قال : إنكارهم إياها أن يقول الرجل : لولا فلان أصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب. وقيل : قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند اللّه تعالى ، وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء ، وقيل : يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكرون ذلك ويجحدونه عنادا ، وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال : هو نبي. ومعنى ثُمَّ الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها ، وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسناد حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه : وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر ، والحكم عليهم بمطلق الكفر المؤذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل ، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن ، وقيل : المعنى وأكثرهم الجاحدون عنادا ، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظرا يؤدي إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل فتأمل.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 443
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جماعة من الناس شَهِيداً يشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان ، والمراد به كما روى ابن المنذر. وغيره عن قتادة نبي تلك الأمة ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في الاعتذار كما قال سبحانه : هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات : 34 ، 35] والظاهر أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم ، ويحتمل أنهم لا استئذان منهم ولا إذن إذ لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر. وقال أبو مسلم :
المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما في قول عدي بن زيد :
في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ما ذي مشار
وقيل : لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا ، والأول مروي عن ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الأذن المنبئ عن الاقناط الكلي وذلك عند ما يقال لهم. اخسئوا فيها ولا تكلمون أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي للتراخي الرتبي وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون ، وقول الزمخشري : أي لا يقال لهم : ارضوا ربكم تفسير باللازم ، وقيل : المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه كأعتبه إذا أعطاه العتبى وهي الرضا وأيّا ما كان فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار ، وانتصاب الظرف على ما قال الحوفي.
وغيره بمحذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في ذلك مفعول به ، وقيل : وهو نصب على الظرفية بمحذوف أي يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق ، وقال الطبري : هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيدا فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الاحتمالات في قوله تعالى : وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ أي الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم ، والمراد من الذين ظلموا الذين كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة ، وقيل : المراد به جهنم نفسها مجازا ، ويراد بضميره في قوله تعالى : فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ معناه الحقيقي على سبيل الاستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل : مستأنفة ، وقيل : جواب إذا بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتا كان أو منفيا إذا وقع جواب إذا لا يقترن بالفاء ، واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في إِذا ثم قال : وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في إِذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط وإن كان ليس قول الجمهور وتعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى : فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وقوله سبحانه : وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يمهلون وهو أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة اه.
وفي كلام الزمخشري كما في الكشف إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله تعالى : بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ [الأنبياء : 40] الآية ، وفيه إشعار أيضا بأن عدم التخفيف والإنظار يدل على إثقاله ومباغته كما صرح به في الآية الأخرى حيث أبت الإتيان بغتة والبهت الذي هو الإثقال وزيادة ورتب عليه «فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون» ومثل هذه الفاء فصيحة عنده فافهم ، وفي التفسير الكبير قال المتكلمون إن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى : فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ويجب أن يكون دائميا وهو المراد من قوله سبحانه : وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وفيه نظر.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 444
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ الذين كانوا يزعمونهم شركاء للّه سبحانه وتعالى ويعبدونهم معه عز وجل والمراد بهم كل من اتخذوه شريكا له جبل وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ ، وقيل : أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما تقدم. والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم ، واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى ، وقال الحسن : شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد ، وقيل : شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم ، وقيل : شركوهم في وبال ذلك حيث حملوهم عليه قالُوا أي بألسنتهم وقيل : ختم اللّه تعالى على أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أي نعبدهم ونطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعا في توزيع العذاب بينهم. واعترض بأنه لا يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو بما يعمها وغيرها ، وقال أبو مسلم : مقصودهم من ذلك إحالة الذنب على الشركاء ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب اللّه تعالى أو ينقص من عذابهم شيئا.
وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علما ضروريا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة ، وأورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون ضروريا أيضا أنه لا يحمل أحد من عذابهم شيئا.
وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين فيما ذكر وهو نظير قولهم : «ربنا خفف عنا يوما من العذاب. يا مالك ليقض علينا ربك. ربنا أخرجنا نعمل صالحا» إلى غير ذلك مما لهم على ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون. وقيل : القوم مع علمهم بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلا وعدم غفلتهم عن ذلك تغلبهم أنفسهم بمقتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ باللّه تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال ، وقيل : قالوا ذلك اعترافا بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى : «من دونك» وفيه تأمل.
نعم قوله تعالى : فَأَلْقَوْا أي شركاؤهم إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أظهر ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون اللّه تعالى ومرادهم على ما قيل : إنكم ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أشياء تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة ، وقيل : إنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم السلام : «بل كانوا يعبدون الجن» يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن ، والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاء كما قال إبليس : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم : 22] فكأنهم قالوا : ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم ، وقيل : يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله : إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم : 22] وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى أنهم شركاء للّه سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه اللّه جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف ، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم ، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها اللّه تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك ، وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم وكان الظاهر - فقالوا لهم إنكم لكاذبون - إلا أنه عدل إلى ما في النظم الكريم للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن
غيره ، وفيه من الإشعار بالحرص على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 445
تكذيبهم ما فيه ، ويؤيد ذلك تأكيدهم الملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد ، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون وَأَلْقَوْا أي الذين أشركوا ، وقيل : هم وشركاؤهم جميعا ، والأكثرون على الأول إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام والانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو وأنه قرأ «السّلم» بإسكان اللام ، وقرأ مجاهد السلم بضم السين واللام وَضَلَّ عَنْهُمْ ضاع وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من اللّه سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعمة بالغفلة عن منعمها فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين ، والإشارة في قوله تعالى : وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً على ما في أيضا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والأنس الآخذة بها إلى حضيرة القدس :
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ قيل أي نحل الأرواح أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ أي جبال أنوار الذات بُيُوتاً مقار لتسكنين فيها وَمِنَ الشَّجَرِ أي ومن أشجار أنوار الصفات وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أنوار عروش الأفعال ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الإفعالية فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه ذُلُلًا منقادة لما أمرت به يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ باختلاف الثمرات فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ لكل مريض المحبة وسقيم الإلفة ولديغ الشوق ، وقيل : الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادي السلوك من أرباب الاستعداد ، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه : نحلة تدندن حول الحمى أمرهم اللّه تعالى أولا أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ ، الثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروش في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين ، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء ، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي.
وقال أبو بكر الوراق : النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها على ما أمرت به جعل لعابها شفاء للناس كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عز وجل جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 446
اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد انتهى. وفي الآية إشارة أيضا إلى أنه تعالى قد يودع الشخص الحقير الشيء العزيز فإنه سبحانه أودع النحل وهي من أحقر الحيوانات وأضعفها العسل وهو من ألذ المذوقات وأحلاها فلا ينبغي التقيد بالصور والاحتجاب بالهيئات ، وفي الحديث «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو اقسم على اللّه تعالى لأبره»
وعن يعسوب المؤمنين على كرم اللّه تعالى وجهه لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ قيل الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات ، وبعض آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك ، وذكروا أن رزق الأشباح العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول الأفكار ورزق القلوب الأذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لتقدسه تعالى عن الأوهام والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق لا يدرك إلا خلقا ، ولذا
قال علي كرم اللّه تعالى وجهه : إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها فلا يعرف اللّه تعالى إلا اللّه عز وجل
وعلل النهي بقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً محبا لغير اللّه تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فجعلناه محبا لنا مقبلا بقلبه علينا متجردا عما سوانا وآتيناه من لدنا علما فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وذلك من النعم الباطنة وَجَهْراً وذلك من النعم الظاهرة وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا استعداد فيه للنطق وهو مثل المشرك لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وهو الموحد القائم باللّه تعالى الفاني عن غيره ، والعدل على ما قيل : ظل الوحدة في عالم الكثيرة وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ علم مراتب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أو ما خفي فيهما من أمر القيامة الكبرى وَما أَمْرُ السَّاعَةِ أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ وهو بناء على التمثيل وإلا فقد قيل : إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك يدركه من يدركه لا في الزمان إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن ذلك أمر الساعة وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً الآية ، قال في أسرار القرآن : أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام العدم
وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئا من أحكام الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فالبسهم أسماعا من نور سمعه وكساهم أبصارا من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم غيبته لعلهم يشكرونه انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب.
وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه الفوائد وشرحه أن مشاعر الإنسان الصدر ، والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل ، والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكمية ويقابله الشك والريب ، والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار وهو أعلى المشاعر ، ونور اللّه تعالى المشار إليه
بقوله صلى اللّه عليه وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه تعالى»
وهو الوجود لأنه الجهة العليا من الإنسان أعني وجهه من جهة ربه وبه يعرف اللّه تعالى وهو في الإنسان بمنزلة الملك في المدينة والقلب بمنزلة الوزير له انتهى ، وله أيضا كلام

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 447
في الأم وكذا في الأب غير ما ذكر ، وذلك أنه يطلق الأب على المادة والأم على الصورة ، وزعم أن قول الصادق رضي اللّه تعالى عنه : إن اللّه تعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة إشارة إلى ذلك وأن ما اصطلح عليه المتقدمون والحكماء من أن الأب هو الصورة والأم هي المادة وأن الصورة إذا نكحت المادة تولد عنهما الشيء توهما منهم أن النشور والخلق في بطن المادة بعيدة من جهة المناسبة إلى آخر ما قال فتفطن وإياك أن تعدل عن الطريق السوي أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح ما يُمْسِكُهُنَّ من غير تعلق بمادة لا اعتماد على جسم ثقيل إِلَّا اللَّهُ عز وجل وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان «1» وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له ، وفي الخبر السلطان ظل اللّه تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم ، وقيل : الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان ، وقد يؤول قوله تعالى : وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله : وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوبية ، قال ابن عطاء : تمام النعمة السكون إلى المنعم ، وقال حمدون : تمامها في
الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية ، وقال أبو محمد الحريري : تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة النفس من الرياء والسمعة يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة ثُمَّ يُنْكِرُونَها لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ لشهادة فطرهم بحقيقته وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لأنهم قد حق عليهم القول بمقتضى استعدادهم نسأل اللّه تعالى العفو والعافية وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قيل : هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى : يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وقيل :
المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم واللّه تعالى أعلم.
[سورة النحل (16) : الآيات 88 إلى 128]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107)
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (511) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
___________
(1) قوله الجيعان كذا بالأصل وحقه «جوعان».

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 448

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 449
الَّذِينَ كَفَرُوا في أنفسهم وَصَدُّوا غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بمنع من يريد الإسلام عنه وبحمل من استخفوه على الكفر فالصد عن السبيل أعم من المنع عنه ابتداء وبقاء كذا قيل : والظاهر الأول ، والظاهر أن الموصول مبتدأ وقوله تعالى : زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ خبره ، وجوز ابن عطية كون الموصول بدلا من فاعل يَفْتَرُونَ ويكون زِدْناهُمْ مستأنفا ، وجوز بعضهم كون الأول نصبا على الذم أو رفعا عليه فيضمر الناصب والمبتدأ وجوبا وزِدْناهُمْ بحاله ، وهذه الزيادة إما بالشدة أو بنوع آخر من العذاب والثاني هو المأثور ،
فقد أخرج ابن مردويه.
والخطيب «1» عن البراء أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ذلك فقال : «عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم» وروى نحوه الحاكم وصدمه. والبيهقي. وغيره عن ابن مسعود.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم وأفاعي كأنهن البخاتي فتضربهم فذلك الزيادة ، وعن ابن عباس أنها أنهار من صفر مذاب يسيل من تحت العرش يعذبون بها ، وعن الزجاج يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار بِما كانُوا يُفْسِدُونَ متعلق - بزدناهم - أي زدناهم عذابا فوق العذاب الذي يستحقونه بكفرهم بسبب
___________
(1) في تالي التلخيص اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 450
استمرارهم على الإفساد وهو الصد عن السبيل ، وجوز أن يفسر ذلك بما هو أعم من الكفر والصد ، والمعنى زدناهم عذابا فوق عذابهم الذي يستحقونه بمجرد الكفر والصد بسبب استمرارهم على هذين الأمرين القبيحين ، ووجه ذلك أن البقاء على المعصية يومين مثلا أقبح من البقاء عليها يوما والبقاء ثلاثة أيام أقبح من البقاء يومين وهكذا ، ومن هنا قالوا :
الإصرار على الصغيرة كبيرة ، وقيل : إن أهل جهنم يستحقون من العذاب مرتبة مخصوصة هي ما يكون لهم أول دخولها والزيادة عليها إنما هي لحفظها إذ لو لم تزد لألفوها وطابت أنفسهم بها كمن وضع يده في ماء حار مثلا فإنه يجد أول زمان وضعها ما لا يجده بعد مضي ساعة وهو كما ترى.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ وهو كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما نبيهم الذي بعث فيهم في الدنيا ، ومعنى كونه مِنْ أَنْفُسِهِمْ أنه منهم ، وذلك ليكون أقطع للمعذرة ، ولا يرد لوط عليه السلام فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم أيضا ، وقال ابن عطية : يجوز أن يبعث اللّه تعالى شهداء من الصالحين مع الأنبياء عليهم السلام ، وقد قال بعض الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم : إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة ، وذكر الإمام في الآية قولين الأول أن كل نبي شاهد على قومه كما تقدم ، والثاني إن كل قرن وجمع يحصل في الدنيا فلا بد أن يحصل فيهم من يكون شهيدا عليهم ولا بد أن لا يكون جائزا الخطأ وإلا لاحتاج إلى آخر وهكذا فيلزم التسلسل ، ووجود الشهيد كذلك في عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم ظاهر وأما بعده فلا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وهم قائمون مقام الشهيد المعصوم ، ثم قال : وهذا يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة انتهى ، وإلى أنه لا بد في كل عصر ممن يكون قوله حجة على أهل عصره ذهب الجبائي وأكثر المعتزلة ، قال الطبرسي في مجمع البيان : ومذهبهم يوافق مذهب أصحابنا يعني الشيعة وإن خالفه في أن ذلك الحجة من هو. وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على هذا المطلب ضعيف ، وتحقيق الكلام في ذلك يطلب من محله.
وقال الأصم : المراد بالشهيد أجزاء من الإنسان ، وذلك أنه تعالى ينطق عشرة أجزاء منه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان فتشهد عليه لأنه سبحانه قال في صفة الشهيد من أنفسهم.
وتعقبه القاضي وغيره بأن كونه شهيدا على الأمة يقتضي أن يكون غيرهم. وأيضا قوله تعالى : فِي كُلِّ أُمَّةٍ يأبى ذلك إذ لا يصح وصف آحاد الأعضاء بأنها من الأمة وأيضا مقابلة ذلك بقوله سبحانه : وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ يبعد ما ذكر كما لا يخفى ، والمراد بهؤلاء أمته صلى اللّه عليه وسلم عند أكثر المفسرين ، ولم يستبعد أن يكون المراد بهم ما يشمل الحاضرين وقت النزول وغيرهم إلى يوم القيامة فإن أعمال أمته عليه الصلاة والسلام تعرض عليه بعد موته.
فقد روي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خير لكم تعرض على أعمالكم فما رأيت من خير حمدت اللّه عليه وما رأيت من شر استغفرت اللّه تعالى لكم»
بل
جاء أن أعمال العبد تعرض على أقاربه من الموتى ،
فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «لا تفضحوا أمواتكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور»
وأخرج أحمد عن أنس مرفوعا «إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا» وأخرجه أبو داود من حديث جابر بزيادة «وألهمهم أن يعملوا بطاعتك».
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء أنه قال : «إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساؤون» فكان أبو الدرداء يقول عنه ذلك : اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي عبد اللّه بن رواحة إذا لقيته يقول ذلك في سجوده. والنبي صلى اللّه عليه وسلم لأمته بمنزلة الوالد بل أولى ، ولم أقف على عرض أعمال الأمم السابقة على أنبيائهم بعد الموت ولم أر من تعرض

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 451
لذلك لا نفيا ولا إثباتا ، فإن قيل : إنها تعرض فأمر الشهادة مما لا غبار عليه في نبي لم يبعث في أمته خلوهم عنه نبي آخر ، وإن قيل : إنها لا تعرض احتاج أمر الشهادة إلى الفحص عن وجود أمر يفيد العلم المصحح لها أو التزام أن الشهيد ليس هو النبي وحده كما سمعت فيما سبق ، ثم إن حديث العرض على نبينا عليه الصلاة والسلام يشكل عليه
حديث «ليذادن عن الحوض أقوام» الخبر ،
وقد ذكر ذلك المناوي ولم يجب عنه ، وقد أجبت عنه في بعض تعليقاتي فتأمل ، وقيل : المراد بهم شهداء الأمم وهم الأنبياء عليهم السلام لعلمه عليه الصلاة والسلام بعقائدهم واستجماع شرعه لقواعدهم لا الأمة لأن كونه صلى اللّه عليه وسلم شهيدا على أمته علم مما تقدم فالآية مسوقة لشهادته عليه الصلاة والسلام على الأنبياء صلى اللّه عليه وسلم فتخلو عن التكرار. ورد بأن المراد بشهادته عليهم الصلاة والسلام على أمته تزكيته وتعديله لهم بعد أن يشهدوا على تبليغ الأنبياء عليهم السلام حسبما علموه من كتابهم وهذا لم يعلم مما مر ليكون تكرارا وهو الوارد في الحديث ، وقد ذكره غير واحد في تفسير قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة : 143] وعَلى لا مضرة فيها وإن ضرت فالضرر مشترك. نعم لم يفهم مما قبل شهادة هذه الأمة على تبليغ الأنبياء عليهم السلام ليظهر كون هذه الشهادة للتزكية كما في آية البقرة ، ولعل الأمر في ذلك سهل. وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى : وَيَوْمَ نَبْعَثُ تكرير لما سبق تثنية للتهديد ، والمراد بهؤلاء الأمم وشهداؤهم ، وإيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه صلى اللّه عليه وسلم ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع انتهى. وتعقب بأن حمل هؤُلاءِ على ما ذكر خلاف الظاهر ، وجوز أن يكون إيثار المجيء على البعث للإيذان بالمغايرة بين الشهادتين بناء على أن شهادته صلى اللّه عليه وسلم على أمته للتزكية ولا كذلك شهادة سائر الأنبياء عليهم السلام على أممهم.
والظرف معمول لمحذوف كما مر ، والمراد به يوم القيامة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الكامل في الكتابية الحقيق بأن يخص به اسم الجنس ، وهذا - على ما في البحر - استئناف أخبار وليس داخلا مع ما قبله لاختلاف الزمانين.
وجوز غير واحد كونه حالا بتقدير قد ، وذكر بعض الأفاضل أن قوله تعالى : وَجِئْنا بِكَ إلخ إن كان كلاما مبتدأ غير معطوف على قوله سبحانه : نَبْعَثُ وشَهِيداً حالا مقدرة فلا إشكال في الحالية وإن كان عطفا عليه ، والتعبير بالماضي لما عرف في أمثاله ، فمضمون الجملة الحالية متقدم بكثير فلا يتمشى التأويل الذي ذكروه في تصحيح كون الماضوية حالا هنا ، ففي صحة كونه حالا كلام إلا أن يبنى على عدم جريان الزمان عليه سبحانه وتعالى. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن قوله سبحانه : تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ يدخل فيه العقائد والقواعد بالدخول الأولى ، وذلك مستمر إلى البعث وما بعده ، ولا حاجة إلى ما قيل من أن المعنى بحيث أو بحال أنا كما نزلنا عليك وتلك الحيثية ثابتة له سبحانه وتعالى إلى الأبد انتهى ، وفيه نظر.
وزعم بعضهم أن الجملة حال من ضمير الرفع في الفعل العامل في الظرف أي خوفهم ذلك اليوم وقد نزلنا عليك الكتاب ، وهو كما ترى والأسلم الاستئناف والتبيان مصدر يدل على التكثير على ما روى ثعلب عن الكوفيين.
والمبرد عن البصريين ، قال سلامة الأنباري في شرح المقامات : كل ما ورد من المصادر عن العرب على تفعال فهو بفتح التاء إلا لفظتين وهما تبيان وتلقاء ، وقال ابن عطية : هو اسم وليس بمصدر ، وهذه الصيغة أيضا في الأسماء قليلة ، فعن ابن مالك أنه قال في نظم الفرائد : جاء على تفعال بالكسر وهو غير مصدر رجل تكلام وتلقام وتلعاب وتمساح للكذاب وتضراب للناقة القريبة بضراب الفحل وتمراد لبيت الحمام وتلفاف لثوبين ملفوفين وتجفاف لما تجلل به

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 452
الفرس وتهواء لجزء ماض من الليل وتنبال للقصير اللئيم وتعشار وتبراك لموضعين ، وزاد ابن جعوان تمثال وتيفاق لموافقة الهلال ، واقتصر أبو جعفر النحاس في شرح المعلقات على أقل من ذلك فقال : ليس في كلام العرب على تفعال إلا أربعة أسماء وخامس مختلف فيه يقال تبيان ويقال لقلادة المرأة تقصار وتعشار وتبراك والخامس تمساح وتمسح أكثر وافصح انتهى ، والمعروف أن تِبْياناً مصدر وليس باسم وإن قيل : إن قول أكثر النحويين ، وجوز الزجاج فيه الفتح في غير القرآن ، والمراد من كل شيء على ما ذهب إليه جمع ما يتعلق بأمور الدين أي بيانا بليغا لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملته أحوال الأمم من أنبيائهم عليهم السلام ، وكذا ما أخبرت به هذه الآية من بعث الشهداء وبعثه عليه الصلاة والسلام ، فانتظام الآية بما قبلها ظاهر ، والدليل على تقدير الوصف المخصص للشيء المقام وأن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي لبيان الدين ، ولذا أجيب السؤال عن الأهلة بما أجيب ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : «أنتم أعلم بأمور دنياكم»
وكون الكتاب تبيانا لذلك باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة حيث أمر باتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل فيه : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم : 3] وحثا على الإجماع في قوله سبحانه : وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء : 115] الآية فإنها على ما روي عن الشافعي وجماعة دليل الإجماع ، وقد رضي صلى اللّه عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث
قال عليه الصلاة والسلام. «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ».
وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق الاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب ، وقال بعض :
كل للتكثير والتفخيم كما في قوله تعالى : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف : 25] إذ يأبى الإحاطة والتعميم ما في التبيان من المبالغة في البيان وأن من أمور الدين تخصيصا لا يقتضيه المقام. ورد الثاني بما سمعت آنفا والأول بأن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية كما قيل في قوله تعالى : وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت : 46] إنه من قولك : فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده ، ومنه قوله سبحانه : وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة : 27 ، آل عمران : 192 ، المائدة : 72] وقال بعضهم : لكل من القولين وجهة والمرجح للأول إبقاء كل على حقيقتها في الجملة ، وتعقب بأنه يرجح الثاني إبقاء شَيْءٍ على العموم وسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل ومن المجاز على قول. نعم ذهب أكثر المفسرين إلى اعتبار التخصيص وروي ذلك عن مجاهد.
وقال الجلال المحلي في الرد على من لم يجوز تخصيص السنة بالكتاب : إنه يدل على الجواز قوله تعالى :
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وإن خص من عمومه ما خص بغير القرآن ، وتوجيه كونه تبيانا لكل ما يتعلق بالدين بما تقدم هو الذي يقتضيه كلام غير واحد من الأجلة. فعن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه أنه قال مرة بمكة : سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب اللّه تعالى فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال : بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال اللّه تعالى : وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر : 7] وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»
وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أنه أمر بقتل المحرم الزنبور ، وروى البخاري عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : «لعن اللّه تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللّه تعالى» فقالت له امرأة في ذلك فقال :
ما لي لا ألعن من لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في كتاب اللّه تعالى فقالت له : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» قالت : بلى. قال :
فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه. وذهب بعضهم إلى ما يقتضيه ظاهر الآية غير قائل بالتخصيص ولا بأن كل

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 453
للتكثير فقال : ما من شيء من أمر الدين والدنيا إلا يمكن استخراجه من القرآن وقد بين فيه كل شيء بيانا بليغا واعتبر في ذلك مراتب الناس في الفهم فرب شيء يكون بيانا بليغا ولا يكون كذلك لآخرين بل قد يكون بيانا لواحد ولا يكون بيانا لآخر فضلا عن كون البيان بليغا أو غير بليغ وليس هذا إلا لتفاوت قوى البصائر ، ونظير ذلك اختلاف مراتب الإحساس لتفاوت قوى الأبصار ، وقيل : معنى كونه تبيانا أنه كذلك في نفسه وهو لا يستدعي وجود مبين له فضلا عن تشارك الجميع في تحقق هذا الوصف بالنسبة إليهم بأن يفهموا حال كل شيء منه على أتم وجه ، ونظير ذلك الشمس فإنها منيرة في حد ذاتها وإن لم يكن هناك مستنير أو ناظر ، ويغني عن هذا الاعتبار اعتبار أن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية ، ويؤيد القول بالظاهر أن الشيخ الأكبر قدس سره وغيره قد استخرجوا منه ما لا يحصى من الحوادث الكونية. وقد رأيت جدولا حرفيا منسوبا إلى الشيخ كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل المحشر ، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل الجنة ، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل النار وكل ذلك على ما يزعمون مستخرج من الكتاب الكريم ، ومثل هذا الجفر الجامع المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم اللّه تعالى وجهه فإنهم قالوا : إنه جامع لما شاء اللّه تعالى من الحوادث الكونية وهو أيضا مستخرج من القرآن العظيم.
وقد نقل الجلال السيوطي عن المرسي أنه قال : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول اللّه خلافا استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن عباس وابن مسعود حتى قال الأول : لو ضاع لي عقال بعد لوجدته في كتاب اللّه تعالى ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه ، وقيل : لا يخلو الزمان من عارف بجميع ذلك وهو الوارث المحمدي ويسمى الغوث وقطب الأقطاب والمظهر الأتم ومظهر الاسم الأعظم إلى غير ذلك ، ويرد على هؤلاء القائلين حديث التأبير وقوله صلى اللّه عليه وسلم : «أنتم أعلم بأمور دنياكم»
وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك منه صلى اللّه عليه وسلم قبل نزوله ما يعلم منه عليه الصلاة والسلام حال التأبير ، ويحتمل أن يكون بعد النزول وقال ذلك صلى اللّه عليه وسلم قبل الرجوع إليه والنظر فيه ولو رجع ونظر لعلم فوق ما علموا فأعلميتهم بأمور دنياهم إنما جاءت لكون علمهم بذلك لا يحتاج إلى الرجوع والنظر وعلمه عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى ذلك وهذا كما
قال صلى اللّه عليه وسلم «لو استقبلت ما استدبرت لما سقت الهدى»
مع أن سوق الهدى من الأمور الدينية ، وقد قالوا : إن القرآن العظيم تبيان لها ، وهذا يرد عليهم لولا هذا الجواب فتأمل فالبحث بعد غير خال عن القيل والقال ، وقال بعضهم : إن الأمور إما دينية أو دنيوية والدنيوية لا اهتمام للشارع بها إذ لم يبعث لها والدينية إما أصلية أو فرعية والاهتمام بالفرعية دون الاهتمام بالأصلية فإن المطلوب أولا بالذات من بعثة الأنبياء عليهم السلام هو التوحيد وما أشبهه بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى كما يشهد له قوله سبحانه : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56] بناء على تفسير كثير العبادة بالمعرفة ، وقوله تعالى
في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
والقرآن العظيم قد تكفل ببيان الأمور الدينية الأصلية على أتم وجه فليكن المراد من كل شيء ذلك ، ولا يحتاج هذا إلى توجيه كونه تبيانا إلى ما احتاج إليه حمل كل شيء على أمور الدين مطلقا من قولنا : إنه باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة إلخ ، واختار بعض المتأخرين إن كل شيء على ظاهره إلا أن المراد بالتبيان التبيان على سبيل الإجمال وما من شيء إلا بين في الكتاب حاله إجمالا ، ويكفي في ذلك بيان بعض أحواله والمبالغة باعتبار الكمية لا الكيفية على ما علمت سابقا ، ولو

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 454
حمل التبيان على ما يعم الإجمال والتفصيل مع اعتبار المبين لهم واعتبر التوزيع جاز أيضا فليتدبر ، ونصب تِبْياناً على الحال كما قال أبو حيان.
وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي نزلنا عليك الكتاب لأجل التبيان وَهُدىً وَرَحْمَةً للجميع بقرينة قوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء : 107] وحرمان الكفرة من جهة تفريطهم وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ خاصة ، وجوز صرف الجميع لهم لأنهم المنتفعون بذلك أو لأنه الهداية الدلالة الموصولة والرحمة الرحمة التامة.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ أي فيما نزله عليك تبيانا لكل شيء ، وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجدد والاستمرار بِالْعَدْلِ أي بمراعاة التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وهو رأس الفضائل كلها يندرج تحته فضيلة القوة العقلية الملكية من الحكمة المتوسطة بين الجهبذة والبلادة ، وفضيلة القوة الشهوية البهيمية من العفة المتوسطة بين الخلاعة والجمود ، وفضيلة القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهور والجبن. فمن الحكم الاعتقادية التوحيد المتوسط بين التعطيل ونفي الصنائع كما تقوله الدهرية والتشريك كما تقوله الثنوية والوثنية ، وعليه اقتصر ابن عباس في تفسير العدل على ما رواه عنه البيهقي في الأسماء والصفات. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم ، وضم إليه بعضهم القول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر. ومن الحكم العملية التعبد بأداء الواجبات المتوسط بين الباطلة وترك العمل لزعم أنه لا فائدة فيه إذ الشقي والسعيد متعينان في الأزل كما ذهب إليه بعض الملاحدة والترهب بترك المباحات تشبيها بالرهبان. ومن الحكم الخلقية الجود المتوسط بين البخل والتبذير. وعن سفيان بن عيينة أن العدل استواء السريرة والعلانية في العمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي : صف لي العدل فقلت بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا وللمثل منهم أخا وللنساء كذلك وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسادهم ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا فتكون من العادين ، ولعل اختيار ذلك لأنه الأوفق بمقام السائل وإلا فما تقدم في تفسيره أولى وَالْإِحْسانِ أي إحسان الأعمال والعبادة أي الإتيان بها على الوجه اللائق ، وهو إما بحسب الكيفية كما يشير إليه ما
رواه البخاري من قوله صلى اللّه عليه وسلم : «الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
أو بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل الجابرة لما في الواجبات من النقص ، وجوز أن يراد بالإحسان المتعدي بإلى لا المتعدي بنفسه فإنه يقال : أحسنه وأحسن إليه أي الإحسان إلى الناس والتفضل عليهم ،
فقد أخرج ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه قال : مر علي بن أبي طالب كرم اللّه تعالى وجهه بقوم يتحدثون فقال : فيم أنتم؟ فقالوا : نتذاكر المروءة فقال : أو ما كفاكم اللّه عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فالعدل الإنصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا ،
وأعلى مراتب الإحسان على هذا الإحسان إلى المسيء وقد أمر به نبينا صلى اللّه عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : قال عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ،
وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بعد ما فسر العدل بالتوحيد فسر الإحسان بأداء الفرائض ، وفيه اعتبار الإحسان متعديا بنفسه ، وقيل : العدل أن ينصف وينتصف والإحسان أن ينصف ولا ينتصف وقيل العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال.
وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر ، وهذا داخل في العدل أو الإحسان وصرح به اهتماما بشأنه ، والظاهر أن المراد بذي القربى ما يعم سائر الأقارب سواء كانوا من جهة الأم أو من جهة الأب ، وهذا هو المراد بذوي الأرحام الذين حث الشارع صلى اللّه عليه وسلم على صلتهم على الأصح ، وقيل : ذوو الأرحام الأقارب من جهة الأم ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 455
وذكر الطبرسي أن المروي عن أبي جعفر أن المراد من ذي القربى هنا قرابته صلى اللّه عليه وسلم المرادون في قوله سبحانه : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى .
وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا مثلا ، وفسر ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما الفحشاء به ، ولعله تمثيل لا تخصيص وَالْمُنْكَرِ ما ينكر على متعاطيه من الإفراط في إظهار القوة الغضبية ، وعن ابن عباس. ومقاتل تفسيره بالشرك ، وعن ابن السائب أنه ما وعد عليه بالنار ، وعن ابن عيينة أنه مخالفة السريرة للعلانية ، وقيل : ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن يوجب العذاب في الآخرة.
وقال الزمخشري : ما تنكره العقول. وتعقبه ابن المنير فقال : إنه لفتة إلى الاعتزال ولو قال : المنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق لكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل ، وقال في الكشف بعد قوله : ما تنكره العقول أي بعد رده إلى قوانين الشرع فالإنكار بالعقل بالضرورة ، وإنما الخلاف في مأخذه والمقصود أن ما يمكن أن يجري على المذهبين لا يحق المحاقة فيه وهو كالتعريض بابن المنير ، واستظهر أبو حيان أن المنكر أعم من الفحشاء قال : لاشتماله على المعاصي والرذائل ، وعلى «1» أولا ليس الأمر كذلك وسيأتي إن شاء اللّه تعالى وَالْبَغْيِ الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم ، وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التي هي حاصلة من رذيلتي القوتين المذكورتين الشهوانية والغضبية ، وأصل معنى البغي الطلب ثم اختص بطلب التطاول بالظلم والعدوان ، ومن ثم فسر بما فسر وبذلك فسره ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وتخصيص كل من المتعاطفات الثلاثة المنهي عنها بالإشارة إلى قوة من القوى الثلاثة مما ذهب إليه غير واحد.
واعترض بأن ذلك مما لا دليل عليه ، وقال بعضهم : المنكر أعم الثلاثة باعتبار أن المراد به ما ينكره الشرع ويقبحه من الأقوال أو الأفعال سواء عظم قبحه ومفسدته أم لا وسواء كان متعديا إلى الغير أم لا ، وأن المراد بالفحشاء ما عظم قبحه من ذلك ، ومنه قيل لمن عظم قبحه في البخل فاحش ، وعلى ذلك حمل الراغب قول الشاعر :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
والبغي التطاول بالظلم والعدوان ففي الآية عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام ، وقيل : المراد بالفحشاء مقابل العدل ويفسر بما خرج عن سنن الاعتدال إلى جانب الإفراط ، وبالمنكر ما يقابل ما فيه الإحسان ويفسر بما أتى به على غير الوجه اللائق بل على وجه ينكر ويستقبح وبالبغي ما يقابل إيتاء ذي القربى ويفسر بما فسر ويكون قد قوبل في الآية الأمر بالنهي وكل من المأمور به بكل من المنهي عنه وجمع بين الآمر والنهي مع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده لمزيد الاهتمام والاعتناء. والإمام الرازي قد أطال الكلام في هذا المقام وذكر أن ظاهر الآية يقتضي المغايرة بين الثلاثة المأمور بها ويقتضي أيضا المغايرة بين الثلاثة المنهي عنها وشرع في بيان المغايرة بين الأول ثم قال : والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الاستغراق في شهود مقام العبودية والربوبية ، ويدخل في تفسيره العظيم لأمر اللّه تعالى والشفقة على خلقه سبحانه ، ومن الظاهر أن الشفقة على الخلق أقسام كثيرة أشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر ، ثم شرع في بيان المغايرة بين الأخيرة وقال :
تفصيل القول في ذلك أنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية
___________
(1) محل هذا البياض كلمة مقطوعة في نسخة المؤلف وهو من كلام المؤلف وليس من كلام أبي حيان ولعلها ما فسر به.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 456
الشيطانية والعقلية الملكية ، وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهم السلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها ، ولما كانت الأولى أعني القوة الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصا باسم الفحش - ألا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة - أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه : وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ المراد منه المنع من تحصيل الذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة ، ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية ، ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدا في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس ، ثم قال :
ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا : أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية ، واللّه تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتجية القوة الوهمية اه. وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا ، ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الاعتراض السابق أم لا ، ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى على ما قبله.
وبالجملة أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب. والبيهقي في شعب الإيمان. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أجمع آية للخير والشر ، وأخرج البيهقي عن الحسن نحو ذلك ، وأخرج الباوردي. وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال : بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول اللّه فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا : نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : أنا محمد بن عبد اللّه ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ إلخ قالوا : ردد علينا هذا القول فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال : إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذامها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا.
وقد صارت هذه الآية أيضا كما أخرج أحمد والطبراني والبخاري في الأدب عن ابن عباس سبب استقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبته للنبي صلى اللّه عليه وسلم ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت الخلافة إليه مقام ما كان بنو أمية غضب اللّه تعالى عليهم يجعلونه في أواخر خطبهم من سب علي كرم اللّه تعالى وجهه ولعن كل من بغضه وسبه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي اللّه تعالى عنه ، وقال غير واحد : لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى. ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى : وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ للتنبيه عليه فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ما جمعت مع وجازتها استيقظت عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول اللّه جالسا إذ شخص بصره فقال : أتاني.
جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع إن اللّه يأمر إلخ.
واستدل بها على أن صيغة تتناول الواجب والمندوب وموضوعها القدر المشترك وتحقيق ذلك في الأصول.
يَعِظُكُمْ أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه ، وهو إما استئناف وإما حال من الضمير في الفعلين لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ طلبا لأن تتعظوا بذلك وتنتبهوا.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ قال قتادة. ومجاهد : نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر أنها نزلت في بيعة النبي صلى اللّه عليه وسلم كان من أسلم بايع على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 457
الإسلام. وظاهره أنها في البيعة على الإسلام مطلقا ، فالمراد بعهد اللّه تلك البيعة كما نص عليه غير واحد. واعترض بأن الظاهر أنه عام في كل موثق وهو الي يقتضيه كلام ميمون بن مهران ، وسبب النزول ليس من المخصصات ، ولذا قالوا : الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأجيب بأن قرينة التخصيص قوله تعالى فيما قبل : إن الَّذِينَ كَفَرُوا بالآية ، وفيه نظر ، وقال الأصم : المراد به الجهاد وما فرض في الأموال من حق ولا يلائمه قوله تعالى : إِذا عاهَدْتُمْ وقيل : المراد به النذر ، وقيل : اليمين : وتعقب ذلك الإمام بأنه حينئذ يكون قوله تعالى.
وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها تكرارا لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك ، وإذا حمل العهد على العموم بحيث دخل تحته اليمين كان هذا من باب تخصيص بعض الإفراد بالذكر للاعتناء به وبعض من فسر العهد بالبيعة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حمل الأيمان على ما وقع عند تلك البيعة ، وجوز بعضهم حملها على مطلق الأيمان.
وفي الحواشي السعدية أن الظاهر أن المراد بها الأشياء المحلوف عليها كما في قوله عليه الصلاة والسلام :
«ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» لأنه لو كان المراد ذكر اسم اللّه تعالى كان عين التأكيد لا المؤكد فلم يكن محل ذكر العطف كما تقرر في المعاني ورد بأن المراد بها العقد لا المحلوف عليه لأن النقض إنما يلائم العقد ولا ينافي ذلك قوله تعالى : بَعْدَ تَوْكِيدِها لأن المراد كون العقد مؤكدا بذكر اللّه تعالى لا بذكر غيره كما يفعله العامة الجهلة فالمعنى أن ذلك النهي لما ذكر لا عن نقض الحلف بغير اللّه تعالى وقال الواحدي : إن قوله سبحانه : بَعْدَ تَوْكِيدِها لإخراج لغو اليمين نحو لا واللّه بلى واللّه بناء على أن المعنى بعد توكيدها بالعزم والعقد ولغو اليمين ليست كذلك. ثم إذا حمل الإيمان على مطلقها فهو - كما قال الإمام - عام دخله التخصيص بالحديث السابق الدال على أنه متى كان الصلاح في نقض اليمين جاز نقضها. وتعقب بأن فيه تأملا لأن الحظر لو لم يكن باقيا لما احتيج إلى الكفارة الساترة للذنب. وأجيب بأن وجوب الكفارة بطريق الزجر إذ أصل الإيمان الانعقاد ولو محظوره فلا ينافي لزوم موجبها ، وجوز أن يقال : إن ذلك للإقدام على الحلف باللّه تعالى في غير محله فليتأمل ، والتوكيد التوثيق ، ومنه أكد بقلب الواو همزة على ما ذهب إليه الزجاج وغيره ، من النحاة ، وذهب آخرون إلى أن وكد وأكد لغتان أصليتان لأن الاستعمالين في المادة متساويان فلا يحسن القول بأن الواو بدل من الهمزة كما في الدر المصون وهو الذي اختاره أبو حيان.
وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شاهدا رقيبا فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه واستعمال الكفيل في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل والعلاقة اللزوم.
والظاهر أن جعلهم مجاز أيضا لأنهم لما فعلوا ذلك واللّه تعالى مطلع عليهم فكأنهم جعلوه سبحانه شاهد قاله الخفاجي ثم قال : ولو أبقي الكفيل على ظاهره وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته وإنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله كما يقال : من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب لكان معنى بليغا جدا فتدبر. والظاهر أن الجملة في موضع الحال من فاعل تَنْقُضُوا وجوز أن تكون حالا من فاعل المصدر وإن كان محذوفا ، وقوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي من النقض فيجازيكم على ذلك في وضع التعليل للنهي السابق ، وقال الخفاجي : إنه كالتفسير لما قبله وَلا تَكُونُوا فيما تصنعون من النقض كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مصدر بمعنى المفعول أي مغزولها ، والفعل منه غزل يغزل بكسر الزاي ، والنقض ضد الإبراء ، وهو في الجرم فك أجزائه بعضها من بعض ، وقوله تعالى : مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بنقضت على أنه ظرف له لا حال و-

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 458
من - زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه.
أَنْكاثاً جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وانتصابه قيل على إنه حال مؤكدة من غَزْلَها وقيل :
على أنه مفعول ثان لنقض لتضمنه معنى جعل ، وجوز الزجاج كون النصب المصدرية لأن نَقَضَتْ بمعنى نكثت فهو ملاق لعامله في المعنى.
وقال في الكشف : إن جعله مفعولا على التضمين أولى من جعله حالا أو مصدرا ، وفي الإتيان به مجموعا مبالغة وكذلك في حذف الموصوفة ليدل على الخرقاء الحمقاء وما أشبه ذلك ، وفي الكشاف ما يشير إلى اعتبار التضمين حيث قال : أي لا تكونوا كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته فجعلته أنكاثا ، وفي قوله : أنحت - على ما قال القطب - إشارة إلى أن نَقَضَتْ مجاز عن أرادت النقض على حد قوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة» وذكر أنه فسر بذلك جمعا بين القصد والفعل ليدل على حماقتها واستحقاقها اللوم بذلك فإن نقضها لو كان من غير قصد لم تستحق ذلك ولأن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلا كان أحسن ، ولا يخفى ما في اعتبار التضمين وهذا المجاز من التكلف وكأنه لهذا قيل : إن اعتبار القصد لأن المتبادر من الفعل الاختياري وفي الكشف خرج ذلك المعنى من قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ فإن نقض المبرم لا يكون إلا بعد إنحاء بالغ وقصد تام ولم يرد بالموصول امرأة بعينها بل المراد من هذه صفته ففي الآية حال الناقض بحال الناقض في أخس أحواله تحذيرا منه وإن ذلك ليس من فعل العقلاء وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء ، وقيل : المراد امرأة معلومة عند المخاطبين كانت تغزل فإذا برمت غزلها تنقضه وكانت تسمى خرقاء مكة ، قال ابن الأنباري : كان اسمها ربطة بنت عمرو المرية تلقب الحفراء ، وقال الكلبي. ومقاتل :
هي امرأة من قريش اسمها ربطة بنت سعد التيمي اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكه عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجوارها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال : كانت سعيدة الأسدية مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الآية وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ورورى ابن مردويه عن ابن عطاء أنها شكت جنونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وطلبت أن يدعو لها بالمعافاة فقال لها عليه الصلاة والسلام «إن شئت دعوت فعافاك اللّه تعالى وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة» فاختارت الصبر والجنة ،
وذكر عطاء أن ابن عباس أراه إياها ، وعن مجاهد هذا فعل نساء نجد تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه فتغزله بالصوف ، وإلى عدم التعيين ذهب قتادة عليه الرحمة تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير في لا تَكُونُوا أو في الجار والمجرور الواقع موقع الخبر.
وجوز أن يكون خبر تكونوا وكَالَّتِي نقضت في موضع الحال وهو خلاف الظاهر ، وقال الإمام : الجملة مستأنفة على سبيل الاستفهام الإنكاري أن أتتخذون ، والدخل في الأصل ما يدخل الشيء ولم يكن منه ثم كني به عن الفساد والعداوة المستبطنة كالدغل ، وفسره قتادة بالغدر والخيانة ، ونصبه على أنه مفعول ثان ، وقيل : على المفعولية من أجله ، وفائدة وقوع الجملة حالا الإشارة إلى وجه الشبه أي لا تكونوا مشبهين بامرأة هذا شأنها متخذين أيمانكم وسيلة للغدر والفساد بينكم أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أي بأن تكون جماعة هِيَ أَرْبى أي أزيد عددا وأوفر مالا مِنْ أُمَّةٍ أي من جماعة أخرى ، والمعنى لا تغدروا بقوم بسبب كثرتهم وقلتهم بل حافظوا على أيمانكم معهم ، وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن مجاهد أنه قال : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلفهم ويحالفون الذين هم أعز فنهوا عن ذلك لا تغدروا بجماعة بسبب أن تكون جماعة أخرى أكثر منها وأعز بل عليكم الوفاء بالأيمان والمحافظة عليها وإن قل من خلفتم له وكثر الآخر وجوز في «تكون» أن تكون تامة وناقصة وفي - هي - أن يكون

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 459
مبتدأ وعمادا «فأربى» إما مرفوع أو منصوب وأنت تعلم أن البصريين لا يجوزون كون هِيَ عماد التنكير أُمَّةٌ.
وزعم بعض الشيعة أن هذه الآية قد حرفت وأصلها أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم ولعمري قد ضلوا سواء السبيل إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير المجرور عائد إما على المصدر المنسبك من أَنْ تَكُونَ أو على المصدر المنفهم من أَرْبى وهو الربو بمعنى الزيادة ، وقول ابن جبير. وابن السائب.
ومقاتل يعني بالكثرة مرادهم منه هذا واكتفوا ببيان حاصل المعنى ، وظن ابن الأنباري أنهم أرادوا أن الضمير راجع إلى نفس الكثرة لكن لما كان تأنيثها غير حقيقي صح التذكير وهو كما ترى ، وقيل : إنه لأربى لتأويله بالكثير ، وقيل للأمر بالوفاء المدلول عليه بقوله تعالى - وأوفوا - إلخ ولا حاجة إلى جعله منفهما من النهي عن الغدر بالعهد واختار بعضهم الأول لأنه أسرع تبادرا أي يعاملكم معاملة المختبر بذلك الكون لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد اللّه تعالى وبيعة رسوله عليه الصلاة والسلام أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيجازيكم بأعمالكم ثوابا وعقابا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أيها الناس أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الإسلام وَلكِنْ لا يشاء ذلك رعاية للحكمة بل يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله بأن يخلق فيه الضلال حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده له وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده لتحصيلها وَلَتُسْئَلُنَّ جميعا يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة لا سؤال استفسار وتفهم عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تستمرون على عمله في الدنيا بقدركم المؤثرة بإذن اللّه تعالى ، والآية ظاهرة في أن مشيئة اللّه تعالى لا سلام الخلق كلهم ما وقعت وأنه سبحانه إنما شاء منهم الافتراق والاختلاف ، فإيمان وكفر وتصديق وتكذيب ووقع الأمر كما شاء جل وعلا ، والمعتزلة ينكرون كون الضلال بمشيئته تعالى ويزعمون أنه سبحانه إنما شاء من الجميع الإيمان ووقع خلاف ما شاء عز شأنه وأجاب الزمخشري عن الآية بأن المعنى لو شاء على طريقة الإلجاء والقسر لجعلكم أمة واحدة مسلمة فإنه سبحانه قادر على ذلك لكن اقتضت الحكمة أن يضل ويخذل من يشاء ممن علم سبحانه أنه يختار الكفر ويصمم عليه ويهدي من يشاء
بأن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان ، والحاصل أنه تعالى بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء ولو كان العبيد مضطرين للهداية والضلال لما أثبت سبحانه لهم عملا يسئلون عنه بقوله : وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اه ، وللعسكري نحوه ، وقد قدمنا لك غير مرة أن المذهب الحق على ما بينه علامة المتأخرين الكوراني وألف فيه عدة رسائل أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن اللّه تعالى لا إنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية ولا أن له قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعري ولا أن له قدرة مؤثرة وإن لم يؤذن للّه تعالى كما يقول المعتزلة وإن له اختيارا أعطيه بعد طلب استعداده الثابت في علم اللّه تعالى له فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه بمعنى أنه لا بد من أن يكون له لأن استعداده الأزلي الغير المجعول قد طلبه من الجواد المطلق والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الاستعداد للخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك نحو دلالة الأثر على المؤثرة والغاية على ذي الغاية وما ظلمهم اللّه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ومن وجد خيرا فليحمد اللّه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وقال ابن المنير : إن أهل السنة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون اللّه تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة وقدرة العبد مقارنة فحسب وبذلك يميز بين الاختياري والقسري وتقوم حجة اللّه تعالى على عباده اه وهذا هو المشهور من مذهب الأشعرية وهو كما ترى ، وسيأتي ان شاء اللّه تعالى تمام الكلام في هذا المقام وما فيه من النقض والإبرام.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 460
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ قالوا هو تصريح بالنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد التضمين لأن الاتخاذ المذكور فيما سبق وقع قيدا للمنهي عنه فكان منهيا عنه ضمنا تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي عنه وتمهيدا لقوله تعالى :
فَتَزِلَّ قَدَمٌ عن محجة الحق بَعْدَ ثُبُوتِها عليها ورسوخها فيها بالإيمان ، وقيل ما تقدم كان نهيا عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة وما هنا نهي عن الدخل في الأيمان التي يراد بها اقتطاع الحقوق فكأنه قيل : لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم لتتوصلوا بذلك إلى قطع حقوق المسلمين.
وقال أبو حيان : لم يتكرر النهي فإن ما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو أن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي المستأنف الإنشائي عن اتخاذ الإيمان دخلا على العموم فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك. ورد بأن قيد المنهي عنه فليس إخبارا صرفا ولا عموم في الثاني لأن قوله تعالى : فَتَزِلَّ إلخ إشارة إلى العلة السابقة إجمالا على أنه قد يقال إن الخاص مذكور في ضمن العام أيضا فلا محيص عن التكرار أيضا ولو سلم ما ذكره فتأمل ، ونصب - تزل - بأن مضمرة في جواب النهي لبيان ما يترتب عليه ويقتضيه ، قال في البحر : وهو استعارة للوقوع في أمر عظيم لأن القدم إذا زلت انقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر ، وتوحيد القدم وتنكيرها - كما قال الزمخشري - للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام ، وقال أبو حيان : إن الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع وتارة يلحظ فيه كل فرد فرد وفي الأول يكون الإسناد معتبرا فيه الجمعية وفي الثاني يكون الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا فيجمع ما أسند إليه ومطابقا لكل فرد فيفرد كقوله تعالى : وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف : 31] فأفرد المتكأ لما لوحظ في لَهُنَّ كل واحدة منهن ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله :
فإني وجدت الضامرين متاعهم يموت ويفنى فارضخي من وعائيا
أي كل ضامر ، ولذا أفرد الضمير في يموت ويفنى ، ولما كان المعنى هنا لا يتخذ كل واحد منكم جاء فَتَزِلَّ قَدَمٌ مراعاة لهذا المعنى. ثم قال سبحانه وَتَذُوقُوا السُّوءَ مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير إذا قلنا : إن الإسناد لكل فرد فرد فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد ودل على ذلك بإفراد قَدَمٌ وجمع الضمير في وَتَذُوقُوا. وتعقب بأن ما ذكره الزمخشري نكتة سرية وهذا توجيه للأفراد من جهة العربية فلا ينافي النكتة المذكورة ، والمراد من السوء العذاب الدنيوي من القتل والأسر والنهب والجلاء غير ذلك مما يسوء ولا يخفى ما في تَذُوقُوا من الاستعارة بِما صَدَدْتُمْ بسبب صدودكم وإعراضكم أو صد غيركم ومنعه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي ينتظم الوفاء بالعهود والأيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره يتبعه فيها من بعده من أهل الشقاء والإعراض عن الحق فيكون صادا عن السبيل.
وجعل هذه بعضهم دليلا أن الآية فيمن بايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو كما ترى وَلَكُمْ في الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ لا يعلم عظمه إلا اللّه تعالى وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ المراد به عند كثير بيعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الإيمان والاشتراء مجاز عن الاستبدال لمكان قوله تعالى : ثَمَناً قَلِيلًا فإن الثمن مشتري به أي لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى عوضا يسيرا من الدنيا ، قال الزمخشري : كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ولما كانوا يعدونهم من المواعيد إن رجعوا أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فثبتهم اللّه تعالى بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا ذلك بما وعدوهم به من عرض الدنيا ، وقال ابن عطية : هذا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 461
نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله أو فعل ما يجب عليه تركه ، فالمراد بعهد اللّه تعالى ما يعم ما تقدم وغيره ولا يخفى حسنه إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ أي ما أخباه وادخره لكم في الدنيا والآخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك الثمن القليل إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز ، فالفعل منزل منزلة اللازم ، وقى : متعد والمفعول محذوف وهو فضل ما بين العوضين والأول أبلغ ومستغن عن التقدير ، وفي التعبير بإن ما لا يخفى ، والجملة تعليل للنهي على طريقة التحقيق كما أن قوله تعالى : ما عِنْدَكُمْ إلخ تعليل للخيرية بطريق الاستئناف أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا بل الدنيا وما فيها جميعا يَنْفَدُ ينقضي ويفنى وإن جم عدده وطال مدده ، يقال : نفد بكسر العين ينفد بفتحها نفادا ونفودا إذا ذهب وفني ، وأما نفذ بالذال المعجمة فبفتح العين ومضارعه ينفذ بضمها وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية باقٍ لا نفاد له أما الأخروية فظاهر ، وأما الدنيوية فحيث كانت موصولة بالأخروية ومستتبعة لها فقد انتظمت في سلك الباقيات الصالحات. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المراد بما عند اللّه في الموضعين الثواب الأخروي واختاره بعض الأئمة ، وفي إيثار الاسم على صيغة المضارع من الدلالة على الدوام ما لا يخفى. ورد بالآية على جهم بن صفوان حيث زعم أن نعيم الجنة منقطع. وقوله تعالى : وَلَنَجْزِيَنَّ بنون العظمة وهي قراءة عاصم. وابن كثير على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم تكرير للوعد المستفاد من قوله سبحانه :
إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ على نهج التوكيد القسمي مبالغة في الحمل على الثبات على العهد. وقرأ باقي السبعة بالياء فلا التفات.
والعدول عما يقتضيه ظاهر الحال من أن يقال : ولنجزينكم - بالنون أو بالياء - أجركم بأحسن ما كنتم تعلمون للتوسل إلى التعرض لاعمالهم والاشعار بعليتها للجزاء أي واللّه لنجزين الَّذِينَ صَبَرُوا على العهد أو على أذية المشركين ومشاق الإسلام التي من جملتها الوفاء بالعهود وإن وعد المعاهدون على نقضها بما وعدوا أَجْرَهُمْ مفعول لَنَجْزِيَنَّ أي نعطينهم أجرهم الخاص بهم بمقابلة صبرهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وهو الصبر فإنه من الأعمال القلبية ، والكلام على حذف مضاف أي لنجزينهم بجزاء صبرهم ، وكان الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه فهو رأسها قاله أبو حيان. وفي إرشاد العقل السليم إنما أضيف الأحسن إلى مذاكر للإشعار بكمال حسنه كما في قوله : وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران : 148] لا لإفادة قصر الجزاء على الأحسن منه دون الحسن فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى : «أجرهم» فالإضافة للترغيب.
وجوز أن يكون المعنى لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم أي لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالحسن والأحسن بالأحسن ، وفيه ما لا يخفى من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزع ونظمه في سلك الصبر الجميل ، وأن يكون أحسن صفة جزاء محذوفا والإضافة على معنى من التفضيلية أي لنجزينهم بجزاء أحسن من أعمالهم ، وكونه أحسن لمضاعفته ، وقيل : المراد بالأحسن ما ترجح فعله على تركه كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركه أيضا «1» كالمحرمات والمكروهات والحسن ما لم يترجح فعله ولا تركه وهو لا يثاب عليه. وتعقبة في الإرشاد بأنه لا يساعده مقام الحث على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنة المخصوصة والترغيب في تحصيل ثمراتها بل التعرض لإخراج بعض أعمالهم من مدارية الجزاء
___________
(1) في أصل المصنف سقط لفظ «تركه» وزدناه من تفسير أبي السعود لأنه منقول عنه.==

20. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 462
من قبيل تحجير الرحمة الواسعة في مقام توسيع حماها. وقيل : المراد بالأحسن النفل ، وكان أحسن لأنه لم يحتم بل يأتي الإنسان به مختارا غير ملزم ، وإذا علمت المجازاة على النفل الذي هو أحسن علمت المجازاة على الفرض الذي هو حسن ، ولا يخفى أنه ليس بحسن أصلا مَنْ عَمِلَ صالِحاً أي عملا صالحا أي عمل كان ، وهذا - كما قيل - شروع في تحريض كافة المؤمنين على كل عمل صالح غب ترغيب طائفة منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالح مخصوص دفعا لتوهم الأجر الموفور بهم وبعملهم ، وقوله تعالى : مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى دفع لتوهم تخصيص مَنْ بالذكور لتبادرهم من ظاهر لفظ مَنْ فإنه مذكر وعاد عليه ضميره وإن شمل النوعين وضعا على الأصح ، واستدل عليه بما
رواه الترمذي من قوله صلى اللّه عليه وسلم : «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر اللّه تعالى إليه» وقول أم سلمة : «فكيف تصنع النساء بذيولهن» الحديث
فإن أم سلمة رضي اللّه تعالى عنها فهمت دخول النساء في مَنْ وأقرها على ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبأنهم أجمعوا على أنه لو قال : من دخل داري فهو حر فدخلها الإماء عتقن ، وبعضهم يستدل على ذلك أيضا بهذه الآية إذ لولا تناوله الأنثى وضعا لما صح أن يبين بالنوعين. وفي الكشف كان الظاهر تناوله للذكور من حيث إن الإناث لا يدخلن في أكثر الأحكام والمحاورات وإن كان التناول على طريق التعميم والتغليب حاصلا لكن لما أريد التنصيص ليكون أغبط للفريقين ونصا في تناولهما بين بذكر النوعين اه ، والقول الأصح أن التناول لا يحتاج إلى التغليب ، وتمام الكلام في ذلك في كتاب الأصول ، وقوله تعالى : وَهُوَ مُؤْمِنٌ في موضع الحال من فاعل عَمِلَ وقيد به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة الصالحة في استحقاق الثواب إجماعا ، واختلف في ترتب تخفيف العقاب عليها.
فقال بعضهم : لا يترتب أيضا لقوله تعالى : وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ [النحل : 85] وقوله تعالى : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان : 23].
وقال الإمام : إن إفادة العمل الصالح لتخفيف العقاب غير مشروطة بالإيمان لقوله تعالى : «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره» وحديث أبي طالب أنه أخف الناس عذابا بالمحبة وحمايته النبي صلى اللّه عليه وسلم. وفي البحر أن قوله تعالى : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة : 7] مخصص بهذه الآية ونحوها أو يراد - بمثقال ذرة - مثقال ذرة من إيمان كما جاء فيمن يخرج من النار من عصاة المؤمنين ، وقال الكرماني : إن تخفيف العذاب عن أبي طالب ليس جزاء لعمله بل هو لرجاء غيره أو هو من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام ، وقال بعضهم : الإيمان شرط لترتب التخفيف على الأعمال الصالحة إذا كانت مما يتوقف صحتها على النية التي لا تصح من كافر وليس شرطا للترتب عليها إذا لم تكن كذلك ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في هذا المقام ، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة وجوب دوام الإيمان ومقارنته للعمل الصالح في ترتب قوله تعالى : فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً إلخ ، والمراد بالحياة الطيبة الحياة التي تكون في الجنة إذ هناك حياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاوة ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال :
ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة ، وروي نحوه عن مجاهد. وقتادة. وابن زيد ، وللّه تعالى در من قال :
لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم
وقال شريك : هي حياة تكون في البرزخ فقد جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».
وقال غير واحد : هي في الدنيا وأريد بها حياة تصحبها القناعة والرضا بما قسمه اللّه تعالى له وقدره ، فقد أخرج البيهقي في الشعب. والحاكم وصححه وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه فسرها بذلك وقال : «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة لي بخير»
وجاء القناعة مال لا ينفد.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 463
وقال أبو بكر الوراق : هي حياة تصحبها حلاوة الطاعة ، وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال : الحياة الطيبة الرزق الحلال ، وروي عن الضحاك. ووجه بعضهم طيب هذه الحياة بأنه لا يترتب عليها عقاب بخلاف الحياة بالرزق الحرام
فقد جاء «أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به»
وهو كما ترى ، وقيل : غير ذلك وأولى الأقوال على تقدير أن يكون ذلك في الدنيا تفسيرها بما يصحبه القناعة.
قال الواحدي : إن تفسيرها بذلك حسن مختار فإنه لا يطيب في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه أبدا في الكد والعناء ، وقال الإمام : إن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه :
الأول أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير اللّه تعالى وأنه سبحانه محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيا بكل ما قضاه وقدره وعرف أن مصلحته في ذلك ، وأما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبدا في الحزن والشقاء.
الثاني أن المؤمن يستحضر أبدا في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها ويجد نفسه راضية بذلك فعند الوقوع لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه غافل عن تلك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه.
الثالث أن المؤمن منشرح بنور معرفة اللّه تعالى والقلب إذا كان مملوءا بالمعرفة لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا وأما الجاهل فقلبه خال عن المعرفة متفرغ للأحزان من المصائب الدنيوية ، الرابع أن المؤمن عارف أن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها ولا غمه بفقدانها والجاهل لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فيعظم فرحه بوجدانها وغمة بفقدانها. الخامس أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة الزوال ولولا تغيرها وانقلابها ما وصلت إليه فعند وصولها إليه لا يتعلق بها قلبه ولا يعانقها معانقة العاشق فلا يحزنه فواتها والجاهل بخلاف اه ، وللبحث فيه مجال. وأورد على التفسير المختار أن بعض من عمل صالحا وهو مؤمن لم يرزق القناعة بل قد ابتلي بالقنوع ، وأجيب بأن المراد بالمؤمن من كمل إيمانه أو يقال : المراد - بمن عمل صالحا - من كان جميع عمله صالحا.
وقال البيضاوي في بيان ترتب إحيائه حياة طيبة : إنه إن كان معسرا فظاهر وإن كان موسرا فطيب عيشه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة أي على تخلف بعض مراداته عنه وضنك عيشه فقال الخفاجي : إن هذه الأمور لا بد من وجود بعضها في المؤمن والأخير - يعني توقع الأجر في الآخرة - عام شامل لكل مؤمن فلا يرد عليه أن هذا لا يوجد في كل من عمل صالحا حتى يؤول المؤمن بمن كمل إيمانه إلى آخر ما سمعت. وتعقب بأن القناعة هي الرضا بالقسم كما في القاموس وغيره وتوقع الأجر العظيم لا يوجد بدون ذلك وكيف يحصل الأجر على تخلف المراد وضنك العيش مع الجزع وعدم الرضا ، وكلامه ظاهر في تحقق هذا التوقع وإن لم يكن هناك قناعة ورضا ولا يكاد يقع هذا من مؤمن عارف فلا بد من التأويل.
وبحث بعضهم فيه أيضا بأن كمال الإيمان لا يكون بدون الرضا وكذا كون جميع الأعمال صالحة لا يوجد بدونه لأن الأعمال تشمل القلبية والقالبية والرضا من النوع الأول. والمراد من فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً لنعطينه ما تطيب به حياته. فيؤول معنى الآية حينئذ على تقدير أن يراد القناعة والرضا من رضي بالقسمة وفعل كذا وكذا وهو مؤمن أو من عمل صالحا وهو راض بالقسمة متصف بكذا وكذا مما فيه كمال الإيمان فلنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته ويتضمن من رضي بالقسمة فلنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته وهو كما ترى وفيه ما لا يخفى. نعم تفسير الحياة الطيبة بما يكون في الجنة سالم عن هذا القيل والقال ، ويراد بها ما سلمت من توهم الموت والهرم وحلو الألم والسقم فيكون قوله تعالى : «فلنحيينه حياة طيبة» إشارة إلى درء المفاسد ، وقوله سبحانه : وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 464
بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
إشارة إلى جلب المصالح ولكون الأول أهم قدم فليتأمل ، وكأن المراد ولنجزينهم إلخ حسبما يفعل بالصابرين فليس في الآية شائبة تكرار كما زعم الطبرسي ، والجمع في الضمائر العائدة إلى الموصول لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ ، وإيثار ذلك على العكس بناء على كون الإحياء حياة طيبة في الدنيا وجزاء الأجر في الآخرة لما أن وقوع الجزاء بطريق الاجتماع المناسب للجمعية ووقوع ما في حيز الصلة وما يترتب عليه بطريق الافتراق والتعاقب الملائم للأفراد ، وقيل بناء على كون ذلك في الآخرة : إن الجمع والإفراد لما تقدم ، وكذا إيثار ذلك على العكس فيما عدا ضمير «لنحيينه» وإما في ضميره فلما أن الإحياء حياة طيبة بمعنى ما سلمت مما تقدم أمر واحد في الجميع لا يتفاوت فيه أهل الجنة فكأنهم في ذلك شيء واحد ، ولما لم يكن الجزاء كذلك وكان أهل الجنة فيه متفاوتين جيء بضمير الجمع معه فتأمل كل ذلك. وروي عن نافع أنه قرأ «وليجزينهم» بالياء على الالتفات من التكلم إلى الغيبة.
قال أبو حيان : وينبغي أن يكون ذلك على تقدير قسم ثان لا معطوفا علي فَلَنُحْيِيَنَّهُ فيكون من عطف جملة قسمية على مثلها وكلتاهما محذوفتان ، ولا يكون من عطف جواب على مثله لتغاير الإسناد وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه إخبار الغائب وذلك لا يجوز ، وعلى هذا لا يجوز زيد قال لأضربن هند أو لينفينها تريد ولينفينها زيد فإن جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي وقال زيد لينفينها لأن في هذا التركيب حكاية المعنى وحكاية اللفظ ، ومن الثاني وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى [التوبة : 107] ومن الأول يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا [التوبة : 174] ولو حكى اللفظ قيل ما قلنا اه. واستدل بالآية على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح مغايرة الشرط للمشروط.
هذا وإذ قد انتهى الأمر إلى مدار الجزاء وهو صلاح العمل وحسنه رتب عليه بالفاء الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح ، ويخلص عن شوب الفساد فقيل : فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي إذا أردت قراءة القرآن فاسأله عز جاره أن يعيذك مِنَ وساوس الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ كيلا يوسوسك في القراءة فالقراءة مجاز مرسل عن إرادتها إطلاقا لاسم المسبب على السبب ، وكيفية الاستعاذة عند الجمهور من القراء وغيرهم أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم لتظافر الروايات على أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يستعيذ كذلك.
وروى الثعلبي والواحدي أن ابن مسعود قرأ عليه الصلاة والسلام فقال : أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال له صلى اللّه عليه وسلم : «يا ابن أم عبد قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ»
نعم
أخرج أبو داود. والبيهقي عن عائشة رضي اللّه عنها في ذكر الإفك قالت «جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكشف عن وجهه وقال : أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الذين جاؤوا بالإفك» الآية ،
وأخرجا عن سعيد إنه قال «كان رسول اللّه عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل فاستفتح الصلاة قال : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول أعوذ باللّه السميع العليم» إلخ
وبذلك أخذ من استعاذ كذلك ، وفي الهداية الأولى أن يقول : أستعيذ باللّه ليوافق القرآن ويقرب أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم اه ، والمختار ما سمعت أولا لأن لفظ استعذ طلب العوذة وقوله : «أعوذ» امتثال مطابق لمقتضاه. والقرب من اللفظ مهدر ، ويكفي لأولوية ما عليه الجمهور مجيئه في المأثور : وقال بعض أصحابنا : لا ينبغي أن يزيد المتعوذ السميع العليم لأنه ثناء وما بعد التعوذ محل القراءة لا محل الثناء وفيه أن هذا بعد تسليم الخبرين السابقين غير سديد على أنه ليس في ذلك إتيان بالثناء بعد التعوذ بل إتيان به في أثنائه كما لا يخفى ، والأمر بها للندب عندهم ، وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر عن عطاء وروي عن الثوري أنها واجبة لكل قراءة في الصلاة أو غيرها لهذه الآية فحملا الأمر فيها على الوجوب نظرا إلى أنه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 465
حقيقة فيه ، وعدم صلاحية كونها لدفع الوسوسة في القراءة صارفا عنه بل يصح شرع الوجوب معه ، وأجيب بأنه خلاف الإجماع ، ويبعد منهما أن يبتدعا قولا خارقا له من بعد علمهما بأن ذلك لا يجوز فاللّه تعالى أعلم بالصارف على قول الجمهور ، وقد يقال : هو تعليمه صلى اللّه عليه وسلم الأعرابي الصلاة ولم يذكرها عليه الصلاة والسلام.
وقد يجاب بأن تعليمه إياها بتعليمه ما هو من خصائصها وهي ليست من واجباتها بل من واجبات القراءة أو إن كونها تقال عند القراءة كان ظاهرا معهودا فاستغنى عن ذكرها ، وفيه أنه لا يتأتى على ما ستسمع قريبا إن شاء اللّه تعالى من قول أبي يوسف عليه الرحمة. وقال الخفاجي : إن حمل الأمر على الندب لما روي من ترك النبي صلى اللّه عليه وسلم لها ، وإذا ثبت هذا كفى صارفا ومذهب ابن سيرين. والنخعي وهو أحد قولي الشافعي أنها مشروعة في القراءة في كل ركعة لأن الأمر معلق على شرط فيتكرر بتكرره كما في قوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة : 6] وأيضا حيث كانت مشروعة في الركعة الأولى فهي مشروعة في غيرها من الركعات قياسا للاشتراك في العلة ، ومذهب أبي حنيفة - وهو القول الآخر للشافعي - أنها مشروعة في الأول فقط لأن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة ، وقيل : إنها عند الإمام أبي حنيفة للصلاة ولذا لا تكرر ، والمذكور في الهداية وغيرها أنها عند الإمام أبي حنيفة للصلاة ولذا لا تكرر ، والمذكور في الهداية وغيرها أنها عند الإمام ومحمد للقراءة دون الثناء حتى يأتي بها المسبوق دون المقتدى ، وقال أبو يوسف : إنها للثناء وفي الخلاصة أنه الأصح ، وتظهر ثمرة الخلاف في ثلاثة مسائل ذكرت فيها فما ذكره صاحب القيل لم نعثر عليه في كتب الأصحاب ، ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في غيرها كقيام رمضان ، والمروي عنه في غير الصلاة فيما سمعت من بعض مقلديه وعن أبي هريرة. وابن سيرين. وداود. وحمزة من القراء أن الاستعاذة عقب القراء أخذ بظاهر الآية.
وللجمهور ما
رواه أئمة القراءة مسندا عن نافع عن جبير بن مطعم أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول قبل القراءة : «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم»
:
قال في الكشف ، دل الحديث على أن التقديم هو السنة فبقي سببية القراءة لها ، والفاء في فَاسْتَعِذْ دلت على السببية فلتقدر الإرادة ليصح ، وأيضا الفراغ عن العمل لا ينساب الاستعاذة من العدو وإنما يناسبها الشروع فيه والتوسط فلتقدر ليكونا - أي القراءة والاستعاذة - مسببتين عن سبب واحد لا يكون بينهما مجرد الصحبة الاتفاقية التي تنافيها الفاء ، وإليه أشار صاحب المفتاح بقوله بقرينة الفاء والسنة المستفيضة انتهى.
ومنه يعلم أن ما قيل من أن الفاء لا دلالة فيها على ما ذكر وأن إجماعهم على صحة هذا المجاز يدل على أن القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ليس بشرط فيه ليس بشيء وكذا القول بالفرق بين هذه الآية وقوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة : 6] إلخ بأن ثمة دليلا قائما على المجاز فترك الظاهر له بخلاف ما نحن فيه ، والظاهر أن المراد بالشيطان إبليس وأعوانه ، وقيل : هو عام في كل متمرد عات من جن وإنس ، وتوجيه الخطاب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره عليه الصلاة والسلام وفي سائر الأعمال الصالحة أهم فإنه صلى اللّه عليه وسلم حيث أمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فما الظن بمن عداه عليه الصلاة والسلام فيما عدا القراءة من الأعمال إِنَّهُ الضمير للشأن أو للشيطان لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ تسلط واستيلاء عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه يفوضون أمورهم وبه يعوذون فالمراد نفي التسلط بعد الاستعاذة فتكون الجملة تعليلا للأمر بها أو لجوابه المنوي أي أن يعذك ونحوه.
وقال البعض : المراد نفي ذلك مطلقا ، قال أبو حيان : وهو الذي يقتضيه ظاهر الأخبار وتعقب بأنه إذا لم يكن له

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 466
تسلط فلم أمروا بالاستعاذة منه. وأجيب بأن المراد نفي ما عظم من التسلط. وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن سفيان الثوري أنه قال في الآية : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم والاستعاذة من المحتقرات فهم لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيها يحتقروته على ندور وغفلة فأمروا بالاستعاذة منه لمزيد الاعتناء بحفظهم ، وقد ذهب إلى هذا البيضاوي ثم قال : فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطانا.
وفي الكشف أن هذه الجملة جارية مجرى البيان للاستعاذة المأمور بها وأنه لا يكفي فيها مجرد القول الفارغ عن اللجأ إلى اللّه تعالى واللجأ إنما هو بالإيمان أولا والتوكل ثانيا ، وأيا ما كان فوجه ترك العطف ظاهر وإيثار صيغة الماضي في الصلة الأولى للدلالة على التحقيق كما أن اختيار صيغة الاستقبال في الثانية لإفادة الاستمرار التجددي ، وفي التعرض لوصف الربوبية تأكيد لنفي السلطان عن المؤمنين المتوكلين.
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي يجعلونه واليا عليهم فيحبونه ويطيعونه ويستجيبون دعوته فالمراد بالسلطان التسلط والولاية بالدعوة المستتبعة للاستجابة لا ما يعم ذلك والتسلط بالقسر والإلجاء فإن في جعل التولي صلة «ما» يفصح بنفي إرادة التسلط القسري فإن المقسور بمعزل عنه بهذا المعنى ، وقد نفي هذا أيضا عن الكفرة في قوله تعالى حكاية عن اللعين : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم : 22] فاستجبتم لي وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بسبب الشيطان وإغوائه إياهم مُشْرِكُونَ باللّه تعالى ، وقيل : أي باشراكهم الشيطان مشركون باللّه تعالى ، وجوز أن يكون الضمير للرب تعالى شأنه والباء للتعدية ، وروي ذلك عن مجاهد ورجح الأول باتحاد الضمائر فيه مع تبادره إلى الذهن ، وفي إرشاد العقل السليم ما يشعر باختيار الأخير ، وذكر فيه أيضا أن قصر سلطان اللعين على المذكورين غب نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليل على أنه لا واسطة في الخارج بين التوكل على اللّه تعالى وتولي الشيطان وإن كان بينهما واسطة في المفهوم وإن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظم في سلك من يتولى الشيطان من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليل ، ففيه مبالغة في الحمل على التوكل والتحذير عن مقابله.
وإيثار الجملة الفعلية الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر آنفا والاسمية في الثانية للدلالة على الثبات ، وتكرير الموصول للاحتراز عن توهم كون الصلة الثانية حالية مفيدة لعدم دخول غير المشركين من أولياء الشيطان تحت سلطانه.
وتقديم الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارنة بينها وبين ما يقابلها من التوكل على اللّه تعالى ولو روعي الترتيب السابق لا نفصل كل من القرينتين عما يقابلها اه ، لما كان كل من الإيمان والتولي منشأ لما بعده قدم عليه ، وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ أي إذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها ، والظاهر على ما في البحر أن المراد نسخ اللفظ والمعنى ، ويجوز أن يراد نسخ المعنى مع بقاء اللفظ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من المصالح فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة تنقلب مفسدة في وقت آخر لانقلاب الأمور الداعية إليها ، ونرى الطبيب الحاذق قد يأمر المريض بشربة ثم بعد ذلك ينهاه عنها ويأمره بضدها ، وما الشرائع إلا مصالح للعباد وأدوية لأمراضهم المعنوية فتختلف حسب اختلاف ذلك في الأوقات وسبحان الحكيم العليم ، والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم ، وفي الالتفات إلى الغيبة مع الاسناد إلى الاسم الجليل ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية كما قال أبو البقاء وغيره ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ينزل» من الإنزال قالُوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ متقول على اللّه تعالى تأمر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 467
بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه ، وقد بالغوا قاتلهم اللّه تعالى في نسبة الافتراء إلى حضرة الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وسلم حيث وجهوا الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام وجاؤوا بالجملة الاسمية مع التأكيد بإنما ، وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأنه كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم. وفي الكشف أن وجه ذكره عقيب الأمر بالاستعاذة عند القراءة أنه باب عظيم من أبوابه يفتن به الناقصين يوسوس إليهم البداء والتضاد وغير ذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في التبديل المذكور حكما بالغة ، وإسناد هذا الحكم إلى أكثرهم لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكر عنادا.
والآية دليل على نسخ القرآن بالقرآن وهي ساكتة عن نفي نسخه بغير ذلك مما فصل في كتب الأصول قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بالآية ، وقال الطبرسي : أي الناسخ المدلول عليه بما تقدم رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبريل عليه السلام وأطلق عليه ذلك من حيث إنه ينزل بالقدس من اللّه تعالى أي مما يطهر النفوس من القرآن والحكمة والفيض الإلهي ، وقيل : لطهره من الأدناس البشرية ، والإضافة عند بعض للاختصاص كما في رَبِّ الْعِزَّةِ [الصافات : 180] وجعلها بعض المحققين من إضافة الموصوف للصفة على جعله نفس القدس مبالغة نحو - خبر سوء ورجل صدق - على ما ارتضاه الرضي ، ومثل ذلك حاتم الجود وسحبان الفصاحة وخالف في ذلك صاحب الكشف مختارا أنها للاختصاص ، ولا يخفى ما في صيغة التفعيل بناء على القول بأنها تفيد التدريج من المناسبة لمقتضى المقام لما فيها من الإشارة إلى أنه أنزل دفعات على حسب المصالح مِنْ رَبِّكَ في إضافة الرب إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية عليه عليه الصلاة والسلام ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المنبئة عن التلقين المحض كما في إرشاد العقل السليم ، وكأنه اعتناء بأمر هذه الدلالة لم يقل من ربكم على أن في ترك خطابهم من حط قدرهم ما فيه ، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا بِالْحَقِّ أي ملتبسا بالحكمة المقتضية له بحيث لا يفارقها ناسخا كان أو منسوخا لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا أي على الإيمان بما يجب الإيمان به لما فيه من الحجج القاطعة والأدلة الساطعة أو على الإيمان بأن كلامه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح رسخت عقائدهم واطمأنت به قلوبهم ، وأول بعضهم الآية على هذا الوجه بقوله : ليبين ثباتهم وتعقب بأنه لا حاجة إليه إذ التثبيت بعد النسخ لم يكن قبله فإن نظر إلى مطلق الإيمان صح. وقرئ لِيُثَبِّتَ من الأفعال.
وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ عطف على محل لِيُثَبِّتَ عند الزمخشري ومن تابعه وهو نظير زرتك لأحدثك وإجلالا لك أي تثبيتا وهداية وبشارة ، وتعقب بأنه إذا اعتبر الكل فعل المنزل على الإسناد المجازي لم يكن للفرق بإدخال اللام في البعض والترك في البعض وجه ظاهر ، وكذا إذا اعتبر فعل اللّه تعالى كما هو كذلك على الحقيقة وإذا اعتبر البعض فعل المنزل ليتحد فاعل المصدر وفاعل الفعل المعلل به فيترك اللام له والبعض الآخر فعل اللّه تعالى ليختلف الفاعل فيؤتى باللام لم يكن لهذا التخصيص وجه ظاهر أيضا ويفوت به حسن النظم.
وقال الخفاجي يوجه ترك اللام في المعطوف دون المعطوف عليه مع وجود شرط الترك فيهما بأن المصدر المسبوك معرفة على ما تقرر في العربية والمفعول له الصريح وإن لم يجب تنكيره كما عزي للرياشي فخلافه قليل كقوله : واغفر عوراء الكريم ادخاره. ففرق بينهما تفننا وجريا على الأفصح فيهما ، والنكتة فيه أن التثبيت أمر عارض بعد حصول المثبت عليه فاختير فيه صيغة الحدوث مع ذكر الفاعل إشارة إلى أنه فعل للّه تعالى مختص به بخلاف الهداية والبشارة فإنهما يكونان بالواسطة ، وقيل : إن وجود الشرط مجوز لا موجب والاختيار مرجح مع ما في ذلك من فائدة بيان جواز الوجهين ، وفيه أنه لا يصلح وجها عند التحقيق ، وقد اعترض أبو حيان هنا بما تقدم في الكلام على قوله تعالى : لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً [النحل : 64] ، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون العطف على المصدر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 468
المنسبك لأنه مجرور فيكون هُدىً وَبُشْرى مجرورين ، وجوز أبو البقاء أن يكونا مرفوعين على أنهما خبرا مبتدأ محذوف أي وهو هدى وبشرى ، والجملة في موضع الحال من الهاء في نَزَّلَهُ.
والمراد بالمسلمين الذين آمنوا ، والعدول عن ضميرهم لمدحهم بكلا العنوانين ، وفسر بعضهم الإسلام بمعناه اللغوي فقيل : إن ذلك ليفيد بعد توصيفهم بالإيمان ، والظاهر أن لِلْمُسْلِمِينَ قيد للهدى والبشرى ولم أر من تعرض لجواز كونه قيدا للبشرى فقط كما تعرض لذلك في قوله تعالى : هُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل : 89] على ما سمعت هناك.
وفي هذه الآية على ما قالوا تعريض لحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سوى المذكورين من الكفار من حيث إن قوله تعالى : قُلْ نَزَّلَهُ جواب لقولهم : إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ فيكفي فيه قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ فالزيادة لمكان التعريض وقال الطيبي إن نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بدل نزله اللّه فيه زيادة تصوير في الجواب وزيد قوله تعالى بِالْحَقِّ لينبه على دفع الطعن بألطف الوجوه ثم نعى قبيح أفعالهم بقوله تعالى : لِيُثَبِّتَ إلخ تعريضا بأنهم متزلزلون ضالون موبخون منذرون بالخزي والنكال واللعن في الدنيا والآخرة وأن عذابهم في خلاف ذلك ليزيد في غيظهم وحنقهم ، وفي الكلام ما هو قريب من الأسلوب الحكيم اه فتأمل.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ غير ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء إِنَّما يُعَلِّمُهُ أي يعلم النبي صلى اللّه عليه وسلم القرآن ، وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام قتادة. ومجاهد. وغيرهما واختير كون الضمير للقرآن ليوافق ضمير أَنْزَلَهُ أي يقولون إنما يعلم القرآن النبي عليه الصلاة والسلام بَشَرٌ على طريق البت مع ظهور أنه نزله روح القدس عليه عليه الصلاة والسلام ، وتأكيد الجملة لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد ، وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم بحسب الاستمرار التجددي في متعلقه فإنهم مستمرون على التفوه بتلك العظيمة ، وفي البحر أن المعنى على المضي فالمراد علمنا وعنوا بهذا البشر قيل : جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي وكان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان صلى اللّه عليه وسلم يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة فقالوا ما قالوا.
وروي ذلك عن السدي ، وقيل : مولى لحويطب بن عبد العزى اسمه عائش أو يعيش كان يقرأ الكتب وقد أسلم وحسن إسلامه قاله الفراء. والزجاج ، وقيل : أبا فكيهة مولى لامرأة بمكة قيل اسمه يسار وكان يهوديا قاله مقاتل. وابن جبير إلا أنه لم يقل كان يهوديا. وأخرج آدم بن أبي إياس. والبيهقي. وجماعة عن عبد اللّه بن مسلم الحضرمي قال : كان لنا عبدان نصرانيان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار وللآخر جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن الإنجيل فربما مر بهما النبي صلى اللّه عليه وسلم وهما يقرءان فيقف ويستمع فقال المشركون : إنما يتعلم منهما ، وفي بعض الروايات أنه قيل لأحدهما إنك تعلم محمدا صلى اللّه عليه وسلم فقال لا بل هو يعلمني ،
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : كان بمكة غلام أعجمي روي لبعض قريش يقال له بلعام وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش : هذايعلم محمدا عليه الصلاة والسلام من جهة الأعاجم
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر عن الضحاك أنه سلمان الفارسي رضي اللّه تعالى عنه ، وضعف هذا بأن الآية مكية وسلمان أسلم بالمدينة ، وكونها إخبارا بأمر مغيب لا يناسب السباق ، ورواية أنه أسلم بمكة واشتراه أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه وأعتقه بها قيل ضعيفة لا يعول عليها كاحتمال أن هذه الآية مدنية.
وقد أخبرني من أثق به عن بعض النصارى أنه قال له : كان نبيكم صلى اللّه عليه وسلم يتردد إليه في غار حراء رجلان نصراني ويهودي يعلمانه ، ولم أجد هذا عن أحد من المشركين وهو كذب بحت لا منشأ له وبهت محض لا شبهة فيه ، وإنما لم يصرح باسم من زعموا أنه يعلمه عليه الصلاة والسلام مع أنه أدخل في ظهور كذبهم للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلى اللّه عليه وسلم إلى التعلم من شخص معين بل من البشر كائنا من كان مع كونه عليه الصلاة والسلام معدنا لعلوم الأولين

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 469
والآخرين لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ اللسان مجاز مشهور عن التكلم ، والإلحاد الميل يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد ، ومنه لحد القبر لأنه حفرة مائلة عن وسطه ، والملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها ، والأعجمي الغير البين ، قال أبو الفتح الموصلي : تركيب ع ج م في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد البيان والإيضاح ، ومنه قولهم : رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان وعجم الزبيب سمي بذلك لاستتارة واختفائه ويقال للبهيمة العجماء لأنه لا توضح ما في نفسها وسموا صلاتي الظهر والعصر العجماوين لأن القراءة فيهما سر وأما قولهم :
أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته كأشكيت زيدا أزلت شكواه ، والأعجمي والأعجم الذي في لسانه عجمة من العجم كان أو من العرب ، ومن ذلك زياد الأعجم وكان عربيا في لسانه لكنة وكذاك حبيب الأعجمي تلميذ الحسن البصري قدر اللّه تعالى سرهما على ما رأيته في بعض التواريخ.
والمراد من الَّذِي على القول بتعدد من زعموا نسبة التعليم إليه الجنس ومفعول يُلْحِدُونَ محذوف أي تكلم الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه أي ينسبون التعليم إليه غير بيّن لا يتضح المراد منه.
وظاهر كلام ابن عطية أن اللسان على معناه الحقيقي وهو الجارحة المعروفة. وقرأ الحسن «اللسان الذي» بتعريف اللسان بأل ووصفه بالذي. وقرأ حمزة والكسائي وعبد اللّه بن طلحة والسلمي والأعمش «يلحدون» بفتح الياء والحاء من لحد ، وألحد ولحد لغتان فصيحتان مشهورتان وَهذا القرآن الكريم لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة على ما يشعر به وصفه - بمبين - بعد وصفه - بعربي - والكلام على حذف مضاف عند ابن عطية أي سرد لسان أو نطق لسان ، والجملتان مستأنفتان عند الزمخشري لإبطال طعنهم ، وجوز أبو حيان أن يكونا حالين من فاعل يَقُولُونَ ثم قال : وهو أبلغ من الإنكار أي يقولون هذا والحال أن علمهم بأعجمية هذا البشر وعربية هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم عن مثل تلك المقالة كقولك : أتشتم فلانا وهو قد أحسن إليك وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لأن مجيء الاسمية حالا بدون واو شاذ عنده ، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء إذ مجيئها كذلك في كلام العرب أكثر من أن يحصى اه ، وتقرير الابطال - كما قال العلامة البيضاوي - يحتمل وجهين : أحدهما أن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل فكيف يكون ما تلقفه منه.
وثانيهما هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه ولكن لم يلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاوله فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه بعض المنقولات بكلمات أعجمية لعله لم يعرف معناها ، وحاصل ذلك منع تعلمه عليه الصلاة والسلام منه مع سنده ثم تسليمه باعتبار المعنى إذ لفظه مغاير للفظ ذلك بديهية فيكفي دليلا له ما أتى به من اللفظ المعجز ويمكن تقريره بنحو هذا على سائر الأقوال السابقة في البشر ، وقال الكرماني : المعنى أنتم أفصح الناس وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا وقد عجزتم وعجز جميع العرب عن الإتيان بمثله فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن وهو كما ترى ، وبالجملة التشبث في أثناء الطعن بمثل هذه الخرافات الركيكة دليل قوي على كمال عجزهم فقد راموا اجتماع اليوم والأمس واستواء السها والشمس :
فدعهم يزعمون الصبح ليلا أيعمى الناظرون عن الضياء
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي يصدقون بأنها من عنده تعالى بل يقولون فيها ما يقولون يسمونها تارة افتراء وأخرى أساطير معلمة من البشر ، وقيل : المراد بالآيات المعجزات الدالة على صدق النبي صلى اللّه عليه وسلم ويدخل فيها الآيات القرآنية دخولا أوليا والأول على ما قيل أوفق بالمقام.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 470
لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ قيل : أي إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار كما يشير إليه قوله تعالى : وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وقال بعض المحققين : المعنى لا يهديهم إلى ما ينجيهم من الحق لما يعلم من سوء استعدادهم ، وقال في البحر : أي لا يخلق الإيمان في قلوبهم ، وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات اللّه تعالى ، وقال الجلبي :
المعنى أن سبب عدم إيمانهم هو أنه تعالى لا يهديهم لختمه على قلوبهم أو لا يهديهم سبحانه مجازاة لعدم إيمانهم بأن تلك الآيات من عنده تعالى ، وقال العسكري : يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا ، والمراد - بلا يهديهم اللّه - لا يهتدون فإنه إنما يقال هدى اللّه تعالى فلانا على الإطلاق إذا اهتدى هو وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال فيه : إن اللّه تعالى هداه فلم يهتد كما قال تعالى : وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت : 17] وقيل : المعنى إن الذين لا يصرفون اختيارهم إلى الإيمان بآياته تعالى لا يخلقه سبحانه في قلوبهم ، وقال ابن عطية : المفهوم من الوجود أن الذين لا يهديهم اللّه تعالى لا يؤمنون بآياته ولكنه قدم وأخر تتميما لتقبيح حالهم وللتشنيع بخطئهم كما في قوله تعالى : فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف : 5] ويؤدي مؤدى التقديم والتأخير ما ذكره الجلبي أولا والأكثر لا يخلو عن دغدغة.
وقال القاضي : أقوى ما قيل في الآية ما ذكر أولا ، وكونه تفسيرا للمعتزلة مناسبا لأصولهم فيه نظرا ، وأيا ما كان فالمراد من الآية التهديد والوعيد لأولئك الكفرة على ما هم عليه من الكفر بآيات اللّه تعالى ونسبة رسوله صلى اللّه عليه وسلم إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطة شبهتهم ورد طعنهم ، وقولهم سبحانه : إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ تمهيد لكونهم هم المفترون وقلب عليهم بعد أن حقق بالبيان البرهاني براءة ساحته صلى اللّه عليه وسلم عن لوث الافتراء ، وقوله تعالى : وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ إشارة إلى قريش القائلين : إنما أنت مفتر وهو تصريح بعد التعريض ليكون كالوشم عليهم ، وهذا الأسلوب أبلغ من أن يقال : أنتم معشر قريش مفترون لما أشير إليه ، وإقامة الدليل على أنهم كذلك وأن من زنوه به لا يجوز أن يتعلق بذيله نشب منه أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقابا عليه وقريش كذلك فهم الكاذبون أو إشارة إلى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فيستمر الكلام على وتيرة واحدة ، والمعنى أن الكاذب بالحقيقة هذا الكاذب على ما قرروه في قوله تعالى : وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة : 5 وغيرها] واللام للجنس وهو شهادة عليهم بالكمال في الافتراء ، فالكذب في الحقيقة مقيد بالكذب بآيات اللّه تعالى ، وأطلق إشعارا بأن لا كذب فوقه ليكون كالحجة على كمال الافتراء أو الكذب غير مقيد على هذا الوجه على معنى أنهم الذين عادتهم الكذب فلذلك اجترءوا على تكذيب آيات اللّه تعالى دلالة على أن ذلك لا يصدر إلا ممن لهج بالكذب قيله ، ويدل على اعتبار هذا المعنى التعبير بالجملة الاسمية ولذا عطفت على الفعلية ، وفيه قلب حسن وإشارة إلى أن قريشا لما كان من عادتهم الكذب أخذوا يكذبون بآيات اللّه تعالى ومن أتى بها ، ثم لم يرضوا بذلك حتى نسبوا من شهدوا له بالأمانة والصدق إلى
الافتراء.
وموضع الحسن الإيماء إلى سبق حالتي النبي صلى اللّه عليه وسلم وقريش أو الكذب مقيد على هذا الوجه أيضا بما نسبوا إليه عليه الصلاة والسلام من الافتراء ، والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ على هذا المراد به قريش من إقامة الظاهر مقام المضمر ، وإيثار المضارع على الماضي دلالة على استمرار عدم إيمانهم وتجدده عقب نزول كل آية واستحضارا لذلك وهذا الوجه مرجوح بالنسبة إلى السوابق ، وقد ذكر هذه الأوجه صاحب الكشاف وقد حررها بما ذكر المولى المدقق في كشفه ، والحصر في سائرها غير حقيقي ، ولا استدراك في الآية لا سيما على الأول منها ، وهي من الكلام المنصف في بعضها. وتعلقها بقوله سبحانه حكاية عنهم : إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ لأنها كما سمعت لرده ، وتوسيط ما وسط لما لا يخفى

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 471
من شدة اتصاله بالرد الأول مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ أي بكلمة الكفر مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ به تعالى. وهذا بحسب الظاهر ابتداء كلام لبيان حال من كفر بآيات اللّه تعالى بعد ما آمن بها بعد بيان حال من لم يؤمن بها رأسا ومَنْ موصولة محلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة «فعليهم غضب» الآتي عليه وحذف مثل ذلك كثير في الكلام ، وجوز أيضا الرفع وكذا النصب على القطع لقصد الذم أي هم أو أذم من كفر والقطع للذم والمدح وإن تعورف في النعت ، ومَنْ لا يوصف بها لكن لا مانع من اعتباره في غيره كالبدل وقد نص عليه سيبويه. نعم قال أبو حيان : إن النصب على الذم بعيد. وأجاز الحوفي والزمخشري كونها بدلا من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وقوله تعالى :
وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعتراض بينهما. واعترضه أبو حيان. وغيره بأنه يقتضي أن لا يفتري الكذب إلا من كفر بعد إيمانه والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن مطلقا وهم أكثر المفترين. وأيضا البدل هو المقصود والآية سيقت للرد على قريش وهم كفار أصليون. ووجه ذلك الطيبي بأن يراد بقوله تعالى : «من بعد إيمانه» من بعد تمكنه منه كقوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة : 16] وذكر أن فيه ترشيحا لطريق الاستدراج وتحسيرا لهم على ما فاتهم من التصديق وما اقترفوه من نسبته عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء وفيه كما في الكشف أن قوله سبحانه : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ لا يساعد عليه ، وحمل التمكن منه على ما هو أعم من التمكن في إحداثه وبقائه لا يخفى ما فيه.
وقال المدقق : الأولى في التوجيه أن يجعل المعنى من وجد الكفر فيما بينهم تغييرا على الارتداد أيضا وأن من وجد فيهم هذه الخصلة لا يبعد منه الافتراء ويجعل ذلك ذريعة إلى أن ينعى عليهم ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين من المثلة ويدمج فيه الرخصة بإجراء كلمة الكفر على اللسان على سبيل الإكراه وتفاوت ما بين صاحب العزيمة والرخصة ، ولا يخفى ما فيه أيضا وأنه غير ملائم لسبب النزول ، وقال الخفاجي : لك أن تقول : الأقرب أن يبقى الكلام على ظاهره من غير تكلف وأن هذا تكذيب لهم على أبلغ وجه كما يقال لمن قال : إن الشمس غير طالعة في يوم صاح هذا ليس بكذب لأن الكذب يصدر فيما قد تقبله العقول ويكون هذا على تقدير أن يكون المراد في لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يهديهم إلى الحق فاللّه تعالى لما لم يهدهم إلى الحق والصدق وختم على حواسهم نزلوا منزلة من لم يعرفه حتى يساعده لسانه على النطق به فقبح إنكارهم له أجل من أن يسمى كذبا وإنما يكذب من تعمد ذلك ونطق به مرة ، فتكون الآية الأولى للرد على قريش صريحا والأخرى دلالة على أبلغ وجه انتهى ، ولعمري إنه نهاية في التكلف ، ومثل هذا الابدال الابدال من أُولئِكَ والابدال من الْكاذِبُونَ وقد جوزهما الزمخشري أيضا وجوز الحوفي الأخير أيضا ولم يجوز الزجاج غيره.
وجوز غير واحد كون مَنْ شرطية مرفوعة المحل على الابتداء واستظهره في البحر والجواب محذوف لدلالة الآتي عليه كما سمعت في الوجه الأول ، والكلام في خبر من الشرطية مشهور ، وظاهر صنيع الزمخشري اختيار الابدال وهو عندي غريب منه. وفي الكشف أن كون مَنْ شرطية مبتدأ وجه ظاهر السداد إلا أن الذي حمل جار اللّه على إيثار كون مَنْ بدلا طلب الملاءمة بين أجزاء النظم الكريم لا أن يكون ابتداء بيان حكم ، ولا يخفى ما في هذا العذر من الوهن ، والظاهر أن استثناء مَنْ أُكْرِهَ أي على التلفظ بالكفر بأمر يخاف منه على نفسه أو عضو من أعضائه - من كفر - استثناء متصل لأن الكفر التلفظ بما يدل عليه سواء طابق الاعتقاد أولا.
قال الراغب : يقال كفر فلان إذا اعتقد الكفر ويقال إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد ، فيدخل هذا المستثنى في المستثنى منه المذكور ، وقيل : مستثنى من الخبر الجواب المقدر ، وقيل : مستثنى مقدم من قوله تعالى فَعَلَيْهِمْ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 472
غَضَبٌ
وليس بذاك ، والمراد إخراجه من حكم الغضب والعذاب أو الذم وقوله سبحانه : وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ حال من المستثنى ، والعالم - كما في إرشاد العقل السليم - هو الكفر الواقع بالإكراه لا نفس الإكراه لأن مقارنة اطمئنان القلب بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعا وإنما المجدي مقارنته للكفر الواقع به أي إلا من كفر بإكراه أو إلا من أكره فكفر والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته ، وأصل معنى الاطمئنان سكون بعد انزعاج ، والمراد هنا السكون والثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه ، وإنما لم يصرح بذلك العامل إيماء إلى أنه ليس بكفر حقيقة.
واستدل بالآية على أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار ليس ركنا فيه كما قيل. واعترض بأن من جعله ركنا لم يرد أنه ركن حقيقي لا يسقط أصلا بل أنه دال على الحقيقة التي هي التصديق إذ لا يمكن الاطلاع عليها فلا يضره عند سقوطه لنحو الإكراه والعجز فتأمل.
وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي اعتقده وطاب به نفسا وصَدْراً على معنى صدره إذ البشر في عجز عن شرح صدر غيره ، ونصبه - كما قال الإمام - على أنه مفعول به - لشرح - وجوز بعضهم كونه على التمييز ، ومَنْ إما شرطية أو موصولة لكن إذا جعلت شرطية - قال أبو حيان - لا بد من تقدير مبتدأ قبلها لأن لكن لا تليها الجمل الشرطية ، والتقدير هنا ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي منهم ومثله قوله : ولكن متى يسترفد القوم أرفد. أي ولكن أنا متى تسترفد إلخ. وتعقب بأنه تقدير غير لازم ، وقوله تعالى : فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ جواب الشرط على تقدير شرطية مَنْ وهي على التقديرين مبتدأ وهذا خبرها على تقدير الموصولية وكذا على تقدير الشرطية في رأي والخلاف مشهور ، وجعله بعضهم خبرا لمن هذه ولمن الأولى للاتحاد في المعنى إذ المراد - بمن كفر - الصنف الشارح بالكفر صدرا. وتعقبه في البحر بأن هاهنا جملتين شرطيتين وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على حدة فتقدير الحذف أحرى في صناعة الإعراب.
وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله تعالى : فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة : 91] وقوله سبحانه : فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة : 89] جواب - لأما - ولأن هذا وهما أداتا شرط تلي إحداهما الأخرى ، ويبعد بهذا عندي جعله خبرا لهما على تقدير الموصولة والاستدراك من الإكراه على ما قيل ووجه بأن قوله تعالى :
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ يوهم أن المكره مطلقا مستثنى مما تقدم ، وقوله سبحانه : وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لا ينفي ذلك الوهم فاحتيج إلى الاستدراك لدفعه وفيه بحث ظاهر ، وقيل : المراد مجرد التأكيد كما في نحو ذلك : لو جاء زيد لأكرمتك لكنه لم يجئ. وأنت تعلم ما في ذلك فتأمل جدا ، وتنوين غَضَبٌ للتعظيم أي غضب عظيم لا يكتنه كنهه كائن مِنَ اللَّهِ جل جلاله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جرمهم فجوزوا من جنس عملهم ، وفي اختيار الاسم الجليل من تربية المهابة وتقوية تعظيم العذاب ما فيه ، والجمع في الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الافراد في المستكن في الصلة لرعاية جانب اللفظ.
روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأبوا فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه فقيل يا رسول اللّه إن عمارا كفر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول اللّه عليه الصلاة والسلام وهو يبكي فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمسح عينيه وقال : مالك ان عادوا فعد لهم بما قلت ، وفي رواية أنهم أخذوه فلم يتركوه حتى سب النبي صلى اللّه عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام قال : ما وراءك؟ قال : شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالإيمان قال صلى اللّه عليه وسلم إن عادوا فعد

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 473
فنزلت هذه الآية ،
وكأن الأمر بالعود في الرواية الأولى للترخيص بناء على ما قال النسفي إنه أدنى مراتبه وكذا الأمر في الرواية الثانية إن اعتبر مقيدا بما قيد به في الرواية الأولى ، وأما إن اعتبر مقيدا بطمأنينة القلب كما في الهداية أي عد إلى جعلها نصب عينيك وأثبت عليها فالأمر للوجوب ، والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازا للدين ولو تيقن القتل كما فعل ياسر وسمية وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وعبد الرازق في تفسيره عن معمر أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد؟ قال : رسول اللّه قال : فما تقول في؟ فقال : أنت أيضا فخلاه وقال للآخر : ما تقول في محمد؟ قال : رسول اللّه قال : فما تقول في؟ فقال : أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فأعاد ذلك في جوابه فقتله فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبرهما فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة اللّه تعالى. وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له.
وفي أحكام الجصاص أنه يجب على المكره على الكفر إخطار أنه لا يريده فإن لم يخطر بباله ذلك كفر.
وفي شرح المنهاج لابن حجر لا توجد ردة مكره على مكفر قلبه مطمئن بالإيمان للآية ، وكذا إن تجرد قلبه عنهما فيما يتجه ترجيحه لإطلاقهم أن المكره لا يلزمه التورية فافهم ، وقال القاضي : يجب على المكره تعريض النفس للقتل ولا يباح له التلفظ بالكفر لأنه كذب وهو قبيح لذاته فيقبح على كل حال ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل اللّه سبحانه الكذب لها وحينئذ لا يبقى وثوق بوعده تعالى ووعيده لاحتمال أنه سبحانه فعل الكذب لرعاية المصلحة التي لا يعلمها إلا هو ، ورده ظاهر. وهذا الخلاف فيما إذا تعين على المكره إما التزام الكذب وإما تعريض النفس للتلف وإلا فمتى أمكنه نحو التعريض أو إخراج الكلام على نية الاستفهام الإنكاري لم يجب عليه تعريض النفس لذلك إجماعا. واستدل بإباحة التلفظ بالكفر عند الإكراه على إباحة سائر المعاصي عنده أيضا وفيه بحث ، فقد ذكر الإمام أن من المعاصي ما يجب فعله عند الإكراه كشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير فإن حفظ النفس عن الفوات واجب فحيث تعين الأكل سبيلا ولا ضرر فيه لحيوان ولا إهانة لحق اللّه تعالى وجب لقوله تعالى :
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ومنها ما يحرم كقتل إنسان محترم أو قطع عضو من أعضائه وفي وجوب القصاص على المكره قولان للشافعي عليه الرحمة ، وذكر أن من الأفعال ما لا يقبل الإكراه ومثل بالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة فحيث دل الزنا في الوجود علمنا أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه ، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله ذلِكَ إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى :
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أو المذكور من الغضب والعذاب بِأَنَّهُمُ أي بسبب أن الشارحين صدورهم بالكفر اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا أي آثروها وقدموها ولتضمن الاستحباب معنى الإيثار قيل عَلَى الْآخِرَةِ فعدي بعلى ، والمراد على ما في البحر أنهم فعلوا فعل المستحبين ذلك والا فهم غير مصدقين بالآخرة.
وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه ، وقيل : إلى الجنة. ورده الإمام وفسر بعضهم الهداية المنفية بهداية القسر أي لا يهدي هداية قسر وإلجاء ونسب إلى المعتزلة الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي في علمه تعالى المحيط فلا يعصمهم تعالى عن الزيغ وما يؤدي إليه من الغضب والعذاب ، ولولا أحد الأمرين إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدم هداية اللّه تعالى إياهم بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم اللّه سبحانه لما كان ذلك لكن كلاهما لا يكون لأنه خلاف ما في العلم بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وقال البعض : لكن الثاني مخالف للحكمة والأول مما لا يدخل تحت الوقوع وإليه الإشارة بقوله سبحانه : أُولئِكَ أي الموصوفونبما ذكر الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فلم تفتح لإدراك الحق واكتساب ما يوصل إليه ، واستظهر أبو

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 474
حيان كون ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب ، وقال : إن قوله تعالى استحبوا إشارة إلى الكسب وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إشارة إلى الاختراع فجمعت الآية الأمرين وذلك عقيدة أهل السنة فافهم ، وقد تقدم للكلام على الطبع وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر العواقب والنظر في المصالح ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : غافلون عما يراد منهم في الآخرة.
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ إذ ضيعوا رؤوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما لا يفضي إلا إلى العذاب المخلد وللّه تعالى من قال :
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الانفاق في غير واجب
ووقع في آية أخرى الْأَخْسَرُونَ [هود : 22 ، النمل : 5] وذلك لاقتضاء المقام على ما لا يخفى على الناظر فيه أو لأنه وقع في الفواصل هنا اعتماد الألف كالكافرين والغافلين فعبر به لرعاية ذلك وهو أمر سهل ، وتقدم الكلام في لا جَرَمَ فتذكره فما في العهد من قدم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا إلى دار الإسلام وهم عمار وأضرابه أي لهم بالولاية والنصر لا عليهم كما يقتضيه ظاهر أعمالهم السابقة فالجار والمجرور في موضع الخبر لإن ، وجوز أن يكون خبرها محذوفا لدلالة خبر إن الثانية عليه ، والجار والمجرور متعلق بذلك المحذوف ، وقال أبو البقاء : الخبر هو الآتي وإن الثانية واسمها تكرير للتأكيد ولا تطلب خبرا من حيث الإعراب ، والجار والمجرور متعلق بأحد المرفوعين على الأعمال ، وقيل : بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل : أعني للذين أي الغفران وليس بشيء ، وقيل : لا خبر لأن هذه في اللفظ لأن خبر الثاني أغنى عنه وليس بجيد كما لا يخفى وثُمَّ للدلالة على تباعد رتبة حالهم هذه عن رتبة حالهم التي يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب لا عن رتبة حال الكفرة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي عذبوا على الارتداد ، وأصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ثم تجوز به عن البلاء وتعذيب الإنسان.
وقرأ ابن عامر «فتنوا» مبنيا للفاعل ، وهو ضمير المشركين عند غير واحد أي عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا أو وقعوا في الفتنة فإن فتن جاء متعديا ولازما وتستعمل الفتنة فيما يحصل عند العذاب.
وقال أبو حيان : الظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا والمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم عذبوا أنفسهم ثُمَّ جاهَدُوا الكفار وَصَبَرُوا على مشاق الجهاد أو على ما أصابهم من المشاق مطلقا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي المذكورات من الفتنة والهجرة والجهاد والصبر ، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة.
وجوز أن يكون الضمير للفتنة المفهومة من الفعل السابق ويكون ما ذكر بيانا لعدم إخلال ذلك بالحكم ، وقال ابن عطية : يجوز أن يكون للتوبة والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح لَغَفُورٌ لما فعلوا من قبل رَحِيمٌ ينعم عليهم مجازاة لما صنعوا من بعد ، وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماء إلى علة الحكم وما في إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام مع ظهور الأثر في الطائفة المذكورة إظهار لكمال اللطف به صلى اللّه عليه وسلم بأن إفاضة آثار الربوبية عليهم من المغفرة والرحمة بواسطة عليه الصلاة والسلام ولكونهم أتباعا له.
هذا وكون الآية في عمار واضرابه رضي اللّه تعالى عنهم مما ذكره غير واحد ، وصرح ابن إسحاق بأنها نزلت فيه وفي عياش بن أبي ربيعة والوليد بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ، وتعقبه ابن عطية بأن ذكر عمار في ذلك غير قويم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 475
فإنه أرفع طبقة هؤلاء ، وهؤلاء ممن شرح بالكفر صدرا فتح اللّه تعالى لهم باب التوبة في آخر الآية ، وذكر أن الآية مدنية وأنه لا يعلم في ذلك خلافا ، ونقل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة إن اللّه تعالى قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل ، وأخرج ذلك ابن مردويه ، وفي رواية أنهم خرجوا واتبعوا وقاتلوا فنزلت ، وأخرج هذا ابن المنذر وغيره عن قتادة ، فالمراد بالجهاد قتالهم لمتبعيهم ، وأخرج ابن جرير عن الحسن. وعكرمة أنها نزلت في عبد اللّه بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل يوم فتح مكة فاستجار له عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه فأجاره النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد نزلت فيه وفي أشباهه كما صرح به في بعض الروايات ، وفسروا فُتِنُوا على هذا بفتنهم الشيطان وأزلهم حتى ارتدوا باختيارهم ، وما ذكره ابن عطية فيمن ذكر مع عمار غير مسلم ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضي اللّه تعالى عنه كان أخا أبي جهل لأمه وكان يضربه سوطا وراحلته سوطا ليرتد عن الإسلام. وفي التفسير الخازني أن عياشا وكان أخا أبي جهل من الرضاعة ، وقيل : لأمه. وأبا جندل بن سهل بن عمرو. وسلمة بن هشام. والوليد بن المغيرة.
وعبد اللّه بن سلمة الثقفي فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا والآية نزلت فيهم ، واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ نصب على الظرفية - برحيم - وقيل : على أنه مفعول به لا ذكر محذوفا ، ورجح الأول بارتباط النظم عليه ومقابلته لقوله تعالى : فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ولا يضر تقييد الرحمة بذلك اليوم لأن الرحمة في غيره تثبت بالطريق الأولى ، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها تدافع وتسعى في خلاصها بالاعتذار ولا يهمها شأن غيرها من ولد ووالد وقريب. أخرج أحمد في الزهد. وجماعة عن كعب قال : كنت عند عمر ابن الخطاب فقال : خوفنا يا كعب فقلت : يا أمير المؤمنين أو ليس فيكم كتاب اللّه تعالى وحكمة رسوله صلى اللّه عليه وسلم؟ قال :
بلى ولكن خوفنا قلت : يا أمير المؤمنين لو وافيت يوم القيامة بعمل سبعين نبيا لازدرأت عملك مما ترى قال : زدنا قلت : يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر زفرة يوم القيامة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ جاثيا على ركبتيه حتى إن إبراهيم خليله ليخر جاثيا على ركبتيه فيقول : رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي فأطرق عمر مليا قلت : يا أمير المؤمنين أو ليس تجدون هذا في كتاب اللّه؟ قال : كيف؟ قلت : قول اللّه تعالى في هذه الآية : يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ إلخ ، وجعل بعضهم هذا القول هو الجدال ولم يرتضه ابن عطية ، والحق أنه ليس فيه إلا الدلالة على عدم الاهتمام بشأن الغير وهو بعض ما تدل عليه الآية وعن ابن عباس أن هذه المجادلة بين الروح والجسد يقول الجسد :
بك نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ولولاك لكنت خشبة ملقاة وتقول الروح : أنت كسبت وعصيت لا أنا وأنت كنت الحامل وأنا المحمول فيقول اللّه تعالى : أضرب لكما مثلا أعمى حمل ومقعدا إلى بستان فأصابا من ثماره فالعذاب عليكما ، والظاهر عدم صحة هذا عن هذا الحبر وهو أجل من أن يحمل المجادلة في الآية على ما ذكر.
وضمير نَفْسِها عائد على النفس الأولى فكأنه قيل : عن نفس النفس ، وظاهره إضافة الشيء إلى نفسه ، فوجه بأن النفس الأولى هي الذات والجملة أي الشخص بأجزائه كما في قولك ، نفس كريمة ونفس مباركة ، والثانية عينها أي التي تجري مجرى التأكيد ويدل على حقيقة الشيء وهويته بحسب المقام ، والفرق بينهما أن الأجزاء ملاحظة في الأول دون الثاني ، والأصل هو الثاني لكن لعدم المغايرة في الحقيقة بين الذات وصاحبها استعمل بمعنى الصاحب ثم أضيف الذات إليه ، فوزان كُلُّ نَفْسٍ وزان قولك : كل أحد كذا في الكشف ، وفي الفرائد المغايرة شرط بين المضاف إليه لامتناع النسبة بدون المنتسبين فلذلك قالوا : يمتنع إضافة الشيء إلى نفسه إلا أن المغايرة قبل الإضافة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 476
كافية وهي محققة هاهنا لأنه لا يلزم من مطلق النفس نفسك ويلزم من نفسك مطلق النفس فلما أضيف ما لا يلزم أن يكون نفسك إلى نفسك صحت الإضافة وإن اتحدا بعد الإضافة ، ولذا جاز عين الشيء وكله ونفسه بخلاف أسد الليث وحبس المنع ونحوهما ، وقال ابن عطية : النفس الأولى هي المعروفة والثانية هي البدن ، وقال العسكري : الإنسان يسمى نفسا تقول العرب : ما جاءني إلا نفس واحدة أي إنسان واحدة ، والنفس في الحقيقة لا تأتي لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان فتأمل ففي النفس من بعض ما قالوه شيء ، والظاهر أن السؤال والجواب المشهورين في - كل رجل وضيعته - يجريان هاهنا فتفطن.
وفي البحر إنما لم تجى ء - تجادلها عنها - بدل تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها لأن الفعل إذا لم يكن من باب ظن وفقد لا يتعدى ظاهرا كان فاعله أو مضمرا إلى ضميره المتصل فلا يقال. ضربتها هند أو هند ضربتها وإنما يقال : ضربت نفسها هند وهند ضربت نفسها ، وتأنيث تَأْتِي مع إسناده إلى كُلُّ وهو مذكر لرعاية المعنى ، وكذا يقال فيما بعد ، وعلى ذلك جاء قوله :
جادت عليها كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم
وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي تعطى وافيا كاملا ما عَمِلَتْ أي جزاء عملها أو الذي عملته إن خيرا فخيرا وإن شرا بطريق اطلاق اسم السبب على المسبب إشعارا بكمال الاتصال بين الأجزية والأعمال ، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير وللإيذان باختلاف وقتي المجادلة والتوفية وإن كانتا في يوم واحد.
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بزيادة العقاب أو بالعقاب بغير ذنب وقيل : بنقص أجورهم. وتعقب بأنه علم من السابق.
وأجيب بأن القائل به لعله أراد بجزاء ما علمت العقاب ، وعلى تقدير إرادة الأعم فهذا تكرار للتأكيد ووجه ضمير الجمع ظاهر وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي أهل قرية وذلك إما بإطلاق القرية وإرادة أهلها وإما بتقدير مضاف ، وانتصابه على أنه مفعول أول - لضرب - على تضمينه معنى الجعل ، وأخر لئلا يفصل الثاني بين الموصوف وصفته وما يترتب عليها ، وتأخيره عن الكل مخل بتجاوب أطراف النظم الجليل وتجاذبه ، ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس شوقا لوروده لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه كما هنا فيتمكن عند وروده فضل تمكن ، وعن الزجاج أن النصب على البدلية والأصل عنده ضرب اللّه مثلا مثل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والمراد بالقرية إما قرية محققة من قرى الأولين ، وإما مقدرة ووجود المشبه به غير لازم ، ولم يجوز ذلك أبو حيان لمكان وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ وأنت تعلم أنه غير مانع.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنها مكة ، وروي هذا عن ابن زيد وقتادة وعطية ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن سليم بن عمر قال : صحبت حفصة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم وهي خارجة من مكة إلى المدينة فأخبرت أن عثمان قد قتل فرجعت وقالت : ارجعوا بي فوالذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال اللّه تعالى وتلت ما في الآية ، ولعلها أرادت أنها مثلها ويمكن حمل ما روي عن الخبر ومن معه على ذلك ، والمعنى جعلها اللّه تعالى مثلا لأهل مكة أو لكل قوم أنعم اللّه تعالى عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فجوزوا بما جوزوا ، ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا. ولعله المختار كانَتْ آمِنَةً قيل : ذات أمن لا يأتي عليها ما يوجب الخوف كما يأتي على بعض القرى من إغارة أهل الشر عليها وطلب الإيقاع بها مُطْمَئِنَّةً ساكنة قارة لا يحدث فيها ما يوجب الانزعاج كما يحدث في بعض القرى من الفتن بين أهاليها ووقوع بعضهم في بعض فإنها قلما تأمن من إغارة شرير عليها وهيهات هيهات أن ترى شخصين متصادقين فيها :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 477
والمرء يخشى من أبيه وابنه ويخونه فيها أخوه وجاره
وقيل : يفهم من كلام بعضهم أن الاطمئنان أثر الأمن ولازمه من حيث إن الخوف يوجب الانزعاج وينافي الاطمئنان ، وفي البحر أنه زيادة في الأمن يَأْتِيها رِزْقُها أقواتها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جميع نواحيها ، وغير أسلوب هذه الصفة عما تقدم إلى ما ترى لما أن إتيان الرزق متجدد وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمر ، وذكر الإمام أن الآية تضمنت ثلاث نعم جمعها قولهم :
ثلاثة ليس لها نهايه الأمن والصحة والكفاية
فآمنة إشارة إلى الأمن ومُطْمَئِنَّةً إلى الصحة ويَأْتِيها رِزْقُها إلخ إلى الكفاية ، وجعل سبب الاطمئنان ملاءمة هواء البلد لأمزجة أهله وفيه تأمل فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جمع نعمة كشدة وأشد على ترك الاعتداد بالتاء لأن المطرد جمع فعل على أفعل لا فعلة ، وقال الفاضل اليمنى : اسم جمع للنعمة ، وقطرب جمع نعم بضم النون كبؤس وأبؤس ، والنعم عنده بمعنى النعيم ، وحمل على ذلك قولهم : هذا يوم طعم ونعم ، وعند غيره بمعنى النعمة ، والمراد بالنعم ما تضمنته الآية قبل ولعله في قوة نعم كثيرة بل هو كذلك ، وفي إيثار جمع القلة إيذان بأن كفران نعم قليلة أوجبت هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ شبه أثر الجوع والخوف وضررهما الغاشي باللباس بجامع الإحاطة والاشتمال فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة المستعارة للإصابة ، وأوثرت للدلالة على شدة التأثير التي تفوت لو استعملت الإصابة ، وبينوا العلامة بأن المدرك من أثر الضرر شبه بالمدرك من طعم المر البشع من باب استعارة محسوس لمعقول لأن الوجدانيات لزت في قرن العقليات ، وكذا يقال في الأول ، ولشيوع استعمال الاذاقة في ذلك وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة ولذا جعل إيقاعها على اللباس تجريدا ، فإن التجريد إنما يحسن أو يصح بالحقيق أو ما ألحق بها من المجاز الشائع ، فلا فرق في هذا بين أذاقها إياه وأصابها به ، وإنما لم يقل : فكساها إيثارا للترشيح لئلا يفوت ما تفيده الاذاقة من التأثير والإدراك وطعم الجوع لما في اللباس من الدلالة على الشمول. وصاحب المفتاح حمل اللباس على انتفاع اللون ورثاثة الهيئة اللازمين للجوع والخوف ، والاستعارة حينئذ من باب الاستعارة المحسوس للمحسوس ، وما ذكر أولا أولى إذ لا يجل موقع الاذاقة وتكون الإصابة أبلغ موقعا.
ونقل عن الأصحاب أن لفظ اللباس عندهم تخييل ، وبين ذلك بأن يشبه الجوع والخوف في التأثير بذي لباس قاصد للتأثير مبالغ فيه فيخترع له صورة كاللباس ويطلق عليها اسمه واعترض بأن ذلك لا يلائم بلاغة القرآن العظيم لأن الجوع إذا شبه بالمؤثر القاصد الكامل فيما تولاه ناسب أن تخترع له صورة ما يكون آلة للتأثير لا صورة اللباس الذي لا مدخل له فيه ، وتعقب بأن صاحب المفتاح يرى أن التخييلية مستعملة في أمر وهمي توهمه المتكلم شبيها بمعناه الحقيقي فاللباس إذا كان تخييلا يجوز أن يكون المراد به أمرا مشتملا على الجوع اشتمال اللباس كالقحط ومشتملا على الخوف كإحاطة العدو فلا وجه لقوله : صورة اللباس مما لا دخل له في التأثير ، والقول بأنه لا يناسب مع الفاعل إلا ذكر الآلة للتأثير مما لم يصرح به أحد من القوم ولا يتأتى التزامه في كل مكنية ، ألا تراك لو قلت : مسافة القريض ما زال يطويها حتى نزل ببابه على تشبيه المدح بمسافر ثبت له المسافة تخييلا وما بعده ترشيح كانت استعارة حسنة وليس قرينتها آلة لذلك الفاعل بل أمر من لوازمه ، ومثله كثير في كلام البلغاء انتهى.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يفيد عند صحيح التخيل تميز ما نقل عن الأصحاب على ما ذكر أولا ولا مساواته له ، والمشهور أن في لِباسَ استعارتين تصريحية ومكنية ، وبين ذلك بأن شبه ما غشي الإنسان عند الجوع والخوف من أثر الضرر من حيث الاشتمال باللباس فاستعير له اسمه ومن حيث الكراهة بالطعم المر البشع فيكون

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 478
استعارة مصرحة نظر إلى الأول ومكنية إلى الثانية وتكون الاذاقة تخييلا ، وفيه بحث مشهور بين الطلبة ، وجوز أن يكون لباس الْجُوعِ كلجين الماء أي أذاقها اللّه الجوع الذي هو في الإحاطة كاللباس ، والأول أيضا أولى ، ومثل ذلك قول كثير :
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال
فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبة صون الرداء. لما يلقي عليه وأضاف إليه الغمر وهو في وصف المعروف استعارة جرت مجرى الحقيقة وحقيقته من الغمرة وهي معظم الماء وكثرته ، وتقديم «الجوع» الناشئ من فقدان الرزق على الْخَوْفِ المترتب على زوال الأمن المقدم فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسب بالاذاقة أو لمراعاة المقارنة بين ذلك وبين إتيان الرزق.
وفي مصحف أبي «لباس الخوف والجوع» بتقديم الخوف ، وكذا قرأ عبد اللّه إلا أنه لم يذكر اللباس وعد ذلك أبو حيان تفسيرا لا قراءة ، وروى العباس عن أبي عمرو أنه قرأ «والخوف» بالنصب عطفا على لِباسَ وجعله الزمخشري على حذف مضاف وإقامة المضاف مقامه أي ولبسا الخوف.
وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل ، وفي مقابلة ما تقدم بالجوع والخوف فقط ما يشير إلى عد الأمن والاطمئنان كالشيء الواحد وإلا فكان الظاهر فاذاقها اللّه لباس الجوع والخوف والانزعاج بِما كانُوا يَصْنَعُونَ فيما قبل أو على وجه الاستمرار وهو الكفران المذكور ، وما موصولة والعائد محذوف أي يصنعونه ، وجوز أن تكون مصدرية والباب على الوجهين بسببية والضميران قيل : عائدان على - أهل - المقدر المضاف إلى القرية بعد ما عادت الضمائر السابقة إلى لفظها ، وقيل : عائدات إلى القرية مرادا بها أهلها.
وفي إرشاد العقل السليم أسند ما ذكر إلى أهل القرية تحقيقا للأمر بعد إسناد الكفران إليها وإيقاع الإذاقة عليها إرادة للمبالغة ، وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران الصنيعة صنعة راسخة لهم وسنة مسلوكة وَلَقَدْ جاءَهُمْ من تتمة التمثيل ، والضمير فيه عائد على من عاد إليه الضميران قبله ، وجيء بذلك لبيان أن ما صنعوه من كفران اللّه تعالى لم يكن مزاحمة منهم لقضية العقل فقط بل كان ذلك معارضة لحجة اللّه تعالى على الخلق أيضا أي ولقد جاء أهل تلك القرية رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم بسوء عاقبة ما هم عليه فَكَذَّبُوهُ في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر ، فالفاء فصيحة وعدم ذكر ما أفصحت عنه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ المستأصل لشأفتهم غب ما ذاقوا منه ما سمعت وَهُمْ ظالِمُونَ أي حال التباسهم بالظلم وهو الكفران والتكذيب غير مقلعين عنه بما ذاقوا من المقدمات الزاجرة عنه ، وفيه دلالة على تماديهم في الكفر والعناد وتجاوزهم في ذلك كل حد معتاد.
وترتيب أخذ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة اللّه تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء : 15] وبه يتم التمثيل فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة أولهم ولمن سار سيرتهم كافة أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب فقد كانوا في حرم آمن يتخطف الناس من حولهم ولا يمر ببالهم طيف من الخوف ولا يزعج قطا قلويهم مزعج وكانت تجبى إليه ثمرات كل شيء ولقد جاءهم رسول منهم وأي رسول تحار في إدراك سمو مرتبة العقول صلى اللّه عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبول فانذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم اللّه تعالى وكذبوه عليه الصلاة والسلام فأذاقهم اللّه تعالى لباس الجوع والخوف حيث أصابهم
بدعائه صلى اللّه عليه وسلم «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»
ما أصابهم من جدب شديد وأزمة ما عليها مزيد

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 479
فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحروقة والعلهز وهو طعام يتخذ في سني المجاعة من الدم والوبر وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب هذا ما اختاره شيخ الإسلام وقال : إنه الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام ، وأما ما أجمع عليه أكثر أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى : «ولقد جاءهم» لأهل مكة والكلام انتقال إلى ذكر حالهم صريحا بعد ذكر مثلهم وأن المراد بالرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل عن التحقيق كيف لا وقوله تعالى : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مفرع على نتيجة التمثيل وصد لهم عما يؤدي إلى مثل عاقبته ، والمعنى وإذا قد استبان لكم حال من كفر بأنعم اللّه تعالى وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولا وآخرا فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول صلى اللّه عليه وسلم كيلا يحل بكم ما حل بهم واعرفوا حق نعم اللّه تعالى وأطيعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في أمره ونهيه فكلوا من رزق اللّه تعالى حال كونه حَلالًا طَيِّباً وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ واعرفوا حقها ولا تقاتلوها بالكفران.
والفاء في المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما دخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل : فاشكروا نعمة اللّه غب أكلها حلالا طيبا وقد أدمج فيه النهي عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا إنما يتصور حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعد وقد تمهدت مبادية وأما بعد ما وقع فمن ذا الذي يحذر ومن ذا الذي يؤمر بالأكل والشكر وحمل قوله تعالى : فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ على الأخبار بذلك قبل الوقوع يأباه التصدي لاستصلاحهم بالأمر والنهي وإن لم يأباه التعبير بالماضي لأن استعماله في المستقبل المتحقق الوقوع مجازا كثير.
وتوجيه خطاب الأمر بالأكل إلى المؤمنين مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجه إلى الكفار كما فعل الواحدي قال : فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم اللّه تعالى من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيل اه. وتعقب بأنه بعد ما فسر العذاب بالعذاب المستأصل للشأفة كيف يراد به ما وقع في بدر وما بقي منهم أضعاف ما ذهب وإن كان مثل ذلك كافيا في الاستئصال فليكن المحذر والمأمور الباقي منهم ، وما ذكره عن الواحدي من توجيه خطاب الأمر بالأكل للمؤمنين رواه الإمام عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ثم نقل عن الكلبي ما يستدعي أن الخطاب لأهل مكة حيث قال : إن رؤساء مكة كلموا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين جهدوا وقالوا : عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأذن في الحمل إليهم فحمل الطعام إليهم فقال اللّه تعالى : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إلخ ثم قال : والقول ما قال ابن عباس يدل عليه قوله تعالى فيما بعد : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ إلخ يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم اه.
وفي التفسير الخازني أن كون الخطاب للمؤمنين من أهل المدينة هو الصحيح فإن الصحيح أن الآية مدنية كما قال مقاتل وبعض المفسرين ، والمراد بالقرية مكة وقد ضربها اللّه تعالى لأهل المدينة يخوفهم ويحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف ويشهد لصحة ذلك أن الخوف المذكور في الآية كان من البعوث والسرايا التي كانت يبعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قول جميع المفسرين لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بالقتال وهو بمكة وإنما أمر به وهو بالمدينة فكان صلى اللّه عليه وسلم يبعث البعوث إلى مكة يخوفهم بذلك وهو بالمدينة ، والمراد بالعذاب ما أصابهم من الجوع والخوف وهو أولى من أن يراد به القتل يوم بدر ، والظاهر أن قوله تعالى : وَلَقَدْ جاءَهُمْ إلخ عنده كما هو عند الجمهور انتقال من التمثيل بهم إلى التصريح بحالهم الداخلة فيه وليس من تتمته فإنه على ما قيل خلاف المتبادر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 480
إلى الفهم. نعم كون خطاب النهي فيما بعد للمؤمنين بعيد غاية البعد ، وجعله للكفار مع جعل خطاب الأمر السابق للمؤمنين بعد أيضا لكن دون ذلك. وادعى أبو حيان أن الظاهر أن خطاب النهي كخطاب الأمر للمكلفين كلهم ، ونقل كون خطاب للنهي لهم عن العسكري ، وكونه للكفار عن الزمخشري وابن عطية والجمهور ، ولعل الأولى ما ذكره شيخ الإسلام إلا أن تقييد العذاب بالمستأصل ودعوى أن حال أهل مكة كحال أهل تلك القرية حذو القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فذة لا يخلو عن شيء من حيث إن أهل مكة لم يستأصلوا فتأمل ذاك واللّه تعالى يتولى هداك إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تطيعون أو إن صح زعمكم إنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته سبحانه ومن قال : إن الخطاب للمؤمنين أبقى هذا على ظاهره أي إن كنتم تخصونه تعالى بالعبادة ، والكلام خارج مخرج التهييج.
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تعليل لحل ما أمرهم بأكله مما رزقهم ، والحصر إضافي على ما قال غير واحد أي إنما حرم أكل هذه الأشياء دون ما تزعمون من البحائر والسوائب ونحوها فلا ينافي تحريم غير المذكورات كالسباع والحمر الأهلية ، وقيل : الحصر على ظاهره والسباع ونحوها لم تحرم قبل وإنما حرمت بعد وليس الحصر إلا بالنظر إلى الماضي ، وقال الإمام : إنه تعالى حصر المحرمات في الأربع في هذه السورة وفي سورة [الأنعام : 145] بقوله سبحانه : قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إلخ وهما مكيتان وحصرها فيها أيضا في البقرة وكذا في [المائدة : 1] فإنه تعالى قال فيها أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم ، وأجمعوا على أن المراد بما يتلى هو قوله تعالى في تلك السورة :
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة : 3] وما ذكره تعالى من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخل في الميتة وما ذبح على النصب داخل فيما أهل به لغير اللّه ، فثبت أن هذه السور الأربع دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع ، وسورتا النحل والأنعام مكيتان وسورتا البقرة والمائدة مدنيتان ، والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة فمن أنكر حصر التحريم في الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه لأن هذه السور دلت على أن حصر المحرمات فيها كان مشروعا ثابتا في أول أمر مكة وآخرها وأول المدينة وآخرها ، وفي إعادة البيان قطع للأعذار وإزالة للشبه اه نتفطن ولا تغفل فَمَنِ اضْطُرَّ أي دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك غَيْرَ باغٍ على مضطر آخر وَلا عادٍ متعد قدر الضرورة وسد الرمق فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لا يؤاخذه سبحانه بذلك فأقيم سببه مقامه ، ولتعظيم أمر المغفرة والرحمة جيء بالاسم الجليل ، وقدسها شيخ الإسلام فظن أن الآية فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام : 145] فبين سر التعرض لوصف الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم وسبحان من لا يسهو.
واستدل بالآية على أن الكافر مكلف بالفروع ، ثم إنه تعالى أكد ما يفهم من الحصر بالنهي عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال عز قائلا : وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ إلخ ، ولا ينافي ذلك العطف كما لا يخفى ، واللام صلة القول مثلها في قوله تعالى : وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ [البقرة : 154] وقولك : لا تقل للنبيذ إنه حلال ، ومعناها الاختصاص ، و«ما» موصولة والعائد محذوف أي لا تقولوا في شأن الذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام : 139] من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر فضلا عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه بل مجرد قول باللسان.
الْكَذِبَ منتصب على أنه مفعول به - لتقولوا - وقوله سبحانه : هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل منه بدل كل ، وقيل : منصوب بإضمار أعني ، وقيل : الْكَذِبَ منتصب على المصدرية وهذا مقول القول.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 481
وجوز أن يكون بدل اشتمال ، وجوز أن يكون الْكَذِبَ مقول القول المذكور ويضمر قول آخر بعد الوصف واللام على حالها أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام ، والجملة مبينة ومفسرة لقوله تعالى : تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ كما في قوله سبحانه : فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة : 54] وجوز أن لا يضمر القول على المذهب الكوفي وأن يقدر قائله على أن المقدر حال من الألسنة ، ويجوز أن يكون اللام للتعليل وما مصدرية والْكَذِبَ مفعول الوصف وهذا حَلالٌ إلخ مقول القول أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب ، وإلى هذا ذهب الكسائي. والزجاج ، وحاصله لا تحلوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له وتحقيقها لماهيته كأن ألسنتهم لكونها منشأ للكذب ومنبعا للزور شخص عالم بكنهه ومحيط بحقيقته يصفه للناس ويعرفه أوضح وصف وأبين تعريف ، ومثل هذا وارد في كلام العرب والعجم تقول : له وجه يصف الجمال وريق يصف السلاف وعين تصف السحر ، وتقدم بيت المعري ، وقد بولغ في الآية من حيث جعل قولهم كذبا ثم جعل اللسان الناطقة بتلك المقالة ينبوعه مصورة إياه بصورته التي هو عليها وهو من باب الاستعارة بالكتابة وجعله بعضهم من باب الإسناد المجازي نحو نهاره صائم كأن ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب صارت كأنها حقيقته ومنبعه الذي يعرف منه حتى كأنه يصفه ويعرفه كقوله :
أضحت يمينك من جود مصورة لا بل يمينك منها صور الجود
وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحة والأعرج وابن أبي إسحاق وابن عبيد ونعيم بن ميسرة «الكذب» بالجر ، وخرج على أن يكون بدلا من ما مع مدخولها ، وجعله غير واحد صفة - لما - المصدرية مع صلتها.
وتعقبة أبو حيان بأن المصدر المسبوك من ما أو ان أو كي مع الفعل معرفة كالمضمر لا يجوز نعته فلا يقال :
أعجبني أن تقوم السريع كما يقال : أعجبني قيامك السريع ، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع بذلك كلام العرب. وقرأ معاذ. وابن أبي عبلة. وبعض أهل الشام «الكذب» بضم الثلاثة صفة للألسنة وهو جمع كذوب كصبور وصبر ، قال صاحب اللوامح : أو جمع كذاب بكسر الكاف وتخفيف الذال مصدر كالقتال وصف به مبالغة وجمع فعل ككتاب وكتب أو جمع كاذب كشارف وشرف. وقرأ مسلمة بن محارب كما قال ابن عطية أو يعقوب كما قال صاحب اللوامح ونسب قراءة معاذ ومن معه إلى مسلمة «الكذب» بضمتين والنصب ، وخرج على أوجه. الأول إن ذلك منصوب على الشتم والذم وهو نعت للألسنة مقطوع.
الثاني مفعول به - لتصف - أو تَقُولُوا والمراد الكلم الكواذب : الثالث أنه مفعول مطلق - لتصف - من معناه على أنه جمع كذاب المصدر ، وأعرب هذا حَلالٌ إلخ على ما مر ولا إشكال في إبداله لأنه كلم باعتبار مواده وكلاما ظاهرا لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ اللام لام العاقبة والصيرورة وللتعليل لأن ما صدر منهم ليس لأجل الافتراء على اللّه تعالى بل لأغراض أخر ويترتب على ذلك ما ذكر ، وإلى هذا ذهب الزمخشري وجماعة ، وقال بعضهم : يجوز أن تكون للتعليل ولا يبعد قصدهم لذلك كما قالوا : وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف : 28] وفي البحر أنه الظاهر ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد للتعليل السابق على احتمال كون اللام للتعليل وما مصدرية لأن في هذا التنبيه على من افتروا الكذب عليه وليس فيما مر بل فيه إثبات الكذب مطلقا ففي إشارة إلى أنهم لتمرنهم على الكذب اجترءوا على الكذب على اللّه تعالى فنسبوا ما حللوا وحرموا إليه سبحانه. وقال الواحدي : إن لِتَفْتَرُوا بدل من لِما تَصِفُ إلخ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على اللّه تعالى ، وهو على ما في البحر أيضا على تقدير كون ما مصدرية لأنها إذا جعلت موصولة لا تكون اللام للتعليل ليبدل من ذلك ما يفهم التعليل ، وقيل : لا مانع من التعليل على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 482
تقدير الموصولية فعند قصد التعليل يجوز الإبدال ، وحاصل معنى الآية على ما نص عليه العسكري لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه وسلم حلالا ولا حراما فتكونوا كاذبين على اللّه تعالى لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمه سبحانه ، ومن هنا قال أبو نضرة : لم أزل أخاف الفتيا منذ سمعت آية النحل إلى يومي هذا.
وقال ابن العربي : كره مالك وقوم أن يقول المفتي هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية وإنما يقال ذلك فيما نص اللّه تعالى عليه ، ويقال في مسائل الاجتهاد : إني أكره كذا وكذا ونحو ذلك فهو أبعد من أن يكون فيه ما يتوهم منه الافتراء على اللّه سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في أمر من الأمور لا يُفْلِحُونَ لا يفوزون بمطلوب مَتاعٌ قَلِيلٌ أي منفعتهم التي قصدوها بذلك الافتراء منفعة قليلة منقطعة عن قريب - فمتاع - خبر مبتدأ محذوف وقَلِيلٌ صفته والجملة استئناف بياني كأنه لما نفي عنهم الفوز بمطلوب قيل : كيف ذلك وهم قد تحصل لهم منفعة بالافتراء؟ فقيل : ذاك متاع قليل لا عبرة به ويرجع الأمر بالآخرة إلى أن المراد نفي الفوز بمطلوب يعتد به ، وإلى كون مَتاعٌ خبر مبتدأ محذوف ذهب أبو البقاء إلا أنه قال : أي بقاؤهم متاع قليل ونحو ذلك. وقال الحوفي : مَتاعٌ قَلِيلٌ مبتدأ وخبر ، وفيه أن النكرة لا يبتدأ بها بدون مسوغ وتأويله بمتاعهم ونحوه بعيد وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يكتنه كنهه وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا خاصة دون غيرهم من الأولين حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول هذه الآية وذلك في قوله تعالى في سورة [الأنعام : 146] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية ، والظاهر أن مِنْ قَبْلُ متعلق - بقصصنا - وجوز تعليقه - بحرمنا - والمضاف إليه المقدر ما مر أيضا.
ويحتمل أن يقدر مِنْ قَبْلُ تحريم ما حرم على أمتك ، وهو أولى على ما قيل ، وجوز أن يكون الكلام من باب التنازع ، وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالف من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك ، فإنهم كانوا يقولون : لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح. وإبراهيم. ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا وَما ظَلَمْناهُمْ بذلك التحريم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما عوقبوا عليه بذلك حسبما نعى عليهم قوله تعالى : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء : 160] الآية ، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وإنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ هو ما يسيء صاحبه من كفر أو معصية ويدخل فيه الافتراء على اللّه تعالى ، وعن ابن عباس أنه الشرك ، والتعميم أولى بِجَهالَةٍ أي بسببها ، على معنى أن الجهالة السبب الحامل لهم على العمل كالغيرة الجاهلية الحاملة على القتل وغير ذلك ، وفسرت الجهالة بالأمر الذي لا يليق ، وقال ابن عطية : هي هنا تعدي الطور وركوب الرأس لا ضد العلم ، ومنه ما جاء
في الخبر «اللهم أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل علي»
وقول الشاعر :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
نعم كثيرا ما تصحب هذه الجهالة التي هي بمعنى ضد العلم ، وفسرها بعضهم بذلك وجعل الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بجهالة غير عارفين باللّه تعالى وبعقابه أو غير متدبرين في العواقب لغلبة الشهوة عليهم ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما عملوا ما عملوا ، والتصريح به مع دلالة ثُمَّ عليه للتوكيد والمبالغة وَأَصْلَحُوا أي أصلحوا أعمالهم أو دخلوا في الصلاح ، وفسر بعضهم الإصلاح بالاستقامة على التوبة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي التوبة كما قال غير واحد ، ولعل الإصلاح مندرج في التوبة وتكميل لها.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 483
وقال أبو حيان : الضمير عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح ، وقيل : يعود على الجهالة ، وقيل : على السوء على معنى المعصية وليس بذاك لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ يثبت على طاعته سبحانه فعلا وتركا ، وتكرير إِنَّ رَبَّكَ لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه ، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم مع ظهور الأثر في التائبين للإيماء إلى أن إفاضة آثار الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه صلى اللّه عليه وسلم وكونهم من أتباعه كما مر عن قريب ، والتقييد بالجهالة قيل : لبيان الواقع لأن كل من يعمل السوء لا يعمله إلا بجهالة.
وقال العسكري : ليس المعنى أنه تعالى يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة بل المراد أن جميع من تاب فهذه سبيله ، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة لأن أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة الأمر أو عند غلبة الشهوة أو في جهالة الشباب فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك ، وعلى القوانين لا مفهوم للقيد إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : أي كان عنده عليه السلام من الخير ما كان عند أمة وهي الجماعة الكثيرة ، فإطلاقها عليه عليه السلام لاستجماعه كمالات لا تكاد توجد إلا متفرقة في أمة جمة :
وليس على اللّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
وهو صلى اللّه عليه وسلم رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي نصب أدلة التوحيد ورفع أعلامها وخفض رايات الشرك وجزم ببواتر الحجج هامها ، وقال مجاهد : سمي عليه السلام أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما ، وفي صحيح البخاري أنه عليه السلام قال لسارة : ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك ،
وذكر في القاموس أن من معاني الأمة من هو على الحق مخالف لسائر الأديان ، والظاهر أنه مجاز بجعله كأنه جميع ذلك العصر لأن الكفرة بمنزلة العدم ، وقيل : الأمة هنا فعلة بمعنى مفعول كالرحلة بمعنى المرحول إليه ، والنخبة بمعنى المنتخب من أمه إذا قصده أو اقتدى به أي كان مأموما أو مؤتما به فإن الناس كانوا يقصدونه للاستفادة ويقتدون بسيرته.
وقال ابن الأنباري : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة وعلامة ونسابة يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به. وإيراد ذكره عليه السلام عقيب تزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحل اللّه تعالى للإيذان بأن حقية دين الإسلام وبطلان الشرك وفروعه أمر ثابت لا ريب فيه. وفي ذلك أيضا رد لقريش حيث يزعمون أنهم على دينه ، وقيل : إنه تعالى لما بين حال المشركين وأجرى ذكر اليهود بين طريقة إبراهيم عليه السلام ليظهر الفرق بين حاله وحال المشركين وحال اليهود قانِتاً لِلَّهِ مطيعا له سبحانه قائما بأمره تعالى حَنِيفاً مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق غير زائل عنه.
وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا ، صرح بذلك مع ظهوره قيل : ردا على كفار قريش في قولهم : نحن على ملة أبينا إبراهيم ، وقيل : لذلك وللرد على اليهود المشركين بقولهم : عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة : 30] في افترائهم وزعمهم أنه عليه السلام كان على ما هم عليه كقوله تعالى : ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران : 67] إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقا ولا حقا.
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ صفة ثالثة لأمة - والجار والمجرور متعلق - بشاكرا - كما هو الظاهر ، وأوثر صيغة جمع القلة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 484
قيل : للإيذان بأنه عليه السلام لا يخل بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بأنه عليه السلام على خلاف ما هم عليه من الكفران بأنعم اللّه تعالى حسبما أشير إليه بضرب المثل ، وقيل : إن جمع القلة هنا مستعار لجمع الكثرة ولا حاجة إليه.
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة عليهم السلام في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا أن بهم جذاما فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا للّه تعالى على أنه عافاني مما ابتلاكم به ،
وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور متعلقا بقوله تعالى : اجْتَباهُ وهو خلاف الظاهر. وجعل بعضهم متعلق هذا محذوفا أي اختاره واصطفاه للنبوة ، وأصل الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء ، ويطلق على تخصيص اللّه تعالى العبد بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي منه ويكون للأنبياء عليهم السلام ومن يقاربهم وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إليه تعالى وهو ملة الإسلام وليس نتيجة هذه الهداية - كما في إرشاد العقل السليم - مجرد اهتدائه عليه السلام بل مع إرشاد الخلق أيضا إلى ذلك والدعوة إليه بمعونة قرينة الاجتباء.
وجوز بعضهم كون إِلى صِراطٍ متعلقا - باجتباه وهداه - على التنازع ، والجملة إما حال بتقدير قد على المشهور وإما خبر ثاني لإن ، وجوز أبو البقاء الاستئناف أيضا وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بأن حببه إلى الناس حتى إن جميع أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه عليه السلام حسبما سأل بقوله : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء : 84] وروي هذا عن قتادة وغيره ، وعن الحسن الحسنة النبوة ، وقيل : الأولاد الأبرار على الكبر وقيل : المال يصرفه في وجوه الخير والبر ، وقيل : العمر الطويل في السعة والطاعة - فحسنة - على الأول بمعنى سيرة حسنة وعلى ما بعده عطية أو نعمة حسنة كذا قيل : وجوز في الجميع أن يراد عطية حسنة ، والالتفات إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانه عليه السلام وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ داخل في عدادهم كائن معهم في الدرجات العلى من الجنة حسبما سأل بقوله : وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف : 101 ، الشعراء : 83] وأراد بهم الأنبياء عليهم السلام ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وهي على ما روي عن قتادة الإسلام المعبر عنه آنفا بالصراط المستقيم ، وفي رواية أخرى عنه أنها جميع شريعته إلا ما أمر صلى اللّه عليه وسلم بتركه ، وفي التفسير الخازني حكاية هذا عن أهل الأصول ، وعن ابن عمرو بن العاص أنها مناسك الحج.
وقال الإمام : قال قوم إن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان على ملة إبراهيم وشريعته وليس له شرع متفرد به بل بعث عليه الصلاة والسلام لإحياء شريعة إبراهيم لهذه الآية ، فحملوا الملة على الشريعة أصولا وفروعا وهو قول ضعيف ، والمراد من مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التوحيد ونفي الشرك المفهوم من قوله تعالى : وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فإن قيل : إنه صلى اللّه عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد للأدلة القطعية فلا يعد ذلك متابعة فيجب حمل الملة على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها ، قلنا : يجوز أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن اه. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إليه لأن المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أن يوحي ليتضافر المعقول والمنقول على اعتقاده ، ألا ترى قوله تعالى :
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الأنبياء : 108] كيف تضمن الوحي بما اقتضاه الدليل العقلي ، فلا يمتنع أن يؤمر النبي صلى اللّه عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام بنفي الشرك والتوحيد وإن كان ذلك مما ثبت عنده عليه الصلاة والسلام بالدليل العقلي ليتضافر الدليلان العقلي والنقلي على هذا المطلب الجليل ، وآخر بأنه ظاهر في حمل الملة على كيفية

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 485
الدعوة ولا شك أن ذلك ليس داخلا في مفهومها فإنها ما شرعه اللّه تعالى لعباده على لسان الأنبياء عليهم السلام من أمللت الكتاب إذا أمليته وهي الدين بعينه لكن باعتبار الطاعة له ، وتحقيقه أن الوضع الإلهي مهما نسب إلى من يؤديه عن اللّه تعالى يسمى ملة ومهما نسب إلى من يقيمه يسمى دينا ، قال الراغب : الفرق بينها وبين الدين أنها لا تضاف إلا للنبي صلى اللّه عليه وسلم الذي يسند إليه ولا تكاد توجد مضافة إلى اللّه تعالى ولا إلى آحاد أمة النبي عليه السلام ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها ولا كذلك الدين ، وأكثر المفسرين على أن المراد بها هنا أصول الشرائع ، ويحمل عليه ما روي عن قتادة أولا ولا بأس بما روي عنه ثانيا.
واستدلال بعض الشافعية على وجوب الختان وما كان من شرعه عليه السلام ولم يرد به ناسخ مبني على ذلك كما لا يخفى. وما روي عن ابن عمرو بن العاص ذكره في البحر والذي أخرجه ابن المنذر والبيهقي في الشعب.
وجماعة عنه أنه قال : صلى جبريل عليه السلام بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به ثم صلى المغرب والعشاء بجمع ثم صلى به الفجر كأسرع ما يصلي أحد من المسلمين ثم وقف به حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين دفع به ثم رمى الجمرة ثم ذبح وحلق ثم أفاض به إلى البيت فطاف به فقال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ولعل ما ذكر أولا مأخوذ منه.
وأنت تعلم أنه ليس نصا فيه ولا أظن أن أحدا يوافق على تخصيص ملته عليه السلام بمناسك الحج.
وأَنِ تفسيرية أو مصدرية ومر الكلام في وصلها بالأمر ، وثُمَّ قيل : للتراخي الزماني لظهور أن أيامه صلى اللّه عليه وسلم بعد أيامه عليه السلام بكثير ، واختار المحققون أنها للتراخي الرتبي لأنه أبلغ وأنسب بالمقام.
قال الزمخشري : إن في ثُمَّ هذه إيذانا بأنه أشرف ما أوتي خليل اللّه عليه السلام من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ملته وتعظيما لمنزلة نبينا عليه الصلاة والسلام وإجلالا لمحله ، أما الأول فمن دلالة ثم على تباين هذا المؤتى وسائر ما أوتي عليه السلام من الرتب والمآثر ، وأما الثاني فمن حيث إن الخليل مع جلالة محله عند اللّه تعالى أجل رتبته أن أوحى إلى الحبيب اتباع ملته ، وفي لفظ أَوْحَيْنا ثم الأمر باتباع الملة لا اتباع إبراهيم عليه السلام ما يدل كما في الكشف على أنه صلى اللّه عليه وسلم ليس بتابع له بل هو مستقل بالأخذ عمن أخذ إبراهيم عليه السلام عنه حَنِيفاً حال من إبراهيم المضاف إليه لما أن المضاف لشدة اتصاله به جرى منه مجرى البعض فعد بذلك من قبيل رأيت وجه هند قائمة.
ونقل ابن عطية عن مكي عدم جواز كونه حالا منه معللا ذلك بأنه مضاف إليه ، وتعقبه بقوله : ليس كما قال لأن الحال قد يعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال نحو مررت بزيد قائما ، وفي كلا الكلامين بحث لا يخفى.
ومنع أبو حيان مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذه الصورة أيضا وزعم أن الجواز فيها مما تفرد به ابن مالك والتزم كون حَنِيفاً حالا من مِلَّةَ لأنها والدين بمعنى أو من الضمير في اتَّبِعْ وليس بشيء ولم يتفرد بذلك ابن مالك بل سبقه إليه الأخفش وتبعه جماعة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل كان قدوة المحققين وهذا تكرير لما سبق لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عليه السلام عما هم عليه من عقد وعمل ، وقوله تعالى : إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ بمعنى إنما فرض تعظيمه والتخلي للعبادة وترك الصيد فيه تحقيق لذلك النفي الكلي وتوضيح له بإبطال ما عسى يتوهم كونه قادحا في الكلية فإن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شعائر الإسلام وأن إبراهيم عليه السلام كان محافظا عليه أي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 486
ليس السبت من شرائع إبراهيم وشعائر ملته عليه السلام التي أمرت باتباعها حتى يكون بينه وبين بعض المشركين علاقة في الجملة ، وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة ، وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة الإسناد إلى الغير. وقرأ أبو حيوة «جعل» بالبناء للفاعل ، وعن ابن مسعود والأعمش أنهما قرءا «إنما أنزلنا السبت» وهو على ما قال أبو حيان تفسير معنى لا قراءة لمخالفة ذلك سواد المصحف ، والمستفيض عنهما أنهم قرءا كالجماعة إنما جعل السبت عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ على نبيهم حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت وهم اليهود.
أخرج الشافعي في الأم والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا اللّه تعالى له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد»
وجاء عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : أمر موسى عليه السلام اليهود بالجمعة وقال : تفرغوا للّه تعالى في كل سبعة أيام يوما واحدا وهو يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئا من أعمالكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ اللّه تعالى فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل عليهم وشدد فيه الأمر ثم جاء عيسى عليه السلام بالجمعة فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد وكأنهم إنما اختاروه لأنه مبتدأ الخلق ،
واختار هذا الإمام وحمل «في» على التعليل أي اختلفوا على نبيهم لأجل ذلك اليوم ، وقال الخفاجي : معنى اخْتَلَفُوا فِيهِ خالفوا جميعهم نبيهم فهو اختلاف بينهم وبين نبيهم ، وظاهر الأخبار يقتضي أنه عين لهم أولا يوم الجمعة ، وقال القاضي عياض : الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم اللّه تعالى له وفرض على هذه الأمة مبينا ففازوا بفضيلته ولو كان منصوصا عليه لم يصح أن يقال اخْتَلَفُوا بل يقال خالفوا ، وقال الإمام النووي :
يمكن أن يكونوا أمروا صريحا ونص عليه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه وغلطوا في إبداله ، وقال الواحدي : قد أشكل أمر هذا الاختلاف على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم : معنى اختلافهم في السبت أن بعضهم قال هو أعظم الأيام حرمة لأن اللّه تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه ، وقال الآخرون : أعظمها حرمة الأحد لأن اللّه سبحانه ابتدأ الخلق فيه وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فرقتين في السبت وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان وقيل : المراد اختلفوا فيما بينهم في شأنه ففضلته فرقة منهم على الجمعة ولم ترض بها وفضلت أخرى الجمعة عليه ومالت إليها بناء على ما
روي من أن موسى عليه السلام جاءهم بالجمعة فأبى أكثرهم إلا السبت ورضي شرذمة منهم بها فأذن اللّه تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمر اللّه تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم اللّه تعالى قردة دون أولئك المطيعين ،
والتفسير الأول تفسير رئيس المفسرين وترجمان القرآن وحبر الأمة المروي من طرق صحيحة عن أفضل النبيين وأعلم الخلق بمراد رب العالمين صلى اللّه عليه وسلم وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي المختلفين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يقضي بينهم بالمجازاة على اختلافهم على نبيهم ومخالفتهم له في ذلك أو يفصل ما بين الفريقين منهم من الخصومة والاختلاف فيجازي كل فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب ، وفيه على هذا إيماء إلى أن ما وقع في الدنيا من مسخ أحد الفريقين وإنجاء الآخر بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيء لا يعتد به ، وعبر عن الفرض بالجعل موصولا بكلمة عَلَى للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاء المؤدي إلى العذاب ، وعن اليهود بالاسم الموصول بالاختلاف إشارة إلى علة ذلك ، وقيل : المعنى إنما جعل وبال ترك تعظيم السبت وهو المسخ كائنا أو واقعا على الذين اختلفوا فيه أي أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 487
أخرى وكان حتما عليهم أن يتفقوا على تحريمه حسبما أمر اللّه تعالى به وروي ذلك عن قتادة ، وفسر الحكم بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى.
ووجه إيراد ذلك هاهنا بأنه أريد منه إنذار المشركين وتهديدهم بما في مخالفة الأنبياء عليهم السلام من الوبال كما ذكرت القرية التي كفرت بأنعم اللّه تعالى تمثيلا لذلك. واعترض بأن توسيط ذلك لما ذكر بين حكاية أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وبين أمره صلى اللّه عليه وسلم بالدعوة إليها كالفصل بين الشجر ولحائه. وأجيب بأن فيه حثا على إجابة الدعوة التي تضمنها الكلام السابق وأمر بها في الكلام اللاحق فللمتوسط نسبة إلى الطرفين تخرجه من أن يكون الفصل به كالفصل بين الشجر ولحائه وهو كما ترى.
واعترض أيضا بأن كلمة بَيْنَهُمْ تحكم بأن المراد بالحكم هو فصل ما بين الفريقين من الاختلاف دون المجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى. ويرد هذا أيضا على تفسيره بالقضاء بالمجازاة على اختلافهم جميعهم على نبيهم ومخالفتهم له فيما جاءهم به ، وقد فسر بذلك على التفسير المأثور عن ترجمان القرآن ، ومنهم من فسره عليه بما فسر به على التفسير المروي عن قتادة فيرد عليه أيضا ما ذكر مع ما في ضمنه من القول باختلاف الاختلافين معنى ، والظاهر اتحادهما. وأجاب بعضهم عن الاعتراض بمنع حكم كلمة «بينهم» بما تقدم فتأمل ، وتفسير السبت باليوم المخصوص هو الظاهر الذي ذهب إليه الكثير ، وجوز كونه مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها ، قيل : ويجوز على هذا أن يكون في الآية استخدام ادْعُ أي من بعثت إليهم من الأمة قاطبة فحذف المفعول دلالة على التعميم ، وجوز أن يكون المراد افعل الدعوة تنزيلا له منزلة اللازم للقصد إلى إيجاد نفس الفعل إشعارا بأن عموم الدعوة غني عن البيان وإنما المقصود الأمر بإيجادها على وجه مخصوص. وتعقب بأن ذلك لا يناسب المقام كما لا يناسب قوله تعالى : وَجادِلْهُمْ.
إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إلى الإسلام الذي عبر عنه تارة بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيم عليه السلام. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير النبي صلى اللّه عليه وسلم ما لا يخفى.
بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة وهي الحجة القطعية المزيحة للشبه وقريب من هذا ما في البحر أنها الكلام الصواب الواقع من النفس أجمل موقع وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وهي الخطابات المقنعة والعبر النافعة التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وَجادِلْهُمْ ناظر معانديهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالطريقة التي هي أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر واستعمال المقدمات المشهورة تسكينا لشغبهم وإطفاء للهبهم كما فعله الخليل عليه السلام. واستدل - كما قيل - أرباب المعقول بالآية على أن المعتبر في الدعوة من بين الصناعات الخمس إنما هو البرهان والخطابة والجدل حيث اقتصر في الآية على ما يشير إليها ، وإنما تفاوتت طرق دعوته عليه الصلاة والسلام لتفاوت مراتب الناس ، فمنهم خواص وهم أصحاب نفوس مشرقة قوية الاستعداد لإدراك المعاني قوية الانجذاب إلى المبادئ العالية مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه وهؤلاء يدعون بالحكمة بالمعنى السابق.
ومنهم عوام أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد شديدة الألف بالمحسوسات قوية التعلق بالرسوم والعادات قاصرة عن درجة البرهان لكن لا عناد عندهم وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة بالمعنى المتقدم.
ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل ليدحض به الحق لما غلب عليه من تقليد الأسلاف ورسخ فيه من العقائد الباطلة فصار بحيث لا تنفعه المواعظ والعبر بل لا بد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال لتلين عريكته وتزول شكيمته وهؤلاء الذين أمر صلى اللّه عليه وسلم بجدالهم بالتي هي أحسن ، وإنما لم تعتبر المغالطة والشعر لأن فائدة المغالطة تغليط

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 488
الخصم والاحتراز عن تغليطه إياه ومرتبة الرسول عليه الصلاة والسلام تنافي أن يغلط وتتعالى أن يغلط ، والشعر وإن كان مفيدا للخواص والعوام فإن الناس في باب الإقدام والإحجام أطوع للتخييل منهم للتصديق إلا أن مداره على الكذب ومن ثمة قيل : الشعر أكذبه أعذبه فلا يليق بالصادق المصدوق كما يشهد به قوله تعالى : وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس : 69] لا يقال : الشعر الذي هو أحد الصناعات قياس مؤلف من مقدمات مخيلة والشعر الذي مداره على الكذاب وهو الكلام الموزون المقفى وهو الذي نفى تعليمه عنه صلى اللّه عليه وسلم لما قيل : كون الشعر مذموما ليس لكونه كلاما موزونا مقفى بل لاشتماله على تخيلات كاذبة فهما من واد واحد ذكر ذلك بعض المتأخرين ، وقد ذهب غير واحد إلى أن فيها إشارة إلى تفاوت مراتب المدعوين إلا أنه خالف في بعض ما تقدم ، ففي الكشف بعد أن ذكر أن كلام الزمخشري يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ينبغي أن يجمع في الدعوة بين الثلاث فيكون الكلام في نفسه حسن التأليف منتجا لما علق به من الغرض ومع ذلك مقصودا به المناصحة لمن خوطب به ويكون المتكلم حسن الخلق في ذلك معلما ناصحا شفيقا رفيقا ما نصه : والأحسن على ما ذهب إليه المحققون أنه تعميم للدعوة حسب مراتب المدعوين في الفهم والاستعداد ، فمن دعى بلسان الحكمة ليفاد اليقين العياني أو البرهاني هم السابقون ، ومن دعى بالموعظة الحسنة وهي الإقناعات الحكمية لا الخطابات المشهورة طائفة دون هؤلاء ، ومن دعى بالمجادلة الحسنة هم عموم أهل الإسلام والكفار أيضا اه ، ولا أرى ما يوجب نفي أن يكون المراد بالموعظة الحسنة الخطابات المشهورة ، وكونها مركبة من مقدمات مظنونه أو مقبولة من شخص معتقد فيه ولا يليق بالنبي صلى اللّه عليه وسلم استعمال الظنيات أو أخذ كلام الغير والدعوة به هو الموجب لذلك لا يخفى ما فيه فتدبره.
وذكر الإحسائي رئيس الفرقة الطاهرة في زماننا المسماة بالكشفية في كتابه شرح الفوائد ما محصله أن المدعوين من المكلفين ثلاثة أنواع ، وكذا الأدلة التي أشارت إليها الآية فإن كانوا من الحكماء العقلاء والعلماء النبلاء فدعوتهم إلى الحق الذي يريده اللّه تعالى منهم من معرفته بدليل الحكمة وهو الدليل الذوقي العياني الذي يلزم منه العلم الضروري بالمستدل عليه لأنه نوع من المعاينة كقولنا في رد من زعم أن حقائق الأشياء كانت كامنة في ذاته تعالى بنحو أشرف ثم أفاضها إنه لا بد وأن يكون لذاته سبحانه قبل الإفاضة حال مغاير لما بعدها سواء كان التغير في نفس الذات أو فيما هو في الذات فإن حصل التغير في الذات لزم حدوثها وإن حصل فيما هو في الذات - أعني حقائق الأشياء الكامنة - لزم أن تكون الذات محلا للمتغير المختلف ويلزم من ذلك حدوثها.
وكقولنا في إثبات أنه سبحانه أظهر من كل شيء : إن كل أثر يشابه صفة مؤثرة وأنه قائم بفعله قيام صدور كالأشعة بالنيرات والكلام بالمتكلم ، فالأشياء هي ظهور الواجب بها لها لأنه سبحانه لا يظهر بذاته وإلا لاختلفت حالتاه ، ولا يكون شيء أشد ظهورا من الظاهر في ظهوره لأن الظاهر أظهر من ظهوره وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفته إلا بظهوره مثل القيام فإن القائم أظهر في القيام من القيام والقاعد أظهر في القعود من القعود وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفتهما إلا بالقيام والقعود فتقول : يا قائم ويا قاعد ، والمعنى لك إنما هو القائم والقاعد لا القيام والقعود لأنه بظهوره لك بذلك غيب عليك مشاهدته وإن التفت إليه احتجب عنك القائم والقاعد ، وهو آلة لمعرفة المعارف الحقية كالتوحيد وما يلحق به ، ومستنده الفؤاد وهو نور اللّه تعالى المشار إليه
بقوله صلى اللّه عليه وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه تعالى»
والنقل من الكتاب والسنة ، وشرطه الذي يتوقف عليه فتح باب النور ثلاثة أشياء. أحدها أن تنصف ربك وتقبل منه سبحانه قوله ولا تتبع شهوة نفسك. وثانيها أن تقف عند بيانك وتبينك وتبيينك على قوله تعالى : وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء : 36] وثالثها أن تنظر في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 489
تلك الأحوال أعني البيان وما بعده بعينه تعالى وهي العين التي هي وصف نفسه لك أعني وجودك من حيث كونه أثرا ونورا لا بعينك التي هي أنت من حيث - إنك أنت - أنت فإنك لا تعرف بهذه العين إلا الحادثات المحتاجة الفانية.
وإن كانوا من العلماء ذوي الألباب وأرباب القلوب فدعوتهم إلى الحق الذي يريده سبحانه منهم من اليقين الحقيقي في اعتقاداتهم بدليل الموعظة الحسنة وهي الدليل العقلي اليقيني الذي يلزم منه اليقين في الإيمان به سبحانه وبغيره مما أمرهم بالإيمان به وهو آلة لعلم الطريقة وتهذيب الأخلاق وعلم اليقين والتقوى ، وهذه العلوم وإن كانت قد تستفاد من غيره ولكن بدون ملاحظته لا يوقف على اليقين والاطمئنان الذي هو أصل علم الأخلاق ، ومستنده القلب والنقل ، وشرط صحته والانتفاع به اتصاف عقلك به بأن تلزم ما ألزمك به ولا تظلمه وهو كقوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت : 52] وقوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف :
10] إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، وإن كانوا من العلماء أصحاب الرسوم كالمتكلمين ونظائرهم فدعوتهم إلى الحق الذي يريده سبحانه منهم من اليقين الرسمي بمقتضى طبيعتهم القاصرة بدليل المجادلة بالتي هي أحسن وهي الدليل العلمي القطعي الذي يلزم منه العلم فيما ذكر وهو آلة لعلم الشريعة ، ومستنده العلم والنقل ، وشرطه إنصاف الخصم بأن يقيمه على النحو المقرر في علم الميزان ، وقد ذكره العلماء في كتبهم الأصولية والفروعية بل لا يكاد يسمع منهم غير هذا الدليل وهو محل المناقشات والمعارضات ، وأما الدليلان الأولان فليس فيهما مناقشة ولا معارضة فإذا اعترض عليهما معترض فقد اعترض فيهما بغيرهما اه المراد منه وهو كما ترى ، وإنما ذكرته لتعلم حال المرءوس من حال الرئيس ، ولقد رأيت مشايخ هذه الطائفة يتكلمون بما هو كشوك القنافذ ويحسبونه كريش الطواويس ، وجوز أن يراد بالحكمة والموعظة الحسنة القرآن المجيد فإنه جامع لكلا الأمرين فكأنه قيل : ادع بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة وقيل غير ذلك ، ومنه أن الحكمة النبوة وليس من الحكمة ، وفسر بعضهم المجادلة الحسنة بالإعراض عن أذاهم وادعى أن الآية منسوخة بآية السيف ، والجمهور على أنها محكمة وأن معنى الآية ما تقدم ، ولكون الحكمة أعلى الدلائل وأشرافها والمدعوين به الكاملين الطالبين للمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وقليل ما هم جيء بها أولا ، ولكون الجدل أدنى الدلائل إذ ليس المقصود منه سوى إلزام الخصم وإفحامه ولا يستعمل إلا مع الناقصين الذين تغلب عليهم المشاغبة والمخاصمة وليسوا بصدد تحصيل هاتيك العلوم ذكر أخيرا ، ولكون الموعظة الحسنة دون الحجة وفوق الجدل والمدعوين بها المتوسطين الذين لم يبلغوا في الكمال حد الحكماء المحققين ولم يكونوا في النقصان بمرتبة أولئك المشاغبين وسطت بين الأمرين ، وكأنه إنما لم يقل : ادع إلى سبيل بالحكمة والموعظة والجدال
الأحسن لما أن الجدال ليس من باب الدعوة بل المقصود منه غرض آخر مغاير لها وهو الإلزام والإفحام كما قاله الإمام فليفهم.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الذي أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبوله.
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إليه وهو تعليل لما ذكر أولا من الأمرين كأنه قيل : اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة وما عليك غير ذلك وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فإلى اللّه سبحانه لا إلى غيره إذ هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه فيجازي كلا منهما ما يستحقه كذا قيل. واعترض بأن دلالة الآية على المجازاة مسلمة وأما أن حصول الهداية والضلالة ليس لغيره تعالى فالآية لا تدل عليه أصلا. وأجيب بأنه إذا انحصر علم الهداية والضلالة فيه تعالى علم أنه لا يكون لغيره سبحانه علمهما فكيف يكون له حصولهما فالقول بعدم دلالة الآية على ذلك غير سديد ، وقيل : المعنى اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة فإنه تعالى هو أعلم بحال

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 490
من لا يرعوي عن الضلال لسوء اختياره وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من الخير فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين ، وقيل : المعنى إنما عليك البلاغ فلا تلح عليهم إن أبوا بعد الإبلاغ مرة أو مرتين مثلا فإن ربك هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفته النصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل. وتقديم الضالين لأن الكلام فيهم ، وإيراد الضلال بصيغة الفعل الدال على الحدوث لما أنه تغيير لفطرة اللّه تعالى التي فطر الناس عليها وإعراض عن الدعوة وذلك أمر عارض بخلاف الاهتداء الذي هو عبارة عن الثبات على الفطرة والجريان على موجب الدعوة ولذلك جيء به على صيغة الاسم المنبئ عن الثبات ، وجملة هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قيل : عطف على جملة إِنَّ رَبَّكَ إلخ أو على خبر إن وتكرير هُوَ أَعْلَمُ للتأكيد والإشعار بتباين حال المعلومين ومآلهما من العقاب والثواب وهو في الجملة الأولى ضمير فصل للتخصيص كما هو ظاهر كلام البعض أو للتقوية كما قيل ، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم من اللطافة.
وَإِنْ عاقَبْتُمْ أي إن أردتم المعاقبة فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي مثل ما فعل بكم وقد عبر عنه بالعقاب على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب نحو كما تدين تدان على نهج المشاكلة ، وقال الخفاجي : إن العقاب في العرف مطلق العذاب ولو ابتداء وفي أصل اللغة المجازاة على عذاب سابق فإن اعتبر الثاني فهو مشاكلة وإن اعتبر الأول فلا مشاكلة ، وعلى الاعتبارين صيغة المفاعلة ليست للمشاركة ، والآية نزلت في شأن التمثيل بحمزة رضي اللّه تعالى عنه يوم أحد ،
فقد صح عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقف على حمزة يوم استشهد فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ونظر إليه قد مثل به فقال : رحمة اللّه تعالى عليك فإنك كنت ما علمت وصولا للرحم فعولا للخيرات ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك اللّه تعالى من أرواح شتى أما واللّه لأمثلن بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل عليه السلام والنبي صلى اللّه عليه وسلم واقف بخواتيم النحل وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها فكفر عليه الصلاة والسلام عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر ،
فهي على هذا مدنية. وذهب النحاس إلى أنها مكية وليست في شأن التمثيل بحمزة رضي اللّه تعالى عنه واختاره بعضهم لما يلزم على ذلك من عدم الارتباط المنزه عنه كلام رب العزة جل شأنه إذ لا مناسبة لتلك القضية لما قبل ، وأما على القول بأنها مكية فوجه الارتباط أنه لما أمر سبحانه نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالدعوة وبين طريقها أشار إليه عليه الصلاة والسلام وإلى من يتابعه بمراعاة العدل مع من يناصبهم والمماثلة فإن الدعوة لا تكاد تنفك عن ذلك كيف لا وهي موجبة لصرف الوجوه عن القبل المعبودة وإدخال الأعناق في قلادة غير معهودة قاضية عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلان دين استمرت عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقت بهم الحيل وعيت بهم العلل وسدت عليهم طرق المحاجة والمناظرة وارتجت دونهم أبواب المباحثة والمحاورة. وترددت في صدورهم الأنفاس ووقعوا في حيص بيص يضربون أخماسا في أسداس لا يجدون إلا الأسنة مركبا ويختارون الموت الأحمر دون دين الإسلام مذهبا ، وإلى الأول ذهب جمهور المفسرين ووقع ذلك في صحيح البخاري بل قال القرطبي : إنه مما أطبق عليه المفسرون ، وما ذكر من لزوم عدم الارتباط عليه ليس بشيء ، فإن التنبيه على تلك القضية للإشارة إلى أن الدعوة لا تخلو من مثل ذلك وأن المجادلة تنجر إلى المجالدة فإذا وقعت فاللائق ما ذكر فلا فرق في الارتباط بحسب المآل بين أن تكون مكية وأن تكون مدنية ، وخصوص السبب لا ينافي عموم المعنى ، فالمعول عليه عدم العدول عما قاله الجمهور.
وقرأ ابن سيرين : «وإن عقبتم فعقبوا» بتشديد القافين أي وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم غير متجاوزين عنه. واستدل بالآية على أن للمقتص أن يفعل بالجاني مثل ما فعل في الجنس والقدر وهذا مما لا خلاف

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 491
فيه. وأما اتحاد الآلة بأن يقتل بحجر من قتل به وبسيف من قتل به مثلا فذهب إليه بعض الأئمة ، ومذهب أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أنه لا قود إلا بالسيف ، ووجه ذلك مع أن الآية ظاهرة في خلافه أن القتل بالحجر ونحوه مما لا يمكن مماثلة مقداره شدة وضعفا فاعتبرت مماثلة في القتل وإزهاق الروح والأصل في ذلك السيف كما ذكره الرازي في أحكامه. وذكر بعضهم أنه اختلف في هذه الآية فأخذ الشافعي بظاهرها ، وأجاب الحنفية بأن المماثلة في العدد بأن يقتل بالواحد واحد لأنها نزلت
لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لأمثلن بسبعين منهم
لما قتل حمزة ومثل به كما سمعت فلا دليل فيها ، وقال الواحدي : إنها منسوخة كغيرها من المثلة وفيه كلام في شروح الهداية.
وفي تقييد الأمر بقوله سبحانه : وَإِنْ عاقَبْتُمْ حث على العفو تعريضا لما في «إن» الشرطية من الدلالة على عدم الجزم بوقوع ما في حيزها فكأنه قيل : لا تعاقبوا وإن عاقبتم إلخ كقول طبيب لمريض سأله عن أكل الفاكهة إن تأكل الفاكهة فكل الكمثرى ، وقد صرح بذلك على الوجه الآكد فقيل : وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ أي عن المعاقبة بالمثل لَهُوَ أي لصبركم ذلك على اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة : 8] خَيْرٌ من الانتصار بالمعاقبة لِلصَّابِرِينَ أي لكم إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل مدحا لهم وثناء عليهم بالصبر ، وفيه إرشاد إلى أنه إن صبرتم فهو شيمتكم المعروفة فلا تتركوها إذا في هذه القضية أو وصفا لهم بصفة تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة فهو على حد من قتل قتيلا وهو الظاهر من اللفظ ، وفيه ترغيب في الصبر بالغ ، ويجوز عود الضمير إلى مطلق الصبر المدلول عليه بالفعل ، والمراد بالصابرين جنسهم فيدخل هؤلاء دخولا أوليا ، ثم إنه تعالى أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم صريحا بما ندب إليه غيره تعريضا من الصبر لأنه عليه الصلاة والسلام أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشؤونه سبحانه ووثوقه به تعالى فقال تعالى : وَاصْبِرْ على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلام والأذية وعاينت من اعراضهم بعد الدعوة عن الحق بالكلية وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما صبرك ملابسا ومصحوبا بشيء من الأشياء إلا بذكر اللّه تعالى والاستغراق بمراقبة شؤونه والتبتل إليه سبحانه بمجامع الهمة ، وفيه من تسلية النبي صلى اللّه عليه وسلم وتهوين مشاق الصبر عليه وتشريفه ما لا مزيد عليه أو إلا بمشيئته المبنية على حكم بالغة مستتبعة لعواقب حميدة فالتسلية من حيث اشتماله على غايات جليلة قاله شيخ الإسلام.
وقال غير واحد : أي إلا بتوفيقه ومعونته فالتسلية من حيث تيسير الصبر وتسهيله ولعل ذلك أظهر مما تقدم.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكافرين وكفرهم بك وعدم متابعتهم لك نحو فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [المائدة : 68] وقيل : على المؤمنين وما فعل بهم من المثلة يوم أحد وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ بفتح الضاد ، وقرأ ابن كثير بكسرها وروي ذلك عن نافع ، ولا يصح على ما قال أبو حيان عنه وهما لغتان كالقول والقيل أي لا تكن في ضيق صدر وحرج وفيه استعارة لا تخفى ولا داعي إلى ارتكاب القلب ، وقال أبو عبيدة : الضيق بالفتح مخفف ضيق كهين وهين أي لا تك في أمر ضيق. ورده أبو علي كما في البحر بأن الصفة غير خاصة بالموصوف فلا يجوز ادعاء الحذف ولذلك جاز مررت بكاتب وأمته بآكل. وتعقب بالمنع لأنه إذا كانت الصفة عامة وقدر موصوف عام فلا مانع منه مِمَّا يَمْكُرُونَ أي من مكرهم بك فيما يستقبل فالأول كما في إرشاد العقل السليم نهي عن التألم بمطلوب من جهتهم فات والثاني نهي عن التألم بمحذور من جهتهم آت ، وفيه أن النهي عنهما مع أن انتفاءهما لمن لوازم الصبر المأمور به لزيادة التأكيد وإظهار كمال العناية بشأن التسلية وإلا فهل يخطر ببال من توجه إلى اللّه تعالى بشراشره متنزها عن كل ما سواه سبحانه من الشواغل شيء مطلوب فينهى عن الحزن بفواته ، وقيل : يمكرون بمعنى مكروا ، وإنما عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية ، والأول نهي عن الحزن على سوء حالهم في أنفسهم من اتصافهم بالكفر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 492
والإعراض عن الدعوة والثاني نهي عن الحزن على سوء حالهم معه صلى اللّه عليه وسلم من إيذائهم له بالتمثيل بأحبابه ونحوه والمراد من النهيين محض التسلية لا حقية النهي ، وأن تعلم أن الظاهر إبقاء المضارع على حقيقته فتأمل.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا تعليل لما سبق من الأمر والنهي ، والمراد بالمعية الولاية الدائمة التي لا يحول حول صاحبها شيء من الجزع والحزن وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة مَعَ من متبوعية المتقين من حيث إنهم المباشرون للتقوى ، والمراد بها هنا أعلى مراتبها أعني التنزه عن كل ما يشغل السر عن الحق سبحانه والتبتل إليه تعالى بالكلية لأن ذلك هو المورث لولايته عز وجل المقرونة ببشارة أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس : 62] والمعنى أن اللّه تعالى ولي الذين تبتلوا إليه سبحانه بالكلية وتنزهوا عن كل ما يشغل سرهم عنه عز وجل فلم يخطر ببالهم شيء من مطلوب أو محذور فضلا عن الحزن عليه فواتا أو وقوعا وهو المعنى بما به الصبر المأمور به على أول الاحتمالات السالفة وبذلك يحصل التقريب ويتم التعليل وإلا فمجرد التوقي عن المعاصي لا يكون مدارا لشيء من العزائم المرخص في تركها فكيف بالصبر المشار إليه ورديفيه وإنما مداره المعنى المذكور فكأنه قيل : إن اللّه مع الذين صبروا ، وإنما أوثر عليه ما في النظم الكريم مبالغة في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوت الجليلة وروادفه كما أن قوله تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ للإشعار بأنه من باب الإحسان الذي فيه يتنافس المتنافسون على ما يؤذن بذلك قوله تعالى : وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود : 115] وقد نبه سبحانه على أن كلا من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان بقوله تعالى : إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف : 90] وحقيقة الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق ، وقد فسره صلى اللّه عليه وسلم بأن تعبد اللّه تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ،
وتكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى ، وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة لهم ، وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية مقدمة على التحلية ، والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين ويدخل عليه الصلاة والسلام في زمرتهم دخولا أوليا إما هو صلى اللّه عليه وسلم وأشياعه رضي اللّه تعالى عنهم وعبر بذلك عنهم مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلين ، وفيه رمز إلى أن صنيعه عليه الصلاة والسلام مستتبع لاقتداء الأمة به كقول من قال لابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما عند التعزية :
اصبر نكن بك صابرين وإنما صبر الرعية عند صبر الراس
قال كل ذلك في إرشاد العقل السليم ، وإلى كون الجملة في موضع التعليل لما سبق ذهب العلامة الطيبي حيث قال : إنه تعالى لما أمر حبيبه بالصبر على أذى المخالفين ونهاه عن الحزن على عنادهم وابائهم الحق وعما يلحقه من مكرهم وخداعهم علل ذلك بقوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ إلخ أي لا تبال بهم وبمكرهم لأن اللّه تعالى وليك ومحبك وناصرك ومبغضهم وخاذلهم ، وعمم الحكم إرشادا للاقتداء به عليه الصلاة والسلام ، وفيه تعريض بالمخالفين وبخذلانهم كما صرح به في قوله تعالى : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد : 11] وذكر أن إيراد الجملة الثانية اسمية وبناء مُحْسِنُونَ على هُمْ على سبيل التقوى مؤذن باستدامة الإحسان واستحكامه وهو مستلزم لاستمرار التقوى لأن الإحسان إنما يتم إذا لم يعد إلى ما كان عليه من الإساءة ، وإليه الإشارة بما
ورد «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
وما ذكر من حمل التقوى على أعلى مراتبها غير متعين ، وما ذكره في بيانه لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على المتأمل ، وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن الحسن أنه قال في الآية : اتقوا فيما حرم اللّه تعالى عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم ، ويوهم كلام بعضهم أن الجملة في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 493
موضع التعليل للأمر بالمعاقبة بالمثل حيث قال : إن المعنى إن اللّه بالعون والرحمة والفضل مع الذين خافوا عقاب اللّه تعالى وأشفقوا منه فشفقوا على خلقه بعد الإسراف في المعاقبة ، وفسر الإحسان بترك الإساءة كما قيل. ترك الإساءة إحسان وإجمال. ولا يخفى ما فيه من البعد ، وقد اشتملت هذه الآيات على تعليم حسن الأدب في الدعوة وترك التعدي والأمر بالصبر على المكروه مع البشارة للمتقين المحسنين ، وقد أخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وغيرهما عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار : أوص فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي وأوصيكم بخواتيم سورة النحل هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات : وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ أي مما كان وما يكون فيفرق به بين المحق والمبطل والصادق والكاذب والمتبع والمبتدع ، وقيل : كل شيء هو النبي صلى اللّه عليه وسلم كما قيل إنه عليه الصلاة والسلام الإمام في قوله سبحانه : وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس : 12] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال السيادي : العدل رؤية المنة منه تعالى قديما وحديثا ، والإحسان الاستقامة بشرط الوفاء إلى الأبد ، وقيل : العدل أن لا يرى العبد فاترا عن طاعة مولاه مع عدم الالتفات إلى العوض ، وإيتاء ذي القربى الإحسان إلى ذوي القرابة في المعرفة والمحبة والدين فيخدمهم بالصدق والشفقة ويؤدي إليهم حقهم ، والفحشاء الاستهانة بالشريعة ، والمنكر الإصرار على الذنب كيفما كان ، والبغي ظلم العباد ، وقيل : الفحشاء إضافة الأشياء إلى غيره تعالى ملكا وإيجادا وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ المأخوذ عليكم في عالم الأرواح بالبقاء على حكمه وهو الإعراض عن الغير والتجرد عن العلائق والعوائق في التوجه إليه تعالى إذا عاهدتم أي تذكرتموه بإشراق نور النبي صلى اللّه عليه وسلم عليكم وتذكيره إياكم قال النصراباذي : العهود مختلفة فعهد العوام لزوم الظواهر وعهد الخواص حفظ السرائر وعهد خواص الخواص التخلي من من الكل لمن له الكل ما عِنْدَكُمْ من الصفات ينفد لمكان الحدوث وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ لمكان القدم فالعبد الحقيقي من كان فانيا من أوصافه باقيا بما عند اللّه تعالى كذا في أسرار القرآن مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أي عملا يوصله إلى كماله الذي يقتضيه استعداده وَهُوَ مُؤْمِنٌ معتقد للحق اعتقادا جازما
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً أي حياة حقيقية لا موت بعدها بالتجرد عن المواد البدنية والانخراط في سلك الأنوار القدسية والتلذذ بكمالات الصفات ومشاهدات التجليات الإفعالية والصفاتية وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ من جنات الصفات والأفعال بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إذ عملهم يناسب صفاتهم التي هي مبادئ أفعالهم وأجرهم يناسب صفات اللّه تعالى التي هي مصادر أفعاله فانظر كم بينهما من التفاوت في الحسن ، ويقال : الحياة الطيبة ما تكون مع المحبوب ومن هنا قيل :
كل عيش ينقضي ما لم يكن مع مليح ما لذاك العيش ملح
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قال سهل هو إشارة إلى الذين رجعوا القهقرى في طريق سلوكهم ثم عادوا أي إن ربك للذين هجروا قرناء السوء من بعد أن ظهر لهم منهم الفتنة في صحبتهم ثم جاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير ثم صبروا معهم على ذلك ولم يرجعوا إلى ما كانوا عليه في الفتنة لساتر عليهم ما صدر منهم منعم عليهم بصنوف الانعام ، وقيل : إن ربك للذين هاجروا أي تباعدوا عن موطن النفس بترك المألوفات والمشتهيات من بعد ما فتنوا بها بحكم النشأة البشرية ثم جاهدوا في اللّه تعالى بالرياضات وسلوك طريقه سبحانه بالترقي في المقامات والتجريد عن التعلقات وصبروا عما تحب النفس وعلى ما تكرهه بالثبات في السير إن ربك لغفور يستر غواشي الصفات النفسانية رحيم بإفاضة الكمال والصفات القدسية

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 494
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للنفس المستعدة القابلة لفيض القلب الثابتة في طريق اكتساب الفضائل الآمنة من خوف فواتها المطمئنة باعتقادها يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً من العلوم والفضائل والأنوار مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس والجوارح والآلات ومن جهة القلب فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ظهرت بصفاتها بطرا وإعجابا بزينتها ونظرا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت بصفاتها الظلمانية عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السفلية وانقطع إمداد القلب عنها وانقلبت المعاني الواردة عليها من طرق الحس هيئات غاسقة من صور المحسوسات التي انجذبت إليها فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ بانقطاع مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من زوال مقتنياتها من الشهوات والمألوفات بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من كفران أنعم اللّه تعالى وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم وهي القوة الفكرية فَكَذَّبُوهُ بما ألقى إليهم من المعاني المعقولة والآراء الصادقة فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي عذاب الحرمان والاحتجاب وَهُمْ ظالِمُونَ في حالة ظلمهم وترفعهم عن طريق الفضيلة ونقصهم لحقوق صاحبهم إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً لاجتماع ما تفرق في غيره من الصفات الكاملة فيه وكذا كل نبي ولذا جاء في الخبر على ما قيل لو وزنت بأمتي لرجحت بهم قانِتاً لِلَّهِ مطيعا له سبحانه على أكمل وجه حَنِيفاً مائلا عن كل ما سواه تعالى وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بنسبة شيء إلى غيره سبحانه شاكِراً لأنعمه مستعملا لها على ما ينبغي اجْتَباهُ اختاره بلا واسطة عمل لكونه من الذين سبقت لهم الحسنى فتقدم كشوفهم على سلوكهم وَهَداهُ بعد الكشف إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو مقام الإرشاد والدعوة ينعون به مقام الفرق بعد الجمع وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وهي الذكر الجميل والملك العظيم والنبوة وَإِنَّهُ
فِي الْآخِرَةِ قيل أي في عالم الأرواح لَمِنَ الصَّالِحِينَ المتمكنين في مقام الاستقامة وقيل أي يوم القيامة لمن الصالحين للجلوس على بساط القرب والمشاهدة بلا حجاب وهذا لدفع توهم أن ما أوتيه في الدنيا ينقص مقامه في العقبى كما قيل إن مقام الولي المشهور دون الولي الذي في زوايا الحمول ، وإليه الإشارة بقولهم : الشهرة آفة ، وقد نص على ذلك الشعراني في بعض كتبه إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وهم اليهود واختاروه لأنه اليوم الذي انتهت به أيام الخلق فكان بزعمهم أنسب لترك الأعمال الدنيوية وهو على ما قال الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات يوم الأبد الذي لا انقضاء له فليله في جهنم ونهاره في الجنة واختيار النصارى ليوم الأحد لأنه أول يوم اعتنى اللّه تعالى فيه بخلق الخلق فكان بزعمهم أولى بالتفرغ لعبادة اللّه تعالى وشكره سبحانه ، وقد هدى اللّه تعالى لما هو أعظم من ذلك وهو يوم الجمعة الذي أكمل اللّه تعالى به الخلق وظهرت فيه حكمة الاقتداء بخلق الإنسان الذي خلق على صورة الرحمن فكان أولى بأن يتفرغ فيه الإنسان للعبادة والشكر من ذينك اليومين وسبحان من خلق فهدى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لما في ذلك من قهر النفس الموجب لترقيها إلى أعلى المقامات وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ قيل :
الصبر أقسام : صبر للّه تعالى. وصبر في اللّه تعالى. وصبر مع اللّه تعالى. وصبر عن اللّه تعالى. وصبر باللّه تعالى ، فالصبر باللّه تعالى هو من لوازم الإيمان وأول درجات الإسلام وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل اللّه تعالى لأهل دينه وطاعته المقتضية للثواب الجزيل. والصبر في اللّه تعالى هو الثبات في سلوك طريق الحق وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار وترك المألوفات واللذات وتحمل البليات وقوة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات وهو من مقامات السالكين يهبه اللّه تعالى لمن يشاء من أهل الطريقة ، والصبر مع اللّه تعالى هو لأهل الحضور والكشف عند التجرد عن ملابس الأفعال والصفات والتعرض لتجليات الجمال والجلال وتوارد واردات الأنس والهيبة فهو بحضور القلب لمن كان له قلب والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس ، وهو أشق على النفس من الضرب على الهام وإن كان لذيذا جدا ، والصبر عن اللّه تعالى هو لأهل العيان

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 495
والمشاهدة من العشاق المشتاقين المتقلبين في أطوار التجلي والاستتار المنخلعين عن الناسوت المتنورين بنور اللاهوت ما بقي لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجودهم تشويقا وتعظيما ذاقوا من ألم الشوق وحرقة الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم ، والصبر باللّه تعالى هو لأهل التمكين في مقام الاستقامة الذين أفناهم اللّه تعالى بالكلية وما ترك عليهم شيئا من بقية الآنية والاثنينية ثم وهب لهم وجودا من ذاته حتى قاموا به وفعلوا بصفاته وهو من أخلاق اللّه تعالى ليس لأحد فيه نصيب ، ولهذا بعد أن أمر سبحانه به نبيه صلى اللّه عليه وسلم بين له عليه الصلاة والسلام إنك لا تباشره إلا بي ولا تطيقه إلا بقوتي ثم قال سبحانه له صلى اللّه عليه وسلم : وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فالكل مني وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ لانشراح صدرك بي إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا بقاياهم وفنوا فيه سبحانه وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بشهود الوحدة في الكثرة وهؤلاء الذين لا يحجبهم الفرق عن الجمع ولا الجمع عن الفرق ويسعهم مراعاة الحق والخلق ، وذكر الطيبي أن التقوى في الآية بمنزلة التوبة للعارف والإحسان بمنزلة السير والسلوك في الأحوال والمقامات إلى أن ينتهي إلى محو الرسم والوصول إلى مخدع الأنس ، هذا واللّه سبحانه الهادي إلى سواء السبيل فنسأله جل شأنه أن يهدينا إليه ويوفقنا للعلم النافع لديه ويفتح لنا خزائن الأسرار ويحفظنا من شر الأشرار بحرمة القرآن العظيم والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم.
___________
«لقد تم الجزء الرابع عشر ويليه إن شاء اللّه تعالى الجزء الخامس عشر وأوله سورة الإسراء»

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 496
الفهرس
تتمة سورة يوسف الآيات : 53 - 78 3 الآيات : 79 - 95 32 الآيات : 96 - 111 52 سورة الرعد الآيات : 1 - 18 81 الآيات : 19 - 43 131 سورة إبراهيم الآيات : 1 - 34 170 الآيات : 35 - 52 219 سورة الحجر الآيات : 1 - 44 250 الآيات : 45 - 99 300 سورة النحل الآيات : 1 - 50 332 الآيات : 51 - 87 400 الآيات : 88 - 128 447

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 3
[الجزء الثامن ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الإسراء
وتسمى الإسراء وسبحان أيضا وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم مكية وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور ، وقال صاحب الغنيان بإجماع ، وقيل الآيتين وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء : 73] وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ [الإسراء : 76] وقيل إلا أربعا هاتان وقوله تعالى : وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء : 60] وقوله سبحانه : وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء : 80] وزاد مقاتل قوله سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الإسراء : 107] الآية.
وعن الحسن إلا خمس آيات وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء : 33] الآية وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء : 32] الآية أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الإسراء : 57] الآية أَقِمِ الصَّلاةَ [الإسراء : 78] الآية وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الإسراء :
26] الآية ، وقال قتادة : إلا ثماني آيات وهي قوله تعالى : وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى آخرهن ، وقيل غير ذلك ، وهي مائة وعشر آيات عند الجمهور وإحدى عشرة عند الكوفيين وكان صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم كما أخرج أحمد.
والترمذي وحسنه. والنسائي. وغيرهم عن عائشة يقرؤها والزمر كل ليلة ، وأخرج البخاري. وابن الضريس وابن مردويه عن ابن مسعود
أنه قال في هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي ، وهذا وجه في ترتيبها ، ووجه اتصال هذه بالنحل - كما قال الجلال السيوطي - أنه سبحانه لما قال في آخرها إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل : 124] ذكر في هذه شريعة أهل السبت التي شرعها سبحانه لهم في التوراة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل ، وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم وتخريب مسجدهم واستفزازهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإرادتهم إخراجه من المدينة وسؤالهم إياه عن الروح ثم ختمها جل شأنه بآيات موسى عليه السلام التسع وخطابه مع فرعون وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض فأهلك وورث بنو إسرائيل من بعده وفي ذلك تعريض بهم أنهم سينالهم ما نال فرعون حيث أرادوا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما أراد هو بموسى عليه السلام وأصحابه ، ولما كانت هذه السورة مصدّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى افتتحت بذكر إسراء المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم تشريفا له بحلول ركابه الشريف جبرا لما وقع من تخريبه.
وقال أبو حيان في ذلك : إنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر ونهاه عن الحزن على الكفرة وضيق الصدر من مكرهم وكان من مكرهم نسبته صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه وحاشاه به عقب ذلك بذكر شرفه وفضله وعلو منزلته عنده عز شأنه ، وقيل : وجه ذلك اشتمالها على ذكر نعم منها خاصة ومنها عامة وقد ذكر في سورة النحل من النعم ما سميت لأجله سورة النعم واشتمالها على ذكر شأن القرآن العظيم كما اشتملت تلك وذكر سبحانه هناك في النحل يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل : 69] وذكر هاهنا في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 4
القرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء : 82] وذكر سبحانه في تلك أمره بإيتاء ذي القربى وأمر هنا بذلك مع زيادة في قوله سبحانه : وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الإسراء :
26] وذلك بعد أن أمر جل وعلا بالإحسان بالوالدين اللذين هما منشأ القرابة إلى غير ذلك مما لا يحصى فليتأمل واللّه تعالى الموفق.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 إلى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)
وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 5
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ سبحان هنا على ما ذهب إليه بعض المحققين مصدر سبح تسبيحا بمعنى نزه تنزيها لا بمعنى قال سبحان اللّه نعم جاء التسبيح بمعنى القول المذكور كثيرا حتى ظن بعضهم أنه مخصوص بذلك وإلى هذا ذهب صاحب القاموس في شرح ديباجة الكشاف ، وجعل سبحان مصدر سبح مخففا وليس بذاك ، وقد يستعمل علما للتنزيه فيقطع عن الإضافة لأن الأعلام لا تضاف قياسا ويمنع من الصرف للعلمية والزيادة واستدل على ذلك بقول الأعشى :
قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
وقال الرضي : لا دليل على علميته لأنه أكثر ما يستعمل مضافا فلا يكون علما وإذا قطع فقد جاء منونا في الشعر كقوله :
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجوديّ والجمد
وقد جاء باللام كقوله : «سبحانك اللهم ذو السبحان» ولا مانع من أن يقال في البيت الذي استدلوا به : حذف المضاف إليه وهو مراد للعلم به وأبقي المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله أي التجرد عن التنوين كقوله : «خالط من سلمى خياشيم وفا» انتهى ، وظاهر كلام الزمخشري أنه علم للتسبيح دائما وهو علم جنس لأن علم الجنس كما يوضع للذوات يوضع للمعاني فلا تفصيل عنده ، وانتصر له صاحب الكشف فقال : إن ما ذهب إليه العلامة هو الوجه لأنه إذا ثبتت العلمية بدليلها فالإضافة لا تنافيها وليست من باب - زيد المعارك - لتكون شاذة بل من باب - حاتم طيء وعنترة عبس - وذكر أنه يدل على التنزيه البليغ وذلك من حيث الاشتقاق من السبح وهو الذهاب والأبعاد في الأرض ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل ثم العدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وما فيه من قيامه مقام المصدر مع الفعل فإن انتصابه بفعل متروك الإظهار ولهذا لم يجز استعماله إلا فيه تعالى أسماؤه وعظم كبرياؤه ، وكأنه قيل : ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمة وصوابا انتهى.
وأورد على ما ذكره أولا أن من منع إضافة العلم قياسا لم يفرق بين إضافة وإضافة فإن ادعى أن بعض الأعلام اشتهرت بمعنى كحاتم بالكرم فيجوز في نحوه الإضافة لقصد التخصيص ودفع العموم الطارئ فما نحن فيه ليس من هذا القبيل كما لا يخفى ، وما ذكر من دلالته على التنزيه من جميع النقائص هو الذي يشهد له المأثور ،
ففي العقد الفريد عن طلحة قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن تفسير سبحان اللّه فقال : تنزيه للّه تعالى عن كل سوء.
وقال الطيبي في قول الزمخشري : إنه دل على التنزيه البليغ عن جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء اللّه تعالى إن ذلك مما يأباه مقام الإسراء إباء العيوف الورود وهو مزيف بل معناه التعجب كما قال في النور الأصل في ذلك أن يسبح اللّه تعالى عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه وليس بشيء ، ففي الكشف أن التنزيه لا ينافي التعجب كما توهم واعترض ، وجعله مدارا والتعجب تبعا هاهنا هو الوجه بخلاف آية النور ، وذكر بعضهم أن الظاهر من كلام الكشاف في مواضع أنه لا يرتضي الجمع بين التنزيه والتعجب للمنافاة بينهما بل لأن كلا منهما معنى مستقل فالجمع

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 6
بينهما جمع بين معنى المشترك ، وعلى الجمع فالوجه ما ذكر أنه الوجه فافهم ، وقيل إن سبحان ليس علما أصلا بلا تفصيل ففيه ثلاثة مذاهب ، وذكر بعضهم أنه في الآية على معنى الأمر أي نزهوا اللّه تعالى وبرئوه من جميع النقائص ويدخل فيها العجز عما بعد أو من العجز عن ذلك ، والمتبادر اعتبار المضارع ، والإسراء السير بالليل خاصة كالسري فأسرى وسرى بمعنى «1» وليست همزة أسرى للتعدية كما قال أبو عبيدة ، وقال ابن عطية : الهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي أسرى ملائكته بعبده ، قال في البحر : وإنما احتاج إلى هذه الدعوى لاعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد فإذا قلت : قمت بزيد يلزم منه قيامك وقيام زيد عنده وإذا جعلت الباء كالهمزة لا يلزم ذلك كما لا يخفى ، وقال أيضا : يحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل أسرى ملائكته وهو مبني على ذلك الاعتقاد أيضا ، وقال الليث : يقال أسرى لأول الليل وسرى لآخره وأما سار فالجمهور على أنه عام لا اختصاص له بليل أو نهار. وقيل إنه مختص بالنهار وليس مقلوبا من سري ، وإيثار لفظة العبد للإيذان بتمحضه صلّى اللّه عليه وسلّم في عبادته سبحانه وبلوغه في ذلك غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية حسبما يلوح به مبدأ الإسراء ومنتهاه ، والعبودية على ما نص عليه العارفون أشرف الأوصاف وأعلى المراتب وبها يفتخر المحبون كما قيل :
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
وقال آخر :
باللّه إن سألوك عني قل لهم عبدي وملك يدي وما أعتقته
وعن أبي القاسم سليمان الأنصاري أنه قال : لما وصل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة أوحى اللّه تعالى إليه يا محمد بم نشرفك؟ قال : بنسبتي إليك بالعبودية فأنزل اللّه تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ
وجاء قولوا عبد اللّه ورسوله ، وقيل إن في التعبير به هنا دون حبيبه مثلا سدا لباب الغلو فيه صلّى اللّه عليه وسلّم كما وقع للنصارى في نبيهم عليه السلام ، وذكروا أنه لم يعبر اللّه تعالى عن أحد بالعبد مضافا إلى ضمير الغيبة المشار به إلى الهوية إلا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي ذلك من الإشارة ما فيه ، ومن تأمل أدنى تأمل ما بين قوله تعالى : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وقوله تعالى وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف : 143] ظهر له الفرق التام بين مقام الحبيب ومقام الكليم صلّى اللّه عليه وسلّم وسيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا في هذه السورة ما يفهم منه الفرق أيضا فلا تغفل ، وإضافة سُبْحانَ إلى الموصول المذكور للإشعار بعلية ما في حيز الصلة للمضاف فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته وغاية تنزهه تعالى عن صفات النقص ، وقوله تعالى لَيْلًا ظرف لأسرى ، وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء وأنها بعض من أجزاء الليل ولذلك قرأ عبد اللّه. وحذيفة «من الليل» أي بعضه كقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ [الإسراء : 79].
واعترض بأن البعضية المستفادة من التبعيضية هي البعضية في الأجزاء والبعضية المستفادة من التنكير البعضية في الأفراد والجزئيات فكيف يستفاد من التنكير أن الإسراء كان في بعض من أجزاء الليل فالصواب أن تنكيره لدفع توهم أن الإسراء كان في ليال أو لإفادة تعظيمه كما هو المناسب للسياق والسباق أي ليلا أي ليل دنا فيه المحب إلى المحبوب وفاز في مقام الشهود بالمطلوب. وأجاب عن ذلك بعض الكاملين بما لا يخفى نقصه. وقال بعض المحققين : إن ما ذكر قد نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز ولا يرد عليه الاعتراض ابتداء.
___________
(1) ويقال أسراه وأسرى به كأخذ الخطام وأخذ به ا ه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 7
وتحقيقه على ما صرح به الفاضل اليمني نقلا عن سيبويه. وابن مالك أن الليل والنهار إذا عرفا كانا معيارا للتعميم وظرفا محدودا فلا تقول صحبته الليلة وأنت تريد ساعة منها إلا أن تقصد المبالغة كما تقول أتاني أهل الدنيا لناس منهم بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك فلما عدل عن تعريفه هنا علم أنه لم يقصد استغراق السري له وهذا هو المراد من البعضية المذكورة ولا حاجة إلى جعل الليل مجازا عن بعضه كما أنك إذا قلت جلست في السوق وجلوسك في بعض أماكنه لا يكون فيه السوق مجازا كما لا يخفى ، وقد أشار إلى هذا المدقق في الكشف ، وقيل :
المراد بتنكيره أنه وقع في وسطه ومعظمه كما يقال جاءني فلان بليل أي في معظم ظلمته فيفيد البعضية أيضا ، وينافيه ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في الحديث ، وزعم أن ذكر لَيْلًا للتأكيد أو تجريد الإسراء وإرادة مطلق السير منه ناشىء من قلة البضاعة كما لا يخفى. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان حكمة كون الإسراء ليلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
الظاهر أن المراد به المسجد المشهور بين الخاص والعام بعينه وكان صلّى اللّه عليه وسلّم إذ ذاك في الحجر منه ،
فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بينا أنا في الحجر - وفي رواية - في الحطيم بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه فاستخرج قلبي فغسله ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه»
الحديث ، وفي بعض الروايات أنه جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام وهو مضطجع في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر فاحتملته الملائكة عليهم السلام وجاؤوا به إلى زمزم فألقوه على ظهره وشق جبريل صدره من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه «1» بغير آلة ولا سيلان دم ولا وجود ألم ثم قال لميكائيل : ائتني بطست من ماء زمزم فأتاه به فاستخرج قلبه الشريف وغسله ثلاث مرات ثم أعاده إلى مكانه وملأه إيمانا وحكمة وختم عليه ثم خرج به إلى باب المسجد فإذا بالبراق مسرجا ملجما فركبه الخبر
، ويعلم منه الجمع بين ما ذكر من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذ ذاك في الحجر وما قيل إنه كان بين زمزم والمقام ، وقيل :
المراد به الحرم وأطلق عليه لإحاطته به فهو مجاز بعلاقة المجاورة الحسية والإحاطة أو لأن الحرم كله محل للسجود ومحرم ليس يحل فهو حقيقة لغوية والنكتة في هذا التعبير مطابقة المبدأ المنتهي.
وكان صلّى اللّه عليه وسلّم إذ ذاك في دار فاختة «2» أم هانىء «3» بنت أبي طالب
فقد أخرج النسائي عن ابن عباس وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير من حديثها أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان نائما في بيتها بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة عليها ، وقال مثل لي النبيون فصليت بهم ثم خرج إلى المسجد وأخبر به قريشا فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد أناس ممن آمن به عليه الصلاة والسلام وسعى رجال إلى أبي بكر فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق قالوا تصدقه على ذلك قال : إني أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة فسمي الصديق ، وكان في القوم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه إياه فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا : أما النعت فقد أصاب فيه فقالوا : أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئا؟ قال : نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ووضعته كما كان فاسألوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا؟ قالوا : هذه آية قال : ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعودا فنفر بعيرهما مني فانكسر
___________
(1) ذكر السفيري أنه عليه السلام شقة بمنقاره فإنه عليه السلام جاءه في صورة كركرى واللّه تعالى أعلم بصحة الخبر ا ه منه.
(2) وقيل : في شعب أبي طالب ا ه منه.
(3) وقال ابن إسحاق هند ا ه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 8
فاسألوهما عن ذلك قالوا : هذه آية أخرى ، ثم سألوه عن العدة والأحمال والهيئات فمثلت له العير فأخبرهم عن كل ذلك وقال : تقدم «1» يوم كذا مع طلوع الشمس وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان قالوا : وهذه آية أخرى فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه إذ قال قائل : هذه الشمس قد طلعت وقال آخر : هذه العير قد أقبلت يقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال فلم يؤمنوا وقالوا : هذا سحر مبين قاتلهم اللّه أنى يؤفكون. وفي بعض الآثار أن أم هانىء قالت : فقدته صلّى اللّه عليه وسلّم وكان نائما عندي فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش ويقال إنه تفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذي طوى وهو ينادي يا محمد يا محمد فأجابه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا ابن أخي أعييت قومك أين كنت؟ قال : ذهبت إلى بيت المقدس قال : من ليلتك قال : نعم قال : هل أصابك الأخير؟ قال ما أصابني الأخير
وقيل : غير ذلك.
وكما اختلف في مبدأ الإسراء اختلف في سنته فذكر النووي في الروضة أنه كان بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ، وفي الفتاوى أنه كان سنة خمس أو ست من النبوة ، ونقل عنه الفاضل الملا أمين العمري في شرح ذات الشفاء الجزم بأنه كان في السنة الثانية عشرة من المبعث. وعن ابن حزم دعوى الإجماع على ذلك ، وضعف ما في الفتاوى بأن خديجة رضي اللّه تعالى عنها لم تصل الخمس وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين. وقيل كان قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر ، وقيل ثلاثة أشهر ، ووقع في حديث شريك بن أبي نمرة عن أنس أنه كان قبل أن يوحى إليه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد خطأه غير واحد في ذلك ، ونقل الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين حديث شريك الواقع فيه ذلك بطوله ، ثم قال : هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى بألفاظ غير معروفة.
وقد روي حديث الإسراء عن أنس جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب. وثابت البناني وقتادة فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث.
وأجاب عن ذلك محيي السنة وغيره بما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى ، وكذا اختلف في شهره وليلته فقال النووي في الفتاوى : كان في شهر ربيع الأول ، وقال في شرح مسلم تبعا للقاضي عياض : إنه في شهر ربيع الآخر ، وجزم في الروضة بأنه في رجب ، وقيل : في شهر رمضان ، وقيل : في شوال ، وكان على ما قيل الليلة السابعة والعشرين من الشهر وكانت ليلة السبت كما نقله ابن الملقن عن رواية الواقدي ، وقيل : كانت ليلة الجمعة لمكان فضلها وفضل الإسراء ، ورد بأن جبرائيل عليه السلام صلّى بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أول يوم بعد الإسراء الظهر ولو كان يوم الجمعة لم يكن فرضها الظهر قاله محمد بن عمر السفيري ، وفيه أن العمري ذكر في شرح ذات الشفاء أن الجمعة والجنازة وجبتا بعد الصلوات الخمس ، وفي شرح المنهاج للعلامة ابن حجر إن صلاة الجمعة فرضت بمكة ولم تقم بها لفقد العدد أو لأن شعارها الإظهار وكان صلّى اللّه عليه وسلّم بها مستخفيا ، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة.
ونقل الدميري عن ابن الأثير أنه قال : الصحيح عندي أنها كانت ليلة الاثنين واختاره ابن المنير ، وفي البحر قيل إن الإسراء كان في سبع عشرة من شهر ربيع الأول والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما ، وحكى أنها ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر عن الجرمي ، وهي على ما نقل السفيري عن الجمهور أفضل الليالي حتى ليلة القدر مطلقا ، وقيل هي أفضل بالنسبة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أمته عليه الصلاة والسلام
___________
(1) رأيت في بعض الكتب أنه يوم الأربعاء ا ه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 9
فهي أفضل مطلقا نعم لم يشرع التعبد فيها والتعبد في ليلة القدر مشروع إلى يوم القيامة واللّه تعالى أعلم. واختلف أيضا أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه في المنام.
وروي ذلك عن عائشة ومعاوية رضي اللّه تعالى عنهما ، ولعله لم يصح عنها كما في البحر ، وكانت رضي اللّه تعالى عنها إذ ذاك صغيرة ولم تكن زوجته عليه الصلاة والسلام ، وكان معاوية كافرا يومئذ ، واحتج لذلك بقوله تعالى :
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء : 60] لأن الرؤيا تختص بالنوم لغة ، ووقع في حديث شريك المتقدم ما يؤيده ، وذهب الجمهور إلى أنه في اليقظة ببدنه وروحه صلّى اللّه عليه وسلّم والرؤيا تكون بمعنى الرؤية في اليقظة كما في قول الراعي يصف صائدا :
وكبر للرؤيا وهش فؤاده وبشر قلبا كان جما بلاله
وقال الواحدي : إنها رؤية اليقظة ليلا فقط وخبر شريك لا يعول عليه على ما نقل عن عبد الحق ، وقال النووي :
وأما ما وقع في رواية عن شريك وهو نائم وفي أخرى عنه بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك أول وصول الملك إليه وليس في الحديث ما يدل على كونه صلّى اللّه عليه وسلّم نائما في القصة كلها. واحتج الجمهور لذلك بأنه لو كان مناما ما تعجب منه قريش ولا استحالوه لأن النائم قد يرى نفسه في السماء ويذهب من المشرق إلى المغرب ولا يستبعده أحد ، وأيضا العبد ظاهر في الروح والبدن ، وذهبت طائفة منهم القاضي أبو بكر. والبغوي إلى تصديق القائلين بأنه في المنام والقائلين بأنه في اليقظة وتصحيح الحديثين في ذلك بأنّ الإسراء كان مرتين إحداهما في نومه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل النبوة فأسرى بروحه توطئة وتيسيرا لما يضعف عنه قوى البشر وإليه الإشارة بقوله تعالى : وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ثم أسرى بروحه وبدنه بعد النبوة قال في الكشف : وهذا هو الحق وبه يحصل الجمع بين الأخبار.
وحكى المازري في شرح مسلم قولا رابعا جمع به بين القولين فقال : كان الإسراء بجسده صلّى اللّه عليه وسلّم في اليقظة إلى بيت المقدس فكانت رؤية عين ثم أسرى بروحه الشريفة عليه الصلاة والسلام منه إلى ما فوقه فكانت رؤيا قلب ولذا شنع الكفار عليه الصلاة والسلام
قوله : أتيت بيت المقدس في ليلتي هذه
ولم يشنعوا عليه قوله فيما سوى ذلك ولم يتعجبوا منه لأن الرؤيا ليست محل التعجب ، وليس معنى الإسراء بالروح الذهاب يقظة كالانسلاخ الذي ذهب إليه الصوفية والحكماء فإنه وإن كان خارقا للعادة ومحلا للتعجب أيضا إلا أنه أمر لا تعرفه العرب ولم يذهب إليه أحد من السلف ، والأكثر على أن المعراج كالإسراء بالروح والبدن ولا استحالة في ذلك فقد ثبت بالهندسة أن مساحة قطر جرم الأرض ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعون فرسخا ونصف فرسخ وأن مساحة قطر كرة الشمس خمسة أمثال ونصف مثل لقطر جرم الأرض وذلك أربعة عشر ألف فرسخ وأن طرف قطرها المتأخر يصل موضع طرفه المتقدم في ثلثي دقيقة فتقطع الشمس بحركة الفلك الأعظم أربعة عشر ألف فرسخ في ثلثي دقيقة من ساعة مستوية.
وذكر الإمام في الأربعين أن الأجسام متساوية في الذوات والحقائق فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على غيره من الأعراض لأن قابلية ذلك العرض إن كان من لوازم تلك الماهية فأينما حصلت حصل لزم حصول تلك القابلية فوجب أن يصح على كل منها ما يصح على الآخر ، وإن لم يكن من لوازمها كان من عوارضها فيعود الكلام فإن سلم وإلا دار أو تسلسل وذلك محال فلا بد من القول بالصحة المذكورة واللّه تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر على أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو فيما يحمله ، وقال العلامة البيضاوي :
الاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 10
وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية إلى آخر ما قال ، وما ذكرناه هو الصواب في التعبير فإن المقدمتين اللتين ذكرهما ممنوعتان ، أما الأولى بأن النسبة التي ذكرها إنما هي نسبة جرم الشمس إلى جرم الأرض كما برهنوا عليه في باب مقادير الأجرام والأبعاد من كتب الهيئة لكنهم قالوا جرم الشمس مثل جرم الأرض مائة وستة وستين مرة وربع مرة وثمن مرة.
والعلامة جعل ذلك نسبة القطر إلى القطر لأنه المتبادر مما بين الطرفين ، وإرادة الجرم منه خلاف الظاهر جدا ، وكان يكفيه لو أراد ذلك أن يقول : قرص الشمس ضعف كرة الأرض فأي معنى لما زاده ، وأما الثانية فإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الدرجة الفلكية التي هي ستون دقيقة فمنعها بما حرره العلامة القطب الشيرازي في نهاية الإدراك حيث قال : مقدار الدرجة الواحدة من مقعر الفلك الأطلس بالأميال 9343593 ميلا فالفلك الأعلى يقطع فيما مقداره من الزمان جزء واحد من خمسة عشر جزءا من ساعة مستوية وهو ثلث خمسها هذا المقدار من الأميال فإذا تحرك مقدار دقيقة وهي جزء من تسعمائة جزء من ساعة مستوية كان قدر قطعه من المسافة 155718 ميلا وسدس ميل وخمس ربع أو ربع خمس ميل ، ولأن حين ما يبدو قرن الشمس إلى أن تطلع بالتمام يكون بقدر ما يعد واحد من واحد إلى ثلاثمائة فبمقدار ما يعد ثلاثين يتحرك الفلك 155718 ميلا وهو ألف وسبعمائة واثنان وثلاثون فرسخا من مقعره واللّه تعالى أعلم بما يتحرك محدبه حينئذ فسبحان اللّه تعالى ما أعظم شأنه اه.
وحاصل ذلك أن الفلك الأعظم يتحرك من ابتداء طلوع جرم الشمس إلى أن يطلع بتمامه سدس درجة وهو عشر دقائق من ستين دقيقة من درجة فلكية ومقدار مساحة هذه الدقائق 519600 أي خمسمائة ألف وتسعة عشر ألفا وستمائة فرسخ وإذا جعلنا هذه الدقائق ثواني كانت ستمائة ثانية فأين الأقل من ثانية.
وإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الساعة التي هي ربع الدرجة الفلكية فسدس الدرجة هاهنا يكون ثلثي دقيقة وإذا جعلنا ثلثي الدقيقة ثواني كانا أربعين ثانية وهذه الثواني الستمائة بعينها إلا أن المنجمين لما جعلوا الساعة ستين دقيقة تسهيلا للحساب والساعة عبارة عن خمسة عشر درجة فلكية اقتضى أن تكون الدرجة الفلكية وكل ثانية من ثواني دقيقة الساعة بخمسة عشر ثانية من ثواني دقيقة الدرجة الفلكية فالخلاف بين ثواني دقائق الدرجة الفلكية وثواني دقيقة الساعة اعتبار لفظي وأجاب عبد الرحمن الكردي الشهير بالفاضل بأن الثانية جزء من ستين جزءا من دقيقة والدقيقة قد تطلق على جزء من ستين جزءا من درجة وقد تطلق على جزء من ستين جزءا من ساعة وقد تطلق على جزء من ستين جزءا من يوم بليلته ، ومراد العلامة البيضاوي من الثانية الثانية الثالثة لا الثانية الأولى وهو ظاهر ولا الثانية الثانية كما ذهب إليه سعدي جلبي وتبعه ابن صدر الدين ، وفيه أنه يفهم منه أن الفلكيين قد يقسمون اليوم بليلته إلى ستين دقيقة كما يقسمونها إلى الساعات والدرجات والدقائق قسمة يتميز بها أجزاء الزمان ولم يقل بذلك أحد منهم وإنما ذكر ذلك بعضهم تسهيلا لمعرفة الكسر الزائد على الأيام التامة من السنة لتعرف منه السنة الكبيسة في ثلاث سنين أو أربع سنين وهو بمعزل عما نحن فيه من قطع المسافة البعيدة بالزمان القليل ولو سلمنا ما زعمه كان ناقصا من مدة حركة الفلك الأعظم من ابتداء طلوع قرص الشمس إلى انتهائه وهو ثلثا دقيقة هما أربعون ثانية وذلك جزء من تسعين جزءا من ساعة مستوية كما حرره العلامة الشيرازي ، وما ذكره من أن الثانية من دقيقة اليوم بليلته عبارة عن أربعة وعشرين ثانية من ثواني دقيقة الساعة ، وهي أقل من ثلثي دقيقة بستة عشر ثانية خطأ على خطأ تلك أذن قسمة ضيزى ، نعم قد أصاب في الرد على الفاضلين وقد أخطأ الفاضل الأول في غير ذلك في هذا
المقام كما لا يخفى على من وقف على كلامه وكان له أدنى اطلاع ، على كتب القوم ، ولتداول هذا المبحث بين الطلبة وعدم وجدانهم من يبل غليلهم تعرضنا له بما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 11
نرجو أن يبل به الغليل ، هذا والعلماء درجات واللّه تعالى الموفق لفهم الدقائق فتأمل مرة وثانية وثالثة فلعل اللّه سبحانه أن يفتح عليك غير ذلك ، وما ذكر من تساوي الأجسام مبني على ما قيل على تركبها من الجواهر الفردة وفيه خلاف النظام والفلاسفة ، والبحث في ذلك طويل ، ولا يستدل على الاستحالة بلزوم الخرق والالتئام ، وقد برهنوا على استحالة ذلك لأنا نقول : إن برهانهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت كما بين في محله ، ولم تتعرض الآية لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان في الإسراء به محمولا على شيء لكن صحت الأخبار بأنه عليه الصلاة والسلام أسري به على البراق إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وهو بيت المقدس ، ووصفه بالأقصى أي الأبعد بالنسبة إلى من بالحجاز ، وقال غير واحد : إنه سمي به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد الحرام وبينهما نحو من أربعين ليلة ، وقيل : لأنه ليس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يراد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين ما سواه وهو بعيد في نفسه للزائرين ، وقيل المراد بعده عن الأقذار والخبائث. واختلف في ركوب جبريل عليه السلام معه فقيل : ركب خلفه عليه الصلاة والسلام. والصحيح أنه لم يركب بل أخذ بركابه وميكائيل يقود البراق. واختلف أيضا في استمراره عليه عليه الصلاة والسلام في عروجه إلى السماء فقيل : عرج عليه ، والصحيح أنه نصب له معراج فعرج عليه ، وجاء في وصفه وعظمه ما جاء ، ووهم الحافظ ابن كثير كما قال الحلبي القائلين ومنهم صاحب الهمزية إن عروجه صلّى اللّه عليه وسلّم على البراق.
ومن الأكاذيب المشهورة أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما أراد العروج صعد على صخرة بيت المقدس وركب البراق فمالت الصخرة وارتفعت لتلحقه فأمسكتها الملائكة ففي طرف منها أثر قدمه الشريف وفي الطرف الآخر أثر أصابع الملائكة عليهم السلام فهي واقفة في الهواء قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض سبحانه وتعالى ، وذكر العلائي في تفسيره أنه كان للنبي عليه الصلاة والسلام
ليلة الإسراء خمسة مراكب ، الأول البراق إلى بيت المقدس ، الثاني المعراج منه إلى السماء الدنيا ، الثالث أجنحة الملائكة منها إلى السماء السابعة ، الرابع جناح جبريل عليه السلام منها إلى سدرة المنتهى ، الخامس الرفرف منها إلى قاب قوسين ، ولعل الحكمة في الركوب إظهار الكرامة وإلا فاللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يوصله إلى أي موضع أراد في أقل من طرفة عين ، وقيل لم يكن إلا البراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والمعراج منه إلى حيث شاء اللّه تعالى وقد كان له عشر مراقي سبعة إلى السموات والثامن إلى السدرة والتاسع إلى المستوي الذي سمع فيه صريف الأقلام والعاشر إلى العرش واللّه تعالى أعلم.
ومن العجائب ما سمعته عن الطائفة الكشفية والعهدة على الراوي أن للروح جسدين جسد من عالم الغيب لطيف لا دخل للعناصر فيه وجسد من عالم الشهادة كثيف مركب من العناصر والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين عرج به ألقى كل عنصر من عناصر الجسد العنصري في كرته فما وصل إلى تلك القمر حتى ألقى جميع العناصر ولم يبق معه إلا الجسد اللطيف فرقى به حيث شاء اللّه تعالى ، ثم لما رجع عليه الصلاة والسلام رجع إليه ما ألقاه واجتمع فيه ما تفرق منه ، ولعمري أنه حديث خرافة لا مستند له شرعا ولا عقلا.
وذكر مولانا عبد الرحمن الدشتي ثم الجامي أن المعراج إلى العرش بالروح والجسد وإلى ما وراء ذلك بالروح فقط وأنشد بالفارسية :
جو رفرف شد مشرف از وجودش كرفت از دست رفرف عرش زودش
بدست عرش تن جون خرقه بگذاشت علم بر لا مكان بي خرقه افراشت
كلى برد ندا زين دهليزه يست بدان دركاه والا دست بر دست
جهت را مهره از ششدر رهانيد مكانرا مركب از تنكي جهانيد

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 12
مكاني يافت خالي از مكان نيز كه تن محرم نبود آنجا وجان نيز
ولم أقف على مستند له من الآثار وكأنه لاحظ أن العروج فوق العرش بالجسد يستدعي مكانا ، وقد تقرر عند الحكماء أن ما وراء العرش لا خلا ولا ملا وبه تنتهي الأمكنة وتنقطع الجهات ، وقال بعضهم : أمر المعراج أجل من أن يكيف وماذا عسى يقال سوى أن المحب القادر الذي لا يعجزه شيء دعا حبيبه الذي خلقه من نوره إلى زيارته وأرسل إليه من أرسل من خواص ملائكته فكان جبريل هو الآخذ بركابه وميكائيل الآخذ بزمام دابته إلى أن وصل إلى ما وصل ثم تولى أمره سبحانه بما شاء حتى حصل فأي مسافة تطول على ذلك الحبيب الرباني وأي جسم يمتنع عن الخرق لذلك الجسد النوراني :
جز بحزوى فثم عالم لطف من بقايا أجساده الأرواح
ومن تأمل في العين وإحساسها بالقريب والبعيد ولو كان فاقدها وذكر له حالها لأنكر ذلك إنكارا ما عليه مزيد ، وكذا في غير ذلك من آثار قدرة اللّه تعالى الظاهرة في الأنفس والآفاق والواقع على جلالة قدرها الاتفاق لم يسعه إلا تسليم ما نطقت به الآيات وصحت به الروايات ، ويشبه كلام هذا البعض ما قاله بعض شعراء الفرس إلا أن فيه ميلا إلى مذهب أهل الوحدة وهو قوله :
قصه بيرنگ معراج از من بيدل مپرس قطره دريا كشت وبيغمر نميدانم چه شد
والظاهر أن المسافة التي قطعها عليه الصلاة والسلام في مسيره كانت باقية على امتدادها. ويؤيد ذلك ما ذكره الثعلبي في تفسيره في وصف البراق أنه إذا أتى واديا طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أتى عقبة طالت رجلاه وقصرت يداه وكانت المسافة في غاية الطول ، ففي حقائق الحقائق كانت المسافة من مكة إلى المقام الذي أوحى اللّه تعالى فيه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام ما أوحى قدر ثلاثمائة ألف سنة ، وقيل : خمسين ألفا ، وقيل غير ذلك ، وأنه ليس هناك طي مسافة على نحو ما يثبته الصوفية وبعض الفقهاء للأولياء كرامة ، وجهل بعض الحنفية مثبتيه لهم وكفرهم آخرون وليس له وجه ظاهر ، وربما يلزم مثبتيه القول بتداخل الجواهر والفلاسفة والمتكلمون سوى النظام يحيلونه ويبرهنون على استحالته ، وادعى بعضهم الضرورة في ذلك وقالوا : المنع مكابرة ، وقد أثبت الصوفية للأولياء نشر الزمان ولهم في ذلك حكايات عجيبة واللّه تعالى أعلم بصحتها ، ولم أر من تعرض لذلك من المتشرعين وهو أمر وراء عقولنا المشوبة بالأوهام ، ومثله في ذلك قول من قال : الأزل والأبد نقطة واحدة الفرق بينهما بالاعتبار ، وليس لفهم ذلك عندي إلا المتجردون من جلابيب أبدانهم وقليل ما هم ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في باب الإشارة حكاية إنكار طي المسافة أيضا وذكر ما فيه واللّه تعالى الموفق.
وإنما أسرى به صلّى اللّه عليه وسلّم ليلا لمزيد الاحتفال به عليه الصلاة والسلام فإن الليل وقت الخلوة والاختصاص ومجالسة الملوك ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلا إلا من هو خاص عنده وقد أكرم اللّه تعالى فيه قوما من أنبيائه عليهم السلام بأنواع الكرامات وهو كالأصل للنهار ، وأيضا لاهتداء فيه للمقصد أبلغ من الاهتداء في النهار ، وأيضا قالوا : إن المسافر يقطع في الليل ما لا يقطع في النهار ومن هنا جاء عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل ما لا تطوي بالنهار ، وأيضا أسرى به ليلا ليكون ما يعرج إليه من عالم النور المحض أبعد عن الشبه بما يعرج منه من عالم الظلمة وذلك أبلغ في الإعجاب.
وقال ابن الجوزي في ذلك : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سراج والسراج لا يوقد إلا ليلا وبدر وكذا مسير البدر في الظلم إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى ، ثم إن الآية ليست نصا في دخوله عليه الصلاة والسلام المسجد

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 13
الأقصى إلا أن الأخبار الصحيحة نص في ذلك ، وقوله سبحانه : الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صفة مدح وفيها إزالة اشتراك عارض ، وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء عليهم السلام وقبلة لهم وكثرة الأنهار والأشجار حوله ، وفي الحديث أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس. وقيل : بركته أن جعل سبحانه مياه الأرض كلها تنفجر من تحت صخرته واللّه تعالى أعلم بصحة ذلك ، وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال ، والأربع التي يمنع من دخولها الدجال فقد أخرج أحمد في المسند أن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد مسجد المدينة ومسجد مكة والأقصى والطور والصلاة فيه مضاعفة فقد أخرج أحمد أيضا ، وأبو داود وابن ماجة عن ميمونة مولاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنها قالت : يا نبي اللّه أفتنا في بيت المقدس قال : أرض المحشر والمنشر ائتوه وصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة.
وفي رواية لأحمد عن بعض نسائه عليه الصلاة والسلام أنها قالت : يا رسول اللّه فإن لم تستطع إحدانا أن تأتيه قال : إذا لم تستطع إحداكن أن تأتيه فلتبعث إليه زيتا يسرج فيه فإن من بعث إليه بزيت يسرج فيه كان كمن صلى فيه ، وروى بعضه أبو داود
، وهو ثاني مسجد وضع في الأرض
لخبر أبي ذر قلت : يا رسول اللّه أي مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال : المسجد الحرام قلت : ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى قلت : كم بينهما قال : أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل فإن الفضل فيه
، وقد أسسه يعقوب عليه السلام بعد بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة بما ذكر في الحديث وجدده سلمان أو أتم تجديد أبيه عليهما السلام بعد ذلك بكثير ، والكلام فيما يتعلق بذلك مفصل في محله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي لنرفعه إلى السماء حتى يرى ما يرى من العجائب العظيمة. فقد صح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم عرج به من صخرة بيت المقدس كما تقدم واجتمع في كل سماء مع نبي من الأنبياء عليهم السلام كما في صحيح البخاري وغيره ، واطلع عليه الصلاة والسلام على أحوال الجنة والنار ورأى من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا اللّه تعالى.
ونقل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام رأى ليلة المعراج في مملكة اللّه تعالى خلقا كهيئة الرجال على خيل بلق شاكين السلاح طول الواحد منهم ألف عام والفرس كذلك يتبع بعضهم بعضا لا يرى أولهم ولا آخرهم فقال يا جبريل من هؤلاء؟ فقال : ألم تسمع قوله تعالى : وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر : 31] فأنا أهبط وأصعد أراهم هكذا يمرون لا أدري من أين يجيئون ولا إلى أين يذهبون
،
وقد صلى صلّى اللّه عليه وسلّم بالأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس ،
قال في العقائق : وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام بهم ركعتين قرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية الإخلاص
وقال بعضهم : كانت دعاء وذكر أن الأنبياء كانوا سبعة صفوف ثلاثة منهم مرسلون وأن الملائكة عليهم السلام صلت معهم وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام كما قال القاضي زكريا في شرح الروض ، والحكمة في ذلك أن يظهر أنه إمام الكل عليه الصلاة والسلام ، وهل صلى بأرواحهم خاصة أو بها مع الأجساد فيه خلاف ، وكذا اختلف في أنه صلّى اللّه عليه وسلّم صلى بهم قبل العروج أو بعده فصحح الحافظ ابن كثير أنه بعده وصحح القاضي عياض وغيره أنه قبله ، وجاء في رواية أنه عليه الصلاة والسلام صلى في كل سماء ركعتين يؤم أملاكها ، وكان الإسراء والعروج في بعض ليلة واحدة وكان رجوعه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما كان ذهابه عليه ولم يعين مقدار ذلك البعض ، وكيفما كان فوقوع ما وقع فيه من أعجب الآيات وأغرب الكائنات ، وفي بعض الآثار أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما رجع وجد فراشه لم يبرد من أثر النوم
، وقيل : إن غصن شجرة أصابه بعمامته في ذهابه فلما رجع وجده بعد يتحرك ، وزعم بعضهم أن ليلة الإسراء غير ليلة المعراج وظاهر الآية على ما سمعت يقتضي أنهما في ليلة واحدة وإنما أسري به صلّى اللّه عليه وسلّم أولا إلى بيت المقدس وعرج به ثانيا منه ليكون وصوله إلى الأماكن الشريفة على التدريج فإن شرف بيت المقدس دون شرف

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 14
الحضرة التي عرج إليها على ما قيل ، وقيل : توطينا له عليه الصلاة والسلام لما في المعراج من الغرابة العظيمة التي ليست في الإسراء وإن كان غريبا أيضا ، وقيل : لتتشرف به أرض المحشر ذهابا وإيابا ، وقيل : لأن باب السماء الذي يقال مصعد الملائكة عليهم السلام على مقابلة صخرة بيت المقدس فقد نقل عن كعب الأحبار أنه قال : إن للّه تعالى بابا مفتوحا من سماء الدنيا إلى بيت المقدس ينزل منه كل يوم سبعون ألف ملك يستغفرون لمن أتى بيت المقدس وصلى فيه فأسرى به صلّى اللّه عليه وسلّم إلى هناك أولا ثم عرج به ليكون صعوده على الاستواء ، وقيل : إن أسطوانات المسجد قالت ربنا حصل لنا من كل نبي حظ وقد اشتقنا إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فارزقنا لقاءه فبدىء بالإسراء به إلى المسجد تعجيلا للإجابة ، وقيل : غير ذلك.
وعبر بمن الدالة على التبعيض لأن إراءة جميع آيات اللّه تعالى لعدم تناهيها مما لا تكاد تقع ولو قيل آياتنا لتبادر الكل ، وربما يستعان بالمقام على إرادته واستشكل بأنه كيف يرى نبيناصلّى اللّه عليه وسلّم بعض الآيات ويرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض كما نطق به قوله تعالى : وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام :
75] وفرق بين الحبيب والخليل ، وأجيب بأن بعض الآيات المضافة إليه تعالى أشرف وأعظم من ملكوت السموات والأرض كما قال تعالى : لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم : 18] ، وقال الخفاجي : السؤال غير وارد لأن ما رآه إبراهيم عليه السلام ما فيها من الدلائل والحجج وليس ذلك مقاوما للمعراج فتأمل.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية لنرى محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم للناس آية من آياتنا أي ليكون عليه الصلاة والسلام آية في أنه يصنع اللّه تعالى ببشر هذا الصنع ، ويندفع بهذا السؤال المذكور إلا أنه احتمال في غاية البعد ، ثم لا يخفى أنه ليس في الآية إشارة إلى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى ربه ليلة الإسراء إذ لا يصدق عليه تعالى أنه من آياته بل لا يصدق سبحانه أنه آية ، نعم مثبتو الرؤية يحتجون بغير ذلك ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وكذا ليست الآية نصا في المعراج بل هي نص في الإسراء دونه إذ يجوز حمل بعض الآيات على ما حصل له صلّى اللّه عليه وسلّم في الإسراء فقط بل قال بعضهم : ليس في الآيات مطلقا ما هو نص في ذلك ، من هنا قالوا : الإسراء إلى بيت المقدس قطعي ثبت بالكتاب فمن أنكره فهو كافر والمعراج ليس كذلك فمن أنكره فليس بكافر بل مبتدع وكأنه سبحانه إنما لم يصرح به كما صرح بالإسراء رحمة بالقاصرين على ما قيل ، وفي التفسير الخازني أن فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط دون السماء أنه لو ذكر صعوده عليه الصلاة والسلام لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسري به إلى بيت المقدس وبأن لهم صدقة فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بمعراجه إلى السماء فكان الإسراء كالتوطئة للمعراج اه وهذا ظاهر في الخبر الوارد في هذا الباب لا في الآية لأنه لم يخبر فيها بالمعراج كما أخبر فيها بالإسراء دلالة ، وقيل : إن الإشارة بعد ذلك التصريح كافية فتدبر ، وصرف الكلام من الغيبة التي في قوله سبحانه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ إلى صيغة المتكلم المعظم في بارَكْنا «ونريه آياتنا» لتعظيم البركات والآيات لأنها كما تدل على تعظيم مدلول الضمير تدل على عظم ما أضيف إليه وصدر عنه كما قيل إنما يفعل العظيم العظيم ، وقد ذكروا لهذا التلوين نكتة خاصة وهي أن قوله تعالى : الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ
لَيْلًا يدل على مسيره عليه الصلاة والسلام من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فهو بالغيبة أنسب وقوله تعالى : بارَكْنا حَوْلَهُ دل على إنزال البركات فيناسب تعظيم المنزل والتعبير بضمير العظمة متكفل بذلك ، وقوله سبحانه : لِنُرِيَهُ على معنى بعد الاتصال وعز الحضور فيناسب التكلم معه ، وأما الغيبة فلكونه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ ذاك ليس من عالم الشهادة ولذا قيل إن فيه إعادة إلى مقام السر والغيبوبة من هذا العالم والغيبة بذلك أليق وقوله تعالى : مِنْ آياتِنا عود إلى التعظيم كما سبقت الإشارة إليه ، وأما الغيبة في قوله عز وجل :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 15
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ على تقدير كون الضمير له تعالى كما هو الأظهر وعليه الأكثر فليطابق قوله تعالى :
بِعَبْدِهِ ويرشح ذلك الاختصاص بما يوقع هذا الالتفات أحسن مواقعه وينطبق عليه التعليل أتم انطباق إذا لمعنى قربه وخصه بهذه الكرامة لأنه سبحانه مطلع على أحواله عالم باستحقاقه لهذا المقام ، قال الطيبي : إنه هو السميع لأقوال ذلك العبد البصير بأفعاله بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الهوى مقرونة بالصدق والصفا مستأهلة للقرب والزلفى ، وأما على تقدير كون الضمير للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما نقله أبو البقاء عن بعضهم وقال : أي السميع لكلامنا البصير لذاتنا ، وقال الجلبي : إنه لا يبعد ، والمعنى عليه إن عبدي الذي شرفته بهذا التشريف هو المستأهل له فإنه السميع لأوامري ونواهي العامل بهما البصير الذي ينظر بنظرة العبرة في مخلوقاتي فيعتبر أو البصير بالآيات التي أريناه إياها كقوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم : 17] فقيل لمطابقة الضمائر العائدة عليه وكذا لما عبر به عنه من قوله سبحانه : «عبده» ، وقيل : للإشارة إلى اختصاصه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمنح والزلفى وغيبوبة شهوده في عين بي يسمع وبي يبصر ، ولا يمتنع إطلاق السميع والبصير على غيره تعالى كما توهم لا مطلقا ولا هنا ، قال الطيبي : ولعل السر في مجىء الضمير محتملا للأمرين الإشارة إلى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم إنما رأى رب العزة وسمع كلامه به سبحانه كما في الحديث المشار إليه آنفا فافهم تسمع وتبصر ، وتوسيط ضمير الفصل إما لأن سماعه تعالى بلا إذن وبصره بلا عين على نحو لا يشاركه فيه تعالى أحد وإما للإشعار باختصاصه صلّى اللّه عليه وسلّم بتلك الكرامة.
وزعم ابن عطية أن قوله تعالى : إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وعيد للكفار على تكذيبهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في أمر الإسراء أي إنه هو السميع لما تقولون أيها المكذبون البصير بما تفعلون فيعاقبكم على ذلك.
وقرأ الحسن «ليريه» بياء الغيبة ففي الآية حينئذ أربع التفاتات وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَجَعَلْناهُ أي الكتاب وهو الظاهر أو موسى عليه السلام هُدىً عظيما لِبَنِي إِسْرائِيلَ متعلق بهدى أو بجعل واللام تعليلية والواو استئنافية أو عاطفة على جملة سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى لا على أَسْرى كما نقله في البحر عن العكبري.
وحكى نظيره عن ابن عطية لبعده وتكلفه ، وعقب آية الإسراء بهذه استطرادا تمهيدا لذكر القرآن ، والجامع أن موسى عليه السلام أعطى التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه لأنه منح ثمت التكليم وشرف باسم الكليم وطلب الرؤية مدمجا فيه تفاوت ما بين الكتابين ومن أنزلا عليه وإن شئت فوازن بين أَسْرى بِعَبْدِهِ وآتَيْنا مُوسَى وبين هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ويَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء : 9] أَلَّا تَتَّخِذُوا أي أي لا تتخذوا على أن أن تفسيرية ولا ناهية ، والتفسير كما قال أبو البقاء لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي ، وقيل لمحذوف أي آتينا موسى كتابة شيء هو لا تتخذوا ، والكتاب وإن كان المراد به التوراة فهو مصدر في الأصل ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر.
وجوز في البحر أن تكون أن مصدرية والجار قبلها محذوف ولا نافية أي لئلا تتخذوا ، وقيل يجوز أن تكون أن وما بعدها في موضع البدل من الْكِتابَ وجوز أبو البقاء أن تكون زائدة ولا تَتَّخِذُوا معمول لقول محذوف ولا فيه للنهي أي قلنا لا تتخذوا. وتعقبه أبو حيان بأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة أن.
وكذا جوز أن تكون لا زائدة كما في قوله تعالى : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف : 12] والتقدير كراهة أن تتخذوا ولا يخفى ما فيه.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة أن لا تتخذوا بياء الغيبة ، وجعل غير واحد أن على ذلك مصدرية ولم يذكروا فيها احتمال كونها مفسرة ، وقال شيخ زاده : لا وجه لأن تكون أن مفسرة على القراءة بياء الغيبة لأن ما في حيز المفسرة مقول من حيث المعنى والذي يلقى إليه القول لا بد أن يكون مخاطبا كما لا وجه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 16
لكونها مصدرية على قراءة الخطاب لأن بني إسرائيل غيب فتأمل. والجار عندهم على كونها مصدرية محذوف أي لأن لا يتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا أي ربا تكلون إليه أموركم غيري فالوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكول إليه أي المفوض إليه الأمور وهو الرب ، قال ابن الجوزي : قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل ومِنْ سيف خطيب ودون بمعنى غير وقد صرح بمجيئها كذلك في غير موضع وهي مفعول ثان لتتخذوا ووَكِيلًا الأول.
وجوز أن تكون من تبعيضية واستظهر الأول ، والمراد النهي عن الإشراك به تعالى : ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نصب على الاختصاص أو على النداء والمراد الحمل على التوحيد بذكر إنعامه تعالى عليهم في تضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح عليه السلام حين ليس لهم وكيل يتوكلون عليه سواه تعالى ، وخص مكي النداء بقراءة الخطاب قال : من قرأ «يتخذوا» بياء الغيبة يبعد معه النداء لأن الياء للغيبة والنداء للخطاب فلا يجتمعان إلا على بعد ونعم ما قال ، وقول بعضهم : ليس كما زعم إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصا ويخبر عن أحد فيقول : يا زيد ينطلق بكر وفعلت كذا يا زيد ليفعل عمرو كيت وكيت إن كما زعم لا يدفع البعد الذي ادعاه مكي.
وجوز أن يكون أحد مفعولي تَتَّخِذُوا ووَكِيلًا الآخر هو لكونه فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد المذكر وغيره فلا يرد أنه كيف يجوز أن يكون مفعولا ثانيا والمفعول الثاني خبر معنى وهو غير مطابق هنا ومِنْ دُونِي حال منه ومِنْ يجوز أن تكون ابتدائية.
وجوز أيضا أن يكون بدلا من وَكِيلًا لأن المبدل منه ليس في حكم الطرح من كل الوجوه أي لا تتخذوا من دوني ذرية من حملنا والمراد نهيهم عن اتخاذ عزيز. وعيسى عليهما السلام ونحوهما أربابا. وفي التعبير بما ذكر إيماء إلى علة النهي من أوجه ، أحدها تذكير النعمة في إنجاء آبائهم كما ذكر ، والثاني تذكير ضعفهم ، وحالهم المحوج إلى الحمل ، والثالث أنهم أضعف منهم لأنهم متولدون منهم ، وفي إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر ، وجوز أبو البقاء كونه بدلا من مُوسَى وهو بعيد جدا. وقرأت فرقة «ذرّيّة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ذرية ولا بعد فيه كما توهم أو على البدل من ضمير «يتخذوا» قال أبو البقاء : على القراءة بياء الغيبة ، وقال ابن عطية ولا يجوز هذا على القراءة بتاء الخطاب لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه الاسم الظاهر ، وتعقبه أبو حيان في البحر بأن المسألة تحتاج إلى تفصيل وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة إن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف أيضا نحو مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في لسان العرب.
وقد استدل على صحته في شرح التسهيل ، وقرأ زيد بن ثابت وأبان ابن عثمان وزيد بن علي ومجاهد في رواية بكسر ذال «ذرية» وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قرأ بفتحها ، وعن زيد بن ثابت أيضا أنه قرأ «ذريّة» بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعلية كمطية إِنَّهُ أي نوحا عليه السلام كانَ عَبْداً شَكُوراً كثير الشكر في مجامع حالاته.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن سلمان الفارسي قال : كان نوح عليه السلام إذا لبس ثوبا أو طعم طعاما حمد اللّه تعالى فسمي عبدا شكورا ، وأخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد عن إبراهيم قال : شكره عليه السلام أن يسمي إذا أكل ويحمد اللّه تعالى إذا فرغ.
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إنما سمى اللّه تعالى نوحا عبدا شكورا لأنه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 17
كان إذا أمسى وأصبح قال : فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» [الروم : 17 ، 18]
وأخرج البيهقي وغيره عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن نوحا لم يقم عن خلاء قط إلا قال : الحمد للّه الذي أذاقني لذته وأبقى في منفعته وأذهب عني أذاه»
وهذا من جملة شكره عليه السلام.
وفي هذه الجملة إيماء بأن إنجاء من معه عليه السلام كان ببركة شكره وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفر ، وهذا وجه ملاءمتها لما تقدم ، وقال الزمخشري : يجوز أن يقال ذلك عن ذكره على سبيل الاستطراد وحينئذ فلا يطلب ملاءمته مع ما سبق له الكلام إلا من حيث إنه كان من شأن من ذكر أعني نوحا عليه السلام ، وقيل ضمير إِنَّهُ عائد على موسى عليه السلام والجملة مسوقة على وجه التعليل إما لإيتاء الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى بناء على أن ضمير جَعَلْناهُ له أو للنهي عن الاتخاذ وفيه بعد فتدبر.
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أي أعلمناهم ، وزاد الراغب وأوحينا إليهم وحيا جزما ، وصرح غير واحد بتضمن القضاء معنى الإيحاء ولهذا عدي بإلى ، والوحي إليهم إعلامهم ولو بالواسطة ، وقيل إلى بمعنى على وروي ذلك أيضا عن ابن عباس : قال أي قضينا عليهم فِي الْكِتابِ أي التوراة أو الجنس بدليل قراءة أبي العالية وابن جبير «الكتب» بصيغة الجمع والظاهر الأول على الأول واللوح المحفوظ على الأخير ، وأخرج ابن المنذر والحاكم عن طاوس قال : كنت عند ابن عباس ومعنا رجل من القدرية فقلت : إن أناسا يقولون لا قدر قال : أو في القوم أحد منهم ، قلت : لو كان ما كنت تصنع به؟ قال : لو كان فيهم أحد منهم لأخذت برأسه ثم قرأت عليه وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ جواب قسم محذوف ، وحذف متعلق القضاء أيضا للعلم به ، والتقدير وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم وعلوهم واللّه لتفسدن إلخ ويكون هذا تأكيدا لتعلق القضاء ، ويجوز جعله جواب قَضَيْنا بإجراء القضاء مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به نحو قضاء اللّه تعالى لأفعلن كذا. والمراد بالأرض الجنس أو أرض الشام وبيت المقدس.
وقرأ ابن عباس ونصر بن علي وجابر بن زيد «لتفسدنّ» بضم التاء وفتح السين مبنيا للمفعول أي يفسدكم غيركم فقيل من الضلال ، وقيل من الغلبة. وقرأ عيسى «لتفسدنّ» بفتح التاء وضم السين على معنى لتفسدن بأنفسكم بارتكاب المعاصي مَرَّتَيْنِ منصوب على أنه مصدر لَتُفْسِدُنَّ من غير لفظه ، والمراد إفسادتين أولاهما على ما نقل السدي عن أشياخه قتل زكريا عليه السلام وروي ذلك عن ابن عباس. وابن مسعود وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا ولم يسمعوا من زكريا فقال اللّه تعالى له : قم في قومك أوح على لسانك فلما فرغ ممّا أوحي عليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ هدية من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسط الشجرة حتى قطعوه في وسطها.
وقيل سبب قتله أنهم اتهموه بمريم عليها السلام قيل قالوا : حين حملت ضيع بنت سيدنا حتى زنت فقطعوه بالمنشار في الشجرة ، وقال ابن إسحق : هي قتل شعيا عليه السلام وقد بعث بعد موسى عليه السلام فلما بلغهم الوحي أرادوا قتله فهرب فقتل وهو صاحب الشجرة وزكريا عليه السلام مات موتا ولم يقتل. وفي الكشاف أولاهما قتل زكريا وحبس أرميا والآخرة قتل يحيى وقصد قتل عيسى عليهما السلام ، وهذا فيمن جعل هلاك زكريا قبل يحيى عليهما السلام وهو رواية ابن عساكر في تاريخه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
، ثم ضم ذلك مع حبس أرميا في قرن غير سديد لأن أرميا كان في زمن بختنصر وبينه وبين زكريا أكثر من مائتي سنة.
واختار بعضهم وقيل : إنه الحق أن الأولى تغيير التوراة وعدم العمل بها وحبس أرميا وجرحه إذ وعظهم وبشرهم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 18
بنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وهو أول من بشر به عليه الصلاة والسلام بعد بشارة التوراة ، والأخرى قتل زكريا ويحيى عليهما السلام ، ومن قال : إن زكريا مات في فراشه اقتصر على يحيى عليه السلام ، واختلف في سبب قتله فعن ابن عباس وغيره أن سبب ذلك أن ملكا أراد أن يتزوج من لا يجوز له تزوجها فنهاه يحيى عليه السلام وكان الملك قد عود تلك المرأة أن يقضي لها كل عيد ما تريد منه فعلمتها أمها أن تسأله دم يحيى في بعض الأعياد فسألته فأبى فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فيه فبدرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى قتل عليها سبعون ألفا.
وقال الربيع بن أنس : إن يحيى عليه السلام كان حسنا جميلا جدا فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبي فقالت لا بنتها : سلي أباك رأس يحيى فسألته فأعطاها إياه ، وقال الجبائي : إن اللّه تعالى ذكر فسادهم في الأرض مرتين ولم يبين ذلك فلا يقطع بشيء مما ذكر وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً لتستكبرن عن طاعة اللّه تعالى أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان وتفرطن في ذلك إفراطا مجاوزا للحد ، وأصل معنى العلو الارتفاع وهو ضد السفل وتجوز به عن التكبر والاستيلاء على وجه الظلم. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «عليا كبيرا» بكسر العين واللام والياء المشددة ، قال في البحر :
والتصحيح في فعول المصدر أكثر بخلاف الجمع فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو لهو ومهو خلافا للفراء إذ جعل ذلك قياسا فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي أولى مرّتي الإفساد.
والوعد بمعنى الموعود مراد به العقاب كما في البحر وفي الكلام تقدير أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود ، وقيل الوعد بمعنى الوعيد وفيه تقدير أيضا ، وقيل بمعنى الوعد الذي يراد به الوقت أي فإذا حان موعد عقاب أولاهما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ أرسلنا لمؤاخذتكم بتلك الفعلة عِباداً لَنا وقال الزمخشري : خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم وفيه دسيسة اعتزال ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون اللّه تعالى أرسل إلى ملك أولئك العباد رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر منه تعالى. وقرأ الحسن وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهم «عبيدا» أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي قوة وبطش في الحروب ، وقال الراغب : البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية ، ومن هنا قيل : إن وصف البأس بالشديد مبالغة كأنه قيل : ذوي شدة شديدة كظل ظليل ولا بأس فيه ، وقيل إنه تجريد وهو صحيح أيضا. واختلف في تعيين هؤلاء العباد فعن ابن عباس وقتادة هم جالوت الجزري وجنوده ، وقال ابن جبير وابن إسحاق هم سنجاريب ملك بابل وجنوده ، وقيل هم العمالقة ، وفي الأعلام للسهيلي هم بختنصر عامل لهراسف أحد ملوك الفرس الكيانية على بابل والروم وجنوده بعثوا عليهم حين كذبوا أرميا وجرحوه وحبسوه قيل وهو الحق.
فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي ترددوا وسطها لطلبكم. قال الراغب : جاسوا الديار توسطوها وترددوا بينها ويقاربه حاسوا وداسوا ، وقرأ «حاسوا» بالحاء أبو السمال وطلحة ، وقرىء أيضا «تجوسوا» بالجيم على وزن تكسورا.
وقال أبو زيد : الجوس والحوس طلب الشيء باستقصاء ، وخِلالَ اسم مفرد ولذا قرأ الحسن «خلل» ويجوز أن يكون خلال جمع خلل كجبال جمع جبل ، ويشير كلام أبي السعود إلى اختياره وكلام البيضاوي إلى اختيار الأول.
وَكانَ أي وعد أولاهما وَعْداً مَفْعُولًا محتم الفعل فضمير كانَ للوعد السابق ، وقيل : للجوس المفهوم من جاسوا والجمهور على أن في هذه البعثة خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ووقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل وحرقت التوراة ، وعن ابن عباس ومجاهد أنه لم يكن ذلك وإنما جاس الغازون خلال الديار وانصرفوا بدون قتال ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي الدولة والغلبة ، وأصل معنى الكر العطف والرجوع ، وإطلاق الكرة على ما ذكر مجاز شائع كما يقال تراجع الأمر ، ولام لكم للتعدية ، وقيل : للتعليل ، وقوله تعالى عَلَيْهِمْ أي الذين فعلوا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 19
بكم ما فعلوا متعلق بالكرة لما فيها من معنى الغلبة أو حال منها ، وجوز تعلقه برددنا ، وهذا على ما في البحر إخبار منه تعالى في التوراة لبني إسرائيل إلا أنه جعل رَدَدْنا موضع نرد لتحقق الوقوع ، وكان بين البعث والرد على ما قيل مائة سنة وذلك بعد أن تابوا ورجعوا عما كانوا عليه. واختلف في سبب ذلك فروي أن اردشير بهمن بن إسفنديار بن كشتاسف بن لهراسف لما ورث الملك من جده كشتاسف ألقى اللّه تعالى في قلبه الشفقة على بني إسرائيل فرد أسراءهم الذين أتى بهم بختنصر إلى بابل وسيرهم إلى أرض الشام وملك عليهم دانيال فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر ، وجعل بعضهم من آثار هذه الكرة قتل بختنصر ولم يثبت.
وفي البحران ملكا غزا أهل بابل وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وأبقى عنده بقية في بابل فلما غزاهم ذلك الملك وغلب عليهم تزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى ديارهم ففعل وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا ، وقيل : رد الكرة بأن سلط اللّه تعالى داود عليه السلام فقتل جالوت. وتعقب بأنه يرده قوله تعالى : وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ إلخ فإن المراد به بيت المقدس وداود عليه السلام ابتدأ بناءه بعد قتل جالوت وإيتائه النبوة ولم يتمه وأتمه سليمان عليه السلام فلم يكن قبل داود عليه السلام مسجد حتى يدخلوه أول مرة ، ودفع بأن حقيقة المسجد الأرض لا البناء ويحمل قوله تعالى : دَخَلُوهُ على الاستخدام وهو كما ترى ، والحق أن المسجد كان موجودا قبل داود عليه السلام كما قدمنا.
وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم وَبَنِينَ بعد ما سبيت أولادكم وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً مما كنتم من قبل أو من أعدائكم ، والنفير على ما قال أبو مسلم كالنافر من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو ، وقيل : هو مصدر أي أكثر خروجا إلى الغزو كما في قول الشاعر :
فأكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا
ويروى بالحميريين أكرم نفيرا ، وصحح السهيلي أنه اسم جمع لغلبته في المفردات وعدم اطراد مفرده.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أعمالكم سواء كانت لازمة لأنفسكم أو متعدية للغير أي عملتموها على الوجه المستحسن اللائق أو فعلتم الإحسان أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي لنفعها بما يترتب على ذلك من الثواب وَإِنْ أَسَأْتُمْ أعمالكم لازمة كانت أو متعدية بأن عملتموها على غير الوجه اللائق أو فعلتم الإساءة فَلَها أي فالإساءة عليها لما يترتب على ذلك من العقاب فاللام بمعنى على كما في قوله : فخر صريعا لليدين وللفم ، وعبر بها لمشاكلة ما قبلها.
وقال الطبري : هي بمعنى إلى على معنى فإساءتها راجعة إليها ، وقيل : إنها للاستحقاق كما في قوله تعالى لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة : 10 وغيرها].
وفي الكشاف أنها للاختصاص. وتعقب بأنه مخالف لما في الآثار من تعدى ضرر الإساءة إلى غير المذنب اللهم إلا أن يقال : إن ضرر هؤلاء القوم من بني إسرائيل لم يتعدهم ، وفيه أنه تكلف لا يحتاج إليه لأن الثواب والعقاب الأخرويين لا يتعديان وهما المراد هنا ، وقيل : اللام للنفع كالأولى لكن على سبيل التهكم ، وتعميم الإحسان ومقابله بحيث يشملان المتعدي واللازم هو الذي استظهره بعض المحققين وفسر الإحسان بفعل ما يستحسن له ولغيره والإساءة بضد ذلك وقال : إنه أنسب وأتم ولذا قيل إن تكرير الإحسان في النظم الكريم دون الإساءة إشارة إلى أن جانب الإحسان أغلب وأنه إذا فعل ينبغي تكراره بخلاف ضده ، وجاء عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلا الآية
، ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال القطب أنه لما عصوا سلط اللّه تعالى عليهم من

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 20
قصدهم بالنهب والأسر ثم لما تابوا وأطاعوا حسنت حالهم فظهر أن إحسان الأعمال وإساءتها مختص بهم ، والآية تضمنت ذلك وفيها من الترغيب بالإحسان والترهيب من الإساءة ما لا يخفى فتأمل.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ المرة الْآخِرَةِ من مرّتي افسادكم لِيَسُوؤُا متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه وهو جواب إذا أي بعثناهم ليسوءوا وُجُوهَكُمْ أي ليجعل العباد المبعوثون آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم فإن الأعراض النفسانية تظهر فيها فيظهر بالفرح النضارة والإشراق وبالحزن والخوف الكلوح والسواد فالوجوه على حقيقتها ، قيل ويحتمل أن يعبر بالوجه عن الجملة فإنهم ساؤوهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها ويؤيده قوله تعالى : وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ويحتمل أن يراد بالوجوه ساداتهم وكبراؤهم أهو هو كما ترى.
واختير هذا على ليسوؤكم مع أنه أحضر وأظهر إشارة إلى أنه جمع عليه ألم النفس والبدن المدلول عليه بقوله تعالى : وَلِيُتَبِّرُوا إلخ ، وقيل : فَإِذا جاءَ هنا مع كونه من تفصيل المجمل في قوله سبحانه : لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ فالظاهر فإذا جاء وإذا جاء للدلالة على أن مجيء وعد عقاب المرة الآخرة لم يتراخ عن كثرتهم واجتماعهم دلالة على شدة شكيمتهم في كفران النعم وإنهم كلما ازدادوا عدة وعدة زادوا عدوانا وعزة إلى أن تكاملت أسباب الثروة والكثرة فاجأهم اللّه عز وجل على الغرة نعوذ باللّه سبحانه من مباغتة عذابه.
وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة «ليسؤ» على التوحيد والضمير للّه تعالى أو للوعد أو للبعث المدلول عليه بالجزاء المحذوف ، والإسناد مجازي على الأخيرين وحقيقي على الأول ، ويؤيده قراءة علي كرم اللّه تعالى وجهه. وزيد بن علي والكسائي «لنسوء» بنون العظمة فإن الضمير للّه تعالى لا يحتمل غير ذلك ، وقرأ أبي «لنسؤن» بلام الأمر ونون العظمة أوله ونون التوكيد الخفيفة آخره ودخلت لام الأمر على فعل المتكلم كما في قوله تعالى : وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت : 12] وجواب إذا على هذه القراءة هو الجملة الإنشائية على تقدير الفاء لأنها لا تقع جوابا بدونها ، وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه أيضا «لنسوءن» و«ليسوءن» بالنون والياء أولا ونون التوكيد الشديدة آخرا
، واللام في ذلك لام القسم والجملة جواب القسم سادة مسد جواب إذا واللام في قوله تعالى وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ لام كي والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله وهو متعلق ببعثنا المحذوف أيضا وجوز أن يتعلق بمحذوف غيره فيكون العطف من عطف جملة على أخرى ، وعلى القراءة بلام الأمر أو لام القسم فيما تقدم يجوز أن تكون اللام لام الأمر وأن تكون لام كي ، والمراد بالمسجد بيت المقدس وهو مفعول يدخلوا ، وفي الصحاح أن الصحيح في نحو دخلت البيت إنك تريد دخلت إلى البيت فحذف حرف الجر فانتصب البيت انتصاب المفعول به ، وتحقيقه في محله كَما دَخَلُوهُ أي دخولا كائنا كدخولهم إياه أَوَّلَ مَرَّةٍ فهو في موضع النعت لمصدر محذوف ، وجوز أن يكون حالا أي كائنين كما دخلوه ، وأَوَّلَ منصوب على الظرفية الزمانية ، والمراد من التشبيه على ما في البحر أنهم يدخلونه بالسيف والقهر والغلبة والإذلال ، وفيه أيضا أن هذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتال ولا قتل ولا نهب وَلِيُتَبِّرُوا أي يهلكوا ، وقال قطرب : يهدموا وأنشد قول الشاعر :
وما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع
وقال بعضهم : الهدم إهلاك أيضا ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أن التتبير كلمة نبطية.
ما عَلَوْا أي الذي غلبوه واستولوا عليه فما اسم موصول والعائد محذوف وهو إما مفعول أو مجرور على ما قيل ، وجوز أن تكون ما مصدرية ظرفية أي ليتبروا مدة دوامهم غالبين قاهرين تَتْبِيراً فظيعا لا يوصف.
واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في الإفساد الأخير فقال غير

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 21
واحد : إنهم بختنصر وجنوده ، وتعقبه السهيلي بأنه لا يصح لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل ، وقيل الإسكندر وجنوده ، وتعقبه أيضا بأن بين الإسكندر وعيسى عليه السلام نحوا من ثلاثمائة سنة «1» ثم قال لكنه إذا قيل : إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه لأنه كان حينئذ حيا ، وروي عن عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه تعالى عنهما أن الذي غزاهم ملك خردوش وتولى قتلهم على دم يحيى عليه السلام قائد له فسكن. وفي بعض الآثار أن صاحب الجيش دخل مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقتموني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ثم قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا فقالوا : إنه دم يحيى عليه السلام فقال : بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ثم قال : يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن اللّه تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ ، واختار في الكشف - وقال هو الحق - إن المبعوث عليهم في المرة الثانية بيردوس من ملوك الطوائف وكأنه هو خردوش الذي مر آنفا فقد ذكر أنه ملك بابل من ملوك الطوائف.
وقيل : اسمه جوزور وهؤلاء الملوك ظهروا بعد قتل الإسكندر دارا واستيلائه على ملك الفرس ، وكان ذلك بصنع الإسكندر متبعا فيه رأى معلمه أرسطو ، وعدتهم تزيد على سبعين ملكا ، ومدة ملكهم على ما في بعض التواريخ خمسمائة واثنتا عشرة سنة ، وحصل اجتماع الفرس بعد هذه المدة على أردشير بن بابك طوعا وكرها وكان أحد ملوك الطوائف على إصطخر ، وعلى هذا يكون الملك المبعوث لفساد بني إسرائيل بقتل يحيى عليه السلام من أواخر ملوك الطوائف كما لا يخفى ، ويكون بين هذا البعث والبعث الأول على القول بأن المبعوث بختنصر وأتباعه مدة متطاولة ، ففي بعض التواريخ أن قتل الإسكندر دارا بعد بختنصر بأربعمائة وخمس وثلاثين سنة وبعد مضي نحو ثلاثمائة سنة من غلبة الإسكندر ولد المسيح عليه السلام ، ولا شك أن قتل يحيى عليه الصلاة والسلام بعد الولادة بزمان والبعث بعد القتل كذلك فيكون بين البعثين ما يزيد على سبعمائة وخمس وثلاثين سنة ، والذي ذهب إليه اليهود أن المبعوث أولا بختنصر وكان في زمن أرميا عليه السلام وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام كما نطق به كتابه فحبسوه في بئر وجرحوه وكان تخريبه لبيت المقدس في السنة التاسعة عشر من حكمه وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثماني وثلاثين سنة وبقي خرابا سبعين سنة ، ثم إن أسبيانوس قيصر الروم وجه وزيره طوطوز إلى خرابه فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة ، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال. ونعم ما قيل إن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه مما لا يتعلق به كبير غرض إذ المقصود أنه لما كثرت معاصيهم سلط اللّه تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى.
وظاهر الآية يقتضي اتحاد المبعوثين أولا وثانيا ، ومن لا يقول بذلك يجعل رجوع الضمائر للعباد على حد رجوع الضمير للدرهم في قولك : عندي درهم ونصفه فافهم.
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد البعث الثاني إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي وَإِنْ عُدْتُمْ للإفساد بعد الذي تقدم منكم عُدْنا للعقوبة فعاقبناكم في الدنيا بمثل ما عاقبناكم به في المرتين الأوليين ، وهذا من المقضي لهم في الكتاب أيضا وكذا الجملة الآتية ، وقد عادوا بتكذيب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقصدهم قتله فعاد اللّه تعالى بتسليطه عليه الصلاة
___________
(1) ذكر الدميري في حياة الحيوان أنه ثلاثمائة وثلاث سنين في بعض التواريخ وثلاث عشر سنة اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 22
والسلام عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وضرب الجزية على الباقين وقيل عادوا فعاد اللّه تعالى بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الأتاوة ونحو ذلك والأول مروي عن الحسن وقتادة ، والتعبير بأن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعودوا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً قال ابن عباس وغيره : أي سجنا وأنشد في البحر قوله لبيد :
ومقامة غلب الرقاب كأنهم «1» جن على باب الحصير قيام
فإن كان اسما للمكان المعروف فهو جامد لا يلزم تأنيثه وتذكيره ، وإن كان بمعنى حاصر أي محيط بهم وفعيل بمعنى فاعل يلزم مطابقته فعدم المطابقة هنا إما لأنه على النسب كلابن وتامر أي ذات حصر وعلى ذلك خرج قوله تعالى : السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل : 18] أي ذات انفطار أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول وقيل التذكير على تأويل جهنم بمذكر ، وقيل لأن تأنيثها ليس بحقيقي نقل ذلك أبو البقاء وهو كما ترى.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن أنه فسر ذلك بالفراش والمهاد ، قال الراغب : كأنه جعل الحصير المرمول وأطلق عليه ذلك لحصر بعض طاقاته على بعض فحصير على هذا بمعنى محصور وفي الكلام التشبيه البليغ ، وجاء الحصير بمعنى السلطان وأنشد الراغب في ذلك البيت السابق ثم قال : وتسميته بذلك إما لكونه محصورا نحو محجب وإما لكونه حاصرا أي مانعا لمن أراد أن يمنعه من الوصول إليه اه وحمل ما في الآية على ذلك مما لم أر من تعرض له والحمل عليه في غاية البعد فلا ينبغي أن يحمل عليه وإن تضمن معنى لطيفا يدرك بالتأمل ، وكان الظاهر أن يقال لكم بدل للكافرين إلا أنه عدل عنه تسجيلا على كفرهم بالعود وذما لهم بذلك وإشعارا بعلة الحكم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الذي آتيناكه ، وهذا متعلق بصدر السورة كما مرت الإشارة إليه ، وفي الإشارة بهذا تعظيم لما جاء به النبي المجتبى صلّى اللّه عليه وسلّم يَهْدِي أي الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى عليه السلام لِلَّتِي أي للطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ أي أقوم الطرق وأسدها أعني ملة الإسلام والتوحيد فللتي صفة لموصوف حذف اختصارا وقدره بعضهم الحالة أو الملة ، وأيما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في الإبهام من الدلالة على أنه جرى الوادي وطم على القرى ، وأَقْوَمُ أفعل تفضيل على ما أشار إليه غير واحد.
وقال أبو حيان : الذي يظهر من حيث المعنى أنه لا يراد به التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يهدي لها القرآن وغيرها من الطرق في مبدأ الاشتقاق لتفضل عليه فالمعنى للتي هي قيمة أي مستقيمة كما قال اللّه تعالى فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة : 3] وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة : 5] اه. وإلى ذلك ذهب الإمام الرازي وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع.
وقرأ عبد اللّه وطلحة وابن وثاب والإخوان وَيُبَشِّرُ بالتخفيف مضارع بشر المخفف وجاء بشرته وبشرته وأبشرته الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأعمال الصَّالِحاتِ التي شرحت فيه أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم بمقابلة أعمالهم أَجْراً كَبِيراً بحسب الذات وبحسب التضعيف عشرا فصاعدا ، وفسر ابن جريج الأجر الكبير وكذا الرزق الكريم في كل القرآن بالجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء من الثواب والعقاب الروحانيين والجسمانيين ، وتخصيص الآخرة بالذكر من بين سائر ما لم يؤمن به الكفرة لكونها معظم ما أمروا الإيمان به ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها الذي أنبأ عنه قوله تعالى : أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو عذاب جهنم أي أعددنا وهيأنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا مؤلما ، وهو أبلغ في الزجر لما أن إتيان
___________
(1) المقامة : الجماعة وعلى ذلك قوله : وفيهم مقامات حسان وجوههم اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 23
العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع ، ولعل أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم لأنهم لا يقولون بالجزاء الجسماني ويعتقدون في الآخرة أشياء لا أصل لها فلم يؤمنوا بالآخرة وأحكامها المشروحة في هذا القرآن حقيقة الإيمان فافهم.
والعطف على أن لهم أجرا كبيرا فيكون إعداد العذاب الأليم للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ومصيبة العدو سرور يبشر به فكأنه قيل يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم ، ويجوز أن تكون البشارة مجازا مرسلا بمعنى مطلق الإخبار الشامل للإخبار بما فيه سرور وللإخبار بما ليس كذلك ، وليس فيه الجمع بين معنى المشترك أو الحقيقة والمجاز حتى يقال : إنه من عموم المجاز وإن كان راجعا لهذا أو العطف على يُبَشِّرُ أو يَهْدِي بإضمار يخبر فيكون من عطف الجملة على الجملة ، ولا يخفى ما في الآية من ترجيح الوعد على الوعيد.
ونبه سبحانه على ما في البحر بوصف المؤمنين بالذين يعملون الصالحات على الحالة الكاملة لهم ليتحلى المؤمن بذلك وأنت تعلم أنه إن فسر الأجر الكبير بالجنة فهو ثابت للمؤمن العامل وللمؤمن المفرط إذ أصل الإيمان متكفل بدخول الجنة فضلا من اللّه تعالى ورحمة ، نعم ما أعد للعامل في الجنة أعظم مما أعد للمفرط ، وإن فسر بما أعده اللّه تعالى في الآخرة من الجنة والدرجات العلى وأنواع الكرامات فيها التي لا يتكفل بها مجرد الإيمان فظاهر أن ذلك غير ثابت للمؤمن المفرط فلا بد من التوصيف ولا يلزم منه عدم دخول المفرط الجنة ، نعم يلزم منه أن لا يثبت له الأجر الكبير بالمعنى السابق ، والآيات التي يفهم منها دخوله الجنة كثيرة ولعل هذه الآية يفهم منها ذلك واقتضى المقام عدم التصريح بحكمه ، وفي الكشاف أنه تعالى ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة لأن الناس حينئذ إما مؤمن تقي وإما مشرك وأصحاب المنزلة بين المنزلتين إنما حدثوا بعد ذلك.
وتعقبه أبو حيان بأنه مكابرة فقد وقع في زمان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم من بعض المؤمنين هفوات وسقطات بعضها مذكور في القرآن وبعضها مذكور في الأحاديث الصحيحة اه. والمقرر في الأصول أن الأكثر على عدالة الصحابة ومن طرأ له منهم قادح كسرقة وزنا عمل بمقتضاه ، ثم ما ذكره من المنزلة بين المنزلتين الظاهر أنه أراد به ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وإذا مات من غير توبة خلد في النار وقد رد ذلك في علم الكلام فتدبر.
وقوله تعالى : وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ قال شيخ الإسلام : بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي وإظهار لما بينهما من التباين والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده وهو الكافر ، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه كما يقتضيه ما روي عن الحسن ومجاهد فالمعنى على الأول أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم وهو أي بعض أفراده أعني الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال : 32] ومن قال فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف : 70] إلى غير ذلك مما حكي عنهم ، وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه الموجبة له مجازا كما هو ديدن كلهم ، وبعضهم جعل الدعاء باللسان مجازا أيضا عن الاستعجال استهزاء.
دُعاءَهُ أي دعاء كدعائه فحذف الموصوف وحرف التشبيه وانتصب المجرور على المصدرية وهو مراد من قال : مثل دعائه بِالْخَيْرِ المذكور فرضا لا تحقيقا فإنه بمعزل عن الدعاء به ، وفيه رمز إلى أنه اللائق بحاله.
وَكانَ الْإِنْسانُ أي من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده عَجُولًا يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 24
متعاميا عن ضرره أو مبالغا في العجلة يستعجل الشر والعذاب وهو آتيه لا محالة ففيه نوع تهكم به ، وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم تجعل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال ، والمعنى على الثاني أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير وهو في بعض أحيانه كما عند الغضب يدعه ويدعو اللّه تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه.
أخرج الواقدي في المغازي عن عائشة رضي اللّه عنها «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دخل عليها بأسير وقال لها : احتفظي به قالت : فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر فدخل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فسأل عنه فقلت : واللّه لا أدري وغفلت عنه فخرج فقال :
قطع اللّه يدك ثم خرج عليه الصلاة والسلام فصاح به فخرجوا في طلبه حتى وجدوه ثم دخل عليّ فرآني وأنا أقلب يدي فقال : ما لك؟ قلت انتظر دعوتك فرفع يديه وقال : اللهم إنما أنا بشر آسف وأغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوتك عليه بدعوة فاجعلها له زكاة وطهرا»
أو يدعو بما هو شر ويحسبه خيرا وكان الإنسان عجولا غير مستبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به وهو شر جدير بالاستعاذة منه اه مع بعض زيادة وتغيير.
واختار إرادة الكافر من الإنسان الأول بعض المحققين وذكر في وجه ربط الآيات أنه تعالى لما شرح ما خص به نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم من الإسراء وإيتاء موسى عليه السلام التوراة وما فعله بالعصاة المتمردين من تسليط البلاء عليهم كان ذلك تنبيها على أن طاعة اللّه تعالى توجب كل خير وكرامة ومعصيته سبحانه توجب كل بلية وغرامة لا جرم قال : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي إلخ ثم عطف عليه وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ إلخ بجامع دليل العقل والسمع أو نعمتي الدين والدنيا ، وأما اتصال قوله تعالى : وَيَدْعُ الْإِنْسانُ إلخ فهو أنه سبحانه لما وصف القرآن حتى بلغ به الدرجة القصوى في الهداية أتى بذكر من أفرط في كفران هذه النعمة العظمى قائلا : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ إلخ.
ومثل هذا ما قيل إنه تعالى بعد أن وصف القرآن بما وصف ذم قريشا بعدم سؤالهم الهداية به وطلبهم إنزال الحجارة عليهم أو إيتاء العذاب الأليم إن كان حقا ، وفي الكشف أن قوله تعالى : وَيَدْعُ الْإِنْسانُ إلخ بيان أن القرآن يهديهم للتي هي أقوم ويأبون إلا التي هي ألوم وهو وجه للربط مطلقا وكل ما ذكروه في ذلك متقارب. ويرد على حمل الدعاء على الدعاء بالأعمال والعجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال «1» خلاف المتبادر كما لا يخفى ، وفسر بعضهم الإنسان الثاني بآدم عليه السلام لما أخرج ابن جرير. وابن المنذر وغيرهما عن سلمان الفارسي قال : أول ما خلق اللّه تعالى من آدم عليه السلام رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه فلما كان بعد العصر قال : يا رب أعجل قبل الليل فذلك قوله تعالى : وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا ، وروي نحوه عن مجاهد وروى القرطبي والعهدة عليه أنه لما وصلت الروح لعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهاها فوثب عجلا إليها فسقط ، ووجه ارتباط وَكانَ الْإِنْسانُ إلخ على هذا القول إفادته أن عجلته بالدعاء لغيره أو لعدم تأمله من شأنه وأنه موروث له من أصله وشنشنة يعرفها من أخزم فهو اعتراض تذييل وكلام تعليلي والأولى إرادة الجنس وإن كان ألفاظ الآية لا تنبو عن إرادة آدم عليه السلام كما زعم أبو حيان ثم إن الباء في الموضعين على ظاهرها صلة الدعاء ، وقيل : إنها بمعنى في والمعنى يدعو في حالة الشر والضر كما كان يدعو في حالة الخير فالمدعو به ليس الشر والخير ، وقيل : إنها للسببية أي يدعو بسبب ذلك وكلا القولين «2» مخالفين للظاهر لا بعول عليهما ، واستدل بالآية على بعض الاحتمالات
___________
(1) قوله بتلك الأعمال خلاف إلخ كذا بخطه ولعله أنه خلاف إلخ كما هو ظاهر.
(2) قوله مخالفين إلخ كذا بخطه ولعله مخالفان إلخ.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 25
على المنع من دعاء الرجل على نفسه أو على ماله أو على أهله وقد جاء النهي عن ذلك صريحا في بعض الأخبار.
فقد أخرج أبو داود والبزار عن جابر قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم على أموالكم لئلا توافقوا من اللّه تعالى ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم وبه يرد على ما قيل من أن الدعاء بذلك لا يستجاب فضلا من اللّه تعالى وكرما.
واستشكل بأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دعا على أهله كما سمعت في حديث الواقدي ، وأجيب عن ذلك بأنه كان للزجر وإن كان وقت الغضب وقد اشترط صلّى اللّه عليه وسلّم على ربه سبحانه في مثل ذلك أن يكون رحمة
فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال : «إني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة»
وذكر النووي في جواب ما يقال : إن ظاهر الحديث أن الدعاء ونحوه كان بسبب الغضب ما قال المازري من أنه يحتمل أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أراد أن دعاءه وسبه ونحوهما كان مما يخير فيه بين أمرين أحدهما هذا الذي فعله والثاني زجره بأمر آخر فحمله الغضب للّه تعالى على أحد الأمرين المخير فيهما وليس ذلك خارجا عن حكم الشرع ، والمراد من قوله عليه الصلاة والسلام ليس لها بأهل ليس لها بأهل عند اللّه تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب لذلك ، وقد يستدل على ذلك بأمارات شرعية وهو مأمور صلّى اللّه عليه وسلّم بالحكم بالظاهر واللّه تعالى يتولى السرائر ، وقيل : إن ما وقع منه عليه الصلاة والسلام من الدعاء ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كتربت يمينك وعقرى حلقى لكن خاف صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك زكاة وقربة ، نعم في ذكر حديث الواقدي ونحوه كالحديث الذي ذكره البيضاوي في المقام الذي ذكر فيه لا يخلو عن شيء فتأمل ، ثم إن القياس إثبات الواو في يَدْعُ الإنسان إذ لا جازم تحذف له لكن نقل القرآن العظيم كما سمع ولم يتصرف فيه الناقل بمقدار فهمه وقوة عقله وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ هذا على ما قيل شروع في بيان بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية التي كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه فإن الجعل المذكور وما عطف عليه وإن كانا من الهدايات التكوينية لكن الأخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات.
وذكر الإمام في وجه الربط وجوها ، الأول أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال سبحانه : وَجَعَلْنَا إلخ ، وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه كذلك الزمان مشتمل على الليل والنهار وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل ، الثاني أنه تعالى وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة بين «1» أن كل أحوال العالم كذلك وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد ، الثالث نحو ما نقلناه أولا ولعله الأولى ، وتقديم الليل لمراعاة الترتيب الوجودي إذ منه ينسلخ النهار وفيه تظهر غرر الشهور العربية ولترتيب غاية النهار عليها بلا واسطة ، ومما يزيد تقديم الليل حسنا افتتاح السورة بقوله سبحانه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا والجعل على ما نقل عن السمين بمعنى التصيير متعد لاثنين أو بمعنى الخلق متعد لواحد وآيَتَيْنِ حال مقدرة.
واستشكل الأول الكرماني بأنه يستدعي أن يكون الليل والنهار موجودين على حالة ثم انتقلا منها إلى أخرى
___________
(1) قوله «إلى حالة بين» إلخ كذا بخطه ولعله إما وصف إلخ بين بقرينة ما سبق في الوجه قبله.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 26
وليس كذلك ، ودفع بأنه من باب - ضيق فم الركية - وهو مجاز معروف واستظهر هذا أبو حيان ، والمعنى جعلنا الملوين بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر على وتيرة عجيبة آيتين تدلان على أن لهما صانعا حكيما قادرا عليما ويهديان إلى ما هدى إليه القرآن الكريم من الإسلام والتوحيد.
فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ الإضافة هنا وفيما بعد إما بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود نحو أربع نسوة أي محونا الآية التي هي اللّيل أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء كما لا يستبين ما في اللوح الممحو وإلى ذلك ذهب صاحب الكشاف.
وروي عن مجاهد وهو على نحو - ضيق فم الركية - والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقيب جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته ، وقيل معنى محو الليل إزالة ظلمته بالضوء ، ورجح بأن فيه إبقاء المحو على حقيقته وهو إزالة الشيء الثابت وليس فيما ذكره الزمخشري ذلك ولا ينبغي العدول عن الحقيقة بلا ضرورة. وتعقب بأنه يكفي ما بعده قرينة على تلك الإرادة فإن محو الليل في مقابله جعل النهار مبصرا ، وعلى ما ذكر من المعنى الحقيقي لا يتعلق بمحو الليل فائدة زائدة على ما بعده ، وقيل عليه إن الظلمة هي الأصل والنور طارئ فكون الليل مخلوقا مطموس الضوء مفروغ عنه فالمراد بيان أن اللّه تعالى خلق الزمان ليلا مظلما ثم جعل بعضه نهارا بأحداث الإشراق لفائدة ذكرها سبحانه ، وكون محو الليل في مقابلة جعل النهار مضيئا لا يوجب حمله على المجاز لفائدة بيان إبقاء بعض الزمان على إظلامه وجعل بعضه مضيئا اه ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن المقام لا يلائمه فالمعول عليه ما في الكشاف.
وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ أي الآية التي هي النهار مُبْصِرَةً أي مضيئة فهو مجاز بعلاقة السببية أو الإسناد مجازي كما في - نهاره صائم - والمراد يبصر أهلها أو الصيغة للنسب أي ذات إبصارهم أو هي من أبصره المتعدي أي جعله مبصرا ناظرا والإسناد إلى النهار مجازي أيضا من الإسناد إلى السبب العادي والفاعل الحقيقي هو اللّه تعالى أو من باب أفعل المراد به غير من أسند إليه كأضعف الرجل إذا كانت دوابه ضعافا وأجبن إذا كان أهله جبناء فأبصرت الآية بمعنى صار أهلها بصراء.
وروي ذلك عن أبي عبيدة وهو معنى وضعي لا مجازي. وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما «مبصرة» بفتح الميم والصاد
وهو مصدر أقيم مقام غيره وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كأرض مسبعة ومكان مضبة وإما إضافة لأمية وآيتا الليل والنهار نيراهما القمر والشمس ويحتاج حينئذ في قوله تعالى : وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ إلى تقدير مضاف في الأول والثاني أي جعلنا نيري الليل والنهار آيتين أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين أن جعل جعل متعديا إلى مفعولين والليل والنهار هو المفعول الأول وآيتين الثاني ، فإن عكس كما استظهره أبو حيان وجعل الليل والنهار نصبا على الظرفية في موضع المفعول الثاني أي جعلنا في الليل والنهار آيتين وهما النيران لا يحتاج إلى تقدير كما إذا جعل الجعل متعديا لواحد والليل والنهار منصوبان على الظرفية كما جوزه المعربون. ومحو آية الليل وهي القمر على ما تدل عليه الآثار إزالة ما ثبت لها من النور يوم خلقت ، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية أنه قال : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس وهو آية الليل فمحى فالسواد الذي في القمر أثر ذلك المحو.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عكرمة أنه قال : خلق اللّه تعالى نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر سبعين سبعين جزءا فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 27
والقمر على جزء واحد ، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : كانت شمس بالليل وشمس بالنهار فمحى اللّه تعالى شمس الليل فهو المحو الذي في القمر ، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة. وابن عساكر عن سعيد المقبري أن عبد اللّه بن سلام سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن السواد الذي في القمر فقال : كانا شمسين وقال قال اللّه تعالى :
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فالسواد الذي رأيت هو المحو
، وفي حديث طويل أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند واه عن ابن عباس مرفوعا أن اللّه تعالى خلق شمسين من نور عرشه فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور وذلك قوله تعالى :
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ الآية
إلى غير ذلك من الآثار ، والفاء على هذا للتعقيب. وجعل آية النهار وهي الشمس مبصرة على نحو ما تقدم فتبصر ، وقيل محو القمر أما خلقه كمدا مطموس النور غير مشرق بالذات على ما ذكره أهل الهيئة من أنه غير مضيء في نفسه بل نوره مستفاد من ضوء الشمس فالفاء تفسيرية كما مر وإما نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا بحسب الرؤية والإحساس إلى أن ينمحق على ما هو معنى المحو فالفاء للتعقيب ، وذكر الإمام في محوه قولين ، أحدهما نقص نوره قليلا قليلا إلى المحاق ، وثانيهما جعله ذا كلف ثم قال : حمله على الوجه الأول أولى لأن اللام في الفعلين بعد متعلق بما هو المذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة ، ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل اللّه تعالى إذا حملنا محو القمر على زيادة نور القمر ونقصانه لأن سبب حصول هذه الآية مختلف باختلاف أحوال نور القمر وأهل التجارب أثبتوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم ، وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الهلال كما قال سبحانه وَلِتَعْلَمُوا إلخ اه.
وأنت تعلم أنه متى دل أثر صحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما ذكرناه أولا لا ينبغي أن يدعي أن غيره أولى ، وهو لعمري وجه لا كلف فيه عند من له عين مبصرة ، وللفلاسفة في هذا المحو المرئي في وجه القمر كلام طويل لا بأس بأن تحيط به خبرا فنقول : ذكر الإمام في المباحث الشرقية أن امتناع بعض المواضع في وجه القمر عن قبول الضوء التام إما أن يكون بسبب خارج عن جرم القمر أو غير خارج عنه فإن كان بسبب خارج فإما أن يكون لمثل ما يعرض للمرايا من وقوع أشباح الأشياء فيها فإذا رؤيت تلك الأشياء لم تر براقة فكذلك القمر لما تصورت فيه أشباح الجبال والبحار وجب أن لا ترى تلك المواضع في غاية الاستنارة ، وإما أن يكون ذلك بسبب ساتر والأول باطل ، أما أولا فلأن الأشباح لا تنحفظ هيئتها مع حركة المرآة وبتقدير سكونها لا تستقر تلك الأشباح فيها عند اختلاف مقامات الناظرين والآثار التي في وجه القمر ليست كذلك ، وأما ثانيا فلأن القمر ينعكس الضوء عنه إلى البصر وما كان كذلك لم يصلح للتخييل ، وأما ثالثا فلأنه كان يجب أن تكون تلك الآثار كالكرات لأن الجبال في الأرض كتضريس أو خشونة في سطح كرة وليس لها من المقدار قدر ما يؤثر في كرية الأرض فكيف لاشباحها المرئية في المرآة.
وأما إن كان ذلك بسبب ساتر فذلك الساتر إما أن يكون عنصريا أو سماويا والأول باطل ، أما أولا فلأنه كان يجب أن يكون المواضع المتسترة من جرم القمر مختلفة باختلاف مقامات الناظرين ، وأما ثانيا فلأن ذلك الساتر لا يكون هواء صرفا ولا نارا صرفة لأنهما شفافان فلا يحجبان بل لا بد وأن يكون مركبا إما بخارا وإما دخانا وذلك لا يكون مستمرا ، وأما إن كان الساتر سماويا فهو الحق وذلك إنما يكون لقيام أجسام سماوية قريبة المكان جدا من القمر وتكون من الصغر بحيث لا يرى كل واحد منها بل جملتها على نحو مخصوص من الشكل وتكون إما عديمة الضوء

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 28
أولها ضوء أضعف من ضوء القمر فترى في حالة إضاءته مظلمة ، وأما إن كان ذلك بسبب عائد إلى ذات القمر فلا يخلو إما أن يكون جوهر ذلك الموضع مساويا لجواهر المواضع المستنيرة من القمر في الماهية أو لا يكون فإن لم يكن كان ذلك لارتكاز أجرام سماوية مخالفة بالنوع للقمر في جرمه كما ذكرناه قبل وهو قريب منه.
وإما أن تكون تلك المواضع مساوية الماهية لجرم القمر فحينئذ يمتنع اختصاصها بتلك الآثار إلا بسبب خارجي لكنه قد ظهر لنا أن الأجرام السماوية لا تتأثر بشيء عنصري وبذلك أبطل قول من قال : إن ذلك المحو بسبب انسحاق عرض القمر من مماسة النار ، أما أولا فلأن ذلك يوجب أن يتأدى ذلك في الأزمان الطويلة إلى العدم والفساد بالكلية والأرصاد المتوالية مكذبة لذلك ، وأيضا القمر غير مماس للنار لأنه مفرق في فلك تدويره الذي هو في حامله الذي بينه وبين النار بعد بعيد بدليل أن النار لو كانت ملاقية لحامله لتحركت بحركته إلى المشرق وليس كذلك لأن حركات الشهب في الأكثر لا تكون إلا إلى جهة المغرب وتلك الحركة تابعة لحركة النار والحركة المستديرة ليست للنار بذاتها فإنها مستقيمة الحركة فذلك لها بالعرض تبعا لحركة الكل فبطل ما قالوه اه.
وذكر الآمدي في أبكار الأفكار زيادة على ما يفهم مما ذكر من الأقوال وهي أن منهم من قال : إن ما يرى خيال لا حقيقة له ، ورده بأنه لو كان كذلك لاختلف الناظرون فيه ومنهم من قال : إنه السواد الكائن في القمر في الجانب الذي لا يلي الشمس ، ورده بأنه لو كان كذلك لما رئي متفرقا ، ومنهم من قال : إنه وجه القمر فإنه مصور بصورة وجه الإنسان وله عينان وحاجبان وأنف وفم ، ورده بأنه مع بعده يوجب أن يكون فعل الطبيعة عندهم معطلا عن الفائدة لأن فائدة الحاجبين عندهم دفع أذى العرق عن العينين وفائدة الأنف الشم وفائدة الفم دخول الغذاء وليس للقمر ذلك ، وقد رد عليهم رحمة اللّه تعالى عليه سائر ما ذكروه.
وذكر الإمام في التفسير أن آخر ما ذكره الفلاسفة في ذلك أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر لا جرم شوهدت في وجهه كالكلف في وجه الإنسان وفي ارتكازها في بعض أجزائه دون بعض مع كونه متشابه الأجزاء عندهم دليل على الصانع المختار كما أن في تخصيص بعض أجزائه بالنور القوي وبعضها بالنور الضعيف مع تشابه الأجزاء دليلا على ذلك.
ومثل هذا التخصيص في الدلالة تخصيص بعض جوانب الفلك الذي هو عندهم أيضا جرم بسيط متشابه الأجزاء بارتكاز الكواكب فيه دون البعض الآخر.
وزعم بعض أهل الآثار أنه مكتوب في وجه القمر لا إله إلا اللّه ، وقيل لفظ جميل ، وقيل غير ذلك وأن المحو المرئي هو تلك الكتابة ولا يعول على شيء من ذلك ، نعم مكتوب على كل شيء لا إله إلا اللّه وكذا جميل ولكن ذلك بمعنى آخر كما لا يخفى.
ونقل لي عن أهل الهيئة الجديدة أنهم يزعمون أن القمر كالأرض فيه الجبال والوهاد والأشجار والبحار وأنهم شاهدوا ذلك في أرصادهم وأن المواضع التي لا يرى فيها محو هي البحار والتي فيها محو هي أرض غير مستوية وزعموا أنه لو وصل أحد إلى القمر لرأى الأرض كذلك ومن هنا قالوا : لا يبعد أن يكون معمورا بخلائق هو عمارة الأرض بل قالوا : إن جميع الكواكب مثله في ذلك قياسا عليه وإن كانت لا يرى فيها لمزيد بعدها ما يرى فيه وبعيد من الحكمة أن يعمر اللّه تعالى الأرض بالخلق على صغرها ويترك أجساما عظيمة أكثرها أعظم من الأرض خالية بلا خلق على كبرها وهم منذ غرهم القمر تشبثوا بحباله في عمل الحيل للعروج إليه فصنعوا سفنا زئبقية فعرجوا فيها فقبل أن يصلوا إلى كرة البخار انتفخت أجسامهم وضلت كما ضلت من قبل أفهامهم فانقلبوا صاغرين وهبطوا خاسئين ،

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 29
وأنت تعلم أن كلامهم في هذا الباب مخالف لأصول الفلسفة ولا برهان لهم عليه سوى السفه ومنشؤه محض أنهم رأوا شيئا في القمر ولم يتحققوه وظنوه ما ظنوه وأي مانع من أن يكون قد جعل اللّه تعالى المحو على وجه يتخيل فيه ذلك بل لا مانع على أصولنا من أن يقال : قد جعل اللّه تعالى في القمر أجراما تشبه ما حسبوه لكن لم يرد في ذلك شيء عن الصادق صلّى اللّه عليه وسلّم وهو الذي عرج به إلى قاب قوسين أو أدنى ، وما ذكروه من أنه بعيد من الحكمة أن يعمر اللّه تعالى الأرض إلخ يلزم عليه أن يكون ما بين الكواكب ككواكب الدب الأكبر مثلا معمورا بالخلائق كالأرض أيضا فله أوسع منها بأضعاف مضاعفة وهم لا يقولون به على أنا نقول قد جاء «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد» فيجوز أن يكون على جرم القمر ملائكة يعبدون اللّه تعالى بما شاء وكيف شاء بل يجوز أن يكون عند كل ذرة من ذراته ملك كذلك وهذا نوع من العمارة بالخلق ، والأحسن عند من عز عليه وقته عدم الالتفات إلى مثل هذه الخرافات وتضييع الوقت في ردها واللّه سبحانه الموفق ، ثم ما تقدم من أن المحو نقص ما استفاده القمر من الشمس شيئا فشيئا فيه القول بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس وقد عد الجل من العلماء ذلك في الحدسيات وذكروا أن الشمس مضيئة بنفسها وكلا الأمرين مما ذكره الفلاسفة وليس له في الشرع مستند يعول عليه ، وقد نقله الآمدي وتعقبه فقال : ذكروا أن الشمس نيرة بنفسها وما المانع من كونها سوداء الجرم واللّه تعالى يخلق فيها النور في أوقات مشاهدتنا لها ، وأن تكون مستنيرة من كواكب أخرى فوقها وهي مستورة عنا ببعض الأجرام السماوية المظلمة كما يحدث للشمس في حالة الكسوف ، وإن سلمنا أنها نيرة بنفسها فلا نسلم أن نور القمر مستفاد منها وما المانع من كون الرب تعالى يخلق فيه النور في وقت دون وقت أو أن يكون مع كونه مركوزا في فلكه
دائرا على مركز نفسه وأحد وجهيه نير والآخر مظلم كما كان بعض أجزاء الفلك شفافا وبعضها نيرا وهو متحرك بحركة مساوية لحركة فلكه ويكون وجهه المضيء عند مقابلة الشمس وهو الذي يلينا ويكون الزيادة والنقصان فيما يظهر لنا على حسب بعده وقربه من الشمس فلا يكون مستنيرا من الشمس اه.
وأورد أنه إذا ضم الخسوف إلى الزيادة والنقصان قربا وبعدا لا يتم ما ذكره وصح ما ذكروه من الاستفادة.
وأجيب بأنه ما المانع من أن يكون الخسوف لحيلولة جرم علوي بيننا وبينه لا لحيلولة الأرض بينه وبين الشمس فلا بد لنفي ذلك من دليل فافهم واللّه تعالى أعلم وهو المتصرف في ملكه كيفما يشاء لِتَبْتَغُوا متعلق بقوله تعالى : وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ وفي الكلام مقدر أي جعلنا آية النهار مبصرة لتطلبوا لأنفسكم فيه.
فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي رزقا إذ لا يتسنى ذلك في الليل ، وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرض لصفة الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئا فشيئا دلالة كما قال شيخ الإسلام : على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب وإنما الإعطاء إلى اللّه سبحانه لا بطريق الوجوب عليه تعالى بل تفضلا بحكم الربوبية ، ومعنى تأثير الطلب على نحو تأثير الأسباب العادية فإنه من جملتها ولا توقف حقيقة للرزق عليه ، وفي الخبر يطلبك رزقك كما يطلبك أجلك
، وللّه تعالى در القائل :
لقد علمت وما الإسراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وَلِتَعْلَمُوا متعلق كما قيل بكلا الفعلين أعني محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بانفرداه مدارا للعلم المذكور أي لتعلموا بتفاوت الجديدين أو نيريهما ذاتا من حيث الإظلام والإضاءة مع

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 30
تعاقبهما أو حركاتهما وأوضاعهما وسائر أحوالهما عَدَدَ السِّنِينَ التي يتعلق بها غرض على لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية وَالْحِسابَ أي الحساب المتعلق بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة ، ونفس السنة من حيث تحققها مما ينتظمه الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من حيثية التحقق والتحصل من عدة أشهر حصل كل واحدة منها من عدة أيام حصل كل واحد منها من طائفة من الساعات مثلا فإن ذلك من وظيفة علم الحساب بل من حيث إنها فرد من طائفة السنين المعدودة بعدها أي نفسها من غير أن يعتبر في ذلك تحصيل شيء معين كما حقق ذلك شيخ الإسلام.
وقيل المعنى لِتَعْلَمُوا باختلافهما وتعاقبهما على نسق واحد أو بحركاتهما عدد السنين إلخ المراد بالحساب جنسه أي الجاري في المعاملات كالإجارات والبيوع المؤجلة وغير ذلك وذكر بعضهم أن الظاهر المناسب أن المراد لتعلموا بالليل فإن عدد السنين الشرعية والحساب الشرعي يعلمان به غالبا أو بالقمر لقوله تعالى :
في الأهلة قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ البقرة : 189] وأنت تعلم أن السنين شمسية وقمرية وبكل منهما العمل فلو قيل إحدى الآيتين مبينة لأحدهما والأخرى للآخر لا محذور فيه ، وكون الشرع معولا على أحدهما لا يضر ، وتقديم العدد على الحساب من أن الترتيب بين متعلقيهما على ما سمعت أولا وجودا وعدما على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا أو لأن العلم المتعلق بالأول أقصى المراتب فكان جديرا بالتقديم في مقام الامتنان أو لأن العدد نازل من الحساب منزلة البسيط من المركب بناء على ما حقق من أن الحساب إحصاء ماله كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل والعدد إحصاؤه بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل شيء كذلك ولهذا وكون السنين مما لم يعتبر فيها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف «1» إليها العدد وعلق الحساب بما عداها فتدبر.
وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه في معاشكم ومعادكم سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية وهو منصوب بفعل يفسره قوله تعالى : فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا وهذا من باب الاشتغال ورجح النصب لتقدم جملة فعلية ، وجوز أن يكون معطوفا على الْحِسابَ وجملة فَصَّلْناهُ صفة شيء ، وهو بعيد معنى.
والتفصيل من الفصل بمعنى القطع والمراد به الإبانة التامة وجيء بالمصدر للتأكيد. فالمعنى بينا كل شيء في القرآن الكريم بيانا بليغا لا التباس معه كقوله تعالى : وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل : 89] فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا.
وَكُلَّ إِنسانٍ منصوب على حد كُلَّ شَيْءٍ أي وألزمنا كلّ إنسان مكلف أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي عمله الصادر منه باختياره حسبما قدر له خيرا كان أو شرا كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر ، وفي الكشاف أنهم كانوا يتفاءلون بالطير ويسمونه زجرا فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وإن مر بارحا بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاءموا ولذا سمي تطيرا فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير استعارة تصريحية لما يشبههما من قدر اللّه تعالى وعمل العبد لأنه سبب للخير والشر.
___________
(1) قوله أضيف أضيف كذا بخطه وليست الأولى بضرورية كما لا يخفى.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 31
ومنه طائر اللّه تعالى لا طائرك أي قدر اللّه جل شأنه الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن ، وقد كثر فعلهم ذلك حتى فعلوه بالظباء أيضا وسائر حيوانات الفلا وسموا كل ذلك تطيرا كما في البحر ، وتفسيره بالعمل هنا مروي عن ابن عباس ورواه البيهقي في شعب الأيمان عن مجاهد وذهب إليه غير واحد وفسره بعضهم بما وقع للعبد في القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه في العلم الأزلي من قولهم : طار إليه سهم كذا ، ومن ذلك فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي ألزمنا كل إنسان نصيبه وسهمه الذي قسمناه له في الأزل فِي عُنُقِهِ تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط وعلى ذلك جاء قوله : إن لي حاجة إليك فقال : بين أذني وعاتقي ما تريد وتخصيص العنق لظهور ما عليه من زائن كالقلائد والأطواق أو شائن كالأغلال والأوهاق ولأنه العضو الذي يبقى مكشوفا يظهر ما عليه وينسب إليه التقدم والشرف ويعبر به عن الجملة وسيد القوم ، فالمعنى ألزمناه غله بحيث لا يفارقه أبدا بل يلزمه لزوم القلادة والغل لا ينفك عنه بحال.
وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «إن النطفة التي يخلق منها النسمة تطير في المرأة أربعين يوما وأربعين ليلة فلا يبقى منها شعر ولا بشر ولا عرق ولا عظم إلا دخلته حتى إنها لتدخل بين الظفر واللحم فإذا مضى أربعون ليلة وأربعون يوما أهبطها اللّه تعالى إلى الرحم فكانت علقة أربعين يوما وأربعين ليلة ثم تكون مضغة أربعين يوما وأربعين ليلة فإذا تمت لها أربعة أشهر بعث اللّه تعالى إليها ملك الأرحام فيخلق على يده لحمها ودمها وشعرها وبشرها ثم يقول سبحانه صور فيقول : يا رب أصور أزائد أم ناقص أذكر أم أنثى أجميل أم ذميم أجعد أم سبط أقصير أم طويل أأبيض أم آدم أسوي أم غير سوي فيكتب من ذلك ما يأمر اللّه تعالى به ثم يقول : أي رب أشقي أم سعيد؟ فإن كان سعيدا نفخ فيه بالسعادة في آخر أجله وإن كان شقيا نفخ فيه بالشقاوة في آخر أجله ثم يقول : أكتب أثرها ورزقها ومصيبتها وعملها بالطاعة والمعصية فيكتب من ذلك ما يأمره اللّه تعالى ثم يقول الملك : يا رب ما أصنع بهذا الكتاب فيقول : سبحانه علقه في عنقه إلى قضائي عليه»
فذلك قوله تعالى : وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
ولا يخفى أن الظاهر من هذا الخبر أن ذكر العنق ليس للتصوير المذكور وأن الطائر عبارة عن الكتاب الذي كتب فيه ما كتب.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس أنه فسره بذلك صريحا ، وباب المجاز واسع ، ونحن نؤمن بالحديث إذا صح ونفوض كيفية ما دل عليه إلى اللطيف الخبير جل جلاله ، والظاهر منه أيضا عدم تقييد الإنسان بالمكلف ، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب القدر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية : ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد ، وآخر الآية ظاهر في التقييد.
وقرأ مجاهد والحسن وأبو رجاء «طيره» وقرىء «عنقه» بسكون النون وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ والبعث للحساب كِتاباً هي صحيفة عمله ، ونصبه على أنه مفعول نُخْرِجُ وجوز أن يكون حالا من مفعول لنخرج محذوف وهو ضمير عائد على الطائر أي نخرجه له حال كونه كتابا ، ويعضد ذلك قراءة يعقوب ومجاهد ، وابن محيصن «ويخرج» بالياء مبنيا للفاعل من خرج يخرج ونصب كِتاباً فإن فاعله حينئذ ضمير الطائر وكتابا حال منه والأصل توافق القراءتين ، وكذا قراءة أبي جعفر «ويخرج» بالياء مبنيا للمفعول من أخرج ونصب كِتاباً أيضا ، ووجه كونها عاضدة أن في يخرج حينئذ ضميرا مستترا هو ضمير الطائر وقد كان مفعولا ، واحتمال أن يكون لَهُ نائب الفاعل فلا تعضد لا يلتفت إليه لأن إقامة غير المفعول مع وجوده مقام الفاعل ضعيفة وليس ثمة ما يكون كتابا حالا منه فيتعين ما ذكر كما قاله ابن يعيش في شرح المفصل ، وعنه أيضا أنه قرىء «يخرج» بالبناء للمفعول أيضا ورفع «كتاب»

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 32
على أنه نائب الفاعل وقرأ الحسن «يخرج» بالبناء للفاعل من الخروج ورفع «كتاب» على الفاعلية ، وقرأت فرقة ويخرج بالياء من الإخراج مبنيا للفاعل وهو ضمير اللّه تعالى وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن هارون قال في قراءة أبي بن كعب «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه يقرأه يوم القيامة كتابا» يَلْقاهُ أي يلقى الإنسان أو يلقاه الإنسان مَنْشُوراً غير مطوي لتمكن قراءته وفيه إشارة إلى أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه. وجملة يَلْقاهُ صفة كتابا ومَنْشُوراً حال من ضميره ، وجوز أن يكونا صفتين له ، وفي تقدم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو خلاف الظاهر ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف عنه «يلقاه» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقيته كذا أي يلقى الإنسان إياه.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك في قبرك حتى تجيء يوم القيامة فتخرج لك
اقْرَأْ كِتابَكَ بتقدير يقال له ذلك ، وهذه الجملة إما صفة أو حال أو مستأنفة ، والظاهر أن جملة قوله تعالى :
كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً من جملة مقول القول المقدر ، وكفى فعل ماض وبنفسك فاعله والباء سيف خطيب وجاء إسقاطها ورفع الاسم كما في قوله : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا. وقوله :
ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
ولم تلحق الفعل علامة التأنيث وإن كان مثله تلحقه كقوله تعالى : ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء : 6] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ [الأنعام : 4] قيل لأن الفاعل مؤنث مجازي ولا يشفي الغليل لأن فاعل ما ذكر من الأفعال مؤنث مجازي مجرور بحرف زائد أيضا وقد لحق فعله علامة التأنيث وغاية الأمر في مثل ذلك جواز الإلحاق وعدمه ولم يحفظ كما في البحر الإلحاق في كفى إذا كان الفاعل مؤنثا مجرورا بالباء الزائدة ، ومن هنا قيل إن فاعل كفى ضمير يعود على الاكتفاء أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك ، وقيل هو اسم فعل بمعنى اكتف والفاعل ضمير المخاطب والباء على القولين ليست بزائدة ، ومرضى الجمهور ما قدمناه ، والتزام التذكير عندهم على خلاف القياس.
ووجه بعضهم ذلك بكثرة جر الفاعل بالباء الزائدة حتى إن إسقاطها منه لا يوجد إلا في أمثلة معدودة فانحطت رتبته عن رتبة الفاعلين فلم يؤنث الفعل له ، وهذا نحو ما قيل في مر بهند وقيل غير ذلك ، والْيَوْمَ ظرف لكفى وحَسِيباً تمييز كقوله تعالى : وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء : 69] وقولهم : للّه تعالى دره فارسا ، وقيل : حال وعليك متعلق به قدم لرعاية الفواصل وعدي بعلى لأنه بمعنى الحاسب والعاد وهو يتعدى بعلى كما تقول عدد عليه قبائحه ، وجاء فعيل الصفة من فعل يفعل بكسر العين في المضارع كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها إلا أنه قليل أو بمعنى الكافي فتجوز به عن معنى الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه فعدي بعلى كما يعدى الشهيد ، وقيل هو بمعنى الكافي من غير تجوز لكنه عدي تعدية الشهيد للزوم معناه له كما في أسد عليّ ، وهو تكلف بارد ، وتذكيره وهو فعيل بمعنى فاعل وصف للنفس المؤنثة معنى لأن الحساب والشهادة مما يغلب في الرجال فأجرى ذلك على أغلب أحواله فكأنه قيل كفى بنفسك رجلا حسيبا أو لأن النفس مؤولة بالشخص كما يقال ثلاثة أنفس أو لأن فعيل المذكور محمول على فعيل بمعنى فاعل والظاهر أن المراد بالنفس الذات فكأنه قيل كفى بك حسيبا عليك.
وجعل بعضهم في ذلك تجريدا فقيل : إنه غلط فاحش ، وتعقب بأن فيه بحثا فإن الشاهد يغاير المشهود عليه فإن اعتبر كون الشخص في تلك الحال كأنه شخص آخر كان تجريدا لكنه لا يتعلق به غرض هنا.
وعن مقاتل أن المراد بالنفس الجوارح فإنها تشهد على العبد إذا أنكر وهو خلاف الظاهر.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 33
وعن الحسن أنه كان إذا قرأ الآية قال : يا ابن آدم أنصفك واللّه من جعلك حسيب نفسك ، والظاهر أنه يقال ذلك للمؤمن والكافر ، وما
أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي من أن الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب فيقول : رب إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ
الآية لا يدل على أنه خاص بالكافر كما لا يخفى ، ويقرأ في ذلك اليوم كما روي عن قتادة من لم يكن قارئا في الدنيا.
وجاء أن المؤمن يقرأ أولا سيئاته وحسناته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف ولا يراها هو فيغبطونه عليها فإذا استوفى قراءة السيئات وظن أنه قد هلك رأى في آخرها هذه سيئاتك قد غفرناها لك فيتبلج وجهه ويعظم سروره ثم يقرأ حسناته فيزداد نورا وينقلب إلى أهله مسرورا ويقول هاؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه.
وأما الكافر فيقرأ أولا حسناته وسيئاته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف فيتعوذون من ذلك فإذا استوفى قراءة الحسنات وجد في آخرها هذه حسناتك قد رددناها عليك وذلك قوله تعالى : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان : 23] فيسود وجهه ويعظم كربه ثم يقرأ سيئاته فيزداد بلاء على بلاء وينقلب بمزيد خيبة وشقاء ويقول : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ [الحاقة : 25 ، 26] جعلنا اللّه تعالى ممن يقرأ فيرقى لا ممن يقرأ فيشقى بمنه وكرمه هذا وفسر بعضهم الكتاب بالنفس المنتقشة بآثار الأعمال ونشره وقراءته بظهور ذلك له ولغيره ، وبيانه أن ما يصدر عن الإنسان خيرا أو شرا يحصل منه في الروح أثر مخصوص وهو خفي ما دامت متعلقة بالبدن مشتغلة بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقتها قامت قيامته لانكشاف الغطاء باتصالها بالعالم العلوي فيظهر في لوح النفس نقش أثر كل ما عمله في عمره وهو معنى الكتابة والقراءة ، ولا يخفى أن هذا منزع صوفي حكمي بعيد من الظهور قريب من البطون ، وفيه حمل القيامة على القيامة الصغرى وهو خلاف الظاهر أيضا ، والروايات ناطقة بما يفهم من ظاهر الآية نعم ليس فيها نفي انتقاش النفس بآثار الأعمال وظهور ذلك يوم القيامة فلا مانع من القول بالأمرين ، ومن هنا قال الإمام : إن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضا والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل ونعم ما قال غير أن كون ذلك الاحتمال ظاهر غير ظاهر ، وقال الخفاجي : ليس في هذا ما يخالف النقل وقد حمل عليه ما روي عن قتادة من أنه يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا ولا وجه لعده مؤيدا له ، وأنت تعلم أن حمل كلام قتادة على ذلك تأويل أيضا ولعل قتادة وأمثاله من سلف الأمة لا يخطر لهم أمثال
هذه التأويلات ببال والكلام العربي كالجمل الأنوف واللّه تعالى أعلم بحقائق الأمور. وفي كيفية النظم ثلاثة أوجه ذكرها الإمام.
الأول أنه تعالى لما قال : وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا تضمن أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد قد صار مذكورا وإذا كان كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ، الثاني أنه تعالى لما بين أنه سبحانه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما فكأنه كان منعما عليهم بوجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته تعالى وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة يكون مسؤولا عن أقواله وأعماله ، الثالث أنه تعالى بين أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته كما قال : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل كان إنما خلقت «1» هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وإذا كان
___________
(1) قوله كان إنما خلقت إلخ كذا بخطه والذي في تفسير الفخر الرازي والليل والنهار كان المعنى إني إنما إلخ.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 34
كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته هل أتى بتلك الطاعة أو تمرد وعصى اه ، وقد يقال وجه الربط أن فيما تقدم شرح حال كتاب اللّه تعالى المتضمن بيان النافع والضار من الأعمال وفي هذا شرح حال كتاب العبد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من تلك الأعمال إلا أحصاها وحسنه وقبحه تابع للأخذ بما في الكتاب الأول وعدمه فمن أخذ به فقد هدى ومن أعرض عنه فقد غوى ، وقوله تعالى :
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فذلكة لما تقدم من كون القرآن هاديا للتي هي أقوم وللزوم الأعمال لأصحابها أي من اهتدى بهدايته وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة الاهتداء به إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد وَمَنْ ضَلَّ عما يهتديه إليه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فإنما وبال ضلاله عليها لا على من لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تأكيد للجملة الثانية أي لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم ، وخص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم.
وروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة لما قال : اكفروا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى أوزاركم ، ولا ينافي هذه الآية ما يدل عليه قوله تعالى : مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها [النساء : 85] وقوله تعالى : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل :
25] من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته لأنه في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال قاله شيخ الإسلام ، ولهذه الآية طعنت عائشة رضي اللّه تعالى عنها
في صحة خبر ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه
فإن فيه أخذ الإنسان بجرم غيره وهو خلاف ما نطقت به الآية.
وأجيب بأن الحديث محمول على ما إذا أوصى الميت بذلك فيكون ذلك التعذيب من قبيل جزاء الإضلال ، وقيل : المراد بالميت المحتضر مجازا وبالتعذيب التعذيب في الدنيا أي إن المحتضر يتألم ببكاء أهله عليه فلا ينبغي أن يبكوا ، ولها أيضا منع جماعة من قدماء الفقهاء صرف الدية على العاقلة لما فيه من مؤاخذة الإنسان بفعل غيره ، وأجيب بأن ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء وإلا فالمخطىء نفسه ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يؤاخذ غيره عليه ، واستدل بها الجبائي على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإلا كانوا مؤاخذين بذنب آبائهم وهو خلاف ظاهر الآية ، وزعم بعضهم أنها نزلت فيهم وليس بصحيح ، نعم
أخرج ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف عن عائشة قالت : سألت خديجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أولاد المشركين فقال : هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : اللّه تعالى أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ولا تزر وازرة وزر أخرى فقال : هم على الفطرة أو قال في الجنة
، والمسألة خلافية وفيها مذاهب فقال الأكثرون : هم في النار تبعا لآبائهم واستدل لذلك بما
أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة أيضا قالت سألت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن ولدان المسلمين أين هم؟ قال : في الجنة وسألته عن ولدان المشركين أين هم؟ قال : في النار قلت : يا رسول اللّه لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام قال : ربك أعلم بما كانوا عاملين والذي نفسي بيده إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار ،
وفيه أن هذا الخبر قد ضعفه ابن عبد البر فلا يحتج به ، نعم صح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن أولاد المشركين
فقال : اللّه تعالى أعلم بما كانوا عاملين
وليس فيه تصريح

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 35
بأنهم في النار وحقيقة لفظه اللّه تعالى أعلم بما كانوا عاملين لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ.
وأخرج الشيخان وأصحاب السنن. وغيرهم عن ابن عباس قال : حدثني الصعب بن جثامة قلت : يا رسول اللّه إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين ، قال : هم منهم
، وهو عند المخالفين محمول على أنهم منهم في الأحكام الدنيوية كالاسترقاق.
وتوقفت طائفة فيهم ومن هؤلاء أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، وقيل فيهم من يدخل الجنة ومن يدخل النار لما
أخرج الحكيم الترمذي في النوادر عن عبد اللّه بن شداد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أتاه رجل فسأله عن ذراري المشركين الذين هلكوا صغارا فوضع رأسه ساعة ثم قال : أين السائل؟ فقال : ها أنا ذا يا رسول اللّه فقال : إن اللّه تبارك وتعالى إذا قضى بين أهل الجنة والنار ولم يبق غيرهم عجوا فقالوا : اللهم ربنا لم تأتنا رسلك ولم نعلم شيئا فأرسل إليهم ملكا واللّه تعالى أعلم بما كانوا عاملين فقال : إني رسول ربكم إليكم فانطلقوا فاتبعوا حتى أتوا النار فقال إن اللّه تعالى يأمركم أن تقتحموا فيها فاقتحمت طائفة منهم ثم خرجوا من حيث لا يشعر أصحابهم فجعلوا في السابقين المقربين ثم جاءهم الرسول فقال إن اللّه تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فاقتحمت طائفة أخرى ثم أخرجوا من حيث لا يشعرون فجعلوا في أصحاب اليمين ثم جاء الرسول فقال : إن اللّه تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فقالوا : ربنا لا طاقة لنا بعذابك فأمر بهم فجمعت نواصيهم وأقدامهم ثم القوا في النار.
وذهب المحققون إلى أنهم من أهل الجنة وهو الصحيح ويستدل له بأشياء منها الآية على ما سمعت عن الجبائي ، ومنها
حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الجنة وحوله أولاد الناس قالوا : يا رسول اللّه وأولاد المشركين قال : وأولاد المشركين رواه البخاري في صحيحه
، ومنها ما
أخرجه الحكيم الترمذي أيضا في النوادر وابن عبد البر عن أنس قال : سألنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أولاد المشركين فقال : هم خدام أهل الجنة.
ومنها الآية الآتية حيث أفادت أن لا تعذيب قبل التكليف ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يبلغ ، ولم يخالف أحد في أن أولاد المسلمين في الجنة إلا بعض من لا يعتد به فإنه توقف فيهم
لحديث عائشة توفي صبي من الأنصار فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : أو غير ذلك يا عائشة إن اللّه تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم
وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في
قوله : أعطه إني لأراه مؤمنا قال أو مسلما الحديث ،
ويحتمل أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله اللّه تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم»
إلى غير ذلك من الأحاديث ، وقال القاضي : دلت الآية على أن الوزر ليس من فعله تعالى لأنه لو كان كذلك لا متنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره ولأنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلا لأن الوازر إنما يوصف بذلك إذا كان مختارا يمكنه التحرز ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بذلك ، وأنت تعلم أن هذا إنما ينتهض على الجبرية لا على الجماعة القائلين لا جبر ولا تفويض وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائنا السابق أن نعذب أحدا بنوع ما من العذاب دنيويا كان أو أخرويا على فعل شيء أو ترك شيء أصليا كان أو فرعيا حَتَّى نَبْعَثَ إليه رَسُولًا يهدي إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 36
ويمهد الشرائع أو حتى نبعث رسولا كذلك تبلغه دعوته سواء كان مبعوثا إليه أم لا على ما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى من الخلاف ، وهذا غاية لعدم صحة وقوع العذاب في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقا كيف والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان ، ألا يرى إلى قوم نوح عليه السلام كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة ، وألزم المعتزلة القائلون بالوجوب العقلي قبل البعثة بهذه الآية لأنه تعالى نفى فيها التعذيب مطلقا قبل البعثة وهو من لوازم الوجوب بشرط ترك الواجب عندهم إذ لا يجوزون العفو فينتفي الوجوب قبل البعثة لانتفاء لازمه ، ومحصوله أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبل البعثة ولا شبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذ فيلزم أن يكونوا معذبين قبلها وهو باطل بالآية.
وتعقب بأنه إنما يتم إذا أريد بالعذاب ما يشمل الدنيوي والأخروي كما أشير إليه لكن المناسب لما بعد أن يراد عذاب الاستئصال في الدنيا ولا يلزم من انتفاء العذاب الدنيوي قبل البعث انتفاء الوجوب لأن لازم الوجوب عندهم هو العذاب الأخروي ، وأجيب بعد تسليم أن المناسب لما بعد أن يراد العذاب الدنيوي بأن الآية لما دلت على أنه لا يليق بحكمته إيصال العذاب الأدنى على ترك الواجب قبل التنبيه ببعثة الرسول فدلالتها على عدم إيصال العذاب الأكبر على تركه قبل ذلك أولى ، وأورد الأصفهاني في شرح المحصول على من استدل بالآية على نفي الوجوب العقلي قبل البعثة أمورا ، الأول أن المراد بالرسول فيها العقل ، الثاني أنا سلمنا أن المراد النبي المرسل لكن الآية دلت على نفي تعذيب المباشرة قبل البعثة ولا يلزم منه نفي مطلق التعذيب.
الثالث أنا سلمنا ذلك لكن ليس في الآية دلالة على نفي التعذيب قبلها عن كل الذنوب ، الرابع أنا سلمنا الدلالة لكن لا يلزم من نفي المؤاخذة انتفاء الاستحقاق لجواز سقوط المؤاخذة بالمغفرة ، ثم أجاب عن الأول بأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة ، وعن الثاني بأن من شأن عظيم القدر التعبير عن نفي التعذيب مطلقا بنفي المباشرة ، وعن الثالث بما أشرنا إليه من أن تقدير الكلام وما كنا معذبين أحدا ويلزم من ذلك انتفاء تعذيب كل واحد من الناس وذلك هو المطلوب لأن الخصم لا يقول به.
وعن الرابع بأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة وانتفاؤه قبلها ظاهرا يدل على عدم الوجوب قبلها فمن ادعى أن الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز بالمغفرة فعليه البيان اه ، وأنت تعلم أنه إذا كان الاستدلال إلزاميا كما قال به غير واحد لا يرد الأمر الرابع أصلا لأن المعتزلة لا يجوزون العفو عن تارك الواجب العقلي ، وقد أشرنا إلى ذلك ، نعم قال المراغي في شرح منهاج الأصول للقاضي : لا حاجة إلى جعل الدليل إلزاميا بل يجوز إتمامه على تقدير جواز العفو أيضا بأن يقال وقوع العذاب وإن لم يكن لازما للوجوب لكن عدم الأمن من وقوعه لازم له ضرورة إذ يجوز العقاب على ترك الواجب عندنا وإن لم يجب وهذا اللازم أعني عدم الأمن منتف لدلالة الآية على عدم وقوعه فينتفي الملزوم.
ورد ذلك أولا بمنع أن عدم الأمن من وقوع العذاب من لوازم ترك الواجب مطلقا بل عدم الأمن إذا لم يتيقن عدم وقوع العذاب بدليل آخر ، وأما ثانيا فبأن انتفاء عدم الأمن إنما هو بالآية إذ قبل ورودها كان العقاب جائزا ولا شك أن انتفاءه بها انتفاء بالعفو لأن معنى العفو عدم العقاب والآية تدل عليه فلم يتم الدليل على تقدير جواز العفو وهو كما ترى ، وقيل : نجعل اللازم جواز العقاب فيتم الدليل تحقيقا لأن جواز العفو لا ينافي جواز العقاب. ورد بأن الملازمة القائلة بأنه لو كان الوجوب ثابتا قبل الشرع لعذب تارك الواجب وإن كانت مسلمة حينئذ لكن بطلان التالي ممنوع لأن الآية إنما تدل على نفي وقوع العذاب لا على نفي جوازه.
وفيه أن معنى ما كنا معذبين ما سمعت وهو يدل على نفي الجواز ، وقد كثر استعمال هذا التركيب في ذلك

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 37
كقوله تعالى : وَما كُنَّا ظالِمِينَ [الشعراء : 209] «وما كنا لاعبين» «1» إلى غير ذلك ولو أريد نفي الوقوع لقيل وما نعذب حتى نبعث رسولا.
وضعف الإمام الاستدلال بالآية بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي البتة وهذا باطل فذاك باطل. قال : بيان الملازمة من وجوه ، أحدها أنه إذا جاء الشارع وادعى كونه نبيا من عند اللّه تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة وإن وجب فإما أن يجب بالشرع أو بالعقل فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي وإن وجب بالشرع فهو باطل لأن ذلك الشارع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن يقول ذلك الرجل الدليل : على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه ، وإن كان غيره كان الكلام فيه كما في الأول ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان. وثانيها أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول لو تركت كذا أو فعلت كذا لعاقبتك ، فنقول : أما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب فإن لم يجب لم يتقرر معنى الوجوب البتة وإن وجب فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع فإن وجب بالعقل فهو المقصود وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال.
وثالثها أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من اللّه تعالى العفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال : إن ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل بمحض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف وأن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل فلزم أن يقال : الوجوب حاصل بمجرد العقل ، فإن قالوا : ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الذم قلنا : إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه اه.
وتعقبه العبادي بأنه يمكن الجواب عن الأول بأنه إذا أظهر المعجزة على دعواه أنه رسول ثبت صدقه كما تقرر في محله فيجب قبول قوله في كل ما يخبر عن اللّه تعالى من غير لزوم محذور من إثبات الشيء بنفسه أو الدور أو التسلسل ، وإن كان ثبوت ما أخبر بالشرع بمعنى أن ثبوته بإخبار من ثبتت رسالته بالمعجزة عن اللّه تعالى بذلك وليس حاصل الكلام على هذا أنه يقول : الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قولي حتى يلزم ما يلزم بل حاصله أنه يقول : يجب قبول قولي لأنه ثبت أني رسول اللّه تعالى فيجب صدقي وتصديقي في كل ما أدعيه ، وليس في هذا شيء من المحاذير السابقة ، وقد صرح السيد السند في شرح المواقف بأنه يثبت الشرع وتجب المتابعة بمجرد دعوى الرسالة مع اقتران المعجزة وتمكن المبعوث إليه العاقل من النظر وإن لم ينظر ، وذكر أنه حينئذ لا يجوز للمكلف الاستمهال ولو استمهل لم يجب الإمهال لجريان العادة بإيجاب العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه فعلم أنه بمجرد دعوى الرسالة مع ما ذكر يثبت الوجوب بإخباره وهو ثبوت الشرع لأن معنى الثبوت به هو الثبوت بالإخبار عن اللّه تعالى حقيقة أو حكما وعلى هذا لا يتأتى الترديد الذي ذكره بقوله لأن ذلك الشرع إما أن يكون إلخ فليتأمل ، وعن الثاني بأن وجوب الاحتراز عن العقاب ليس أمرا أجنبيا عن وجوب كذا حتى يتوجه عليه الترديد الذي ذكره بل هو
___________
(1) نصّ الآية : وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء. 16].

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 38
نفس وجوب كذا أو لازمه إذ الاحتراز ليس إلا بالإتيان بكذا الذي هو الواجب فوجوب الاحتراز أما وجوب كذا أو لازمه فوجوبه بوجوبه فلا يلزم الترديد المذكور ، وعن الثالث بأنه إن أراد بقوله إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب أن حصول الواجب في الخارج بالإتيان به إنما هو بسبب حصول الخوف فليس الكلام فيه ومع ذلك أنا لا نسلم أن الإتيان بالواجب متوقف على حصول الخوف وإن أراد أن تحقق وجوب الواجب أي تعلق وجوبه بالمكلف الذي هو التكليف التنجيزي متوقف على حصول الخوف المذكور فهو ممنوع كما هو ظاهر اه فتدبر.
وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على تقدير تمامه لا يختص بالمعتزلة بل يشاركهم في ذلك أحد فريقي الحنفية من أهل السنة وهم الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند لأنهم وإن لم يقولوا كالمعتزلة بأن العقل حاكم بالحسن والقبح اللذين أثبتوهما جميعا لكنهم قالوا : إن العقل آلة للعلم بهما فيخلقه اللّه تعالى عقيب نظر العقل نظرا صحيحا وأوجبوا الإيمان باللّه تعالى وتعظيمه وحرموا نسبة ما هو شنيع إليه سبحانه حتى
روي عن أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : لو لم يبعث اللّه تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته ،
وقد صرح غير واحد من علمائهم بأن العقل حجة من حجج اللّه تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الشرع ، واحتجوا في ذلك بما أخبر اللّه تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله لأبيه وقومه إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام : 74] حيث قال ذلك ولم يقل أوحي إلي ومن استدلاله بالنجوم ومعرفة اللّه تعالى بها وجعلها حجة على قومه وكذاك كل الرسل حاجوا قومهم بحجج العقل كما ينبىء عنه قوله تعالى : قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم : 10] الآية بقوله تعالى : وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون : 117] الآية حيث لم يقل ومن يدع مع اللّه إلها آخر بعد ما أوحى إليه أو بلغته الدعوة وبقوله سبحانه خبرا عن أهل النار وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير حيث أخبروا أنهم صاروا في النار لتركهم الانتفاع بالسمع والعقل.
وفيه أنهم لو انتفعوا بالعقول في معرفة الصانع قبل ورود الشرع لم يصيروا في النار وبأن الحجج السمعية لم تكن حججا إلا باستدلال عقلي ، وبأن دعاء جميع الكفرة إلى دين الإسلام واجب على الأمة ومعلوم أن الدهرية لا يحتج عليهم بكلام اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا حجج العقول إلى غير ذلك ، وحينئذ يقال لهم :
لو وجب على الخلق معرفة اللّه تعالى والإيمان به قبل بعثة رسول لزم تعذيب الكافر قبلها لإخباره تعالى بأنه لا يغفر الشرك به وقد نفى التعذيب في الآية فلا وجوب ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم على نهج ما فعل مع المعتزلة ، والإمام الرازي بعد أن ضعف الاستدلال بالآية وأثبت الوجوب العقلي ذكر في الآية وجهين ، الأول حمل الرسول على العقل ، والثاني تخصيص العموم بأن يقال المراد وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ثم قال : والذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به وترك ما يتضرر به ويمتنع أن يحكم العقل عليه تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل اه.
وأنت تعلم ما قيل من حمل الرسول على العقل وهو خلاف استعمال القرآن الكريم ، ويبعده توبيخ الخزنة الكفار بقولهم أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غافر : 50] ولم يقولوا أو لم تكونوا عقلاء ، وحمل الرسول فيه على العقل مما لا يرتضيه العقل ، واعتذر هو عن التخصيص بأنه وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه إذا قام الدليل عليه وقد قام بزعمه.
وأبو منصور الماتريدي ومتبعوه حملوا الآية على نفي تعذيب الاستئصال في الدنيا ، وذهب هؤلاء إلى تعذيب

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 39
أهل الفترة بترك الإيمان والتوحيد وهم كل من كان بين رسولين ولم يكن الأول مرسلا إليهم ولا أدركوا الثاني ، واعتمد القول بتعذيبهم النووي في شرح مسلم فقال : إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام والظاهر أن النووي يكتفي في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل وإن لم يكن مرسلا إليه فلا منافاة بين حكمه بأنهم أهل فترة بالمعنى السابق وحكمه بأن الدعوة بلغتهم خلافا للآبي في زعمه ذلك ، نعم إنما تلزم المنافاة لو ادعى أن من تقدمهم من الرسل مرسل إليهم وليس فليس.
وإلى ذلك ذهب الحليمي فقال في منهاجه : إن العاقل المميز إذا سمع أية دعوة كانت إلى اللّه تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضا عن الدعوة فكفر ويبعد أن يوجد شخص لم يبلغه خبر أحد من الرسل على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق «1» ولو أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلها ولا نرى أن ذلك يكون فأمره على الاختلاف في أن الإيمان هل يجب بمجرد العقل أو لا بد من انضمام النقل ، وهذا صريح في ثبوت تكليف كل أحد بالإيمان بعد وجود دعوة أحد من الرسل وإن لم يكن رسولا إليه ، وبالغ بعضهم في اعتماد ذلك حتى قال : فمن بلغته دعوة أحد من الرسل عليهم السلام بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر من أهل النار فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة مع أخبار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار اه.
والذي عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء أن أهل الفترة لا يعذبون وأطلقوا القول في ذلك ، وقد صح تعذيب جماعة من أهل الفترة ، وأجيب بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القطع بعدم التعذيب قبل البعثة ، وبأنه يجوز أن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به يقتضي ذلك علمه اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه ، وقيل إن تعذيب هؤلاء المذكورين في الأحاديث مقصور على من غير وبدل من أهل الفترة بما لا يعذر به كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع كما فعل عمرو بن لحي ولا يخفى أن هذا لا يوافق إطلاق هؤلاء الأئمة ولا القول بأنه لا وجوب إلا بالشرع ولو أمكن أن يكون من ثبت تعذيبه من اتباع من بقي شرعه إذ ذاك كعيسى عليه السلام لم يبق أشكال أصلا ، واستدل بعض من يقول بتعذيبهم مطلقا بما
أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ عقلا : يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني ويقول الهالك في الفترة : يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني ويقول الهالك صغيرا : يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني فيقول لهم الرب تبارك وتعالى : فاذهبوا فادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا فتخرج عليهم قوابص من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق اللّه تعالى من شيء فيرجعون سراعا ويقولون : يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أن قد أهلكت ما خلق اللّه تعالى من شيء ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك ويقولون كذلك فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي وإلى علمي تصيرون يا
___________
(1) قال البغوي في التهذيب : من لم تبلغه الدعوة لا يجوز قتله قبل أن يدعى إلى الإسلام فإن قتل قبل أن يدعى وجب على قاتله الدية والكفارة وقال التاج السبكي لا يجب القصاص على قاتله على الصحيح ، وعند أبي حنيفة لا يجب الضمان بقتله اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 40
نار ضميهم فتأخذهم النار»
وبعض الأخبار يقتضي أن منهم من يعذب ومنهم من لا يعذب.
فقد أخرج أحمد وابن راهويه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول : رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول فيأخذ سبحانه مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها
. وأخرج قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «يؤتى يوم القيامة بأربعة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم : ابرزي ويقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم فيقول لهم : ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء : يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفر وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيقول الرب تعالى :
قد عاينتموني فعصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار»
إلى غير ذلك من الأخبار ، ويحتج بها من قال بانقسام ذراري المشركين بل وذراري المؤمنين وفي القلب من صحتها شيء وإن قال في الإصابة : إنها وردت من عدّة طرق وعلى تقدير صحتها فمعارضها أصح منها ، والذي يميل إليه القلب أن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدته وتنزهه عن الولد سبحانه قبل ورود الشرع للأدلة السابقة وغيرها وإن كان في بعضها ما يقال وإرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة منه تعالى أو أن ذلك لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والحدود فلا يرد أنه لو كان العقل حجة ما أرسل اللّه تعالى رسولا ولا كتفى به. وقيل في جوابه : لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل مع العقل وحده إلا بعظيم تأمل فيه حرج يعذر الإنسان بمثله ولا إيمان بدونه بعث اللّه تعالى الرسل عليهم السلام لبيان ما به تتمة الدين لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداية العقول فالبعرة تدل على البعيرة والأثر على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير.
وأيضا إن اللّه تعالى لم يدعنا ورسولا من أول الأمر إلى آخره والحجة كانت قائمة بالواحد كما بقيت بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلى يوم القيامة ولم يدل ذلك على أن الأول لم يكن حجة كافية ، وكذلك لم يدعنا سبحانه والبيان بآية واحدة بل من علينا جل شأنه بآيات متكررة ولا يدل ذلك أن الآية الواحدة لم تكن حجة كافية.
وقوله تعالى خبرا عن قول الخزنة لأهل النار : أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غافر : 50] توبيخ بالأظهر وهو لا يدل على أن الآخر ليس بحجة ، وقوله تعالى : لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [المائدة : 165] على معنى لئلا يكون لهم احتجاج بزعمهم بأن يقولوا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه : 134] ، وقوله تعالى : ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها «1» غافِلُونَ [الأنعام : 131] محمول على الإهلاك بعذاب الاستئصال في الدنيا على تكذيب الرسل وأما جزاء الكفر فالنار في العقبى ، وكذا يقال في الآية التي نحن فيها لكثرة ما يدعو إليه فلا عذر لمن لم يعرف ربه سبحانه من أهل الفترة إذا كان عاقلا مميزا متمكنا من النظر والاستدلال لا سيما إذا بلغته دعوة رسول من الرسل عليهم السلام ولا يكاد يوجد من لم تبلغه كما سمعت عن الحليمي وقيل : بوجوده في أمريقا «2» وهي
___________
(1) وفسرت الغفلة بغفلة إهمال الحجة ، وقيل : غافلون بسبب خفائها تأمل اه منه.
(2) الذي رأيته في بعض كتب المتأخرين أن أول من كشف عنها أماريكوس القبطان وبه سميت ثم قيل فيها : أمريكا تخفيفا اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 41
المسماة بيكي دنيا قبل أن يظفر بها في حدود الألف بعد الهجرة كرشتوفيل المشهور بقلوبنو فإن أهلها على ما بلغنا إذ ذاك لم يسمعوا بدعوة رسول أصلا ، ثم المفهوم من كلام الأجلة أن النزاع إنما هو بالنسبة لأحكام الإيمان باللّه تعالى بخلاف الفروع فلا خلاف في أنها لا تثبت إلا في حق من بلغته دعوة من أرسل إليه وهو الظاهر ، نعم ما اتفق عليه الملل من الفروع هل هو كالإيمان حتى يجري فيه النزاع المتقدم فيه نظر ، وأما الإيمان بنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم فليس بواجب على من لم تبلغه دعوته إذ ليس للعقل في ذلك مجال كما لا يخفى على ذي عقل بل قال حجة الإسلام الغزالي. الناس بعد بعثته عليه الصلاة والسلام أصناف : صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا فأولئك مقطوع لهم بالجنة ، وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه صلّى اللّه عليه وسلّم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا فأولئك مقطوع لهم بالنار ، وصنف بلغتهم دعوته عليه الصلاة والسلام وسمعوا به لكن كما يسمع أحدنا بالدجال وحاشا قدره الشريف صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك فهؤلاء أرجو لهم الجنة إذ لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به اه ، ولعل القطع بالجنة للأولين ورجاءها للآخرين إنما يكونان إذا كانوا مؤمنين باللّه تعالى وأما إذا لم يكونوا كذلك فهم على الخلاف ، ثم إن مسألة عدم الوجوب قبل ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها فإن كانت علمية فلا يمكن إثباتها بالدلائل الظنية ، وفيها عندهم نوع اكتفاء أي وما كنا معذبين ولا مثيبين حتى نبعث رسولا ، قالوا : واستغنى عن ذكر الثواب بذكر مقابله من العذاب ولم يعكس لأنه أظهر منه في تحقق معنى التكليف فتأمل.
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
بيان لكيفية وقوع العذاب بعد البعثة ، وليس المراد بالإرادة الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقته المقدر له أصلا إذ لا يقارنها الجزاء الآتي ، ولا تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنه المراد بل دنو وقته كما في قوله تعالى : أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل : 1] أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاكها بأن نعذب أهلها بما ذكر من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين أَمَرْنا
بالطاعة كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها مُتْرَفِيها
متنعميها وجباريها وملوكها ، وخصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم باتباعهم ولأن توجه الأمر إليهم آكد ، ويدل على تقدير الطاعة إن فسق وعصى متقاربان بحسب اللغة وإن خص الفسق في الشرع بمعصية خاصة وذكر الضد يدل على الضد كما أن ذكر النظير يدل على النظير فذكر الفسق والمعصية يدل على تقدير الطاعة كما قيل في قوله تعالى : سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل : 81] فيكون نحو أمرته فأساء إلي أي أمرته بالإحسان بقرينة المقابلة بينهما المعتضدة بالعقل الدال على أنه لا يؤمر بالإساءة كما لا يؤمر بالفسق ، والنقل كقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف : 28] ، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم كما في يعطي ويمنع أي وجهنا الأمر.
فَفَسَقُوا فِيها
أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا ، واختار الزمخشري أن الأصل أمرناهم بالفسق ففسقوا إلا أنه يمتنع إرادة الحقيقة للدليل فيحمل على المجاز إما بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التصريحية التبعية بأن يشبه إفاضة النعم المبطرة لهم وصبها عليهم بأمرهم بالفسق بجامع الحمل عليه والتسبب له ويتمم أمر الاستعارة في الصورتين بما لا يخفى ، وقيل : الأمر استعارة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 42
للحمل والتسبب لاشتراكهما في الإفضاء إلى الشيء وآثر أن تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا غير جائز لزعمه أنه حذف ما لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه لأن قولهم أمرته فقام وأمرته فقعد لا يفهم منه إلا الأمر بالقيام والقعود ولو أردت خلاف ذلك كنت قد رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا نقض بنحو قولهم : أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأنه لما كان منافيا للأمر علم أنه لا يصلح قرينة للمحذوف فيكون الفعل في ذلك من باب يعطي ويمنع. واعترض بأنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل أمرته فعصاني لما سمعت من تقارب فسق وعصى وبأن قرينة إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ لم لا تكفي في تقدير وجهنا الأمر فوجد منهم الفسق لا أن يقدر متعلق الأمر ثم لم لا يجوز أن يكون التعقيب بالضد قرينة للضد الآخر ونحوه أكثر من أن يحصى ، وأجاب في الكشف عن ذلك فقال : الجواب عن الأولين أن صاحب الكشاف منع أن يراد أمرنا بالطاعة وأما أن يراد توجيه الأمر فلم يمنعه من هذا المسلك بل المانع أن تخصيص المترفين حينئذ يبقى غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فإن أمره تعالى واقع في كل زمان ولكل أحد ولظهوره لم يتعرض له ، وعن الثالث أن شهرة الفسق في أحد معنييه تمنع من عده مقابلا بمعنى العصيان على أن ما ذكرنا من نبو المقام عن الإطلاق قائم في التقييد بالطاعة ، وفيه قول بسلامة الأمير ونظر بعين الرضا وغفلة عن وجه التخصيص الذي ذكرناه وهو بين لا غبار عليه ، وكذا وجه التقييد بالزمان المذكور ، والحق أن ما ذكره الزمخشري من الحمل وجه جميل إلا أن عدم ارتضائه ما روته الثقات عن ترجمان القرآن وغيره من تقدير الطاعة مع ظهور الدليل ومساعدة مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء لا وجه له كما لا يخفى على من له قلب.
وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أن أَمَرْنا
بمعنى كثرنا واختاره الفارسي ، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما
أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في مسنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة»
أي كثيرة النتاج ، وأمر كما قيل من باب ما لزم وعدي باختلاف الحركة فيقال أمرته بفتح الميم فأمر بكسرها وهو نظير شتر اللّه تعالى عينه فشترت وجدع أنفه فجدع وثلم سنه فثلمت ، وقيل : إن المكسور يكون متعديا أيضا وأنه قرأ به الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة ، وحكى ذلك النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس وأن رد الفراء له غير ملتفت إليه لصحة النقل ، وفي الكشف أن أمر بمعنى كثر كثير وأما أمرته المتعدي فقال الزمخشري في الفائق ما معناه : ما عول هذا القائل إلا على ما جاء في الخبر أعني مهرة مأمورة وما هو إلا من الأمر الذي هو ضد النهي وهو مجاز أيضا كما في الآية كأن اللّه تعالى قال لها كوني كثيرة النتاج فكانت فهي إذن مأمورة على خلاف منهية ، وقيل : أصله مومرة فعدل عنه إلى مأمورة لطلب الازدواج مثل
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «مأزورات غير مأجورات»
حيث لم يقل موزورات.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن أبي إسحاق وأبو رجاء وعيسى بن عمر وعبد اللّه بن أبي زيد والكلبي «آمرنا» بالمد وكذلك جاء عن ابن عباس والحسن وقتادة وأبي العالية وابن هرمز وعاصم وابن كثير وأبي عمرو ونافع وهو اختيار يعقوب ومعناه عند الجميع كثرنا وبذلك أيد التفسير السابق على القراءة المشهورة.
وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدي وزيد بن علي وأبو العالية
«أمّرنا» بالتشديد ، وروي ذلك أيضا عن علي والحسن والباقر رضي اللّه تعالى عنهم.
وعاصم وأبي عمرو ، ومعناه على هذه القراءة قيل كثرنا أيضا ، وقيل : بمعنى وليناهم وجعلناهم أمراء واللازم من ذلك أمر «1» بالضم إلحاقا له بالسجايا أي صار أميرا والمراد به من يؤمر ويؤتمر به سواء كان ملكا أم لا على أنه لا محذور لو أريد به الملك أيضا خلافا للفارسي لأن القرية إذا ملك عليها مترف ففسق
___________
(1) أمر مثلث والتقييد بالضم لأنه حينئذ يتعين لهذا المعنى قائلهم اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 43
ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي كلمة العذاب السابق بحوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم فيها فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
لا يكتنه كنهه ولا يوصف ، والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء ، والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعا فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء ، ومن هنا قيل : المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول الآية ، وقيل : هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال : 25] وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دخل عليها فدعا يقول لا إله إلا اللّه ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب : قلت يا رسول اللّه أنهلك وفينا الصالحون قال :
نعم إذا كثر الخبث»
هذا والظاهر أن أَمَرْنا
جواب إذا ولا تقديم ولا تأخير في الآية والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداء فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم وإرادة ضرر الغير ابتداء من غير استحقاق الإضرار كالاضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه ، وأجاب عنه بعضهم بأن في الآية تقديما وتأخيرا والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول ، ونظيره على ما قيل قوله تعالى : وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء :
102] وآخرون بأن قوله تعالى : أَمَرْنا
إلخ في موضع الصفة لقرية وجواب إذا محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى : حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها إلى قوله سبحانه : وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر : 71 - 47] وقول الهذلي وهو آخر قصيدة :
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة «1» شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر.
وَكَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا ما أهلكنا مِنَ الْقُرُونِ تمييز - لكم - والقرن على ما قال الراغب القوم المقترنون في زمان واحد ، وعن عبد اللّه بن أبي أوفى هو مدة مائة وعشرين سنة ، وعن محمد بن القاسم المازني وروي مرفوعا أنه مائة سنة
، وجاء أنه صلّى اللّه عليه وسلّم دعا لرجل فقال : عش قرنا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرين
،
وعن الكلبي أنه ثمانون سنة ، وعن ابن سيرين أنه أربعون سنة مِنْ بَعْدِ نُوحٍ من بعد زمنه عليه السلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص ، وخص نوح عليه السلام بالذكر ولم يقل من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب ففيه تهديد وإنذار للمشركين ولظهور حال قومه لم ينظموا في القرون المهلكة على أن ذكره عليه السلام رمز إلى ذكرهم ، ومن الأولى للتبيين لا زائدة والثانية لابتداء الغاية فلذا جاز اتحاد متعلقهما ، وقال الحوفي : من الثانية بدل من الأولى وليس بجيد.
وَكَفى بِرَبِّكَ أي كفى ربك وقد تقدم الكلام مفصلا آنفا في مثل هذا التركيب بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً محيطا بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها ، وتقديم الخبير لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادئ الأعمال الظاهرة تقدما وجوديا ، وقيل تقدما رتبيا لأن العبرة بما في القلب كما يدل عليه
«إن اللّه تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم»
وإنما الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله إلى غير ذلك أو
___________
(1) قتائدة اسم عقبة اه صحاح.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 44
لعمومه من حيث يتعلق بغير المبصرات أيضا ، والجار والمجرور متعلق بخبيرا بصيرا على سبيل التنازع.
وقال الحوفي : متعلق بكفى وهو وهم ، وفي تذييل ما تقدم بما ذكر إشارة على ما قيل إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه. وفي الكشاف أنه سبحانه نبه بقوله تعالى : وَكَفى بِرَبِّكَ إلخ على أن الذنوب هي الأسباب المهلكة لا غير ، وبيانه كما في الكشف أنه جل شأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتم دل على أنه تعالى جازاهم بها وإلا لم ينتظم الكلام ، وأما الحصر فلأن غيرها لو كان له مدخل كان الظاهر ذكره في معرض الوعيد ثم لا يكون السبب تاما ويكون الكلام ناقصا عن أداء المقصود فلزم الحصر وهو المطلوب ولا أرى كلامه خاليا عن دسيسة اعتزال تظهر بالتأمل ولعله لذلك لم يتعرض له العلامة البيضاوي مَنْ كانَ يُرِيدُ أي بعلمه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك الْعاجِلَةَ فقط من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبىء عنه الاستمرار المستفاد من زيادة كانَ هنا مع الاقتصاد على مطلق الإرادة في قسميه وقيل لو لم يقيد صدق على مريد العاجلة والآخرة والقسمة تنافي الشركة ، ودلالة الإرادة على ذلك لأنها عقد القلب بالشيء وخلوص همه فيه ليس بذاك ، والمراد بالعاجلة الدار الدنيا كما روي عن الضحاك أيضا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى : وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا [الشورى : 20] وجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله تعالى : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود : 15] ورجح الأول بأنه أنسب بقوله تعالى : عَجَّلْنا لَهُ فِيها أي في تلك العاجلة فإن تلك الحياة واستمرارها من جملة ما عجل فالأنسب في ذلك كلمة من كما في قوله عز وجل وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران : 145] ما نَشاءُ أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد.
لِمَنْ نُرِيدُ تعجيل ما نشاء له ، وقال أبو إسحاق الفزاري : أي لمن نريد هلكته ولا يدل عليه لفظ في الآية ، والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق أعني له فلا يحتاج إلى رابط لأنه في بدل المفردات أو المجرور بدل من الضمير المجرور بإعادة العامل وتقديره لمن نريد تعجيله له منهم ، والضمير راجع إلى من وهي موصولة أو شرطية وعلى التقديرين هي منبئة عن الكثرة فهو بدل بعض من كل ، وعن نافع أنه قرأ «ما يشاء» بالياء فقيل الضمير فيه للّه تعالى فيتطابق القراءتان ، وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد اللّه تعالى به ذلك كنمروذ وفرعون ممن ساعده اللّه تعالى على ما أراده استدراجا له ، واستظهر هذا بأنه يلزم أن يكون على الأول التفات ووقوع الالتفات في جملة واحدة إن لم يكن ممنوعا فغير مستحسن كما فصله في عروس الأفراح ، وتقييد المعجل والمعجل له بما ذكر من المشيئة والإرادة لما أن الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه ، وليس المراد بأعمالهم في قوله تعالى : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ [هود : 15] أعمال كلهم ولا كل أعمالهم ، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ، وذكر المشيئة في أحدهما والإرادة في الآخر إن قيل بترادفهما تفنن.
ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ مكان ما عجلنا له جَهَنَّمَ يَصْلاها يقاسي حرها كما قال الخليل أو يدخلها كما قيل ، والجملة كما قال أبو البقاء حال من الهاء في لَهُ وقال أبو حيان : إنها حال من جَهَنَّمَ وهي مفعول أول لجعلنا ولَهُ الثاني.
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وقال صاحب الغينان : مفعول جعلنا الثاني محذوف والتقدير مصيرا أو جزاء ولا حاجة إلى ذلك مَذْمُوماً حال من فاعل يصلي وهو من الذم ضد المدح وفعله ذم وذمته ذيما وذأمته ذأما بمعناه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 45
مَدْحُوراً أي مطرودا مبعدا من رحمة اللّه تعالى ، قال الإمام : إن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن المنفعة فقوله تعالى : جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها إشارة إلى المضرة العظيمة ومَذْمُوماً إشارة إلى الإهانة والذم ومَدْحُوراً إشارة إلى البعد والطرد من رحمته تعالى فيفيد ذلك أن تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص اه ، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الآية تدل على الخلود وحينئذ يتعين عندنا أن يكون ذلك المريد من الكفرة ، وفي إرشاد العقل السليم من كان يريد أي بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول المكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرباء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة ، وأنت تعلم أن إدراج الفاسق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة إذا كان مؤمنا في التمثيل على القول بدلالة الآية على الخلود مما لا يستقيم على أصولنا نعم يصح على أصول المعتزلة ، وقد أدرج الزمخشري الفاسق في ذلك ودسائس الاعتزال منه عامله اللّه تعالى بعدله أكثر من أن تحصى ، وظاهر كلام أبي حيان اختيار كون المريد من الكفرة حيث قال : العاجلة هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ولا بد من تقدير محذوف دل عليه المقابل في قوله تعالى : وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ إلخ أي من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر عجلنا له فيها ما نشاء لمن
نريد ، وقيل المراد من كان يريد العاجلة بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمجاهد للغنيمة والذكر والمهاجر للدنيا إلى آخر ما قال فحكي غير القول الأول الذي يكون يتعين عليه كون المريد من الكفرة بعد أن قدمه بقيل ، ويؤيده تفسير كثير من كان يريد العاجلة بمن كان همه مقصورا عليها لا يريد غيرها أصلا فإن ذلك مما لا يكاد يصدق على مؤمن فاسق فإنه لو لم يكن له إرادة للآخرة ما آمن بها ، وعلى القول بدخول الفاسق ونحوه ممن لا يحكم له عندنا بالخلود يمنع القول بدلالة الآية على الخلود ويقال لمن أدخل النار مبعد عن رحمة اللّه تعالى ما دام فيها فيصدق على الفاسق ما دام فيها كما يصدق على الكافر المخلد.
وزعم بعضهم أن المريد هو المنافق الذي يغزو مع المسلمين للغنيمة لا للثواب فإن الآية نزلت فيه ، وفيه أنه يأبى ذلك ما سبق من أن السورة مكية غير آيات معينة ليست هذه منها على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فافهم وَمَنْ أَرادَ الظاهر على طبق ما مر عن الضحاك أن يراد بعمله أيضا الْآخِرَةَ أي الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم وَسَعى لَها سَعْيَها أي الذي يحق ويليق بها كما تنبىء عنه الإضافة الاختصاصية سواء كان السعي مفعولا به على أن المعنى عمل عملها أو مصدرا مفعولا مطلقا ويتحقق ذلك بالإتيان بما أمر اللّه تعالى والانتهاء عما نهى سبحانه عنه فيخرجمن يتعبد من الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها وفائدة اللام سواء للأجل أو للاختصاص اعتبار النية والإخلاص للّه تعالى في العمل ، واختار بعضهم ولا يخلو عن حسن أنه لا حاجة إلى ما اعتبره الضحاك بل الأولى عدم اعتباره لمكان «وسعى لها سعيها» وحينئذ لا يعتبر فيما سبق أيضا ويكون في الآية على هذا من تحقير أمر الدنيا وتعظيم شأن الآخرة ما لا يخفى على من تأمل.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا يخالطه قادح ، وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز مَنْ فلا تنفع إرادة ولا سعي بدونه وفي الحقيقة هو الناشئ عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب ، وعن بعض المتقدمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا هذه الآية فَأُولئِكَ إشارة إلى مَنْ بعنوان اتصافه بما تقدم ، وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم ، والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماء إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 46
فأولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مثابا عليه مقبولا عنده تعالى بحسن القبول ، وفسر بعضهم السعي هاهنا بالعمل الذي يعبر عنه بفعل فيشمل جميع ما تقدم وهذا غير السعي السابق ، وقال بعضهم : هو هو وعلق المشكورية به دون قرينيه إشعارا بأنه العمدة فيها ، وأصل السعي كما قال الراغب المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر :
إن أجز علقمة بن سعد سعيه لا أجزه ببلاء يوم واحد
كُلًّا التنوين فيه على المشهور عند النحاة عوض عن المضاف إليه لا تنوين تمكين أي كل الفريقين وهو مفعول نُمِدُّ مقدم عليه أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلا على ما سبق تصريحا وتلويحا واتكالا على ما لحق عبارة وإشارة ، وقوله تعالى : هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من كُلًّا بدل كل على جهة التفصيل أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول ، وقوله تعالى : مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له فهو اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول متعلق بنمد مغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل كما قيل :
وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ أي دنيويا كان أو أخرويا.
والإظهار في موضع الإضمار لمزيد الاعتناء بشأنه والإشعار بعليته للحكم مَحْظُوراً ممنوعا عمن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد فيه ما يقتضي الحظر كالكفر ، وهذا في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين ، والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بمبدئيتها لكل من الإمداد وعدم الحظر.
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم ، والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا ، والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى : وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها.
وفي بعض الآثار أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى اللّه تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا»
وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا ، وصح أن اللّه تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وروى ابن عبد البر في استيعاب عن الحسن قال : حضر جماعة من الناس باب عمر رضي اللّه تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وكان أحد الأشراف في الجاهلية وأبو سفيان بن حرب وأولئك المشايخ من قريش فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل : وكان أعقلهم أيها القوم إني واللّه قد أرى الذي وجوهكم فإن كنتم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 47
غضابا فاغضبوا على أنفسكم دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم أما واللّه لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه ، وفي الكشاف أنه قال : إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد اللّه تعالى لهم في الجنة أكبر وقرىء «أكثر تفضيلا» بالثاء المثلثة ، هذا وجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط ، وحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصولهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة ووصولا مما يوهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد ممن يريد وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة إلخ ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن وقتادة فقد روي عنهما أنهما قالا : في معنى الآية إن اللّه تعالى يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق ، وذكر الرزق من بين ما به الإمداد قيل على سبيل التمثيل ، وقيل تخصيص لدلالة السياق.
وجوز أن يكون المراد به معناه اللغوي فيتناول الجاه ونحوه كما يقال السعادة أرزاق ، واعتبر الجمهور عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقا لشمول الإمداد له حيث قالوا : لا يمنعه من عاص لعصيانه. واعترض بأنه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلا عن إيهام اختصاصه وفيه تأمل ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن معنى مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ من الطاعات ويمد بها مريد الآخرة والمعاصي ويمد بها مريد العاجلة فيكون العطاء عبارة عما قسم اللّه تعالى للعبد من خير أو شر ، وأنت تعلم أنه يبعد غاية البعد إرادة المعاصي من العطاء ولعل نسبة ذلك للحبر غير صحيحة فلا تغفل واعلم أن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية ، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين ، وفي قبول العمل في القسم الأول بحث عند الإمام قال : يحتمل عدم القبول لما
روي عن رب العزة جل شأنه : «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه».
ويمكن أن يقال : إذا كانت إرادة الآخرة راجحة على إرادة الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد خالصا للآخرة فيجب كونه مقبولا ، وإلى عدم القبول ذهب العز بن عبد السلام ، ومال إلى القول بأصل الثواب حجة الإسلام الغزالي حيث قال : لو كان اطلاع الناس مرجحا أو مقويا لنشاطه ولو فقد لم تترك العبادة ولو انفرد قصد الرياء لما أقدم فالذي نظنه والعلم عند اللّه تعالى أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب ، وهذا ظاهر في أن الرياء ولو محرما لا يمنع أصل الثواب عنده إذا كان باعث العبادة أغلب ، وذكر ابن حجر أن الذي يتجه ترجيحه أنه متى كان المصاحب بقصد العبادة رياء مباحا لم يقتض إسقاط ثوابها من أصله بل يثاب على مقدار قصد العبادة وإن ضعف أو محرما اقتضى سقوطه من أصله للأخبار ، وقوله تعالى : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة : 7] قد لا يعكر على ذلك لأن تقصيره بقصد المحرم اقتضى سقوط قصد الأجر فلم تبق له ذرة من خير فلم تشمله الآية ، واتفقوا على عدم قبول ما ترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين ، وخص الغزالي الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم القبول مطلقا بهذين القسمين ، وتمام الكلام في هذا المقام في الزواجر عن اقتراف

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 48
الكبائر ، وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث واللّه تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا فيه أربع إشارات إشارة التقديس بسبحان فهو تنزيه له تعالى عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية وعن جميع ما يرتسم في الأذهان ، وإشارة الغيرة بعدم ذكر الاسم الظاهر من أسمائه الحسنى عزت أسماؤه وكذا بعدم ذكر اسمه صلّى اللّه عليه وسلّم. وإشارة الغيب بذكر ضمير الغائب ، وإشارة السر بذكر الليل فإنه محل السر والنجوى ، وعن بعض الأكابر لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا ، وذكر غير واحد إن في اختيار عنوان العبودية إشارة إلى أنها أعلى المقامات وقد أشير إلى ذلك فيما سلف ، وأصلها الذل والخضوع وحيث إن الذل لشيء لا يكون إلا بعد معرفته دلت العبودية للّه تعالى على معرفته سبحانه وكمالها على كمالها ، ومن هنا فسر ابن عباس قوله تعالى : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56] بقوله : إلا ليعرفون وهي تسعة وتسعون سهما بعدد الأسماء الإلهية التي من أحصاها دخل الجنة لكل اسم إلهي عبودية مختصة به يتعبد له من يتعبد من المخلوقين ولم يتحقق بهذا المقام على كماله مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكان عبدا محضا زاهدا في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية وشهد اللّه تعالى له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته هنا واسمه الجامع في قوله سبحانه وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن : 19] ولما أمر صلّى اللّه عليه وسلّم بتعريف مقامه يوم القيامة قيد ذلك
فقال عليه الصلاة والسلام «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»
بالراء أو الزاي على اختلاف الروايتين وهي لما علمت من معناها لا يمكن أن تكون نعتا إلهيا أصلا بل هي صفة خاصة لا اشتراك فيها فقد قال أبو يزيد البسطامي : ما وجدت شيئا يتقرب به إليه تعالى إذ رأيت كل نعت يتقرب به للألوهية فيه مدخل فقلت : يا رب بماذا أتقرب إليك؟ قال : تقرب إلي بما ليس لي قلت : يا رب وما الذي ليس لك؟ قال : الذلة والافتقار.
وذكر أن العبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج كلما قرب إلى السراج عظم الظل ولا قرب من اللّه تعالى إلا بما هو لك وصف أخص لا له سبحانه وكلما بعد عن السراج صغر الظل فإنه ما يبعدك عن الحق إلا خروجك عن صفتك التي تستحقها وطمعك في صفته تعالى ، كذلك يطبع اللّه على كل قلب متكبر جبار وهما صفتان للّه تعالى : وذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان : 49] وهما كذلك وإلى هذا أشار صلّى اللّه عليه وسلّم
بقوله : «أعوذ بك منك»
وأول بعضهم الليل بظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية وقال : إن الترقي والعروج لا يكون إلا بواسطة البدن وقد صرحوا بأنه صلّى اللّه عليه وسلّم أسري به وكذا عرج يقظة لم يفارق بدنه إلا أن العارف الجامي قال : إن ذلك إلى المحدد ثم ألقي البدن هناك وقد تقدم ذلك ، وفي أسرار القرآن أنه عليه الصلاة والسلام أسري به من رؤية أفعاله إلى رؤية صفاته ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته فرأى الحق بالحق وكانت صورته روحه وروحه عقله وعقله قلبه وقلبه سره وكأنه أراد أنه صلّى اللّه عليه وسلّم حصل له هذا الإسراء وإلا فإرادة أن الإسراء الذي في الآية هو هذا مما لا ينبغي.
ولا يخفى أن الإسراء غير المعراج نعم قد يطلقون الإسراء على المعراج بل قيل إنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، وقد ذكروا أن لجميع الوارثين معراجا إلا أنه معراج أرواح لا أشباح وإسراء أسرار لا أسوار ورؤية جنان لا عيان وسلوك ذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سموات معنى لا مغنى ، وهذا المعراج متفاوت حسب تفاوت مراتب الرجال ، وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في معراجه ما يحير الألباب ويقضي منه العجب العجاب ولم يستبعد ذلك منه بناء على أنه ختم الولاية المحمدية عندهم ، ومن عجائب ما اتفق في زماننا أن رجلا يدعى بعبد السلام نائب القاضي في بغداد وكان جسورا على الحكم بالباطل شرع في ترجمة معراج الشيخ قدس سره بالتركية مع شرح بعض

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 49
مغلقاته ولم يكن من خبايا هاتيك الزوايا فقبل أن يتم مرامه ابتلي والعياذ باللّه تعالى بآكلة في فمه فأكلته إلى أذنيه فمات وعرج بروحه إلى حيث شاء اللّه تعالى نسأل اللّه سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة ، ونقل عن الشيخ قدس سره أن الإسراء وقع له صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثين مرة ، وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن إسراءاته عليه الصلاة والسلام كانت أربعا وثلاثين واحد منها بجسمه والباقي بروحه ، وقد صرحوا أن الأول من خصائصه صلّى اللّه عليه وسلّم. وفي الخصائص الصغرى وخص عليه الصلاة والسلام بالإسراء وما تضمنه من خرق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وأن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير مما يكون كرامة للولي ، والمشهور تسمية ذلك بطي المسافة وهو من أعظم خوارق العادات وأنكر ثبوته للأولياء الحنفية ومنهم ابن وهبان قال :
ومن لولي قال طي مسافة يجوز جهول ثم بعض يكفر
وهذا منهم مع قولهم إذا ولد لمغربي ولد من امرأته المشرقية مثلا يلحق به وإن لم يلتقيا ظاهرا غريب ، والكتب ملأى من حكايات الثقات هذه الكرامة لكثير من الصالحين ، وكأن مجهل قائلها بنى تجهيله على أن في ذلك قولا بتداخل الجواهر وقد أحاله المتكلمون خلافا للنظام وبرهنوا على استحالته بما لا مزيد عليه ، وادعى بعضهم الضرورة في ذلك ، وأنت تعلم أن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير لا يتوقف على تداخل الجواهر لجواز أن يكون بالسرعة كما قالوا في الإسراء فليثبت للأولياء على هذا النحو على أن الكرامات كالمعجزات مجهولة الكيفية فنؤمن بما صح منها ونفوض كيفيته إلى من لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى ، ومثل طي المسافة ما يحكونه من نشر الزمان وأنا مؤمن وللّه تعالى الحمد بما يصح نقله من الأمرين والمكفر جهول والمجهل ليس برسول واللّه تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب وأول المسجد الحرام بمقام القلب المحترم عن أن يطوف به مشركو القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها ، والمسجد الأقصى بمقام الروح الأبعد من العالم الجسماني لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا ونحن المشاهدون بها وإلا فأصل مشاهدة الصفات في مقام القلب عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال سهل : أي إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغفرة وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطريق عليكم لترجعوا إلينا.
وقال الوراق : إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول ، وقيل : غير ذلك إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الآية أي إن هذا القرآن يعرف أهله بنوره أقوم الطرق إلى اللّه تعالى وهو طريق الطاعة والاقتداء بمن أنزل عليه عليه الصلاة والسلام فإنه لا طريق يوصل إلا ذلك وللّه تعالى در من قال :
وأنت باب اللّه أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل
وذكروا أن القرآن يرشد بظاهره إلى معاني باطنه وبمعاني باطنه إلى نور حقيقته وبنور حقيقته إلى أصل الصفة وبالصفة إلى الذات فطوبى لمن استرشد بالقرآن فإنه يدله على اللّه تعالى وقد أحسن من قال :
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى لمطايانا بنورك هاديا
ويبشر أهله الذين يتبعونه أن لهم أجر المشاهدة وكشفها بلا حجاب وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا فيه إشارة إلى أدب من آداب الدعاء وهو عدم الاستعجال فينبغي للسالك أن يصبر حتى يعرف ما يليق بحاله فيدعو به ، وقال سهل : أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار لأن في الذكر الكفاية وربما يسأل الإنسان ما فيه هلاكه ولا يشعر ، وفي الأثر يقول اللّه تعالى شأنه من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ أي ليل الكون وظلمة البدن وَالنَّهارَ أي نهار الإبداع والروح آيَتَيْنِ يتوصل بهما إلى معرفة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 50
الذات والصفات فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ بالفساد والفناء وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً منيرة باقية بكمالها تبصر بنورها الحقائق لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وهو كمالكم الذي تستعدونه وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي لتحصوا عدد المراتب والمقامات من بدايتكم إلى نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم فتبدلوا السيء من ذلك بالحسن وَكُلَّ شَيْءٍ من العلوم والحكم فَصَّلْناهُ بنور عقولكم الفرقانية الحاصلة لكم عند الكمال تفصيلا لا إجمال فيه كما في مرتبة العقل القرآني الحاصل عند البداية وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ الآية تقدم ما يصلح أن يكون من باب الإشارة فيها وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا للصوفية في هذا الرسول كغيرهم قولان ، فمنهم من قال إنه رسول العقل ، ومنهم من قال رسول الشرع وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها
الآية فيها إشارة إلى أنه سبحانه إذا أراد أن يخرب قلب المريد سلط عليه عساكر هوى نفسه وجنود شياطينه فيخرب بسنابك خيول الشهوات وآفات الطبعيات نعوذ باللّه تعالى من ذلك مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً عن ذوي العقول مَدْحُوراً في سخط اللّه تعالى وقهره وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ لصفاء استعداده وسلامة فطرته وَسَعى لَها سَعْيَها اللائق بها وهو السعي على سبيل الاستقامة وما ترتضيه الشريعة ، وقال بعضهم : السعي إلى الدنيا بالأبدان والسعي إلى الآخرة بالقلوب والسعي على اللّه تعالى بالهمم وَهُوَ مُؤْمِنٌ ثابت الإيمان لا تزعزعه عواصف الشبه فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مقبولا مثابا عليه ، وعن أبي حفص أن السعي المشكور ما لم يكن مشوبا برياء ولا بسمعة ولا برؤية نفس ولا بطلب عوض بل يكون خالصا لوجهه تعالى لا يشاركه في ذلك شيء فلا تغفل كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ لا تأثير لإرادتهم وسعيهم في ذلك وإنما هي معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء ، ورأيت في الفتوحات المكية أن هذه الآية نحو قوله تعالى : فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس : 8] وهو نحو ما تقدم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وقد سمعت ما فيه وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً عن أحد مطيعا كان أو عاصيا لأن شأنه تعالى شأنه الإفاضة حسبما تقتضيه الحكمة انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الدنيا بمقتضى المشيئة والحكمة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا فهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر رزقنا اللّه تعالى وإياكم ذلك أنه سبحانه الجواد المالك.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 22 إلى 72]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61)
قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 51

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 52
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد به أمته على حد إياك أعني فاسمعي يا جارة أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب على حد وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام : 27 ، 30] فَتَقْعُدَ بالنصب على النهي ، والقعود قيل بمعنى المكث كما تقول هو قاعد في أسوأ حال أي ماكث ومقيم سواء كان قائما أم جالسا ، وقيل بمعنى العجز والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم أي ما أعجزك عنها ، وقيل : بمعنى الصيرورة من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أي صارت ، وتعقب هذا أبو حيان بأن مجيء قعد بمعنى صار مقصور عند الأصحاب على هذا المثل ولا يطرد ، وقال بعضهم : إن اطرد فإنما يطرد في مثل الموضع الذي استعملته العرب فيه أولا يعني القول المذكور فلا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 53
يقال : قعد كاتبا بمعنى صار بل قعد كأنه سلطان لكونه مثل قعدت كأنها حربة ، ولعل من فسر القعود هنا بمعنى الصيرورة ذهب مذهب الفراء فإنه كما قال أبو حيان وغيره يقول باطراد ذلك وجعل منه قول الراجز المذكور في البحر والحواشي الشهابية ولا حجة فيه.
وحكى الكسائي قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها واستعمال البغداديين على هذا ، ثم إنهم اختلفوا في القعود بمعنى العجز فقيل هو مجاز من القعود ضد القيام كالمقعد بمعنى العاجز عن القيام ثم تجوز به عن مطلق العجز ، وقيل هو كناية عن العجز فإن من أراد أخذ شيء يقوم له ومن عجز قعد وأما القعود بمعنى الزمانة فحقيقة والإقعاد مجاز كأن مرضه أقعده وجعل هذا القعود بمعنى المكث حقيقة ، وتعقب بأن فيه نظرا إلا أن يريد حقيقة عرفية لا لغوية لأنه ضد القيام وإذا جعل القعود هنا بمعنى العجز فالفعل لازم ومتعلقه محذوف أي فتعجز عن الفوز بالمقصود مثلا ومَذْمُوماً مَخْذُولًا إما خبران لتقعد على القول الأخير وإما حالان مترادفان أي فتقعد جامعا على نفسك الخذلان من اللّه تعالى والذم من الملائكة والمؤمنين أو من ذوي العقول حيث اتخذت محتاجا مفتقرا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلها ونسبت إليه ما لا يصلح له وجعلته شريكا لمن له الكمال الذاتي وهو الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك على ما عداه ، وجوز أبو حيان أن يراد بالقعود حقيقته لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا متفكرا وهو من باب التعبير بالحال الغالبة ، وفي الآية إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة وَقَضى رَبُّكَ أخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : أي أمر أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي بأن لا تعبدوا إلخ على أن مصدرية والجار قبلها مقدر ولا نافية والمراد النهي ، ويجوز أن تكون ناهية كما مر ولا ينافيه التأويل بالمصدر كما أسلفناه أو أي لا تعبدوا إلخ على أن أن مفسرة لتقدم ما تضمن معنى القول دون حروفه ولا ناهية لا غير ، وجوز بعضهم أن تكون أن مخففة واسمها ضمير شأن محذوف ولا ناهية أيضا وهو كما ترى وجوز أبو البقاء أن تكون أن مصدرية ولا زائدة والمعنى الزم ربك عبادته وفيه أن الاستثناء يأبى ذلك وفي
الكشاف تفسير قضى بأمر أمرا مقطوعا به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلا والمتضمن قيدا وقال بعضهم : أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير اللّه تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر اللّه تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص.
وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره ، ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير اللّه تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل ، فقد أخرج أبو عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : أنزل اللّه تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم «ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس وَقَضى رَبُّكَ ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ، وأخرج مثل ذلك عنه جماعة من طريق سعيد بن جبير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود وأبي بن كعب رضي اللّه تعالى عنهما أيضا وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور بحمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضا نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي ، وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولا كان أو فعلا وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي أمر ربك إلى آخر ما قال ، ثم إن هذا الأمر عند البعض بمعنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى ، ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه ، وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا ، وأمر سبحانه أن لا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعما بالنعم العظام

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 54
وما غير اللّه تعالى كذلك ، وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفصيل للسعي للآخرة.
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وبأن تحسنوا بهما أو أحسنوا بهما إحسانا ، ولعله إذا نظر إلى توحيد الخطاب فيما بعد قدر وأحسن بالتوحيد أيضا ، والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ومنع تعلقه بالمصدر لأن صلته لا تتقدم عليه ، وعلقه الواحدي به فقال الحلبي : إن كان المصدر منحلا بأن والفعل فالوجه ما ذهب إليه الزمخشري وإن جعل نائبا عن الفعل المحذوف فالوجه ما قاله الواحدي ، ومذهب الكثير من النحاة جواز تقديم معموله إذا كان ظرفا مطلقا لتوسعهم فيه والجار والمجرور أخوه.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما إما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها.
قال الزمخشري : ولذا صح لحوق النون المؤكدة للفعل ولو أفردت إن لم يصح لحوقها واختلف في لحاقها بعد الزيادة فقال أبو إسحاق بوجوبه ، وعن سيبويه القول بعدم الوجوب ويستشهد له بقول أبي حية النميري :
فإما ترى لمتي هكذا قد أدرك الفتيات الخفارا
وعليه قول ابن دريد :
أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى
ومعنى عِنْدَكَ في كنفك وكفالتك ، وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخير عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان ، وأَحَدُهُما فاعل للفعل ، وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه وكِلاهُما معطوف عليه.
وقرأ حمزة والكسائي «إما يبلغان» فأحدهما على ما في الكشاف بدل من ألف الضمير لا فاعل والألف علامة التثنية على لغة أكلوني البراغيث فإنه رد بأن ذلك مشروط بأن يسند الفعل المثنى نحو قاما أخواك أو لمفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو قاما زيد وعمرو وما هنا ليس كذلك. واستشكلت البدلية بأن أَحَدُهُما على ذلك بدل بعض من كل لا كل من كل لأنه ليس عينه وكِلاهُما معطوف عليه فيكون بدل كل من كل لكنه خال عن الفائدة على أن عطف بدل الكل على غيره مما لم نجده. وأجيب بأنا نسلم أنه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد ولو سلم أنه لا بد من ذلك ففيه فائدة لأنه بدل مقسم كما قاله ابن عطية فهو كقوله :
فكنت كذي رجلين رجل صحيحة وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
وتعقب بأنه ليس من البدل المذكور لأنه شرطه العطف بالواو وأن لا يصدق المبدل منه على أحد قسميه وهنا قد صدق على أحدهما ، وبالجملة هذا الوجه لا يخلو عن القيل والقال ، وعن أبي علي الفارسي أن أَحَدُهُما بدل من ضمير التثنية وكِلاهُما تأكيد للضمير ، وتعقب بأن التأكيد لا يعطف على البدل كما لا يعطف على غيره وبأن أحدهما لا يصلح تأكيدا للمثنى ولا غيره فكذا ما عطف عليه وبأن بين إبدال بدل البعض منه وتوكيده تدافعا لأن التأكيد يدفع إرادة البعض منه ، ومن هنا قال في الدر المصون : لا بد من إصلاحه بأن يجعل أحدهما بدل بعض من كل ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية وكِلاهُما توكيد له والتقدير أو يبلغان كلاهما وهو من عطف الجمل حينئذ لكن فيه حذف المؤكد وإبقاء تأكيده وقد منعه بعض النحاة وفيه كلام في مفصلات العربية ، ولعل المختار إضمار فعل لم يتصل به ضمير التثنية وجعل كِلاهُما فاعلا له فإنه سالم عما سمعت في غيره ولذا اختاره في البحر ، وتوحيد ضمير الخطاب في عِنْدَكَ وفيما بعده مع أن ما صرح به فيما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد وهو نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما فإنه لو قوبل الجمع بالجمع أو التثنية بالتثنية لم يحصل ذلك ، وذكر أنه وحد الخطاب

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 55
في لا تَجْعَلْ للمبالغة وجمع في أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأنه أوفق لتعظيم أمر القضاء فَلا تَقُلْ لَهُما أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع أُفٍّ هو اسم صوت ينبىء عن التضجر أو اسم فعل هو أتضجر واسم الفعل بمعنى المضارع وكذا بمعنى الماضي قليل والكثير بمعنى الأمر وفيه نحو من أربعين لغة والوارد من ذلك في القراءات سبع ثلاث متواترة وأربع شاذة. فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين وهو للتنكير فالمعنى أتضجر تضجرا ما وإذا لم ينون دل على تضجر مخصوص ، وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين وهو على أصل التقاء الساكنين والفتح للخفة ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء ، وقرأ نافع في رواية عنه بالرفع والتنوين ، وأبو السمال بالضم للاتباع من غير تنوين ، وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنه بالنصب والتنوين ، وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بالسكون ، ومحصل المعنى لا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما ، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا جليا لأنه يفهم بطريق الأولى ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب ، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا أو كثيرا ، وخص بعض أنواع الإيذاء بالذكر في قوله تعالى : وَلا تَنْهَرْهُما للاعتناء بشأنه والنهر كما قال الراغب الزجر بإغلاظ ، وفي الكشاف النهي والنهر والنهم أخوات أي لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك.
وقال الإمام : المراد من قوله تعالى : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ المنع من إظهار الضجر القليل والكثير والمراد من قوله سبحانه وَلا تَنْهَرْهُما المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ولذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا فتأمل.
وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً أي جميلا لا شراسة فيه ، قال الراغب : كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم ، وجعل ذلك بعض المحققين من وصف الشيء باسم صاحبه أي قولا صادرا عن كرم ولطف ويعود بالآخرة إلى القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أبتاه ويا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب ، وليس القول الكريم مخصوصا بذلك كما يوهمه اقتصار الحسن فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم عليه فإنه من باب التمثيل ، وكذا ما أخرج عن زهير بن محمد أنه قال فيه : إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما.
وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر عن أبي الهداج أنه قال : قلت لسعيد بن المسيب كل ما ذكر اللّه تعالى في القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله سبحانه : وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ما هذا القول الكريم ، فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ.
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أي تواضع لهما وتذلل وفيه وجهان. الأول أن يكون على معنى جناحك الذليل ويكون جَناحَ الذُّلِّ بل خفض الجناح تمثيلا في التواضع وجاز أن يكون استعارة في المفرد وهو الجناح ويكون الخفض ترشيحا تبعيا أو مستقلا ، الثاني أن يكون من قبيل قول لبيد :
وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فيكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بأن يشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيها مضمرا ويثبت له الجناح تخييلا والخفض ترشيحا فإن الطائر إذا أراد الطيران والعلو نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما ، وأيضا هو إذا رأى جارحا يخافه لصق بالأرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلله ، وقيل المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 56
فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام ، وفي الكشف أن في الكلام استعارة بالكناية ناشئة من جعل الجناح الذل ثم المجموع كما هو مثل في غاية التواضع ولما أثبت لذله جناحا أمره بخفضه تكميلا وما عسى يختلج في بعض الخواطر من أنه لما أثبت لذله جناحا فالأمر برفع ذلك الجناح أبلغ في تقوية الذل من خفضه لأن كمال الطائر عند رفعه فهو ظاهر السقوط إذا جعل المجموع تمثيلا لأن الغرض تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس ، وأما على الترشيح فهو وهم لأن جعل الجناح المخفوض للذل يدل على التواضع وأما جعل الجناح وحده فليس بشيء ولهذا جعل تمثيلا فيما سلف.
وقرأ سعيد بن جبير «من الذل» بكسر الذال وهو الانقياد وأصله في الدواب والنعت فالمذلول وأما الذل بالضم فأصله في الإنسان وهو ضد العز والنعت منه ذليل مِنَ الرَّحْمَةِ أي من فرط رحمتك عليهما فمن ابتدائية على سبيل التعليل ، قال في الكشف : ولا يحتمل البيان حتى يقال لو كان كذا لرجعت الاستعارة إلى التشبيه إذ جناح الذل ليس من الرحمة أبدا بل خفض جناح الذل جاز أن يقال إنه رحمة وهذا بين ، واستفادة المبالغة من جعل جنس الرحمة مبدأ للتذلل فإنه لا ينشأ إلا من رحمة تامة ، وقيل من كون التعريف للاستغراق وليس بذاك ، وإنما احتاجا إلى ذلك لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة فيحتاج إلى أشد رحمة ، وللّه تعالى در الخفاجي حيث يقول :
يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله
ما ذلة السلطان إلا إذا أصبح محتاجا إلى عامله
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما وادع اللّه تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية وهي رحمة الآخرة ولا تكتف برحمتك الفانية وهي ما تضمنها الأمر والنهي السالفان ، وخصت الرحمة الأخروية بالإرادة لأنها الأعظم المناسب طلبه من العظيم ولأن الرحمة الدنيوية حاصلة عموما لكل أحد وجوز أن يراد ما يعم الرحمتين ، وأيا ما كان فهذه الرحمة التي في الدعاء قيل إنها مخصوصة بالأبوين المسلمين ، وقيل عامة منسوخة بآية النهي عن الاستغفار ، وقيل عامة ولا نسخ لأن تلك الآية بعد الموت وهذه قبله ومن رحمة اللّه تعالى لهما أن يهديهما للإيمان فالدعاء بها مستلزم للدعاء به ولا ضير فيه ، والقول بالنسخ أخرجه البخاري في الأدب المفرد. وأبو داود وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : كَما رَبَّيانِي الكاف للتشبيه ، والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة ، وجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل : رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني صَغِيراً وفيه بعد.
وجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي وتعقب بأنه مخالف لمعناها المشهور مع إفادة التشبيه ما أفاده التعليل ، وقال الطيبي : إن الكاف لتأكيد الوجود كأنه قيل رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله تعالى : مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات : 23] قال في الكشف وهو وجه حسن وأما الحمل عليّ أن ما المصدرية جعلت حينا أي ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة كوقت رحمتهما علي في حال الصغر وأنا كلحم علي وضم وليس ذلك إلا في القيامة والرحمة هي الجنة والبت بأن هذا هو التحقيق فليت شعري الاستقامة وجهه في العربية ارتضاه أم لطباقه للمقام وفخامة معناه اه ، وهو كما أشار إليه ليس بشيء يعول عليه ، والظاهر أن الأمر للوجوب فيجب على الولد أن يدعو لوالديه بالرحمة ، ومقتضى عدم إفادة الأمر التكرار أنه يكفي في الامتثال مرة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 57
واحدة ، وقد سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه في اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال : نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في آخر التشهدات كما أن اللّه تعالى قال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب : 56] فكانوا يرون التشهد يكفي في الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكما قال سبحانه : وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة : 203] ثم يكبرون في أدبار الصلاة ، هذا وقد بالغ عز وجل في التوصية بهما من وجوه لا تخفى ولو لم يكن سوى أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما في سلك القضاء بهما معا لكفى ، وقد روى ابن حبان والحاكم وقال :
صحيح على شرط مسلم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم «1» قال «رضا اللّه تعالى في رضا الوالدين وسخط اللّه تعالى في سخط الوالدين»
وصح أن رجلا جاء يستأذن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الجهاد معه فقال : أحي والداك؟ قال : نعم قال : ففيهما فجاهد ،
وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لو علم اللّه تعالى شيئا أدنى من آلاف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار».
ورأى ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال : يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال : لا ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت واللّه تعالى يثيبك على القليل كثيرا.
وروى مسلم وغيره «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه»
وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال : جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول اللّه إن أبي أخذ مالي فقال النبي عليه الصلاة والسلام : «فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :
إن اللّه تعالى يقرئك السلام ويقول : إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله؟ قال : سله يا رسول اللّه هل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ : واللّه يا رسول اللّه ما يزال اللّه تعالى يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي فقال : قل وأنا أسمع فقال : قلت :
غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتملل كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيها أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه برد على أهل الصواب موكل قال : فحينئذ أخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بتلابيب ابنه وقال : «أنت ومالك لأبيك»
والأم مقدمة في البر على الأب
فقد روى الشيخان يا رسول اللّه من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمك قال : ثم من؟ قال : أمك قال :
ثم من؟ قال : أبوك».
ولا يختص البر بالحياة بل يكون بعد الموت أيضا ،
فقد روى ابن ماجة «يا رسول اللّه هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال : نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم
___________
(1) ورجح الترمذي وقفه اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 58
التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة «قال الرجل : ما أكثر هذا يا رسول اللّه وأطيبه قال : فاعمل به».
وأخرج البيهقي عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه اللّه تعالى بارا ، وأخرج عن الأوزاعي قال : بلغني أن من عق والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستسب لهما كتب بارا ومن بر والديه في حياتهما ثم لم يقض دينا إن كان عليهما ولم يستغفر لهما واستسب لهما كتب عاقا»
وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برا».
وروى مسلم أن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلت له : أصلحك اللّه تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال : إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه».
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي اللّه تعالى عنه قال : قدمت المدينة فأتاني عبد اللّه بن عمر فقال : أتدري لم أتيتك؟ قال : قلت لا قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده»
وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك. وقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث ، وصح عد العقوق من أكبر الكبائر وكونه منها هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام الأكثرين بل صريحه أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الوالدان كافرين وإن يكونا مسلمين ، والتقييد بالمسلمين
في الحديث الحسن أنه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن الكبائر فقال : تسع أعظمهن الإشراك وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين ،
إما لأن عقوقهما أقبح والكلام هناك في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكرا للغالب كما في نظائر أخر.
وللحليمي هاهنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوهما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة.
وبينهم في حد العقوق خلاف ففي فتاوى البلقيني مسألة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل المقصود إذ الناس تحملهم أغراضهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفا فلا بد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلا لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو حبسه فهل يكون ذلك عقوقا أولا؟ أجاب هذا الموضع قال فيه بعض الأكابر : إنه يعسر ضبطه وقد فتح اللّه تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنا فأقول : العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذيه بما لو فعله مع غيره كان محرما من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إليه إلى الكبائر أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل منه الخوف على الولد من فوت نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب فيه أو فيه وقيعة في العرض لها وقع.
وبيان هذا الضابط أن قولنا : أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرما فمثاله لو شتم غير

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 59
أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة ، وخرج بقولنا أن يؤذي ما لو أخذ فلسا أو شيئا يسيرا من مال أحد والديه فإنه لا يكون كبيرة وإن كان لو أخذه من مال غير والديه بغير طريق معتبرا كان حراما لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالا كثيرا بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك هنا لكن الضابط فيما يكون حراما صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين ، وخرج بقولنا : ما لو فعله مع غير أحد الوالدين كان محرما نحو ما إذا طالب بدين فإن هذا لا يكون عقوقا لأنه إذا فعله مع غير الوالدين لا يكون محرما فافهم ذلك فإنه من النفائس ، وأما الحبس فإن فرعناه على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه المصحح عند آخرين فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيب إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقا إذا كان معتقدا الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لاعسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقا لأنه لو فعله مع غير والده حيث لا يجوز كان حراما ، وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء ، وقد شكا بعض ولد الصحابة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم ينهه عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا يقر على باطل ، وأما إذا نهر أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير الوالدين وكان محرما كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرما ، وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر وقولنا أو أن يخالف أمره ونهيه فيما يدخل منه الخوف إلخ أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من
فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك ، وقد ثبت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من حديث عبد اللّه بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للجهاد أنه عليه الصلاة والسلام قال له : أحي والداك؟ قال : نعم قال : ففيهما فجاهد
، وفي رواية ارجع إليهما ففيهما المجاهدة
، وفي أخرى جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال : ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما ،
وفي إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه. وروى أبو سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : هل لك أحد باليمن؟ قال : أبواي قال : أذنا لك قال : لا قال : فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما. ورواه أبو داود
وفي إسناده من اختلف في توثيقه ، وقولنا : ما لم يتهم الوالد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافرا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه ، وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرا أو عبدا ، وقولنا : أو أن يخالفه في سفر إلخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب البحر يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه أنه لا يجب الاستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدا ، وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب وإرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئا من ذلك احتاج إلى الاستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع ، وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذلك في الأنثى أولى ، وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إرشاد للولد فلا تكون عقوقا وعدم المخالفة أولى اه كلام البلقيني «وذكر بعض المحققين» أن العقوق فعل ما يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفا. ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان الوالد مثلا في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقا لا يفسق ولده بمخالفته حينئذ لعذره وعليه فلو كان متزوجا بمن يحبها فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره لا إثم عليه ، نعم الأفضل طلاقها امتثالا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 60
لأمر والده ،
فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال : إن أبي لم يزل بي حتى زوجني امرأة وإنه الآن يأمرني بفراقها قال : ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سمعته يقول : «الوالد أوسط أبواب الجنة» فحافظ على ذلك إن شئت أو دع ، وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه
وقال الترمذي حديث حسن صحيح
عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فأتى عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : طلقها
، وكذا سائر أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها متساهلا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء بمخالفتها ثم قال : هذا هو الذي يتجه في تقرير الحد. وتعقب ما نقل عن البلقيني بأن تخصيصه العقوق بفعل المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدار على ما ذكر من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذيا ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم إليه ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ إيذاء عظيما فتأمل.
ثم إن السبب في تعظيم أمر الوالدين أنهما السبب الظاهري في إيجاده وتعيشه ولا يكاد تكون نعمة أحد من الخلق على الولد كنعمة الوالدين عليه ، لا يقال عليه : إن الوالدين إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام لهما عليه ، وقد حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة ، وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد : ما نكتب على قبرك فقال : اكتبوا عليه :
هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج وعدم الولد :
وتركت فيهم نعمة العدم التي سبقت وصدت عن نعيم العاجل
ولو إنهم ولدوا لنالوا شدة ترمي بهم في موبقات الآجل
وقال ابن رشيق :
قبح اللّه لذة لشقانا نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق د فإيجادنا علينا بلاء
وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال : الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد لأنا نقول : هب أنه في أول الأمر كان المطلوب لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات ، وقد يقال : لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأنكاد دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق اللّه تعالى لأنه سبحانه الفاعل الحقيقي ، وأيضا يعارض ذلك التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم ، ولعمري أن إنكار حقهما إنكار لأجل الأمور ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البر إليهما وانعقاد ما يجب من التوقير لهما ، وهو على ما قيل تهديد على أن يضمر لهما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 61
كراهة واستثقالا ، وفي الكشف أنه كالتعليل لما أكد عليهم من الإحسان إلى الوالدين بأن اللّه تعالى أعلم بما في ضمائرهم من ذلك فمجازيهم على حسبه ، والظاهر أنه وعد لمن أضمر البر ووعيد لغيره لكن غلب ذلك الجانب لأن الكلام بالأصالة فيه إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين الصلاح والبر دون العقوق والفساد فَإِنَّهُ تعالى شأنه كانَ لِلْأَوَّابِينَ أي الراجعين إليه تعالى التائبين عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو من البشر غَفُوراً لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية ، وهذا كما في الكشف تيسير بعد التأكيد والتعسير مع تضييق وتحذير وذلك أنه شرط في البادرة التي تقع على الندرة قصد الصلاح وعبر عنه بنفس الصلاح ولم يصرح بصدورها بل رمز إليه بقوله تعالى : فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً لدلالة المغفرة على الذنب والأواب أيضا فإن التوبة عن ذنب يكون بشرط قصد الصلاح وأن يتوب عنه مع ذلك التوبة البالغة ، وهو استئناف ثان يقتضيه مقام التأكيد والتشديد كأنه قيل : كيف نقوم بحقهما وقد يندر بوادر؟ فقيل إذا بنيتم الأمر على الأساس وكان المستمر ذلك ثم اتفق بادرة من غير قصد إلى المساءة فلطف اللّه تعالى يحجز دون عذابه قائما بالكلاءة ، وكون الآية في البادرة تكون من الرجل إلى والديه مروي عن ابن جبير ، وجوز أن تكون عامة لكل تائب ويندرج الجاني على أبويه التائب من جنايته اندراجا أوليا وَآتِ ذَا الْقُرْبى أي ذا القرابة منك حَقَّهُ الثابت له ، قيل ولعل المراد بذي القربى المحارم وبحقهم النفقة عليهم إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب عما ينبىء عنه قوله تعالى : وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ فإن المأمور به في حقهما المساواة المالية أي وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهي عن التبذير وعن الإفراط في القبض والبسط فإن الكل من التصرفات المالية ، واستدل بعضهم بالآية على إيجاب نفقة المحارم
المحتاجين وإن لم يكونوا أصلا كالوالدين ولا فرعا كالولد ، والكلام من باب التعميم بعد التخصيص فإن ذا القربى يتناول الوالدين لغة وإن لم يتناوله عرفا فلذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف : لو أوصى لذوي قرابته لا يدخلان ، وفي المعراج عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من قال لأبيه قريبي فقد عقه ،
والغرض من ذلك تناول غيرهما من الأقارب والتوصية بشأنه.
وفي الكشف أن الحق أن إيتاء الحق عام والمقام يقتضي الشمول فيتناول الحق المالي وغيره من الصلة وحسن المعاشرة فلا تنتهض الآية دليلا على إيجاب نفقة المحارم ، وتعقب أن قوله تعالى : حَقَّهُ يشعر باستحقاق ذلك لاحتياجه مع أنه إذا عم دخل فيه المالي وغيره فكيف لا تنتهض الآية دليلا وأنا ممن يقول بالعموم وعدم اختصاص ذي القربى بذي القرابة الولادية ، والعطف وكذا ما بعده لا يدل على تخصيص قطعا فتدبر ، وقيل : المراد بذي القربى أقارب الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وروي ذلك عن السدي ، وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال لرجل من أهل الشام : أقرأت القرآن؟ قال : نعم قال : أفما قرأت في بني إسرائيل فآت ذا القربى حقه؟ قال : وإنكم القرابة الذي أمر اللّه تعالى أن يؤتى حقه؟ قال : نعم
، ورواه الشيعة عن الصادق رضي اللّه تعالى عنه وحقهم توقيرهم وإعطاؤهم الخمس
، وضعف بأنه لا قرينة على التخصيص ، وأجيب بأن الخطاب قرينة وفيه نظر ، وما
أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري من أنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فاطمة فأعطاها فدكا
لا يدل على تخصيص الخطاب به عليه الصلاة والسلام على أن القلب من صحة الخبر شيء بناء على أن السورة مكية وليست هذه الآية من المستثنيات وفدك لم تكن إذ ذاك تحت تصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بل طلبها رضي اللّه تعالى عنها ذلك إرثا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كما هو المشهور يأبى القول بالصحة كما لا يخفى وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً نهى عن صرف المال إلى من لا يستحقه فإن التبذير إنفاق في غير موضعه مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه ، وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 62
ابن مسعود أنه قال : التبذير إنفاق المال في غير حقه ، وفي مفردات الراغب وغيره أن أصله إلقاء البذر وطرحه ثم استعير لتضييع المال ، وعد من ذلك بعضهم تشييد الدار ونحوه ، وفرق الماوردي بينه وبين الإسراف بأن الإسراف تجاوز في الكمية وهو جهل بمقادير الحقوق والتبذير تجاوز في موقع الحق وهو جهل بالكيفية وبمواقعها وكلاهما مذموم والثاني أدخل في الذم.
وفسر الزمخشري التبذير هنا بتفريق المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف ، وذكر أن فيه إشارة إلى أن التبذير شامل للإسراف في عرف اللغة ويراد منه حقيقة وإن فرق بينهما بما فرق ، وفي الكشف بعد نقل الفرق والنص على أن الثاني أدخل في الذم أن الزمخشري لم يغب ذلك عليه لأن الاشتقاق يرشد إليه وإنما أراد أنه في الآية يتناول الإسراف أيضا بطريق الدلالة إذ لا يفترقان في الأحكام لا سيما وقد عقبه سبحانه بالحث على الاقتصاد المناسب لاعتبار الكمية المرشد إلى إرادته من النص ، وتعقب بأنه إذا كان التبذير أدخل في الذم من الإسراف كيف يتناوله بطريق الدلالة والنهي عن الإسراف فيما بعد يبعد إرادته هاهنا فتأمل.
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا في قرن الشياطين ، والإخوان جمع أخ والمراد به الممائل مجازا أي إنهم مماثلون لهم في صفات السوء التي من جملتها التبذير أو الصديق والتابع مجازا أيضا أي إنهم أصدقاؤهم وأتباعهم فيما ذكر من التبذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر ما لا خير فيه من المناهي والملاهي أو القرين كما سبق أيضا أي أنهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد.
وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً من تتمة التعليل أي مبالغا في كفران نعمه تعالى لأن شأنه صرف جميع ما أعطاه اللّه تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر باللّه تعالى وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر اللّه تعالى به.
وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم اللّه تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو صرفها إلى ما خلقت له ، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشعار بكمال عتوه كما لا يخفى. ويشعر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان وليس بذاك.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل على ما هو الظاهر ، وقيل عن السائلين مطلقا ، والإعراض في الأصل إظهار العرض أي الناحية فمعنى أعرض عنه ولى مبديا عرضه ، والمراد به هنا حقيقته على ما قيل بناء على ما
روي من أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت فنزلت وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها
والخطاب عام له صلّى اللّه عليه وسلّم ولغيره والمراد بالرحمة على ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد والضحاك الرزق ، ونصب ابْتِغاءَ على أنه مفعول له.
قال في الكشف قد أقيم ابتغاء الرزق مقام فقدانه وفيه لطف فكان ذلك الإعراض لأجل السعي لهم وهو من وضع المسبب موضع السبب كما أوضحه في الكشاف ، وقد يفسر الابتغاء بالانتظار ويجوز جعله في موضع الحال من ضمير تُعْرِضَنَّ أي مبتغيا ، وجعله حالا من الضمير المجرور بعيد.
وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم النفع وترك الإعطاء لأنه لازمه عرفا والابتغاء مجازا عن عدم الاستطاعة والتعلق أيضا بالشرط وأيد ذلك بما
أخرجه سعيد بن منصور. وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : جاء ناس من مزينة يستحملون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا» ظنوا ذلك من غضب

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 63
رسول اللّه عليه الصلاة والسلام عليهم فأنزل اللّه سبحانه : وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الآية
وفسر الرحمة بالفيء لكن أنت تعلم أن هذا غير ظاهر بناء على ما سمعت من أن هذه السورة مكية والآية المذكورة ليست من المستثنيات ، وكأنه لهذا قيل : إن المعنى إن ثبت وتحقق في المستقبل أنك أعرضت عنهم في الماضي ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل إلخ والمراد سببية الثبوت للأمر بالقول فتأمل.
وجوز أن يتعلق ابْتِغاءَ بجواب الشرط أعني قوله تعالى : فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي إما تعرضن عنهم فقل لهم ذلك ابتغاء رحمة من ربك ، وقدم هذا الوجه على سائر الأوجه الزمخشري واعترض بأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها في غير باب إما وما يلحق بها. وأجيب بأنه ذكره على المذهب الكوفي المجوز للعمل مطلقا أو أراد التعلق المعنوي فيضمر ما ينصبه ويجعل المذكور جاريا مجرى التفسير ، والإعراض على هذا على حقيقته ، واحتمال كونه كناية مختص بتعلقه بالشرط على ما زعمه الطيبي والحق عدم الاختصاص كما لا يخفى.
وجملة تَرْجُوها على سائر الأوجه يحتمل أن تكون وصفا لرحمة وأن تكون حالا من الفاعل ومِنْ رَبِّكَ متعلق بترجوها.
وجوز أن يكون صفة لرحمة ، والميسور اسم مفعول من يسر الأمر بالبناء للمجهول مثل سعد الرجل ومعناه السهل أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا ، قال الحسن : أمر أن يقول لهم نعم وكرامة وليس عندنا اليوم فإن يأتنا شيء نعرف حقكم ، وقيل الميسور مصدر وجعل صفة مبالغة أو بتقدير مضاف أي قولا ذا ميسور أي يسر والمراد به القول المشتمل على الدعاء باليسر مثل أغناكم اللّه تعالى ويسر لكم ، وفسره ابن زيد برزقنا اللّه تعالى وإياكم بارك اللّه تعالى فيكم.
وتعقب ذلك بأن الميسور معناه ذا يسر ولهذا وقع صفة لقول فأي ضرورة في أن يجعل مصدرا ثم يؤول بذا ميسور ، ودفع بأنه إذا أريد القول المشتمل على الدعاء لا يكون القول حينئذ ميسورا بل ميسر لما أرادوه.
وميسور مصدرا مما ثبت في اللغة من غير تكلف فجعله صفة مبالغة أو بتقدير مضاف له وجه وجيه وفيه تأمل.
والحق أن اعتباره مصدرا خلاف الظاهر ، وفي الآية على القول الأخير دلالة على أن الدعاء للسائل مما لا بأس به ، وعن الإمام مالك رحمه اللّه تعالى أنه كان لا يرى أن يقال للسائل إذا لم يعط شيئا : رزقك اللّه تعالى ونحوه قائلا إن ذلك مما يثقل عليه ويكره سماعه ولا ينبغي أن يذكر اسم اللّه تعالى لمن لا يهش له ، ولعمري إنه مغزى بعيد ، وأفاد بعضهم أن في الآية دليلا على النهي عن الإعراض بالمعنى الأول فإن المعنى إن أردت الإعراض عنهم فقل لهم قولا ميسورا ولا تعرض وله وجه وجيه لا يخفى على من له بصر حديد. واستشكل العز بن عبد السلام جعل ابْتِغاءَ من متعلقات الشرط بأنا مأمورون بالرد الجميل إن انتظرنا شيئا يحصل لنا أو لم ننتظر. وأجاب بأن المراد بالقول الميسور الوعد بالعطاء فيكون مفاد الآية لا تعدوا إلا إذا كنتم على رجاء من حصول ما تعدون به فالتقييد بالابتغاء في غاية المناسبة للشرط لأنه لا يحسن الوعد عند عدم الرجاء لما أنه يؤدي إلى الإخلاف وهو كما ترى.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجرا لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد والتوسط بين الإفراط والتفريط وذلك هو الجود الممدوح فخير الأمور أوساطها وأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما عال من اقتصد»
وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة»
وفي رواية عن أنس مرفوعا «التدبير نصف المعيشة والتودد نصف العقل والهم نصف الهرم وقلة العيال أحد اليسارين»
وكان يقال حسن التدبير مع العفاف خير

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 64
من الغنى مع الإسراف فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي فتصير ملوما عند اللّه تعالى وعند الناس مَحْسُوراً نادما مغموما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسره السفر أعياه وأوقفه حتى انقطع عن رفقته ، قال الراغب : يقال للمعيي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وهذا بيان قبح الإسراف المفهوم من النهي الأخير ، وبين في أثره لأن غائلة الإسراف في آخره وحيث كان قبح الشح المفهوم من النهي الأول مقارنا له معلوما من أول الأمر روعي ذلك في التصوير بأقبح الصور ولم يسلك فيه مسلك ما بعده كذا قيل ، وفي أثر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم ما يقتضيه ، وقال بعض المحققين : الأولى أن يكون ذلك بيانا لقبح الأمرين ويعتبر التوزيع «فتقعد» منصوب في جواب النهيين والملوم راجع إلى قوله تعالى : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ كما قيل : إن البخيل ملوم حيثما كانا والمحسور راجع إلى قوله سبحانه : وَلا تَبْسُطْها وليس ببعيد. وفي الكشاف عن جابر : «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالس إذ أتاه صبي فقال : إن أمي تستكسيك درعا فقال : من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت : قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل صلّى اللّه عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظر فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة فنزلت»
وأنت تعلم أنه يأبى هذا كون السورة مكية والآية ليست من المستثنيات ولعل الخبر لم يثبت فعن ولي الدين العراقي أنه لم يجده في شيء من كتب الحديث أي بهذا اللفظ وإلا
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : جاء غلام إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : إن أمي تسألك كذا وكذا فقال : ما عندنا اليوم شيء قال : فتقول لك اكسني قميصك فخلع عليه الصلاة والسلام قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت ، وأخرج ابن أبي حاتم عن المنهال ابن عمرو نحوه
وليس في شيء منهما حديث أذان بلال وما بعده ، وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن الفزاري فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول :
أتجعل نهبي ونهب العبي د بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لم يرفع فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعا من المؤلفة قلوبهم فنزلت
، وفيه الإباء السابق كما لا يخفى ، وكذا ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال : أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بزمن العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا : نأتي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نسأله فوجدوه قد فرغ منه فأنزل اللّه تعالى الآية.
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ تعليل لقوله سبحانه وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ إلخ كأنه قيل : إن أعرضت عنهم لفقد الرزق فقل لهم قولا ميسورا ولا تهتم لذلك فإن ذلك ليس لهوان منك عليه تعالى بل لأن بيده جل وعلا مقاليد الرزق وهو سبحانه يوسعه على بعض ويضيقه على بعض حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق الحال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحتك فيكون قوله تعالى : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ إلخ معترضا تأكيدا لمعنى ما تقتضيه حكمته عز وجل من القبض والبسط ، وقوله تعالى : إِنَّهُ سبحانه كانَ لم يزل ولا يزال بِعِبادِهِ جميعهم خَبِيراً عالما بسرهم بَصِيراً عالما بعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم تعليل لسابقه ، وجوز أن يكون ذلك تعليلا للأمر بالاقتصاد المستفاد من النهيين إما على معنى أن البسط والقبض أمران مختصان باللّه تعالى وأما أنت فاقتصد واترك ما هو مختص به جل وعلا أو على معنى أنكم إذا تحققتم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 65
شأنه تعالى شأنه وأنه سبحانه يبسط ويقبض وأمعنتم النظر في ذلك وجدتموه تعالى مقتصدا فاقتصدوا أنتم واستنوا بسنته ، وجعله بعضهم تعليلا لجميع ما مر وفيه خفاء كما لا يخفى ، وجوز كونه تعليلا للنهي الأخير على معنى أنه تعالى يبسط ويقبض حسب مشيئته فلا تبسطوا على من قدر عليه رزقه وليس بشيء.
وجوز أيضا كونه تمهيدا لقوله سبحانه : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ واستبعد بأن الظاهر حينئذ فلا.
الإملاق الفقر كما روي عن ابن عباس وأنشد له قول الشاعر :
وإني على الإملاق يا قوم ماجد أعد لأضيافي الشواء المصهبا
وظاهر اللفظ النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة لكن روي أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن فنهى في الآية عن ذلك فيكون المراد بالأولاد البنات وبالقتل الوأد ، والخشية في الأصل خوف يشوبه تعظيم ، قال الراغب : وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه.
وقرىء بكسر الخاء ، والظاهر أن هذا النهي معطوف على ما تقدم من نظيره ، وجوز الطبرسي أن يكون عطفه على قوله سبحانه : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وحينئذ فيحتمل أن يكون الفعل منصوبا بأن كما في الفعل السابق.
نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ضمان لرزقهم وتعليل للنهي المذكور بإبطال موجبه في زعمهم أي نحن نرزقهم لا أنتم فلا تخافوا الفقر بناء على علمكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم ، وتقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إفاضة الرزق ، وعارض هذه النكتة هناك تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين من الآيات كذا قيل. وجوز المولى شيخ الإسلام كون ذلك لأن الباعث على القتل هناك الإملاق الناجز ولذلك قيل من إملاق وهاهنا الإملاق المتوقع ولذلك قيل : خشية إملاق فكأنه قيل : نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه وإياكم أيضا رزقا إلى رزقكم.
إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً تعليل آخر ببيان أن المنهي عنه في نفسه منكر عظيم لما فيه من قطع التناسل وقطع النوع ، والخطأ كالإثم لفظا ومعنى وفعلهما من باب علم وقرأ أبو جعفر وابن ذكوان عن عامر (خطأ) بفتح الخاء والطاء من غير مد ، وخرج ذلك الزجاج على وجهين ، الأول أن يكون اسم مصدر من أخطأ يخطىء إذا لم يصب أي إن قتلهم كان غير صواب ، والثاني أن يكون لغة في الخطأ بمعنى الإثم مثل مثل ومثل وحذر وحذر فمن استشكل هذه القراءة بأن الخطأ ما لم يتعمد وليس هذا محله فقد نادى على نفسه بقلة الاطلاع.
وقرأ ابن كثير «خطاء» بكسر الخاء وفتح الطاء والمد وخرج على وجهين أيضا. الأول أن يكون لغة في الخطء بمعنى الإثم مثل دبغ ودباغ ولبس ولباس ، والثاني أن يكون مصدر خاطأ يخاطىء خطاء مثل قاتل يقاتل قتالا. قال أبو علي الفارسي : وإن كنا لم نجد خاطأ لكن وجد تخطأ مطاوعه فدلنا عليه وذلك في قولهم : تخطأت النبل أحشاءه ، وأنشد محمد بن السوي في وصف كماءة كما في مجمع البيان :
وأشعث قد ناولته أحرش الفري أدرت عليه المدجنات الهواضب
تخطأه القناص حتى وجدته وخرطومه في منقع الماء راسب
والمعنى على هذا إن قتلهم كان عدولا عن الحق والصواب فقول أبي حاتم إن هذه القراءة غلط غلط. وقرأ الحسن «خطاء» بفتح الخاء والطاء مع المد وهو اسم مصدر أخطى كالعطاء اسم مصدر أعطى ، وقرأ الزهري وأبو رجاء «خطأ» بكسر الخاء وفتح الطاء وألف في آخره مبدلة من الهمزة وليس من قصر الممدود لأنه ضرورة لا داعي إليه ،

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 66
وفي رواية عن ابن عامر أنه قرأ «خطا» كعصا وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى بمباشرة مباديه القريبة أو البعيدة فضلا عن مباشرته ، والنهي عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق للمبالغة في النهي عن نفسه ولأن قربانه داع إلى مباشرته ، وفسره الراغب بوطء المرأة من غير عقد شرعي ، وجاء فيه المد والقصر وإذا مد يصح أن يكون مصدر المفاعلة ، وتوسيط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرمة مطلقا كما قال شيخ الإسلام باعتبار أنه قتل للأولاد لما أنه تضييع للأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكما.
إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً فعلة ظاهرة القبح زائدته وَساءَ سَبِيلًا أي وبئس السبيل سبيلا لما فيه من اختلال أمر الأنساب وهيجان الفتن ، وقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
وجاء في غير رواية أنه إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإن تاب ونزع رجع إليه وهو من الكبائر ، وفاحشة مطلقا على ما أجمع عليه المحققون بل في الحديث الصحيح أنه بحليلة الجار من أكبر الكبائر ، وزعم الحليمي أنه فاحشة إن كان بحليلة الجار أو بذات الرحم أو بأجنبية في شهر رمضان أو في البلد الحرام وكبيرة وإن كان مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو مع أجنبية على سبيل القهر والإكراه وإذا لم يوجب حدا يكون صغيرة ، ولا يخفى رده وضعف مبناه ، والآية ظاهرة في أنه فاحشة مطلقا نعم أفحش أنواعه الزنا بحليلة الجار ، وقال بعضهم : أعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم
فقد صحح الحاكم أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من وقع على ذات محرم فاقتلوه
وزنا الثيب أقبح من زنا البكر بدليل اختلاف حديهما ، وزنا الشيخ لكمال عقله أقبح من زنا الشاب ، وزنا الحر والعالم لكمالهما أقبح من زنا القن والجاهل ، وهل هو أكبر من اللواط أم لا؟ فيه خلاف وفي الإحياء أنه أكبر منه لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم الضرر ، ومنه اختلاط الأنساب بكثرته ، وقد يعارض بأن حده أغلظ بدليل قول مالك وآخرين برجم اللوطي ولو غير محصن بخلاف الزاني. وقد يجاب بأن المفضول قد يكون فيه مزية ، وفيه ما فيه. وبالغ بعضهم فقال : إنه مطلقا يلي الشرك في الكبر ، والأصح أن الذي يلي الشرك هو القتل ثم الزنا ، وخبر الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام الظاهر كما قال ابن حجر الهيتمي أنه لا أصل له ، نعم
روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنا
إلا أن له ما يبين معناه وهو ما
رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي اللّه تعالى عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل ليزني فيتوب اللّه تعالى عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه
فعلم منه أن أشدية الغيبة من الزنا ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنة المستوفية لجميع شروطها من الندم من حيث المعصية والإقلاع وعزم أن لا يعود مع عدم الغرغرة وطلوع الشمس من مغربها مكفرة لإثم الزنا بمجردها بخلاف الغيبة فإن التوبة وإن وجدت فيها هذه الشروط لا تكفرها بل لا بد وأن ينضم إليها استحلال صاحبها مع عفوه فكانت الغيبة أشد من هذه الحيثية لا مطلقا فلا يعكر الحديث على الأصح ، وعلم منه أيضا أن الزنا لا يحتاج في التوبة منه إلى استحلال وهو ما صرح به غير واحد من المحققين وهو مع ذلك من الحقوق المتعلقة بالآدمي كيف لا وهو من الجناية على الأعراض والأنساب. ومعنى قولهم إن الزنا لا يتعلق به حق آدمي أي من المال ونحوه وعدم اشتراط الاستحلال لا يدل على أنه ليس من الحقوق المتعلقة بالآدمي مطلقا ، وإنما لم يشترط الاستحلال لما يترتب على ذكره من زيادة العار والظن الغالب بأن نحو الزوج أو القريب إذا ذكر له ذلك يبادر إلى قتل الزاني أو المزني بها أو إلى قتلهما معا ومع ما ذكر كيف يمكن القول باشتراطه ، وقد صرح بنحو ذلك حجة الإسلام الغزالي في منهاج العابدين فقال في ضمن تفصيل قال الأذرعي : إنه في غاية الحسن والتحقيق أما الذنب في الحرم فإن خنته في أهله وولده فلا وجه للاستحلال والإظهار لأنه يولد فتنة وغيظا بل تتضرع إلى اللّه سبحانه ليرضيه عنك ويجعل له خيرا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 67
كثيرا في مقابلته فإن أمنت الفتنة والهيج وهو نادر فتستحل منه ، وقد قال الأذرعي في مواضع في الحسد والتوبة منه :
ويشبه أن يحرم الإخبار به إذا غلب على ظنه أن لا يحلله وأنه يتولد منه عداوة وحقد وأذى للمخبر ، ثم قال : ويجوز أن ينظر إلى المحسود فإن كان حسن الخلق بحيث يظن أنه يحلله تعين أخباره ليخرج من ظلامته بيقين وأن غلب على ظنه أن إخباره يجر شرا وعداوة حرم إخباره قطعا وإن تردد فالظاهر ما ذكره النووي من عدم الوجوب والاستحباب فإن النفس الزكية نادرة وربما جر ذلك شرا وعداوة وإن حلله بلسانه اه ، فإذا كان هذا في الحسد مع سهولته عند أكثر الناس وعدم مبالاتهم به ومن ثم أطلق النووي عدم الإخبار فقال : المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود بل لا يستحب ولو قيل يكره لم يبعد فما بالك في الزنا المستلزم أن الزوج والقريب يقتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقق ويعلم من الأخبار أن ثمرات الزنا قبيحة منها أنه يورد النار والعذاب الشديد وأنه يورث الفقر وذهاب البهاء وقصر العمر وأنه يؤخذ بمثله من ذرية الزاني ، ولما قيل لبعض الملوك ذلك أراد تجربته بابنة له وكانت غاية في الحسن فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها فطافت بها في الأسواق فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمد أحد نظره إليها رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها ثم ذهب عنها فأدخلتها على الملك وذكرت له القصة فسجد شكرا وقال :
الحمد للّه تعالى ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة وقد قوصصت بها نسأل اللّه سبحانه أن يعصمنا وذرارينا ومن ينسب إلينا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بحرمة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. وقرأ أبي بن كعب كما أخرجه عنه ابن مردويه «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا من تاب فإن اللّه كان غفورا رحيما» فذكر لعمر رضي اللّه تعالى عنه فأتاه فسأله فقال أخذتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وليس لك عمل إلا الصفق بالنقيع وهذا إن صح كان قبل العرضة الأخيرة وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها اللّه تعالى ، والمراد حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بلا تقتلوا والباء للسببية والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، ويجوز أن يكون حالا من الفاعل أو المفعول أي لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحق أو لا تقتلوها إلا ملتبسة بالحق ، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا ملتبسا بالحق والأول أظهر ، وأما تعلقه بحرم فبعيد وإن صح ، وفسر الحق بما
رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة
، ونقض الحصر بدفع الصائل فإن ذلك ربما أدى إلى القتل ، ودفع بأن المراد ما يكون بنفسه مقصودا به القتل وما ذكر المقصود به الدفع وقد يفضي إليه في الجملة ، والحق عدم انحصار الحق فيما ذكر وهو في الخبر ليس بحقيقي ، وقد ذهب الشافعية إلى أن ترك الصلاة كسلا مبيح للقتل وكذا اللواطة عند جمع من الأجلة.
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بغير حق يوجب قتله أو يبيحه للقاتل حتى أنه لا يعتبر إباحته لغير القاتل فقد نص علماؤنا أن من عليه القصاص إذا قتله غير من له القصاص يقتص له ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك إلا أن يكون الأمر ظاهرا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ لمن يلي أمره من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث ، واقتصار البعض على الأول رعاية للأغب سُلْطاناً أي تسلطا واستيلاء على القاتل بمؤاخذته بأحد أمرين القصاص أو الدية ، وقد تتعين الدية كما في القتل الخطأ والمقتول خطأ مقتول ظلما بالمعنى الذي أشير إليه وإن قلنا لا إثم في الخطأ
لحديث «رفع عن أمتي الخطأ»
وشرع الكفارة فيه لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه فليتأمل.
واستدل بتفسير الولي بالوارث على أن للمرأة دخلا في القصاص.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 68
وقال القاضي إسماعيل : لا تدخل لأن لفظه مذكر فَلا يُسْرِفْ أي الولي فِي الْقَتْلِ أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا والقاتل واحد كعادة الجاهلية فإنهم كانوا إذا قتل منهم واحد قتلوا قاتله وقتلوا معه غيره ، ومن هنا قال مهلهل :
كل قتيل في كليب غره حتى ينال القتل آل مره
وإلى هذا ذهب ابن جبير وأخرجه المنذر من طريق أبي صالح عن ابن عباس أو بأن يقتل غير القاتل ويترك القاتل. وروي هذا عن زيد بن أسلم فقد أخرج البيهقي في سننه عنه أن الناس في الجاهلية إذا قتل من ليس شريفا شريفا لم يقتلوه به وقتلوا شريفا من قومه فنهى عن ذلك أو بأن يزيد على القتل المثلة كما قيل.
وأخرج ابن جرير وغيره عن طلق بن حبيب أنه قال : لا يقتل غير قاتله ولا يمثل به ، وقيل بأن يقتل القاتل والمشروع عليه الدية ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : من قتل بحديدة قتل بحديدة ومن قتل بخشبة قتل بخشبة ومن قتل بحجر قتل بحجر ولا يقتل غير القاتل. وفيه القول بأن القتل بالمثقل يوجب القصاص وهو خلاف مذهبنا.
وقرأ حمزة والكسائي «فلا تسرف» بالخطاب للولي التفاتا ، وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة «فلا يسرف» بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر وفيه مبالغة ليست في الأمر إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تعليل للنهي ، والضمير للولي أيضا على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فلا يبغ ما وراء حقه ولا يخرج من دائرة إمرة الناصر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن الضمير للمقتول على معنى أن اللّه تعالى نصره في الدنيا بأخذ القصاص أو الدية وفي الأخرى بالثواب فلا يسرف وليه في شأنه ، وجوز أن يعود على الذي أسرف به الولي أي إنه تعالى نصره بإيجاب القصاص والتعزيز والوزر على من أسرف في شأنه ، وقيل ضمير يسرف للقاتل أي مريد القتل ومباشرة ابتداء ونسبه في الكشاف إلى مجاهد ، والضميران في التعليل عائدان على الولي أو المقتول ، وأيد بقراءة أبي «فلا تسرفوا» لأن القاتل متعدد في النظم في قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا والأصل توافق القراءتين ، ولم تعينه لأن الولي عام في الآية فهو في معنى الأولياء فيجوز جمع ضميره بهذا الاعتبار ويكون التفاتا ، وتوافق القراءتين ليس بلازم ، والمعنى فلا يسرف على نفسه في شأن القتل بتعريضها للهلاك العاجل والآجل.
وفي الكشف أنه ردع للقاتل على أسلوب وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة : 179] والنهي عن الإسراف لتصوير أن القتل بغير حق كيف ما قدر إسراف ، ومعناه فلا يقتل بغير حق وأنت تعلم أن هذا الوجه غير وجيه فلا ينبغي التعويل عليه ، وهذه الآية كما أخرج غير واحد عن الضحاك أول آية نزلت في شأن القتل وقد علمت أن الأصح أنه أكبر الكبائر بعد الشرك ، وكون القتل العمد العدوان من الكبائر مجمع عليه ، وعد شبه العمد منها هو ما صرح به الهروي وشريح الروياني ، وأما الخطأ فالصواب أنه ليس بمعصية فضلا عن كونه ليس بكبيرة فليحفظ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ نهى عن قربانه لما ذكر سابقا من المبالغة في النهي عن التعرض له وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى : إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن الخصال والطرائق وهي حفظه واستثماره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لجواز التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط ، والأشد قيل جمع شد كالأضر جمع ضر والشد القوة وهو استحكام قوة الشباب والسن كما أن شد النهار ارتفاعه ، قال عنترة :
عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 69
وقيل هو جمع شدة مثل نعمة وأنعم ، وقال بعض البصريين ، هو واحد مثل الآنك : والمراد ببلوغه الأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله ثم التصرف بمال اليتيم بنحو الأكل على غير الوجه المأذون فيه من الكبائر ، وتردد ابن عبد السلام بتقييده بنصاب السرقة فقال في القواعد : قد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهو ظاهر وإن وقعا في مال حقير كزبيبة وتمرة فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاما عن جنس هذه المفسدة كالقطرة من الخمر وإن لم تتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة اه.
وقد يفرق بينهما بأن في شهادة الزور مع الجراءة على انتهاك حرمة المال المعصوم جراءة على الكذب في الشهادة بخلاف القليل من مال اليتيم فلا يستبعد التقييد به بخلافها كذا قيل.
والحق أن الآيات والأخبار الواردة في وعيد أكل مال اليتيم مطلقة فتتناول القليل والكثير فلا يجوز تخصيصها إلا بدليل سمعي وحيث لا دليل كذلك فالتخصيص غير مقبول فالوجه أنه لا فرق بين أكل القليل وأكل الكثير في كونه كبيرة يستحق فاعله الوعيد الشديد ، نعم الشيء التافه الذي تقتضي العادة بالمسامحة به لا يبعد كون أكله ليس من الكبائر واللّه تعالى أعلم ، وقد توصل القضاة اليوم إلى أكل مال اليتيم في صورة حفظه عاملهم اللّه تعالى بعد له وأذاق خائنهم في الدارين جزاء فعله وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ما عاهدتم اللّه تعالى عليه من التزام تكاليفه وما عاهدتم عليه غيركم من العباد ويدخل في ذلك العقود.
وجوز أن يكون المراد ما عاهدكم اللّه تعالى عليه وكلفكم به ، والإيفاء بالعهد والوفاء به هو القيام بمقتضاه والمحافظة عليه وعدم نقضه واشتقاق ضده وهو الغدر يدل على ذلك وهو الترك ولا يكاد يستعمل إلا بالباء فرقا بينه وبين الإيفاء الحسي كإيفاء الكيل والوزن إِنَّ الْعَهْدَ أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال العناية بشأنه وقيل دفعا لتوهم عود الضمير إلى الإيفاء المفهوم من أَوْفُوا كانَ مَسْؤُلًا أي مسؤولا عنه على حذف الجار وجعل الضمير بعد انقلابه مرفوعا مستكنا في اسم المفعول ويسمى الحذف والإيصال وهو شائع.
وجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي إن صاحب العهد كان مسؤولا ، وقيل لا حذف أصلا والكلام على التخييل كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفى بك تبكيتا للناكث كما يقال للموؤدة بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير :
9] وقد يعتبر فيه الاستعارة الكنية والتخييلية ، وزعم بعضهم أنه يجوز أن يجعل العهد متمثلا على هيئة من يتوجه عليه السؤال كما تجسم الحسنات والسيئات لتوزن.
وجوز أن يكون مَسْؤُلًا بمعنى مطلوبا من سألت كذا إذا طلبت ، وإسناد المطلوبية إليه مجاز والمراد مطلوب عدم إضاعته ، ويجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف ارتفع الضمير واستتر بعد حذفه ، والأصل ما أشرنا إليه وقد سمعت آنفا أن مثل ذلك شائع ، وليس في ذلك تعليل الشيء بنفسه فإن المآل إلى أن يقال : أوفوا بالعهد فإن عدم إضاعته لم تزل مطلوبة من كل أحد فتطلب منكم أيضا ، ثم إن الإخلال بالوفاء بالعهد على ما تقتضيه الأحاديث الصحيحة قيل كبيرة ، وقد جاء عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه وعد من الكبائر نكث الصفقة
أي الغدر بالمعاهد بل صرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه سماه كبيرة ، وقال بعض المحققين : إن في إطلاق كون الإخلال المذكور كبيرة نظرا بناء على أن العهد هو التكليفات الشرعية فإن من الإخلال ما يكون كبيرة ومنه ما يكون صغيرة وينظر في ذلك إلى حال المكلف به ، ولعل من قال : إن الإخلال بالعهد كبيرة أراد بالعهد مبايعة الإمام وبالإخلال بذلك نقض بيعته والخروج عليه لغير موجب ولا تأويل ولا شبهة في أن ذلك كبيرة فليتأمل وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه ولا تخسروه إِذا كِلْتُمْ أي وقت كيلكم للمشترين ، وتقييد الأمر به لما أن التطفيف يكون هناك ، وأما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 70
وقت الاكتيال على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى : إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين : 2] الآية وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ هو القبان على ما روي عن الضحاك ويقال له القرسطون بلغة أهل الشام كما قال الأزهري ، وقال الزجاج : هو الميزان صغيرا كان أو كبيرا من موازين الدراهم وغيرها ، وقال الليث : هو أقوم الموازين ، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه العدل ، وعن الحسن أنه الحديد وهو رومي معرب كما قال ابن دريد لفقد مادته في العربية ، وقيل : إنه عربي وروي القول بتعريبه وأنه الميزان في اللغة الرومية عن ابن جبير وجماعة ، وقيل : هو مركب من كلمتين القسط وهو العدل وطاس وهو كفة الميزان لكنه حذف أحد الطاءين لأن التركيب محل تخفيف وهو كما ترى ، وعلى القول بأنه رومي معرب وهو الصحيح لا يقدح استعماله في القرآن في عربيته المذكورة في قوله تعالى : إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف : 2] لأنه بعد التعريب والسماع في فصيح الكلام يصير عربيا فلا حاجة إلى إنكار تعريبه أو ادعاء التغليب أو أن المراد عربي الأسلوب.
وقد قرأه الكوفيون بكسر القاف والباقون بضمها ، وقد تبدل السين الأولى صادا كما أبدلت الصاد سينا في الصراط الْمُسْتَقِيمِ أي العدل السوي ، وهو يبعد تفسير القسطاس بالعدل ، ولعل الاكتفاء باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن كما قال شيخ الإسلام لما أن عند استقامته لا يتصور الجور غالبا بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاء بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءه لا يتصور بدون تعديل المكيال وقد أمر بتقويمه أيضا في قوله تعالى : أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ذلِكَ أي إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم خَيْرٌ في الدنيا لأنه سبب لرغبة الناس في معاملة فاعله وجلب الثناء الجميل عليه وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة لما يترتب عليه من الثواب في الآخرة ، والتأويل تفعيل من آل إذا رجع وأصله رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كما في قوله تعالى : وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران : 7] أو فعلا كما في قوله سبحانه يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف :
53] وقول الشاعر :
وللنوى قبل يوم البين تأويل ، وقيل : المراد ذلك خير في نفسه لأنه أمانة وهي صفة كمال وأحسن عاقبة في الدنيا لأنه سبب لميل القلوب والرغبة في المعاملة والذكر الجميل بين الناس ويفضي ذلك إلى الغنى وفي الآخرة لأنه سبب للخلاص من العذاب والفوز بالثواب ، وقيل : أحسن تأويلا أي أحسن معنى وترجمة ، ثم إن إيفاء الكيل والوزن واجب إجماعا ونقص ذلك من الكبائر مطلقا على ما يقتضيه الوعيد الشديد لفاعله الوارد في الآيات والأحاديث الصحيحة ولا فرق بين القليل والكثير ، نعم قال بعضهم : إن التطفيف بالشيء التافه الذي يسامح به أكثر الناس ينبغي أن يكون صغيرة ، فإن قلت : ذكروا في الغصب أن غصب ما دون ربع دينار لا يكون كبيرة وقضيته أن يكون التطفيف كذلك قلت قيل ذلك مشكل فلا يقاس عليه بل حكي الإجماع على خلافه.
وقال الأذرعي : إنه تحديد لا مستند له انتهى ، وعلى التنزيل فقد يفرق بأن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره لأنه إنما يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعين التنفير عنه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا مما قالوه في شرب القطرة من الخمر من أنه كبيرة وأن لم يوجد فيها مفسدة الخمر لأن قليله يدعو إلى كثيره ، ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع ولا يكاد يسلم كيال أو وزان أو ذراع في هذه الأعطار من نقص الأمن عصمه اللّه تعالى وَلا تَقْفُ ولا تتبع ، وأصل معنى قفا اتبع قفاه ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه.
وقرىء «ولا تقفوا» بإثبات حرف العلة مع الجازم وهو شاذ ، وقرىء أيضا «ولا تقف» بضم القاف وسكون الفاء كتقل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 71
على أنه أجوف مجزوم بالسكون وماضيه قاف يقال قاف أثره يقوفه إذا قصه واتبعه ومنه القيافة وأصلها ما يعلم من الإقدام وأثرها ، وعن أبي عبيدة أن قاف مقلوب قفا كجذب وجبذ. وتعقب بأن الصحيح خلافه.
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل ، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما ويندرج في ذلك أمور. وكل من المفسرين اقتصر على شيء فقيل المراد نهي المشركين عن القول في الإلهيات والنبوات تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن الحنفية أن المراد النهي عن شهادة الزور ، وقيل : المراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات ومن ذلك قول الكميت :
ولا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن رمينا
وروى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن أنس «من قفا مؤمنا بما ليس فيه - يريد شينه به - حبسه اللّه تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وقيل : المراد النهي عن الكذب ، أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر ، واختار الإمام العموم قال : إن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد ، واحتج بالآية نفاة القياس لأنه قفو للظن وحكم به. وأجيب بأنهم أجمعوا على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة فمن ذلك الصلاة على الميت ودفنه في مقابر المسلمين وتوريث المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو مظنون والتوجه إلى القبلة في الصلاة وهو مبني على الاجتهاد بأمارات لا تفيد إلا الظن وأكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم وهو مظنون والشهادة فإنها ظنية وقيم المتلفات وأروش الجنايات فإنها لا سبيل إليها إلا الظن ، ومن نظر ولو بمؤخر العين رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «نحن نحكم بالظاهر واللّه تعالى يتولى السرائر»
فالنهي عن اتباع ما ليس بعلم قطعي مخصوص بالعقائد وبأن الظن قد يسمى علما كما في قوله تعالى : إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة : 10] فإن العلم بإيمانهن إنما يكون بإقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن ، وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا على أنه متى حصل ظن أن حكم اللّه تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فها هنا الظن واقع في طريق الحكم وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن. وأجاب النفاة عن الأول بأن قوله تعالى : لا تَقْفُ الآية عام دخله التخصيص فيما يذكرون فيه العمل بالظن فيبقى العموم فيما وراءه على أن بين ما يذكرونه من الصور وبين محل النزاع فرقا لأن الأحكام المتعلقة بالأول مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فالتنصيص على ذلك متعذر فاكتفى بالظن للضرورة بخلاف الثاني فإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة والتنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن ، وعن الثاني بأن المغايرة بين العلم والظن مما لا شبهة فيه ويدل عليها قوله تعالى :
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام : 148] والمؤمن هو المقر وذلك الإقرار هو العلم فليس في الآية تسمية الظن علماء وعن الثالث بأنه إنما يتم لو ثبت حجية القياس بدليل قاطع وليس فليس ، وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب على ما قال الإمام أن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يفضي إلى نفيه وهو باطل ، وللمجيب أن يقول نعلم بالتواتر الظاهر من دين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر فتأمل إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 72
كل هذه الأعضاء وأشير إليها بأولئك على القول بأنها مختصة بالعقلاء تنزيلا لها منزلتهم لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال بعضهم : إنها غالبة في العقلاء وجاءت لغيرهم من حيث إنها اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين ومن ذلك قول جرير على ما رواه غير واحد :
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
وعلى هذا لا حاجة إلى التنزيل وارتكاب الاستعارة فيما تقدم كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا كل الضمائر ضمائر «كل» أي كان كل من ذلك مسؤولا عن نفسه فيقال له : هل استعملك صاحبك فيما خلقت له أم لا؟ وذلك بعد جعله أهلا للخطاب والسؤال. وجوز أن يكون ضمير عَنْهُ لكل وما عداه للقافي فهناك التفات إذ الظاهر كنت عنه مسؤولا.
وقال الزمخشري : عَنْهُ نائب فاعل مَسْؤُلًا فهو مسند إليه ولا ضمير فيه نحو غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة : 7].
ورده أبو البقاء وغيره بأن القائم مقام الفاعل حكمه حكمه في أنه لا يجوز تقدمه على عامله كأصله. وذكر أنه حكى ابن النحاس الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا فليس ذلك نظير غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وليس لقائل أن يقول : إنه على رأي الكوفيين في تجويزهم تقديم الفاعل إلا أن ينازع في صحة الحكاية ، ونقل عن صاحب التقريب أنه إنما جاز تقديم عَنْهُ مع أنه فاعل لمحا لأصالة ظرفيته لا لعروض فاعليته ولأن الفاعل لا يتقدم لالتباسه بالمبتدأ ولا التباس هاهنا ولأنه ليس بفاعل حقيقة اه. والإنصاف أنه مع هذا لا يقال لما ذهب إليه شيخ العربية إنه غلط.
وذكر في شرح نحو المفتاح أنه مرتفع بمضمر يفسره الظاهر ، وجوز إخلاء المفسر عن الفاعل إذا لم يكن فعلا معللا بأصالة الفعل في رفع الفاعل فلا يجوز خلوه عنه بخلاف اسمي الفاعل والمفعول تشبيها بالجوامد.
وتعقبه في الكشف بأن فيه نظرا نقلا وقياسا أما الأول فلتفرده به ، وأما الثاني فلأن الاحتياج إليه من حيث إنه إذا جرى على شيء لا بد من عائد إليه ليرتبط به ويكون هو الذات القائم هو بها إن كان فاعلا أو ملابسا لتلك الذات وليس كالجوامد في ارتباطها بالسوابق بنفس الحمل لأنها لا تدل على معنى متعلق بذات فالوجه أن يقال حذف الجار واستتر الضمير بعده في الصفة ، وقد سمعت عن قرب أن هذا من باب الحذف والإيصال وأنه شائع ، وجوز أن يكون مرفوع مَسْؤُلًا المصدر وهو السؤال وعَنْهُ في محل النصب. وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم : فيك يرغب وقال لا يرتفع بما بعده فأين المرفوع؟ فقال : المصدر أي فيك يرغب الرغب بمعنى تفعل الرغبة كما في قولهم : يعطي يمنع أي يفعل الإعطاء والمنع ، وجوز أن يكون اسم كان أو فاعله ضمير كُلُّ محذوف المضاف أي كان صاحبه عنه مسؤولا أو كان عنه مسؤولا صاحبه فيقال له لم استعملت السمع فيما لا يحل ولم صرفت البصر إلى كذا والفؤاد إلى كذا؟ وقرأ الجراح العقيلي «والفواد» بفتح الفاء وإبدال الهمزة واوا ، وتوجيهها أنه أبدلت الهمزة واوا لوقوعها مع ضمة في المشهور ثم فتحت الفاء تخفيفا وهي لغة في ذلك ، ولا عبرة بإنكار أبي حاتم لها ، واستدل بالآية على أن العبد يؤاخذ بفعل القلب كالتصميم على المعصية والأدواء القلبية كالحقد والحسد والعجب وغير ذلك نعم صرحوا بأن الهم بالمعصية من غير تصميم لا يؤاخذ به للخبر الصحيح في ذلك. ثم إن اتباع الظن يكون كبيرة ويكون صغيرة حسب أنواعه وأصنافها ومنه ما هو أكبر الكبائر كما لا يخفى نسأل اللّه تعالى أن يعصمنا عن جميع ذلك.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي فخرا وكبرا قاله قتادة ، وقال الراغب : المرح شدة الفرح والتوسع فيه والأول

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 73
أنسب ، وهو مصدر وقع موقع الحال والكلام في مثله إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة شائع ، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية لفعل محذوف أي تمرح مرحا وأن يكون مفعولا له أي لأجل المرح ، وقرىء «مرحا» بكسر الراء عن أنه صفة مشبهة ونصبه على الحالية لا غير ، قيل وهذه القراءة باعتبار الحكم أبلغ من قراءة المصدر المفيد للمبالغة بجعله عين المرح نظير ما قيل في زيد عدل لأن الوصف واقع في حيز النهي الذي هو في معنى النفي ونفى أصل الاتصاف أبلغ من نفي زيادته ومبالغته لأنه ربما يشعر ببقاء أصله في الجملة ، وجعل المبالغة راجعة إلى النفي دون المنفي كما قيل في قوله تعالى : وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت : 46] بعيد هنا ، والقول بأن الصفة المشبهة تدل على الثبوت فلا يقتضي نفي ذلك نفي أصله كما قيل في المصدر مغالطة نشأت من عدم معرفة معنى الثبوت في الصفة فإن المراد به أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام ، والأخفش فضل القراءة بالمصدر لما فيه من التأكيد ولم ينظر إلى أن ذلك في الإثبات لا في النفي أو ما في حكمه وأورد على ما قيل إن فيه تفضيل القراءة الشاذة على المتواترة وهو كما ترى.
ولذا فضل بعضهم القراءة بالمصدر كالأخفش وجعل المبالغة المستفادة منه راجعة إلى النهي ومنع كون ذلك بعيدا ، وقيل إذا جعل التقدير في المتواترة ذا مرح تتحد مع الشاذة وتعقب بأن ذا مرح أبلغ من مرحا صفة لما فيه من الدلالة على أنه صاحب مرح وملازم له كأنه مالك إياه وفيه توقف كما لا يخفى ، والتقييد بالأرض لا يصح أن يقال للاحتراز عن المشي في الهواء أو على الماء لأن هذا خارق ولا يحترز عنه بل للتذكير بالمبدأ والمعاد وهو أردع عن المشي مشية الفاخر المتكبر وادعى لقبول الموعظة كأنه قيل : لا تمش فيما هو عنصرك الغالب عليك الذي خلقت منه وإليه تعود والذي قد ضم من أمثالك كثيرا مشية الفاخر المتكبر ، وقيل للتنصيص على أن النهي عن المشي مرحا في سائر البقع والأماكن لا يختص به أرض دون أرض ، والأول ألطف.
إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ تعليل للنهي وفيه تهكم بالمختال أي إنك لن تقدر أن تجعل فيها خرقا بدوسك وشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ التي عليها طُولًا بتعاظمك ومد قامتك فأين أنت والتكبر عليها إذا التكبر إنما يكون بكثرة القوة وعظم الجثة وكلاهما مفقود فيك أو أنك لن تقدر على ذلك فأنت أضعف من كل واحد من هذين الجمادين فكيف يليق بك التكبر ، وقال بعض المحققين : مآل النهي والتعليل لا تفعل ذلك فإنه لا جدوى فيه وهو وجه حسن ، ونصب طُولًا على أنه تمييز ، وجوز أن يكون مفعولا له ، وقبل : يشير كلام بعضهم إلى أنه منصوب على نزع الخافض وهو بمعنى التطاول أي لن تبلغ الجبال بتطاولك ولا يخفى بعده ، وإيثار الإظهار على الإضمار حيث لم يقل لن تخرقها لزيادة الإيقاظ والتقريع ، ثم إن الاختيال في المشي كبيرة كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهذا فيما عدا بين الصفين أما بينهما فهو مباح لخبر صح فيه ، ويكفي ما في الآية من التهكم والتقريع زاجرا لمن اعتاده حيث لا يباح ككثير من الناس اليوم. وفي الانتصاف قد حفظ اللّه تعالى عوام زماننا من هذه المشية وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين أو نال طرفا من رياسة الدنيا إذ هو يمشي خيلاء ولا يرى أنه يطاول الجبال ولكن يرى أنه يحك بيافوخه عنان السماء كأنهم على هذه الآية لا يمرون أو يمرون عليها وهم عنها معرضون اه.
وإذا كان هذا حال قراء زمانه وفقهائه فماذا أقول أنا في قراء زماني وفقهائهم سوى لا كثّر اللّه تعالى أمثالهم ولا ابتلانا بشيء من أفعالهم وجعلها أفعى لهم كُلُّ ذلِكَ المذكور في تضاعيف الأوامر والنواهي السابقة من الخصال المنحلة إلى نيف وعشرين كانَ سَيِّئُهُ وهو ما نهى عنه منها من الجعل مع اللّه سبحانه إلها آخر وعبادة غيره تعالى والتأفيف والنهر والتبذير وجعل اليد مغلولة إلى العنق وبسطها كل البسط وقتل الأولاد خشية إملاق وقتل النفس التي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 74
حرم اللّه تعالى إلا بالحق وإسراف الولي في القتل وقفو ما ليس بمعلوم والمشي في الأرض مرحا فالإضافة لامية من إضافة البعض إلى الكل عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً أي مبغضا وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية وإلا لما وقع كما يدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم ما شاء اللّه تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وغير ذلك ، وليست هذه الإرادة مرادفة أو ملازمة للرضا ليلزم اجتماع الضدين الإرادة المذكورة والكراهة كما يزعمه المعتزلة ، وهذا تتميم لتعليل الأمور المنهي عنها جميعا ، ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عن ذلك ، وتوجيه الإشارة إلى الكل ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء لما قيل : من أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة بل على وجه الاختلاط لنكتة اقتضته ، وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده سبحانه وإنما لم يصرح بذلك إيذانا بالغنى عنه ، وقيل اهتماما بشأن التنفير عن النواهي لما قالوا من أن التخلية أولى من التحلية ودرء المفاسد أهم من جلب المصالح ، وجوز أن تكون الإضافة بيانية وذلِكَ إما إشارة إلى جميع ما تقدم ويؤخذ من المأمورات أضدادها وهي منهي عنها كما في قوله تعالى : أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام : 151] بعد قوله سبحانه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام : 151] وإما إشارة إلى ما نهى عنه صريحا فقط.
وقرأ الحجازيان والبصريان «سيئة» بفتح الهمزة وهاء التأنيث والنصب على أنه خبر كان ، والإشارة إلى ما نهى عنه صريحا وضمنا أو صريحا فقط ، ومَكْرُوهاً قيل بدل من سَيِّئُهُ والمطابقة بين البدل والمبدل منه غير معتبرة.
وضعف بأن بدل المشتق قليل ، وقيل : صفة سَيِّئُهُ محمولة على المعنى فإنها بمعنى سيئا وقد قرىء به أو أن السيئة قد زال عنها معنى الوصفية وأجريت مجرى الجوامد فإنها بمعنى الذنب أو تجري الصفة على موصوف مذكر أي أمرا مكروها ، وقيل : إنه خبر لكان أيضا ويجوز تعدد خبرها على الصحيح ، وقيل : حال من المستكن في كانَ أو في الظرف بناء على جعله صفة سَيِّئُهُ لا متعلقا بمكروها فيستتر فيه ضميرها ، والحال على هذا مؤكدة. وأنت تعلم أن ضمير السيئة المستتر مؤنث فجعل مكروها حالا منه كجعله صفة سَيِّئُهُ في الاحتياج إلى التأويل. وإضماره مذكرا في قوله : ولا أرض أبقل أبقالها لا يخفى ما فيه.
وعن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه أنه قرأ : «شأنه» ذلِكَ المتقدم في التكاليف المفصلة مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ أي بعض منه أو من جنسه مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي علم الشرائع أو معرفة الحق سبحانه لذاته والخير للعمل به أو الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد ، وفي الكشاف عن ابن عباس هذه الثماني عشرة آية يعني من لا تَجْعَلْ فيما مر إلى مَلُوماً مَدْحُوراً بعد كانت في ألواح موسى عليه السلام وهي عشر آيات في التوراة ، وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وهذا أعظم مدحا للقرآن الكريم مما في الكشاف ، ومِنَ إما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية وإما بمحذوف وقع حالا من الموصول أو عائده المحذوف أي من الذي أوحاه إليك ربك كائنا من الحكمة ، وجوز أن يكون الجار والمجرور بدلا من ما وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب نظير الخطاب السابق كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها ، ورتب عليه أولا ما هو عائدة الشرك في الدنيا حيث قال فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا [الإسراء : 22] ورتب عليه هاهنا نتيجته في العقبى فقيل فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً من جهة نفسك ومن جهة غيرك مَدْحُوراً مبعدا من رحمة اللّه تعالى. وفي التفسير الكبير الفرق بين المذموم والملوم أن المذموم هو الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر والملوم هو الذي يقال له لم فعلت هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت منه إلا إلحاق الضرر بنفسك. ومن هذا يعلم أن الذم يكون أولا واللوم آخرا ، والفرق بين المخذول

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 75
والمدحور أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت ، والمراد به من تركت إعانته وفوض إلى نفسه والمدحور المطرود والمراد به المهان والمستخف به انتهى. وفي إيراد الإلقاء مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له كخشبة يأخذها من كان فيلقيها في التنور ، هذا وقد وحد الخطاب في بعض هذه الأوامر والنواهي وجمع في بعض آخر منها ولم يظهر لي سر اختيار كل من التوحيد والجمع فيما اختير فيه على وجه يسلم من القيل والقال ويهش له كمل الرجال ، وقد ذكرت ذلك لبعض أحبابي من أجلة المحققين ورؤساء المدرسين وطلبت منه أن يحرر ما يظهر له حيث إني محقق كماله وفضله فكتب ما نصه أقول معترفا بالقصور محترزا عن الغرور متعذرا بالقول المأثور المأمور معذور يخطر على خاطر الفقير لتغيير أسلوب الخطاب وجوه تسعة لا تدخل في الحساب. الأول الإشعار بانقسام هذه التكاليف إلى أقسام ثلاثة قسم أهل الكل خوطب به الأمة مرتين مرة تصريحا بخطاب أنفسهم ومرة تعريضا بخطاب رسولهم صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا الأهم هو التوحيد ، وقسم مهم جدا لكن دون الأول خوطبوا به واحدة تصريحا وهو أمور سبعة ، الأول مطلق الإحسان بالوالدين فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق ، والثاني ترك قتل الأولاد ، والثالث الزنا ، والرابع ترك قتل النفس المحرمة إلا بالحق ، والخامس ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، والسادس الإيفاء بالعهد ، والسابع الوزن بالقسطاس المستقيم. وقسم ثالث دون الأولين في المهمية خوطبوا به واحدة تعريضا وهو أيضا أمور أحد عشر. الأول ترك قول أف للوالدين ، والثاني ترك النهر فإن التأفيف والنهر من أهون مراتب العقوق بخلاف ترك الإحسان مطلقا ، والثالث
قول القول الكريم لهما ، والرابع خفض الجناح من الرحمة ، والخامس الدعاء برحمة اللّه تعالى وهذه الثلاثة تركها ليس كترك مطلق الإحسان مثلا والسادس ترك إيتاء حق ذي القربى والمساكين وابن سبيل وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني ، والسابع ترك التبذير والثامن قول القول الميسور ، والتاسع العدل في المنع والعطاء ، والعاشر ترك القفو لما ليس به علم الصادق على القول بموجب الظن مثلا ، والحادي عشر ترك المشي مرحا وترك واحد من هذه الخمسة أيها كان لا يبلغ ترك واحد من الأمور المكلف بها المذكورة في القسم الثاني كما لا يخفى. والثاني من تلك الوجوه الإيماء باقتران خطاب الأمة في النهي عن كبائر خطيرة مثلا بخطابه صلّى اللّه عليه وسلّم عما ليس في خطرها إلى أن الذنوب تزداد عظما بعظم مرتكبها فرضا كما يدل عليه آية لَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء : 74 ، 75] وكريمة يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب : 30] وكما اشتهر أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وأن المقربين على خطر عظيم لكن لم تراع هذه النكتة في النهي عن الشرك إشارة إلى أنه في غاية العظم بحيث لا ينبغي أن يتصور في عظمه ازدياد وتفاوت الأفراد ، أو نقول : لما عارضت هذه النكتة نكتة أخرى رجحت لكونها بالرعاية أحرى وهي الإشارة إلى أن الشرك كان عند اللّه سبحانه عظيما فكرر الخطاب بالنهي عنه تخصيصا وتعميما ، وهكذا نقول في عدم رعاية نكتة الوجوه الآتية في التكليف بالتوحيد ولا نعيد.
والثالث من تلك الوجوه التنبيه بتعميم الخطاب في النهي عن بعض المعاصي والأمر ببعض الطاعات على أن فتنة فعل تلك المعاصي وترك تلك الطاعات لا تصيب الذين ظلموا خاصة. والرابع منها الإشارة بتعميم الخطاب فيما عمم فيه من المنهيات والمأمورات إلى أن تلك المنهيات كما يجب على كل مكلف الانكفاف عنها يجب عليه كف الغير بحيث لو تركه لكان كفاعلها في أنه اقترف كبيرة نهى عنها نهي تلك المنهيات وإلى أن تلك المأمورات كما يجب على الكل أداؤها يجب إجبار التارك على أداؤها بحيث لو لم يجبر لكان كتاركها في أنه ترك واجبا أمر به أمر تلك المأمورات وبتخصيص الخطاب فيما خصص فيه إلى أنه ليس بتلك المثابة فإنه وإن وجب إجبار الغير على بعض تكاليفه لكن عسى أن لا يكون تركه كبيرة والخامس الرمز بتوحيد

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 76
الخطاب فيما وحد فيه أن تلك الطاعة لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون الصالحون وقليل ما هم بخلاف غيرها فإنه مضبوط.
والسادس الإشعار بأن التكاليف التي خوطب بها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد أمته لا يقوم بها حق القيام إلا هو أو من يقتدي بأنواره ويقتفي لآثاره ويسعى في اتباع سننه القويم ويجتهد في التخلق بخلقه الكريم بخلاف غيرها مما خوطبوا به صريحا فإنها تأتي من أغلبهم.
والسابع أنه صرف الخطاب عنه صلّى اللّه عليه وسلّم في النهي عن قتل الأولاد والزنا وقتل النفس المحرمة إلا بالحق والتصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إشارة إلى أن تلك الشنائع لا يأتيها النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم ينه عنها لأن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كانت كافية في كفه عنها ، وكذا صرف عنه الخطاب في الأمر بالإحسان بالوالدين والإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم إشارة إلى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم يأتي بهذه الأمور وإن لم يؤمر بها لأن ترك مطلق الإحسان بالوالدين لو بلغا لديه الكبر مثلا يلزمه من الفظاظة وغلظة القلب وجفاء الطبع ما كان يأباه طبيعته صلّى اللّه عليه وسلّم وكذا الغدر والتطفيف كانا تأباهما أخلاقه الكريمة لكن خوطب بالنهي عن الشرك لأنه ليس للطبع والخلق في التوحيد والشرك دخل.
والثامن أنه تعالى إجلالا لحبيبه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يخاطبه بنهيه عن فواحش قتل الولد والزنا وقتل النفس بغير حق لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يأتيها قبل النهي ، وكذا لم يخاطبه بأمر بالإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يتركها قبل هذا ، وهذا الإيهام ادعى للاعتناء بدفعه من الإيهام فيما خوطب به وحده ، وخوطب بالنهي عن الشرك لأن معهودية دعوته صلّى اللّه عليه وسلّم للخاص والعام مدى الليالي والأيام كفته هذا الإيهام.
والتاسع لعل التكاليف التي خوطب صلّى اللّه عليه وسلّم بها كترك القفو لما ليس له به علم وترك المشي في الأرض مرحا لم تكن في غير دينه من سائر الأديان أو لم تكن مصرحا بها منصوصا عليها في الكتب السماوية ما عدا القرآن فوجه الخطاب إليه وحده تلويحا بأنها من خصائص دينه أو بأن التصريح بها والتنصيص عليها من خصائص كتابه ، ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى بعد النهي عن القفو بلا علم والمشي مرحا «ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة» ثم إني لا أدعي في هذا بل وفي سائر الوجوه البت والجزم ولا أقفو ما ليس لي به علم بل أقول هذا خطر ببالي الكسير والعلم عند اللطيف الخبير اه.
ويرد على قوله في الأول فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق أن العقوق الذي هو كبيرة فعل ما يتأذى به من فعل معه من الوالدين تأذيا ليس بالهين عرفا كما سمعت وعدم الإحسان أصلا قد لا يكون من ذلك ، قال العلامة ابن حجر في أثناء الكلام على الفرق بين العقوق وقطع الرحم إنه لو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب اه. وكأنه أحسن اللّه تعالى إليه ظن أنه إذا تحقق عدم الإحسان تحققت الإساءة وهو بمعزل عن الصواب ، ويرد أيضا على قوله : وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني أنه إن أراد أنه أهون من ترك مجموع تلك الأمور فلا شك إن بعض ما عده في القسم الثالث كالوزن بالقسطاس المستقيم ترك القيام به أهون من ترك مجموع التكليفات فما معنى هذا التخصيص وإن أراد أنه أهون من ترك كل واحد من ترك الأمور المذكورة فهو ممنوع كيف لا ويكون في ذلك قطيعة رحم وقاطعها ملعون في كتاب اللّه تعالى في ثلاثة مواضع.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 77
وروى أحمد بإسناد صحيح أن من أربا الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم اللّه تعالى عليه الجنة ومنع زكاة أيضا
وقد قال تعالى في حم السجدة وهي مكية كهذه السورة وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [فصلت : 6 ، 7] وإن نوقش فيما ذكر قلنا : إن عدم القيام بإيتاء ما ذكر صادق على منع حقوق ثلاثة أصناف ولا شك أن منع ذي الحق حقه ظلم له فيتعدد الظلم فيما نحن فيه ولا أظن أن ذلك أهون من التطفيف وإن كان ظلما أيضا :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على القلب من وقع الحسام المهند
ومما ذكرنا يعلم أن قوله ظاهر غير ظاهر ، ويرد أيضا على قوله : وترك واحد من هذه الخمسة إلخ أن قوله سبحانه وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ نهي على ما اختاره الإمام عن كبائر لا شك في أن بعضها أعظم بكثير من بعض ما في القسم الثاني كالقول في الإلهيات والنبوات نحو ما يقوله المشركون تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى وإن أبيت إلا تخصيصه ببعض ما قاله المفسرون ونقله الإمام مما هو أهون أفراده كالكذب قيل لك إن في كونه أهون من انتفاء الإحسان مطلقا مع كونه قد لا يكون كبيرة منعا ظاهرا كما لا يخفى. وكذا في كون المشي مرحا دون كل واحد من الأمور السابقة بحث.
وقد أخرج الشيخان «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل مختال في مشيته إذ خسف اللّه تعالى به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»
وروى أحمد وابن ماجة والحاكم «ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقي اللّه تعالى وهو عليه غضبان»
وصح «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»
إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم يجىء مثلها فيمن لم يحسن إلى والديه نعم جاء ذلك فيمن عق والديه ، وبين عقوقهما وعدم الإحسان إليهما عموم وخصوص مطلق وعلى هذا فلا يخفى حال كما لا يخفى ، ويرد على الوجه الثاني على ما فيه أنه غير واف بالغرض ، وعلى الثالث أنه مجرد دعوى لم تساعدها الآثار ، نعم ورد في بعض ما ذكر أن فتنته لا تصيب الظالم فقط ما يؤيده ، ومن ذلك ما
أخرجه البيهقي وغيره «يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلت بكم أعوذ باللّه تعالى أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا المطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد اللّه تعالى وعهد رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم إلا سلط اللّه تعالى عليهم عدوا من غيرهم فيأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب اللّه تعالى إلا جعل اللّه تعالى بأسهم بينهم»
وإن كان في عدم إيتاء المسكين وابن السبيل حقهما منع الزكاة فأمر الإيماء المذكور ولا يخفى حاله فإن الأخبار قد تظافرت بعموم شؤم ذلك ،
فقد صح «ما منع قوم الزكاة إلا حبس اللّه تعالى عنهم القطر»
وفي رواية صحيحة «إلا ابتلاهم اللّه تعالى بالسنين»
إلى غير ذلك ، ويرد على الوجه الرابع أن بعضهم قد أطلق القول بأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبيرة.
وصرح صاحب العدة بأن الغيبة نفسها صغيرة وترك النهي عنها كبيرة ، وقال بعض المتأخرين : ونقله الجلال البلقيني ينبغي أن يفصل في النهي عن المنكر فيقال : إن كان كبيرة فالسكوت عليه مع إمكان دفعه كبيرة وإن كان صغيرة فالسكوت عليه صغيرة ، ويقاس ترك المأمور بهذا إذا قلنا : إن الواجبات تتفاوت وهو الظاهر اه.
وقد علمت أن فيما وحد الخطاب فيه من الأوامر ما تركه كبيرة ومن النواهي ما فعله كذلك فلم يتحقق ما رجا سلمه اللّه تعالى على أن في تعبيره بالإجبار فيما عبر فيه ما لا يخفى ، ويرد على الخامس أن في كون الطاعات التي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 78
وحد فيها الخطاب لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون منعا ظاهرا فإن أكثر الناس صالحهم وطالحهم لا يمشي في الأرض مرحا ومثل ذلك الدعاء للوالدين بالرحمة فإنا نسمعه على أتم وجه من كثير ممن لا يعرف الورع أي شيء هو ، وكذا في قوله : بخلاف غيرها فإنه مضبوط فإن ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ممن له ولاية عليه أمر شاق لا يكاد يقوم به إلا الأفراد ، قال في رد المحتار حاشية الدر المختار : لا ينبغي للموصى إليه أن يقبل لصعوبة العدل جدا ، ومن هنا قال أبو يوسف : الدخول في الوصاية أول مرة غلط وثاني مرة خيانة وثالث مرة سرقة ، ومن هذا يعمل ما في الوجه السادس ، ويرد على السابع أيضا أن المشي في الأرض مرحا كالأمور التي صرف الخطاب في النهي عنها عنه صلّى اللّه عليه وسلّم في أن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كافية في الكف عنه فإن الكبر من البشر لا ينشأ إلا عن جهل وبلادة وقد جبل عليه الصلاة والسلام على أكمل ما يكون من التواضع بل وسائر الصفات التي هي كمال في النوع الإنساني ويؤيد ذلك قوله تعالى : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم : 4] مع أنه لم يصرف الخطاب فيه وأنه حيث اعتبر الفطنة في الكافي عن الكف لم ينفعه الاعتذار عن توحيد الخطاب في النهي عن الشرك بما اعتذر به فإن للفطنة دخلا تاما في التوحيد كما لا يخفى على فطن ، ويرد على قوله في الثامن : وهذا الإيهام إلخ منع ظاهر فلا يخفى حاله كما لا يخفى ، ويرد على التاسع أنه لا يساعده نقل ولا عقل بل جاء في النقل ما يخالفه كما سمعت عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وإن اعتبر النهي عن الشرك من تلك التكليفات فهو كاف في تزييف هذا الوجه لأن النهي عن الشرك جاء به كل رسول ونطق به كل كتاب وما ذكره مؤيدا لغرضه بمعزل عن التأييد ، هذا وبقيت إيرادات أخر على هذه الوجوه أعرضنا عنها وتركناها للذكي الفطن
حذرا من التطويل فتأمل ذاك واللّه يتولى هداك.
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً خطاب للقائلين بأن الملائكة بنات اللّه سبحانه ، والإصفاء بالشيء جعله خالصا ، والهمزة للإنكار وهي داخلة على مقدر على أحد الرأيين والفاء للعطف على ذلك المقدر أي أفضلكم على جنابه فخصكم بأفضل الأولاد على وجه الخلوص وآثر لذاته أخسها وأدناها ، والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد النكير وتأكيده ، وعبر بالإناث إظهارا للخسة.
وقال شيخ الإسلام : أشير بذكر الملائكة عليهم السلام وإيراد الإناث مكان البنات إلى كفرة لهم أخرى وهي وصفهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخس صفات الحيوان كقوله تعالى : وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف : 19] وفي الكشف أنه تعالى لما نهى عن الشرك ودل على فساده أتى بالفاء الواصلة وأنكر عليهم ذلك دليلا على مكان التعكيس وأنهم بعد ما عرفوا أنه سبحانه بريء من الشريك بدليل العقل والسمع نسبوا إليه تعالى ما هو شرك ونقص وازدراء بمن اصطفاه من عباده فيا له من كفرة شنيعة ولذا قيل :
إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ بمقتضى مذهبكم الباطل قَوْلًا عَظِيماً لا يقادر قدره في استتباع الإثم وخرقه لقضايا العقول بحيث لا يجترىء عليه ذو عقل حيث تجعلونه سبحانه من قبيل الأجسام السريعة الزوال المحتاجة إلى بقاء النوع بالتوالد وليس كمثله شيء وهو الواحد القهار الباقي بذاته ثم تضيفون إليه تعالى ما تكرهون من أخس الأولاد وتفضلون عليه سبحانه أنفسكم بالبنين ثم تصفون الملائكة عليهم السلام بما تصفون.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا من التصريف وهو كثرة صرف الشيء من حال إلى حال ، ومفعوله هنا محذوف للعلم به أي صرفناه أي هذا المعنى والمراد عبرنا عنه بعبارات وقررناه بوجوه من التقريرات فِي هذَا الْقُرْآنِ العظيم أي في مواضع منه فالمراد بالقرآن مجموع التنزيل وجوز أن يراد به البعض المشتمل على إبطال إضافة البنات إليه سبحانه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 79
ومفعول صَرَّفْنا محذوف أيضا أي صرفنا القول المشتمل على إبطال الإضافة المذكورة في هذا المعنى ، وإيقاع القرآن على المعنى وجعله ظرفا للقول إما بإطلاق اسم المحل على الحال لما اشتهر أن الألفاظ قوالب المعاني أو بالعكس كما يقال الباب الفلاني في كذا وهذه الآية في تحريم كذا أي في بيانه ، ويجوز تنزيل الفعل منزلة اللازم وتعديته بفي كما في قوله : يجرح في عراقيبها نصلي. أي أوقعنا التصريف فيه. وقرىء «صرفنا» بالتخفيف والصرف كالتصريف إلا في التكثير لِيَذَّكَّرُوا أي ليتذكروا ويتعظوا ويطمئنوا له فإن التكرار يقتضي الإذعان واطمئنان النفس وَما يَزِيدُهُمْ ذلك التصريف إِلَّا نُفُوراً عن الحق وإعراضا عنه وهو تعكيس. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان : 50] من الذكر الذي هو بمعنى التذكر ضد النسيان والغفلة ، والتذكر على القراءة الأولى بمعنى الاتعاظ كما أشير إليه ، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء الحال أن يعرض عنهم ويحكي للسامعين هناتهم قُلْ في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى لَوْ كانَ مَعَهُ سبحانه وتعالى في الوجود آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي المشركون قاطبة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء ثالث الحروف خطابا لهم والأمران في مثل هذا المقام شائعان ، وذلك أنه إذا أمر أحد بتبليغ كلام لأحد فالمبلغ له في حال تكلم الآمر غائب ويصير مخاطبا عند التبليغ فإذا لو حظ الأول حقه الغيبة وإذا لو حظ الثاني حقه الخطاب وكذا قرؤوا فيما بعد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا بالتاء وهناك بالياء آخر الحروف على أنه تنزيه منه سبحانه لنفسه ابتداء من غير أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله لهم ، والكاف في محل النصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون والمراد بالمشابهة على ما قيل الموافقة والمطابقة.
إِذاً لَابْتَغَوْا جواب عن قولهم : إن مع اللّه سبحانه آلهة وجزاء للو أي لطلب الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ أي إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق سَبِيلًا بالمغالبة والممانعة كما اطردت العادة بين الملوك ، وهي إشارة إلى برهان التمانع كقوله تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء : 22] وذلك بتصوير قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم المطلوب ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تقريره في محله ، وإلى هذا ذهب سعيد ابن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم ، وعن مجاهد وقتادة أن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه تعالى والتقرب بالطاعة لعلمهم بعلوه سبحانه عليهم وعظمته وهذا كقوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء : 57] وهو إشارة إلى قياس اقتراني هكذا لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة. قيل ولَوْ على الأول امتناعية وعلى هذا شرطية ، والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية.
واختار المحققون الوجه الأول لأنه الأظهر الأنسب بقوله سبحانه : سُبْحانَهُ فإنه ظاهر في أن المراد بيان أنه يلزم ما يقولونه محذور عظيم من حيث لا يحتسبون.
وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقدير ولا مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمر يعتقدونه رأسا أي ينزه بذاته تنزيها حقيقا به سبحانه وَتَعالى متباعدا عَمَّا يَقُولُونَ من العظيمة التي هي أن يكون معه تعالى آلهة وأن يكون له بنات عُلُوًّا أي تعاليا فهو مصدر من غير فعله كقوله تعالى أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] كَبِيراً بعيد الغاية بل لا غاية وراءه كيف لا وأنه تعالى في أقصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه من أن معه آلهة وأن له أولادا في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 80
وقيل لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه.
وتعقب بأن ما يقولونه ليس مجرد اتخاذ الولد بل مع ما سمعت ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلا عن دخوله تحت الوجود ، وكونه من أدنى مراتب الوجود إنما هو بالنسبة إلى من من شأنه ذلك ، واعتذر بأنه من باب التنبيه بحال الأدنى على حال الأعلى ولا يخفى أن ذكر العلو بعد عنوانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة تُسَبِّحُ بالفوقانية وهي قراءة أبي عمرو والأخوين وحفص ، وقرأ الباقون بالتحتانية لأن تأنيث الفاعل مجازي مع الفصل وقرىء «سبحت» لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي من الملائكة والثقلين وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا إِلَّا يُسَبِّحُ ملتبسا بِحَمْدِهِ تعالى ، والمراد من التسبيح الدلالة بلسان الحال أي تدل بإمكانها وحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث كما يدل الأثر على مؤثره ففي الكلام استعارة تبعية كما في نطقت الحال.
وجوز أن يعتبر فيه استعارة تمثيلية ولا يأبى حمل التسبيح على ذلك قوله تعالى : وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ بناء على أن كثيرا من العقلاء فهم تلك الدلالة لما أن الخطاب للمشركين والكفرة لا للناس على العموم لأنه تقدم ذكر قبائحهم من نسبتهم إليه تعالى شأنه ما لا يليق بحلاله فإن اللّه سبحانه وصف ذاته بالنزاهة عنه وبالغ فيه ما بالغ ثم عقبه بما ذكر دلالة على أن كل الأكوان شاهدة بتلك النزاهة مبالغة على مبالغة فلو كان الخطاب مع غير هؤلاء المنكرين وأضرابهم لم يتلاءم الكلام ويخرج عن النظام.
وقوله تعالى إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً تذييل من تتمة الإنكار على الوجه الأبلغ أي إنه سبحانه حليم ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة لإخلالكم بالنظر الصحيح الموصل إلى التوحيد ولو تبتم ونظرتم لغفر لكم ما صدر منكم من التقصير فإنه غفور لمن يتوب ، وظن ابن المنير أن هذا التذييل يأبى كون الخطاب للمشركين قال : لأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم ، والظاهر أن المخاطب المؤمنون وعدم فقههم للتسبيح الصادر من الجمادات كناية واللّه تعالى أعلم عن عدم العمل بمقتضى ذلك فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون يقدس اللّه تعالى وينزهه ويشهد بحلاله وكبريائه وقهره وعمر خاطره بهذا الفهم لشغله ذلك عن الطعام فضلا عن فضول الأفعال والكلام والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا لو استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط اللّه تعالى عليه مشغولة مملوءة بتقديس اللّه تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإنذار جبروته وتيقظ لذلك حق التيقظ لكاد يبكم بقية عمره ، فالظاهر أن الآية إنما وردت خطابا على الغالب من أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين اه ، وليس بسديد لخروج الكلام على ذلك من النظام ، ووجه التذييل ما سمعت فلا إباء كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وجوز أن يراد بالتسبيح الدلالة على تنزيه الباري سبحانه عن لوازم الإمكان وتوابع الحدوث مطلقا سواء كانت حالية أو مقالية على أنه من عموم المجاز أو بالجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي على رأي من يجوزه فتسبيح بعض قالي وتسبيح بعض آخر حالي. وتعقبه بأنه لا يلائمه لا تَفْقَهُونَ لأن من ذلك التسبيح ما يفقهه المشركون وغيرهم وهو التسبيح القالي. وأجيب بأن المشركين لعدم تدبرهم له وانتفاعهم به كان فهمهم بمنزلة العدم أو أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفهم الجميع تغليبا. وذهب بعض الظاهرية وارتضاه الراغب وقال في تفسير الخازن إنه الأصح على أن التسبيح على معناه الحقيقي فالكل يسبح بلسان القال حتى الجمادات ولم يرتض

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 81
ذلك الإمام لأن هذا التسبيح لا يحصل إلا مع العلم وهو مما لا يتصور في الجماد لفقد شرطه العقلي وهو الحياة ولو لم يكن ذلك شرطا عقليا لا نسد باب العلم بكونه سبحانه وتعالى حيا وأيضا التذييل السابق يأبى ذلك لدلالته على أن عدم فقه التسبيح المذكور جرم ولا شك أن عدم فقه تسبيح الجمادات بألفاظها ليس بجرم وإنما الجرم عدم فقه دلالتها للغفلة وقصور النظر ومن تتبع الأحاديث والآثار رأى فيها ما يشهد بما ذهب إليه هذا البعض شهادة لا تكاد تقبل التأويل فقد صح سماع تسبيح الحصا في كفه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال : أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بطعام ثريد فقال : إن هذا الطعام يسبح فقالوا : يا رسول اللّه وتفقه تسبيحه؟ قال : نعم ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل فأدناها فقال : نعم يا رسول اللّه هذا الطعام يسبح فقال : أدنها من آخر فأدناها منه فقال : يا رسول اللّه هذا الطعام يسبح ثم قال : ردها فقال رجل : يا رسول اللّه لو أمرّت على القوم جميعا فقال : لا إنها لو سكتت عند رجل لقالوا : من ذنب ردها فردها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا بينما نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليس معنا ماء فقال لنا : اطلبوا من معه فضل ماء فأتى بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ثم قال : حي على الطهور المبارك والبركة من اللّه تعالى فشربنا منه قال عبد اللّه : كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب.
وأخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه :
آمر كما بسبحان اللّه وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء ، وأخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم : اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكر اللّه تعالى منه
، وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال : نهى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن قتل الضفدع وقال نقيقها تسبيح.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال : ظن داود عليه السلام في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بما مدحه وإن ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه فقال يا داود افهم إلى ما تصوت به الضفدع فأنصت داود فإذا الضفدع تمدحه بمدحة لم يمدحه بها فقال له الملك : كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت؟ قال : نعم قال : ماذا قالت؟ قالت : قال سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب قال داود : لا والذي جعلني نبيه إن لم أمدحه بهذا.
وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن شهر بن حوسب من حديث طويل أن داود عليه السلام أتى البحر في ساعة فصلى فنادته ضفدعة يا داود إنك حدثت نفسك أنك قد سبحت في ساعة ليس يذكر اللّه تعالى فيها غيرك وإني في سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل نسبح اللّه تعالى ونقدسه.
وأخرج الخطيب عن أبي ضمرة قال : كنا عند علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما فمر بنا عصافير يصحن فقال : أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ قلنا : لا قال : أما إني ما أقول أنا نعلم الغيب ولكن سمعت أبي يقول سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللّه تعالى وجهه يقول سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها.
وأخرج ابن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال : أتى أبو بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه بغراب وافر الجناحين فقال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : ما صيد صيد ولا عضدت عضاه ولا قطعت وشيجة إلا بقلة التسبيح.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 82
وأخرج أبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما صيد من صيد ولا وشج من وشج إلا بتضييعه التسبيح. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء وابن مردويه عن ابن مسعود مثل ذلك مرفوعا
أيضا. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم من البيوت ما تقاررتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال :
«بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى والثاني سبحانه وتعالى والثالثة سبحانه وبحمده والرابعة سبحانه لا حول ولا قوة إلا به والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير والسادسة سبحان الملك القدوس والسابعة سبحان الذي ملأ السموات السبع والأرضين السبع عزة ووقارا» إلى ما لا يكاد يحصى من الأخبار والآثار وهي بمجموعها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قالي كما لا يخفى وهو مذهب الصوفية ، وذكروا أن السالك عند وصوله إلى بعض المقامات يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى.
وقد روي عن بعض السلف سماعه لتسبيح بعض الجمادات ، واختلف القائلون بهذا التسبيح فقال بعضهم :
بثبوته للاشياء مطلقا ، وقيل إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها فإذا رفعت تركت وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت «1» وإن الثوب يسبح ما لم يتسخ فإذا اتسخ ترك وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت وإذا سكتت تركت ، وعلى هذا ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال : جلس الحسن مع أصحابه على مائدة فقال بعضهم : هذه المائدة تسبح الآن فقال الحسن : كلا إنما ذاك كل شيء على أصله.
وأخرج عن السدي أنه قال : ما من شيء على أصله الأول لم يمت إلا وهو يسبح بحمده تعالى ، ولعله أراد بالموت خروجه عن أصله الأول.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن قتادة أنه قال في الآية : كل شيء فيه الروح يسبح من شجرة وحيوان ، وكون الشجرة ذات روح مبني على قول الناس فيها إذا يبست ماتت ، واستثنى بعضهم بعض الحيوانات من عموم كل شيء لما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال كل شيء يسبح إلا الحمار والكلب.
ولا أرى لاستثناء ما ذكر وجها وفي القلب من صحة الرواية عن الحبر شيء ، وكذا للتقييد بعد أن لم تكن الجمادية مانعة عن التسبيح والأخبار الظاهرة في عدم التقييد أكثر ، ولا أظن أن لما يخالفها امتيازا عليها في الصحة.
ويشكل على هذا القول ما تقدم عن الإمام من إباء التذييل عنه وعدم وجود العلم الذي يستدعيه التسبيح القالي في الجمادات ، وتفصى بعضهم عن هذا بالتزام أن لكل شيء حياة وعلما لائقين به ولا يطلع على حقيقة ذلك إلا اللّه تعالى اللطيف الخبير فكل ما في العالم عند هذا الملتزم حي عالم لكنه متفاوت المراتب في العلم والحياة.
ونقل الشعراني عن الخواص أنه قال : كل جماد يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان ، وقال الشيخ الأكبر قدس سره : إن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة ووقع التفاصل بين الخلائق في المزاج والكل يسبح اللّه تعالى كما نطقت الآية به ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبحه ، وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من
___________
(1) وفيه خبر عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها رواه الخطيب في تاريخ مرفوعا اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 83
رطب ويابس
، والشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف إلى آخر ما قال.
واستدل بعضهم في هذا المقام بما
روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في دعائه للحمى : يا أم ملدم إن كنت آمنت باللّه تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تفوري من الفم وانتقلي إلى من يزعم أن مع اللّه تعالى آلهة أخرى فإني أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم
،
وجاء عن السجاد رضي اللّه تعالى عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر في أن له شعورا واستفاض عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه كتب للنيل كتابا يخاطبه فيه بما يخاطبه وضرب الأرض بالدرة حين تزلزلت وقال لها : إني أعدل عليك ، وكم وكم في الأخبار نحو ذلك قيل ولا داعي لتأويلها إذ لا أحد يقول : إن شعور الجمادات كشعور الحيوانات الظاهرة بحيث يدركه كل أحد حتى يكون العمل بظاهر اللفظ خلاف حس العقلاء فيجب ارتكاب التأويل والتجوز ، ومن علم عظم قدرة اللّه عز وجل وأنه سبحانه لا يعجزه شيء وأن المخلوقين على اختلاف مراتبهم لا سيما المنغمسين في أو حال العلائق والعوائق الدنيوية والمسجونين في سجن الطبيعة الدنية لم يقفوا على عشر العشر مما أودع في عالم الإمكان ونقش بيد الحكمة على برود الأعيان سلم ما جاء به الصادق عليه الصلاة والسلام وإن خالف ما عنده نسب القصور إلى نفسه قرب فكر يظنه المرء حقا وهو من الأوهام كما لا يخفى على من أنصف ولم يتعسف.
وعلى هذا الذي ذكروه لا تحتاج إعادة ضمير ذوي العلم في تَسْبِيحَهُمْ على ما تقدم إلى توجيه وتفصي آخر عن الأول بأن قوله تعالى إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً متعلق بقوله سبحانه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ ولا يخفى ما في التفصي ، ولعل الأولى فيه أن يلتزم حمل التسبيح على ما هو الأعم من الحالي والقالي ويثبت كلا النوعين لكل شيء ، والتذييل باعتبار القصور في فقه الآخر ، ويشكل أيضا أن من أفراد من نسب إليه التسبيح الجحد فضلا عن الساكت فالحمل على المجاز واجب. وأجيب بأن استثناء أولئك معلوم بقرينة السباق واللحاق ، وزعم من زعم أن الجاحد مقدس أيضا وأنشدوا للحلاج :
جحودي لك تقديس وعقلي فيك منهوس
فما آدم إلاك وما في الكون إبليس
وأنت تعلم أن مثل هذا الحلج والندف صار سببا لما لاقى من الحتف فماذا عسى أقول سوى حسبنا اللّه ونعم الوكيل. وقرىء لا يفقهون على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الناطق بالتسبيح والتنزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه جَعَلْنا بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفيفة.
بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وهم المشركون المتقدم ذكرهم ، وأوثر الموصول على الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة ويتم به مع ما سبق الإشارة إلى كفرهم بالمبدأ والمعاد.
وفي إرشاد العقل السليم إنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك اه ، وفي كون الآخرة معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن تردد وربما يدعى أن ذلك هو التوحيد فالأولى الاقتصار على أنه للتمهيد حِجاباً يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة وجلالة القدر ولذلك اجترءوا على التفوه بالعظيمة وهي قولهم : «إن تتبعون إلا رجلا مسحورا» وأصل الحجاب كالحجب المنع من الوصول فهو مصدر وقد أريد به الوصف أي حاجبا مَسْتُوراً أي ذا ستر فهو للنسب كرجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة ومنه وَعْدُهُ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 84
مَأْتِيًّا [مريم : 61] وكذا سيل مفعم بفتح العين والأكثر مجيء فاعل لذلك كلابن وتامر ، وجوز أن يكون الإسناد مجازيا كما اشتهر في المثال الأخير ، وعن الأخفش أن مفعول يرد بمعنى فاعل كميمون ومشؤوم بمعنى يأمن وشائم كما أن فاعل يرد بمعنى مفعول كماء دافق فمستور بمعنى ساتر أو مستورا عن الحس فهو على ظاهره ويكون بيانا لأنه حجاب معنوي لا حسي أو مستورا في نفسه بحجاب آخر فيكون إيذانا بتعدد الحجب أو مستورا كونه حجابا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون ، وقيل : إنه على الحذف والإيصال أي مستورا به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية جمع كنان ، والمراد بمعونة المقام التكثير أي أكنة كثيرة.
أَنْ يَفْقَهُوهُ مفعول له بتقدير مضاف أي كراهة يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند اللّه تعالى أو مفعول به لفعل مقدر مفهوم من الجملة أو من أَكِنَّةً لا أن جَعَلْنا أو شيئا مما ذكر قد ضمنه كما يتوهم أي منعناهم فقهه والوقوف على كنهه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً صمما وثقلا عظيما مانعا من سماعه اللائق به فإنهم كانوا يسمعونه من غير تدبر ، وهذه كما قال بعض المحققين تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جيء بها بيانا لعدم فقههم فصيح المقال إثر بيان عدم فقههم دلالة الحال وفيه إيذان بأن ما تضمنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيه على أن حالهم هذه أقبح من حالهم السابقة ، وحمل الآية على ما ذكر من لم يجعل التسبيح فيما سبق لفظيا وعلى جعله لفظيا لا يحسن حملها على ذلك كما لا يخفى ، هذا وقال بعضهم : المراد بالحجاب ما يحجبهم عن فهم ما يقرؤه عليه الصلاة والسلام فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال : الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وتعقب بأنه لا يلائم بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ إلخ إلا بتقدير مضافين أي جعلنا بين فهم قراءتك ، وأيضا يلزم عليه التكرار من غير فائدة جديدة ، وأجيب بأن الظاهر أنه لا يقدر فيه وإنما يلزم لو كان حقيقة وهذا تمثيل لهم في عدم إسماع الحق بمن كان وراء جدار وحجاب كما أن الأكنة كذلك ، وأما حديث التكرار من غير فائدة فمدفوع بأن قوله تعالى : وَجَعَلْنا إلخ تصريح بما اقتضاه نفي فصيح المقال بعد نفي فهم دلالة الحال من كونهم مطبوعين على الضلال ولا يخفى على المنصف أولوية ما تقدم.
وعن الجبائي أن المراد بالحجاب ما يحجبهم عن إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وذلك أنهم كانوا يقصدونه إذا قرأ ليؤذوه فآمنه اللّه تعالى وذكر له عليه الصلاة والسلام أنه جل شأنه جعل بينه وبينهم حجابا عند القراءة فلا يمكنهم الوصول إليه ، وهو عندي مما لا بأس به وأن ذكره في معرض التفصي عن استدلال أصحابنا بالآية على أن اللّه تعالى يمنع عن الإيمان من شاء كما يهدي إليه من شاء نعم هو دون الأول عند من يتأمل.
وقيل : المراد حجاب منعهم رؤية شخص النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وذاته الكريمة.
فقد أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه تعالى عنهما قالت : لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد : 1] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول :
مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالس ، وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال : إنها لن تراني ، وقرأ قرآن اعتصم به كما قال تعالى : «وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا» فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي عليه الصلاة والسلام فقالت : يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول : قد علمت قريش أني بنت سيدها.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 85
وجاء في رواية أنها حين ولت ذاهبة قال أبو بكر : يا رسول اللّه إنها لم ترك فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : حال بيني وبينها جبريل عليه السلام
، وذكر الإمام أنه كان صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات قوله تعالى : في سورة [الكهف :
57] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً.
وقوله سبحانه في [النحل : 108] أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقوله جل وعلا في سورة [حم الجاثية : 23] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الآية فكان اللّه تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله سبحانه وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا إلخ واحتج أصحابنا بذلك على أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يرى بسبب أن اللّه تعالى يخلق في العين مانعا يمنع من الرؤية قالوا : إن النبي عليه الصلاة والسلام كان حاضرا أو حواس الكفار سليمة وكانوا لا يرونه وقد أخبر سبحانه أن ذلك لأجل أنه جعل بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم حجابا مستورا ولا معنى للحجاب المستور إلا المعنى الذي يخلقه في عيونهم ويكون مانعا لهم من الرؤية انتهى ، وقال بعض المحققين : إن حمل الحجاب على ما روي من حديث أسماء مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم ، وكأنه أراد أن حمله في الآية على الحجاب المانع من الرؤية كذلك فهو وارد على ما نقل عن الإمام أيضا ويعلم منه حال احتجاج الأصحاب مع ما يرد على قولهم فيه ولا معنى للحجاب إلخ من أنه مخالف لما في الرواية السابقة التي ذكر فيها حيلولة جبريل عليه السلام والخبر الذي أخرجه الدار قطني وغيره عن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحيه متى ذهبت
فإن كلا الخبرين ظاهر في أن المانع لم يكن في عيونهم بل هو إما جبريل عليه السلام أو ملك آخر حال بينه صلّى اللّه عليه وسلّم وبينهم فلم يروه لكن يبقى الكلام في أن منع اللطيف الرؤية خلاف العادة أيضا وهو بحث آخر فليتدبر ، ثم إن ما روي عن أسماء ليس نصا في أن الحجاب في الآية هو الحجاب المانع عن الرؤية كما لا يخفى على من أمعن النظر وهذا القول إنما يحتاج إليه أن اعتبر تصحيح الحاكم أو نص على صحته من اعتبر تصحيحه من المحدثين أما إذا لم يكن ذلك فأمره سهل ، وجعل الزمخشري ما تقدم حكاية لما قالوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ على معنى جعلنا على زعمهم ولم يرتضه شيخ الإسلام لأن قصدهم بذلك إنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم جهلا وكفرا من اتصافهم بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقس عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام لا الأخبار بأن هناك أمرا وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم ، ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام انتهى ، وقد يقال : حيث كان الكلام مسوقا لتعداد قبائحهم والإنكار عليهم فالملاءمة مما لا ريب فيها ، نعم اختيار الزمخشري هذا الوجه مما لا يخلو عن دسيسة اعتزالية ولا أظنها تخفى عليك وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مقرون بذكره ذكر شيء من آلهتهم التي يزعمونها كما كانوا يقولون باللّه تعالى واللات مثلا ويصدق هذا بذكره سبحانه مع نفي الآلهة ، ووَحْدَهُ عند الزمخشري مصدر الثلاثي يقال وحده يحده وحدا وحدة كوعده يعده وعدا وعدة وهو ساد مسدا لحال بمعنى واحدا ، وقيل : هو مصدر أوحد على حذف الزوائد وأصله إيجاد ، ومذهب سيبويه أنه ليس بمصدر بل هو اسم موضوع موضع المصدر وهو إيحاد الموضوع
موضع الحال وهو موحد.
ومذهب يونس أنه منصوب على الظرفية ، وتحقيق الأقوال فيه في الرفدة كما قدمنا ، وذكر أنه على الحالية إذا وقع بعد فاعل ومفعول كما هنا جاز كونه حالا من كل منهما أي وإذا ذكرت ربك موحدا له أو موحدا بالذكر وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ هربوا أو نفروا نُفُوراً فهو مفعول مطلق منصوب بولوا لتقارب معناهما.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 86
وجوز أن يكون مفعولا لأجله أي ولوا لأجل النفور والانزعاج وأن يكون حالا على أنه جمع نافر أي ولوا نافرين من ذلك والضمير للمشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس ما ظاهره أنه للشياطين ولا يكاد يصح عن الحبر إلا بتأويل نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي ملتبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن.
يروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم عن يمينه رجلان من عبد الدار وعن يساره رجلان منهم فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار
، ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام أي نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الهزء وهي متعلقة بيستمعون ، وجعلها على ظاهرها على معنى أيستمعون بقلوبهم أم بظاهر أسماعهم غير ظاهر ، والباء الأولى متعلقة بأعلم ، وأفعل التفضيل في العلم والجهل يتعدى بالباء وفي سوى ذلك يتعدى باللام فيقال هو أكسى للفقراء مثلا ، والمراد من كونه تعالى أعلم بذلك الوعيد لهم.
إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ظرف لأعلم لا مفعول به ، وفائدته كما قال شيخ الإسلام تأكيد الوعيد بالأخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم المستفاد هناك من أحد ، وليس المراد تقييد علمه تعالى بذلك الوقت وكذا قوله تعالى : وَإِذْ هُمْ نَجْوى لكن من حيث تعلقه بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم.
والمعنى نحن أعلم بما يستمعون به مما لا خير فيه مما سمعت وبما يتناجون به فيما بينهم ، وجوز أن يكون الأول ظرفا ليستمعون والثاني ظرفا ليتناجون ، والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم من غير تأخير وبما به التناجي وقت تناجيهم والأول أظهر ، ونَجْوى مصدر مرفوع على الخبرية وفي ذلك ما في زيد عدل ، ويجوز أن يعتبر جمع نجى كقتلى وقتيل أي إذ هم متناجون إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بدل من إذ الثانية وبيان لما يتناجون به فهو غير ما يستمعون به لا معمول لا ذكر محذوفا كما قيل. والظَّالِمُونَ من المظهر الذي أقيم مقام المضمر للدلالة على أن تناجيهم باب من الظلم أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون إن وجد منكم الإتباع فرضا ، وجوز أن يكون المعنى ما تتبعون باللغو والهزء إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي سحر فجن فهو كقولهم : إن هو إلا رجل مجنون ، وقيل : جعل له سحر يتوصل بلطفه ودقته إلى ما يأتي به ويدعيه فهو في معنى قولهم ساحر ، وجعل بعضهم مَسْحُوراً بمعنى ساحرا كمستور بمعنى ساتر ، وعن أبي عبيدة أن مسحورا بمعنى جعل له سحر أو ذا سحر «1» أي رئة ، ومن هذا قول امرئ القيس :
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
وأراد نغذى ، وقول لبيد أو أمية بن أبي الصلت :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وكنوا بذلك عن كونه بشرا يتنفس ويأكل ويشرب لا يمتاز عنهم بشيء يقتضي اتباعه على زعمهم الفاسد ، ولا يخفى ما فيه من البعد حتى قال ابن قتيبة : لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. وقال ابن عطية : إنه لا يناسب قوله تعالى : انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي مثلوك فقالوا تارة شاعر وتارة ساحر وتارة مجنون مع علمهم بخلافه فَضَلُّوا في جميع ذلك عن منهاج الحاجة فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا ما إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه من سمعه أو إلى سبيل الحق والرشاد ، وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ما لا يخفى.
___________
(1) قوله أو ذا سحر بتثليث السين وسكون الحاء وقد تفتح الرئة اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 87
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً عطف على ضَرَبُوا ولما عجب من ضربهم الأمثال عطف عليه أمرا آخر يعجب منه أيضا. وفي الكشف الأظهر أن يكون هذا إلى تمام المقالات الثلاث تفسيرا لضربوا لك الأمثال ألا ترى إلى قوله تعالى : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا وتفسيره بمثلوك غير ظاهر بل الظاهر مثلوا لك ، ولا خفاء أن تجاوب الكلام على ما ذكرنا أتم ، وذلك أنه لما ذكر استهزاءهم به صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن عجبه من استهزائهم بمضمونه من البعث دلالة على أنه أدخل في التعجب لأن العقل أيضا يدل عليه ولكن على سبيل الإجمال ، وأما على تفسير ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بمثلوك فوجهه أن يكون معطوفا على قوله سبحانه فَضَلُّوا لأنه باب من أبواب الضلال أو على مقدر دل عليه كيف ضربوا لأن معناه مثلوك وقالوا شاعر ساحر مجنون وقالوا : أَإِذا كُنَّا إلخ اه.
ولا يخفى أنه على التفسير الذي اختاره يكون قالُوا معطوفا على ضَرَبُوا أيضا عطفا تفسيريا لكن الظاهر فيه حينئذ الفاء وأنه لا يحتاج على ما ذكرنا إلى تكلف العطف على مقدر والارتباط عليه لا يقصر عن الارتباط الذي ذكره ، وعطفه على فَضَلُّوا مما لا يحسن لعدم ظهور دخوله معه في حيز الفاء ، والاعتراض على التفسير بمثلوك بأنهم ما مثلوه عليه الصلاة والسلام بالشاعر والساحر مثلا بل قالوا تارة كذا وأخرى كذا ، وأيضا كان الظاهر أن يقال فيك بدل لك ليس بشيء لأن ما ذكروه على طريق التشبيه لتقريعه صلّى اللّه عليه وسلّم وعجزهم عن معارضته ، ولَكَ أظهر من فيك لأنه عليه الصلاة والسلام الممثل له ، هذا وأقول : انظر هل ثم مانع من عطف قالُوا على يَقُولُ الظَّالِمُونَ وجعل هذا القول مما يتناجون به أيضا وإعلانهم به أحيانا لا يمنع من هذا الجعل وكذا اختلاف المتعاطفين ماضوية ومضارعية لا يمنع من العطف ، نعم يحتاج إلى نكتة ولا أظنها تخفى فتدبر.
والرفات ما تكسر وبلي من كل شيء ، وكثر بناء فعال في كل ما تحطم وتفرق كدقاق وفتات.
وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه التراب وهو قول الفراء ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أنه الغبار ، وقال المبرد : هو كل شيء مدقوق مبالغ في دقه وهي أقوال متقاربة ، والهمزة للاستفهام الإنكاري مفيدة لكمال الاستبعاد والاستنكار للبعث بعد ما آل الحال إلى هذا المآل كأنهم قالوا : إن ذلك لا يكون أصلا.
ومنشؤه أن بين غضاضة الحي وطراوته المقتضية للاتصال المقتضي للحياة وبين يبوسة الرميم المقتضية للتفرق المقتضي لعدم الحياة تنافيا ، وإِذا هنا كما في الدر المصون متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه.
قوله تعالى إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لأنفسه لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وكذا الاستفهام وإن كان تأكيدا مع كون الاستفهام بالفعل أولى وهو نبعث أو نعاد وهو مصب الإنكار ، وتقييده بالوقت المذكور لتقوية إنكار البعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وإلا فالظاهر من حالهم أنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله.
وجوز أن تكون شرطية وجوابها مقدر أي نبعث أو نحوه وهو العامل فيها. وقيل الشرط والمعنى انبعث وقد كنا رفاتا في وقت وهو مذهب لبعض النحويين غير مشهور ولا معول عليه ، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم ، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم عظاما ورفاتا كما يتراءى من ظاهر الجملة الاسمية بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ، ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة ، وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيد عليه قاله بعض المحققين خَلْقاً جَدِيداً نصب بمبعوثين على أنه مفعول مطلق له من غير لفظ فعله أو حال على أن الخلق بمعنى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 88
المخلوق ووحد لاستواء الواحد في المصدر وإن أريد منه اسم المفعول أي مخلوقين قُلْ جوابا لهم وتقريبا لما استبعدوه.
كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً رد سبحانه قوله كُونُوا على قولهم كنا فهو من باب المشاكلة والمقابلة بالجنس ، ومعنى الأمر كما قيل الاستهانة كما في قول موسى عليه السلام أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ [يونس : 58 ، الشعراء : 43] وجعله صاحب الإيضاح أمر إهانة والفاضل الطيبي أمر تسخير كما في قوله تعالى : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة : 65 ، الأعراف : 166] لكنه قال : إنه على الفرض ، وفي الكشف أنه غير ظاهر ولو جعل من باب كن فلانا على معنى أنت فلان من استعمال الطلب في معنى الخبر أي أنتم حجارة ولستم عظاما ومع ذلك تبعثون لا محالة. لكان وجها قويما ، وبحث فيه الشهاب بأنه كيف يقال أنتم حجارة على أنه خبر وهو غير مطابق للواقع فلا بد من قصد الإهانة وعدم المبالاة وجعل الأمر مجازا عن الخبر والخبر خبر فرضي وليس فيه ما يدل على الفرض كان ولو الشرطيتين فهو مما لا يخفى بعده وليس بأقرب مما استبعده فالصواب أنه للإهانة كما جنح إليه صاحب الإيضاح فتدبر ، والحجارة جمع حجر كأحجار وهو معروف وكذا الحديد وهو مفرد وجمعه حدائد وحديدات.
والظاهر أن المراد كونوا من هذين الجنسين أَوْ خَلْقاً أي مخلوقا آخر مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي مما يستبعد عندكم قبوله الحياة لكونه أبعد شيء منها وتعيينه مفوض إليكم فإن اللّه تعالى لا يعجزه إحياؤكم لتساوي الأجسام في قبول الأعراض فكيف إذا كنتم عظاما بالية وقد كانت موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد ، وقال مجاهد : الذي يكبر السموات والأرض والجبال.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس. وابن عمر والحسن ، وابن جبير أنهم قالوا : ما يكبر في صدورهم الموت فإنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت ، والمعنى لو كنتم مجسمين من نفس الموت لأعادكم فضلا عن أصل لا يضاد الحياة إن لم يقتضها ، وفيه مبالغة حسنة وإن كان اللفظ غير ظاهر فيه فَسَيَقُولُونَ لك : مَنْ يُعِيدُنا مع ما بيننا وبين الإعادة من مثل هذه المباعدة والمباينة قُلِ لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشادا إلى طريقة الاستدلال الَّذِي فَطَرَكُمْ أي القادر العظيم الذي اخترعكم أَوَّلَ مَرَّةٍ من غير مثال يحتذيه ولا أسلوب ينتحيه وكنتم ترابا ما شم رائحة الحياة أليس الذي يقدر على ذلك بقادر على أن يفيض الحياة على العظام البالية ويعيدها إلى حالها المعهودة بلى إنه سبحانه على كل شيء قدير ، والموصول مبتدأ خبره يعيدكم المحذوف لدلالة السؤال عليه أو فاعل به أو خبر مبتدأ محذوف على اختلاف في الأولى كما فصل في محله.
وأَوَّلَ مَرَّةٍ ظرف فطركم فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي سيحر كونها نحوك استهزاء كما روي عن ابن عباس وأنشد عليه قول الشاعر :
أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى خيولا عليها كالأسود ضواريا
ومثله قول الآخر :
أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنه يطلب شيئا أطمعا
وفي القاموس نغض كنصر وضرب نغضا ونغوضا ونغضانا ونغضا محركتين تحرك واضطرب كأنغض وحرك كأنغض ، وفسر الفراء الإنغاض بتحريك الرأس بارتفاع وانخفاض ، وقال أبو الهيثم : من أخبر بشيء فحرك رأسه إنكارا له فقد أنغض رأسه فكأنه سيحركون رؤوسهم إنكارا وَيَقُولُونَ استهزاء مَتى هُوَ أي ما ذكرته من الإعادة ، وجوز أن يكون الضمير للعود أو البعث المفهوم من الكلام قُلِ لهم عَسى أَنْ يَكُونَ ذلك قَرِيباً فإن ما هو محقق

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 89
إتيانه قريب ، ولم يعين زمانه لأنه من المغيبات التي لا يطلع عليها غيره تعالى ولا يطلع عليها سبحانه أحدا ، وقيل : قربه لأن ما بقي من زمان الدنيا أقل مما مضى منه وانتصاب قَرِيباً على أنه خبر كان الناقصة واسمها ضمير يعود على ما أشير إليه ، وجوز أن يكون منصوبا على الظرفية والأصل زمانا قريبا فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه فانتصب انتصابه وكان على هذا تامة وفاعلها ذلك الضمير أي عسى أن يقع ذلك في زمان قريب وأن يكون في تأويل مصدر منصوب وقع خبرا لعسى واسمها ضمير يعود على ما عاد عليه اسم يكون ، وجوز أن يكون مرفوعا بعسى وهي تامة لا خبر لها أي عسى كونه قريبا أو في وقت قريب.
واعترض بأن عسى للمقاربة فكأنه قيل : قرب أن يكون قريبا ولا فائدة فيه ، وأجيب بأن نجم الأئمة لم يثبت معنى المقاربة في عسى لا وضعا ولا استعمالا ، ويدل له ذكر قَرِيباً بعدها في الآية فلا حاجة إلى القول بأنها جردت عنه فالمعنى يرجى ويتوقع كونه قريبا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو بدل من قَرِيباً على أنه ظرف أو متعلق بيكون تامة بالاتفاق وناقصة عند من يجوز أعمال الناقصة في الظروف أو بتبعثون محذوفا أو بضمير المصدر المستتر في يكون أو عسى العائد على العود مثلا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين أعمال ضمير المصدر كما في قوله :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
وجعله بدلا من الضمير المستتر بدل اشتمال ولم يرفع لأنه إذا أضيف إلى مثل هذه الجملة قد يبنى على الفتح تكلف وادعاء ظهوره مكابرة ، والدعاء قيل : مجاز عن البعث وكذا الاستجابة في قوله تعالى : فَتَسْتَجِيبُونَ مجاز عن الانبعاث أي يوم يبعثكم فتنبعثون فلا دعاء ولا استجابة وهو نظير قوله تعالى : كُنْ فَيَكُونُ [البقرة : 117 وغيرها] في أنه لا خطاب ولا مخاطب في المشهور ، وتجوز بالدعاء والاستجابة عن ذلك للتنبيه على السرعة والسهولة لأن قوله : قم يا فلان أمر سريع لأبطء فيه ومجرد النداء ليس كمزاولة الإيجاد بالنسبة إلينا ، وعلى أن المقصود الإحضار للحساب والجزاء فإن دعوة السيد لعبده إنما تكون لاستخدامه أو للتفحص عن أمره والأول منتف لأن الآخرة لا تكليف فيها فتعين الثاني ، وقال الإمام وأبو حيان : يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال سبحانه يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق : 41] الآية ، ويقال إن إسرافيل عليه السلام وفي رواية جبرائيل عليه السلام ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت.
وأخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال : «قال صلّى اللّه عليه وسلّم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم»
لعل هذا عند الدعاء للحساب وهو بعد البعث من القبور ، واقتصر كثير على التجوز السابق فقيل إن فيه إشارة إلى امتناع الحمل على الحقيقة لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد وهو الأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك كناية عن البعث والانبعاث لا مجازا والمجوز لإرادتها يقول إن الدعوة بالأمر التكويني وهو مما يوجه إلى المعدوم وقد قال جمع به في قول كن ولم يتجوزوا في ذلك وأما أنه لو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان كناية لا مجازا فأمر سهل كما لا يخفى فتدبر.
بِحَمْدِهِ حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار كما هو الظاهر ، والباء للملابسة أي فتستجيبون ملتبسين بحمده أي حامدين له تعالى على كمال قدرته ، وقيل المراد معترفين بأن الحمد له على النعم لا تنكرون ذلك لأن المعارف هناك ضرورية.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن جرير أنه قال : يخرجون من قبورهم وهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 90
ولا بعد في صدور ذلك من الكافر يوم القيامة وإن لم ينفعه وحمل الزمخشري ذلك على المجاز والمراد المبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسرا حتى إنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه فكأنه قيل : منقادين لبعثه انقياد الحامدين له وتعلق الجار بيدعوكم ليس بشيء ، وعن الطبري أن بِحَمْدِهِ معترض بين المتعاطفين اعتراضه بين اسم إن وخبرها في قوله :
فإني بحمد اللّه لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع
ويكون الكلام على حد قولك لرجل وقد خصمته في مسألة أخطأت بحمد اللّه تعالى
فكان الرسول عليه الصلاة والسلام قال : عسى أن يكون البعث قريبا يوم تدعون فتقومون بخلاف ما تعتقدون اليوم وذلك بحمد اللّه سبحانه على صدق خبري
، وملخصه يكون ذلك على خلاف اعتقادكم والحمد للّه تعالى ، ولا يخفى أنه معنى متكلف لا يكاد يفهم من الكلام ونحن في غنى عن ارتكابه والحمد للّه ، وقيل : الخطاب للمؤمنين وانقطع خطاب الكافرين عند قوله تعالى : قَرِيباً فيستجيبون حامدين له سبحانه على إحسانه إليهم وتوفيقه إياهم للإيمان بالبعث ، وأخرج الترمذي والطبراني وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «ليس على أهل لا إله إلا اللّه وحشة في قبورهم ولا في منشرهم وكأني بأهل لا إله إلا اللّه ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن»
وفي رواية عن أنس مرفوعا «ليس على أهل لا إله إلا اللّه وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر وكأني بأهل لا إله إلا اللّه قد خرجوا من قبورهم ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن»
وقيل : الخطاب للفريقين وكلهم يقولون ما روي عن ابن جبير.
وَتَظُنُّونَ الظاهر أنه عطف على (تستجيبون) وإليه ذهب الحوفي وغيره ، وقال أبو البقاء : هو بتقدير مبتدأ والجملة في موضع الحال أي وأنتم تظنون إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم في القبور إِلَّا قَلِيلًا كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدنيا كما روى غير واحد عن قتادة ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يستقلّون لبثهم بين النفختين فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك البين ولذا يقولون مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس : 52] وقيل يستقلون لبثهم في عرصة القيامة لما أن عاقبة أمرهم الدخول إلى النار ، وهذا في غاية البعد كما لا يخفى ، والظن يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين وهو معلق عن العمل بأن النافية وقل من ذكرها من أدوات التعليق قاله أبو حيان وانتصاب قَلِيلًا على أنه نعت لزمان محذوف أي إلا زمانا قليلا ، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثا قليلا ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية وَقُلْ لِعِبادِي أي المؤمنين فالإضافة لتشريف المضاف يَقُولُوا عند محاورتهم مع المشركين الَّتِي أي الكلمة أو العبارة التي هِيَ أَحْسَنُ ولا يخاشنوهم كقوله تعالى : وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت : 46] ومقول فعل الأمر محذوف أي قل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك فجزم يقولوا لأنه جواب الأمر وإلى هذا ذهب الأخفش ، ولكون المقول لهم هم المؤمنون المسارعون لامتثال أمر اللّه تعالى وأمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بمجرد ما يقال لهم لم يكن غبار في هذا الجزم.
وقال الزجاج : إن يقولوا هو المقول وجزمه بلام الأمر محذوفة أي قل لهم ليقولوا التي إلخ. وقال المازني : إنه المقول أيضا إلا أنه مضارع مبني لحلوله محل المبني وهو فعل الأمر ، والمعنى قل لعبادي قولوا التي هي أحسن وهو كما ترى ، ومقول يقولوا الَّتِي وإذا أريد به الكلمة حملت على معناها الشامل للكلام.
إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد ويهيج الشر بين المؤمنين والمشركين بالمخاشنة فلعل ذلك يؤدي إلى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 91
تأكد العناد وتمادي الفساد فالجملة تعليل للأمر السابق ، وقرأ طلحة «ينزغ» بكسر الزاي ، قال أبو حاتم : لعلها لغة والقراءة بالفتح ، وقال صاحب اللوامح : الفتح والكسر لغتان نحو يمنح ويمنح إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ قدما لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة فهو من أبان اللازم والجملة تعليل لما سبق من أن الشيطان ينزغ بينهم رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوفيق للإيمان أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإماتة على الكفر ، وهذا تفسير التي هي أحسن والجملتان اعتراض بينهما والخطاب فيه للمشركين فكأنه قيل : قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها وعلقوا أمرهم على مشيئة اللّه تعالى ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها غيره تعالى فلعله سبحانه يهديهم إلى الإيمان ، والظاهر أن أو للانفصال الحقيقي. وقال الكرماني : هي للإضراب ولذا كررت معها أن ، وقال ابن الأنباري : دخلت أو هنا لسعة الأمرين عند اللّه تعالى ويقال لها المبيحة كالتي في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فإنهم يعنون قد وسعنا لك الأمر وهو كما ترى وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي موكولا ومفوضا إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة : 119 ، فاطر : 24] فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم وتحمل أذيتهم وترك المشاقة معهم ، وهذا قبل نزول آية السيف وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وبأحوالهم الظاهرة والباطنة فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن تراه حكمته أهلا لذلك وهو رد عليه إذ قالوا : بعيد أن يكون يتيم ابن أبي طالب نبيا وأن يكون العراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد.
وذكر من في السموات لإبطال قولهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان : 21] وذكر من في الأرض لرد قولهم : لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : 31] فلا يدل تخصيصهما بالذكر وتعلقهما بأعلم بعلى اختصاص أعلميته تعالى بما ذكر فما قاله أبو علي من أن الجار متعلق بعلم محذوفا ولا يجوز تعلقه بأعلم لاقتضائه أنه سبحانه ليس بأعلم بغير ذلك ناشىء عن عدم العلم بما ذكرنا على أن أبا حيان أنكر تعدي علم بالباء وإنما يتعدى لواحد بنفسه في مثل هذا الموضع وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية والمزايا القدسية وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة والسلام وأنه بإيتائه الزبور لا بإيتائه الملك والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم فإن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم مما تضمنه الزبور وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله عز قائلا : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء : 105] يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأمته ونص بعضهم أن هذا من باب التلميح نحو قصة المنصور وقد وعد الهذلي بعدة فنسيها فلما حجا وأتيا المدينة قال له يوما وهو يسايره يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول : فيه الأحوص يا بيت عاتكة الذي أتغزل ففطن لمراده حيث قال ذلك ولم يسأله وعلم أنه يشير إلى قوله في هذه القصيدة :
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فأنجز عدته ، والزبور في الأصل وصف للمفعول كالحلوب أو مصدر كالقبول ، نعم هذا الوزن في المصادر قليل والأكثر ضم الفاء وبه قرأ حمزة وجعله بعضهم على هذه القراءة جمع زبر بكسر الزاي بمعنى مزبور ثم جعل علما للكتاب المخصوص وليس فيه من الأحكام شيء. أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : الزبور ثناء على اللّه عز وجل ودعاء وتسبيح ، وأخرج هو وابن جرير عن قتادة قال : كنا نحدث أن الزبور دعاء علمه داود عليه السلام وتحميد وتمجيد للّه عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 92
والذي تدل عليه بعض الآثار اشتماله على بعض النواهي والأوامر ،
فقد روى ابن أبي شيبة أنه مكتوب فيه أني أنا اللّه لا إله إلا أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي فأيما قوم كانوا على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة وأيما قوم كانوا على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولا تتوبوا إليهم وتوبوا إلى أعطف قلوبهم عليكم
، والمزامير التي يفهم منها الأمر والنهي كثيرة فيه كما لا يخفى على من رآه ، ومع هذا الفرق بينه وبين التوراة ظاهر ، ودخول أل عليه في بعض الآيات للمح الأصل وذلك لا ينافي العلمية كما في العباس والفضل.
وجوز أن يكون نكرة غير علم ونكر ليفيد أنه بعض من الكتب الإلهية أو من مطلق الكتب ولا إشكال أيضا في دخول أل عليه أي آتيناه زبورا من الزبر وجوز أن يكون مختصا بكتاب داود عليه السلام وليس بعلم بل من غلبة اسم الجنس وهو كالقرآن يطلق على المجموع وعلى الأجزاء ، وتقدم إفادة التنكير للبعضية في قوله تعالى : لَيْلًا فيجوز أن يكون المراد هنا آتيناه بعضا من الزبور فيه ذكره صلّى اللّه عليه وسلّم ، هذا ووجه ربط الآيات بما تقدم على هذا التفسير على ما في الكشف أنه تعالى لما أرشد نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى جواب الكفار بجده في استهزائهم وتوقره في استخفافهم ليكون أغيظ لهم وأشجى لحلوقهم أرشده إلى أن يحمل أصحابه أيضا على ذلك وأن يستنوا بسنته وعلل ذلك بما اعترض به من أن الشيطان ينزغه يحمل على المخاشنة فعلى العاقل الحازم أن لا يغتر بوساوسه كيف وقد تبين له أنه عدو مبين ، وقوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا متعلق بجميع السابق من قوله تعالى : قُلْ كُونُوا المشتمل على مجادلته بالتي هي أحسن وَقُلْ لِعِبادِي المشتمل على حملهم عليها إلى قوله سبحانه : أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وقوله عز وجل : وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من تتمة إن تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً فإنهم طعنوا فيه وحاشاه تارة بأنه شاعر ساحر مجنون وأخرى بنحو لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : 31] ولو كان خيرا ما سبقونا إليه فأجيب عن الأول بما أجيب وعن الثاني بقوله سبحانه : وَرَبُّكَ أَعْلَمُ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ إلخ للمؤمنين وروي ذلك عن الكلبي وأخرج الأول ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج والمعنى أنه تعالى إن يشأ يرحمكم أيها المؤمنون في الدنيا بإنجائكم من الكفرة ونصركم
عليهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم والمراد بالتي هي أحسن المجادلة الحسنة فكأنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول للمؤمنين إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذلك ممزوجا بالشتم والسب لأنه لو اختلط به لا يبعد أن يقابل بمثله فيزداد الغضب ويهيج الشر فلا يحصل المقصود وأشار سبحانه إلى ذلك بقوله عز قائلا : إِنَّ الشَّيْطانَ إلخ وضمير بينهم أما للكفار أو للفريقين وروى أن المشركين أفرطوا في إيذاء المؤمنين فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت وقيل شتم عمر رجل فهم رضي اللّه تعالى عنه به فأمره اللّه تعالى بالعفو. قال في الكشف إنه على هذين القولين الكلمة التي هي أحسن نحو يهديكم اللّه تعالى وليست مفسرة بربكم أعلم بكم وقوله سبحانه : إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ تعليل للأمر بالاحتمال بأن المخاشنة من فعل الشيطان والخطاب في قوله تعالى : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ للمؤمنين وفيه حث على المداراة أي فداروهم لأن ربكم أعلم بكم وبما يصلح لكم من أوامر إن يشأ يرحمكم بقبول أوامره ونواهيه أو إن يشأ يعذبكم بآبائكم أو إن يشأ يرحمكم بالملاينة والتراحم لأنه سبب السلامة عن أذى الكفار أو إن يشأ يعذبكم بمخاشنتكم في غير إبانها وما أرسلناك عليهم وكيلا فهؤلاء المؤمنون وهم أتباعك أولى وأولى بأن لا يكونوا وكيلا عليهم ثم قال والأول أوفق لتأليف النظم وفي إفادة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ الحث على ما قرر تكلف ما اه ، وقيل : المراد من عبادي الكفار وحيث كان المقصود من الآيات الدعوة لا يبعد أن يعبر عنهم بذلك ليصير سببا لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 93
الحق فكأنه قيل قل يا محمد لعبادي الذين أقروا بكونهم عبادا لي يقولوا التي هي أحسن وهي الكلمة الحقة الدالة على التوحيد وإثبات القدرة على البعث وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على المذهب الباطل تعصبا للأسلاف فإن ذلك من الشيطان وهو للإنسان عدو مبين فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله ، والمراد من الأمر بالقول الأمر باعتقاد ذلك وذكر القول لما أنه دليل الاعتقاد ظاهرا ثم قال لهم سبحانه : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالهداية أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا
محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية ، ثم قال سبحانه : وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم بالقول ، والمقصود من كل ذلك إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة لأنه أقرب لحصول المقصود ، ثم إنه تعالى عمم علمه بقوله : وَرَبُّكَ أَعْلَمُ إلخ ويحسن على هذا ما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين من تفسير الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بلا إله إلا اللّه ونقل ذلك ابن عطية عن فرقة من العلماء ثم قال : ويلزم عليه أن يراد بعبادي جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى قول لا إله إلا اللّه ويجيء قوله سبحانه : إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ غير مناسب إلا على معنى ينزغ خلالهم وأثناءهم ويفسر النزغ بالوسوسة والإملال ولا يخفى أنه في حيز المنع ، وما ذكر من الدليل لا يتم إلا إذا لم يكن للتخصيص نكتة ، وهي هاهنا ظاهرة ويكون قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إلخ كالاستدلال على حقية ما دعاهم إليه من التوحيد وربطه بما تقدم على ما ذكرناه أولا لا أظنه يخفى ، والزعم بتثليث الزاي قريب من الظن ويقال إنه القول المشكوك فيه ويستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس : كل ما ورد في القرآن زعم فهو كذب وقد يطلق على القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه.
فقد أخرج مسلم من حديث أنس أن رجلا من أهل البادية - واسمه ضمام بن ثعلبة - جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن اللّه تعالى أرسلك قال صدق الحديث
فإن تصديق النبي عليه الصلاة والسلام إياه مع قوله زعم وتزعم دليل على ما قلنا.
وورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : زعم جبريل عليه السلام كذا ، وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه من قوله :
زعم الخليل زعم أبو الخطاب يريد بذلك القول المحقق وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم ونقله أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين ، وهو مما يتعدى إلى مفعولين وقد حذفا هاهنا أو ما يسد مسدهما جائز والخلاف في حذف أحدهما ، والظاهر أن المراد من الموصول كل من عبد من دون اللّه سبحانه من العقلاء.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي والطبراني وجماعة عن ابن مسعود قال : كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فنزلت هذه الآية ، وكان هؤلاء الإنس من العرب كما صرح به في رواية البيهقي وغيره عنه ، وفي أخرى التصريح بأنهم من خزاعة ، وفي رواية ابن جرير أنه قال :
كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن ويقولون هم بنات اللّه سبحانه فنزلت الآية. وعن ابن عباس أنها نزلت في الذين أشركوا باللّه تعالى فعبدوا عيسى وأمه «عزيرا والشمس والقمر والكواكب وعلى هذا ففي الآية على ما في البحر تغليب العاقل على غيره ، ومتى صح أدراج الشمس والقمر والكواكب على سبيل التغليب بناء على أنها ليست من ذوي العلم فليدرج سائر ما عبد الباطل من الأصنام ويرتكب التغليب ، وتعقب بأن ما سيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى من ابتغاء الوسيلة ورجاء الرحمة والخوف من العذاب يؤيد إرادة العقلاء كعيسى وعزير عليهما السلام

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 94
بناء على أن الأصنام لا يعقل منها ذلك ، وارتكاب التغليب هناك أيضا خلاف الظاهر جدا ، والدعاء كالنداء لكن النداء قد يقال إذا قيل : يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر ، والمراد ادعوهم لكشف الضر الذي هو أولى من جلب النفع وأهم وتوجه القلب إلى من يكشفه أكمل وأتم.
فَلا يَمْلِكُونَ فلا يستطيعون بأنفسهم كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ كالمرض والفقر والقحط وغيرها وَلا تَحْوِيلًا ولا نقله منكم إلى غيركم ممن لم يعبدهم أو ولا تبديله بنوع آخر ومن لا يملك ذلك لا يستحق العبادة إذ شرط استحقاقها القدرة الكاملة التامة على دفع الضر وجلب النفع ولا تكون كذلك إذا كانت مفاضة من الغير ، وكأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامة الكاملة عليه وكون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لأنهم لا ينكرون أنها مخلوقة للّه تعالى بجميع صفاتها وأن اللّه سبحانه أقوى وأكمل صفة منها ، وبهذا يتم الدليل ويحصل الإفحام وإلا فنفي قدرة نحو الجن والملائكة الذين عبدوا من دون اللّه تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل : هو أنا نرى الكفرة يتضرعون إليهم ولا تحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى اللّه تعالى ولا تحصل لهم الإجابة ، وقد يقال : المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا ويحتج له بدليل الأشعري على استناد جميع الممكنات إليه عز وجل ابتداء.
وفسر بعضهم الضر هنا بالقحط بناء على ما روي أن المشركين أصابهم قحط شديد أكلوا فيه الكلاب والجيف فاستغاثوا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليدعو لهم فنزلت ، وأنت تعلم أن هذا لا يوجب التخصيص. واستدل بهذه الرواية على أن نفي الاستطاعة مطلقا عن آلهتهم كان إذ ذاك مسلما عندهم وإلا لما تركوها واستغاثوا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليدعو لهم وفيه نظر فانظر وتدبر.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم ويسمونهم آلهة أو يدعونهم وينادونهم لكشف الضر عنهم يَبْتَغُونَ يطلبون باجتهاد لأنفسهم إِلى رَبِّهِمُ ومالك أمرهم الْوَسِيلَةَ القربة بالطاعة والعبادة فضمير يدعون للمشركين وضمير يَبْتَغُونَ للمشار إليهم ، وقال ابن فورك : الضمير أن للمشار إليهم والمراد بهم الأنبياء الذين عبدوا من دون اللّه تعالى ، ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي يدعون الناس إلى الحق أو يدعون اللّه سبحانه ويتضرعون إليه جل وعلا ، وعلى هذا لا يتعين كون المراد بهم الأنبياء عليهم السلام كما لا يخفى وهو كما ترى.
وقرأ ابن مسعود وقتادة «تدعون» بالتاء ثالثة الحروف وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «يدعون» بالياء آخر الحروف مبنيا للمفعول ، وقرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه «إلى ربك» بكاف الخطاب ، واسم الإشارة مبتدأ والموصول أو بيان والخبر جملة يَبْتَغُونَ أو الموصول هو الخبر ويبتغون حال أو بدل من الصلة ، وقوله تعالى :
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فيه وجوه من الإعراب فالزمخشري ذكر وجهين ، الأول كون أي موصولة بدلا من ضمير يَبْتَغُونَ بدل بعض من كل وهي إما معربة أو مبنية على اختلاف الرأيين أي أولئك المعبودون يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى اللّه تعالى بطاعته فكيف بالأبعد وليس فيه إلا حذف صدر الصلة والتقدير أيهم هو أقرب وهو مما لا بأس ، ولا ينافي ذلك جمع يَرْجُونَ ويَخافُونَ فيما بعد لعدم اختصاص ما ذكر بالأقرب أو لكون الأقرب متعددا ، والثاني كون أي استفهامية وهي مبتدأ وأَقْرَبُ خبرها والجملة في محل نصب بيبتغون وضمن معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى اللّه تعالى وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ، قيل واعتبر التضمين ليصح التعليق فإنه مختص بأفعال القلوب خلافا ليونس

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 95
وقال الطيبي : لا بد من تقدير حرف الجر لأن حرص تتعدى بعلى كقوله تعالى : إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ [النحل : 37] ولا بد من تأويل الإنشاء بأن يقال يحرصون على ما يقال فيه أيهم أقرب إلى اللّه تعالى بسببه من الطاعة ، ويتعلق حينئذ قوله تعالى : إِلى رَبِّهِمُ بأقرب وهو كما ترى.
وقال صاحب الكشف في تحقيق هذا الوجه : إن المطالب إذا كانت مشتركة اقتضت التسارع إليها في العادة وهو نفس الحرص أو ما لا ينفك عنه فناسب أن يضمن الابتغاء معنى الحرص لا سيما وبعده استفهام لا يحسن موقعه دون تضمينه لأن قولك أيهم أقرب إلى فلان بكذا سؤال عن مميز أحدهم عن الباقين بما يتقرب به زيادة فضيلة مع الاستواء في أصل التقرب فإذا ورد استئنافا بعد فعل صالح لأن يكون معلوله وجب تقديره ذلك لأنك إذا قلت هؤلاء يحرصون على الهدى كان كلاما جاريا على الظاهر وإذا قلت هؤلاء يحرصون أيهم يكون أهدى أفاد أن حرصهم ذلك على الهدى مع مغالبة بعضهم بعضا فيه فيكون أتم في وصفهم بالحرص عليه.
ووجه الإفادة أنه تعقيبه على وجه التعليل وكأن كل واحد يسأل نفسه أهو أهدى أم غيره أي هو أشد حرصا عليه أم غيره إذ لا معنى لهذا السؤال عن النفس إلا الحث وتعرف أن ثمت تقصيرا في ذلك أو لا ، وعلى هذا لو قلت يحرصون على الهدى أيكم يكون أهدى عد مستهجنا لأن الاستئناف سد مسد صلته كما في أمرته فقام ولو شاء ربك لآمن وود لو أنه أحسن وكم وكم ، فعلى هذا الطلب واقع على الوسيلة وهي الطاعة والحرص على الأقربية بها والازدياد منها ولا يمكن أن يستغني عن يحرصون بإجراء أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مجرى التعليل ليبتغون على ما أشير إليه لأن أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لا يصلح جوابا فارقا بين الطالبين وغيرهم إنما هو فارق بين الطالبين أعني المتقربين بعضهم مع بعض وهو يناسب الحرص والشغف ولأن صلة الطلب أعني الوسيلة مذكورة وقد عرفت أن الاستئناف مغن عن ذلك والجمع مستهجن اه.
ولعمري لم يبق في القوس منزعا في تحقيقه لكن الوجه مع هذا متكلف ، وجوز الحوفي والزجاج أن يكون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مبتدأ وخبر الجملة في محل نصب بينظرون أي يفكرون ، والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به وكأن المراد يتوسلون بدعائه وإلا ففي التوسل بالذوات ما فيه. وتعقب ذلك في البحر بأن في إضمار الفعل المعلق نظرا ومع ذا هو وجه غير ظاهر ، وجوز أبو البقاء كون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ جملة استفهامية في موضع نصب بيدعون وكون أي موصولة بدلا من ضمير يَدْعُونَ وتعقب الأول بأن فيه تعليق ما ليس بفعل قلبي والجمهور على منعه ، وأما الثاني فقال أبو حيان : فيه الفصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية لكنه لا يضر لأنها معمولة للصلة ، وأنت إذا نظرت في المعنى على هذا لم ترض أن تحمل الآية عليه ، وقوله تعالى : وَيَرْجُونَ عطف على يبتغون أي يبتغون القربة بالعبادة ويتوقعون رَحْمَتَهُ تعالى وَيَخافُونَ عَذابَهُ كدأب سائر العباد فأين هم من ملك كشف الضر فضلا عن كونهم آلهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً حقيقا بأن يحذره ويحترز عنه كل أحد من الملائكة والرسل عليهم السلام وغيرهم ، والجملة تعليل لقوله سبحانه : وَيَخافُونَ عَذابَهُ وفي تخصيصه بالتعليل زيادة تحذير للكفرة من العذاب ، وتقديم الرجاء على الخوف لما أن متعلقه أسبق من متعلقه
ففي الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي»
وفي اتحاد أسلوبي الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين للوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وخوفهم ، وقد ذكر العلماء أنه ينبغي للمؤمن ذلك ما لم يحضره الموت فإذا حضره الموت ينبغي أن يغلّب رجاءه على خوفه ، وفي الآية دليل على أن رجاء الرحمة وخوف العذاب مما لا يخل بكمال العابد ، وشاع عن بعض العابدين أنه قال : لست أعبد اللّه تعالى رجاء جنته ولا خوفا من ناره والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح ، والحق التفصيل وهو أن من قاله إظهارا للاستغناء

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 96
عن فضل اللّه تعالى ورحمته فهو مخطئ كافر ، ومن قاله لاعتقاد أن اللّه عز وجل أهل للعبادة لذاته حتى لو لم يكن هناك جنة ولا نار لكان أهلا لأن يعبد فهو محقق عارف كما لا يخفى.
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ الظاهر العموم لأن إن نافية ومن زائدة لاستغراق الجنس أي وما من قرية من القرى إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بإماتة أهلها حتف أنوفهم أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وأنواع البلاء ، وروي هذا عن مقاتل وهو ظاهر ما روي عن مجاهد وإليه ذهب الجبائي وجماعة ، وروي عن الأول أنه قال : الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة ، وقال أيضا : وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكة فتخربها الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواجف ، وأما خراسان فهلاكها ضروب ثم ذكر بلدا بلدا.
وروي عن وهب بن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يد رجل من بني هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب إفريقية من قبل الأندلس وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من الجوع وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشرب من الفرات وخراب البصرة من قبل العراق وخراب الأبلة من عدو يحصرهم برا وبحرا وخرابا الري من الديلم وخراب خراسان من قبل النبت وخراب النبت من قبل الصين وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع ، وعن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة»
كذا نقله العلامة أبو السعود وما في كتاب الضحاك وكذا ما روي عن وهب لا يكاد يعول عليه ، وما روي عن أبي هريرة مقبول وقد رواه عنه بهذا اللفظ النسائي ورواه أيضا الترمذي بنحوه وقال حسن غريب ورواه أبو حيان بلفظ «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة»
وفي البحور الزاخرة أن سبب خرابها أن بعض أهلها يخرجون مع المهدي إلى الجهاد ثم ترجف بمنافقيها وترميهم إلى الدجال ويهاجر بعض المخلصين إلى بيت المقدس عند إمامهم ، ومن بقي منهم تقبض الريح الطيبة روحه فتبقى خاوية ، ويأبى كونها سبب خرابها الجوع حسبما سمعت عن الضحاك وابن منبه ظاهر ماأخرجه الشيخان «لتتركن المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي الطير والسباع وآخر من يحشر راعيان من مزينة» الحديث.
وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات «المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة قالوا : فمن يأكلها؟ قال : السباع والعوافي»
وما ذكر من أن مكة تخربها الحبشة ثابت
في الصحيحين وغيرهما لكن بلفظ «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة»
وفي حديث حذيفة مرفوعا «كأني أنظر إلى حبشي أحمر الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له ينقضونها حجرا حجرا ويتداولونها بينهم حتى يطرحوها في البحر»
وفي حديث أحمد عن أبي هريرة أنه تجيء الحبشة فيخربونه أي البيت خرابا لا يعمر بعده أبدا
، نعم اختلف في أنه متى يكون ذلك؟ فقيل : زمن عيسى عليه السلام ، وقيل حين لا يبقى على الأرض من يقول اللّه وهو آخر الآيات ، ومال إلى ذلك السفاريني ، وظاهر ما تقدم في المدينة من الأخبار بأنها آخر قرى الإسلام خرابا يقتضي أن خراب مكة قبلها واللّه تعالى أعلم.
وما ذكر في خبر ابن منبه من أن مصر آمنة حتى تخرب الكوفة إن صح يقتضي أن الكوفة تعمر ثم تخرب وإلا فهي قد خربت منذ مئات من السنين وبقيت إلى الآن خرابا ، ومصر آمنة عامرة على أحسن حال اليوم وبعمارتها حسبما يقتضيه الخبر جاءت آثار عديدة كما لا يخفى على من طالع الكتب المؤلفة في أمارات الساعة وأخبار المهدي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 97
والسفياني إلا أن في أكثرها للمنقر مقالا. وزعم البوني وإضرابه أنها تعمر في أواخر القرن الثالث عشر وقد أخذوا ذلك من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره ، وأنت تعلم أنه أشبه شيء بالهندية ولا يكاد يعد من اللغة العربية ، وما ذكر من أن خراب العراق من الجوع يعم بغداد فإنها قاعدته.
وقال القاضي عياض في الشفاء :
روي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تنقل إليها الخزائن يخسف بها»
يعني بغداد وهذا صريح في أن هلاكها بالخسف لا بالجوع لكن ذكر المحدثون أن في سند الخبر مجهولا ، ثم الظاهر على هذا التفسير أن قوله تعالى : أَوْ مُعَذِّبُوها إلخ مقيد بمثل ما قيد به المعطوف عليه فيكون كل من الإهلاك والتعذيب قبل يوم القيامة أي في الزمان القريب منه وقد شاع استعمال ذلك بهذا المعنى وستسمعه قريبا إن شاء اللّه تعالى في الحديث وإنكاره مكابرة غير مسموعة وكأنه سبحانه بعد أن ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله ، وقد صح أنه بعد موت عيسى عليه السلام تجيء ريح باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته فيبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة ، وجاء في غير ما خبر ما يصيب الناس قبل قيامها من العذاب ، فمن ذلك ما
أخرجه الطبراني وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان رضي اللّه تعالى عنه لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة في واد يقال له برهوت يغشى الناس فيها عذاب أليم تأكل الأنفس والأموال تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام تطير طيران الريح والسحاب حرها بالليل أشد من حرها بالنهار ولها بين السماء والأرض دوي كدوي الرعد القاصف قيل : يا رسول اللّه أسليمة يومئذ على المؤمنين والمؤمنات؟ قال : وأين المؤمنون والمؤمنات الناس يومئذ شر من الحمر يتسافدون كما يتسافد البهائم وليس فيهم رجل يقول مه مه
إلى غير ذلك من الأخبار ، ولا يبعد بعد أن اعتبر العموم في القرية حمل الإهلاك والتعذيب على ما تضمنته تلك الأخبار من إماتة المؤمنين بالريح وتعذيب الباقين من شرار الناس بالنار المذكورة ، وصح أنها تسوقهم إلى المحشر وورد أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك وأنه تلقى الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر حتى إن الرجل ليعطى الحديقة المعجبة بالشارف ذات القتب ليفر عليها ، وكون ذلك قبل يوم القيامة هو المعول عليه وقد اعتمده الحافظ ابن حجر وصوبه القاضي عياض وذهب إليه القرطبي والخطابي وجاء مصرحا به في بعض الأحاديث ،
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وقال : حسن صحيح عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما مرفوعا ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر للناس الحديث
ولا يبعد أن يعذبوا بغير ذلك أيضا بل في الآثار ما يقتضيه كانَ ذلِكَ أي ما ذكر من الإهلاك والتعذيب فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ كما روي عن إبراهيم التيمي وغيره مَسْطُوراً مكتوبا ، وذكر غير واحد أنه ما من شيء إلا بين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له. واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الأبعاد وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك ، وقال بعضهم بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية والأخروية وما كان وما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه ، وقد رأيت أنا صحيفة للشيخ الأكبر قدس سره ادعى أنه يعلم منها ما يقع في أرض المحشر يوم القيامة وأخرى ادعى أنه يعلم منها أسماء أهل الجنة والنار وأسماء آبائهم وأخرى ادعى أنه يعلم منها الحوادث التي تكون في الجنة ، وقبول هذه الدعاوى وردها مفوض إليك ، وفسر بعضهم الكتاب بالقضاء السابق ففي الكلام تجوز لا يخفى.
هذا وذهب أبو مسلم إلى أن المراد ما من قرية من قرى الكفار واختاره المولى أبو السعود وجعل الآية بيانا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 98
لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره أثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم السلام على حذر من ذلك ، وذكر أن المعنى ما من قرية من قرى الكفار إلا نحن مخربوها البتة بالخسف بها أو بإهلاك أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجبة لذلك أو معذبو أهلها عذابا شديدا لا يكتنه كنهه والمراد به ما يعم البلايا الدنيوية من القتل والسبي ونحوهما والعقوبات الأخروية مما لا يعلمه إلا اللّه تعالى حسبما يفصح عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة ولا يخص بالبلايا الدنيوية كيف وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوبتها إلى يوم القيامة ، ثم إنه يحتمل أن يقال في وجه الربط على تقدير التخصيص : أنه سبحانه بعد أن أشار إلى أن الكفرة المخاطبين في بلاء وضرّ وأنّ آلهتهم لا يملكون كشف ذلك عنهم ، ولا تحويله أشار إلى أن مثل ذلك لا بد وأن يصيب الكفرة ولا يملك أحد كشفه ولا تحويله عنهم ، وهذا ظاهر بناء على ما تقدم عن البعض في سبب النزول الذي بسببه فسر الضر بالقحط فتأمل.
وفي اختيار صيغة الفاعل في الموضعين وإن كانت بمعنى المستقبل من الدلالة على التحقق والتقرر ما فيه ، والتقييد بيوم القيامة لأن الإهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا ، ثم قال : إن تعميم القرية لا يساعده السباق ولا السباق اه وفيه تأمل. ومن الناس من رجحه على ما سبق بأن فيه حمل الإهلاك على ما يتبادر منه وهو ما يكون عن عقوبة ولا كذلك فيما سبق.
وأجيب بأن ذلك سهل فقد استعمل في مقام التخويف فيما لم يكن عن عقوبة كقوله تعالى : وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ أي الآيات التي اقترحتها قريش ،
فقد أخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم فقال عليه الصلاة والسلام : لا بل استأني بهم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية
، وأن ما بعدها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول منع على ما صرح به الطبرسي أو منصوب بنزع الخافض كما قيل : لتعدي الفعل إلى مفعوله الثاني بالحرف كما في قوله تعالى :
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء : 141] أي وما منعنا الإرسال أو من الإرسال بالآيات إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا أي بجنسها الْأَوَّلُونَ من الأمم السابقة المقترحة ، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء وأن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل منع أي ما منعنا شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين.
وزعم أبو البقاء أنه على تقدير مضاف أي إلا إهلاك تكذيب الأولين ، ولا حاجة إليه عند الآخرين.
والمنع لغة كف الغير وقسره عن فعل يريد أن يفعله ولاستحالة ذلك في حقه سبحانه لاستلزامه العجز المحال المنافي للربوبية قالوا : إنه هنا مستعار للصرف وأن المعنى وما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة إلا تكذيب الأولين المقترحين المستتبع لاستئصالهم فإنه يؤدي إلى تكذيب الآخرين المقترحين بحكم اشتراكهم في العتو والعناد وهو مفض إلى أن يحل بهم مثل ما حل بهم بحكم الشركة في الجريرة والفساد وجريان السنة الإلهية والعادة الربانية بذلك وفعل ذلك بهم مخالف لما كتب في لوح القضاء بمداد الحكمة من تأخير عقوبتهم ، وحاصله أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا تأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها ، واستشعر بعضهم من الصرف نوع محذور فجعل المنع مجازا عن الترك. وتعقب بأنه لا يصح مع كون الفاعل التكذيب لأن التارك هو اللّه تعالى.
وأجيب بأن دعوى لزوم اتحاد الفاعل في المعنى الحقيقي والمستعار له مما لم يقم عليه دليل بل الظاهر خلافه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 99
وذكر بعض المحققين وللّه تعالى أبوه وإن نوقش أن تكذيب الأولين المستتبع للاستئصال والمستلزم لتكذيب الآخرين المفضي لحلول الوبال مناف لإرسال الآيات المقترحة لتعين التكذيب المستدعي لما ينافي الحكمة في تأخير عقوبة هذه الأمة فعبر عن تلك المنافاة بالمنع على نهج الاستعارة إيذانا بتعاضد مبادئ الإرسال لا كما زعموا من عدم إرادته تعالى لتأييد رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بالمعجزات وهو السر في إيثار الإرسال على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآيات إلى النزول لولا أن تمسكها يد التقدير ، وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين لا إلى علمه تعالى بما سيكون من المقترحين الآخرين كما في قوله تعالى : لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال : 23] لإقامة الحجة عليهم بإبراز الأنموذج وللإيذان بأن مدار عدم الإجابة إلى إيتاء مقترحهم ليس إلا صنيعهم ، ثم حكمة التأخير قيل إظهار مزيد شرف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل العناية بمن سيولد من بعضهم من المؤمنين وبمن سيؤمن منهم ، وينبغي أن يزاد في كل إلى غير ذلك مثلا وإلا فلا حصر ، وقيل معنى الآية إنا لا نرسل الآيات المقترحة لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها كما لم يؤمن بها من اقترحوها قبلهم فيكون إرسالها عبثا لا فائدة فيه والحكيم لا يفعله ، وأنت تعلم أنه إذا كان إرسال المقترح إذا لم يؤمن عنده المقترح عبثا لا يفعله الحكيم أشكل فعله من أول مرة على أن ما روي في سبب النزول يقتضي التفسير الأول كما لا يخفى وفسرت الآيات بالمقترحة لأن ما بها إثبات دعوى الرسالة من مقتضيات الإرسال وما زاد على ذلك ولم يكن عن اقتراح لطف من الملك المتعال وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ عطف على ما يفصح عنه النظم الكريم كأنه قيل : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث أتيناهم ما اقترحوا على أنبيائهم
عليهم السلام من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا ثمود الناقة باقتراحهم على نبيهم صالح عليه السلام وأخرجناها لهم من الصخرة مُبْصِرَةً على صيغة اسم الفاعل حال من الناقة ، والمراد ذات إبصار أو ذات بصيرة يبصرها الغير ويتبصر بها فالصيغة للنسب أو جاعلة الناس ذوي بصائر على أنه اسم فاعل من أبصره والهمزة للتعدية أي جعله ذا بصيرة وإدراك ويحتمل أن يكون إسناد الأبصار إليها مجازا وهو في الحقيقة حال من يشاهدها وقرأ قوم «مبصرة» بزنة اسم المفعول أي يبصرها الناس ولا خفاء في ذلك. وقرأ قتادة «مبصرة» بفتح الميم والصاد أي محل إبصار بجعل الحامل على الشيء بمنزلة محله نحو الولد مبخلة مجبنة. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «مبصرة» بزنة اسم الفاعل والرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة ، وقرأ الجمهور ثَمُودَ ممنوعا من الصرف ، وقال هارون : أهل الكوفة ينونون في كل وجه وقال أبو حاتم لا تنون العامة ، والعلماء بالقرآن ثَمُودَ في وجه من الوجوه وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرؤه بغير ألف اه. وهو كما قال الراغب عجمي ، وقيل عربي وترك صرفه لكونه اسم قبيلة ، وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل : فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله وصحح كثير عربيته أي آتينا تلك القبيلة الناقة فَظَلَمُوا بِها أي فكفروا بها وجحدوا كونها من عند اللّه تعالى لتصديق رسوله أو فكفروا بها ظالمين أي لم يكتفوا بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر أو ظلموا أنفسهم وعرضوها للهلاك بسبب عقرها.
ولعل تخصيص إيتائها بالذكر لما أن ثمود عرب مثل أهل مكة المقترحين وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم لقرب ديارهم منهم ورودا وصدورا ، وجوز أن يكون ذلك لأن الناقة من جهة أنها حيوان أخرج من الحجر أوضح دليل على تحقق مضمون قوله تعالى : قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً [الإسراء : 50] إلخ والأول أقرب وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي لمن أرسلت عليهم ، والمراد بها إما المقترحة فالتخويف بالاستئصال لإنذارها به في عادة اللّه تعالى أي ما نرسلها إلا تخويفا من العذاب المستأصل كالطليعة له فإن لم يخافوا فعل
بهم ما فعل ، وإما غيرها كآيات القرآن والمعجزات فالتخويف بعذاب الآخرة دون العذاب الدنيوي بالاستئصال أي ما نرسلها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة. واستظهر أبو حيان

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 100
كون المراد بها الآيات التي معها إمهال كالخسوف والكسوف وشدة الرعد والبرق والرياح والزلازل وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى يغرق منها بعض الأرضين ، وعد الحسن من ذلك الموت الذريع أي ما نرسلها إلا تخويفا مما هو أعظم منها.
أخرج ابن جرير عن قتادة قال : إن اللّه تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون أو يذكرون ويرجعون ، وذكر ابن عطية أن آيات اللّه تعالى المعتبر بها ثلاثة أقسام ، قسم عام في كل شيء. ففي كل شيء له آية ، تدل على أنه واحد وهناك فكرة العلماء ، وقسم معتاد كالرعد والكسوف وهناك فكرة الجهلة ، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر اليوم بتوهم مثله وتصوره اه.
وفيه غفلة عن الكرامة فإن أهل السنة يثبتونها للولي في كل عصر ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وجوز على الوجه الأول أن تكون حالا من ضمير ظلموا أي فظلموا بها ولم يخافوا العاقبة والحال إنا ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفا من العذاب الذي يعقبها فنزل بهم ما نزل ، ونصب تَخْوِيفاً على أنه مفعول له.
وجوز أن يكون حالا أي مخوفين ، والباء في الموضعين سيف خطيب ، و(الآيات) مفعول نرسل أو للملابسة والمفعول محذوف أي ما نرسل نبيا ملتبسا بها ، وقيل إنها للتعدية وأن أرسل يتعدى بنفسه وبالباء. ورد بأنه لم ينقل عن أحد من الثقات ، قال الخفاجي : ولا حجة في قول كثير :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ ولا أرسلتهم برسول
لاحتمال الزيادة فيه أيضا مع أن الرسول فيه بمعنى الرسالة فهو مفعول مطلق والكلام في دخولها على المفعول به ، ولا يخفى أن جعل الرسول مفعولا به وزيادة الباء فيه مما لا يقدم عليه فاضل وَإِذْ قُلْنا أي واذكر زمان قولنا بواسطة الوحي لَكَ يا محمد إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي علما كما رواه غير واحد عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه فلا يخفى عليه سبحانه شيء من أحوالهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة من الكفر والتكذيب.
وقوله تعالى : وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ إلى آخر الآية تنبيه على تحققها بالاستدلال عليها بما صدر عنهم عند مجيء بعض الآيات لاشتراك الكل في كونها أمورا خارقة للعادات منزلة من جناب رب العزة جل مجده لتصديق رسوله عليه الصلاة والسلام فتكذيبهم ببعضها يدل على تكذيب الباقي كما أن تكذيب الأولين بغير المقترحة يدل على تكذيبهم بالمقترحة ، والمراد بالرؤيا ما عاينه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة أسري به من العجائب السماوية والأرضية كما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس وهي عند كثير بمعنى الرؤية مطلقا وهما مصدر رأى مثل القربى والقرابة.
وقال بعض : هي حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا والمشهور اختصاصها لغة بالمنامية وبذلك تمسك من زعم أن الإسراء كان مناما وفي الآية ما يرد عليه ، والقائلون بهذا المشهور الذاهبون إلى أنه كان يقظة كما هو الصحيح قالوا : إن التعبير بها إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة فقد روي أن بعضهم قال له صلّى اللّه عليه وسلّم لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب أو لوقوعها ليلا أو لسرعتها أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عيانا مع كونها آية عظيمة وأية آية وقد أقمت البرهان على صحتها إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعض من أسلم منهم وَالشَّجَرَةَ عطف على الرُّؤْيَا أي وما جعلنا الشجرة الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إلا فتنة لهم أيضا.
والمراد بها كما روى البخاري وخلق كثير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما شجرة الزقوم ، والمراد بلعنها

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 101
لعن طاعميها من الكفرة كما روي عنه أيضا ، ووصفها بذلك من المجاز في الإسناد وفيه من المبالغة ما فيه أو لعنها نفسها ويراد باللعن معناه اللغوي وهو البعد فهي لكونها في أبعد مكان من الرحمة وهو أصل الجحيم الذي تنبت فيه ملعونة حقيقة.
وأخرج ابن المنذر عن الحبر أنها وصفت بالملعونة لتشبيه طلعها برؤوس الشياطين والشياطين ملعونون. وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار : ملعون ، وروي في جعلها فتنة لهم أنه لما نزل في أمرها في الصافات وغيرها ما نزل. قال أبو جهل وغيره : هذا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر وما نعرف الزقوم إلا بالتمر بالزبد ، وأمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه ترقموا.
وافتتن بهذه المقالة أيضا بعض الضعفاء ولقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة الحمر فلا تضرها والسمندل يتخذ من وبره مناديل تلقى في النار إذا اتسخت فيذهب الوسخ وتبقى سالمة ، ومن أمثالهم في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار.
وعن ابن عباس أنها الكشوث المذكورة في قوله تعالى : كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ [إبراهيم : 26] ولعنها في القرآن وصفها فيه بما سمعت في هذه الآية ومر آنفا ما مر عن العرب ، والافتتان بها أنهم قالوا عند سماع الآية : ما بال الحشائش تذكر القرآن ، والمعمول عليه عند الجمهور رواية الصحيح عن الحبر.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وَالشَّجَرَةَ بالرفع على الابتداء وحذف الخبر أي والشجرة الملعونة في القرآن كذلك وَنُخَوِّفُهُمْ بذلك ونظائره من الآيات فإن الكل للتخويف ، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي.
وقرأ الأعمش «ويخوفهم» بالياء آخر الحروف فَما يَزِيدُهُمْ التخويف إِلَّا طُغْياناً تجاوزا عن الحد كَبِيراً لا يقادر قدره فلو أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها فعلهم بإخوانها وفعل بهم ما فعل بأمثالهم وقد سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العامة إلى الطامة الكبرى هذا فيما أرى هو الأوفق بالنظم الكريم واختاره في إرشاد العقل السليم.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وأكثر المفسرين تفسير الإحاطة بالقدرة ، والكلام مسوق لتسلية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عما عسى يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة من نوع حزن من طعن الكفرة حيث كانوا يقولون : لو كنت رسولا حقا لأتيت بهذه المعجزة كما أتى بها من قبلك من الأنبياء عليهم السلام فكأنه قيل اذكر وقت قولنا لك إن ربك اللطيف بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرته لا يقدرون على الخروج من ربقة مشيئته فهو يحفظك منهم فلا تهتم بهم وامض لما أمرتك به من تبليغ الرسالة ألا ترى أن الرؤيا التي أريناك من قبل جعلناها فتنة للناس مورثة للشبهة مع أنها ما أورثت ضعفا لأمرك وفتورا في حالك وبعضهم حمل الإحاطة على الإحاطة بالعلم إلا أنه ذكر في حاصل المعنى ما يقرب مما ذكر فقال : أي إنه سبحانه عالم بالناس على أتم وجه فيعلم قصدهم إلى إيذائك إذا لم تأتهم بما اقترحوا ويعصمك منهم فامض على ما أنت فيه من التبليغ والإنذار ألا ترى إلخ.
ولا يخفى أن ذكر الرب مضافا إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم وأمره عليه الصلاة والسلام بذكر ذلك القول أنسب بكون الآية مسوقة لتسليته على الوجه الذي نقل ، وذكر التخويف وأنه ما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا أوفق بما فسرت به الآية أولا ، وادعى بعضهم أنه لا يخلو عن نوع تسلية ، وقيل : الإحاطة هنا الإهلاك كما في قوله تعالى : وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف : 42] والناس قريش ووقت ذلك الإهلاك يوم بدر ، وعبر عنه بالماضي مع كونه منتظرا حسبما ينبىء عنه قوله

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 102
تعالى : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر : 45] وقوله سبحانه : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آل عمران : 12] وغير ذلك لتحقق الوقوع ، وأولت الرؤيا بما رآه صلّى اللّه عليه وسلّم في المنام من مصارعهم كما صرح به في بعض الروايات ، وصح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما ورد ماء بدر كان يقول : واللّه لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض هاهنا وهاهنا ويقول : هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان
، وهو ظاهر في كون ذلك مناما.
ويروى أن قريشا سمعت بما أوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في شأن بدر وما أري في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويسخرون وهو المراد بالفتنة ، وبما رآه عليه الصلاة والسلام أنه سيدخل مكة وأخبر أصحابه فتوجه إليها فصده المشركون عام الحديبية وإليه ذهب أبو مسلم والجبائي ، واعتذر عن كون ما ذكر مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بإهلاكهم وكذا الرؤيا واقعا بمكة وذكر الرؤيا وتعيين المصارع واقعين بعد الهجرة ويلزم منه أن يكون الافتتان بذلك بعد الهجرة وأن يكون ازديادهم طغيانا متوقعا غير واقع عند نزول الآية وكل ذلك خلاف الظاهر.
وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة والسلام وأنزل اللّه تعالى هذه الآية وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى اللّه تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه وذلك قوله تعالى : وَما جَعَلْنَا إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم عليه الصلاة والسلام لذلك فأنزل اللّه سبحانه وَما جَعَلْنَا الآية»
وأخرج عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل اللّه تعالى في ذلك وَما جَعَلْنَا إلخ والشجرة الملعونة الحكم وولده»
وفي عبارة بعض المفسرين هي بنو أمية.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لأبيك وجدك : إنكم الشجرة الملعونة في القرآن»
فعلى هذا معنى إحاطته تعالى بالناس إحاطة أقداره بهم ، والكلام على ما قيل على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا فيه مجاز عن تعبيرها ، ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبرا وبذلك فسره ابن المسيب ، وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ممن كان عندهم عاملا وللخبائث عاملا أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان ، ويحتمل أن يكون المراد ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلا فتنة ، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه ، وجعل ضمير نُخَوِّفُهُمْ على هذا لما كان له أولا أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمية ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة والفروج المحصنة وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها وتبديل الأحكام والحكم بغير ما أنزل اللّه على نبيه عليه الصلاة والسلام إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام ، وجاء لعنهم في القرآن إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما نقول فقد قال سبحانه وتعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب :
57] وقال عز وجل فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [محمد : 22 ، 23] إلى آيات أخر ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوليا لكن لا يخفى أن هذا لا يسوغ عند أكثر أهل السنة لعن واحد منهم بخصوصه فقد صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بخصوصه ما لم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 103
يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس كافرا ، وادعى السراج البلقيني جواز لعن العاصي المعين ونور دعواه
بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنها الملائكة حتى تصبح».
وقال ولده الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقول : لعن اللّه تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها ولو استدل لذلك
بخبر مسلم أنه صلّى اللّه عليه وسلّم مر بحمار وسم بوجهه فقال : لعن اللّه تعالى من فعل هذا لكان أظهر
إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد فاعل جنس ذلك لا فاعل هذا المعين وفيه ما فيه واستدل بعض من وافقه لذلك أيضا بما
صح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا اللّه تعالى ورسوله»
فإن فيه لعن أقوام بأعيانهم وأجيب بأنه يجوز أنه عليه الصلاة والسلام علم موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن إلا من علم موته عليه وهو كما ترى ، ولا يخفى أن تفسير الآية بما ذكر غير ظاهر الملاءمة للسياق واللّه تعالى أعلم بصحة الأحاديث ، وقيل الشجرة الملعونة مجاز عن أبي جهل وكان فتنة وبلاء على المسلمين لعنه اللّه تعالى ، وقيل مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولعنهم في القرآن ظاهر ، وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه الصلاة والسلام فلما بعث كفروا به وقالوا : ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم عن الإسلام وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ تذكير لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعة من غير تثبط وتحقيق لمضمون قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ إلخ ، أما إن كان المراد من الموصول الملائكة فظاهر ، وإما إن كان غيرهم فللمقايسة ، وفيه إشارة إلى عاقبة أولئك الذين عاندوا الحق واقترحوا الآيات وكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنهم داخلون في الذرية الذين احتنكهم إبليس عليه اللعنة واتبعوه إتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة حتى قالوا إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال : 32] فوجه مناسبة الآية لما قبلها ظاهر ، وقيل الوجه مشابهة قريش الذين كذبوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لإبليس في أن كلّا منهما حمله الحسد والكبر على ما صدر منه أي واذكر وقت قولنا للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ تحية وتكريما له عليه السلام ، وقيل المعنى اجعلوه قبلة سجودكم للّه تعالى فَسَجَدُوا من غير تلعثم امتثالا لأمره تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين وكان معدودا في عدادهم مندرجا تحت الأمر بالسجود
قالَ استئناف بياني كأنه قيل فما كان منه بعد التخلف ، فأجيب بأنه قال أي بعد أن وبخ بما وبخ مما قصه اللّه سبحانه في غير هذا الموضع على سبيل الإنكار والتعجب أَسْجُدُ وقد خلقتني من نار لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً نصب على نزع الخافض أي من طين كما صرح به في آية أخرى ، وجوز الزجاج كونه حالا من العائد المحذوف والعامل خَلَقْتَ فيكون المعنى أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا فالطينية وإن كانت مقدمة على خلقه إنسانا لكنها مقارنة لابتداء تعلقه به ، والزمخشري أيضا كونه حالا من نفس الموصول والعامل حينئذ أَأَسْجُدُ على معنى أأسجد له وهو طين أي أصله طين ، قال في الكشف : وهو أبلغ لأنه مؤيد لمعنى الإنكار وفيه تحقير له عليه السلام وحاشاه بجعله نفس ما كان عليه لم تزل عنه تلك الذلة وليس في جعله حالا من العائد هذه المبالغة ، وأنت تعلم أن الحالية على كل حال خلاف الظاهر لكون الطين جامدا ولذا أوله بعضهم بمتأصلا ، وجوز الزجاج أيضا وتبعه ابن عطية كونه تمييزا ولا يظهر ذلك ، وذكر الخلق مع أنه يكفي في المقصود أن يقال : لمن كان من طين أدخل في المقصود مع أنه فيه على ما قيل إيماء إلى علة أخرى وهي أنه مخلوق والسجود إنما هو للخالق تعالى مجده.
قالَ أي إبليس ، وفي إعادة الفعل بين كلامي اللعين إيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره وقد ذكر ذلك في مواضع أخرى أي قال بعد طرده من المحل الأعلى ولعنه واستنظاره وإنظاره أَرَأَيْتَكَ هذَا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 104
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ
الكاف حرف خطاب مؤكد لمعنى التاء قبله وهو من التأكيد اللغوي فلا محل له من الإعراب ، ورأى علمية فتتعدى إلى مفعولين وهذَا مفعولها الأول والموصول صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة الصلة عليه ، وهذا الإنشاء مجاز عن إنشاء آخر ومن هنا تسمعهم يقولون : المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي وأنا أكرم منه ، والعلاقة ما بين العلم والإخبار من السببية والمسببية واللازمية والملزومية ، وجملة لم كرمته واقعة على ما نص عليه أبو حيان موقع المفعول الثاني ، وذهب بعض النحاة إلى أن رأى بصرية فتتعدى إلى واحد واختاره الرضي ، ويجعلون الجملة الاستفهامية المذكورة مستأنفة.
وقال الفراء : الكاف ضمير في محل نصب أي أرأيت نفسك وهو كما تقول : أتدبرت آخر أمرك فإني صانع كذا ، وهذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ مبتدأ وخبر وقد حذف منه الاستفهام أي أهذا إلخ ، وقال بعضهم بهذا إلا أنه جعل الكاف حرف خطاب مؤكد أي أخبرني أهذا من كرمته عليّ ، وقال ابن عطية : الكاف حرف كما قيل لكن معنى أرأيتك أتأملت كأن المتكلم ينبه المخاطب على استحضار ما يخاطبه به عقيبه ، وكونه بمعنى أخبرني قول سيبويه.
والزجاج وتبعهما الحوفي والزمخشري وغيرهما ، وزعم ابن عطية أن ذلك حيث يكون استفهام ولا استفهام في الآية.
وأنت تعلم أن المقرر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر فيها استفهاما مذكورا أو مقدرا فمجرد عدم وجوده لا يأبى ذلك ، وأيّا ما كان فاسم الإشارة للتحقير ، والمراد من التكريم التفضيل.
وجملة لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ استئناف وابتداء كلام واللام موطئة للقسم وجوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ.
وفي البحر لو ذهب ذاهب إلا أن هذا مفعول أول لأرأيتك بمعنى أخبرني والمفعول الثاني الجملة القسمية المذكورة لانعقادهما مبتدأ وخبرا قبل دخول أرأيتك لذهب مذهبا حسنا إذ لا يكون في الكلام على هذا إضمار وهو كما ترى ، والمراد من أخرتني أبقيتني حيا أو أخرت موتي ، ومعنى لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستولين عليهم استيلاء قويا من قولهم : حنك الدابة واحتنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به.
وأخرج هذا ابن جرير وغيره عن ابن عباس وإليه ذهب الفراء أو لأستأصلنهم وأهلكنهم بالإغواء من قولهم :
احتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها وجرد ما عليها واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله ، وعلى ذلك قوله :
نشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا فأضعفت واحتنكت أموالنا وأجلفت.
وكأنه مأخوذ من الحنك وهو باطن أعلى الفم من داخل المنقار فهو اشتقاق من اسم عين ، واختار هذا الطبري والجبائي وجماعة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال يقول لأضلنهم وهو بيان لخلاصة المعنى ، وهذا كقول اللعين لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : 39] إِلَّا قَلِيلًا منهم وهو العباد المخلصون الذين جاء استثناؤهم في آية أخرى جعلنا اللّه تعالى وإياكم منهم. وعلم اللعين تسني هذا المطلب له حتى ذكره مؤكدا إما بواسطة التلقي من الملائكة سماعا وقد أخبرهم اللّه تعالى به أو رأوه في اللوح المحفوظ أو بواسطة استنباطه من قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة : 30] مع تقرير اللّه تعالى له أو بالفراسة لما رأى فيه من قوة الوهم والشهوة والغضب المقتضية لذلك ، ولا يبعد أن يكون استثناء القليل بالفراسة أيضا وكأنه لما رأى أن المانع من الاستيلاء في القليل مشتركا بينه وبين آدم عليه السلام ذكره من أول الأمر ، وعن الحسن أنه ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم وغره حتى كان ما كان فقاس الفرع على الأصل وهو مشكل لأن هذا القول كان قبل الوسوسة التي كان بسببها ما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 105
كان ، ومن زعم أنه كان هناك وسوستان فعليه البيان ولا يأتي به حتى يؤوب القارظان أو يسجد لآدم عليه السلام الشيطان.
قالَ اللّه سبحانه وتعالى : اذْهَبْ ليس المراد به حقيقة الأمر بالذهاب ضد المجيء بل المراد تخليته وما سولته نفسه إهانة له كما تقول لمن يخالفك : افعل ما تريد ، وقيل : يجوز أن يكون من الذهاب ضد المجيء فمعناه حينئذ كمعنى قوله تعالى : فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر : 34 ، ص : 77] ، وقيل : هو طرد وتخلية ويلزم على ظاهره الجمع بين الحقيقة والمجاز والقائل ممن يرى جوازه ويدل على أنه ليس المراد منه ضد المجيء تعقيبه بالوعيد في قوله سبحانه : فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ وضل عن الحق فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية ، وجوز الزمخشري وتبعه غير واحد أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات من غيبة المظهر إلى الخطاب ، وتعقبه ابن هشام في تذكرته فقال : عندي أنه فاسد لخلو الجواب أو الخبر عن الرابط فإن ضمير الخطاب لا يكون رابطا وأجيب بأنه مؤول بتقدير فيقال لهم : إن جهنم جزاؤكم ، ورد بأنه يخرج حينئذ عن الالتفات ، وقال بعض المحققين : إن ضمير الخطاب إن سلم أنه لا يكون عائدا لا نسلم أنه إذا أريد به الغائب التفاتا لا يربط به لأنه ليس بأبعد من الربط بالاسم الظاهر فاحفظ.
جَزاءً مَوْفُوراً أي مكملا لا يدخر منه شيء كما قال ابن جبير من فر كعد لصاحبك عرضه فرة أي كمل لصاحبك عرضه ، وعلى ذلك قوله :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وجاء وفر لازما نحو وفر المال يفر وفورا أي كمل وكثر ، وانتصب جَزاءً على المصدر بإضمار تجزون أو تجازون فإنهما بمعنى وهذا المصدر لهما.
وجوز أبو حيان وغيره كون العامل فيه جَزاؤُكُمْ بناء على أن المصدر ينصب المفعول المطلق ، وجوز كونه حالا موطئة لصفتها التي هي حال في الحقيقة ولذا جاءت جامدة كقوله تعالى : قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف : ، طه : 113 ، الزمر : 28 ، فصلت : 3 ، الشورى : 7 ، الزخرف : 3] ولا حاجة لتقدير ذوي فيه حينئذ وصاحب الحال مفعول تجزونه محذوفا والعالم الفعل ، وقيل إنه حال من فاعله بتقدير ذوي جزاء ، وقال الطيبي : قيل المعنى ذوي جزاء ليكون حالا عن ضمير المخاطبين ويكون المصدر عاملا وإلا فالعامل مفقود ثم قال : الأظهر أنه حال مؤكدة لمضمون الجملة نحو زيد حاتم جوادا ، وفي الكشف أن هذا متعين وليس الأول بالوجه ، ومثله جعله حالا عن الفاعل ، وقيل هو تمييز ولا يقبل عند ذويه وَاسْتَفْزِزْ أي واستخف يقال استفزه إذا استخفه فخدعه وأوقعه فيما أراده منه ، وأصل معنى الفز القطع ومنه تفزز الثوب إذا انقطع ويقال للخفيف فز ولذا سمي به ولد البقرة الوحشية كما في قول زهير :
إذا استغاث بشيء فز غيطلة خاف العيون فلم تنظر به الحشك
والواو على ما في البحر للعطف على اذهب ، والمراد من الأمر التهديد وكذا من الأوامر الآتية ، ويمنع من إرادة الحقيقة أن اللّه تعالى لا يأمر بالفحشاء مَنِ اسْتَطَعْتَ أي الذي استطعت أن تستفزه مِنْهُمْ فمن موصول مفعول اسْتَفْزِزْ ومفعول اسْتَطَعْتَ محذوف هو ما أشرنا إليه. واختار أبو البقاء كون من استفهامية في موضع نصب باستطعت وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إلى ارتكابه بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية اللّه تعالى ووسوستك ، وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له كصوت الحمار.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 106
وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن مجاهد تفسيره بالغناء والمزامير واللهو والباطل ، وذكر الغزنوي أنه آدم عليه السلام أسكن ولد هابيل أعلى جبل وولد قابيل أسفله وفيهم بنات حسان فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي صح عليهم من الجلبة وهي الصياح قاله الفراء وأبو عبيدة ، وذكر أن جلب وأجلب بمعنى. وقال الزجاج : أجلب على العدو جمع عليه الخيل.
وقال ابن السكيت : جلب عليه أعان عليه ، وقال ابن الأعرابي : أجلب على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع ، وفسر بعضهم أَجْلِبْ هنا بأجمع فالباء في قوله تعالى : بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ مزيدة كما في لا يقرأن بالسور وقرأ الحسن «وآجلب» بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا ، والخيل يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ، وقيل إن واحده خائل لاختياله في مشيه وعلى الفرسان مجازا وهو المراد هنا ، ومنه
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في بعض غزواته لأصحابه رضي اللّه تعالى عنهم «يا خيل اللّه اركبي»
والرجل بكسر الجيم فعل بمعنى فاعل فهو صفة كحذر بمعنى حاذر يقال : فلان يمشي رجلا أي غير راكب.
وقال صاحب اللوامح : هو بمعنى الرجال يعني أنه مفرد أريد به الجمع لأنه المناسب للمقام وما عطف عليه ، وبهذا قرأ حفص وأبو عمر في رواية والحسن ، وظاهر الآية يقتضي أن للعين خيلا ورجلا وبه قال جمع فقيل هم من الجن ، وقيل منهم ومن الإنس وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، ومجاهد وقتادة قالوا : إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية اللّه تعالى فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل في معصية اللّه تعالى فهو من رجل إبليس ، وقال آخرون : ليس للشيطان خيل ولا رجالة وإنما هما كناية عن الأعوان والأتباع من غير ملاحظة لكون بعضهم راكبا وبعضهم ماشيا.
وجوز بعضهم أن يكون استفزازه بصوته واجلابه بخيله ورجله تمثيلا لتسلطه على من يغويه فكأن مغوارا وقع على قوم فصوت بهم صوتا يزعجهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم ، ومراده أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية ولا يضر فيها اعتبار مجاز أو كناية في المفردات فلا تغفل.
وقرأ الجمهور «رجلك» بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع راجل كركب وراكب لا جمع لغلبة هذا الوزن في المفردات ، وقرىء «رجل» بفتح الراء وضم الجيم وهو مفرد كما في قراءة حفص وقد جاءت ألفاظ من الصفة المشبهة على فعل وفعل كسرا وضما كحدث وندس وغيرهما.
وقرأ عكرمة وقتادة «رجالك» كنبالك ، وقرى «رجالك» ككفارك وكلاهما جمع رجلان وراجل كما في الكشف ، وفي بعض نسخ الكشاف أنه قرىء «رجّالك» بفتح الراء وتشديد الجيم على أن أصله رجالة فحذف تاؤه تخفيفا وهي نسخة ضعيفة وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها مما لا ينبغي وصرفها فيما لا ينبغي.
وقيل بحملهم على صرفها في الزنا ، وعن الضحاك بحملهم على الذبح للآلهة ، وعن قتادة بحملهم على تسييب السوائب وبحر البحائر والتعميم أولى وَالْأَوْلادِ بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضي اللّه تعالى فيهم.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما المشاركة في الأولاد حملهم على تسميتهم بعبد الحرث. وعبد شمس ، وفي رواية حملهم على أن يرغبوهم في الأديان الباطلة ويصبغوهم بغير صبغة الإسلام.
وفي أخرى حملهم على تحصيلهم بالزنا ، وأخرى تزيين قتلهم إياهم خشية الإملاق أو العار ، وقيل حملهم على أن يرغبوهم في القتال وحفظ الشعر المشتمل على الفحش والحرف الخسيسة الخبيثة ، وعن مجاهد أن الرجل إذا لم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 107
يسم عند الجماع فالجان ينطوي على إحليله فيجامع معه وذلك هي المشاركة في الأولاد ، والأولى ما ذكرنا.
وَعِدْهُمْ المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة ونفع الأنساب الشريفة من لم يطع اللّه تعالى أصلا وعدم خلود أحد في النار لمنافاة ذلك عظم الرحمة وطول أمل البقاء في الدنيا ومن الوعد الكاذب وعده إياهم أنهم إذا ماتوا لا يبعثون وغير ذلك مما لا يحصى كثرة ، ثم هذا من قبيل المشاركة في النفس كما في البحر.
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً اعتراض بين ما خوطب به الشيطان لبيان حال مواعيده والالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان حاله للناس ومن الإشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب ويقال : غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد ، وأصل ذلك على ما قال الراغب من الغر وهو الأثر الظاهر من الشيء ، ونصبه على أنه وصف مصدر محذوف أي وعدا غرورا على الأوجه التي في رجل عدل.
وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي وما يعدهم ويمينهم ما لا يتم ولا يقع إلا لأن يغرهم والأول أظهر.
وذكر الإمام في سبب كون وعد الشيطان غرورا لا غير أنه إنما يدعو إلى أحد ثلاثة أمور قضاء الشهوة. وإمضاء الغضب وطلب الرياسة والرفعة ولا يدعو البتة إلى معرفة اللّه تعالى وخدمته وتلك الأشياء الثلاثة ليست لذائذ في الحقيقة بل دفع آلام وإن سلم أنها لذائذ لكنها خسيسة يشترك فيها الناقص والكامل بل الإنسان والكلب ومع ذلك وهي وشيكة الزوال ولا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة ويتبعها الموت والهرم واشتغال البال بالخوف من زوالها والحرص على بقائها ، ولذات البطن والفرج منها لا تتم إلا بمزاولة رطوبات متعفنة مستقذرة فتزيين ذلك لا يكاد يكون إلا بما هو أكذب من دعوى اجتماع النقيضين وهو الغرور.
إِنَّ عِبادِي الإضافة للتعظيم فتدل على تخصيص العباد بالمخلصين كما وقع التصريح به في الآية الأخرى ولقرينة كون اللّه تعالى وكيلا لهم يحميهم من شر الشيطان فإن من هو كذلك لا يكون إلا عبدا مكرما مختصا به تعالى ، وكثيرا ما يقال لمن يستولي عليه حب شيء فينقاد له عبد ذلك الشيء ومنه عبد الدينار والدرهم وعبد الخميصة وعبد بطنه ، ومن هنا يقال لمن يتبع الشيطان عبد الشيطان فلا حاجة إلى القول بأن في الكلام صفة محذوفة أي إن عبادي المخلصين.
وزعم الجبائي أن عِبادِي عام لجميع المكلفين وليس هناك صفة محذوفة لكن ترك الاستثناء اعتمادا على التصريح به في موضع آخر وليس بشيء ، وفي هذه الإضافة إيذان بعلة ثبوت الحكم في قوله سبحانه :
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي تسلط وقدرة على إغوائهم ، وتأكيد الحكم مع اعتراف الخصم به لمزيد الاعتناء.
وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا لهم يتوكلون عليه جل وعلا ويستمدون منه تعالى في الخلاص عن إغوائك فيحميهم سبحانه منه ، والخطاب في هذه الجملة قيل للشيطان كما في الجملة السابقة ففي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي مع الإضافة إلى ضميره إشعار بكيفية كفايته تعالى لهم وحمايته إياهم منه أعني سلب قدرته على إغوائهم ، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام أو للإنسان كأنه لما بين سبحانه من حال الشيطان ما بين صار ذلك لحصول الخوف في القلوب فقال سبحانه : وَكَفى بِرَبِّكَ أيها النبي أو أيها الإنسان وكيلا فهو جل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 108
جلاله يدفع كيد الشيطان ويحفظ منه ، والقلب يميل إلى عدم كونه خطابا للشيطان وإن كان في السابق له. واستدل بالآية على أن المعصوم من عصمه اللّه تعالى وإن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلال وإلا لقيل وكفى بالإنسان وكيلا لنفسه ، هذا وهاهنا سؤالان ذكرهما الإمام مع جوابيهما ، الأول أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بهذه التهديدات هو إله العالم أو لم يكن عالما فإن كان الأول فكيف يصر الوعيد الشديد بقوله سبحانه :
فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من اللّه جل جلاله من غير واسطة ، وإن كان الثاني فكيف قال : أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ والجواب لعله كان شاكا في الكل وكان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن ، وأقول لا يخفى ما في هذا الجواب.
والحق فيه أنه كان جازما بأن الذي تكلم معه بذلك هو إله العالم جل وعلا إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته فلم يصر الوعيد مانعا له ولدا حين تنصب لهلاكه الحبائل إذا جاء وقته ويعاين من العذاب ما يعاين وتضيق عليه الأرض بما رحبت
فيقال له : اسجد اليوم لآدم عليه السلام لتنجو لا يسجد ويقول : لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا كما ورد في بعض الآثار
،
وليس هذا بأعجب من حال الكفار الذين يعذبون يوم القيامة أشد العذاب على كفرهم ويطلبون العود ليؤمنوا حيث أخبر اللّه تعالى بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. وربما يقال : إن اللعين مع هذا الوعيد له أمل بالنجاة ، فقد حكي أن مولانا عبد اللّه التستري سأل اللّه تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة اللّه تعالى؟ فقال : كيف لا أطمع فيها واللّه سبحانه يقول : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف : 156] وأنا شيء من الأشياء فقال التستري : ويلك إن اللّه تعالى قيد في آخر الآية فقال إبليس له : ويحك ما أجهلك القيد لك لا له ، ولعله يزعم أن آيات الوعيد مطلقا مقيدة بالمشيئة وإن لم تذكر كما يقوله بعض الأشاعرة في آيات الوعيد للعصاة من المؤمنين.
السؤال الثاني ما الحكمة في أن اللّه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة؟ والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن له مانعا يمنع من حصوله لا يسعى في تحصيل ذلك المانع ، والجواب أما على مذهبنا فظاهر ، وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم : إن اللّه تعالى علم أن الذين يكفرون عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد وحينئذ لم يكن في وجوده مزيد مفسدة ، وقال أبو هاشم : لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بذلك مزيد الثواب ، وأنا أقول : إن إبليس ليس مانعا مما يريده اللّه جل مجده وتعالى جده فما شاء اللّه سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن واللّه تبارك وتعالى خلق الخلق طبق علمه وعلم به طبق ما هو عليه في نفسه فافهم واللّه تعالى أعلم.
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ مبتدأ وخبر ، وقيل الموصول صفة رَبُّكُمُ وهو صفة لقوله تعالى الَّذِي فَطَرَكُمْ أو بدل منه وذلك جائز وإن تباعد ما بينهما اه ، وفيه ما فيه ، وأصل الإزجاء السوق حالا بعد حال والمراد به الإجزاء وكأن اختياره عليه لما أنه أدل منه على القسر وهو أوفق بالمقام وأعظم في الأنعام أي هو سبحانه وتعالى القادر الحكيم الذي يجري لنفعكم السفن في البحر بالريح اللينة وبالآلات حسبما جرت به عادته تعالى لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تصريح بالنفع أي لتطلبوا من رزقه الذي هو فضل من قبله سبحانه أو من الربح الذي هو جل شأنه معطيه ، ومن تبعيضية وتفسير الفضل بالحج أو الغزو غير مناسب ، وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائل التوحيد الذي هو المراد الأصلي من البعثة وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله سبحانه : فَلا يَمْلِكُونَ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 109
الآية إِنَّهُ كانَ أزلا وأبدا بِكُمْ رَحِيماً حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من مباديه ، وهذا تذليل فيه تعليل لما سبق من الإزجاء والابتغاء للفضل ، وصيغة الرحيم كما في إرشاد العقل السليم للدلالة على أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة ، وهو مبني على اختصاص الرحيم بالدنيا كما هو المشهور ، وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ، وقيل بعدم الاختصاص وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ خوف الغرق بعصف الريح وتقاذف الأمواج ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن خواطركم كل من تدعونه وترجون نفعه فلا تذكرونه إِلَّا إِيَّاهُ جل وعلا فإنكم تذكرونه وحده سبحانه لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره تعالى لكشف ما حل بكم من الضر استقلالا أو اشتراكا فالمراد بضلالهم غيبتهم عن الفكر لا عن النظر والحس لأنه أمر معلوم من قولهم : ضل عنه كذا إذا نسيه ، وفي الكشف هو من ضل عنه كذا إذا ضاع ولا حاجة إلى تضمين أو من ضله فلان ذهب عنه فلم يقدر عليه ذكره الأزهري وأنشد :
والسائل المبتغي كرائمها يعلم أني تضلني عللي
أي تفارقني وتذهب عني فلا أتعلل بعلة وهذا أظهر ، نعم الضلال راجع إلى الذكر لا بمعنى إضماره فإنه ركيك يقال ضل عن خاطري كذا إذا لم تذكره فإنه ضلال له لا أنه ضلال ذكره ولا تقول ضل عن خاطري ذكره وكذلك ضلني الأمر اه ، والدعاء في هذا على ظاهره والاستثناء متصل بناء على أن ما عبارة عن المدعوين مطلقا وأنهم كانوا يدعون اللّه تعالى وغيره في الحوادث ، وإن كانت ما عبارة عن آلهتهم الباطلة فقط وإنهم كانوا في حالة السراء يدعونها وحدها كما يدل عليه ظاهر ما بعد فالاستثناء منقطع ، وفسر الدعاء على هذا بدعاء العبادة واللجأ.
وقال أبو حيان : الظاهر الانقطاع لأنه تعالى لم يندرج في من تدعون إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون اللّه تعالى. وتعقب بأن مقتضى كونهم مشركين أنهم يعبدونه سبحانه أيضا لكن على طريق الإشراك بل قولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر : 3] كما قص سبحانه عنهم يقتضي أنه جل مجده المعبود الحقيقي عندهم ، وقد يقال : إن الشارع أسقط مثل هذه العبادة عن درجة الاعتبار فهم غير عابدين اللّه جل وعلا شرعا بل قيل إنهم غير عابدين لغة أيضا لأن العبادة لغة غاية الخضوع والتذلل ولا يتحقق ذلك مع الشركة ولو على الوجه الذي زعموه فتأمل.
وجوز غير واحد أن يكون المعنى ضل من تدعونه عن إغاثتكم إلا إياه تعالى ، والضلال فيه إما بمعنى الغيبة أو بمعنى عدم الاهتداء منه كأنه قيل ضل عن محجة الصواب في إنقاذكم ولم يقدر على ذلك ، وأمر الاستثناء من الاتصال والانقطاع ومبنى كل على حاله ، والزمخشري جوز أن يكون المعنى ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن اللّه تعالى هو الذي ترجونه وجعل الاستثناء عليه منقطعا فقيل إن ذلك لتخصيصه المدعوين بالآلهة.
وفي الكشف لعل الوجه فيه أنه تعالى ما كانوا يدعونه أي دعاء العبادة واللجأ إلا في تلك الحالة وأما في حالة السراء فيخصون آلهتهم بالدعاء ، والتحقيق أن الضلال بهذا المعنى لم يتناول الحق سبحانه لأن معناه ضل المدعوون وغابوا عن إغاثتهم ولا يراد غابوا وحضر جل وعلا بل المراد ولكن رجوا أن يغيثهم ولا يخذلهم فعل المدعوين على حسبانهم وهذا هو الوجه إن شاء اللّه تعالى اه. ومبنى التحقيق لا يخفى على المتدرب في علم النحو ، هذا ومن اللطائف
أن بعض الناس قال لبعض الأئمة : أثبت لي وجود اللّه تعالى ولا تذكر لي الجوهر والعرض فقال له : هل ركبت البحر؟ قال : نعم قال : فهل عصفت الريح؟ قال : نعم قال : فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال : نعم قال : فهل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 110
يئست من نفع من في السفينة ونحوهم من المخلوقين لك وإنجائهم مما أنت فيه إياك؟ قال نعم : فهل بقي قلبك متعلقا بشيء غير أولئك؟ قال : نعم قال : ذلك هو اللّه عز وجل فاستحس ذلك.
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الضر وأوصلكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن ذكره تعالى بعد أن كنتم غير ذاكرين إلا إياه سبحانه أو أعرضتم عن توحيده جل وعلا أو عن شكره عز وجل بتوحيده وطاعته سبحانه أو توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض مقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرمة :
عطاء فتى تمكن في المعالي فأعرض في المكارم واستطالا
وكأنه أريد أعرضتم واستطلتم في الكفران إلا أنه استغنى بذكر العرض عن ذكر الطول للزومه له.
وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كالتعليل للإعراض وهو بيان لحكم الجنس ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة حيث أعرض سبحانه عن خطابهم بخصوصهم وذكر أن جنس الإنسان مجبول على الكفران فلما أعرضوا أعرض اللّه سبحانه عنهم.
أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار على معنى أنه لا ينبغي الأمن ، والفاء للعطف على محذوف متوسط بينها وبين الهمزة أي أنجوتم فأمنتم وهو مذهب بعض النحويين ، واختار بعضهم أن الهمزة مقدمة من تأخير لأصالتها في الصدارة والعطف على ما قبله ، وجملة كانَ الْإِنْسانُ إلخ معترضة بين المتعاطفين ولا حذف في مثل ذلك وهو مذهب الأكثرين لكن لا يظهر تسبب الإنكار للأمن على ما قبل على ما يقتضيه هذا المذهب بل الظاهر ترتبه على النجاة فقط ولا مدخل للإعراض في تسبب الإنكار ، والحق عندي في أمثال ذلك ما فيه استقامة المعنى من غير تكلف ولا يتعين التزام أحد المذهبين وإن أدى إلى التكلف فإنه تعصب محض ، والخطاب لمن تقدم أفأمنتم أيها المعرضون عند النجاة أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ الذي هو مأمنكم أي أن يغيبه اللّه تعالى ويذهب به في أعماق الأرض مصاحبا بكم أي وأنتم عليه على أن الباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال ، وجوز أن تكون الباء للسببية والجار والمجرور متعلق بما عنده أي أن يغيبه سبحانه بسببكم وتعقب بأنه لا يلزم من قلبه بسببهم أن يكونوا مهلكين مخسوفا بهم. وأجيب بأنه حيث كان المراد من جانب البر جانبه الذي هم فيه استلزم خسفه هلاكهم ولولا هذا لم يكن في التوعد به فائدة ، ونصب جانِبَ في الوجهين على أنه مفعول به ليخسف.
وفي الدر المصون أنه منصوب على الظرفية وحينئذ يجوز كون الباء للتعدية على معنى أفأمنتم أن يغيبكم في ذلك.
وفي القاموس خسف اللّه تعالى بفلان الأرض غيبه فيها ، والظاهر أنه بيان للمعنى اللغوي للفظ ، وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم عند ما وصلوا الساحل أعرضوا أو ليكون المعنى أن الجوانب والجهات متساوية بالنسبة إلى قدرته سبحانه وقهره وسلطانه فله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة فليس جانب البحر وحده مختصا بذلك بل إن كان الغرق في جانب البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء فعلى العاقل أن يخاف من اللّه تعالى في جميع الجوانب وحيث كان.
والأول على تقدير أن يراد بجانب البر طرفه مما يلي البحر وهو الساحل ، وهذا على احتمال أن يراد به ما يشتمل جميع جوانبه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «نخسف» بنون العظمة وكذا في الأربعة التي بعده.
أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ من فوقكم حاصِباً أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال : هو مطر الحجارة ، أي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 111
مطرا يحصبكم أي يرميكم بالحصباء وهو صغار الحجارة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه فسر الحاصب بالحجارة نفسها ولعله حينئذ صيغة نسبة أي ذا حصب ويراد منه الرمي ، وقال الفراء : الحاصب الريح التي ترمي بالحصباء ، وقال الزجاج : هو التراب الذي فيه الحصباء والصيغة عليه صيغة نسبة أيضا ، وجاء بمعنى ما تناثر من دقاق الثلج والبرد ، ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور
وبمعنى السحاب الذي يرمي بهما ، واختار الزمخشري ومن تبعه تفسير الفراء والظاهر أن الكلام عليه على حقيقته فالمعنى أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها فيكون أشد عليكم من الغرق في البحر ، ويقال نحو هذا على سائر تفاسير الحاصب ، وقال الخفاجي في وصف الريح بالرمي بالحصباء : إنه عبارة عن شدتها ، وذكرها إشارة إلى أنهم خافوا إهلاك الريح في البحر فقيل إن شاء أهلككم بالريح في البر أيضا ، ولا أدري ما المانع من إرادة الظاهر والشدة تلزم الرمي المذكور عادة والإشارة هي الإشارة ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا تكلون إليه أموركم فيحفظكم من ذلك أو يصرفه عنكم غيره جل وعلا فإنه لأراد لأمره الغالب جل جلاله أَمْ أَمِنْتُمْ أي بل أأمنتم أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم بركوب الفلك لا في الفلك لأنها مؤنثة وأوثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه تارَةً أُخْرى أي مرة غير المرة الأولى ، وهو منصوب على الظرفية ويجمع على تارات وتير كما في قوله : يقوم تارات ويمشي تيرا وربما حذفوا منه الهاء كقوله :
بالويل تارا والثبور تارا وإسناد الإعادة إليه تعالى مع أن العود باختيارهم ومما ينسب إليهم وإن كان مخلوقا له سبحانه كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلك ، وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لا قوة في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة ما عادوا فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ وأنتم في البحر قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ وهي الريح الشديدة التي تقصف ما تمر به من الشجر ونحوه أو التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر ..
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : القاصف من الريح الريح التي تغرق ، وقيل : الريح المهلكة في البر حاصب والريح المهلكة في البحر قاصف والعاصف كالقاصف كما روي عن عبد اللّه بن عمرو ، وفي رواية عن ابن عباس تفسير القاصف بالعاصف ، وقرأ أبو جعفر «من الرياح» بالجمع فَيُغْرِقَكُمْ اللّه سبحانه بواسطة ما ينال فلككم من القاصف ، وقرأ أبو جعفر «فتغرقكم» بالتاء ثالثة الحروف على أن الفعل مسند إلى الريح ، والحسن ، وأبو رجاء «فيغرّقكم» بالياء آخر الحروف وفتح الغين وشد الراء ، وفي رواية عن أبي جعفر كذلك إلا أنه بالتاء لا الياء ، وقرأ حميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم السابق وهو إعراضهم عند الإنجاء في المرة الأولى ، وقيل : بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائما ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أي نصيرا كما روي عن ابن عباس أو ثائرا يطلبنا بما فعلنا انتصارا منا أو دركا للنار من جهتنا فهو كقوله تعالى : فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس : 14 ، 15] كما روي عن مجاهد ، وضمير بِهِ قيل للإرسال ، وقيل : للإغراق ، وقيل : لهما باعتبار ما وقع ونحوه كما أشير إليه وكأنه سبحانه لما جعل الغرق بين الإعادة إلى البحر انتقاما في مقابلة الكفر عقبه تعالى بنفي وجدان التبييع فكأنه قيل ننتقم من غير أن يقوم لنصركم فهو وعيد على وعيد وجعل ما قبل من شق العذاب كمس الضر في البحر عقبه بنفي وجدان الوكيل فكأنه قيل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 112
لا تجدون من تتكلون عليه في دفعه غيره تعالى لقوله سبحانه : ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وهذا اختيار صاحب الكشف فلا تغفل وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم أي شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كرمهم سبحانه بالعقل ، وفي رواية بتناولهم الطعام بأيديهم لا بأفواههم كسائر الحيوانات.
وعن الضحاك بالنطق ، وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها ، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات ، وعن يمان بحسن الصورة ، وعن ابن جرير بالتسلط على غيرهم من الخلق وتسخيره لهم ، وعن محمد بن كعب بجعل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم منهم.
وقيل : بخلق اللّه تعالى أباهم آدم بيديه ، وقيل : بتدبير المعاش والمعاد ، وقيل : بالخط ، وقيل : باللحية للرجل والذؤابة للمرأة ، وقيل وقيل والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال :
إنما التكريم بالعقل لا غير فقد ادعى غلطا ورام شططا وخالف صريح العقل وصحيح النقل ولذا استدل الإمام الشافعي بالآية على عدم نجاسة الآدمي بالموت وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ على أكباد رطبة وأعواد يابسة من الدواب والسفن فهو من حملته على كذا إذا أعطيته ما يركبه ويحمله فالمحمول عليه مقدر بقرينة المقام.
وقيل : المراد من حملهم في البر والبحر جعلهم قارين فيهما بأن لم يخسف بهم الأرض ولم يغرقهم بالماء ، والأول انسب بالتكريم إذ لا يثبت لشيء من الحيوانات سواهم بخلاف الثاني وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي فنون النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صنعهم من المأكولات والملبوسات والمفروشات والمقتنيات وغير ذلك وَفَضَّلْناهُمْ قيل : أي بالتكريم المذكور عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا عظيما ، والمراد أن ذلك مخصوص بهم بالنسبة إلى الكثير فلم يكرم الكثير كما كرموا ، وبحث الإمام في هذا المقام بأنه تعالى قال أولا :
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وقال سبحانه هنا وَفَضَّلْناهُمْ فلا بد من فرق بين التكريم والتفضيل لئلا يلزم التكرار.
والأقرب في ذلك أن يقال : إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه عز وجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادئ ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا اللّه تعالى ولا يشركوا به شيئا ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره عز وجل ، ويقال نحو هذا عى ما سبق أيضا بقليل تغيير ، وقال الطيبي : قد كرر في الآية ما ينبىء عن غاية المدح من ذكر الكرامة والتفضيل وتسخير الأشياء على سبيل الترقي كأنه قيل : ولقد كرمنا بني آدم بكرامة أبيهم عليه السلام ثم سخرنا لهم الأشياء ورزقناهم من الطيبات ثم فضلناهم تفضيلا أي تفضيل ولذا عقب بها قوله سبحانه : وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا إلخ وهو لبيان كرامة أبيهم وما توسط بينهما من الآيات كالاستطراد والاعتراض إلى آخر ما قال ، ويعلم منه دفع التكرار وإن لم يسقه لذلك الغرض ، وفيه تخصيص التكريم ، وكذا فيما قيل إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف والتفضيل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازلة الرفيعة ، والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام عند الكثير ومنهم الزمخشري وزعم أن الآية صريحة في تفضيل الملك على البشر وشنع على أهل السنة تشنيعا أقذع فيه.
والحق أنها لا تصلح للاحتجاج على التفضيل المتنازع فيه ، ففي الكشف أن الظاهر من سياق الآية أنه حث للإنسان على الشكر وعلى أن لا يشرك به تعالى حيث ذكر ما في البر والبحر من حسن كلاءته سبحانه له وضمن فيه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 113
أنه جلا وعلا هداهم إلى الفلك وصنعته وما يترتب عليه من الفوائد في قوله سبحانه : رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ الآيات فقال عز وجل وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي هذا النوع من بين سائر الأنواع باصطناعات خصصناهم بها فذكر تعالى منها حملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وتفضيلهم على كثير من المخلوقات وهذا التفضيل لا يراد منه عظم الدرجة وزيادة القربة عند اللّه تعالى وهو المتنازع فيه لأن الحكم للنوع من حيث هو وذكر اللّه تعالى لذلك موجبات تعم الصالح والطالح فسواء دخل في هذا الكثير الملائكة أو لم يدخل لم يدل على الأفضلية بالمعنى المذكور فلا يصلح لاحتجاج إحدى الطائفتين اه.
ثم إن على فرض أن التفضيل بالمعنى المتنازع فيه لا تدل الآية على أن الملك أفضل من البشر إلا بطريق المفهوم وفي حجيته خلاف ، وأبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه لا يقول به على أنه يدل على أنهم فضلوا على الكثير ولم يفضلوا على مقابله وهو يحتمل المساواة وتفضيل المقابل فليس نصا في مذهب الزمخشري.
وجعل الطيبي من بيانية كما في قولك بذلت له العريض من جاهي أي فضلناهم على الكثيرين الذين خلقناهم من ذوي العقول كما هو الظاهر من (من) وهم منحصرون في الملك والجن والبشر فحيث خرج البشر لأن الشيء لا يفضل على نفسه بقي الملك والجن فيكون المراد بيان تفضيل البشر عليهم جميعا وهو الذي يقتضيه مقام المدح فإن الآية مسوقة له وإذا جعلت للتبعيض كان مِمَّنْ خَلَقْنا بدلا أي فضلناهم على بعض المخلوقين.
وذكر البعض في هذا المقام يدل على تعظيم المفضل عليه كما قرر في قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة : 253] وأي مدح لبني آدم وإثبات للفضل والكرامة بالجملة القسمية إذا جعلوا مفضلين على الجن والشياطين على أن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة لإخراج البعض كانت الملائكة أولى من الجن والشياطين لأنهم هم الموصوفون بالكثرة كما تدل عليه الأخبار الكثيرة كخبر أطيط السماء وخبر نزول قطرات المطر وخبر ما يدخل البيت المعمور في كل يوم من الملائكة إلى غير ذلك ، وإليه ينظر قول صاحب التقريب إنه يحتمل أن يراد بكثير ممن خلقنا الملائكة إذ هم كثير من العقلاء المخلوقين اه.
وتعقب بأن ما ذكره من حمل من خَلَقْنا على تعميم ذوي العقول مقبول فإن تفضيلهم على غير ذوي العقول حينئذ آت من طريق مفهوم الموافقة فلا حاجة إلى ارتكاب خلاف الظاهر واعتبار تغليبهم ليعمهم وغيرهم لكن حمل من على البيان غير مقبول فإنه بعيد جدا لأن قيد الكثرة يضيع عليه حمل من على التعميم التغليبي أو الوضعي ولأن استعماله في التبعيض شائع أينما وقع في التنزيل واستعمالات الفصحاء وهو أكثر تعسفا من حمله على الغاية في قوله تعالى «1» فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم منه على ما ذكره الزمخشري فيه وأنه إذا قوبل بشيء آخر دل على القلة في المقابل كما في قوله تعالى فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد : 26] فإنه صرح بأنه يدل على أن الغلبة للفساق للمقابلة أما ورد ابتداء «2» فربما كان الأكثر خلاف ذلك كما في قوله تعالى : فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل : 15] فقوله إن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة إلخ كلام لم يصدر عن ثبت ، ولهذه النكتة قال صاحب التقريب : يحتمل دلالة على أنه مرجوح.
هذا ثم إن مسألة التفضيل مختلف فيها بين أهل السنة ، فمنهم من ذهب إلى تفضيل الملائكة وهو مذهب ابن
___________
(1) قوله فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم منه كذا في نسخة المؤلف والتلاوة فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.
(2) قوله وأما ورد ابتداء كذا في نسخة المؤلف ولعله وأما إذا ورد إلخ فتأمل.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 114
عباس رضي اللّه تعالى عنهما واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط ، ومنهم من فصل فقال : إن الرسل من البشر أفضل مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عموم الملائكة على عموم البشر وهذا ما عليه أصحاب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة وكثير من الشافعية والأشعرية ، ومنهم من عمم تفضيل الكمل من نوع الإنسان نبيا كان أو وليا ، ومنهم من فضل الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة على عموم البشر.
وهذا ما عليه الإمام الرازي وبه يشعر كلام الغزالي في مواضع عديدة في كتبه ، ومن هذا يعلم أن إطلاق القول بأن أهل السنة يفضلون البشر على الملك ليس على ما ينبغي ، وهذه المسألة ومسألة تفضيل الأئمة ليستا مما يبدع الذاهب إلى أحد طرفيهما على ما في الكشف إذ لا يرجع إلى أصل في الاعتقاد ولا يستند إلى قطعي بعد أن يسلم من الطعن وما يخل بتعظيم في المسألتين لكن المشهور في مسألة تفضيل الأئمة أن القول بخلاف ما استقر عليه رأي أهل السنة ابتداع ومن أنصف قال بما في الكشف فهذر الزمخشري على من خالفه محض جهالة إذا لم يكن بتلك الغاية فكيف وهو قد بلغ فيه من السفاهة غايتها ومن البذاذة نهايتها وسيرى جزاء ذلك.
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ شروع في بيان تفاوت أحوال بني آدم في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا ، ويَوْمَ مفعول به لفعل محذوف أي اذكر يوم ندعو إلخ.
وجوز ابن عطية وغيره أن يكون ظرفا لفعل يدل عليه لا يُظْلَمُونَ ولم يجعل ظرفا له بناء على أن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ولو ظرفا ، وجوز أيضا أن يكون مبتدأ وهو مبني لإضافته إلى غير متمكن والخبر جملة فَمَنْ أُوتِيَ إلخ ويقدر للربط فيها فيه وفيه أن المنقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل وما في حيزه هنا فعل مضارع على أن بناء أسماء الظروف المضافة إلى جملة هو أحد ركنيها بناء على مذهب الكوفيين والبصريين لا يجوزون ذلك ومع هذا هو تخريج متكلف.
وجوز أيضا كونه ظرفا لفضلناهم قال : وتفضيل البشر على سائر الحيوانات يوم القيامة بيّن وبه قال بعض النحاة إلا أنه قال : فضلناهم بالثواب ، وفيه أنه أي تفضيل للبشر ذلك اليوم والكفار منهم أخس من كل شيء إلا أن يقال :
يكفي في تفضيل الجنس تفضيل بعض أفراده ألا ترى صحة الرجال أفضل من النساء مع أن من النساء من هي أفضل من بعض الرجال بمراتب ، وأيضا إذا أريد التفضيل بالثواب لا يصح إخراج الملائكة لأن جنس البشر يثابون والملائكة عليهم السلام لا يثابون كما هو مقرر في محله ، ثم إنهم يشاركهم في الثواب الجن لأن مؤمنيهم يثابون كما يثاب البشر عند بعض ، وقيل إن ثوابهم دون ثوابهم لأنهم لا يرون اللّه تعالى في الجنة عند من قال : إن اللّه تعالى يرى فيها فالبشر مفضلون عليهم في الثواب من هذه الجهة ، وقيل ظرف يَقْرَؤُنَ أو ما دل عليه ، وفيه أنهم لا يقرؤون كتابهم وقت الدعوة. وأجيب بأن المراد بيوم يدعون وقت طويل وهو اليوم الآخر الذي يكون فيه ما يكون ويبقى في جعله ظرفا للمذكور حديث الفاء.
وقال الفراء : هو ظرف لنعيدكم محذوفا ، وقيل ظرف ليستجيبون ، وقيل هو بدل من يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وقيل العامل فيه ما دل عليه قوله سبحانه مَتى هُوَ [الإسراء : 51] وهي أقوال في غاية الضعف ، وأقرب الأقوال وأقواها ما ذكرناه أولا.
والإمام المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره ، والجار والمجرور متعلق بندعو أي ندعو كل أناس من بني آدم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 115
الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم وما عطف عليه بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال : يا أتباع فلان يا أهل دين كذا أو كتاب كذا.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الآية : يدعى كل قوم بإمام زمانهم كتاب ربهم وسنة نبيهم
، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : إمام هدى وإمام ضلالة.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : بإمامهم بكتاب أعمالهم فيقال : يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر وروي ذلك عنه أبي العالية والربيع ، والحسن
، وقرىء «بكتابهم» ولعل وجه كون ذلك إمامهم أنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار ، وقال الضحاك وابن زيد : هو كتابهم الذي نزل عليهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال : هو نبيهم الذي بعث إليهم.
واختار ابن عطية كغيره عموم الإمام لما ذكر في الآثار ، وقيل : المراد القوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم كالقوة النظرية والعملية والقوة الغضبية والشهوية سواء كانت الشهوة شهوة النقود أو الضياع أو الجاه والرياسة ولاتباعهم لها دعيت إماما ، وهو مع كونه غير مأثور بعيد جدا فلا يقتدى بقائله وإن كان إماما.
وفي الكشاف أن من بدع التفاسير أن الإمام جمع أم كخف وخفاف وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بهن دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام وشرف الحسن والحسين ولا يفضح أولاد الزنا ، وليت شعري أيهما أبدع أصحة تفسيره أم بهاء حكمته انتهى ، وهو مروي عن محمد بن كعب.
ووجه عدم قبوله على ما في الكشف ، أما أولا فلأن إمام جمع أم غير شائع وإنما المعروف الأمهات.
وأما ثانيا فلأن رعاية حق عيسى عليه السلام في امتيازه بالدعاء بالأم فإن خلقه من غير أب كرامة له لا غض منه ليجبر بأن الناس أسوته في انتسابهم إلى الأمهات ، وإظهار شرف الحسنين بدون ذلك أتم فإن أباهما خير من أمهما مع أن أهل البيت كحلقة مفرغة ، وأما افتضاح أولاد الزنا فلا فضيحة إلا للامهات وهي حاصلة دعي غيرهم بالأمهات أو بالآباء ولا ذنب لهم في ذلك حتى يترتب عليه الافتضاح انتهى ، وما ذكر من عدم شيوع الجمع المذكور بين ، وأما الطعن في الحكمة فقد تعقب فإن حاصلها إنه لو دعي جميع الناس بآبائهم ودعي عيسى عليه السلام بأمه لربما أشعر بنقص فروعي تعظيمه عليه السلام ودعي الجميع بالأمهات وكذا روعي تعظيم الحسنين رضي اللّه تعالى عنهما لما أن في ذلك بيان نسبهما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولو نسبا إلى أبيهما كرّم اللّه تعالى وجهه لم يفهم هذا وإن كان هو هو رضي اللّه تعالى عنه ، وفي ذلك أيضا ستر على الخلق حتى لا يفتضح أولاد الزنا فإنه لو دعي الناس بآبائهم ودعوا هم بأمهاتهم علم أنهم لا نسبة لهم إلى آباء يدعون بهم وفيه تشهير لهم ولو دعوا بآباء لم يعرفوا بهم في الدنيا وإن لم ينسبوا إليهم شرعا كان كذلك ، وعلى هذا يسقط ما في الكشف ، وعندي أن القائل بذلك لا يكاد يقول به من غير أن يتمسك بخبر لأنه خلاف ما ينساق إلى الأذهان على اختلاف مراتبها ولا تكاد تسلم حكمته عن وهن ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
ولعل الخبر إن كان ليس بالصحيح ويعارضه ما قدمناه غير بعيد من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم»
واللّه تعالى أعلم ، وما ذكر من تعلق الجار بما عنده هو الظاهر الذي ذهب إليه الجمهور ، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا أي مصحوبين بإمامهم ، ثم إن الداعي إما اللّه عز وجل وإما الملك وهو الذي تشعر به الآثار فإسناد الفعل إليه تعالى مجاز.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 116
وقرأ مجاهد «يدعو» بالياء آخر الحروف أي يدعو اللّه تعالى أو الملك ، والحسن في رواية «يدعى» بالبناء للمفعول ورفع كُلَّ على النيابة عن الفاعل ، وفي رواية أخرى «يدعوا» بضم الياء وفتح العين بعدها واو ورفع كُلَّ وخرجت على وجهين فإن الظاهر يدعون بإثبات النون التي هي علامة الرفع الأول إن الواو ليست ضمير جمع ولا علامته وإنما هي حرف من نفس الكلمة وكانت ألفا والأصل يدعى كما في القراءة الأخرى وقلبت الألف واوا على لغة من يقول في أفعى وهي الحية أفعو ، وهذه اللغة مخصوصة بالوقف على المشهور فيكون قد أجري هنا الوصل مجرى الوقف. ونقل عن سيبويه أن قلب الألف في الآخر واوا لغة مطلقا ، والثاني أن الواو ضمير أو علامة كما في يتعاقبون فيكم ملائكة والنون محذوفة كما في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تؤمنوا حتى تحابوا وكما تكونوا يولّى عليكم»
في قول ، وكذا في قول الشاعر :
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وكأنها لكونها علامة إعراب عوملت معاملة حركته في إظهارها تارة وتقديرها أخرى ، ولا فرق في كونها علامة إعراب بين أن تكون الواو ضميرا وأن تكون علامة جمع على الصحيح ، والظاهر أن حذفها في مثل ما ذكر شاذ لا ضرورة وإلا فلا يصح هذا التخريج في الآية ، وفي توجيه رفع كُلَّ على هذه القراءة الأقوال في توجيه الرفع في أمثاله وهي مشهورة في كتب النحو فَمَنْ أُوتِيَ يومئذ من أولئك المدعوين كِتابَهُ صحيفة أعمالهم واللّه سبحانه أعلم بحقيقتها بِيَمِينِهِ إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفا لصاحبه وتبشيرا له من أول الأمر بما في مطاويه فَأُولئِكَ إشارة إلى من باعتبار معناه وكأنه أشير بذلك إلى أنهم حزب مجتمعون على شأن جليل ، وقيل فيه إشعار بأن قراءتهم لكتبهم على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الإيتاء ، وأكثر الأخبار ظاهرة في أن حال القراءة كحال الإيتاء ، نعم جاء من حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ويقرأالناس حسناته ثم يحول الصحيفة فيعول اللّه تعالى حسناته فيقرؤها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة.
ويحتمل أن يكون كل من يؤتى كتابه بيمينه بعد أن يقرأه منفردا يأتي أصحابه ويقول هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة : 19] فيجتمعون عليه ويقرؤونه ويقرؤه هو أيضا معهم تلذذا به لكن لم نجد في ذلك أثرا ومع هذا لا يجدي نفعا فيما أراد القائل ، وفي إلحاق اسم الإشارة علامة البعد إشارة إلى رفعة درجات المشار إليهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامة التي يشعر بها إيتاء الكتاب باليمين يَقْرَؤُنَ ولو لم يكونوا قارئين في الدنيا كِتابَهُمْ الذي أوتوه باليمين ليذكروا أعمالهم ويقفوا على تفاصيلها فيحاسبوا عليها. وقيل يقرؤونه تبجحا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات ، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد الاعتناء وَلا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة فَتِيلًا أي قدر فتيل وهو القشر الذي في شق النواة سمي بذلك لأنه على هيئة الشيء المفتول ، وقيل هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب به المثل في الشيء الحقير ، ثم إن الذي يسرع إلى الذهن أن فاعل الإيتاء الملائكة عليهم السلام يعطون السعيد بعد أن يدعى كتابه بيمينه فيقرؤه فيحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا.
لكن
أخرج العقيلي عن أنس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة يبعث اللّه تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل وأول خط فيها اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
[الإسراء :
14] وهو ظاهر في أن فاعل الإيتاء ليس الملك إلا أن الخبر يحتاج إلى تنقير فإني لست من صحته على يقين.
نعم
جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد عن عائشة الصديقة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت : «قلت يا رسول اللّه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 117
هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال : أما عند ثلاث فلا إلى أن قال وعند تطاير الكتب»
وهو مؤيد بظاهره الخبر السابق واللّه تعالى أعلم.
وجاء في بعض الآثار أن أول من يؤتى كتابه بيمينه من هذه الأمة أبو سلمة عبد اللّه بن عبد الأسد وأول من يؤتى كتابه بشماله أخوه الأسود سود اللّه تعالى وجهه بعد أن يمد يمينه ليأخذه بها فيخلعها ملك
، وسبب ذلك مذكور في السير وَمَنْ كانَ من المدعوين المذكورين فِي هذِهِ الدنيا التي فعل بهم فيها من التكريم والتفضيل ما فعل أَعْمى لا يهتدي إلى طريق نجاته من النظر إلى ما أولاه مولاه جل علاوه والقيام بحقوقه وشكره سبحانه بما ينبغي له عز شأنه من الإيمان والعمل فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ التي عبر عنها - بيوم ندعو أَعْمى لا يهتدي أيضا إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول موجب للثاني وهو في الموضعين مستعار من آفة البصر.
وجوز أن يكون أَعْمى الثاني أفعل تفضيل من عمى البصيرة وهو من العيوب الباطنة التي يجوز أن يصاغ منها أفعل التفضيل كالأحمق والأبله ، وبنى على ذلك إمالة أبي عمرو الأول وتفخيمه الثاني وبيان أن الألف في الأول آخر الكلمة كما ترى وتحسن الإمالة في الأواخر وهي في الثاني على تقديره كونه أفعل تفضيل كأنها في وسط الكلمة لأن أفعل المذكور غير معرف باللام ولا مضاف لا يستعمل بدون من الجارة للمفضل عليه ملفوظة أو مقدرة وهو معها في حكم الكلمة الواحدة ولا تحسن الإمالة فيها ولا تكثر كما في المتطرفة.
وقد صرح بذلك أبو علي في الحجة فلا يرد إمالة «أدنى من ذلك» و«الكافرين» وأن حمزة والكسائي وأبا بكر يميلون الأعمى في الموضعين ولا حاجة إلى أن يقال : إنهم لا يرونه أفعل تفضيل أو أن الإمالة فيما يرونه كذلك للمشاكلة. وقال بعض المحققين : إنه لما أريد افتراق معنى الأعمى في الموضعين افترق اللفظان إمالة وتفخيما ، وفخم الثاني لأن ما يدل على زيادة المعنى أولى بالتفخيم مع عدم حسن الإمالة فيه حسنها في الأول ، ولا يظن بأبي عليّ أنه يقول بامتناع الإمالة وإنما يقول بأولوية التفخيم.
وقال بعضهم : إن كان العمى فيما يكون للبصر وما يكون للبصيرة حقيقة فلا إشكال ، وإن كان حقيقة في الأول وتجوز به عن الثاني ففيه إشكال إلا أن يقال : إنه ألحق بما وضع لذلك وقد منعه آخرون لأن العلة وهي الإلباس بالوصف موجودة فيه فتدبر ، وقوى هذا التأويل بعطف قوله تعالى : وَأَضَلُّ سَبِيلًا منه في الدنيا لزوال الاستعداد وعدم إمكان تدارك ما فات ، وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له ، ولعل العدول إلى هذا العنوان للإيذان بالعلة الموجبة كما في قوله تعالى : وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ [الواقعة : 92] بعد قوله سبحانه :
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة : 90] وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وفي ذلك ما هو من قبيل الاحتباك حيث ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخر السبب ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلا على شهادة العقل ، وجعله ابن المنير مقابلا للقسم الأول على معنى فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فهو الذي يتبصره ويقرؤه ومن كان في الدنيا أعمى غير متبصر في نفسه ولا ناظر في معاده فهو في الآخرة كذلك غير متبصر في كتابه بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين وهو خلاف الظاهر.
ويشعر أيضا بأن من كان في الدنيا أعمى عن السلوك في طريق نجاته لا يقرأ في الآخرة كتابه وهو خلاف المصرح به في الآيات والأحاديث ، نعم فرق بين القراءتين ولعل الآية تشعر بالفرق وإن لم تقرر المقابلة بما ذكر هذا وعن أبي مسلم تفسير أَعْمى الثاني بأعمى العين ولا تجوز أي من كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى العين أي يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا وهو كقوله تعالى : وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 118
124] الآية ، وتأول فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق : 22] بالعلم والمعرفة ، وعنه أيضا تجويز أن يكون العمى عبارة عما يلحقه من الغم المفرط كأنه قيل من كان في الدنيا ضالا فهو في الآخرة مغموم جدا فإن من لا يرى إلا ما يسوءه والأعمى سواء ، وهذا كما يقال : فلان سخين العين وهو كما ترى.
وقيل إن هذه إشارة إلى النعم المذكورة قبل على معنى من كان أعمى غير متبصر في هذه النعم وقد عاينها فهو في شأن الآخرة التي لم يعاينها أعمى وأضل سبيلا ، واستند في ذلك إلى ما أخرجه الفريابي. وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل منهم أرأيت قوله تعالى : وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى فقال ابن عباس : لم تصل المسألة اقرأ ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ [الإسراء :
66] حتى بلغ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ثم قال : من كان أعمى عن هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا.
وفي رواية أخرى أخرجها عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طريق الضحاك أنه قال في الآية : يقول تعالى من كان في الدنيا أعمى عما رأى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا فهو عما وصفت له في الآخرة أعمى وأضل سبيلا يقول سبحانه أبعد حجة.
وروى أبو الشيخ عن قتادة نحوه ، ولا يخفى أن كلا التأويلين بعيد جدا وإن كان الثاني دون الأول في البعد ولا أظن الحبر يقول ذلك واللّه تعالى أعلم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ قالت الوجودية من الصوفية : إنه تعالى سبق قضاؤه أن لا يعبد سواه فكل عابد إنما يعبد اللّه سبحانه من حيث يدري ومن حيث لا يدري فإنه جل شأنه الأول والآخر والظاهر والباطن والأعيان الثابتة ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا ، ومما ينسبونه إلى زين العابدين رضي اللّه تعالى عنه ويزعمون أنه مشير إلى مدعاهم قوله :
إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
قالوا : إنه رضي اللّه تعالى عنه عنى بهذا الجوهر الذي لو باح به لقيل له : أنت ممن يعبد الوثن علم الوحدة إذ منه يعلم أن الوثن وكذا غيره مظهر له جل وعلا وليس في الدار غيره ديار ، وقد مر عن قرب ما نقل عن الحلاج ومثله كثير للشيخ الأكبر قدس سره ولغيره عربا وعجما وهو عفا اللّه تعالى عنه قد فتح بابا في هذا المطلب لا يسد إلى أن يأتي أمر اللّه عز وجل وكأنه أوصى إليه بأن يبوح وينثر هاتيك الجواهر بين الأصاغر والأكابر كما أوصى إلى الحسنين بأن يكتما من ذلك ما علما ، وفي بعض كتبه قدس سره ما هو صريح في أنه مأمور فإن صح ذلك فهو معذور ، وأنا لا أرى عذرا لمن يقفو أثره في المقال مع مباينته له في الحال فإن هذا المطلب أجل من أن يحصل لغريق الشهوات وأسير المألوفات ورهين العادات وللّه تعالى در من قال :
تقول نساء الحي تطمع أن ترى محاسن ليلى مت بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها سواها وما طهرتها بالمدامع
وتطمع منها بالحديث وقد جرى حديث سواها في خروق المسامع

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 119
ولا يخفى أنه على تأويل الصوفية هذه الآية لا يكون قوله تعالى : وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً داخلا فيما قضى إذ لا يسمعهم أن يقولوا إن كل أحد محسن بوالديه من حيث يدري ومن حيث لا ، ويفهم من كلام بعض المتصوفة أن هذا إيصاء بالإحسان إلى الشيخ أيضا ، وعليه فيحتمل أن يكون تثنية الوالدين كما في قولهم : القلم أحد اللسانين وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قيل : ذو القربى إشارة إلى الروح لأنها كانت قبل في القربة والمشاهدة ثم هبطت حيث هبطت ، والمسكين إشارة إلى العقل لأنه عاجز عن تحصيل العلم بحقيقة ربه سبحانه ، وابن السبيل إشارة إلى القلب لأنه يتقلب في سبل السلوك إلى ملك الملوك ، وحق الروح المشاهدة ، والعقل الفكر ، والقلب الذكر ، وقيل : الأول إشارة إلى إخوان المعرفة الذين وصلوا معالي المقامات وحقهم ذكر ما يزيد تمكينهم ، والثاني إشارة إلى العاشقين الذين سكنهم عشق مولاهم عن طلب ما سواه وحقهم ذكر ما يزيد عشقهم ، والثالث إشارة إلى السالكين سبل الطلب الممتطين نجائب الهمة وحقهم ذكر ما يزيد رغبتهم ويهون مشقتهم وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فيه إشارة للمشايخ كيف يكونون مع المريدين أي لا يبخل على المريد بنشر فضائل المعرفة وحقائق القربة ولا تذكر شيئا لا يتحمل فيهلك وكن بين بين وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ الذي أخذ منكم قبل خلق الأشباح وهو أن توحدوه تعالى ولا تشركوا به شيئا.
وقال يحيى بن معاذ : لربك عليك عهود ظاهرا وباطنا فعهد على الأسرار أن لا تشاهد سواه جل جلاله ، وعهد على الروح أن لا تفارق مقام القربة ، وعهد على القلب أن لا يفارق الخوف ، وعهد على النفس أن لا تترك شيئا من الفرائض ، وعهد على الجوارح أن تلازم الأدب وتترك المخالفات وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ قيل فيه إشارة للمشايخ أيضا أن لا ينقصوا المستعدين ما يقتضيه استعدادهم من الفيوضات القلبية ، وفي قوله تعالى : وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ إشارة لهم أن يعرضوا أعمال المريدين القلبية والقالبية على الشريعة فهي القسطاس المستقيم وكفتاها الحظر والإباحة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الآية فيه إشارة إلى بعض ما يلزم السالك من التثبت والاحتياط والكف عن الدعاوى العاطلة تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ الآية وقد علمت ما عند الصوفية في تسبيح الأشياء من أنه قال إلا أنه لا يسمعه إلا من فاز بقرب النوافل أو من أشرق عليه شيء من أنواره كالذين سمعوا تسبيح الحصى في مجلس سيد الكاملين صلّى اللّه عليه وسلّم ، والتسبيح الحالي مما لا ينكره أحد من المسلمين ، وقرره بعض الصوفية بأن لكل شيء خاصية ليست لغيره وكما لا يخصه دون ما عداه فهو يشتاقه ويطلبه إذا لم يكن حاصلا له ويحفظه ويحبه إذا حصل فهو بإظهار خاصيته ينزه اللّه تعالى من الشريك وإلا لم يكن متوحدا فيها فلسان حاله يقول أوحده على ما وحدني وبطلب كماله ينزهه سبحانه عن صفات النقص كأنه يقول يا كامل كملني وبإظهار كماله كأنه يقول كملني الكامل المكمل وعلى هذا القياس ، وحينئذ يقال : تسبحه السماوات بالكمال والتأثير والربوبية وبأنه كل يوم هو في شأن ونحو ذلك ، والأرض بالخلاقية والرزاقية والرحمة إلى غير ذلك ، والملائكة بالعلم والقدرة والتجرد عن المادة على القول بأنهم أرواح مجردة وهكذا وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا
بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً من الجهل وعمى القلب فلا يرون حقيقتك القدسية ولا يدركون منك إلا الصورة البشرية ، وإنما خص ذلك بوقت قراءة القرآن مع أنهم في كل وقت هم أجهل الخلق به صلّى اللّه عليه وسلّم لأن في ذلك الوقت يظهر إشراق أنوار الصفات عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا محجوبين إذ ذاك كانوا في غيره من الأوقات أحجب وأحجب وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً من الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية أَنْ يَفْقَهُوهُ فإن القرآن كلامه تعالى وهو أحد صفاته وإذا لم يعرفوا نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يعرفوه عز وجل وإذا لم يعرفوه سبحانه لم يعرفوا صفاته تعالى فلم يعرفوا كلامه سبحانه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً لرسوخ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 120
أوساخ التعلقات فيها يمنعهم عن سماع القراءة وهذا ناشىء من جهلهم بأفعاله تعالى وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لتشتت أهوائها وتفرق همهم في عبادة آلهتهم المتنوعة فلا تناسب الوحدة بواطنهم يَوْمَ يَدْعُوكُمْ للقيام من القبور فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ حامدين له تعالى مجده بلسان القال أو بلسان الحال حيث أظهر فيكم الحياة بعد الموت ونحو ذلك.
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ في القبور أو في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لذهولكم عن ذلك الزمان أو لاستقصاركم الدنيا بالنسبة إلى الآخرة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيه إشارة إلى أن المشيئة تابعة للعلم فمن علم سبحانه أهليته للرحمة شاء تعالى رحمته فرحمه ومن علم جل وعلا أهليته للعذاب شاء عذابه فعذبه ، ولا يخفى ما في تقديم شق مشيئته الرحمة من تقوية الأمل أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يطلب الأقرب منهم الوسيلة إلى اللّه تعالى فكيف بغير الأقرب والوسيلة في الأصل الواسطة التي يتوسل ويتقرب بها إلى الشيء وهي هنا الطاعة كما تقدم.
وقيل هي كرمه تعالى القديم وإحسانه عز وجل العميم ، وقيل هي الشفاعة يوم القيامة ، ولما كان مقام الوسيلة بهذا المعنى خاصا بنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم أطلقوا الوسيلة عليه الصلاة والسلام ، وفسرها بذلك هنا بعض الصوفية فكل من عبد من دون اللّه تعالى من عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام وسيلتهم إلى اللّه تعالى نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم بل هو عليه الصلاة والسلام وسيلة سائر الموجودات والواسطة بينهم وبين اللّه تعالى في إفاضته سبحانه الوجود وكذا سائر ما أفيض عليهم وأحظى الخلق بوساطته الأنبياء عليهم السلام فإنهم أشعة أنواره وعكوسات آثاره وهو النور الحق والنبي المطلق وكان نبيا وآدم بين الماء والطين وقد تلقى الأنبياء منه من وراء حجاب الأرحام والأصلاب وظهروا إذ كان محتجبا ظهور الكواكب في الليل فلما بزغت شمس النبوة المطلقة من أفق الظهور غابوا ونسخت أحكامهم على نحو غيبوبة الكواكب وانمحاق أنوارها وأضوائها عند طلوع الشمس من تحت الحجاب منخلعة عن الجلباب وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ لعلمهم بجماله وجلاله والرجاء والخوف جناحا من يطير إلى حضرة القدس وروضة الأنس ومن عطل أحدهما تعطل عن الطيران وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ إلى قوله سبحانه وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا فيه إشارة إلى اختلاف مراتب تمكن الشيطان من إغواء بني آدم فمن كان منهم ضعيف الاستعداد استفزه واستخفه بصوته فأغواه بوسوسة وهمس بل هاجسة ولمة ، ومن كان قوي الاستعداد فإن كان خالصا عن شوائب الغيرية أو عن شوائب الصفات النفسانية لم يتمكن من إغوائه وهذا هو المراد بقوله تعالى : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وإن لم يكن خالصا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية منهمكا في الأمور الدنيوية شاركه في أمواله وأولاده وحرضه على إشراكهم باللّه تعالى في المحبة وسول له
التمتع والتكاثر والتفاخر بهم ومناه الأماني الكاذبة وزين له الآمال الفارغة ، وإن لم ينغمس فإن كان عالما بتسويلاته أجلب عليه بخيله ورجله أي مكر بأنواع الحيل وكاده بصنوف الفتن وأفتاه بأن تحصيل أنواع الحطام والملاذ من جملة مصالح المعاش وغره بعلمه وحمله على الإعجاب به وأمثال ذلك حتى أضله على علم ، وإن لم يكن عالما بل كان عابدا متنسكا أغواه بالوعد وغره برؤية الطاعة وتزكية النفس وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ الآية قيل كرمهم تعالى بأن خلق أباهم آدم على صورة الرحمن وجعل لهم ذلك بحكم الوراثة وأن الولد سر أبيه وفضلهم على الكثير بأن جعل لهم من النعم ما يستغرق العد وجوز أن يقال : تكريمهم بأن بسط موائد الأنعام لهم وجعل من عداهم طفيليا ، وتفضيلهم بما ذكر في التكريم أولا وفيه احتمالات أخر يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي نناديهم بنسبتهم إلى من كانوا يقتدون به في الدنيا لأنه المستعلى محبتهم إياه على سائر محباتهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 121
أي من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ ويأخذون أجور أعمالهم المكتوبة فيه وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أدنى شيء حقير من ذلك وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى عن الاهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى أيضا وَأَضَلُّ سَبِيلًا لبطلان الكسب هناك وهذا الذي يؤتى كتابه بشماله أي من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه إلا أنه عبر عنه بما ذكر لما قدمنا ، واللّه تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل ، ثم إنه عز وجل لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة وانقسامهم إلى قسمين سعداء وأشقياء أتبع ذلك بذكر بعض مساوئ بعض الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة صلّى اللّه عليه وسلّم وفي ذلك إشارة إلى أنهم داخلون فيمن عمي عن الاهتداء في الدنيا دخولا أوليا فقال سبحانه وتعالى :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 إلى 111]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107)
وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 122
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ قيل نزلت في ثقيف قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحني في الصلاة وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فإن قالت العرب : لم فعلت ذلك؟ فقل : إن اللّه تعالى أمرني ، وروى ذلك الثعلبي عن ابن عباس
ولم يذكر له سندا.
وقال العراقي فيه : إنا لم نجده في كتب الحديث ونقله الزمخشري بزيادة ، ونقل غيره أنهم طلبوا ثلاث خصال عدم التجبية في الصلاة وكسر أصنامهم بأيديهم وتمتيعهم باللات سنة من غير أن يعبدوها بل ليأخذوا ما يهدى لها
فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود» وأما كسر أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاغية اللات فإني غير

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 123
ممتعكم بها» وقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : ما بالكم آذيتم رسول اللّه عليه الصلاة والسلام أنه لا يدع الأصنام في أرض العرب فما زالوا به حتى أنزل اللّه تعالى الآية.
وأخرج ابن أبي إسحق وابن مردويه وغيرهما عنه رضي اللّه تعالى عنه أن أمية بن خلف. وأبا جهل. ورجالا من قريش أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : تعال فتمسح بآلهتنا وندخل معك في دينك وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية إلى قوله سبحانه : نَصِيراً ، وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن باذان عن جابر بن عبد اللّه مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن قريشا أتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا له : إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقّاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك فنزلت
، وقيل : إنهم قالوا له عليه الصلاة والسلام : اجعل لنا آية رحمة آية عذاب. وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت.
وفي ذلك روايات أخر مختلفة أيضا وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ولا يكاد يؤول وذلك يدل على الوضع والتفسير لا يتوقف على شيء من ذلك ، وأيّا ما كان فضمير الجمع للكفار وهم إما ثقيف أو قريش ، وإِنْ مخففة من المثقلة واسمها ضمير شان مقدر واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها أي إن الشان قاربوا في ظنهم أن يوقعوك في الفتنة صار فيك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لتتقول علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك ثقيف من تحريم وج مثلا أو قريش من جعل آية الرحمة آية عذاب وبالعكس ، وقيل : المعنى لتحل محل المفتري علينا لأنك إن اتبعت أهواءهم أو همت أنك تفعل ذلك عن وحينا لأنك رسولنا فكنت كالمفتري.
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ليتخذنك صديقا لهم ، وكان المراد ليكونن بينك وبينهم مخالة وصداقة وهم أعداء اللّه تعالى فمخالتهم تقتضي الانقطاع عن ولايته عز وجل كما قيل :
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
وقيل : الخليل هذا من الخلة بمعنى الحاجة أي لاتخذوك فقيرا محتاجا إليهم وهو كما ترى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي لولا تثبيتنا إياك على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا من الركون الذي هو أدنى ميل ، وأصله الميل إلى ركن ، وذكروا. نه إذا أطلق يقع على أدنى الميل ، ونصب شَيْئاً على المصدرية أي لولا ذلك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك العصمة فمنعتك من أن تقرب أدنى الأدنى من الميل إليهم فضلا عن نفس الميل إليهم ، وهذا صريح في أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يهم بإجابتهم ولم يكد ، وبه يرد على من زعم أنه عليه الصلاة والسلام هم فمنعه نزول الآية وكأنه غره ظواهر بعض الروايات في بيان سبب النزول كرق في رواية ابن إسحاق ومن معه عن الحبر ولا يخفى أن في قوله سبحانه إِلَيْهِمْ دون إلى إجابتهم ما يقوي الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام بمعزل عن الإجابة في أقصى الغايات ، وهذا الذي ذكر في معنى الآية هو الظاهر المتبادر للأفهام وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كادوا أن يخبروا عنك أنك ركنت إليهم ونسب فعلهم إليه عليه الصلاة والسلام مجازا واتساعا كما تقول للرجل كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت وهو من الألغاز المستغنى عنه.
واستدل بالآية على أن العصمة بتوفيق اللّه تعالى وعنايته.
وقرأ قتادة وابن أبي إسحق وابن مصرف «تركن» بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهو على قراءة الجمهور

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 124
مضارع ركن بكسر الكاف ، وقيل : بفتحها أيضا وجعل ذلك من تداخل اللغتين إِذاً أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ أي مضاعف الحياة وهو صفة محذوف والإضافة على معنى في أو للملابسة أي عذابا مضاعفا في الحياة ، والمراد بها الحياة الدنيا لأنه المتبادر عند إطلاق لفظها وكذا يقال في قوله تعالى : وَضِعْفَ الْمَماتِ أي وعذابا ضعفا في الممات ، والمراد به ما يشمل العذاب في القبر وبعد البعث ، واستسهل بعض المحققين أن يكون التقدير من أول الأمر لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات وتكون الإضافة لامية والقرينة على تقدير العذاب لَأَذَقْناكَ والمعنى لو قاربت ما ذكرنا لنضاعفن لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا والعذاب المؤجل لهم بعد الموت.
وقيل المراد بالحياة حياة الآخرة وبعذاب الممات ما يكون في القبر وأمر الإضافة والتقدير على حاله ، والمعنى لو قاربت لنضاعفن لك عذاب القبر وعذاب يوم القيامة المدخرين للعصاة ، وفي هذه الشرطية إجلال عظيم بمكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتنبيه على أن الأقرب أشد خطرا وذلك أنه أوعد بضعف العذاب على مقاربة أدنى ركون وقد وضع عنا الركون ما لم يصدقه العمل ، ونظير ذلك من وجه ما جاء في نسائه عليه الصلاة والسلام من قوله تعالى : يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب : 30] وذكر في وجه مضاعفة جزاء خطأ الخطير أنه يكون سببا لارتكاب غيره مثله والاحتجاج به فكأنه سن ذلك وقد جاء «من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»
وعلى هذا يضاعف عذاب الخطير في خطئه أضعافا مضاعفة ، ولا يلزم من إثبات الضعف الواحد نفي الضعف المتعدد ، وقيل الضعف من أسماء العذاب وأنشدوا على ذلك قوله :
لمقتل مالك إذ بان مني أبيت الليل في ضعف أليم
وذكر بعضهم أن الضعف ليس من أسماء العذاب وضعا لكنه يعبر به عنه لكثرة وصف العذاب به كما في قوله تعالى : عَذاباً ضِعْفاً [الأعراف : 38 ، ص : 61] وزعم أن ذلك مراد القائل واللّه تعالى أعلم ، واللام في لَأَذَقْناكَ ولَاتَّخَذُوكَ لام القسم على ما نص عليه الحوفي ، والماضي في الموضعين واقع موقع المضارع الدال عليه اللام ، والنون على ما نص عليه أبو حيان وأشرنا إليه فيما سبق ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يدفع العذاب أو يرفعه عنك ،
روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى : وَإِنْ كادُوا إلى هنا قال صلّى اللّه عليه وسلّم : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين
، وينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها وأن يستشعر الخشية وازدياد التصلب في دين اللّه تعالى ويقول كما قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وَإِنْ كادُوا أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ أي الأرض التي أنت فيها وهي أرض مكة لِيُخْرِجُوكَ أي ليتسببوا إلى خروجك مِنْها وكان هذا الاستفزاز بما فعلوا من حصره صلّى اللّه عليه وسلّم في الشعب والتضييق عليه عليه الصلاة والسلام ووقع ذلك بعد نزول الآية كما في البحر وصار سببا لخروجه صلّى اللّه عليه وسلّم مهاجرا.
وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ أي إن استفزوك فخرجت لا يبقون خِلافَكَ أي بعدك وبه قرأ عطاء بن رباح واستحسن أنها تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف وأنشدوا :
عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا
وقرأ أهل الحجاز وأبو بكر وأبو عمرو «خلفك» بغير ألف والمعنى واحد واللفظان في الأصل من الظروف المكانية فتجوز فيهما واستعملا للزمان وقد اطرد إضافتهما كقبل وبعد إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله أي لا يلبثون خلف استفزازك وخروجك إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا ، وجوز أن يكون التقدير إلا لبثا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 125
قليلا والمعنيان متقاربان ، واختير التقدير الأول لأن التوسع أعني إقامة الوصف مقام الموصوف بالظروف أشبه ، وهذا وعيد لهم بإهلاك مجموعهم من حيث هو مجموع بعد خروجه صلّى اللّه عليه وسلّم بقليل وتحقق بإفناء البعض في بدر لا سيما وقد كانوا صناديدهم والرؤوس ، وأنت تعرف أن معظم الشيء يقام مقام كله ، وكان الزمان القليل على ما روى ابن أبي حاتم عن السدي ثمانية عشر شهرا ، ويجوز أن يفسر الإخراج بالإكراه على الخروج والوعيد بإهلاك كل واحد منهم أي لو أخرجوك لاستؤصلوا على بكرة أبيهم لكن لم يقع المقدم لأن الإكراه على الخروج مباشرة وقد خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مهاجرا بأمر ربه عز وجل فلم يقع التالي وهذا هو التفسير المروي عن مجاهد قال : أرادت قريش ذلك ولم تفعل لأنه سبحانه أراد استبقاءها وعدم استئصالها ليسلم منها ومن أعقابها من يسلم فأذن لرسوله عليه الصلاة والسلام بالهجرة فخرج بإذنه لا بإخراج قريش وقهرهم ، والإخراج في قوله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد : 13] محمول على المعنى الأول ، وكذا في قول ورقة : يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك وقوله عليه الصلاة والسلام «أو مخرجيّ هم»
فلم تتضمن الآية وكذا الخبر إثبات إخراج قلنا بنفيه هنا ، والقول بأنه يلزم على هذا التناقض بين هذه الآية والآية السابقة بناء على تفسير الإخراج فيها بالتسبب إلى الخروج لأن كاد تدل على مقاربته لا حصوله وهذه الآية دلت على حصوله مجاب عنه بأن قصارى ما دلت عليه الآية السابقة على التفسير الأول قرب حصول الاستفزاز منهم ليتسببوا به إلى خروجه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه لم يكن حاصلا وقت نزول الآية لا أنه لا يكون حاصلا أبدا ليناقض حصوله بعد. وحكى الزجاج أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد من الأرض وجه البسيطة مطلقا ، وقال أبو حيان : المراد ما على هذا الدنيا ، وقيل ضمير كادُوا وما بعده لليهود ،
فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم قال : إن اليهود أتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما قالوا فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل اللّه تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ - إلى - تَحْوِيلًا
وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث ، وفي رواية أنهم قالوا : يا أبا القاسم إن الشام أرض مقدسة وهي أرض الأنبياء فلو خرجت إليها لآمنا بك وقد علمنا أنك تخاف الروم فإن كنت نبيا فاخرج إليها فان اللّه تعالى سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فخرج عليه الصلاة والسلام بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت هذه الآية
فرجع صلّى اللّه عليه وسلّم ثم إنه عليه الصلاة والسلام قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل. وتعقب بأنه ضعيف لم يقع في سيرة ولا كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة وكيفما كان يكون المراد من الأرض عليه المدينة ، وقيل أرض العرب ، وكأن من ذهب إلى أن هذه الآية مدنية يستند إلى ما ذكر من الروايات ، وقد صرح الخفاجي بأن هذا المذهب غير مرضي واللّه تعالى أعلم.
وقرأ عطاء «لا يلبّثون» بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة. وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء وقرأ أبي «وإذا لا يلبثوا» بحذف النون وكذا في مصحف عبد اللّه ، وتوجيه الإثبات والحذف أن النحويين عدوا من جملة شروط عمل إذن كونها في أول الجملة فعلى قراءة الحذف تكون الجملة معطوفة على جملة لَيَسْتَفِزُّونَكَ وهي خبر كاد فيكون الشرط منخرما لتوسطها حينئذ في الكلام لكون ما بعدها خبر كاد كالمعطوف هو عليه ، وعلى قراءة الإثبات تكون الجملة معطوفة على جملة وَإِنْ كادُوا فيتحقق الشرط والعطف لا يضر في ذلك ، ووجه أبو حيان الإهمال بأن لا يَلْبَثُونَ جواب قسم محذوف أي واللّه إن استفزوك فخرجت لا يلبثون وقد توسطت إذا بين القسم المقدر والفعل فأهملت ثم قال ويحتمل أن يكون لا يلبثون خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره وهم إذا لا يلبثون

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 126
فتكون إذا واقعة بين المبتدأ وخبره ولذلك ألغيت وكلا التوجيهين ليس بوجيه كما لا يخفى.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا نصب على المصدرية أي سننّا سنة من إلخ وهي أن لا ندع أمة تستفز رسولها لتخرجه من بين ظهرانيها تلبث بعده إلا قليلا فالسنة للّه عز وجل وأضيفت للرسل عليهم السلام لأنها سنت لأجلهم ، ويدل على ذلك قوله سبحانه وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا حيث أضاف السنة إليه تعالى ، وقال الفراء :
انتصب سُنَّةَ على إسقاط الخافض أي كسنة فلا يوقف على قوله تعالى : قَلِيلًا فالمراد تشبيه حاله صلّى اللّه عليه وسلّم بحال من قبله لا تشبيه الفرد بفرد من ذلك النوع وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به لفعل محذوف أي اتبع سنة إلخ كما قال سبحانه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام : 90] والأنسب بما قبل ما قبل ، وكأنه اعتبر الأوامر بعد وهو خلاف ما عليه عامة المفسرين ، والتحويل التغيير أي لا تجد لما أجرينا به العادة تغييرا أي لا يغيره أحد.
والمراد من نفي الوجدان هنا وفيما أشبهه نفي الوجود ودليل نفي وجود من يغير عادة اللّه تعالى أظهر من الشمس في رابعة النهار ، وللإمام كلام في هذا المقام لا يخلو عن بحث ، ثم أنه تعالى بعد أن ذكر كيد الكفار وسلى نبيه عليه الصلاة والسلام بما سلى أمره أن يقبل على شأنه من عبادة ربه تعالى شأنه ووعده بما يغبطه عليه كل الخلق ويتضمن ذلك إرشاده إلى أن لا يشغل قلبه بهم أو أنه سبحانه بعد أن قدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات أمر بأشرف العبادات بعد الإيمان وهي الصلاة فقال جل وعلا أَقِمِ الصَّلاةَ أي المفروضة
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لزوالها عن دائرة نصف النهار وهو المروي عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس في رواية ، وأنس وأبي برزة الأسلمي والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد ، ورواه الإمامية عن أبي جعفر. وأبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما
وخلق آخرين ، وأخرج ابن جرير. وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في تفسيره. والبيهقي في المعرفة عن أبي مسعود عقبة بن عامر قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر
، وقيل لغروبها «1» وهو المروي عندنا عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
،
وأخرجه ابن مردويه والطبراني والحاكم وصححه ، وغيرهم عن ابن مسعود ، وابن المنذر وغيره عن ابن مسعود ، وروى عن زيد بن أسلم والنخعي والضحاك والسدي ، وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة ، وأنشد لذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالأفلاك الدوالك
وأصل مادة د ل ك تدل على الانتقال ففي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها وكذا في الدلك المعروف انتقال اليد من محل إلى آخر بل كل ما أوله دال ولام مع قطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج بالجيم من الدلجة وهي سير الليل وكذا دلج بالدلو إذا مشى بها من رأس البئر للمصب ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه ودلف بالفاء إذا مشى مشية المقيد وبالقاف إذا أخرج المائع من مقره ووله إذا ذهب عقله وفيه انتقال معنوي إلى غير ذلك ، وهذا المعنى يشمل كلا المعنيين السابقين وإن قيل إن الانتقال في الغروب أتم لأنه انتقال من مكان إلى مكان ومن ظهور إلى خفاء وليس في الزوال إلا الأول ، وقيل إن الدلوك مصدر مزيد مأخوذ من المصدر المجرد أعني الدلك المعروف وهو أظهر في الزوال لأن من نظر إلى الشمس حينئذ يدلك عينه ويكون على هذا في دلوك الشمس تجوز عن دلوك ناظرها ، وقد يستأنس في ترجيح القول الأول مع ما سبق بأن أول صلاة صلاها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهار ليلة الإسراء الظهر ، وقد صح أن
___________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 127
جبريل عليه السلام ابتدأ بها حين علم النبي عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة في يومين ، وقال المبرد : دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها فالأمر بإقامة الصلاة لدلوكها أمر بصلاتين الظهر والعصر ، وعلى القولين الآخرين أمر بصلاة واحدة الظهر أو العصر ، واللام للتاقيت متعلقة بأقم وهي بمعنى بعد كما في قول متمم بن نويرة يرثي أخاه :
فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا وتكون بمعنى عند أيضا ، وقال الواحدي : هي للتعليل لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي إلى شدة ظلمته كما قال الراغب وغيره وهو وقت العشاء.
وأخرج ابن الأنباري في الوقف عن ابن عباس أن نافع بن الأرزق قال له : أخبرني ما الغسق؟ فقال : دخول الليل بظلمته وأنشد قول زهير بن أبي سلمى :
ظلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق
وقال النضر بن شميل : غسق الليل دخول أوله ، قال الشاعر :
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وهو عنده وقت المغرب ، وروي ذلك عن مجاهد ، وأصله من السيلان يقال غسقت العين تغسق إذا هملت بالماء كأن الظلمة تنصب على العالم ، وقيل : المراد من غسق الليل ما يعم وقتي المغرب والعشاء وهو ممتد إلى الفجر كما أن المراد بدلوك الشمس ما يعم وقتي الظهر والعصر ففي الآية بدخول الغاية تحت المعيا وبضم ما بعد إشارة إلى أوقات الصلوات الخمس ، واختاره جماعة من الشيعة واستدلوا بها على أن وقت الظهر موسع إلى غروب الشمس ووقت المغرب موسع إلى انتصاف الليل وهي أحد أدلة الجمع في الحضر بلا عذر الذي ذهبوا إليه وأبدوا ذلك مما
رواه العياشي بإسناده عن عبيدة ، وزرارة عن أبي عبد اللّه أنه قال في هذه الآية : إن اللّه تعالى افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه ومنها صلاتان أول وقتهما غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه وهو مرتضى المرتضى في أوقات الصلاة
، والمعتمد عليه عند جمهور المفسرين أن دلوك الشمس وقت الظهر وغسق الليل وقت العشاء كما ينبىء عنه إقحام الغسق وعدم الاكتفاء بإلى الليل ، والجار والمجرور متعلق بأقم ، وأجاز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من الصلاة أي ممدودة إلى الليل والأول أولى وليس المراد بإقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة التي لم يروها - من شهد - أحد من الأئمة الطاهرين بزندقتهم ونجاسة بواطنهم كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه الصلاة والسلام ، ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلاة من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم عادة ينقطع أحدهما عن الآخر ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات ، ثم إن المستدل من الشيعة بالآية لا يتم له الاستدلال بها على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر ، وبين صلاتي المغرب والعشاء ما لم يضم إلى ذلك شيئا من الأخبار فإنها إذا لم يضم إليها ذلك أولى بأن يستدل بها على جواز الجمع بين الأربعة جميعها لا بين الاثنتين والاثنتين ولا يخفى ما في الاستدلال بها على هذا المطلب ولذا لم يرتضه أبو جعفر منهم ، نعم ما ذهبوا إليه مما يؤيده ظواهر بعض الأحاديث الصحيحة
كحديث ابن عباس وهو في صحيح مسلم صلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الظهر والعصر جمعا بالمدينة
،

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 128
وفي رواية أنه صلّى اللّه عليه وسلّم صلى ثمانيا جميعا وسبعا جميعا من غير خوف ولا سفر.
واختلف في تأويله فمنهم من أوله بأنه جمع بعذر المطر والجمع بسبب ذلك تقديما وتأخيرا مذهب الشافعي في القديم وتقديما فقط في الجديد بالشرط المذكور في كتبهم ، وخص مالك جواز الجمع بالمطر في المغرب والعشاء ، وهذا التأويل مشهور عن جماعة من الكبار المتقدمين وهو ضعيف لما في صحيح مسلم عنه أيضا جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر ، وكون المراد ولا مطر كثير لا يرتضيه ذو إنصاف قليل والشذوذ غير مسلم ، ومنهم من أوله بأنه كان في غيم فصلى صلّى اللّه عليه وسلّم الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن أول وقت العصر دخل فصلاها ، وفيه أنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر إلا أنه لا احتمال في المغرب والعشاء ، ومنهم من أوله بأنه عليه الصلاة والسلام أخر الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت الصورة صورة جمع ، وفيه أنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ، ويرده أيضا ما صح عن عبد اللّه بن شقيق قال : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة فجاء رجل من بني تميم فجعل لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة فقال ابن عباس : أتعلمني بالسنة لا أم لك رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال عبد اللّه بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته ، ومنهم من قال : هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار وهذا قول الإمام أحمد والقاضي حسين من
الشافعية واختاره منهم الخطابي والمتولي والروياني.
وقال النووي : هو المختار في التأويل ومذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام الشافعي ، وعن أبي إسحق المروزي ، وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر ما
صح عن ابن عباس ورواه مسلم أيضا أنه لما قال : جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر قيل له : لم فعل ذلك؟ فقال : أراد أن لا يخرج أحدا من أمته وهو من الحرج
بمعنى المشقة فلم يعلله بمرض ولا غيره ، ويعلم مما ذكرنا أن قول الترمذي في آخر كتابه ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ناشىء من عدم التتبع. نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنه حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه.
وقال ابن الهمام : إن حديث ابن عباس معارض بما
في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى»
وللبحث في ذلك مجال.
ومذهب الإمام أبي حنيفة عدم جواز جمع صلاتي الظهر والعصر في وقت إحداهما والمغرب والعشاء كذلك مطلقا إلا بعرفات فيجمع فيها بين الظهر والعصر بسبب النسك وإلا بمزدلفة فيجمع فيها بين المغرب والعشاء بسبب ذلك أيضا واستدل بما استدل. وفي الصحيحين وسنن أبي داود وغيره ما لا يساعده على التخصيص ، وأنت تعلم أن الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام رضي اللّه تعالى عنه فالمحتاط لا يخرج صلاة الظهر مثلا عن وقتها المتيقن الذي لا خلاف فيه إلى وقت فيه خلاف ، وقد صرح غير واحد بأنه إذا وقع التعارض يقدم الأحوط وتعارض الأخبار في هذا الفصل مما لا يخفى على المتتبع ، هذا وزعم بعضهم أن المراد بالصلاة المأمور بإقامتها صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدأ وقتها ومنتهاه على أن الغاية خارجة واستدل به على امتداده إلى غروب الشفق وهو خلاف ما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 129
ذهب إليه الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه في الجديد من أنه ينقضي بمضي قدر زمن وضوء وغسل وتيمم ، وطلب خفيف وإزالة خبث مغلظ يعم البدن والثوب والمحل وستر عورة واجتهاد في القبلة وأذان وإقامة وألحق بهما سائر سنن الصلاة المتقدمة كتعمم وتقمص ومشي لمحل الجماعة وأكل جائع حتى يشبع وسبع ركعات ولعل الزمان الذي يسع كل هذا يزيد على زمن ما بين غروب الشمس وغروب الشفق أي شفق كان في أكثر الإعراض ، ثم لا يخفى أنه إذا كان المراد من غسق الليل وقت العشاء وفسر الغسق باجتماع الظلمة وشدتها كان ذلك مؤيدا لما في ظاهر الرواية عن الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه من أن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق بمعنى البياض الذي يعقب الخمرة في الأفق الغربي لأن الظلمة لا تجتمع ولا تشتد ما لم يغب ، ولا يأبى ذلك أن الأحاديث الصحيحة صريحة في أن أول وقتها حين يغيب الشفق وهو اللغة الحمرة المعلومة لأن تفسيره بالبياض قد جاء أيضا ، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر ومعاذ بن جبل وعائشة رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين ، ورواه عبد الرازق عن أبي هريرة وعن عمر بن عبد العزيز ، وبه قال الأوزاعي والمزني وابن المنذر والخطابي ، واختاره المبرد وثعلب ، وما
رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «أول وقت العشاء حين يغيب الأفق»
ظاهر في كون الشفق البياض إذ لا غيبوبة للأفق إلا بسقوطه نعم ذهب صاحباه إلى أنه الحمرة وهو «1» قول ابن عباس وابن عمر رضي اللّه تعالى عنهم ، ورواه أسد بن عمرو عن الإمام أيضا لكنه خلاف ظاهر الرواية عنه ، والصحيح المفتي به عندنا ما جاء في ظاهر الرواية ، وقد نص على ذلك المحقق ابن الهمام والعلامة قاسم وابن نجيم وغيرهما ، وما قاله الإمام أبو المفاخر من أن الإمام رجع إلى قولهما وقال إنه الحمرة لما ثبت عنده من حمل عامة الصحابة إياه على ذلك وعليه الفتوى وتبعه المحبوبي وصدر الشريعة ليس بشيء لأن الرجوع لم يثبت ودون إثباته مع نقل الكافة عن الكافة خلافه خرط القتاد ، وكذا دعوى حمل عامة الصحابة خلاف المنقول كما سمعت حتى أن البيهقي لم يرو أن الشفق الحمرة إلا عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما.
وما
رواه الدار قطني عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «الشفق الحمرة فإذا غاب وجبت الصلاة»
قال البيهقي والنووي فيه الصحيح أنه موقوف على ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ومثل هذا الاختلاف الاختلاف في أول وقت العصر فقال الإمام : هو إذا صار ظل كل شيء مثليه بعد ظل الزوال وقالا : إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال ، وفتوى المحققين على قوله رحمة اللّه تعالى عليه بل قال ابن نجيم : إن الإفتاء بغيره لا يجوز وقد أطال الكلام في ذلك في رسالته رفع الغشاء عن وقتي العصر والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ عطف على مفعول «أقم» أو نصب على الإغراء كما قال الزجاج وأبو البقاء والجمهور على الأول ، والمراد بقرآن الفجر صلاته كما روي عن ابن عباس ومجاهد ، وسميت قرآنا أي قراءة لأنها ركنها كما سميت ركوعا وسجودا وهذه حجة على ابن علية. والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن في الصلاة قاله في الكشاف ورد بأن ذلك لا يدل على الركنية لجواز كون مدار التجوز كون القراءة مندوبة فيها وفي الكشف أنه مدفوع بأن العلاقة المعتبرة في إطلاق غير الصلاة وإرادة الصلاة هي علاقة الكل والجزء بدليل النظائر وهاهنا إذ ورد تجوزا فحمله على معلوم النظير من الاستقراء واجب على أن الندبية لا تصلح علاقة معتبرة إلا بالتكلف ، وجعل ، سبح بمعنى صلى لأن التسبيح بمعنى التنزيه البالغ والمصلى مسبح قولا بقراءة الفاتحة بل بالتكبير الواجب بالاتفاق وفعلا أيضا بالركوع والسجود مثلا الدالين على كمال التعظيم والتبجيل فهو الركن كله لا لأن التسبيح بمعنى
___________
(1) أي في رواية اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 130
قول سبحان اللّه ليقال تجوز عن الصلاة بما هو مندوب فيها. وتعقب بأن الاكتفاء بعلاقة الندبية التي يقول بها الأصم وابن علية لا تكلف فيه فإن القرآن جزء من الصلاة الكاملة فيكون ذلك كالنظائر بلا ضرر ولا ضير ، وبأن مذهبهما في التكبير غير معلوم فدعوى الاتفاق غير مسلمة منه ولو كان كما ذكره لكان الوجوب كافيا في علاقة أخرى وهي اللزوم وفيه بحث ، وأبقى الجصاص القرآن على حقيقته وقال في الآية دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر لأن التقدير فيها وأقم قرآن الفجر والأمر للوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة وزعم أن كون المعنى صلوا الفجر غلط من وجهين الأول أنه صرف عن الحقيقة بغير دليل ، والثاني أن فَتَهَجَّدْ بِهِ فيما بعد يأباه إذ لا معنى للتهجد بصلاة الفجر ، وفيه أن الدليل قائم وهو أَقِمِ لاشتهار أَقِمِ الصَّلاةَ دون أقم القراءة وضمير بِهِ فيما بعد يجوز أن يرجع إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى ثم متى دلت الآية على وجوب القراءة في صلاة الفجر نصا كان ثبوت وجوبها في غيرها من الصلاة قياسا ، وذكر بعضهم أن في التعبير عن صلاة الفجر بخصوصها بما ذكر إشارة إلى أنه يطلب فيها من تطويل القراءة ما لم يطلب في غيرها وهو حسن ، وقال الإمام : إن في الآية دلالة على أنه يسن التغليس في صلاة الفجر لأنه أضيف فيها القرآن إلى الفجر على معنى أقم قرآن الفجر والأمر للوجوب والفجر أول طلوع الصبح لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح حينئذ ولذلك سمي الفجر فجرا فيقتضي ذلك وجوب إقامة صلاة الفجر أول الطلوع وحيث أجمع على عدم وجوب ذلك بقي الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب كالإجماع هنا وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تقل مخالفة الدليل.
وأنت تعلم ما للعلماء من الخلاف في الباقي بعد رفع الوجوب ، وما ذكر قول في المسألة لكنه لا يفيد المطلوب لأن صلاة الفجر اسم للصلاة المخصوصة سواء وقعت بغلس أم اسفار ، والأخبار الصحيحة تدل على سنية الأسفار بها
كخبر الترمذي وهو كما قال : حسن صحيح «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر»
وحمله على تبين الفجر حتى لا يكون شك في طلوعه ليس بشيء إذ ما لم يتبين لا يحكم بجواز الصلاة فضلا عن إصابة الأجر المفاد بآخر الخبر ولو حمل أعظم فيه على عظيم ورد أن المناسب في التعليل فإنه لا تصح الصلاة بدونه على أنه على ما فيه ينفيه رواية الطحاوي أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم الأجر أو لأجوركم أو كما قال ، وروي بسنده الصحيح عن إبراهيم قال : ما اجتمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على شيء ما اجتمعوا على التنوير ، ومحال نظرا إلى علو شأنهم أن يجتمعوا على خلاف ما فارقهم عليه حبيبهم رسول اللّه عليه الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود وما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلى صلاة لميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها مع أنه كان بعد الفجر كما يفيده لفظ البخاري
فيكون المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه ، والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتاد التغليس إلا أنه فعله يومئذ ليمتد الوقوف ، ونحن نقول بسنيته بفجر جمع لهذا الحديث.
وخبر عائشة رضي اللّه تعالى عنها «كان صلّى اللّه عليه وسلّم يصلي الصبح بغلس فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس»
حمل الغلس فيه بعض أصحابنا على غلس داخل المسجد ، ويأباه قولها : ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس إذ لا يمكن حمل هذا الغلس المانع من معرفتهن في طريق رجوعهن إلى بيوتهن على غلس داخل المسجد ، وكون المراد ما يعرفهن أحد في داخل المسجد من الغلس خلاف الظاهر على تقدير جعل الجملة حالا من ضمير يرجعن.==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...