الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج17.وج18.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

17. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 418
غير صادر منهن مجازفة بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه ، وصح اللوم على الشغف قيل : لأنه اختياري باعتبار مباديه كما يشير إليه قوله :
مازحته فعشقته والعشق أوله مزاح
وإلّا فما ليس باختياري لا ينبغي اللوم عليه كما أشار إليه البوصيري بقوله :
يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلم
وقيل : اللوم عليه باعتبار الاسترسال معه وترك علاجه فإنهم صرحوا بأن ذلك من جملة الأدواء ، وذكروا له من المعالجة ما ذكروا ، ومن أحسن ما ذكر له من ذلك تذكر مساوئ المحبوب والتفكر في عواقبه فقد قيل :
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه
وتمام الكلام في هذا المقام يطلب في محله فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي باغتيابهن وسوء مقالتهن ، وتسمية ذلك مكرا لشبهه له في الإخفاء ، وقيل : كانت استكتمتهن سرها فأفشينه وأطلعن على أمرها ، وقيل : إنهن قصدن بتلك المقالة إغضابها حتى تعرض عليهن يوسف لتبدي عذرها فيفزن بمشاهدته والمكر على هذين القولين حقيقة أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهن ، قيل : دعت أربعين امرأة منهن الخمس أو الأربع المذكورات ، وروي ذلك عن وهب ، والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها وَأَعْتَدَتْ أي هيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد كما روي عن ابن عباس ، وهو من الاتكاء الميل إلى أحد الشقين ، وأصله موتكأ لأنه من توكأت فأبدلت الواو تاء وأدغمت في مثلها ، وروي عن الحبر أيضا أن المتكأ مجلس الطعام لأنهم كانوا يتكؤون له كعادة المترفين المتكبرين ، ولذلك نهي عنه ،
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن جابر رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله وأن يأكل متكئا ،
وقيل : أريد به نفس الطعام قال العتبي : يقال : اتكأنا عند فلان أي أكلنا ومن ذلك قول جميل :
فظللنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله
وهو على هذا اسم مفعول أي متكئا له أو مصدر أي اتكاء ، وعبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف عن ذلك مجازا ، وقيل : هو من باب الكناية ، وعن مجاهد أنه الطعام يحز حزا بالسكين واختلفوا في تعيينه ، فقيل : كان لحما وكانوا لا ينهشون اللحم وإنما يأكلونه حزا بالسكاكين ، وقيل : كان أترجا ، وموزا ، وبطيخا ، وقيل : الزماورد وهو الرقاق الملفوف باللحم وغيره أو شيء شبيه بالأترج ، وأنه إنما سمي ما يقطع بالسكين بذلك لأن عادة من يقطع شيئا أن يعتمد عليه فيكون متكأ عليه ، وقرأ الزهري ، وأبو جعفر ، وشيبة - متكي - مشدد التاء من غير همز بوزن متقي وهو حينئذ إما أن يكون من الاتكاء وفيه تخفيف الهمزة كما قالوا في توضأت : توضيت ، أو يكون مفتعلا من أو كيت السقاء إذا شددته بالوكاء والمعنى اعتدت لهن ما يشتد عليه بالاتكاء أو بالقطع بالسكين ، وقرأ الأعرج متكئا على وزن مفعلا من تكأ يتكأ إذ اتكأ ، وقرأ الحسن ، وابن هرمز متكئا بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلّا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف وهو كثير في كلامهم ، ومنه قوله :
وأنت من الغوائل حين ترمي وعن ذم الرجال بمنتزاح
وقوله :
ينباع من ذفرى عضوب حسرة زيافة مثل الفنيق المكرم «1»
___________
(1) ومنه قوله أعوذ باللّه من العقراب الشائلات عقد الأذناب ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 419
وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وقتادة ، وآخرون «1» بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وجاء ذلك عن ابن هرمز أيضا ، وهو الأترج - عند الأصمعي ، وجماعة - والواحد متكة ، وأنشد :
فأهدت متكة لبني أبيها تخب بها العثمثمة الوقاح
وقيل : هو اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين - كالأترج ، وغيره - من الفواكه ، وأنشد :
نشرب الإثم بالصواع جهارا ونرى المتك بيننا مستعارا
وهو من متك الشيء بمعنى بتكه أي قطعه ، وعن الخليل تفسير المتك مضموم الميم بالعسل ، وعن أبي عمرو تفسيره بالشراب الخالص ، وحكى الكسائي تثليث ميمه ، وفسره بالفالوذج ، وكذا حكى التثليث المفضل لكن فسره بالزماورد ، وذكر أنه بالضم المائدة أو الخمر في لغة كندة ، وبالفتح قرأ عبد اللّه ، ومعاذ رضي اللّه تعالى عنهما ، وفي الآية على سائر القراءات حذف أي فجئن وجلسن وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً.
وقال بعض المحققين : لا يبعد أن تسمى هذه الواو فصيحة ، وإنما أعطت كل واحدة ذلك لتستعمله في قطع ما يعهد قطعه مما قدم بين أيديهن وقرب إليهن ، وغرضها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن لتبكتهنّ بالحجة.
وقيل : غرضها ذاك والتهويل على يوسف عليه السّلام من مكرها إذا أخرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن الخناجر توهمه أنهن يثبن عليه فيكون خائفا من مكرها دائما فلعله يجيبها إلى مرادها ، والسكين مذكر عند السجستاني قال : وسألت أبا زيد الأنصاري ، والأصمعي ، وغيرهم ممن أدركناه فكلهم يذكره وينكر التأنيث فيه ، وعن الفراء أنه يذكر ويؤنث ، وذلك حكي عن اللحياني ، ويعقوب ، ومنع بعضهم أن يقال : سكينة ، وأنشد عن الكسائي ما يخالف ذلك وهو قوله :
الذئب سكينته في شدقه ثم قرابا نصلها في حلقه
وَقالَتِ ليوسف عليه السلام وهن مشغولات بمعالجة السكاكين وإعمالها فيما بأيديهن ، والعطف بالواو ربما يشير إلى أن قوله : اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أي ابرز لهن لم يكن عقيب ترتيب أمورهنّ ليتم غرضها بهن.
والظاهر أنها لم تأمره بالخروج إلّا لمجرد أن يرينه فيحصل مرامها ، وقيل : أمرته بالخروج عليهن للخدمة أو للسلام ، وقد أضمرت مع ذلك ما أضمرت يحكى أنها ألبسته ثيابا بيضا في ذلك اليوم لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض فَلَمَّا رَأَيْنَهُ عطف على مقدر يستدعيه الأمر بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه ، وإنما حذف على ما قيل : تحقيقا لمفاجأة رؤيتهن كأنها تفوت عند ذكر خروجه عليهن «2» ، وفيه إيذان بسرعة امتثاله عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرته من الأفاعيل ، ونظير هذا آت كما مر آنفا أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه ودهشن برؤية جماله الفائق الرائع الرائق ، فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وأخرج ابن جرير ، وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال : رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر ،
وحكي أنه عليه السلام كان إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس ،
وجاء عن الحسن أنه أعطي ثلث الحسن ،
وفي رواية عن أنس مرفوعا أنه عليه السلام أعطي هو وأمه شطر
___________
(1) منهم الضحاك والجحدري والكلبي وأبان ا ه منه.
(2) كما حذف لتحقيق السرعة في قوله تعالى : فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 420
الحسن «1»
وتقدم خبر أنه عليه السلام كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن معنى أكبرن حضن ، ومن ذلك قوله :
يأتي النساء على أطهارهن ولا يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
وكأنه إنما سمي الحيض إكبارا لكون البلوغ يعرف به فكأنه يدخل الصغار سن الكبر فيكون في الأصل كناية مجازا ، والهاء على هذا إما ضمير المصدر فكأنه قيل : أكبرن إكبارا ، وإما ضمير يوسف عليه السلام على إسقاط الجار أي حضن لأجله من شدّة شبقهن ، والمرأة كما زعم الواحدي إذا اشتدّ شبقها حاضت ومن هنا أخذ المتنبي قوله :
خف اللّه واستر ذا الجمال ببرقع إذا لحت حاضت في الخدور العوائق
وقيل : إن الهاء للسكت ، ورد بأنها لا تحرك ولا تثبت في الوصل ، وإجراء الوصل مجرى الوقف وتحريكها تشبيها لها بالضمير كما في قوله :
وأحر قلباه ممن قلبه شبم على تسليم صحته ضعيف في العربية واعترض في الكشف التخريجين الأولين فقال : إن نزع الخافض ضعيف لأنه إنما يجري في الظروف والصفات والصلات ، وذلك لدلالة الفعل على مكان الحذف ، وأما في مثل هذا فلا ، والمصدر ليس من مجازه إذ ليس المقام للتأكيد ، وزعم أن الوجه هو الأخير ، وكل ما ذكره في حيز المنع كما يخفى.
وأنكر أبو عبيدة مجيء أكبرن بمعنى حضن ، وقال : لا نعرف ذلك في اللغة ، والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر ، ونقل مثل ذلك عن الطبري ، وابن عطية ، وغير واحد من المحققين ، ورواية ذلك عن ابن عباس إنما أخرجها ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد ، وهو - وإن روى ذلك عن أبيه علي عن أبيه ابن عباس - لا يعول عليه فقد قالوا : إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم.
وعن الكميت الشاعر تفسير أكبرن بأمنين ، ولعل الكلام في ذلك كالكلام فيما تقدم تخريجا وقبولا ، وأنا لا أرى الكميت من خيل هذا الميدان وفرسان ذلك الشان وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهاج الاختيار حتى لم يعلمن بما عملن ولم يشعرن بمألم ما نالهن ، وهذا كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي ، وهو معنى حقيقي للتقطيع عند بعض.
وفي الكشف إنه معنى مجازي على الأصح ، والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات ، وإما بالنسبة لكثرة القطع في يد كل واحدة منهن.
وأخرج ابن المنذر ، وغيره عن مجاهد أنه فسر التقطيع بالإبانة ، والمعنى الأول أسرع تبادرا إلى الذهن ، وحمل الأيدي على الجوارح المعلومة مما لا يكاد يفهم خلافه ، ومن العجيب ما روي عن عكرمة من أن المراد بها الأكمام ، وأظن أن منشأ هذا محض استبعاد وقوع التقطيع على الأيدي بالمعنى المتبادر ، ولعمري لو عرض ما قاله على أدنى الأفهام لاستبعدته وَقُلْنَ تنزيها للّه سبحانه عن صفات التقصير والعجز وتعجبا من قدرته جلّ وعلا على مثل ذلك الصنع البديع حاشَ لِلَّهِ أصله حاشا اللّه بالألف كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا ، وهو
___________
(1) قيل : إنه عليه السلام ورث الجمال من جدته سارة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 421
على ما قيل : حرف وضع للاستثناء والتنزيه معا ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء ولم ينون مراعاة لأصله المنقول عنه ، وكثيرا ما يراعون ذلك ألا تراهم قالوا : جلست من عن يمينه؟ فجعلوا - عن - اسما ولم يعربوه ، وقالوا : غدت من عليه فلم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاة كل ذلك مراعاة للأصل ، واللام للبيان فهي متعلقة بمحذوف ، ورد في البحر دعوى إفادته التنزيه في الاستثناء بأن ذلك غير معروف عند النحاة ، ولا فرق بين قام القوم إلّا زيدا ، وحاشا زيدا ، وتعقب بأن عدم ذكر النحاة ذلك لا يضر لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم ، واعترض بعضهم حديث النقل بأن الحرف لا يكون اسما إلّا إذا نقل وسمي به وجعل علما ، وحينئذ يجوز فيه الحكاية والإعراب ، ولذا جعله ابن الحاجب اسم فعل بمعنى برىء اللّه تعالى من السوء ، ولعل دخول اللام كدخولها في هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ، وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل : إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر وهو المنقول عن الزجاج ، نعم ذهب المبرد ، وأبو علي ، وابن عطية ، وجماعة إلى أنه فعل ماض بمعنى جانب ، وأصله من حاشية الشيء وحشيه أي جانبه وناحيته ، وفيه ضمير يوسف واللام للتعليل متعلقة به أي جانب يوسف ما قرف به للّه تعالى أي لأجل خوفه ومراقبته ، والمراد تنزيهه وبعده كأنه صار في جانب عما اتهم به لما رؤي فيه من آثار العصمة وأبهة النبوة عليه الصلاة والسلام ، ولا يخفى أنه على هذا يفوت معنى التعجب ، واستدل على اسميتها بقراءة أبي السمال «حاشا للّه» بالتنوين ، وهو في ذلك على حد : سقيا لك ، وجوز أن يكون اسم فعل والتنوين كما في صه ، وكذا بقراءة أبي ، وعبد اللّه «1» رضي اللّه تعالى عنهما - حاشا اللّه - بالإضافة كسبحان اللّه ، وزعم الفارسي أن حاشَ في ذلك حرف جر مرادا به الاستثناء كما في قوله :
حاشا أبي ثوبان إن أبا ثوبان ليس ببكمة فدم
ورد بأنه يتقدمه هنا ما يستثنى منه ، وجاء في رواية عن الحسن أنه قرأ - حاش للّه - بسكون الشين وصلا ووقفا مع لام الجر في الاسم الجليل على أن الفتحة اتبعت الألف في الإسقاط لأنها كالعرض اللاحق لها ، وضعفت هذه القراءة بأن فيها التقاء الساكنين على غيره حده ، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ - حاش الإله - وقرأ الأعمش - حشا للّه - بحذف الألف الأولى ، هذا واستدل المبرد ، وابن جني ، والكوفيون على أن - حاش - قد تكون فعلا بالتصرف فيها بالحذف كما علمت في هذه القراءات ، وبأنه قد جاء المضارع منها كما في قول النابغة :
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ولا - أحاشى - من الأقوام من أحد
ومقصودهم الرد على - س - وأكثر البصرية حيث أنكروا فعليتها ، وقالوا : إنها حرف دائما بمنزلة إلّا لكنها تجر المستثنى ، وكأنه لم يبلغهم النصب بها كما في قوله
حاشا قريشا فإن اللّه فضلهم
وربما يجيبون عن التصرف بالحذف بأن الحذف قد يدخل الحرف كقولهم : أما واللّه ، وأم واللّه ، نعم ردّ عليهم أيضا بأنها تقع قبل حرف الجر ، ويقابل هذا القول ما ذهب إليه الفراء من أنها لا تكون حرفا أصلا بل هي فعل دائما ولا فاعل لها ، والجر الوارد بعدها كما في
حاشاي إني مسلم معذور
والبيت المار آنفا بلام مقدرة ، والحق أنها تكون فعلا تارة فينصب ما بعدها ولها فاعل وهو ضمير مستكن فيها وجوبا يعود إما على البعض المفهوم من الكلام ، أو المصدر المفهوم من الفعل ، ولذا لم يثن ، ولم يجمع ، ولم يؤنث ، وحرفا أخرى ويجر ما بعدها ، ولا تتعلق بشيء كالحروف الزائدة عند ابن هشام ، أو تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه عند بعض ، ولا تدخل عليها إلّا كما إذا كانت فعلا خلافا للكسائي في زعمه جواز ذلك إذا
___________
(1) وروي عنهما أيضا. كما قاله صاحب اللوامح. كقراءة أبي عمرو ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 422
جرت ، وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت اسم مصدر مرادفا للتنزيه ، وتمام الكلام في محله ما هذا بَشَراً نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني ، وقصرهن على الملكية بقولهن : إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ أي شريف كثير المحاسن بناء على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد ، وأنشدوا لبعض العرب :
فلست لأنسى ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب
وكثر في شعر المحدثين ما هو من هذا الباب ، ومنه قوله :
ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وغرضهن من هذا وصفه بأنه في أقصى مراتب الحسن والكمال الملائم لطباعهن ، ويعلم مما قرر ان الآية لا تقوم دليلا على أن الملك أفضل من بني آدم كما ظن أبو علي الجبائي ، واتباعه ، وأيده الفخر - ولا فجر له - بما أيده ، وذهب غير واحد إلى أن الغرض تنزيهه عليه السلام عما رمي به على أكمل وجه ، وافتتحوا ذلك - بحاشا للّه - على ما هو الشائع في مثل ذلك ، ففي شرح التسهيل الاستعمال على أنهم إذا أرادوا تبرئة أحد من سوء ابتدؤوا تبرئة اللّه سبحانه من السوء ثم يبرئون من أرادوا تبرئته على معنى أن اللّه تعالى منزه عن أن لا يطهره مما يضيمه فيكون آكد وأبلغ ، والمنصور ما أشير إليه أولا وهو الذي يقتضيه السياق والسباق ، نعم هذا الاستعمال ظاهر فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى من قوله تعالى عن النسوة : حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف : 51] وما عاملة عمل ليس وهي لغة للحجازيين لمشابهتها لها في نفي الحال على ما هو المشهور في ليس من أنها لذلك أو في مطلق النفي بناء على ما قال الرضي من أنها ترد لنفي الماضي ، والمستقبل ، والغالب على لغتهم جر الخبر بالباء حتى إن النحويين لم يجدوا شاهدا على النصب في أشعارهم غير قوله :
وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم قوادها
أبناؤها متكنفون أباهم حنقوا الصدور وما هم أولادها
والزمخشري يسمي هذه اللغة : اللغة القدمى الحجازية ، ولغة بني تميم في مثل ذلك الرفع ، وعلى هذا جاء قوله :
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب فأجاب ما قتل المحب حرام
وبلغتهم قرأ ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه ، وزعم ابن عطية أنه لم يقرأ بها أحد هنا ، وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي ما هذا بشرى - بالباء الجارة ، وكسر الشين على أن شرى - كما قال صاحب اللوائح - مصدر أقيم مقام المفعول به «1» أي ما هذا بمشرى أي ليس ممن يشترى بمعنى أنه أعز من أن يجري عليه ذلك.
وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو أيضا إلا أنه روي عنه أنه مع ذلك كسر اللام من ملك ، وروى الكسر بن عطية عن الحسن ، وأبي الحويرث أيضا ، والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد ، ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر ، وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضا «ملك» بكسر اللام فقال :
لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشترى لئيم «2» ، وعلى التقديرين لا يقال : إن هذه القراءة
___________
(1) وجوز إبقاءه على المصدرية أي لم يحصل هذا بشرى ا ه منه.
(2) والأولى أن يقال : أي ما هذا عبد لئيم فيملك بل سيد كريم ما لك فتدبر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 423
مخالفة لمقتضى المقام ، نعم إنها مخالفة لرسم المصحف لأنه لم يكتب ذلك بالياء فيه.
قالَتْ فَذلِكُنَّ الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة - حسبما يقتضيه الظاهر - إلى يوسف عليه السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراتب البشرية ، والاقتصار على الملكية أو بعنوان ما ذكر مع الأخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضا ، فاسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره ، والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية ، أو الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي عيرتنني في الافتنان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن : امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه ، والموصول صفة اسم الإشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فيه وفيّ ما قلتن ، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا ، وقيل «1» : أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به ، والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل : رفعا لمنزلته في الحسن واستبعادا لمحله فيه ، وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله.
وقيل : إن يوسف عليه السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضرا فإن جعلت الإشارة إليه باعتبار الزمان الأول كانت على أصلها ، وإن لوحظ الثاني كان قريبا ، وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد ، واحتمال أنه عليه السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد.
وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه السلام ، وضمير فِيهِ عائد إليه ، وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها «2» أي واللّه لقد راودته حسبما قلتن وسمعتن فَاسْتَعْصَمَ قال ابن عطية : أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني.
وفي الكشاف أن الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستزادة منها ، ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب ا ه.
وفي البحر والذي ذكره الصرفيون في «استعصم» أنه موافق لاعتصم ، وأما استمسك واستوسع واستجمع فاستغفل فيه أيضا موافقة لافتعل ، والمعنى امتسك واتسع واجتمع ، وأما استفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو استكبر وتكبر ، فالمعنى فامتنع عما أرادت منه وبالامتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة ، قيل : وعنت بذلك فراره عليه السلام منها فإنه امتنع منها أولا بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار ، وليس المراد بالعصمة ما أودعه اللّه تعالى في بعض أنبيائه عليهم السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مرادا كما لا يخفى ، وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار ابتهاجها بذلك.
___________
(1) تعقبه المولى أبو السعود بأنه لا يلائم المقام وبين ذلك بما فيه تأمل ا ه منه.
(2) وكأنها عملت مما قيل :
لا تخف ما صنعت بك الأشواق واشرح هواك فكلنا عشاق

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 424
وقيل : إنه باعتبار المعطوف وهو الاستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليه السلام في عنفوان الشباب ومزيد اختلاطه معها ومرادوتها إياه مع ارتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى ، وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس ، وليت السدي لو كان قد سد فاه عن قوله : فَاسْتَعْصَمَ بعد حل سراويله ، ثم إنها بعد أن اعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت : وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ أي الذي آمر به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى - فما - موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء ، وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع - أمر - كقوله :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ومفعول - أمر - الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم امتثال ما أمرت به مطلقا كما قيل ، وإما محذوف لدلالة يَفْعَلْ عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به.
وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به ، ويعتبر الحذف تدريجا لاشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجرورا بمثل ما جرّ به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا ، وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوبا ، وكذا يقال في أمثال ذلك.
وقال ابن المنير في تفسيره : إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلّا منصوبا مفصولا كأنه قيل : أمر يوسف إياه لتعذر اتصال ضميرين من جنس واحد ، ويجوز أن تكون ما مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري إياه ، ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف ، وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهارا لجريان حكومتها عليه واقتضاء للامتثال لأمرها لَيُسْجَنَنَّ بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريا على رسم الملوك.
وجوز أن يكون إيهاما لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل.
وَلَيَكُوناً بالمخففة مِنَ الصَّاغِرِينَ أي الأذلاء المهانين ، وهو من صغر كفرح ، ومصدر صغر بفتحتين ، وصغرا بضم فسكون ، وصغار بالفتح ، وهذا في القدر ، وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم ، ومصدره صغر كعنب ، وجعل بعضهم الصغار مصدرا لهذا أيضا ، وكذا الصغر بالتحريك ، والمشهور الأول ، وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل : لتحققه ، وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق.
وقيل : لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه ، فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة ، وقرأت فرقة بالتثقيل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون رسمت فيه بالألف - كنسفعا - على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى
ولا تعبد الشيطان واللّه فاعبدا وذلك في الحقيقة لشبهها
بالتنوين لفظا لكونها نونا ساكنة مفردة تلحق الآخر ، واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه سادّ مسدّ الجوابين ، ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيرا عظيما في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجرّ إليه ، قيل : ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً [يوسف : 25] إلخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة ، وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء ، وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هو من فروعه ومستتبعاته ، وقيل : إن قولها : لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ إنما أتت به بدل قولها هناك : عَذابٌ أَلِيمٌ ذله بالقيد أو بالضرب أو بغير ذلك ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 425
لكن يحتمل أنها أرادت بالذل والعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط ، أو ما يكون به أو بغيره ، أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب ، وبالعذاب الأليم ما يكون به ، أو بغيره أو العكس وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظم مما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هنا وأو هناك ، ولعلها إنما بالغت في ذلك بمحضر عن تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بلّ غليلها ، ولتعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد ، فيضيق عليه الحيل ويعيي به العلل وينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر قالَ استئناف بياني كأن سائلا يقول :
فماذا صنع يوسف حينئذ؟ فقيل : قالَ مناجيا لربه عزّ وجلّ رَبِّ السِّجْنُ الذي وعدتني بالإلقاء فيه ، وهو اسم للمحبس ، وقرأ عثمان مولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب «السّجن» بفتح السين على أنه مصدر سجنه أي حبسه ، وهو في القراءتين مبتدأ خبره ما بعده ، وقرأ «ربّ» بالضم ، و«السّجن» بكسر السين والجر على الإضافة - فرب - حينئذ مبتدأ والخبر هو الخبر ، والمعنى على ما قيل : لقاء صاحب السجن أو مقاساة أمره أَحَبُّ إِلَيَّ أي آثر عندي لأن فيه مشقة قليلة نافذة إثرها راحات كثيرة أبدية مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاوة والعذاب الأليم ، وصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له عليه السلام شائبة محبة لما يدعونه إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن ، والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة لها على مطلوبها خوفا من الحبس ، والاقتصار على السجن لكون الصغار من مستتبعاته على ما قيل ، وقيل : اكتفى عليه السلام بذكر السجن عن ذكره لوفائه بالغرض وهو قطع طمعها عن المساعدة خوفا مما توعدته به لأنها تظن أن السجن أشد عليه من الصغار بناء على زعمها أنه فتاها حقيقة وأن الفتيان لا يشق عليهم ذلك مشقة السجن ، ومتى كان الأشد أحب إليه مما يدعونه إليه كان غير الأشد أحب إليه من باب أولى ، وفيه منع ظاهر ، وإسناد الدعوة إليهن لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزيّن له مطاوعتها ، فقد روي أنهنّ قلن له : أطع مولاتك واقض حاجتها لتأمن من عقوبتها فإنها المظلومة وأنت الظالم ، وروي أن كلّا منهنّ طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها ، وعن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما أن كل واحدة منهن أرسلت إليه سرا تسأله الزيارة ،
فإسناد ذلك إليهنّ لأنهن أيضا دعونه إلى أنفسهن صريحا أو إشارة.
وفي أثر ذكره القرطبي أنه عليه السلام لما قال : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ إلخ أوحى اللّه تعالى إليه : يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت : العافية أحب إلي عوفيت ، ولذلك رد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم على من كان يسأل الصبر ،
فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل عنه عليه الصلاة والسلام أنه سمع رجلا وهو يقول :
«اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : سألت اللّه تعالى فاسأله العافية».
وَإِلَّا تَصْرِفْ أي وإن لم تدفع عَنِّي كَيْدَهُنَّ في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والعفة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أمل على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية إلى إجابتهن بمواتاتها أو إلى أنفسهن وهو كناية عن مواتاتهن ، وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف اللّه تعالى جريا على سنن الأنبياء عليهم السلام والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب اللّه تعالى وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في استدعاء لطفه سبحانه في صرف كيدهن بإظهار أنه لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث : أدركني وإلّا هلكت ، لا أنه عليه السلام يطلب الإجبار الإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى السوء كذا قرّره المولى أبو السعود وهو معنى لطيف وقد أخذه من كلام الزمخشري لكن قال القطب ، وغيره : إنه فرار إلى الاعتزال وإشارة إلى جواب استدلال الأشاعرة بهذه الآية على أن العبد لا ينصرف عن المعصية إلّا إذا صرفه اللّه تعالى وقد قرّر

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 426
ذلك الإمام بما قرّره فليراجع وليتأمل ، وأصل إِلَّا إن لا فهي مركبة من إن الشرطية ولا النافية كما أشرنا إليه ، وقد أدغمت فيه النون باللام وأَصْبُ من صبا يصبو صبوا وصبوة إذا مال إلى الهوى ، ومنه الصبا للريح المخصوصة لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها مضارع مجزوم على أنه جواب الشرط ، والجملة الشرطية عطف على قوله : السِّجْنُ أَحَبُّ وجيء بالأولى اسمية دون الثانية لأن أحبيته السجن مما يدعونه إليه كانت ثابتة مستمرة ولا كذلك الصرف المطلوب ، وقرىء «أصب» من صبيت صبابة إذا عشقت ، وفي البحر الصبابة إفراط الشوق كأن صاحبها ينصب فيما يهوى ، والفعل مضمن معنى الميل أيضا ولذا عدي بإلى أي أصب مائلا إليهن وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ أي الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء ، أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيم لا يفعل القبيح ، فالجهل بمعنى السفاهة ضد الحكمة لا بمعنى عدم العلم ، ومن ذلك قوله :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
[سورة يوسف (12) : الآيات 34 إلى 52]
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 427
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ [يوسف : 34 - 52] أي أجاب له على أبلغ وجه دعاءه الذي تضمنه قوله : وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ إلخ فإنه في قوة قوله : اصرفه عني بل أقوى منه في استدعاء الصرف على ما علمت ، وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافا إلى ضميره عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف ، وزاد حسن موقع ذلك افتتاح كلامه عليه السلام بندائه تعالى بعنوان الربوبية فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ حسب دعائه بأن ثبته على العصمة والعفة وحال بينه وبين المعصية إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء المتضرعين إليه الْعَلِيمُ بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم وبما يصلحهم لا غيره سبحانه ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدين للحل والعقد ربما اكتفوا بأمر يوسف عليه السلام بالكتمان والإعراض عن ذلك مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الصارفة لهم عن ذلك البدا وهي الشواهد الدالة على براءته عليه السلام وطهارته من قد القميص وقطع النساء أيديهن ، وعليهما اقتصر قتادة فيما أخرجه عنه ابن جرير ، وفيه إطلاق الجمع على اثنين والأمر فيه هين ، وعن مجاهد الاقتصار على القد فقط لأن القطع ليس من الشواهد الدالة على البراءة في شيء حينئذ للتعظيم ، ويحمل الجمع حينئذ على التعظيم أو أل على الجنسية وهي تبطل معنى الجمعية كذا قيل ، وهو كما ترى ، ووجه بعضهم عدّ القطع من الشواهد بأن حسنه عليه الصلاة والسلام الفاتن للنساء في مجلس واحد ، وفي أول نظرة يدل على فتنتها بالطريق الأولى وأن الطلب منها لا منه ، وعدّ بعضهم استعصامه عليه السلام عن النسوة إذ دعونه إلى أنفسهن فإن العزيز وأصحابه قد سمعوه وتيقنوا به حتى صار كالمشاهد لهم ، ودلالة ذلك على البراءة ظاهرة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : سألت ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما عن الآيات فقال : ما سألني عنها أحد قبلك من الآيات : قد القميص وأثرها في جسده وأثر السكين فعدّ رضي اللّه تعالى عنه الأثر من الآيات ولم يذكر فيما سبق ، ومن هنا قيل : يجوز أن يكون هناك آيات غير ما ذكر ترك ذكرها كما ترك ذكر كثير من معجزات الأنبياء عليهم السلام ، وفاعل بَدا ضمير يعود إما للبداء مصدر الفعل المذكور أو بمعنى الرأي كما في قوله :
لعلك والموعود حق لقاؤه بدا لك في تلك القلوص بداء
وإما للسجن بالفتح المفهوم من قوله سبحانه : لَيَسْجُنُنَّهُ وجملة القسم وجوابه إما مفعول لقول مضمر وقع حالا من ضميرهم وإلى ذلك ذهب المبرد ، وإما مفسرة للضمير المستتر في بَدا فلا موضع لها.
وقيل : إن جملة لَيَسْجُنُنَّهُ جواب - لبدا - لأنه من أفعال القلوب ، والعرب تجريها مجرى القسم وتتلقاها بما يتلقى به ، وزعم بعضهم أن مضمون الجملة هو فاعل بَدا كما قالوا في قوله سبحانه : أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [طه : 128]

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 428
وقوله تعالى : وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إبراهيم : 45] أن الفاعل مضمون الجملة أي كثرة إهلاكنا وكيفية فعلنا ، وظاهر كلام ابن مالك في شرح التسهيل أن الفاعل في ذلك الجملة لتأويلها بالمفرد حيث قال : وجاز الإسناد في هذا الباب باعتبار التأويل كما جاز في باب المبتدأ نحو سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة : 6 ، يس : 10] وجمهور النحاة لا يجوزون ذلك كما حقق في موضعه.
واختار المازني في الفاعل الوجه الأول ، قيل : وحسن - بدا لهم - بداء - وإن لم يحسن ظهر لهم ظهور لأن البداء قد استعمل في غير المصدرية كما علمت ، واختار أبو حيان الوجه الأخير وكونه ضمير السجن السابق على قراءة من فتح السين ، باستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها وحبه إياها وجعله زمام أمره بيدها.
روي أنه عليه السلام لما استعصم عنها ويئست منه قالت للعزيز : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودته عن نفسه فأبى ويصف الأمر حسبما يختار ، وأنا محبوسة محجوبة فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس وأكذبه ، وإما أن تحبسه كما أني محبوسة فحبس
، قال ابن عباس : إنه أمر به عليه السلام فحمل على حمار وضرب معه الطبل ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني راود سيدته فهذا جزاؤه ،
وكان ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كما قال أبو صالح : كلما ذكر هذا بكى ، وأرادت بذلك تحقيق وعيدها لتلين به عريكته وتنقاد لها قرونته لما انصرمت حبال رجائها عن استتباعه بعرض الجمال بنفسها وبأعوانها.
وقرأ الحسن - لتسجننه - على صيغة الخطاب بأن الخاطب بعضهم العزيز ومن يليه أو العزيز وحده على وجه التعظيم ، أو خاطب به العزيز ومن عنده من أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس حَتَّى حِينٍ قال ابن عباس :
إلى انقطاع المقال وما شاع في المدينة من الفاحشة ، وهذا بادي الرأي عند العزيز ، وأما عندها فحتى يذلله السجن ويسخره لها ويحسب الناس أنه المجرم ، وقيل : الحين هاهنا خمس سنين ، وقيل : بل سبع.
وقال مقاتل : إنه عليه السلام حبس اثنتي عشرة سنة ، والأولى أن لا يجزم بمقدار ، وإنما يجزم بالمدة الطويلة ، والحين عند الأكثرين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه والطويل ، وقد استعمل في غير ذلك كما ذكرناه في شرح القادرية.
وقرأ ابن مسعود - عتى - بإبدال حاء حَتَّى عينا وهي لغة هذيل ، وقد أقرأ رضي اللّه تعالى عنه بذلك إلى أن كتب إليه عمر رضي اللّه تعالى عنه أن يقرىء بلغة قريش حَتَّى بالحاء وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد : أحدهما خبازه وصاحب طعامه ، والآخر ساقيه وصاحب شرابه ، وكان قد غضب عليهما الملك بسبب أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فضمنوا لهما مالا على أن يسمّاه في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ، ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك. وقبل الخباز الرشوة وسمّ الطعام فلما حضر بين يدي الملك قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم فقال للساقي : اشربه فشربه فلم يضره ، وقال للخباز : كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك وقال الخباز : لا تشرب فإن الشراب مسموم ، لدابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما فاتفق أن أدخلا معه السجن ، ولعله إنما عبر - بدخل - الظاهر في كون الدخول بالاختيار مع أنه لم يكن كذلك للإشارة على ما قيل : إلى أنهما لما رأيا يوسف هان عليهما أمر السجن لما وقع في قلوبهما من محبته. وهوى كل نفس حيث حل حبيبها. فقد أخرج غير واحد عن ابن إسحاق أنهما لما رأياه قالا له : يا فتى لقد واللّه أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما عليه السلام : أنشد كما اللّه تعالى أن لا تحباني فو اللّه ما أحبني أحد قط إلّا دخل علي من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء ، ثم أحبني أبي فدخل علي من حبه بلاء ، ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل علي بحبها إياي بلاء فلا تحباني بارك اللّه تعالى فيكما فأبيا إلّا حبه واللّه حيث كان ، وقيل : عبر بذلك لما أن ذكر مَعَهُ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 429
يفيد اتصافه عليه السلام بما ينسب إليهما ، والمناسب في حقه نسبة الدخول لمكان قوله عليه السلام : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لا الإدخال المفيد لسلب الاختيار ، ولو عبر بادخل لأفاد ذلك نسبة الإدخال إليه فلم يكن بدّ من التعبير بالدخول ترجيحا لجانبه عليه السلام ، والظاهر أن - مع - تدل على الصحبة والمقارنة لفاعل الفعل في ابتداء تلبسه بالفعل ، فتفيد أن دخولهما مصاحبين له وأنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة ، وتعقب أن هذا منتقض بقوله سبحانه : أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
[النمل : 44] حكاية عن بلقيس إذ ليس إسلامها مقارنا لابتداء إسلام سليمان عليه السلام ، وأجيب بأن الحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه ، فيحمل على الحقيقة ، ويشهد لذلك ما ذكره الزمخشري في قوله سبحانه : فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات : 102] من أنه بيان متعلق بمحذوف لتعذر التعلق - ببلغ - أو السَّعْيَ معنى أو لفظا.
وقال صاحب الكشف : إنه لا يتعين المحكي عنها لمعية الفاعل فجاز أن يراد أسلمت للّه ولرسوله مثلا ، وتقديم مع للإشعار بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها كانت مسلمة فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتدّ به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد ، وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى ، وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بدّ من محذوف نحو مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المعية ومطلق الجمع معلوم بالضرورة ا ه.
وفرق بعضهم بي الفعل الممتدّ كالإسلام وغيره كالدخول بأن الأول لا يقتضي مقارنتهما في ابتدائه بخلاف الثاني ، وهو على ما قيل : راجع إلى الجمع وليس من المعية في شيء على أنه حينئذ يحتاج إلى تأويل في آية فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ واختير أن المقارنة هي الأصل ولا يعدل عنها ما أمكنت فتأمل. وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده فضل تكمن ، ولعل تقديم الظرف على السجن لأن الاهتمام بأمر المعية أشدّ من الاهتمام بأمره لما أنها المنشأ لما كان ، وقيل : إنما قدم لأن تأخيره ، يوهم أن يكون خبرا مقدما على المبتدأ ، وتكون الجملة حالا من فاعل - دخل - وتعقب بأن حاصل التركيب الأول مصاحبة الفتيين له عند دخولهما ، وحاصل الثاني مصاحبة الفتيين له عند دخوله ، ويؤول الأمران إلى دخولهما ودخوله متصاحبين فإنهم.
والجملة على ما قيل : معطوفة على محذوف ينساق إليه الذهن كأنه قيل : فلما بدا لهم ذلك سجنوه وَدَخَلَ مَعَهُ إلخ ، وقرأ السِّجْنَ بفتح السين على معنى موضع السجن قالَ استئناف مبني على سؤال من يقول : ما صنعا بعد ما دخلا؟ فأجيب بأنه قالَ أَحَدُهُما وهو الشرابي واسمه بنو إِنِّي أَرانِي أي رأيتني في المنام والتعبير بالمضارع لاستحضار الصور الماضية أَعْصِرُ خَمْراً أي عنبا ، روي أنه قال : رأيت حبلة من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك ، وسماه بما يؤول إليه لأن الخمر مما لا يعصر إذ عصر الشيء إخراج ما فيه من المائع بقوة ، وكون العنب يؤول إلى الخمر وكون الذي يؤول إليه ماؤه لا جرمه لا يضر لأنه المقصود منه فما عداه غير منظور إليه فليس فيه تجوزان بالنظر إلى المتعارف فيه ، وقيل : الخمر بلغة غسان اسم للعنب ، وقيل : في لغة أذرعان «1» ، وقرأ أبيّ وعبد اللّه - «أعصر عنبا» - قال في البحر : وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته لسواد المصحف ، والثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أَعْصِرُ خَمْراً انتهى ، وقد أخرج القراءة كذلك عن
___________
(1) قال المعتمر : لقيت أعرابيا يحمل عنبا في وعاء فقلت : ما تحمل؟ قال : خمرا أراد العنب ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 430
الثاني البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق ، وذكروا أنه قال :
واللّه لقد أخذتها من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم هكذا فافهم.
وقال ابن عطية : يجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة لأن العصر من أجلها فليس ذلك من مجاز الأول ، والمشهور أنه منه كما قال الفراء : مؤنثة وربما ذكرت ، وعن السجستاني أنه سمع التذكير ممن يوثق به من الفصحاء ، ورأي الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ، ولا يجوز ذلك في غير ما ذكر ، فلا يقال : أضربني ولا أكرمني ، وحاصله أرى نفسي أعصر خمرا وَقالَ الْآخَرُ وهو الخباز واسمه مجلث «1» إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً ، وفي مصحف ابن مسعود - ثريدا ..
تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ وهذا كما قيل أيضا : تفسير لا قراءة ، روي أنه قال : رأيت أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز والطير تأكل من أعلاه ، والخبز معروف ، وجمعه أخباز وهو مفعول أَحْمِلُ والظرف متعلق - بأحمل - وتأخيره عنه لما مرّ ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا منه ، وجملة تَأْكُلُ إلخ صفة له أو استئناف مبني على السؤال نَبِّئْنا أي أخبرنا بِتَأْوِيلِهِ بتعبيره وما يؤول إليه أمره ، والضمير للرؤيتين بتأويل ما ذكر أو ما رؤي وقد أجري الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة «2» فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما مرت الإشارة إليه غير مرة هذا إذا قالاه معا أو قاله أحدهما من جهتهما معا ، وأما إذا قاله كل منهما إثر ما قص ما رآه فالمرجع غير متعدد ولا يمنع من هذا الاحتمال صيغة المتكلم مع الغير لاحتمال أن تكون واقعة في الحكاية دون المحكي على طريقة قوله تعالى : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون : 51] فإنهم لم يخاطبوا دفعة بل خوطب كل منهم في زمان بصيغة مفردة خاصة به إِنَّا نَراكَ تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارهما منه عليه السلام أي إنا نعتقدك مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي من الذين يحسنون تأويل الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها لهم تأويلا حسنا ، وكان عليه السلام حين دخل السجن قد قال : إني أعبر الرؤيا وأجيد أو من العلماء كما في
قول علي كرم اللّه تعالى وجهه : قيمة كل امرئ ما يحسنه
وذلك لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله ، أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة قال : لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : ابشروا واصبروا تؤجروا إن لهذا لأجرا فقالوا : يا فتى بارك اللّه تعالى فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بورك لنا في جوارك ما نحب أنا كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا من الأجر والكفارة والطهارة ، فمن أنت يا فتى؟ قال : أنا يوسف بن صفي اللّه تعالى يعقوب بن ذبيح اللّه تعالى إسحاق بن خليل اللّه تعالى إبراهيم فقال له عامل السجن : يا فتى لو استطعت خليت سبيلك ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت ، أو مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلى أهل السجن أي فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادرا على ذلك ، وإلى هذا ذهب الضحاك ، أخرج سعيد بن منصور والبيهقي ، وغيرهما عنه أنه سئل ما كان إحسان يوسف؟ فقال : كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه ، وإذا ضاق عليه مكان أوسع له ، وإذا احتاج جمع له قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في
___________
(1) وقيل : اسم الفتيين راشان ومرطش ، وقيل : شبرهم وشرهم ا ه منه. [.....]
(2) والسر في المصير إلى هذا الإجراء بعد التأويل أن الضمير إنما يتعرض لنفس المرجع من حيث هو من غير تعرض لحال من أحواله فلا ينبغي تأويله بأحد الاعتبارين إلّا بإجرائه مجرى اسم الإشارة الذي يدل على المشار إليه باعتبار الذي جرى عليه الكلام فتأمل ، قاله أبو السعود ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 431
الحبس حسب عادتكما المطردة إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلّا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ماهيته وكيفيته وسائر أحواله قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ، وحاصله لا يأتيكما طعام إلّا أخبرتكما قبل إتيانه إياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، وإطلاق التأويل على ذلك مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الاستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل ، أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالنسبة إلى ما رؤي في المنام وشبيه له.
ويحسن هذه الاستعارة ما في ذلك من المشاكلة لما وقع في عبارتهما من قولهما : نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وكون المراد بالتأويل الأمر الآيل لا المآل بناء على أنه في الأصل جعل شيء آئلا إلى شيء آخر وكما يجوز أن يراد به الثاني يجوز أن يراد به الأول ، ويكون المعنى - إلّا نبأتكما بما يؤول إليه من الكلام - والخبر المطابق للواقع في غاية البعد بل لا يكاد يلتفت إليه كما لا يخفى على المنصف ، وكأنه عليه السلام أراد أن يعرض عليهما التوحيد ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك اللّه تعالى قبل أن يجيبهما عما سألاه من تعبير رؤياهم ثم يجيبهما عن ذلك.
وهذه طريقة على كل ذي عقل أن يسلكها مع الجهلة والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والنصيحة أولا ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه ، ولعل ذلك كان مفترضا عليه عليه السلام فوصف نفسه أولا بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالمغيبات وجعله تخلصا لما أراد كالتخلصات المعروفة عندهم فإن الإخبار بالغيب يناسب ما سألاه من تأويل رؤياهما وأن من كان هكذا لا محالة يكون بغيره صادقا ، ويقوي أمر المناسبة تخصيص الطعام بالذكر من بين سائر المغيبات كما لا يخفى ، ويناسب ما أراده من الدعوة إلى التوحيد لأنه ثبت صدقه ونبوته وكونه من المرتضين عند اللّه تعالى الصادقين في أقوالهم وأفعالهم ، وفي حكاية اللّه تعالى ذلك إرشاد لمن كان له قلب ، وقد أدمج فيه أن وصف العالم نفسه لينتفع به لا يحرم ولا يعد ذلك من التزكية المحظورة ، وإلى ما ذكرنا من حمل الإتيان على الإتيان في اليقظة ذهب غير واحد من الأجلة ، وروي عن ابن جريج ، وحمله بعضهم على الإتيان مناما ، قال السدي وابن إسحاق : إنه عليه السلام لما علم من رؤية الخباز أنه يقتل أخذ في حديث آخر تنسية لهما أمر المنام وطماعية في إيمانهما ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته فقال بعظيم علمه بالتعبير : - إنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما ترزقانه إلّا أعلمتكما بما يؤول إليه أمره في اليقظة قبل أن يظهر ذلك - ولا يخفى أن حديث الطماعية المذكورة مما لا بأس إلّا أن حديث التنسية لا يخلو عن منع ، وجاء في رواية أخرى عن ابن جريج أخرجها ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه ما يقرب من هذا الحديث من وجه فإنه قال : إنه عليه السلام كره العبارة لهما فأجابهما بأن له علما بما يأتيهما من الطعام ولم يصرح بما تدل عليه رؤياهما شفقة على الهالك منهما ، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معلوما فأرسل به إليه فلما لم يكتفيا بذلك
وطلبا منه التعبير أيضا دعاهما إلى التوحيد كراهة للعبارة أيضا ، فلما لم يكتفيا عبر لهما وأوضح ما تدل عليه رؤياهما وهو كما ترى ، وأيا ما كان فالضمير في تأويله يعود على الطعام ، وجوز عوده على ما قصاه عليه من الرؤيتين على معنى «1» لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتكما إلّا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعام الموقت ، والمراد الأخبار بالاستعجال بالتنبئة ، وفيه أنه خلاف الظاهر مع أن الأخبار بالاستعجال مما ليس فيه كثير مناسبة لما هو
___________
(1) قال في إرشاد العقل السليم في الاعتراض عليه : وأنت خبير بأن النظم الكريم ظاهر في تعدد إتيان الطعام والإخبار بالتأويل وتجددهما وأن المقام مقام إظهار فضله في فنون العلوم بحيث يدخل في ذلك رؤياهما دخولا أوليا ا ه فافهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 432
بصدده ، وقد يقال : يجوز عود الضمير إلى ما قصاه ويكون المراد من الطعام المرزوق ما رأياه في النوم ، ولا يخفى ما فيه أيضا لكن التأويل على هذين الوجهين لا يحتاج إلى التأويل بل يراد منه ما أريد من تأويله في كلامهما ، وكذا الضمير المستتر في يَأْتِيكُما يعود على الطعام وعوده على التأويل وإن كان أقرب بعيد ، ثم إنه عليه السلام أخبرهما بأن علمه ذلك ليس من علوم الكهنة والمنجمين بل هو فضل إلهي يؤتيه من يشاء فقال : ذلِكُما ويروى أنهما قالا له : من أين لك ما تدعيه من العلم وأنك لست بكاهن ولا منجم؟! وقيل : قالا إن هذا كهانة أو تنجيم ، فقال :
أي ذلك التأويل ، والكشف عن المغيبات ، ومعنى البعد في ذلك للإشارة إلى بعد منزلته وعلو درجته مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالوحي أو بنحو ذلك مما يحصل به العلم كما يكون للأولياء أهل الكشف رضي اللّه تعالى عنهم ، واقتصر بعضهم على الأول وادعى أن الآية دليل على أنه عليه السلام كان إذ ذاك نبيا ، وأيا ما كان فالمراد أن ذلك بعض مما علمنيه اللّه تعالى أو من ذلك الجنس الذي لا يناله إلّا الأصفياء ، ولقد دلهما بذلك على أن له علوما جمة ما سمعاه قطرة من تيارها وزهرة من أزهارها وقوله : إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما تقدم وتعليلا له كأنه قيل : لما ذا علمك ربك تلك العلوم الجليلة الشأن؟ فقال : لأني تركت دين الكفر الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان.
وقيل : تعليل للتعليم الواقع صلة وهو يؤدي إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيره وليس بمراد.
وقيل : لمضمون الجملة الخبرية ، وفيه أن ما ذكر ليس بعلة لكون التأويل المذكور بعضا مما علمه ربه - أو لكونه من جنسه - بل لنفس التعليم ، والمراد بالترك الامتناع فإنه لم يتلوث بتلك قط كما يفصح عنه ما يأتي من كلامه عليه السلام قريبا إن شاء اللّه تعالى لكن عبر به عن ذلك استجلابا لهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها على أحسن وجه والتعبير عن كفرهم باللّه تعالى بسلب الإيمان به سبحانه للتنصيص على أن عبادتهم له تعالى مع عبادة الأوثان ليس بإيمان به تعالى كما يزعمونه ، وأراد بأولئك القوم المتصفين بعنوان الصلة حيث كانوا ، وقيل : أهل مصر فإنهم كانوا عبدة إذ ذاك وَهُمْ بِالْآخِرَةِ وما فيها من الجزاء هُمْ كافِرُونَ أي على الخصوص دون غيرهم من الكنعانيين الذين هم ملة إبراهيم عليه السلام على ما يفيده توسيط ضمير الفصل هنا عند البعض ، وذكر أن تقديم الضمير للتخصيص وتكريره للتأكيد ، ولعله إنما أكد إنكارهم للمعاد لأنه كان أشد من إنكارهم للمبدأ فتأمل.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ داخل في حيز التعليل كأنه قال : إنما فزت بما فزت بسبب أني لم أتبع ملة قوم كفروا بالمبدأ والمعاد واتبعت ملة آبائي الكرام المؤمنين بذلك ، وإنما قاله عليه السلام ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال ، وقدم ذكر تركه لملتهم على ذكر اتباعه لملة آبائه عليهم السلام لأن التخلية مقدمة على التحلية.
وجوز بعضهم أن لا يكون هناك تعليل وإنما الجملة الأولى مستأنفة ذكرت تمهيدا للدعوة والثانية إظهارا لأنه من بيت النبوة لتقوى الرغبة فيه ، وفي كلام أبي حيان ما يقتضي أنه الظاهر وليس بذاك ، وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون «آبائي» بإسكان الياء وهي مروية عن أبي عمرو ما كانَ ما صح وما استقام فضلا عن الوقوع لَنا معاشر «1» الأنبياء لقوة نفوسنا ، وقيل : أي أهل هذا البيت لوفور عناية اللّه تعالى بنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي شيئا أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلا عن الصنم الذي لا يسمع ولا يبصر - فمن - زائدة في المفعول به لتأكيد
___________
(1) قيل : يراد معاشر الأنبياء ، ويعتبر التغليب بناء على عدم نبوته عليه السلام إذ ذاك وهو كما ترى ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 433
العموم ، ويجوز أن يكون المعنى شيئا من الإشراك قليلا كان أو كثيرا فيراد من شَيْءٍ المصدر وأمر العموم بحاله ، ويلزم من عموم ذلك عموم المتعلقات ذلِكَ أي التوحيد المدلول عليه بنفي صحة الشرك مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا أي ناشىء من تأييده لنا بالنبوة والوحي بأقسامه ، والمراد أنه فضل علينا بالذات وَعَلَى النَّاسِ بواسطتنا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي لا يوحدون ، وحيث عبر عن ذلك بذلك العنوان عبر التوحيد الذي يوجبه بالشكر لأنه مع كونه من آثار ما ذكر من التأييد شكر للّه عزّ وجلّ ، ووضع الظاهر موضع الضمير الراجع إلى الناس لزيادة التوضيح والبيان ولقطع توهم رجوعه إلى مجموع الناس وما كنى عنه - بنا - الموهم لعدم اختصاص غير الشاكر بالناس ، وفيه من الفساد ما فيه ، وجوز أن يكون المعنى ذلك التوحيد ناشىء من فضل اللّه تعالى علينا حيث نصب لنا أدلة ننظر فيها ونستدل بها على الحق ، وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس أيضا من غير تفاوت ولكن أكثرهم لا ينظرون ولا يستدلون بها اتباعا لأهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين ، والفضل على هذا عقلي وعلى الأول سمعي ، وجوز المولى أبو السعود أن يقال : المعنى ذلك التوحيد من فضل اللّه تعالى علينا حيث أعطانا عقولا ومشاعر نستعملها في دلائل التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاق ، وقد أعطى سائر الناس أيضا مثلها ولكن أكثرهم لا يشكرون أي لا يصرفون تلك القوى والمشاعر إلى ما خلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيد الآفاقية والأنفسية والعقلية والنقلية انتهى ، ولك أن تقول : يجوز أن تكون الإشارة إلى ما أشير إليه - بذلكما - ويراد منه ما يفهم مما قبل من علمه بتأويل الرؤيا ، مِنْ في قوله مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تبعيضية ، ويكون قد أخبر عنه أولا بأنه مما علمه إياه ربه وثانيا بأنه بعض فضل اللّه تعالى عليه وعلى آبائه بالذات وعلى الناس بواسطتهم
لأنهم يعبرون لهم رؤياهم فيكشفون لهم ما أبهم عليهم ويزيلون عنهم ما أشغل أذهانهم مع ما في ذلك من النفع الذي لا ينكره إلّا نائم أو متناوم ، ومن وقف على ما ترتب على تعبير رؤيا الملك من النفع الخاص والعام لم يشك في أن علم التعبير من فضل اللّه تعالى على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون فضل اللّه تعالى مطلقا أو فضله عليهم بوجود من يرجعون إليه في تعبير رؤياهم ، ويكون ذلك نظير قولك لمن سألك عن زيد : ذلك أخي ذلك حبيبي ، ولكنه وسط هاهنا ما وسط وتفنن في التعبير فأتى باسم الإشارة أولا مقرونا بخطابهما ولم يأت به ثانيا كذلك وأتى بالرب مضافا إلى ضميره أولا وبالاسم الجليل ثانيا ، ويجوز أن يكون المشار إليه في الموضعين الإخبار بالمغيبات مطلقا ، والكلام في سائر الآية عليه لا أظنه مشكلا ، وعلى الوجهين لا ينافي تعليل نيل تلك الكرامة - بتركه ملة الكفرة واتباعه ملة آبائه الكرام - الإخبار بأن ذلك من فضل اللّه تعالى عليه وعلى من معه كما لا يخفى ، نعم إن حمل الإشارة على ما ذكر وتوجيه الآية عليه بما وجهت لا يخلو عن بعد.
ومن الناس من جعل الإشارة إلى النبوة وفيه ما فيه أيضا ، هذا وأوجب الإمام كون المراد في قوله : لا يَشْكُرُونَ لا يشكرون اللّه تعالى على نعمة الإيمان ، ثم قال : وحكي أن واحدا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر فقال : هل تشكر اللّه تعالى على الإيمان أم لا؟ فإن قلت : لا فقد خالفت الإجماع ، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلا له؟! فقال بشر : إنا نشكره على أن أعطانا القدرة والعقل والآلة ، وأما أن نشكره على الإيمان مع أنه ليس فعلا له فذلك باطل ، وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس ، فقال : إنا لا نشكر اللّه تعالى على الإيمان بل اللّه تعالى يشكره علينا كما قال سبحانه : فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء : 19] فقال بشر : لما صعب الكلام سهل ، وتعقب ذلك عليه الرحمة بأن الذي التزمه ثمامة باطل وهو على طرف الثمام بنص هذه الآية لأنه سبحانه بين فيها أن عدم الإشراك من فضل اللّه تعالى ، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة ، وقد ذكر سبحانه ذلك على سبيل الذم فدل على أنه يجب على مؤمن أن يشكر اللّه تعالى على الإيمان لئلا يدخل في الذم وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة اه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 434
ولعل الوجه في الآية ما تقدم فليفهم يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا صاحبي فيه إلّا أنه أضيف إلى الظرف توسعا كما في قولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ولعله إنما ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتتمحض النصيحة ليقبلا عليه ويقبلا مقالته ، ويجوز أن يراد بالصحبة السكنى كما يقال : أَصْحابُ النَّارِ وأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر : 20] لملازمتهم لهما ، والإضافة من باب إضافة الشيء إلى شبه المفعول عند أبي حيان وإلى المفعول عند غيره ولا اتساع في ذلك ، وقيل : بل هناك اتساع أيضا ، وأنه أضافهما إلى السجن دونه لكونهما كافرين وفيه نظر ، ولعل في ندائهما بذلك على هذا الوجه حثا لهما على الإقرار بالحق كأنه قال لهما : يا ساكني هذا المكان الشاق والمحل الضنك إني ذاكر لكم أمرا فقولوا. الحق فيه ولا تزيغوا عن ذلك فأنتم تحت شدة ولا ينبغي لمن كان كذلك أن يزيغ عن الحق ، وإنما حمل الصاحب على ما سمعت لأن صاحب السجن في الاستعمال المشهور السجان أو الملك ، والنداء - بيا - بناء على الشائع «1» من أنها للبعيد للإشارة إلى غفلتهما وهيمانهما في أودية الضلال ، وقد تلطف عليه السلام بهما في ردهما إلى الحق وإرشادهما إلى الهدى حيث أبرز لهما ما يدل على بطلان ما هما عليه بصورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بإبطال ما ألفاه دهرا طويلا ومضت عليه أسلافهما جيلا فجيلا فقال : أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ متعددون متكثرون يستعبدكما منهم هذا وهذا ، والكلام على ما صرح به أبو حيان على حذف مضاف أي أعبادة أرباب متفرقين خَيْرٌ لكما أَمِ اللَّهُ أي أم عبادة اللّه سبحانه الْواحِدُ المنفرد بالألوهية الْقَهَّارُ الغالب الذي لا يغالبه أحد جلّ وعلا ، وهو أولى مما قاله الخطابي من أنه الذي قهر الجبابرة بالعقوبة والخلق بالموت.
وذكر الزمخشري أن هذا مثل ضرب لعبادة اللّه تعالى وحده ولعبادة الأصنام ، واعترضه القطب بأن ذلك إنما يصح لو نسبا تارة إلى أرباب شتى وأخرى إلى رب واحد كما في قوله تعالى : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ [الزمر :
29] الآية لكنهما نسبا إلى أرباب وإلى اللّه تعالى ، فكيف يكون مثلا؟! وأجاب بأن يفسر اللّه تعالى برب واحد لأنه في مقابلة أرباب ، وإنما عبر عن رب واحد باللّه تعالى لانحصاره فيه جلّ جلاله.
وقال الطيبي أيضا : إن في ذلك إشكالا لأن الظاهر من الآية نفي استواء الأصنام وعبادتها باللّه تعالى وعبادته فأين المثل؟ ثم قال : لكن التقدير أسادات شتى تستعبد مملوكا واحدا خير من سيد واحد قهار فوضع موضع الرب ، والسيد اللّه لكونه مقابلا لقوله : أَأَرْبابٌ فيكون كقوله تعالى : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ الآية.
وقرر في الكشف ما ادعى معه ظهور كونه مثلا طهورا لا إشكال فيه ، والحق أنه ظاهر في نفي الاستواء وإن جعله مثلا يحتاج إلى تأويل حسبما سمعت عن الطيبي إلّا أنه لا يخلو عن لطف ولعله الأولى وإن أحوج إلى ما أحوج ، وحمل التفرق على التفرق في العدد والتكاثر مما ذهب إليه غير واحد ، وحمله بعضهم على الاختلاف في الكبر والصغر والشكل ونحو ذلك مما يحصل لها بواسطة تأثير الغير فيها ، وجعله إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة.
وأما التعدد فيشير إليه جمع أرباب باعتبار أنه جمع فيكون ذكر الْواحِدُ على هذا في مقابلة ما أشير إليه من التعدد ، والْقَهَّارُ في مقابلة ما أشير إليه من المقهورية والعجز ، والمعنى أمتعددون سميتموهم أربابا عجز مقهورون متأثرون من غيرهم خير أَمِ اللَّهُ أي صاحب هذا الاسم الجليل الْواحِدُ الذي يستحيل عليه التكثر بوجه من الوجوه الْقَهَّارُ الذي لا موجود إلّا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز في قبضته.
___________
(1) والحق أنها للنداء مطلقا بعيدا كان المنادى أو قريبا ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 435
وقيل : المراد من مُتَفَرِّقُونَ مختلفو الأجناس والطبائع كالملك والجن والجماد مثلا ، ويجوز أن يراد منه من لا ارتباط بينهم ولا اتفاق ، وكثيرا ما يكنى بذلك عن العجز واختلال الحال ، وقد استنبط الإمام من الآية غير ما حجة على بطلان عبادة الأصنام ، وظاهر كلامه أنه لم يعتبرها مثلا فليتأمل ، ثم إنه عليه السلام زاد في الإرشاد ببيان سقوط آلهتهما عن درجة الاعتبار رأسا فضلا عن الألوهية ، واخرج ذلك على أتم وجه فقال معمما للخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر كما هو الظاهر ، وقيل : مطلقا ، وقيل : من معهما من أهل السجن : ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه تعالى شيئا إِلَّا أَسْماءً أي ألفاظا فارغة لا مطابق لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداق إطلاق الاسم عليه لا وجود له أصلا فكانت عبادتهم لتلك الألفاظ فقط سَمَّيْتُمُوها جعلوها أسماء أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بمحض الجهل والضلالة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أي بتلك التسمية المستتبعة للعبادة مِنْ سُلْطانٍ أي حجة تدل على صحتها ، قيل : كانوا يطلقون على معبوداتهم الباطلة اسم الآلهة ويزعمون الدليل على ذلك فردوا بأنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه هذا الاسم عقل ولا نقل ثم أخذتم تعبدون ذلك باعتبار ما تطلقونه عليه ، وإنما لم يذكر المسميات تربية لما يقتضيه المقام من إسقاطها عن مرتبة الوجود وإيذانا بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود ، ويلحق بهؤلاء الذين يزعمون أنهم يعبدون اللّه تعالى وهم يتخيلونه جسما عظيما جالسا فوق العرش أو نحو ذلك مما ينزهه العقل والنقل عنه تعالى تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا لأن ما وضع له الاسم الجليل في نفس الأمر ليس هو الذي تخيلوه بل هو أمر وراء ذلك وهو المستحق
للعبادة وما وضعوه هم له ليس بآله في نفس الأمر ولا مستحق للعبادة وهو الذي عبدوه فما عبدوا في الحقيقة إلّا اسما لا مطابق له في الخارج لأن ما في الخارج أمر وما وضعوا الاسم له أمر آخر إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم في شأن العبادة المتفرعة على تلك التسمية وفي صحتها إِلَّا لِلَّهِ عز سلطانه لأنه المستحق لها بالذات - إذ هو الواجب بالذات الموجد للكل والمالك لأمره - أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا أي بأن لا تعبدوا أحدا إِلَّا إِيَّاهُ حسبما يقتضي به قضية العقل أيضا ، والجملة استئناف مبني على سؤال ناشىء من الجملة السابقة كأنه قيل : فماذا حكم اللّه سبحانه في هذا الشأن؟ فقيل :
أَمَرَ إلخ ، وقيل : في موضع التعليل لمحذوف كأنه قيل : حيث لم يكن الحكم في أمر العبادة إلّا له فلا تكون العبادة إلا له سبحانه أو لمن يأمر بعبادته وهو لا يأمر بذلك ولا يجعله لغيره لأنه سبحانه أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، وهو خلاف الظاهر.
وجوز أن يكون سرد هذه الجمل على هذا الطرز لسدّ الطرق في توجيه صحة عبادة الأصنام عليهم أحكم سدّ فإنهم إن قالوا : إن اللّه تعالى قد أنزل حجة في ذلك ردوا بقوله : ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وإن قالوا : حكم لنا بذلك كبراؤنا ردوا بقوله : إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وإن قالوا : حيث لم ينزل حجة في ذلك ولم يكن حكم لغيره بقي الأمر موقوفا إذ عدم إنزال حجة تدل على الصحة لا يستلزم إنزال حجة على البطلان ردوا بقوله : أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ أي تخصيصه تعالى بالعبادة الدِّينُ الْقَيِّمُ الثابت الذي دلت عليه البراهين العقلية والنقلية وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك هو الدين القيم لجهلهم تلك البراهين أو لا يعلمون شيئا أصلا فيعبدون أسماء سموها من عند أنفسهم معرضين عما يقتضيه العقل ويسوق إليه سائق النقل ، ومنشأ هذا الإعراض الوقوف عند المألوفات والتقيد بالحسيات وهو مركوز في أكثر الطباع ومن ذلك جاء التشبيه ، والتجسيم ، ونسبه الحوادث الكونية إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب. ونحو ذلك ، ثم إنه عليه السلام بعد تحقيق الحق وبيانه لهما مقدار علمه الواسع شرع في إنبائهما عما استنبآه عنه ، ولكونه بحثا مغايرا لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال : يا صاحِبَيِ السِّجْنِ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 436
أَمَّا أَحَدُكُما
أراد به الشرابي ، وإنما لم يعينه عليه السلام ثقة بدلالة التعبير مع ما فيه من رعاية حسن الصحبة فَيَسْقِي رَبَّهُ أي سيده خَمْراً روي أنه عليه السلام قال له : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده ، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه ، وقرىء «فيسقي» بضم الياء والبناء للفاعل من أسقى ، قال صاحب اللوامح : يقال : سقى ، وأسقى بمعنى ، وقرىء في السبعة «نسقيكم» و«نسقيكم» بالفتح والضم ، والمعروف أن سقاه ناوله ليشرب. وأسقاه جعل له سقيا ، ونسب ضم الياء لعكرمة ، والجحدري ، وذكر بعضهم أن عكرمة قرأ «فيسقى» بالبناء للمفعول ، و- ريه - بالياء المثناة والراء المكسورة ، والمراد به ما يروى به وهو مفعول ثان - ليسقى - والمفعول الأول الضمير النائب عن الفاعل العائد على أحد ، ونصب خَمْراً حينئذ على التمييز وَأَمَّا الْآخَرُ وهو الخباز فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ روي أنه عليه السلام قال له : ما رأيت السلال الآخرة الثلاث ثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب قُضِيَ أتم وأحكم الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ وهو ما يؤول إليه حالكما وتدل عليه رؤياكما من نجاة أحدكما وهلاك الآخر ، ومعنى استفتائهما فيه سؤالهما عنه ، أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا إنما تحالما ليجربا علمه فلما أول رؤياهما قالا : إنما كنا نلعب ولم نر شيئا ، فقال عليه السلام : قُضِيَ الْأَمْرُ إلخ يقول : وقعت العبارة ا ه ، وقيل : المراد بالأمر ما اتهما به ، والكلام حينئذ على حذف مضاف أي عاقبة ذلك.
وذهب بعض المحققين إلى أن المراد به ما رأياه من الرؤيتين ، ونفى أن يكون المراد ما يؤول إليه أمرهما ، قال :
لأن الاستفتاء إنما يكون في الحادثة لا في حكمها يقال : استفتى الفقيه في الحادثة أي طلب منه بيان حكمها ولا يقال : استفتاه في حكمها وكذا الإفتاء ، يقال : أفتى في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال : أفتى في حكمها بكذا ومما هو علم في ذلك قوله تعالى : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ومعنى استفتائهما فيه طلبهما لتأويله بقولهما نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وعبر عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويله بالاستفتاء تهويلا لأمره وتفخيما لشأنه إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم المبهمة الجواب ، وإيثار صيغة المضارع لما أنهما بصدد الاستفتاء إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره وإسناد القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله لأنه في الحقيقة عين ذلك المآل ، وقد ظهر في عالم المثال بتلك الصورة ، وأما توحيده مع تعدد رؤياهما فوارد على حسب ما وحداه في قولهما : نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ لا لأن الأمر ما اتهما به وسجنا لأجله من سمّ الملك فإنهما لم يستفتيا فيه ولا فيما هو صورته بل فيما هو صورة لمآله وعاقبته فتأمل ا ه.
وتعقب بأنه لا مانع من أن يراد بالأمر المآل كما يقتضيه ظاهر إسناد إليه وإليه ذهب الكثير ، وتجعل - في - للسببية مثلها في
قوله عليه الصلاة والسلام : «إن امرأة دخلت النار في هرة»
ويكون معنى الاستفتاء فيه الاستفتاء بسببه أي طلب بيان حكم الرؤيتين لأجله ، وهما إنما طلبا ذلك لتعرف حالهما ومآل أمرهما.
وإن أبيت ذلك فأي مانع من أن يكون الاستفتاء في الأمر مع أن الاستفتاء إنما يكون في الحادثة ، وهي هنا الرؤيتان لما أن بين الأمر وتلك الحادثة اتحادا كما ادعاه هو ، ووجه به إسناد القضاء إلى الأمر بالمعنى الذي حمله عليه مع أنه من أحوال مآله ، وليس له أن يقول بصحة اعتبار العينية في إسناد القضاء وعدم صحة اعتبارها في تعلق الاستفتاء إذ بعد اعتبار العينية بين شيئين يكون صحة نسبة ما هو من أحوال أحدهما إلى الآخر دون صحة نسبة ما هو من أحوال ذلك الآخر إليه ترجيحا بلا مرجح ، ومنع ذلك مكابرة ، ويرجح ما ذهب إليه الكثير أن فيه سلامة من نزع الخف قبل الوصول إلى الماء كما لا يخفى على من تيمم كعبة الإنصاف ، وبأن ما ذكره في تعليل عدم صحة تفسير الأمر بما اتهما به وسجنا لأجله لا يخلو عن دغدغة على أن ذلك كان تعريضا بصاحب الكشاف وهو على ما قال الطيبي : ما

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 437
عني بالأمر إلّا العاقبة ، نعم صدر كلامه ظاهر فيما ذكر والأمر فيه سهل ، ولعل وجه الأمر بالتأمل في كلام هذا المحقق مجموع ما ذكرناه فتأمل ، ثم إن هذا الإخبار كما يحتمل أن يكون للرد عليهما حسبما ورد في الأثر يحتمل أن يكون تحقيقا لتعبيره وتأكيدا له ، ولا يشكل على الأول أنه لا داعي لجحود الشرابي لأنا نقول على تقدير كذبهما في ذلك :
يحتمل أن يكون لمراعاة جانب صاحبه الخباز.
وجاء
في بعض الآثار «إن الذي جحد هو الخباز»
فحينئذ الأمر واضح. واستدل بذلك على ما هو المشهور من أن الرؤيا تقع كما تعبر ، ولذا قيل : المنام على جناح طائر إذا قص وقع وَقالَ أي يوسف عليه السلام.
لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيده قوله :
قُضِيَ الْأَمْرُ إلخ ، وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال : للذي ظنه ناجيا مِنْهُمَا أي من صاحبيه ، وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيدا لمناط التوصية بالذكر بما يدور «1» عليه الامتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك ، والظانّ هو يوسف عليه السلام لا صاحبه ، وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظنّ الناجي بل على ظنّ يوسف عليه السلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى : الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة : 46] ونظائره.
ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع اللّه تعالى ، فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبىء عنه قوله :
قُضِيَ الْأَمْرُ إلخ ، وقيل : هو بمعناه ، والتعبير بالاجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضا اجتهادي ، واستدل به من قال : إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي ، والجار والمجرور إما في موضع الصفة - لناج - أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقا - بناج - لأنه ليس المعنى عليه اذْكُرْنِي بما أنا عليه من الحال والصفة.
عِنْدَ رَبِّكَ سيدك ، وروي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له : أوصني بحاجتك ، فقال عليه السلام : حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالا حتى يذهل عن الذكر ، وإلّا فالإنساء حقيقة للّه تعالى ، والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه ذِكْرَ رَبِّهِ
أي ذكر يوسف عليه السلام عند الملك ، والإضافة لأدنى ملابسة ، ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه فَلَبِثَ أي فمكث يوسف عليه السلام بسبب ذلك القول أو الإنساء فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى السبع ، وقال أبو عبيدة : من الواحد إلى العشرة ، ولا يذكر على ما قال الفراء : إلّا مع العشرات دون المائة والألف ، وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فيما صححه البعض ، وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول ، ولا يأبى ذلك فاء السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر ، وقيل : إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول ، وقد لبث قبلها خمسا فجميع المدة اثنتا عشرة سنة ، ويدل عليه
خبر «رحم اللّه تعالى أخي يوسف لو لم يقل : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لما لبث في السجن سبعا بعد خمس» «2» ،
وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما
___________
(1) ولذا لم يذكره بعنوان التقرب المفهوم من التعبير المذكور وإن كان أدخل وأدعى إلى تحقيق ما وصاه به ا ه منه.
(2) وقيل : إنه لبث خمس سنين ، وقد تقدم هذا للقول فتذكر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 438
الثابت في عدة روايات ما لبث في السجن طول ما لبث وهو لا يدل على المدعى ، وروي ابن حاتم عن طاوس والضحاك تفسير البضع هاهنا بأربع عشرة سنة وهو خلاف المعروف في تفسيره ، والأولى أن لا يجوز بمقدار معين كما قدمنا ، وكون هذا اللبث مسببا عن القول هو الذي تظافرت عليه الأخبار كالخبر السابق والخبر الذي
روي عن أنس قال : «أوحى اللّه تعالى إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك ، قال : أنت يا رب ، قال : فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه ، قال : أنت يا رب ، قال : فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك ، أنت يا رب ، قال : فما بالك نسيتني وذكرت آدميا ، قال : يا رب كلمة تكلم بها لساني ، قال : وعزتي لأدخلنك في السجن بصع سنين»
وغير ذلك من الأخبار ، ولا يشكل على هذا أن الاستعانة بالعباد في كشف الشدائد مما لا بأس به ، فقد قال سبحانه : وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [المائدة : 2] فكيف عوتب عليه السلام في ذلك لأن ذلك ما يختلف باختلاف الأشخاص ، واللائق بمناصب الأنبياء عليهم السلام ترك ذلك والأخذ بالعزائم ، واختار أبو حيان أن يوسف عليه السلام إنما قال للشرابي ما قال ليتوصل بذلك إلى هداية الملك وإيمانه باللّه تعالى كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه ، وإن ذلك ليس من باب الاستعانة بغير اللّه تعالى في تفريج كربه وخلاصه من السجن ، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ، وموجب للطعن في غير ما خبر ، نعم إنه اللائق بمنصبه عليه الصلاة والسلام.
وجوز بعضهم كون ضمير - أنساه - ورَبِّهِ عائدين على يوسف عليه السلام ، وإنساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل هو ترك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين ، وأنت تعلم أن الأول هو المناسب لمكان الفاء ، ولقوله تعالى الآتي : واذكر بعد أمة وَقالَ الْمَلِكُ وهو الريان وكان كافرا ، ففي إطلاق ذلك عليه دلالة على ما قيل : على جواز تسمية الكافر ملكا ، ومنعه بعضهم ، وكذا منع أن يقال : له أمير احتجاجا بأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كتب إلى هرقل «عظيم الروم» ولم يكتب ملك الروم ، أو أميرهم لما فيه من إيهام كونه على الحق ، وجعل هذا حكاية اسم مضى حكمه وتصرم وقته ، ومثله لا يضر أي قال لمن عنده : إِنِّي أَرى أي رأيت ، وإيثار صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ ممتلئات لحما وشحما من سمن كسمع سمانة بالفتح وسمنا كعنبا فهو سامن ، وسمين ، وذكر أن سمينا وسمينة تجمع على سمان ، فهو ككرام جمع كريم وكريمة ، يقال : رجال كرام ونسوة كرام يَأْكُلُهُنَّ أي أكلهن ، والعدول إلى المضارع لاستحضار الصورة تعجيبا ، والجملة حال من البقرات أو صفة لها سَبْعٌ عِجافٌ أي سبع بقرات مهزولة جدا من قولهم : نصل أعجف أي دقيق وهو جمع عجفاء على خلاف القياس ، والقياس عجف كحمراء ، وحمر فإن فعلاء وأفعل لا يجمع على فعال لكنهم بنوه على سِمانٍ وهم قد يبنون الشيء على ضده كقولهم : عدوة بالهاء لمكان صديقة ، وفعول بمعنى فاعل لا تدخله الهاء ، وأجرى سِمانٍ على المميز فجر على أنه وصف له ، ولم ينصب على أن يكون صفة للعدد المميز لأن وصف تمييزه وصف له معنى ، وقد ذكروا أنه إذا وصف التمييز كان التمييز بالنوع وإذا وصف التمييز كان التمييز بالجنس ، ولا شك أن الأول أولى وأبلغ لاشتمال النوع على الجنس فهو أزيد في رفع الإبهام المقصود من التمييز ، فلهذا رجح ما في النظم الكريم على غيره ولم يقل : سَبْعٌ عِجافٌ
بالإضافة ، وجعله صفة للتمييز المقدر على قياس ما قبله - لأن التمييز لبيان الجنس والحقيقة والوصف - لا يدل عليه بل على شيء ما له حال وصفة ، فلذا ذكروا أن التمييز يكون باسم الجنس الجامد ولا يكون بالوصف المشتق في فصيح الكلام ، فتقول : عندي ثلاثة قرشيون ولا تقول قرشيين بالإضافة ، وأما قولك : ثلاثة فرسان وخمسة ركبان فلجريان الفارس والراكب مجرى الأسماء لاستعمالها في الأغلب من غير موصوف.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 439
واعترض صاحب الفرائد بأن الأصل في العدد التمييز بالإضافة فإذا وصف السبع بالعجاف فلا بد من تقدير المضاف إليه ، وكل واحد من الوصف - وتقدير المضاف إليه - خلاف الأصل أما إذا أضيف كانت الصفة قائمة مقام الموصوف فقولنا : سَبْعٌ عِجافٌ في قوة قولنا : سبع بقرات عجاف ، فالتمييز المطلوب بالإضافة حاصل بالإضافة إلى الصفة لقيامها مقام الموصوف ، فكما يجوز سبع بقرات عجاف يجوز سبع عجاف ، وإنما لم يضف لأنه قائم مقام البقرات وهي موصوفة بعجاف فكانت من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة وهي غير جائزة إلّا بتأويل ، وتعقب ذلك القطب بأنه هب أن الأصل في العدد التمييز بالإضافة لكن لما سبق ذكر سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ تبين أن السبع العجاف بقرات فهذا السبع مميز بما تقدم فقد حصل التمييز بالإضافة فلو أضيف إلى العجاف لكان العجاف قائما مقام البقرات في التمييز فيكون التمييز بالوصف وهو خلاف الأصل ، وأما إن السبع قائم مقام البقرات فإنما يكون إذا وصف بالعجاف أما إذا أضيف بكون العجاف قائمة مقام البقرات فلا يلزم إضافة الموصوف إلى الصفة ا ه ، وفيه تأمل.
وذكر العلامة الطيبي في هذا المقام أنه يمكن أن يقال : إن المميز إذا وصف ثم رفع به الإبهام والإجمال من العدد آذن بأنهما مقصودان في الذكر بخلافه إذا ميز ثم وصف بل الوصف ادعى لأن المميز إنما استجلب للوصف ، ومن ثمّ ترك التمييز في القرائن الثلاث والمقام يقتضي ذلك لأن المقصود بيان الابتلاء بالشدة بعد الرخاء ، وبيان الكمية بالعدد والكيفية بالبقرات تابع فليفهم ، ويعلم من ذلك وجه العدول إلى ما في النظم الكريم عن أن يقال : إني أرى سبع بقرات عجاف يأكلن سبعا سمانا الأخصر منه.
وقيل : إن التعبير بذلك بأنه ما رأى السمان ، فقد روي أنه رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ثم خرج عقيبهنّ سبع بقرات عجاف فابتلعت السمان ولم يتبين عليها منهن شيء.
وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبها وَأُخَرَ أي وسبعا أخر يابِساتٍ قد أدركت والتوت على الخضر حتى غلبتها ولم يبق من خضرتها شيء على ما روي ، ولعل عدم التعرض لذكر العدد للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات ، ولا يجوز عطف أخر على سنبلات لأن العطف على المميز يقتضي أن يكون المعطوف والمعطوف عليه بيانا للمعدود سواء قيل : بالانسحاب أو بتكرير العامل لأن المعنى على القولين لا يختلف وإنما الاختلاف في التقدير اللفظي وحينئذ يلزم التدافع في الآية لأن العطف يقتضي أن تكون السنبلات خضرها ويابسها سبعا ، ولفظ أُخَرَ يقتضي أن يكون غير السبع وذلك لأن تباينها في الوصف أعني الخضرة واليبس منطوق ، واشتراكهما في السنبلية فيكون مقتضى لفظ أُخَرَ تغايرهما في العدد ولزم التدافع ، وعلى هذا يصح أن تقول : عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر لأنك ميزت سبعة رجال موصوفين بالقيام والقعود على أن بعضهم كذا وبعضهم كذا ، ولا يصح سبعة رجال قيام وآخرين قعود لما علمت ، فالآية والمثال في هذا المبحث على وزان واحد كما يقتضيه كلام الكشاف ، ونظر في ذلك صاحب الفرائد فقال : إن الصحيح أن العطف في حكم تكرير العامل لا الانسحاب فلو عطف آخرين على رجال قيام لكان سبعة مكررة في المعطوف أي وسبعة آخرين أي رجال آخرين قعود ، ويفسد المعنى لأن المفروض أن الرجال سبعة ، وأما الآية فلو كرّر فيها وقيل : وسبع أخر أي وسبع سنبلات أخر استقام لأن الخضر سبع واليابسات سع ، نعم لو خرج ذلك على المرجوح وهو الانسحاب أدّى إلى أن السبع المذكورة مميزة بسنبلات خضر وسنبلات أخر يابسات ، وفسد إذ المراد أن كلا منهما سبعة ، لا أنها سبعة ، فالمثال والآية ليسا على وزان إذ هو على تكرير العامل يفسد وعلى الانسحاب يصح ، والآية بالعكس ، ثم بنى على ما زعمه من أن الصحيح قول التكرير جواز العطف.
وادعى أن الأولى أن يكون العطف على خُضْرٍ لا على يابِساتٍ ليدل على موصوف آخر ، وهو

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 440
سنبلات ولا يقدر موصوفها بقرينة السياق ، ولا يخفى أن الكلام إنما هو على تقدير أن يكون مميز السبع ما علمت ، وعلى ذلك يلزم التدافع ، ولا يبنى على فرض أنهم سبعة أو أربعة عشر فيصح في الآية ولا يصح في المثال فإنه وهم.
ومن ذلك يظهر أنه لا مدخل للتكرير والانسحاب في هذا الفرض ، ثم إن المختار قول الانسحاب على ما نص عليه الشيخ ابن الحاجب وحققه في غير موضع ، وأما الاستدلال بالآية على الانسحاب لا التقدير وإلّا لكان لفظ أُخَرَ تطويلا يصان كلام اللّه تعالى المعجز عنه فغير سديد على ما في الكشف لأن القائل بالتقدير يدّعي الظهور في الاستقلال ، وكذلك القائل بالانسحاب يدعي الظهور في المقابل على ما نص عليه أئمة العربية فلا يكون التأكيد - بأخر - لإرادة النصوص تطويلا بل إطنابا يكون واقعا في حاق موقعه هذا يا أَيُّهَا الْمَلَأُ خطاب للاشراف ممن يظن به العلم ، يروى أنه جمع السحرة والكهنة والمعبرين فقال لهم : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ.
أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ هذه أي عبروها وبينوا حكمها وما تؤول إليه من العاقبة. وقيل : هو خطاب لجلسائه وأهل مشورته ، والتعبير عن التعبير بالإفتاء لتشريفهم وتفخيم أمر رؤياه إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أي تعلمون عبارة جنس الرؤيا «1» علما مستمرا وهي الانتقال من الصورة المشاهدة في المنام إلى ما هي صورة ومثال لها من الأمور الآفاقية والأنفسية الواقعة في الخارج من العبور وهو المجاوزة ، تقول : عبرت النهر إذا قطعته وجاوزته ، ونحوه أولتها أي ذكرت ما تؤول إليه وعبرت الرؤيا بالتخفيف عبارة أقوى وأعرف عند أهل اللغة من عبرت بالتشديد تعبيرا حتى إن بعضهم أنكر التشديد ، ويرد عليه ما أنشده المرد في الكامل لبعض الأعراب وهو :
رأيت رؤيا ثم عبرتها وكنت للأحلام عبارا
والجمع بين الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار كما أشير إليه ، واللام قيل : متعلقة بمحذوف والمقصود بذاك البيان كأنه لما قيل : تَعْبُرُونَ قيل : لأي شي ء؟ فقيل : للرؤيا فهي للبيان كما في سقيا له إلّا أن تقديم البيان على المبين لا يخلو عن شيء ، وقيل - واختاره أبو حيان - إنها لتقوية الفعل المذكور لأنه ضعف بالتأخير ، ويقال لها :
لام التقوية وتدخل في الفصيح على المعمول إذا تقدم على عامله مطلقا وعلى معمول غير الفعل إذا تأخر كزيد ضارب لعمرو ، وفي كونها زائدة أو لا خلاف ، وقيل : إنه جيء بها لتضمين الفعل المتعدي معنى فعل قاصر يتعدى باللام أي إن كنتم تنتدبون لعبارتها ، وجوز أن يكون لِلرُّءْيا خبر كان كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقبلا به متمكنا منه ، وجملة تَعْبُرُونَ خبر آخر أو حال ، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف ، وكذا فيما قبله.
وقرأ أبو جعفر بالإدغام في الرؤيا وبابه بعد قلب الهمزة واوا ثم قلب الواو ياء لسبقها إياها ساكنة ، ونصوا على شذوذ ذلك لأن الواو بدل غير لازم قالُوا استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال الملأ للملك إذ قال لهم ذلك؟
فقيل : هي أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي هي أَضْغاثُ إلخ ، وهي جمع ضغث وهو أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من أخلاط النبات ، وقد يطلق على ما كان من جنس واحد كما في قوله :
خود كأن فراشها وضعت به أضغاث ريحان غداة شمال
وجعل من ذلك ما في قوله تعالى : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ [ص : 44] فقد روي أن أيوب عليه السلام أخذ عثكالا من النخل فضرب به ، وفي الكشاف أن «أضغاث الأحلام» تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من
___________
(1) ذكر بعض المحققين أن الرؤيا تكون جمعا فلا تغفل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 441
حديث نفس أو وسوسة شيطان ، وقد استعيرت لذلك ، وأصلها ما جمع من أخلاط النبات وحزمه وإضافتها على معنى من أي أضغاث من أحلام ، وأورد عليه أن الأضغاث إذا استعيرت للأحلام الباطلة والأحلام مذكورة ، ولفظ هي المقدر عبارة عن رؤيا مخصوصة فقد ذكر المستعار والمستعار له ، وذلك مانع من الاستعارة على الصحيح عندهم ، وقد أجاب الكثير عن ذلك بما لا يخلو عن بحث ، وذكر بعض المحققين في تقرير ذاك وجهين.
الأول أنه يريد أن حقيقة الأضغاث أخلاط النبات فشبه به التخاليط والأباطيل مطلقا سواء كانت أحلاما أم غيرها ، ويشهد له قول الصحاح والأساس : ضغث الحديث خلطه ، ثم أريد هنا بواسطة الإضافة أباطيل مخصوصة فطرفا الاستعارة أخلاط النبات والأباطيل الملفقات ، فالأحلام ورؤيا الملك خارجان عنهما فلا يضر ذكرهما كما إذا قلت :
رأيت أسد قريش فهو قرينة أو تجريد ، وقوله : تخاليطها تفسير له بعد التخصيص ، وقوله : وقد استعيرت لذلك إشارة إلى التخاليط. الثاني أن الأضغاث استعيرت للتخاليط الواقعة في الرؤيا الواحدة فهي أجزاؤها لا عينها فالمستعار منه حزم النبات والمستعار له أجزاء الرؤيا ، وهذا كما إذا استعرت الورد للخد ، ثم قلت : شممت ورد هند مثلا فإنه لا يقال : إنه ذكر فيه الطرفان ا ه ، ولا يخفى ما فيه من التكلف وارتكاب غير الظاهر.
واستظهر بعضهم كون أَضْغاثُ أَحْلامٍ من قبيل لجين الماء ، ولا يخفى أنه سالم عما أورد على الزمخشري «1» إلّا أن صاحب الأساس قد صرح بأن ذلك من المجاز ، والمتبادر منه المجاز المتعارف الذي لا يطلق على ما ذكر ، ولعل الأمر في ذلك سهل ، والأحلام جمع حلم بضمة وبضمتين المنامات الباطلة على ما نص عليه جمع ، وقال بعضهم : الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم مطلقا لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن ، وغلب الحلم على خلافه ، وفي الحديث «الرؤيا من اللّه تعالى والحلم من الشيطان»
وقال التوربشتي : الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع صلى اللّه تعالى عليه وسلّم للفصل بين الحق والباطل كأنه كره أن يسمي ما كان من اللّه تعالى وما كان من الشيطان باسم واحد فجعل الرؤيا عبارة عن القسم الصالح لما فيها من الدلالة على مشاهدة الشيء بالبصر والبصيرة ، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان لأن أصل الكلمة لم تستعمل إلّا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة بما لا حقيقة له ا ه وهو كلام حسن ، ومما يشهد له في دعوى كون الحلم يستعمل عند العرب استعمال الرؤيا البيت السابق الذي أنشده المبرد كما لا يخفى ، وإنما قالوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بالجمع مع أن الرؤيا ما كانت إلّا واحدة للمبالغة في وصف ذلك بالبطلان ، وهذا كما يقال : فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز لمن لا يركب إلّا فرسا واحدا وما له إلّا عمامة فردة.
وفي الفرائد لما كانت أَضْغاثُ أَحْلامٍ مستعارة لما ذكر وهي تخاليطها وأباطيلها وهي متحققة في رؤيا واحدة بحسب أنها متركبة من أشياء كل منها حلم فكانت أحلاما ، قال الشهاب : وهو واه وإن استحسنه العلامة الطيبي ، نعم ليس هذا من إطلاق الجمع على الواحد لوجود ذلك في هذا الجنس إذ الإضافة على معنى في ، ثم نقل عن الرضي أنه قال في شرح الشافية إن جمع القلة ليس بأصل في الجمع لأنه لا يذكر إلّا حيث يراد بيان القلة فلا يستعمل لمجرد الجمعية والجنسية كما يستعمل له جمع الكثرة ، يقال : فلان حسن الثياب في معنى حسن الثوب ولا يحسن حسن الثوب ، وكم عندك من الثوب أو من الثياب ولا يحسن من الأثواب ا ه ، ثم قال : وقد ذكره الشريف في
___________
(1) لا يخفى أن صاحب الأساس قد يطلق المجاز على غير ما هو المتعارف فافهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 442
شرح المفتاح وهو مخالف لما ذكروه هنا فتأمله ، ولعل ما ذكر بعد تسليمه إنما هو في جمع القلة الذي معه جمع كثرة كما ذكره في المثال لا في ذلك وجمع القلة الذي ليس معه جمع كثرة كما هنا ، فإنا لم نجد في كتب اللغة جمعا لمفرد هذا الجمع غير هذا الجمع ، وقد ذكر غير واحد أن جمع القلة إذا لم يوجد معه جمع كثرة يستعمل استعمال جمع الكثرة ، ثم لا يخفى حسن موقع الأضغاث مع السنابل ، فيا للّه در شأن التنزيل ما أبدع رياض بلاغته.
وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ أي المنامات الباطلة بِعالِمِينَ لأنها لا تأويل لها وإنما التأويل للمنامات الصادقة ، وهذا إما لشيوع الأحلام في أباطيلها وإما لكون اللام للعهد والمعهود الأضغاث منها ، والكلام وارد على أسلوب. () على لاحب لا يهتدي بمناره () وهو إشارة إلى كبرى قياس ساقوه للعذر عن جهلهم كأنهم قالوا هذه رؤيا باطلة وكل رؤيا كذلك لا نعلم تأويلها أي لا تأويل لها حتى نعلمه ينتج هذه رؤيا لا تأويل لها.
وجوز أن يكون المراد من الأحلام الرؤى «1» مطلقا ، وأل فيه للجنس ، والكلام اعتراف منهم بقصور علمهم وأنهم ليسوا بنحارير في تأويل الرؤى مع أن لها تأويلا ، واختاره ابن المنير وادعى أنه الظاهر «2» ، وأن قول الملك لهم أولا إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها لأنه أتى بكلمة الشك فجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين ، وأن قول الفتى : أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ إلى قوله : لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ دليل على ذلك أيضا.
وذكر بعض المحققين أنه يشعر به عدولهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المعبرة عن مجرد الانتقال من الدال إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام ، أو عبارتها إلى التأويل المنبئ عن التصرف ، والتكلف في ذلك لما بين الآيل والمآل من البعد ، واعترض بأنه على هذا يبقى قولهم : أَضْغاثُ أَحْلامٍ ضائعا إذ لا دخل له في العذر ، وأجيب بأنه يمكن أن يكون المقصود منه إزالة خوف الملك من تلك الرؤيا فلا يبقى ضائعا.
وقال صاحب الكشف : إن وجه ذلك أن يجعل الأول جوابا مستقلا ، والثاني كذلك أي هاهنا أمران : أحدهما من جانب الرائي ، والثاني من جانب المعبر ، ووجه تقديم الظرف على عامله إنا أصحاب الآراء والتدابير وعلمنا بذلك رصين لا بتأويل الرؤى ، ووجهه على الأول ظاهر ، وادعى أن المقام يطابقه ، ووروده على ذلك الأسلوب مقوله لا موهن خلافا لما في الانتصاب ، ويقوى عند اختيار الوجه الثاني إذا كان الخطاب لجلسائه وأهل مشورته من أهل الحل والعقد لأن الأغلب على أمثالهم الجهل بمثل هذا العلم الذي لا يعلمه إلّا أفراد من الناس وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أي صاحبي يوسف عليه السّلام وهو الشرابي وَادَّكَرَ بالدال غير المعجمة عند الجمهور ، وأصله اذتكر أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال فيها.
وقرأ الحسن - اذكر - بابدال التاء ذالا معجمة وإدغام الذال المعجمة فيها ، والقراءة الأولى أفصح ، والمعنى على كليهما تذكر ما سبق له مع يوسف عليه السّلام بَعْدَ أُمَّةٍ أي طائفة من الزمان ومدة طويلة.
___________
(1) هي جمع رؤيا.
(2) وكذا ادعى أبو حيان في البحر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 443
وقرأ الأشهب العقيلي «إمة» بكسر الهمزة وتشديد الميم أي نعمة عليه بعد نعمة ، والمراد بذلك خلاصه من القتل والسجن وإنعام ملكه عليه ، وعلى هذا جاء قوله «1» :
ألا لا أرى إمة أصبحت به فتتركه الأيام وهي كما هي
وقال ابن عطية : المراد به نعمة أنعم اللّه تعالى بها على يوسف عليه السّلام وهي تقريب إطلاقه ولا يخفى بعده ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهم - وأمة «2» - وأمه بفتح الهمزة والميم المخففة وهاء منونة من أمه يأمه أمها إذا نسي ، وجاء في المصدر - أمه - بسكون الميم أيضا فقد روي عن مجاهد وعكرمة وشبيل بن عزرة الضبعي أنهم قرؤوا بذلك ولا عبرة بمن أنكر ، والجملة اعتراض بين القول والمقول ، وجوز أن تكون حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة ، ويحتاج ذلك إلى تقدير قد على المشهور ، وقيل : معطوفة على نجا وليس بشي ء - كما قال بعض المحققين - لأن حق كل من الصلة والصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول والموصوف عند المخاطب كما عند المتكلم ، ومن هنا قيل : الأوصاف قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف ، وأنت تعلم أن تذكره بعد أمة إنما علم بهذه الجملة فلا معنى لنظمه مع نجاته المعلومة من قبل في سلك الصلة أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ
أي أخبركم بتأويل ذلك الذي خفي أمره بالتلقي ممن عنده علمه لا من تلقاء نفسي ولذلك لم يقل أفتيكم في ذلك ، وعقبه بقوله :
فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده علمه ، وأراد به يوسف عليه السّلام وإنما لم يصرح به حرصا على أن يكون هو المرسل إليه فإنه لو ذكره فلربما أرسلوا غيره وضمير الجمع إما لأنه أراد الملك وحده لكن خاطبه بذلك على سبيل التعظيم كما هو المعروف في خطاب الملوك ، ويؤيده ما روي أنه لما سمع مقالة القوم جثى بين يدي الملك وقال : إن في السجن رجلا عالما يعبر الرؤيا فابعثوني إليه فبعثوه وكان السجن - على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما - في غير مدينة الملك ، وقيل : كان فيها ، قال أبو حيان ويرسم الناس اليوم سجن يوسف عليه السّلام في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال ، واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه كان يقرأ - أنا آتيكم - مضارع أتى من الإتيان فقيل له : إنما هو أَنَا أُنَبِّئُكُمْ فقال : أهو كان ينبئهم؟! «3» ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبيّ أنه قرأ أيضا كذلك. وفي البحر أنه كذا في الأمام أيضا يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ في الكلام حذف أي فأرسلوه فأتاه فقال : يا يوسف ، ووصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجرب أحواله في مدة إقامته معه في السجن لكونه بصدد اغتنام آثاره واقتباس أنواره ، فهو من باب براعة الاستهلال ، وفيه إشارة إلّا أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي ، واستدل بذلك على أنهما لم يكذبا على يوسف في منامهما وأنهما كذبا في قولهما : كذبنا إن ثبت. أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ أي في رؤيا ذلك ، وإنما لم يصرح به لوضوح مرامه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدلالة مضمون الحادثة عليه حيث إن مثله لا يقع في عالم الشهادة ، والمعنى بين لنا مآل ذلك وحكمه ، وعبر عن ذلك بالإفتاء ، ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولا نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ - تفخيما لشأنه عليه السّلام حيث عاين رتبته في الفضل - ولم يقل : أفتني مع أنه المستفتي وحده إشعارا بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة وأنه في ذلك
___________
(1) وقوله ثم بعد الفلاح والملك والأمة ووارتهم هناك قبور ا ه منه.
(2) أي جماعة من التابعين ا ه منه.
(3) لعله لم يرد إلّا مجرد ترجيح قراءته ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 444
معبر وسفير ، ولذا لم يغير «1» لفظ الملك ، ويؤذن بهذا قوله : لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أي إلى الملك ومن عنده ، أو إلى أهل البلد فأنبئهم بما أفتيت لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذلك ويعلمون بمقتضاه ، أو يعلمون فضلك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلص منه ، والجملة عند أبي حيان على الأول كالتعليل للرجوع ، وعلى الثاني كالتعليل - لأفتنا - وإنما لم بيت القول بل قال : لَعَلِّي ولَعَلَّهُمْ مجاراة معه عليه السّلام على نهج الأدب واحترازا عن المجازفة إذ لم يكن على يقين من الرجوع :
فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير
ولا من علمهم بذلك فربما لم يعلموه إما لعدم فهمهم أو لعدم اعتمادهم قالَ مستأنف على قياس ما مرّ غير مرة تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً قرأ حفص بفتح الهمزة ، والجمهور بإسكانها ، وقرى ء - دابا - بألف من غير همز على التخفيف ، وهو في كل ذلك مصدر - لدأب - وأصل معناه التعب ، ويكنى به عن العادة المستمرة لأنها تنشأ من مداومة العمل اللازم له التعب ، وانتصابه على الحال من ضمير تَزْرَعُونَ أي دائبين أو ذوي دأب ، وأفرد لأن المصدر الأصل فيه الإفراد ، أو على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أي تدأبون دأبا.
والجملة حالية أيضا ، وعند المبرد مفعول مطلق - لتزرعون - وذلك عنده نظير قعد القرفصاء وليس بشيء ، وقد أول عليه السّلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، فأخبرهم بأنهم يواظبون على الزراعة سبع سنين ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأويلها ، وقيل : المراد الأمر بالزراعة كذلك ، فالجملة خبر لفظا أمر معنى ، وأخرج على صورة الخبر مبالغة في إيجاب إيجاده حتى كأنه وقع وأخبر عنه ، وأيد بأن قوله تعالى : فَما حَصَدْتُمْ أي في كل سنة.
فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ولا تذروه كيلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها إذا مضى عليها نحو عامين ، ولعله استدل على ذلك بالسنبلات الخضر يناسب كونه أمرا مثله ، قيل : لأنه لو لم يؤول ذلك بالأمر لزم عطف الإنشاء على الخبر لأن - ما - إما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط ، وعلى كل حال فلكون الجزء إنشاء تكون إنشائية معطوفة على خبرية.
وأجيب بأنا لا نسلم أن الجملة الشرطية التي جوابها إنشائي إنشائية ، ولو سلم فلا نسلم العطف بل الجملة مستأنفة لنصحهم وإرشادهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه حيث لم يكن معتادا لهم كما كان الزرع كذلك ، أو هي جواب شرط مقدر أي إن زرعتم فَما حَصَدْتُمْ إلخ ، وأيضا يحتمل الأمر عكس ما ذكروه بأن يكون ذروه بمعنى تذروه ، وأبرز في صورة الأمر لأنه بإرشاده فكأنهم أمرهم به ، والتحقيق ما في الكشف من أن الأظهر أن تَزْرَعُونَ على أصله لأنه تأويل المنام بدليل قوله الآتي : ثُمَّ يَأْتِي وقوله : فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ اعتراض اهتماما منه عليه السّلام بشأنهم قبل تتميم التأويل ، وفيه ما يؤكد أمر السابق واللاحق كأنه قد كان فهو يأمرهم بما فيه صلاحهم وهذا هو النظم المعجز انتهى.
وذكر بعضهم أن - ما حصدتم - إلخ على تقدير كون تَزْرَعُونَ بمعنى ازرعوا داخل في العبارة فإن أكل السبع العجاف السبع السمان وغلبة السنبلات اليابسات الخضر دال على أنهم يأكلون في السنين المجدبة ما حصل في السنين المخصبة ، وطريق بقائه تعلموه من يوسف عليه السّلام فبقي لهم في تلك المدة ، وقيل : إن تزرعون
___________
(1) قيل : لم يغير لفظ الملك لأن التعبير يكون على وفقه فافهم ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 445
على هذا التقدير وكذا ما بعده خارج عن العبارة ، والكل كما ترى إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ أي اتركوا ذلك في السنبل إلّا ما لا غنى عنه من القليل الذي تأكلونه في تلك السنين ، وفيه إرشاد إلى التقليل في الأكل.
وقرأ السلمي مما - يأكلون - بالياء على الغيبة أي يأكل الناس ، والاقتصار على استثناء المأكول دون البذر لكون ذلك معلوما من قوله عليه السّلام : تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد السنين السبع المذكورات ، وإنما لم يقل من بعدهن قصدا «1» إلى تفخيم شأنهن سَبْعٌ شِدادٌ أي سبع سنين صعاب على الناس ، وحذف التمييز لدلالة الأول عليه يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي ما ادخرتم في تلك السنين من الحبوب المتروكة في سنابلها لأجلهن ، وإسناد الأكل إليهن مع أنه حال الناس فيهن مجازي كما في قوله تعالى : وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس :
67 ، النمل : 86 ، غافر : 61] واللام في لَهُنَّ ترشيح لذلك ، وكان الداعي إليه التطبيق بين المعبر والمعبر به ، ويجوز أن يكون التعبير بذلك للمشاكلة لما وقع في الواقعة.
وفسر بعضهم الأكل بالإفناء كما في قولهم : أكل السير لحم الناقة أي أفناه وذهب به إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي تحرزونه وتخبئونه لبزور الزراعة «2» مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي السنين الموصوفة بما ذكر الشدة وأكل المدخر من الحبوب عامٌ هو كالسنة لكن كثيرا ما يستعلم فيما فيه الراء والخصب ، والسنة فيما فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة ، وكأنه تحاشيا عن ذلك وتنبيها من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق عبر به دون السنة فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي يصيبهم غيث أي مطر كما قال ابن عباس ومجاهد والجمهور فهو من غاث الثلاثي اليائي ، ومنه قول الأعرابية : غثنا ماشيتنا وقول بعضهم أذى البراغيث إذا البراغيث ، وقيل : هو من الغوث أي الفرج ، يقال : أغاثنا اللّه تعالى إذا أمدّنا برفع المكاره حين أظلتنا فهو رباعي واوي وَفِيهِ يَعْصِرُونَ من العصر المعروف أي يعصرون ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها ، والتعرض لذكره كما قال بعض المحققين مع جواز الاكتفاء عنه بذكر الغيث المستلزم له عادة كما اكتفي به عن ذكر تصرفهم في الحبوب : إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكورات يتوقف صلاحها على أمور أخرى غير المطر ، وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به بشارة له ، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس في قراءة حمزة والكسائي بالفوقانية.
وعن ابن عباس تفسير ذلك بيحلبون وكأنه مأخوذ من العصر المعروف لأن في الحلب عصر الضرع ليخرج الدر وتكرير فيه إما كما قيل : للإشعار باختلاف ما يقع فيه زمانا وعنوانا ، وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام ، ولأجله قدم في الموضعين على العامل فإن المقام بيان أنه يقع في ذلك العام هذا وذاك لا بيان أنهما يقعان في ذلك العام كما يفيده التأخير ، وجوز أن يكون التقديم للقصر على معنى أن غيثهم في تلك السنين كالعدم بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعاة الفواصل ، وفي الأول لرعاية حاله.
___________
(1) وفي إرشاد العقل السليم لم يقل ذلك قصدا إلى الإرشاد إلى وصفهن فإن الضمير ساكت عن أوصاف المرجع بالكلية فتدبر ا ه منه.
(2) البذر والبزر بمعنى كما في العين ، وهو الجب الذي يجعل في الأرض لينبت ، وقال ابن دريد على ما في المجمل : البذر بالذال في البقول والبزر بالزاي خلافه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 446
وقرأ جعفر بن محمد رضي اللّه تعالى عنهما والأعرج وعيسى البصرة «يعصرون» على البناء للمفعول ، وعن عيسى - تعصرون - بالفوقانية مبنيا للمفعول أيضا من عصره اللّه تعالى إذا أنجاه أي ينجيهم اللّه سبحانه مما هم فيه من الشدة ، وهو مناسب لقوله : يُغاثُ النَّاسُ وعن أبي عبيدة وغيره أخذ المبني للفاعل من العصر بمعنى النجاة أيضا ، وفي البحر تفسير العصر والعصرة بالضم بالمنجاة ، وأنشد قول أبي زبيد في عثمان رضي اللّه تعالى :
صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود
وقال ابن المنير : معناه عصيرون من أعصرت السحابة عليهم أي حان وقت عصر الرياح لها لتمطر فعلى صلة الفعل كما في عصرت الليمون على الطعام فحذفت وأوصل الفعل بنفسه ، أو تضمن أعصرت معنى مطرت فتعدى تعديته ، وفي الصحاح عصر القوم أي أمطروا ، ومنه قراءة بعضهم ، وفيه يَعْصِرُونَ وظاهره أن اللفظ موضوع لذلك فلا يحتاج إلى التضمين عليه ، وحكى النقاش أنه قرىء «يعصرون» بضم الياء وكسر الصاد وتشديدها من عصر مشددا للتكثير ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «وفيه تعصرون» بكسر التاء والعين والصاد وتشديدها ، وأصله - يعتصرون - فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين ، وأتبع حركة التاء لحركة العين ، واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه أو من اعتصر بمعنى نجا ، ومن ذلك قوله :
لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ثم إن أحكام هذا العام المبارك كما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة علم آتاه اللّه تعالى علمه لم يكن فيما سئل عنه ، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وعنيا أن ذلك بالوحي وهو الظاهر ، ولقد أتى عليه السّلام بما يدل على فضله في آخر فتواه على عكس ما فعل أولا عند الجواب عن رؤيا صاحبيه حيث أتى بذلك في أولها ووجه ذلك ظاهر ، وقيل : إن هذه البشارة منه عليه السّلام لم تكن عن وحي بل لأن العادة جارية بأن انتهاء الجدب الخصب ، أو لأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده سبحانه بعد ما ضيق عليهم ، وفيه أنه لو كان كذلك لأجمل في البشارة ، وإن حصر الجدب يقتضي تغييره بخصب مالا على ذكره خصوصا على ما تقتضيه بعض القراءات من إغاثة بعضهم بعضا فإنها لا تعلم إلّا بالوحي ، ثم إنه عليه السّلام بعد أن أفتاهم وأرشدهم وبشرهم كان يتوقع وقوع ما أخبر به ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه عليه السّلام كان بعد ذلك يصنع لرجل طعام اثنين فيقربه إلى الرجل فيأكل نصفه ويدع نصفه حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله ، فقال عليه السّلام : هذا أول يوم من الشداد ، واستدل البلخي بتأويله لذلك على بطلان قول من يقول : إن الرؤيا على ما عبرت أولا فإنهم كانوا قد قالوا : أَضْغاثُ أَحْلامٍ فلو كان ما قالوه مؤثرا شيئا لأعرض عليه السّلام عن تأويلها وفيه بحث ، فقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ، ولا تقصها إلّا على وادّ وذي رأي ، ولعله إذا صح هذا يلتزم القول بأن الحكم على الرؤيا بأنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ وأنها لا ذيل لها ليس من التعبير في شيء ، وإلّا فالجمع بين ما هنا وبين الخبر مشكل.
وقال ابن العربي : إنه ينبغي أن يخص ذلك بما يحتمل من الرؤيا وجوها فيعبر بأحدها فيقع عليه ، واستدلوا بذلك أيضا على صحة رؤيا الكافر وهو ظاهر ، وقد ذكروا للاستفتاء عن الرؤيا آدابا : منها أن لا يكون ذلك عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو في الليل ، وقالوا : إن تعبيرها مناما هو تعبيرها في نفسي الأمر فلا تحتاج إلى تعبير بعد ، وأكثروا القول فيما يتعلق بها ، وأكثر ما قيل مما لا يظهر لي سره ولا أرى بعض ذلك إلّا كأضغاث أحلام وَقالَ الْمَلِكُ بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقطمير.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 447
ائْتُونِي بِهِ لما رأى من علمه وفضله وأخباره عما لا يعلمه إلّا اللطيف الخبير فَلَمَّا جاءَهُ أي يوسف عليه السّلام الرَّسُولُ وهو صاحبه الذي استفتاه ، وقال له : إن الملك يريد أن تخرج إليه.
قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ أي سيدك وهو الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي فتشه عن شأنهن وحالهن ، وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثا للملك على الجد في التفتيش لتتبين براءته وتتضح نزاهته فإن السؤال عن شيء مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث لأنه يأنف من الجهل ، ولو قال : سله أن يفتش لكان تهييجا له عن الفحص عن ذلك ، وفيه جراءة عليه فربما امتنع منه ولم يلتفت إليه ، وإنما لم يتعرض عليه السّلام لامرأة العزيز مع أنها الأصل الأصيل لما لاقاه تأدبا وتكرما ، ولذا حملها ذلك على الاعتراف بنزاهته وبراءة ساحته ، وقيل : احترازا عن مكرها حيث اعتقدها باقية في ضلالها القديم ، وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرح بمراودتهن له واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله : إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ مجاملة معهن واحترازا عن سوء مقالتهن وانتصابهن عند رفعهن إلى الملك للخصومة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد ، وفي الكشاف أنه عليه السّلام أراد بهذا أنه كيد عظيم لا يعلمه إلّا اللّه تعالى ، أو استشهد بعلم اللّه تعالى على أنهن كدنه وأنه بريء مما قرف به ، أو أراد الوعيد لهن - أي عليم بكيدهن - فمجازيهن عليه انتهى.
وكان الحصر على الأول من قربه من زيد يعلم وصلوحه لإفادته عنده «1» أو من اقتضاء المقام لأنه إذا حمله على السؤال ثم أضاف علمه إلى اللّه تعالى دلّ به على عظمته ، وأن الكنه غير مأمول الوصول لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، وهذا هو الوجه ، وفيه زيادة تشويق وبعث إلى تعرف الأمر ، فالجملة عليه تتميم لقوله : فَسْئَلْهُ إلخ والكيد اسم لما كدنه به ، وعلى الوجه الثاني تكون تذييلا كأنه «2» قيل : احمله على التعرف يتبين له براءة ساحتي فإن اللّه سبحانه يعلم أن ذلك كان كيدا منهن وإذا كان كيدا يكون لا محالة بريئا ، والكيد هو الحدث وعلى الثالث تحتملهما والمعنى بعث الملك على الغضب له والانتقام له والانتقام منهن ، وإلّا لم يتلاءم الكلام ولا يطابق كرم يوسف عليه السّلام الذي عجب منه نبينا عليه الصلاة والسّلام
فقد أخرج غير واحد عن ابن عباس وابن مسعود عنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أنه قال : «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره واللّه تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال :
ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر أن كان حليما ذا أناة»
ودعاؤه له صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم قيل : إشارة إلى ترك العزيمة بالرخصة وهي تقديم حق اللّه تعالى بتبليغ التوحيد والرسالة على براءة نفسه ، وجعله العلامة الطيبي من قبيل قولك لمن تعظمه : رضي اللّه تعالى عنك ما جوابك عن كلامي ، وقيل : يمكن أن يقال : إن في براءته النفس من حق اللّه تعالى ما فيها فإنها إذا تحققت عندهم وقع ما تلاها موقع القبول ، وقد ذكر أن الاجتهاد «3» في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها ،
فقد قال صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم : «من كان يؤمن باللّه تعالى واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم».
___________
(1) أي صاحب الكشاف ا ه منه.
(2) وقال الطيبي : كأنه قال : واللّه تعالى شاهدي وشهادة اللّه تعالى تلك الأمارات الدالة على براءته ا ه ولا يحتاج إلى هذا ففي الكيد غنية على أنه حسن ا ه منه.
(3) وزعم بعضهم أن الآية تدل على ذلك وفيه نظر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 448
وأخرج مسلم من رواية أنس أن رسول اللّه عليه الصّلاة والسّلام «كان مع إحدى نسائه فمرّ به رجل فدعاه ، وقال : هذه زوجتي ، فقال : يا رسول اللّه من كنت أظن به فلم أكن أظن بك؟! فقال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»
وكأنه لهذا كان الزمخشري وكان ساقط الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في جناية ولا فساد بل سقطت من ثلج أصابها في بعض الأسفار ، وكان يظهر مكتوب القضاة في كل بلد دخله خوفا من تهمة السوء «1» فلعله عليه السّلام خشي أن يخرج ساكتا عن أمر ذنبه غير متضحة براءة ساحته عما سجن فيه وقرف به من أن يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره ويجعلوه سلما إلى حط قدره ونظر الناس إليه بعين الاحتقار فلا يعلق كلامه في قلوبهم ولا يترتب على دعوته قبولهم ، وفي ذلك من تعري التبليغ عن الثمرة ما فيه ، وما
ذكره صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم «ولو كنت مكانه» إلخ
كان تواضعا منه عليه الصلاة والسلام لا أنه لو كان مكانه بادر وعجل وإلّا فحلمه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه قبول الخلق أوامر الحق سبحانه وتعالى أمر معلوم لدى الخواص والعموم ، وزعم ابن عطية أنه يحتمل أن يكون عليه السّلام أراد بالرب العزيز كما قيل في قوله : إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف : 23] ففي ذلك استشهاد به وتقريع له وليس بشيء ، ومثله ما قيل : إن ضمير كيدهن ليس عائدا على النسوة المذكورات بل عائد على الجنس فافهم.
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية «النسوة» بضم النون ، وقرأت فرقة - اللائي - بالياء وهو كاللاء جمع التي قالَ استئناف مبني على السؤال كما سبق كأنه قيل : فما كان بعد ذلك؟ فقيل : قال الملك إثر ما بلغه الرسول الخبر وأحضرهن : ما خَطْبُكُنَّ أي شأنكن ، وأصله الأمر العظيم الذي يحق لعظمته أن يكثر فيه التخاطب ويخطب له إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ وخادعتنه عَنْ نَفْسِهِ ورغبتنه في طاعة مولاته هل وجدتن فيه ميلا إليكن؟ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها له وتعجيبا من نزاهته عليه السّلام وعفته ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ بالغن في نفي جنس السوء عنه بالتنكير وزيادة مِنْ ، وفي الكشف في توجيه كون السؤال المقدر في نظم الكلام عن وجدانهن فيه الميل ، وذلك لأنه سؤال عن شأنهن معه عند المراودة ، وأوله الميل ثم ما يترتب عليه ، وحمله «2» على السؤال يدعي النزاهة الكلية فيكون سؤال الملك منزلا عليه إذ لا يمكن ما بعده إلّا إذا سلم الميل ، وجوابهن عليه ينطبق لتعجبهن عن نزاهته بسبب التعجب من قدرة اللّه تعالى على خلق عفيف مثله ليكون التعجب منها على سبيل الكناية فيكون أبلغ وأبلغ ، ثم نفيهن «3» العلم مطلقا وطرفا أي طرف دهم من سوء أي سوء فضلا عن شهود الميل معهن ا ه ، وهو من الحسن بمكان.
وما ذكره ابن عطية - من أن النسوة قد أجبن بجواب جيد يظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف عليه السّلام بعض براءة وذلك أن الملك لما قرّرهن أنهن راودنه قلن جوابا عن ذلك وتنزيها لأنفسهن : حاشَ لِلَّهِ ويحتمل أن يكون في جهته عليه السلام ، وقولهن : ما عَلِمْنا إلخ ليس بإبراء تام ، وإنما هو شرح القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن - ناشى ء - عن الغفلة عما قرّره المولى صاحب الكشف قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وكانت حاضرة المجلس ، قيل : أقبلت النسوة عليها يقررنها ، وقيل : خافت أن يشهد عليها بما قالت يوم قطعن أيديهن فأقرت قائلة : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي ظهر وتبين بعد خفاء قاله الخليل ، وهو مأخوذ من الحصة وهي القطعة من
___________
(1) ويناسب هذا ما تقدم عن أبي حيان في «اذكرني عند ربك» فتذكر فما في العهد من قدم ا ه منه.
(2) أي يوسف عليه السّلام ا ه منه.
(3) قد صرح غير واحد أن المراد بالعلم هنا الإدراك ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 449
الجملة أي تبينت حصة الحق من حصة الباطل ، والمراد تميز هذا عن هذا ، وإلى ذلك ذهب الزجاج أيضا ، وقيل : هو من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه ، وعلى ذلك قوله :
قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع
ويرجع هذا إلى الظهور أيضا ، وقيل : هو من حصحص البعير إذا ألقى مباركة ليناخ ، قال حميد بن ثور الهلالي يصف بعيرا :
فحصحص في صم الصفا ثفناته وناء بسلمى نوءة ثم صمما
والمعنى الآن ثبت الحق واستقر ، وذكر الراغب وغيره أن حص وحصحص - ككف وكفكف وكب وكبكب - وقرىء بالبناء للمفعول على معنى أقر الحق في مقره ووضع في موضعه ، والْآنَ من الظروف المبنية في المشهور «1» وهو اسم للوقت الحاضر جميعه كوقت فعل الإنشاء حال النطق به أو الحاضر بعضه كما في هذه الآية ، وقوله سبحانه : الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال : 66] وقد يخرج عند ابن مالك عن الظرفية
كخبر «فهو يهوي في النار الآن حين انتهى إلى مقرها»
فإن الآن فيه في موضع رفع على الابتداء ، و«حين» خبره وهو مبني لإضافته إلى جملة صدرها ماض وألفه منقلبة عن واو لقولهم في معناه : الأوان ، وقيل : عن ياء لأنه من آن يئين إذا قرب ، وقيل : أصله أو أن قلبت الواو ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، ورد بأن الواو قبل الألف لا تقلب كالجواد والسواد ، وقيل : حذفت الألف وغيرت الواو إليها كما في راح ورواح استعملوه مرة على فعل وأخرى على فعال كزمن وزمان ، واختلفوا في علة بنائه فقال الزجاج : بني لتضمنه معنى الإشارة لأن معناه هذا الوقت ، وردّ بأن المتضمن معنى الإشارة بمنزلة اسم الإشارة وهو لا تدخله ال ، وقال أبو علي : لتضمنه معنى لام التعريف لأنه استعمل معرفة وليس علما وأل فيه زائدة ، وضعف «2» بأن تضمن اسم معنى حرف اختصارا ينافي زيادة ما لا يعتد به هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه فكيف إذا كان إياه ، وقال المبرد وابن السراج : لأنه خالف نظائره إذ هو نكرة في الأصل استعمل من أول وضعه باللام ، وبابها أن تدخل على النكرة وإليه ذهب الزمخشري ، ورده ابن مالك بلزوم بناء الجماء الغفير ونحوه مما وقع في أول وضعه باللام ، وبأنه لو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحرف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيره ، وهو باطل بإجماع ، واختار أنه بني لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد لأنه لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر بخلاف حين ووقت وزمان ومدة وردّه أبو حيان بما ردّ هو به على من تقدم ، وقال الفراء : إنما بني لأنه نقل من فعل ماض وهو آن بمعنى حان فبقي على بنائه استصحابا على حد أنهاكم عن قيل وقال ، وردّ بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه أل كما لا تدخل على ما ذكر ، وجاز فيه الإعراب كما جاز فيه ، وذهب بعضهم إلى أنه معرب منصوب على الظرفية ، واستدل بقوله : كأنهما ملآن لم يتغيرا ، بكسر النون أي من الآن فحذفت النون والهمزة وجر فدل على أنه معرب وضعف «3» باحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء ويكون في بناء الآن لغتان : الفتح والكسر كما في شتان إلّا أن الفتح أكثر وأشهر ، وفي شرح الألفية لابن الصائغ أن الذي قال : إن أصله أو أن يقول : بإعرابه كما أن وأنا معرب.
واختار الجلال السيوطي بإعرابه لأنه لم يثبت لبنائه علة معتبرة فهو عنده منصوب على الظرفية ، وإن دخلت من
___________
(1) والدليل على اسميتها دخول أل وحرف الجر ا ه منه.
(2) المضعف هو ابن مالك ا ه منه.
(3) المضعف ابن مالك أيضا ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 450
جرّ وخروجه عن الظرفية غير ثابت ، وفي الاستدلال بالحديث السابق مقال ، وأيا ما كان فهو هنا متعلق - بحصحص - أي حصحص الحق في هذا الوقت أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ لا أنه راودني عن نفسي ، وإنما قالت ذلك بعد اعترافها تأكيدا لنزاهته عليه السلام ، وكذا قولها : وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي في قوله حين افتريت عليه هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف : 26] قيل : إن الذي دعاها لذلك كله التوخي لمقابلة الأعراف حيث لا يجدي الإنكار بالعفو ، وقيل : إنها لما تناهت في حبه لم تبال بانتهاك سترها وظهور سرها ، وفي إرشاد العقل السليم أنها لم ترد بقولها :
الْآنَ إلخ مجرد ظهور ما ظهر بشهادة النسوة من مطلق نزاهته عليه السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطن خصوصا فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهور ما هو متحقق في نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه السلام في محل النزاع وخيانتها ، ولهذا قالت : أَنَا راوَدْتُهُ إلخ ، وأرادت - بالآن - زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن ا ه فافهم وتأمل هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم يتمالك الخصماء من الشهادة بها على أتم وجه :
والفضل ما شهدت به الخصماء وليت من نسب إليه السوء - وحاشاه - كان عنده عشر معشار ما كان عند أولئك النسوة الشاهدات من الإنصاف ذلِكَ لِيَعْلَمَ الذي ذهب إليه غير واحد أن ذلك إشارة إلى التثبت مع ما تلاه من القصة أجمع «1» فهو من كلام يوسف عليه السلام جعله فذلكة منه لما نهض له أولا من التشمر لطهارة ذيله وبراءة ساحته ، وقد حكى اللّه تعالى ما وقع من ذلك طبق الوجود مع رعاية ما عليه دأب القرآن من الإيجاز كحذف فرجع إلى ربه فأنهاه مقالة يوسف فأحضرهن سائلا قال : ما خَطْبُكُنَّ إلخ وكذلك كما قيل في قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ إلخ ، وكذلك هذا أيضا لأن المعنى فرجع إليه الرسول قائلا فتش الملك عن كنه الأمر وبان له جلية الحق من عصمتك وأنك لم ترجع في ذلك المقام الدحض بمس ملام فعند ذلك قال عليه السلام : ذلِكَ لِيَعْلَمَ العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في حرمته بِالْغَيْبِ أي بظهر الغيب ، وقيل : ضمير يعلم للملك ، وضمير أَخُنْهُ للعزيز ، وقيل : للملك أيضا لأن خيانة وزيره خيانة له ، والباء إما للملابسة أو للظرفية ، وعلى الأول هو حال من فاعل أَخُنْهُ أي تركت خيانته وأنا غائب عنه ، أو من مفعوله أي وهو غائب عني وهما متلازمان ، وجوز أن يكون حالا منهما وليس بشيء ، وعلى الثاني فهو ظرف لغو لما عنده أي لَمْ أَخُنْهُ بمكان الغيب وراء الإستار والأبواب المغلقة ، ويحتمل الحالية أيضا وَأَنَّ اللَّهَ أي وليعلم أن اللّه تعالى.
لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي لا ينفذه ولا يسدّده بل يبطله ويزهقه فهداية الكيد مجاز عن تنفيذه ، ويجوز أن يكون المراد لا يهدي الخائنين «2» بسبب كيدهم فأوقع الهداية المنفية على الكيد وهي واقعة عليهم تجوزا للمبالغة لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى ، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته ، وبه في خيانته أمانة اللّه تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا الآيات الدالة على نزاهته عليه السلام ، ويجوز أن يكون مع
___________
(1) وفي الكشاف صح ذلك لدلالة المعنى عليه ونحوه قوله تعالى : قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ [الأعراف : 109 ، 110] ، وفيه دغدغة ا ه منه.
(2) في عبارة بعضهم بكيدهم فالباء إما متعلقة بالفعل أو متعلقة بالخائنين ، وفيه تنبيه على أنه تعالى يهدي كيد من لم يقصد الخيانة بكيده كيوسف عليه السلام في كيده إخوته كذا قيل ، فتدبر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 451
ذلك تأكيدا لأمانته عليه السلام على معنى لو كنت خائنا لما هدى اللّه تعالى كيدي ولا سدّده ، وتوهم عبارة بعضهم عدم اجتماع التأكيد والتعريض ، والحق أنه لا مانع من ذلك ، وأراد بكيده تشمره وثباته ذلك ، وتسميته كيدا على فرض الخيانة على بابها حقيقة كما لا يخفى ، فما في الكشف من أنه سماه كيدا استعارة أو مشاكلة ليس بشيء ، وقيل : إن ضمير يعلم ولَمْ أَخُنْهُ للّه تعالى أي ذلك ليعلم اللّه تعالى أني لم أعصه أي ليظهر أني غير عاص ويكرمني ويصير سبب رفع منزلتي وليظهر أن كيد الخائن لا ينفذ وأن العاقبة للمطيع لا للعاصي فهو نظير قوله تعالى : لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ [البقرة : 143] وله نظائر أخر في القرآن كثيرة إلّا أن اللّه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وأما غيره فلم يرد في الكتاب العزيز ، وفيه نوع إيهام التحاشي عنه أحسن على أن المقام لما تقدم ادعى.
تم الجزء الثاني عشر ويليه إن شاء اللّه تعالى الجزء الثالث عشر ، أوله وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 452

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 453
الفهرس
تتمة تفسير سورة التوبة الآيات : 93 - 110 3 الآيات : 111 - 129 25 تفسير سورة يونس الآيات : 1 - 19 56 الآيات : 20 - 41 87 الآيات : 42 - 89 117 الآيات : 90 - 109 169 تفسير سورة هود الآيات : 1 - 5 190 الآيات : 6 - 11 203 الآيات : 12 - 49 219 الآيات : 50 - 95 276 الآيات : 96 - 123 326 تفسير سورة يونس الآيات : 1 - 6 363 الآيات : 7 - 22 380 الآيات : 23 - 33 403 الآيات : 34 - 52 426

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 3
[الجزء السابع ]
[تتمة سورة يوسف ]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة يوسف (12) : الآيات 53 إلى 78]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 4
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أي لا أنزهها عن السوء قال ذلك عليه السلام : هضما لنفسه البرية عن كل سوء وتواضعا للّه تعالى وتحاشيا عن التزكية والإعجاب بحالها على أسلوب
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» «1»
أو تحديثا بنعمة اللّه تعالى وإبرازا لسره المكنون في شأن أفعال العباد أي لا أنزهها من حيث هي - هي - ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من اللّه سبحانه بل إنما ذلك بتوفيقه جل شأنه ورحمته ، وقيل : إنه أشار بذلك إلى أن عدم التعرض لم يكن لعدم الميل الطبيعي بل لخوف اللّه تعالى إِنَّ النَّفْسَ البشرية التي من جملتها نفسي في حد ذاتها لَأَمَّارَةٌ لكثيرة الأمر بِالسُّوءِ أي بجنسه ، والمراد أنها كثيرة الميل إلى الشهوات مستعملة في تحصيلها القوى والآلات. وفي كثير من التفاسير أنه عليه السلام حين قال : لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل عليه السلام :
ولا حين هممت؟ فقال : وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إلخ ، وقد أخرجه الحاكم في تاريخه وابن مردويه بلفظ قريب من هذا عن أنس مرفوعا ، وروي ذلك عن ابن عباس وحكيم بن جابر والحسن وغيرهم ،
وهو إن صح يحمل الهم فيه على الميل الصادر عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق العزم والقصد ، وقيل : لا مانع من أن يحمل على الثاني ويقال : إنه صغيرة وهي تجوز على الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة ، ويلتزم أنه عليه السلام لم يكن إذ ذاك نبيا.
والزمخشري جعل ذلك وما أشبهه من تلفيق المبطلة وبهتهم على اللّه تعالى ورسوله ، وارتضاه وهو الحري بذلك ابن المنير وعرض بالمعتزلة بقوله : وذلك شأن المبطلة من كل طائفة إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي قال ابن عطية : الجمهور على أن الاستثناء منقطع وما مصدرية أي لكن رحمة ربي هي التي تصرف عنها السوء على حد ما جوز في قوله سبحانه : وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا [يس : 23] وجوز أن يكون استثناء من أعم الأوقات وما مصدرية ظرفية زمانية أي هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت رحمة ربي وعصمته ، والنصب على الظرفية لا على الاستثناء كما توهم ، لكن فيه التفريغ في الإثبات والجمهور على أنه لا يجوز إلا بعد النفي أو شبهه. نعم أجازه بعضهم في الإثبات إن استقام المعنى كقرأت إلا يوم الجمعة. وأورد على هذا بأنه يلزم عليه كون نفس يوسف وغيره من الأنبياء
___________
(1)
روي «ولا فخر»
بالمعجمات من فوق ومعناه الكلام الباطل اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 5
عليهم السلام مائلة إلى الشهوات في أكثر الأوقات إلا أن يحمل ذلك على ما قبل النبوة بناء على جواز ما ذكر قبلها أو يراد جنس النفس لا كل واحدة.
وتعقيب بأن الأخير غير ظاهر لأن الاستثناء معيار العموم ولا يرد ما ذكر رأسا لأن المراد هضم النوع البشري اعترافا بالعجز لولا العصمة على أن وقت الرحمة قد يعم العمر كله لبعضهم ا ه ، ولعل الأولى الاقتصار على ما في حيز العلاوة فتأمل ، وأن يكون استثناء من النفس أو من الضمير المستتر في - أمارة - الراجع إليها أي كل نفس أمارة بالسوء إلا التي رحمها اللّه تعالى وعصمها عن ذلك كنفسي أو من مفعول - أمارة - المحذوف أي أمارة صاحبها إلا ما رحمه اللّه تعالى ، وفيه وقوع ما على من يعقل وهو خلاف الظاهر ، ولينظر الفرق في ذلك بينه وبين انقطاع الاستثناء إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ عظيم المغفرة فيغفر ما يعتري النفوس بمقتضى طباعها ومبالغ في الرحمة فيعصمها من الجريان على موجب ذلك ، والإظهار في مقام الإضمار مع التعرض لعنوان الربوبية لتربية مبادئ المغفرة والرحمة ، ولعل تقديم ما يفيد الأولى على ما يفيد الثانية لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وذهب الجبائي واستظهره أبو حيان إلى أن ذلِكَ لِيَعْلَمَ إلى هنا من كلام امرأة العزيز ، والمعنى ذلك الإقرار والاعتراف بالحق ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال غيبته وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت ما قلت وفعلت به ما فعلت إن كل نفس أمارة بالسوء إلا نفسا رحمها اللّه تعالى بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام إن ربي غفور لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيم له. وتعقب ذلك صاحب الكشف بأنه ليس موجبه إلا ما توهم من الاتصال الصوري وليس بذاك ، ومن أين لها أن تقول : وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي بعد ما وضح ولا كشية الأبلق أنها أمها يرجع إليها طمها ورمها.
ومن الناس من انتصر له بأن أمر التعليل ظاهر عليه ، وهو على تقدير جعله من كلامه عليه السلام غير ظاهر لأن علم العزيز بأنه لم يكن منه ما قرف به إنما يستدعي التفتيش مطلقا لا خصوص تقديمه على الخروج حين طلبه الملك والظاهر على ذلك التقدير جعله له. وأجيب بأن المراد ليظهر علمه على أتم وجه وهو يستدعي الخصوص ، ويساعد على إرادة ظهور العلم أن أصل العلم كان حاصلا للعزيز قبل حين شهد شاهد من أهلها وفيه نظر ، ويمكن أن يقال : إن في التثبت وتقديم التفتيش على الخروج من مراعاة حقوق العزيز ما فيه حيث لم يخرج من جنسه قبل ظهور بطلان ما جعله سببا له مع أن الملك دعاه إليه ، ويترتب على ذلك علمه بأنه لم يخنه في شيء من الأشياء أصلا فضلا عن خيانته في أهله لظهور أنه عليه السلام إذا لم يقدم على ما عسى أن يتوهم أنه نقض لما أبرمه مع قوة الداعي وتوفر الدواعي فهو بعدم الإقدام على غيره أجدر وأحرى ، فالعلة للتثبت مع ما تلاه من القصة هي قصد حصول العلم بأنه عليه السلام لم يكن منه ما يخون به كائنا ما كان مع ما عطف عليه ، وذلك العلم إنما يترتب على ما ذكر لا على التفتيش ولو بعد الخروج كما لا يخفى ، أو يقال : إن المراد ليجري على موجب العلم بما ذكر بناء على التزام أنه كان قبل ذلك عالما به لكنه لم يجر على موجب علمه وإلا لما حبسه عليه السلام فيتلافى تقصيره بالإعراض عن تقبيح أمره أو بالثناء عليه ليحظى عند الملك ويعظمه الناس فتينع من دعوته أشجارها وتجري في أودية القلوب أنهارها ، ولا شك أن هذا مما يترتب على تقديم التفتيش كما فعل ، وليس ذلك مما لا يليق بشأنه عليه السلام بل الأنبياء عليهم السلام كثيرا ما يفعلون مثل ذلك في مبادئ أمرهم وقد كان نبينا صلى اللّه عليه وسلم يعطي الكافر إذا كان سيد قومه ما يعطيه ترويجا لأمره ، وإذا حمل قوله عليه السلام لصاحبه الناجي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف : 42] على مثل هذا كما فعل
أبو حيان تناسب طرفا الكلام أشد تناسب ، وكذا لو حمل ذاك على ما اقتضاه ظاهر الكلام وتظافرت عليه الأخبار.
وقيل هنا : إن ذلك لئلا يقبح العزيز أمره عند الملك تمحلا لإمضاء ما قضاه ، ويكون ذلك من قبيل السعي في تحقيق المقتضي لخلاصه وهذا من قبيل التشمير لرفع المانع لكنه مما لا يليق بجلالة شأنه عليه السلام.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 6
ولعل الدعاء بالمغفرة في الخبر السالف على هذا إشارة إلى ما ذكر ، ويقال : إنه عليه السلام إنما لم يعاتب عليه كما عوتب على الأول لكونه دونه مع أنه قد بلغ السيل الزبى ، ولا يخفى أن عوده عليه السلام لما يستدعي أدنى عتاب بالنسبة إلى منصبه بعد أن جرى ما جرى في غاية البعد ، ومن هنا قيل : الأولى أن يجعل ما تقدم كما تقدم ويحمل هذا على أنه عليه السلام أراد به تمهيد أمر الدعوة إلى اللّه تعالى جبرا لما فعل قبل واتباعا لخلاف الأولى بالنظر إلى مقامه بالأولى ، وقيل : في وجه التعليل غير ذلك ، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أن هذا من تقديم القرآن وتأخيره وذهب إلى أنه متصل بقول : فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إلخ ويرد على ظاهره ما لا يخفى فتأمل جميع ما ذكرناه لتكون على بصيرة من أمرك.
وفي رواية البزي عن ابن كثير وقالون عن نافع أنهما قرآ «بالسو» على قلب الهمزة واوا والإدغام وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ أجعله خالصا لِنَفْسِي وخاصا بي فَلَمَّا كَلَّمَهُ في الكلام إيجاز أي فأتوا به فلما إلخ ، وحذف ذلك للإيذان بسرعة الإتيان فكأنه لم يكن بينه وبين الأمر بإحضاره عليه السلام والخطاب معه زمان أصلا ، ولم يكن حاضرا مع النسوة في المجلس كما زعمه بعض وجعل المراد من هذا الأمر قربوه إلي ، والضمير المستكن في «كلمه» ليوسف عليه السلام والبارز للملك أي فلما كلم يوسف عليه السلام الملك آثر ما أتاه فاستنطقه ورأى حسن منطقه بما صدق الخبر الخبر ، واستظهر في البحر كون الضمير الأول للملك والثاني ليوسف أي فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة ومنزلة رفيعة أَمِينٌ مؤتمن على كل شيء ، وقيل : آمن من كل مكروه ، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام ، والْيَوْمَ ليس بمعيار للمكانة والأمانة بل هو آن التكلم ، والمراد تحديد مبدئهما احترازا عن كونهما بعد حين ، وفي اختيار - لدى - على عند ما لا يخفى من الاعتناء بشأنه عليه السلام ، وكذا في اسمية الجملة وتأكيدها.
روي أن الرسول جاءه فقال له :
أجب الملك الآن بلا معاودة والق عنك ثياب السجن واغتسل والبس ثيابا جددا ففعل فلما قام ليخرج دعا لأهل السجن اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد ثم خرج فكتب على الباب هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ، فلما وصل إلى باب الملك قال : حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره ثم سلم عليه بالعربية فقال له الملك : ما هذا اللسان؟ فقال : لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانية فقال له : وما هذا اللسان أيضا؟ فقال : هذا لسان آبائي ، وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك فحكاها عليه السلام له طبق ما رأى لم يخرم منها حرفا ، فقال الملك : أعجب من تأويلك إياها معرفتك لها فأجلسه معه على السرير وفوض إليه أمره
وقيل : إنه أجلسه قبل أن يقص الرؤيا. وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال : ذكروا أن قطفير هلك «1» في تلك الليالي وأن الملك زوج «2» يوسف امرأته راعيل فقال لها حين أدخلت عليه : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟
فقالت : أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جملاء ناعمة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك اللّه تعالى في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي على ما رأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء فأصابها فولدت له رجلين إفرائيم وميشا.
___________
(1) وجاء في رواية أن الملك عزله ونصب يوسف عليه السلام منصبه ا ه منه.
(2) وكان ذلك على الفور بناء على أنه لم تكن العدة من دينهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 7
أخرج الحكيم الترمذي عن وهب قال : أصابت امرأة العزيز حاجة فقيل لها : لو أتيت يوسف بن يعقوب فسألتيه فاستشارت الناس في ذلك فقالوا : لا تفعلي فإنا نخافه عليك قالت : كلا إني لا أخاف ممن يخاف اللّه تعالى فأدخلت عليه فرأته في ملكه فقالت : الحمد للّه الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته ثم نظرت إلى نفسها فقالت : الحمد للّه الذي جعل الملوك عبيدا بمعصيته فقضى لها جميع حوائجها ثم تزوجها فوجدها بكرا الخبر.
وفي رواية أنها تعرضت له في الطريق فقالت ما قالت فعرفها فتزوجها فوجدها بكرا وكان زوجها عنينا ،
وشاع عند القصاص أنها عادت شابة بكرا إكراما له عليه السلام بعد ما كانت ثيبا غير شابة ، وهذا مما لا أصل له ، وخبر تزوجها أيضا مما لا يعول عليه عند المحدثين وعلى فرض ثبوت التزوج فظاهر خبر الحكيم أنه إنما كان بعد تعيينه عليه السلام لما عين له من أمر الخزائن ، قيل : ويعرب عنه قوله تعالى :
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي أرض مصر ، وفي معناه قول بعضهم أي أرضك التي تحت تصرفك ، وقيل : أراد بالأرض الجنس وبخزائنها الطعام الذي يخرج منها ، وعَلى متعلقة على ما قيل - بمستول - مقدر ، والمعنى ولني على أمرها من الإيراد والصرف إِنِّي حَفِيظٌ لها ممن لا يستحقها عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها ، وقيل : بوقت الجوع ، وقيل : حفيظ للحساب عليم بالألسن ، وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جهل أمره ، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر ، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلا وكان متعينا لذلك ، وما
في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها»
وارد في غير ما ذكر. وعن مجاهد أنه أسلم الملك على يده عليه السلام ، ولعل إيثاره عليه السلام لتلك الولاية خاصة إنما كان للقيام بما هو أهم أمور السلطنة إذ ذاك من تدبير أمر السنين لكونه من فروع تلك الولاية لا لمجرد عموم الفائدة كما قيل.
وجاء في رواية أن الملك لما كلمه عليه السلام وقص رؤياه وعبرها له قال : ما ترى أيها الصديق؟ قال : تزرع في سني الخصب زرعا كثيرا فإنك لو زرعت فيها على حجر نبت وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فإنه أبقى له ويكون القصب علفا للدواب فإذا جاءت السنون بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم ، فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني العمل فيه؟ فقال : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إلخ ،
والظاهر أنه أجابه لذلك حين سأله ، وإنما لم يذكر إجابته له عليه السلام إيذانا بأن ذلك أمر لا مرد له غني عن التصريح به لا سيما بعد تقديم ما تندرج تحته أحكام السلطنة جميعها. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يرحم اللّه تعالى أخي يوسف لو لم يقل : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ لاستمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة»
ثم إنه كما
روي عن ابن عباس وغيره توجه وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع ووضع عليه الفرش وضرب عليه حلة من إستبرق فقال عليه السلام : أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال : قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك ، فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض إليه الملك أمره وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق منها شيء ، وفي الثانية بالحلي والجواهر ، وفي الثالثة بالدواب والمواشي ، وفي الرابعة بالعبيد والجواري ، وفي الخامسة بالضياع والعقار ، وفي السادسة بالأولاد ، وفي السابعة بالرقاب حتى استرقهم جميعا وكان ذلك مما يصح في شرعهم. فقالوا : ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 8
فقال للملك : كيف رأيت صنع اللّه تعالى فيما خولني فما ترى في هؤلاء؟ فقال الملك : الرأي رأيك ونحن لك تبع فقال : إني أشهد اللّه تعالى وأشهدك أني قد أعتقتهم ورددت إليهم أملاكهم.
ولعل الحكمة في ذلك إظهار قدرته وكرمه وانقيادهم بعد ذلك لأمره حتى يخلص إيمانهم ويتبعوه فيما يأمرهم به فلا يقال : ما الفائدة في تحصيل ذلك المال العظيم ثم إضاعته؟ وكان عليه السلام في تلك المدة فيما يروى لا يشبع من الطعام فقيل له : أتجوع وخزائن الأرض بيدك؟ فقال : أخاف إن شبعت أنسى الجائع وأمر عليه السلام طباخي الملك أن يجعلوا غذاءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق طعم الجوع فلا ينسى الجياع ، قيل : ومن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار ، وقد أشار سبحانه إلى ما آتاه من الملك العظيم بقوله جل وعلا : وَكَذلِكَ أي مثل التمكين البديع مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أي جعلنا له مكانا فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر ،
روي أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين ،
وفي التعبير عن الجعل المذكور بالتمكين في الأرض مسندا إلى ضميره تعالى من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايته والإشارة إلى حصول ذلك من أول الأمر لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى ، واللام في لِيُوسُفَ على ما زعم أبو البقاء يجوز أن تكون زائدة أي مكنا يوسف وأن لا تكون كذلك والمفعول محذوف أي مكنا له الأمور ، وقد مر لك ما يتضح منه الحق يَتَبَوَّأُ مِنْها ينزل من قطعها وبلادها حَيْثُ يَشاءُ ظرف ليتبوأ ، وجوز أن يكون مفعولا به كما في قوله تعالى : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام : 124] ومِنْها متعلق بما عنده ، وقيل : بمحذوف وقع حالا من حيث.
وتعقب بأن حَيْثُ لا يتم إلا بالمضاف إليه وتقديم الحال على المضاف إليه لا يجوز ، والجملة في موضع الحال من يوسف وضمير يَشاءُ له ، وجوز أن يكون للّه تعالى ففيه التفات ، ويؤيده أنه قرأ ابن كثير والحسن وبخلاف عنهم أبو جعفر وشيبة ونافع «نشاء» بالنون فإن الضمير على ذلك للّه تعالى قطعا نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا بنعمتنا وعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم ، وقيل : المراد بالرحمة النبوة وليس بذاك مَنْ نَشاءُ بمقتضى الحكمة الداعية للمشيئة وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل نوفي لهم أجورهم في الدنيا لإحسانهم ، والمراد به على ما قيل : الإيمان والثبات على التقوى فإن قوله سبحانه : وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ قد وضع فيه الموصول موضع ضمير الْمُحْسِنِينَ وجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل تنبيها على ذلك ، والمعنى ولأجرهم في الآخرة خير ، والإضافة فيه للملابسة ، وجعل في تعقيب الجملة الثالثة المؤكدة بعد المنفية إشعار بأن مدار المشيئة المذكورة إحسان من تصيبه الرحمة المذكورة ، وفي ذكر الجملة الثالثة المؤكدة بعد دفع توهم انحصار ثمرات الإحسان فيما ذكر من الأجر العاجل ، ويفهم من ذلك أن المراد - ممن نشاء - من نشاء أن نصيبه بالرحمة من عبادنا الذين آمنوا واستمروا على التقوى.
وتعقب بأنه خلاف الظاهر ، ولعل الظاهر حمل مَنْ على ما هو أعم مما ذكر وحينئذ لا يبعد أن يراد بالرحمة النعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال وبالأجر ما كان في مقابلة شيء من ذلك ، يبقى أمر وضع الموصول موضع الضمير على حاله كأنه قيل : نتفضل على من نشاء من عبادنا كيف كانوا وننعم عليهم بالملك والغنى وغيرهما لا في مقابلة شيء ونوفي أجور المؤمنين المستمرين على التقوى منهم ونعطيهم في الدنيا ما نعطيهم في مقابلة إيمانهم واستمرارهم على التقوى وما نعطيهم في مقابلة ذلك في الآخرة من النعيم العظيم المقيم خير لهم مما نعطيهم في الدنيا لعظمه ودوامه.
واعترض بأن فيه إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من نحو الملك والغنى مع أنه ليس برحمة كما يشعر به كثير من الآيات ويقتضيه قولهم : ليس للّه تعالى نعمة على كافر. وأجيب بأن قولهم : في «الرحمن» أنه الذي يرحم المؤمن والكافر في الدنيا ظاهر في صحة إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من ذلك ، وكذا قوله تعالى : وَما

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 9
أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ
[الأنبياء : 107] ظاهر في صحة القول بكون الكافر مرحوما في الجملة وأمر الإشعار سهل ، وقولهم : ليس للّه تعالى نعمة على كافر إنما قاله البعض بناء على أخذ - يحمد عاقبتها - في تعريفها. وإن أبيت ولا أظن فلم لا يجوز أن يقال : إنه عبر عما ذكر بالرحمة رعاية لجانب من اندرج في عموم «من» من المؤمنين.
نعم يرد على تفسير الرحمة هنا بالنعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال والأجر بما كان ما
روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق وتلا الآية
فإنه ظاهر في أن ما يصيب الكافر مما تقدم في مقابلة عمل له وأن في الآية ما يدل على ذلك وليس هو إلا نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وقد يجاب بأنه لعله حمل الْمُحْسِنِينَ على ما يشمل الكفار الفاعلين لما يحسن كصلة الرحم ونصرة المظلوم وإطعام الفقير ونحو ذلك ، فحصر الدلالة فيما ذكر ممنوع نعم إن هذا الأثر يعكر على التفسير السابق عكرا بينا إذا الآية عليه لا تعرض فيها للكافر أصلا فلا معنى لتلاوتها إثر ذلك الكلام.
وعمم بعضهم الأوقات في نُصِيبُ وَلا نُضِيعُ فقال نصيب في الدنيا والآخرة ولا نضيع أجر المحسنين بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا ، وأيد بأنه لا موجب للتخصيص وأن خبر سفيان يدل على العموم وتعقب بأن من خص ذلك بالدنيا فإنما خصه ليكون ما بعده تأسيسا وبأنه لا دلالة للخبر على ذلك لأنه مأخوذ من مجموع الآية وفيه ما فيه.
وعن ابن عباس تفسير الْمُحْسِنِينَ بالصابرين ، ولعله رضي اللّه تعالى عنه على تقدير صحة الرواية رأى ذلك أوفق بالمقام. وأيّا ما كان في الآية إشارة إلى أن ما أعد اللّه تعالى ليوسف عليه السلام من الأجر والثواب في الآخرة أفضل مما أعطاه في الدنيا من الملك.
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ممتارين لما أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر ، وقد كان حل بآل يعقوب عليه السلام ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم : يا بني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه تشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر فَدَخَلُوا عَلَيْهِ عليه السلام وهو في مجلس ولايته فَعَرَفَهُمْ لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة أحوالهم يوم المفارقة لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيئاتهم وزيهم في الحالين ، ولكون همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط ، ولعله عليه السلام كان مترقبا مجيئهم إليه لما يعلم من تأويل رؤياه. وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم وأمر بإنزالهم ، ولذلك قال الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا إليه. وتعقب ذلك في الانتصاف بأن توسيط الفاء بين دخولهم عليه ومعرفته لهم يأبى كلام الحسن ويدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبه المعرفة بلا مهلة وفيه تأمل.
وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي والحال أنهم منكرون له لنسيانهم له بطول العهد وتباين ما بين حاليه في نفسه ومنزلته وزيه ولاعتقادهم أنه هلك ، وقيل : إنما لم يعرفوه لأنه عليه السلام أوقفهم موقف ذوي الحاجات بعيدا منه وكلمهم بالواسطة ، وقيل : إن ذلك لمحض أنه سبحانه لم يخلق العرفان في قلوبهم تحقيقا لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون فكان ذلك معجزة له عليه السلام ، وقابل المعرفة بالإنكار على ما هو الاستعمال الشائع ، فعن الراغب المعرفة والعرفان معرفة الشيء بتفكر في أثره فهو أخص من العلم ، وأصله من عرفت أي أصبت عرفه أي رائحته ويضاد المعرفة الإنكار والعلم الجهل ، وحيث كان إنكارهم له عليه السلام أمرا مستمرا في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليه السلام إياهم.
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله ، ولعله عليه السلام إنما باع كل

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 10
واحد منهم وحمل بعير لما روي أنه عليه السلام كان لا يبيع أحدا من الممتارين أكثر من ذلك تقسيطا بين الناس وفيما يأتي إن شاء اللّه تعالى من قولهم : وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يوسف : 65] ما يؤيده ، وأصل الجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع ، وجهاز العروس ما تزف به إلى زوجها والميت ما يحتاج إليه في دفنه. وقرئ بكسر الجيم قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ولم يقل بأخيكم مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم كأنه لا يدري من هو ولو أضافه اقتضى معرفته لإشعار الإضافة به ، ومن هنا قالوا في أرسل غلاما لك : الغلام غير معروف وفي أرسل غلامك معروف بينك وبين مخاطبك عهد فيه ، ولعله عليه السلام إنما قال ذلك لما قيل : من أنهم سألوه حملا زائدا على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرط عليهم أن يأتوه به مظهرا لهم أنه يريد أن يعلم صدقهم ، وقيل : إنهم لما رأوه فكلموه بالعبرية قال لهم : من أنتم فإني أنكركم؟ فقالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال : لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي قالوا : معاذ اللّه نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحد ، فقال : كم أنتم هاهنا؟ قالوا : عشرة. قال : فأين الحادي عشر؟ ، قالوا : هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك.
قال : فمن يشهد لكم أنكم لستم عيونا وأن ما تقولون حق؟ قالوا : نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون ، وقيل : إنه عليه السلام هو الذي اختاره لأنه كان أحسنهم رأيا فيه ، والمشهور أن الأحسن يهوذا فخلفوه عنده ، ومن هذا يعلم سبب هذا القول. وتعقب بأنه لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز ولا الحث عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسان في الإنزال ولا الاقتصار على منع الكيل من غير ذكر الرسالة على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل ، وقال بعضهم : إنه يضعف الخبر اشتماله على بهت إخوته بجعلهم جواسيس إلا أن يقال : إن ذلك كان عن وحي.
وقال ابن المنير : إن ذلك غير صحيح لأنه إذا ظنهم جواسيس كيف يطلب منهم واحدا من إخوتهم وما في النظم الكريم يخالفه وأطال في ذلك. وتعقب بأنه ليس بشيء لأنهم لما قالوا له : إنهم أولاد يعقوب عليه السلام طلب أخاهم وبه يتضح الحال. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنهم لما دخلوا عليه عليه السلام فعرفهم وهم له منكرون جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه فوضعه على يده فجعل ينقره ويطن وينقره ويطن فقال : إن هذا الجام ليخبرني خبرا هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وكان أبوه يحبه دونكم وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال : فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون أن الجام يخبر بذلك ، وفيه مخالفة للخبر السابق ، وفي الباب أخبار أخر وكلها مضطربة فليقصر على ما حكاه اللّه تعالى مما قالوا ليوسف عليه السلام وقال : أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أتمه لكم ، وإيثار صيغة الاستقبال مع كون هذا الكلام بعد التجهيز للدلالة على أن ذلك عادة مستمرة وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ جملة حالية أي ألا ترون أني أوف الكيل لكم إيفاء مستمرا والحال أني في غاية الإحسان في إنزالكم وضيافتكم وكان الأمر كذلك ، ويفهم من كلام بعضهم التعميم في الجملتين بحيث يندرج حينئذ في ذلك المخاطبون ، وتخصيص الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطاب في أثنائه ، وأما الإحسان في الإنزال فقد كان مستمرا فبما سبق ولحق ولذلك أخبر عنه بالجملة الاسمية ، ولم يقل ذلك عليه السلام بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به ، والاقتصار في الكيل على ذكر الإيفاء لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجب العدل ، وأما الضيافة فليس للناس فيها حق فخصهم في ذلك بما يشاء قاله شيخ الإسلام فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي إيعاد لهم على عدم الإتيان به ،
والمراد لا كيل لكم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 11
في المرة الأخرى فضلا عن إيفائه وَلا تَقْرَبُونِ أي لا تقربوني بدخول بلادي فضلا عن الإحسان في الإنزال والضيافة ، وهو إما نهي أو نفي معطوف على التقديرين على الجزاء ، وقيل : هو على الأول استئناف لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر. وأجيب بأن العطف مغتفر فيه لأن النهي يقع جزاء ، وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الامتيار مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوما له عليه السلام ، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي وإلا فالبر يقتضي أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن اللّه سبحانه أراد تكميل أجر يعقوب في محنته وهو الفعال لما يريد في خليقته قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنخادعه ونستميله برفق ونجتهد في ذلك ، وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله وَإِنَّا لَفاعِلُونَ أي إنا لقادرون على ذلك لا نتعايا به أو إنا لفاعلون ذلك لا محالة ولا نفرط فيه ولا نتوانى ، والجملة على الأول تذييل يؤكد مضمون الجملة الأولى ويحقق حصول الموعود من إطلاق المسبب - أعني الفعل - على السبب - أعني القدرة ، وعلى الثاني هي تحقيق للوفاء بالوعد وليس فيه ما يدل على أن الموعود يحصل أولا.
وَقالَ يوسف عليه السلام لِفِتْيانِهِ لغلمانه الكيالين كما قال قتادة وغيره أو لأعوانه الموظفين لخدمته كما قيل ، وهو جمع فتى أو اسم جمع له على قول وليس بشيء ، وقرأ أكثر السبعة «لفتيته» وهو جمع قلة له ، ورجحت القراءة الأولى بأنها أوفق بقوله : اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ فإن الرحال فيه جمع كثرة ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد فينبغي أن يكون في مقابلة صيغة جمع الكثرة ، وعلى القراءة الأخرى يستعار أحد الجمعين للآخر. روي أنه عليه السلام وكل بكل رحل رجلا يعني فيه بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما وأصل البضاعة قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة والمراد بها هنا ثمن ما اشتروه.
والرحل ما على ظهر المركوب من متاع الراكب وغيره كما في البحر ، وقال الراغب : هو ما يوضع على البعير للركوب ثم يعبر به تارة عن البعير وأخرى عما يجلس عليه في المنزل ويجمع في القلة على أرحلة ، والظاهر أن هذا الأمر كان بعد تجهيزهم ، وقيل : قبله ففيه تقديم وتأخير ولا حاجة إليه ، وإنما فعل عليه السلام ذلك تفضلا عليهم وخوفا أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيهم كما يؤذن به قوله :
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي يعرفون حق ردها والتكرم بذلك - فلعل - على ظاهرها وفي الكلام مضاف مقدر ، ويحتمل أن يكون المعنى لكي يعرفوها فلا يحتاج إلى تقدير وهو ظاهر التعلق بقوله : إِذَا انْقَلَبُوا أي رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ فإن معرفتهم لها مقيدة بالرجوع وتفريغ الأوعية قطعا ، وأما معرفة حق التكرم في ردها وإن كانت في ذاتها غير مقيدة بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قيدت به لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ حسبما طلبت منهم ، فإن التفضل بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعواز البضاعة من أقوى الدواعي إلى الرجوع ، وقيل : إنما فعله عليه السلام لما أنه لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا وهو الكريم ابن الكريم وهو كلام حق في نفسه ولكن يأباه التعليل المذكور ، ومثله في هذا ما زعمه ابن عطية من وجوب صلتهم وجبرهم عليه عليه السلام في تلك الشدة إذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة ، وأغرب منه ما قيل : إنه عليه السلام فعل ذلك توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة ، ووجه بعضهم علية الجعل المذكور للرجوع بأن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة لاحتمال أنه لم يقع ذلك قصدا أو قصدا للتجربة - فيرجعون - على هذا إما لازم وإما متعد ، والمعنى يرجعونها أي يردونها ، وفيه أن هيئة التعبية تنادي بأن ذلك بطريق التفضل فاحتمال غيره في غاية البعد ، ألا ترى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلا على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبرا إن شاء اللّه تعالى.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أي حكم بمنعه بعد اليوم إن لم نذهب بأخينا بنيامين

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 12
حيث قال لنا الملك فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي والتعبير بذلك عما ذكر مجاز والداعي لارتكابه أنه لم يقع منع ماض ، وفيه دليل على كون الامتيار مرة بعد أخرى كان معهودا بينهم وبينه عليه السلام ، وقيل : إن الفعل على حقيقته والمراد منع أن يكال لأخيهم الغائب حملا آخر ورد بغيره غير محمل بناء على رواية أنه عليه السلام لم يعط له وسقا فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين إلى مصر ، وفيه إيذان بأن مدار المنع على عدم كونه معهم نَكْتَلْ أي من الطعام ما نحتاج إليه ، وهو جواب الطلب ، قيل : والأصل يرفع المانع ونكتل فالجواب هو يرفع إلا أنه رفع ووضع موضعه يكتل لأنه لما علق المنع من الكيل بعدم إتيان أخيهم كان إرساله رفعا لذلك المانع ، ووضع موضعه ذلك لأنه المقصود ، وقيل : إنه جيء بآخر الجزأين ترتبا دلالة على أولهما مبالغة ، وأصل هذا الفعل نكتيل على وزن نفعيل قلبت الياء الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ومن الغريب أنه نقل السجاوندي أنه سأل المازني ابن السكيت عند الواثق عن وزن نكتل فقال : نفعل فقال المازني : فإذا ماضيه كتل فخطأه على أبلغ وجه.
وقرأ حمزة والكسائي «يكتل» بياء الغيبة على اسناده للأخ مجازا لأنه سبب للاكتيال أو يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا ، وقوى أبو حيان بهذه القراءة القول ببقاء منع على حقيقته ومثل الإمام وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يصيبه مكروه ، وهذا سد لباب الاعتذار وقد بالغوا في ذلك كما لا يخفى ، وفي بعض الأخبار - ولا يخفى حاله - أنهم لما دخلوا على أبيهم عليه السلام سلموا عليه سلاما ضعيفا فقال لهم : يا بني ما لكم تسلمون علي سلاما ضعيفا وما لي لا أسمع فيكم صوت شمعون فقالوا : يا أبانا جئناك من عند أعظم الناس ملكا ولم ير مثله علما وحكما وخشوعا وسكينة ووقارا ولئن كان لك شبه فإنه يشبهك ولكنا أهل بيت خلقنا للبلاء إنه اتهمنا وزعم أنه لا يصدقنا حتى ترسل معنا بنيامين برسالة منك تخبره عن حزنك وما الذي أحزنك وعن سرعة الشيب إليك وذهاب بصرك وقد منع منا الكيل فيما يستقبل إن لم نأته بأخينا فأرسله معنا نكتل وإنا له لحافظون حتى نأتيك به قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ استفهام إنكاري وآمَنُكُمْ بالمد وفتح الميم ورفع النون مضارع من باب علم وأمنه وائتمنه بمعنى أي ما ائتمنكم عليه إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ أي إلا ائتمانا مثل ائتماني إياكم عَلى أَخِيهِ يوسف مِنْ قَبْلُ وقد قلتم أيضا في حقه ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوض أمري إلى اللّه تعالى فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع علي مصيبتين ، وهذا كما ترى ميل منه عليه السلام إلى الإذن والإرسال لما رأى فيه من المصلحة ، وفيه أيضا من التوكل علي اللّه تعالى ما لا يخفى ، ولذا
روي أن اللّه تعالى قال : وعزتي وجلالي لأردهما عليك إذ توكلت علي ،
ونصب حافِظاً على التمييز نحو للّه دره فارسا ، وجوز غير واحد أن يكون على الحالية. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لما فيه من تقييد الخيرية بهذه الحالة. ورد بأنها حال لازمة مؤكدة لا مبينة ومثلها كثير مع أنه قول بالمفهوم وهو غير معتبر ولو اعتبر ورد على التمييز وفيه نظر ، وقرأ أكثر السبعة «حفظا» ونصبه على ما قال أبو البقاء على التمييز لا غير. وقرأ الأعمش «خير حافظ» على الإضافة وافراد «حافظ» وقرأ أبو هريرة «خير الحافظين» على الإضافة والجمع ، ونقل ابن عطية عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قرأ «فاللّه خير حافظا وهو خير الحافظين» قال ابن حيان : وينبغي أن تجعل جملة وهو خير إلخ تفسير للجملة التي قبلها لا أنها قرآن وقد مر تعليل ذلك وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ قال الراغب : المتاع كل ما ينتفع به على وجه ، وهو في الآية الطعام ، وقيل : الوعاء وكلاهما متاع وهما متلازمان فإن الطعام كان في الوعاء ، والمعنى على أنهم لما فتحوا أوعية طعامهم وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ التي كانوا أعطوها ثمنا للطعام رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أي تفضلا وقد علموا ذلك بما مر من دلالة الحال ، وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش «ردت» بكسر الراء ، وذلك أنه نقلت حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة وهي لغة لبني ضبة كما نقلت العرب في قيل وبيع ، وحكى قطرب النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو ضرب زيد.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 13
قالُوا استئناف بياني كأنه قيل : ماذا قالوا حينئذ؟ فقيل : قالوا لأبيهم ولعله كان حاضرا عند الفتح يا أَبانا ما نَبْغِي إذا فسر البغي بمعنى الطلب كما ذهب إليه جماعة - فما - يحتمل أن تكون استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول مقدم - لنبغي - فالمعنى ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الداعي إلى امتثال أمره والمراجعة إليه في الحوائج وقد كانوا أخبروه بذلك على ما روي أنهم قالوا له عليه السلام : إنا قدمنا على خير رجل وأنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته ، وقوله تعالى : هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته كأنهم قالوا : كيف لا وهذه بضاعتنا ردها إلينا تفضلا من حيث لا ندري بعد ما من علينا بما يثقل الكواهل من المنن العظام وهل من مزيد على هذا فنطلبه ، ومرادهم به أن ذلك كاف في استيجاب الامتثال لأمره والالتجاء إليه في استجلاب المزيد ، ولم يريدوا أنه كاف مطلقا فينبغي التقاعد عن طلب نظائره وهو ظاهر.
وجملة رُدَّتْ في موضع الحال من بِضاعَتُنا بتقدير قد عند من يرى وجوبها في أمثال ذلك والعامل معنى الإشارة ، وجعلها خبر هذِهِ و- بضاعتنا - بيانا له ليس بشيء ، وإيثار صيغة البناء للمفعول قيل : للإيذان بكمال الإحسان الناشئ عن كمال الإخفاء المفهوم من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعروا به ولا بفاعله ، وقيل : للإيذان بتعين الفاعل وفيه من مدحه أيضا ما فيه ، وقوله تعالى : وَنَمِيرُ أَهْلَنا أي نجلب لهم الميرة ، وهي بكسر الميم وسكون الياء طعام يمتاره الإنسان أي يجلبه من بلد إلى بلد ، وحاصله نجلب لهم الطعام من عند الملك معطوف على مقدر ينسحب عليه البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا وَنَحْفَظُ أَخانا من المكاره حسبما وعدنا ، وتفرعه على ما تقدم باعتبار دلالته على إحسان الملك فإنه مما يعين على الحفظ وَنَزْدادُ أي بواسطته ولذلك وسط الاخبار به بين الأصل والمزيد كَيْلَ بَعِيرٍ أي وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا على قضية التقسيط المعهود من الملك ، والبعير في المشهور مقابل الناقة ، وقد يطلق عليها وتكسر في لغة باؤه ويجمع على أبعرة وبعران وأباعر ، وعن مجاهد تفسيره هنا بالحمار وذكر أن بعض العرب يقول للحمار بعير وهو شاذ.
وقوله تعالى ذلِكَ كَيْلٌ أي مكيل يَسِيرٌ أي قليل لا يقوم بأودنا يحتمل أن يكون اشارة إلى ما كيل لهم أولا ، والجملة استئناف جيء بها للجواب عما عسى أن يقال لهم : قد صدقتم فيما قلتم ولكن ما الحاجة إلى التزام ذلك وقد جئتم بالطعام؟ فكأنهم قالوا : إن ما جئنا به غير كاف لنا فلا بد من الرجوع مرة أخرى وأخذ مثل ذلك مع زيادة ولا يكون ذلك بدون استصحاب أخينا ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تحمله أباعرهم ، والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق من الازدياد كأنه قيل : أي حاجة إلى الازدياد؟ فقيل : إن ما تحمله أباعرنا قليل لا يكفينا ، وقيل : المعنى أن ذلك الكيل الزائد قليل لا يضايقنا فيه الملك أو سهل عليه لا يتعاظمه ، وكأن الجملة على هذا استئناف جيء به لدفع ما يقال : لعل الملك لا يعطيكم فوق العشرة شيئا ويرى ذلك كثيرا أو صعبا عليه وهو كما ترى ، وجوز أن يكون ذلك إشارة إلى الكيل الذي هم بصدده وتضمنه كلامهم وهو المنضم إليه كيل البعير الحاصل بسبب أخيهم المتعهد بحفظه كأنهم لما ذكروا ما ذكروا صرحوا بما يفهم منه مبالغة في استنزال أبيهم فقالوا : ذلك الذي نحن بصدده كيل سهل لا مشقة فيه ولا محنة تتبعه ، وقد يبقى الكيل على معناه المصدري والكلام على هذا الطراز إلا يسيرا.
وجوز بعضهم كون ذلك من كلام يعقوب عليه السلام والإشارة إلى كيل البعير أن كيل بعير واحد شيء قليل لا يخاطر لمثله بالولد ، وكان الظاهر على هذا ذكره مع كلامه السابق أو اللاحق ، وقيل : معنى ما نَبْغِي أي مطلب نطلب من مهماتنا ، والجمل الواقعة بعده توضيح وبيان لما يشعر به الإنكار من كونهم فائزين ببعض المطالب أو

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 14
متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا : هذه بضاعتنا حاضرة فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا من المكروه ونزداد بسببه غير ما نكتاله لأنفسنا كيل بعير فأي شيء نبغي وراء هذه المباغي ، وما ذكرنا من العطف على المقدر هو المشهور. وفي الكشف لك أن تقول : إن نَمِيرُ وما تلاه معطوف على مجموع ما نَبْغِي والمعنى اجتماع هذين القولين منهم في الوجود ولا يحتاج إلى جامع وراء ذلك لكونهما محكيين قولا لهم على أنه حاصل لاشتراك الكل في كونه لاستنزال يعقوب عليه السلام عن رأيه وأن الملك إذا كان محسنا كان الحفظ أهون شيء ، والاستفهام لرجوعه إلى النفي لا يمنع العطف ووافقه في ذلك بعضهم.
وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة
«ما تبغي» بتاء الخطاب وروت عائشة رضي اللّه تعالى عنها ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ،
والخطاب ليعقوب عليه السلام ، والمعنى أي شيء وراء هذه المباغي المشتملة على سلامة أخينا وسعة ذات أيدينا أو وراء ما فعل معنا الملك من الإحسان داعيا إلى التوجه إليه ، والجملة المستأنفة موضحة أيضا لذلك أو أي شيء تبغي شاهدا على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه ، والجملة المذكورة عبارة عن الشاهد المدلول عليه بفحوى الإنكار ، ويحتمل أن تكون ما نافية ومفعول نَبْغِي محذوف أن ما نبغي شيئا غير ما رأيناه من احسان الملك في وجوب المراجعة إليه أو ما نبغي غير هذه المباغي ، والقول بأن المعنى ما نبغي منك بضاعة أخرى نشتري بها ضعيف ، والجملة المستأنفة على كل تقدير تعليل للنفي ، وأما إذا فسر البغي بمجاوزة الحد - فما - نافية فقط ، والمعنى ما نبغي في القول ولا نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الموجب لما ذكر ، والجملة المستأنفة لبيان ما ادعوا من عدم البغي ، وقوله : وَنَمِيرُ إلخ عطف على ما نَبْغِي أي لا نبغي فيما نقول ونمير ونفعل كيت وكيت فاجتمع أسباب الإذن في الإرسال ، والأول كالتمهيد والمقدمة للبواقي والتناسب من هذا الوجه لأن الكل متشاركة في أن المطلوب يتوقف عليها بوجه ما ، على أنه لو لم يكن غير الاجتماع في المقولية لكفى على ما مر آنفا عن الكشف.
وجوز «1» كونه كلاما مبتدأ أي جملة تذييلية اعتراضية كقولك : فلان ينطبق بالحق والحق أبلج كأنه قيل :
وينبغي أن نمير ، ووجه التأكيد الذي يقتضيه التذييل أن المعنى إن الملك محسن ونحن محتاجون ففيم التوقف في الإرسال وقد تأكد موجباه؟ ، وقال العلامة الطيبي : إنما صح التأكيد والتذييل لأن الكلام في الامتيار وكل من الجمل بمعناه أو المعنى ما نَبْغِي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا ، والجمل كلها للبيان أيضا إلا أن ثم محذوفا ينساق إليه الكلام أي بضاعتنا حاضرة نستظهر بها ونمير أهلنا ونصنع كيت وذيت وهو على ما قيل : وجه واضح حسن يلائم ما كانوا فيه مع أبيهم فتأمل هذا. وقرأت عائشة وأبو عبد الرحمن السلمي «ونمير» بضم النون ، وقد جاء مار عياله وأمارهم بمعنى كما في القاموس.
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ بعد أن عاينت منكم ما أجرى المدامع حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي حتى تعطوني ما أتوثق به من جهته ، فالموثق مصدر ميمي بمعنى المفعول ، وأراد عليه السلام أن يحلفوا له باللّه تعالى وإنما جعل الحلف به سبحانه موثقا منه لأنه مما تؤكد العهود به وتشدد وقد أذن اللّه تعالى بذلك فهو إذن منه تعالى شأنه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب قسم مضمر إذ المعنى حتى تحلفوا باللّه وتقولوا واللّه لنأتينك به.
وفي مجمع البيان نقلا عن ابن عباس أنه عليه السلام طلب منهم أن يحلفوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين ،
والظاهر عدم صحة الخبر. وذكر العمادي أنه عليه السلام قال لهم : قولوا باللّه رب محمد صلى اللّه عليه وسلم لنأتينك به
___________
(1) فيه رد على صاحب الفرائد حيث غفل عن ذلك فقال رادا على هذا التجويز : إن الواو لا تصلح في الابتداء والتزم العطف ا ه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 15
إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعا وكلاهما مروي عن مجاهد ، وأصله من احاطة العدو واستعماله في الهلاك لأن من أحاط به العدو فقد هلك غالبا ، والاستثناء قيل مفرغ من أعم الأحوال والتقدير لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم. ورد بأن المصدر من أَنْ والفعل لا يقع موقع الحال كالمصدر الصريح فيجوز جئتك ركضا أي راكضا دون جئتك أن تركض وإن كان في تأويله لما أن الحال عندهم نكرة وأَنْ مع ما في حيزها معرفة في رتبة الضمير. وأجيب بأنه ليس المراد بالحال الحال المصطلح عليها بل الحال اللغوية ، ويؤول ذلك إلى نصب المصدر المؤول على الظرفية وفيه نظر. وفي البحر أنه لو قدر كون أَنْ والفعل في موقع المصدر الواقع ظرف زمان أي لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي إلا وقت إحاطة بكم لم يجز عند ابن الأنباري لأنه يمنع وقوع المصدر المؤول ظرفا ويشترط المصدر الصريح فيجوز خرجنا صياح الديك دون خرجنا أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك ، وجاز عند ابن جني المجوز لذاك كما في قول أبي ذؤيب الهذلي :
وتاللّه ما إن شهلة «1» أم واحد بأوجد مني أن يهان صغيرها
وقيل : من أعم العلل على تأويل الكلام بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتنني ولا تمتنعن من الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم : أقسمت عليك الا فعلت أي ما أطلب إلا فعلك ، والظاهر اعتبار التأويل على الوجه الأول أيضا فإن الاستثناء فيه مفرغ كما علمت ، وهو لا يكون في الإثبات إلا إذا صح وظهر ارادة العموم فيه نحو قرأت إلا يوم الجمعة لإمكان القراءة في كل يوم غير الجمعة وهنا غير صحيح لأنه لا يمكن لإخوة يوسف عليه السلام أن يأتوا بأخيهم في كل وقت وعلى كل حال سوى وقت الإحاطة بهم لظهور أنهم لا يأتون به له وهو في الطريق أو في مصر اللهم إلا أن يقال : إنه من ذلك القبيل وأن العموم والاستغراق فيه عرفي أي في كل حال يتصور الإتيان فيها ، وتعقب المولى أبو السعود تجويز الأول بلا تأويل بقوله : وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيان من الأفعال الممتدة الشاملة للأحوال على سبيل المعية كما في قولك : لألزمنك إلى أن تقضيني حقي ولم يكن مراده عليه السلام مقارنته على سبيل البدل لما عدا الحال المستثناة كما إذا قلت : صل إلا أن تكون محدثا بل مجرد تحققه ووقوعه من غير إخلال به كما في قولك :
لأحجن العام إلا أن أحصر فإن مرادك إنما هو الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عن الحج لا الاخبار بمقارنته لتلك الأحوال على سبيل البدل كما هو مرادك في مثال الصلاة كان اعتبار الأحوال معه من حيث عدم منعها منه ، فآل المعنى إلى التأويل المذكور اه.
وبحث فيه واحد من الفضلاء بثلاثة أوجه : الأول أنه لو كان المراد من قوله : لَتَأْتُنَّنِي بِهِ الأخبار بمجرد تحقق الإتيان ووقوعه من غير إخلال به لم يحتج إلى التأويل المذكور - أعني التأويل بالنفي - كما لا يخفى على المتأمل فكلامه يفيد خلاف مراده. الثاني أنا سلمنا أن ليس مراد القائل من قوله : لأحجن إلخ الأخبار بمقارنة الحج لما عدا حال الإحصار على سبيل البدل لكن لا نسلم أن ليس مراده منه إلا الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عنه غايته أن بينهما ملازمة وذاك لا يستلزم الاحتياج إلى التأويل بالنفي. الثالث أنه إن أراد من قوله : كان اعتبار الأحوال إلخ أن الإتيان به لم يكن معه اعتبار الأحوال كما هو الظاهر فممنوع ، وإن أراد أن اعتبار الأحوال معه يستلزم حيثية عدم منعها منه فمسلم لكن لا يلزم منه الاحتياج إلى التأويل المذكور أيضا وليس المدعى إلا ذاك اه وهو كما ترى فتبصر ، ثم إنهم أجابوه عليه السلام إلى ما أراد فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ عهدهم من اللّه تعالى حسبما أراد عليه السلام قالَ
___________
(1) امرأة شهلة بالشين إذا كانت نصفا عاقلة اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 16
عرضا لثقته باللّه تعالى وحثا لهم على مراعاة حلفهم به عز وجل اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ في أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين ، وإيثار صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة المؤدي إلى تثبتهم ومحافظتهم على تذكره ومراقبته وَكِيلٌ أي مطلع رقيب ، فإن الموكل بالأمر يراقبه ويحفظه ، قيل : والمراد أنه سبحانه مجاز على ذلك.
وَقالَ ناصحا لهم لما عزم على إرسالهم جميعا يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مصر مِنْ بابٍ واحِدٍ نهاهم عليه السلام عن ذلك حذرا من إصابة العين فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة وقد اشتهروا بين أهل مصر بالزلفى والكرامة التي لم تكن لغيرهم عند الملك فكانوا مظنة لأن يعانوا إذا دخلوا كوكبة واحدة ، وحيث كانوا مجهولين مغمورين بين الناس لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى ، وجوز أن يكون خوفه عليه السلام عليهم من العين في هذه الكرة بسبب أن فيهم محبوبه وهو بنيامين الذي يتسلى به عن شقيقه يوسف عليه السلام ولم يكن فيهم في المرة الأولى فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف ، والقول أنه عليه السلام نهاهم عن ذلك أن يستراب بهم لتقدم قول أنتم جواسيس ليس بشيء أصلا ، ومثله ما قيل : إن ذلك كان طمعا أن يتسمعوا خبر يوسف عليه السلام والعين حق كما صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصح أيضا بزيادة «ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين» و«إذا استغسلتم فاغتسلوا» وقد ورد أيضا «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» وقد كان صلى اللّه عليه وسلم يعوذ الحسنين رضي اللّه تعالى عنهما بقوله : «أعوذ بكلمات اللّه تعالى التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» وكان يقول : «كان أبو كما يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق عليهم السلام».
ولبعضهم في هذا المقام كلام مفصل مبسوط لا بأس باطلاعك عليه ، وهو أن تأثير شيء في آخر إما نفساني أو جسماني وكل منهما إما في نفساني أو جسماني ، فالأنواع أربعة يندرج تحتها ضروب الوحي والمعجزات والكرامات والإلهامات والمنامات وأنواع السحر والأعين والنيرنجات ونحو ذلك. أما النوع الأول - أعني تأثير النفساني في مثله - فكتأثير المبادئ العالية في النفوس الإنسانية بإفاضة العلوم والمعارف ، ويندرج في ذلك صنفان : أحدهما ما يتعلق بالعلم الحقيقي بأن يلقي إلى النفس المستعدة لذلك كمال العلم من غير واسطة تعليم وتعلم حتى تحيط بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية كما ألقى إلى نبينا صلى اللّه عليه وسلم علوم الأولين والآخرين مع أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يتلو من قبل كتابا ولا يخطه بيمينه.
وثانيهما ما يتعلق بالتخيل القوي بأن يلقي إلى من يكون مستعدا له ما يقوى به على تخيلات الأمور الماضية والاطلاع على المغيبات المستقبلة ، والمنامات والإلهامات داخلة أيضا تحت هذا النوع ، وقد يدخل تحته نوع من السحر وهو تأثير النفوس البشرية القوية فيها قوتا التخيل والوهم في نفوس بشرية أخرى ضعيفة فيها هاتان القوتان كنفوس البله والصبيان والعوام الذين لم تق وقوتهم العقلية فتتخيل ما ليس بموجود في الخارج موجودا فيه وما هو موجود فيه على ضد الحال الذي هو عليها وقد يستعان في هذا القسم من السحر بأفعال وحركات يعرض منها للحس حيرة وللخيال دهشة ومن ذلك الاستهتار في الكلام والتخليط فيه. وأما النوع الثاني - أعني تأثير النفساني في الجسماني - فكتأثير النفوس الإنسانية في الأبدان من تغذيتها وإنمائها وقيامها وقعودها إلى غير ذلك ومن هذا القبيل صنف من المعجزات وهو ما يتعلق بالقوة المحركة للنفس بأن تبلغ قوتها إلى حيث تتمكن من التصرف في العالم تمكنها من التصرف في بدنها كتدمير قوم بريح عاصفة أو صاعقة أو زلزلة أو طوفان وربما يستعان فيه بالتضرع والابتهال إلى المبادئ العالية كأن يستسقي للناس فيسقون ويدعو عليهم فيهلكون ولهم فينجون ، ويندرج في هذا صنف من السحر أيضا كما في بعض النفوس الخبيثة التي تقوى فيها القوة الوهمية بسبب من الأسباب كالرياضة والمجاهدة مثلا فيسلطها صاحبها على التأثير فيمن أراده بتوجه تام وعزيمة صادقة إلى أن يحصل المطلوب الذي هو تأثره بنحو مرض

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 17
وذبول جسم ويصل ذلك إلى الهلاك ، وأما النوع الثالث وهو تأثير الجسماني في الجسماني فكتأثير الأدوية والسموم في الأبدان ويدخل فيه أنواع النيرنجات والطلسمات فإنها بتأثير بعض المركبات الطبيعية في بعض بسبب خواص فيها كجذب المغناطيس للحديث واختطاف الكهرباء التبن وقد يستعان في ذلك بتحصين المناسبات بالاجرام العلوية المؤثرة في عالم الكون والفساد كما يشاهد في صور أشكال موضوعة في أوقات مخصوصة على أوضاع معلومة في مقابلة بعض الجهات ومسامتة بعض الكواكب يستدفع بها كثير من أذية الحيوانات. وأما النوع الرابع وهو تأثير الجسماني في النفساني فكتأثير الصور المستحسنة أو المستقبحة في النفوس الإنسانية من استمالتها إليها وتنفيرها عنها وعد من ذلك تأثير أصناف الأغاني والرقص والملاهي في بعض النفوس وتأثير البيان فيمن له ذوق كما يشير إليه
قوله عليه الصلاة والسلام : «إن من البيان لسحرا»
إذا تمهد هذا فاعلم أنهم اختلفوا في إصابة العين فأبو علي الجبائي أنكرها إنكارا بليغا ولم يذكر لذلك شبهة فضلا عن حجة وأثبتها غيره من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك فقال الجاحظ : إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه تأثير السم في الأبدان فالتأثير عنده من تأثير الجسماني في الجسماني.
وضعف ذلك القاضي بأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن تؤثر العين في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيرها فيما يستحسن. وتعقبه الإمام بأنه تضعيف ضعيف ، وذلك لأنه استحسن العائن شيئا فإما أن يحب بقاءه كما إذا استحسن ولده مثلا وإما أن يكره ذلك كما إذا أحس بذلك المستحسن عند عدوه الحاسد هو له ، فإن كان الأول فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله وهو يوجب انحصار الروح في داخل القلب ، فحينئذ يسخن القلب والروح جدا ويحصل في الروح الباصر كيفية قوية مسخنة ، وإن كان الثاني فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان هم شديد وحزن عظيم بسبب حصول ذلك المستحسن لعدوه ، وذلك أيضا يوجب انحصار الروح وحصول الكيفية القوية المسخنة ، وفي الصورتين يسخن شعاع العين فيؤثر ولا كذلك في عدم الاستحسان فبان الفرق ، ولذلك السبب أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العائن بالوضوء ومن أصيب بالاغتسال ا ه. وما أشار إليه من أن العائن قد يصيب ولده مثلا مما شهدت له التجربة ، لكن
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة ، وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : «العين حق يحضرها الشيطان وحسد ابن آدم»
وظاهره يقتضي خلاف ذلك ، وأما ما ذكره من الأمر بالوضوء والاغتسال فقد جاء في بعض الروايات ، وكيفية ذلك أن يغسل العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره أي ما يلي جسده من الإزار ، وقيل وركيه : وقيل : مذاكيره ويصب الغسالة على رأس المعين وقد مر
«إذا استغسلتم فاغسلوا»
وهو خطاب للعائنين أي إذا طلب منكم ما اعتيد من الغسل فافعلوا والأمر للندب عند بعض ، وقال الماوردي تبعا لجماعة : للوجوب فيجب على العائن أن يغسل ثم يعطي الغسالة للمعين لأنه الذي يقتضيه ظاهر الأمر ولأنه قد جرب ذلك وعلم البرء به ففيه تخليص من الهلاك كإطعام المضطر ، وذكر أن ذلك أمر تعبدي وهو مخالف لما أشار إليه الإمام من كون الحكمة فيه تبريد تلك السخونة ، وهو مأخوذ من كلام ابن القيم حيث قال في تعليل ذلك : لأنه كما يؤخذ درياق لسم الحية من لحمها يؤخذ علاج هذا الأمر من أثر الشخص العائن ، وأثر تلك العين كشعلة نار أصابت الجسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة ، وهو «1» على علاته أوفى من كلام الإمام. ويرد على ما قرره في الانتصار للجاحظ أنه لا يسد عنه باب الاعتراض على ما ذكره في كيفية إصابة العين ، إذ يرد عليه ما ثبت من
___________
(1) فيه إشارة إلى أن فيه ما فيه أيضا فقد ذكر ابن القيم نفسه أن ذلك لا ينتفع به من أنكره ولا يخفى أنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن فرق بين المنكر والمعتقد في الانتفاع فتأمل اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 18
أن بعض العائنين قد يصيب ما يوصف له ويمثل ولو كان بينه وبينه فراسخ ، والتزام امتداد تلك للأجزاء إلى حيث المصاب مما لا يكاد يقبل «1» كما لا يخفى على ذي عين. وقال الحكماء واختاره بعض المحققين من أهل السنة : إن ذلك من تأثير النفساني بالجسماني وبنوه على أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسيا محضا كما يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل عرض إذا كان موضوعا على الأرض يقدر كل إنسان على المشي عليه ولو كان موضوعا بين جدارين مرتفعين لم يقدر كل أحد على المشي عليه وما ذاك إلا لأن الخوف من السقوط منه يوجب السقوط وأيضا إن الإنسان إذا تصور أن فلانا مؤذيا له حصل في قلبه غضب وتسخن مزاجه ، فمبدأ ذلك ليس إلا التصور النفساني بل مبدأ الحركات البدنية مطلقا ليس إلا التصورات النفسانية ، ومتى ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان ، وأيضا جواهر النفوس مختلفة فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث تؤثر في تغير بدن حيوان آخر بشرط أن تراه أو ترى مثاله على ما نقل وتتعجب منه ، ومتى ثبت أن ذلك غير ممتنع وكانت التجارب شاهدة بوقوعه وجب القول به من غير تلعثم ، ولأن وقوع ذلك أكثري عند اعمال العين والنظر بها إلى الشيء نسب التأثير إلى العين والا فالمؤثر إنما هو النفس ، ونسبة التأثير إليها كنسبة الإحراق إلى النار والري إلى الماء ونحو ذلك ، والفاعل للآثار في الحقيقة هو اللّه عز سلطانه بالإجماع ، لكن جرت عادته تعالى على خلقها بالأسباب من غير توقف عقلي عليها كما يظن جهلة الفلاسفة على ما نقل عن السلف أو عند الأسباب من غير مدخلية لها بوجه من الوجوه على ما شاع عن الأشعري.
فمعنى
قوله عليه الصلاة والسلام : «العين حق»
أن إصابة النفس بواسطتها أمر كائن مقتضي به في الوضع الإلهي لا شبهة في تحققه وهو كسائر الآثار المشاهدة لنحو النار والماء والأدوية مثلا. وأنت تعلم أن مدار كل شيء المشيئة الإلهية فما شاء اللّه تعالى كان وما لم يشأ لم يكن ، وحكمة خلق اللّه تعالى التأثير في مسألة العين أمر مجهول لنا.
وزعم أبو هاشم وأبو القاسم البلخي أن ذلك مما يرجع إلى مصلحة التكليف قالا : لا يمتنع أن تكون العين حقا على معنى أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير اللّه تعالى ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به ، ثم لا يبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الاعجاب وسأل ربه سبحانه بقاء ذلك تتغير المصلحة فيبقيه اللّه تعالى ولا يفنيه وهو كما ترى ، ثم إن ما أشار إليه من نفع ذكر اللّه تعالى والالتجاء إليه سبحانه حق ، فقد صرحوا بأن الأدعية والرقي من جملة الأسباب لدفع أذى العين بل إن من ذلك ما يكون سببا لرد سهم العائن إليه. فقد أخرج ابن عساكر أن سعيد الساجي قيل له : احفظ ناقتك من فلان العائن فقال :
لا سبيل له إليها فعانها فسقطت تضطرب فأخبر الساجي فوقف عليها فقال : حبس حابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه وعلى كبده وكليتيه رشيق وفي ماله يليق فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك : 3] الآية فخرجت حدقتا العائن وسلمت الناقة.
ويدل على نفع الرقية من العين مشروعيتها كما تدل عليه الآثار ، وقد جاء في بعضها أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : «لا رقية إلا من عين أو حمة»
والمراد منه أنه لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والحمة وإلا فقد رقى صلى اللّه عليه وسلم بعض أصحابه من
___________
(1) ومثله ما يقال من ذهابها كالسهم كما قيل :
سهم أصاب وراميه بذي سلم من بالعراق لقد أبعدت مرماك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 19
غيرهما. وينبغي لمن علم من نفسه أنه ذو عين أو لا ينظر إلى شيء نظر إعجاب وأن يذكر اللّه تعالى عند رؤية ما يستحسن. فقد ذكر غير واحد من المجربين أنه إذا فعل ذلك لا يؤثر ، ونقل الأجهوري أنه يندب أنه يعوذ المعين فيقول اللهم بارك فيه ولا تضره ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه ، وفي تحفة المحتاج أن من أدويتها أي العين المجربة التي أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بها أن يتوضأ العائن إلى آخر ما ذكرناه آنفا وأن يدعو للمعين وأن يقول المعين ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه حصنت نفسي بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا ودفعت عنها السوء بألف لا حول ولا قوة إلا باللّه ، ويسن عند القاضي لمن رأى نفسه سليمة وأحواله معتدلة أن يقول ذلك. وفي شرح مسلم عن العلماء أنه على السلطان منع من عرف بذلك من مخالطة الناس ويرزقه من بيت المال إن كان فقيرا فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي اللّه تعالى عنه من مخالطة الناس. ورأيت لبعض أصحابنا أيضا القول بندب ذلك ، وأنه لا كفارة على عائن قيل : لأن العين لا تعد مهلكا عادة على أن التأثير يقع عندها لا بها حتى بالنظر للظاهر ، وهذا بخلاف الساحر فإنهم صرحوا بأنه يقتل إذا أقر أن سحره يقتل غالبا. ونقل عن المالكية أنه لا فرق بين الساحر والعائن فيقتلان إذا قتلا ثم إن العين على ما نقل عن الرازي لا تؤثر ممن له نفس شريفة لما في ذلك من الاستعظام للشيء. وفيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده ما يؤيد المدعى ، واعترض بما
رواه القاضي أن نبيا استكثر قومه فمات منهم في ليلة مائة ألف فشكا ذلك إلى اللّه تعالى فقال له سبحانه وتعالى : «إنك استكثرتهم فعنتهم هلا حصنتهم إذا استكثرتهم فقال : يا رب كيف أحصنهم؟ قال : تقول حصنتكم بالحي القيوم».
إلى آخر ما تقدم وقد يجاب بأن ما ذكر الرازي هو الأغلب بل يتعين تأويل هذا إن صح بأن ذلك النبي عليه السلام لما غفل عن الذكر عند الاستكثار عوتب فيهم ليسأل فيعلم فهو كالإصابة بالعين لا أنه عان حقيقة هذا واللّه تعالى أعلم ، ثم إنه عليه السلام لم يكتف بالنهي عن الدخول من باب واحد بل ضم إليه قوله : وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ بيانا للمراد به وذلك لأن عدم الدخول من باب واحد غير مستلزم للدخول من أبواب متفرقة وفي دخولهم من بابين أو ثلاثة بعض ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماع مصحح لوقوع المحذور ، وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزما للنهي السابق إظهارا لكمال العناية به وإيذانا بأنه المراد بالأمر المذكور لا تحقيق شيء آخر وَما أُغْنِي عَنْكُمْ أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي من قضائه تعالى عليكم شيئا فإنه لا يغني حذر من قدر ، ولم يرد بهذا عليه السلام - كما قيل - الغاء الحذر بالمرة كيف وقد قال سبحانه :
خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء : 102] وقال عز قائلا : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة : 195] بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة بل هو تدبير وتشبث بالأسباب العادية التي لا تؤثر إلا بإذنه تعالى وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانة باللّه تعالى وهرب منه إليه إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم مطلقا إِلَّا لِلَّهِ لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء عَلَيْهِ سبحانه دون غيره تَوَكَّلْتُ في كل ما آتي به وأذر ، وفيه دلالة على أن ترتيب الأسباب غير مخل بالتوكل ، وفي الخبر «اعقلها وتوكل».
وَعَلَيْهِ
عز سلطانه دون غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي المريدون للتوكل ، قيل : جمع بين الواو والفاء في عطف الجملة على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص ليفيد بالواو عطف فعل غيره من تخصيص التوكل باللّه تعالى شأنه على فعل نفسه وبالفاء سببية فعله لكونه نبيا لفعل غيره من المقتدين به ، وهي على ما صرح به بعضهم زائدة حيث قال : ولا بد من القول بزيادة الفاء وإفادتها السببية ، ويلتزم أن الزائد قد يدل على معنى غير التوكيد ، وذكر أنه لو اكتفى بالفاء وحدها وقيل : فعليه فليتوكل إلخ أفاد تسبب الاختصاص لا أصل التوكل وهو المقصود ، وكل ذلك لا يخلو عن بحث. واختار بعضهم أنه جيء بالفاء إفادة للتأكيد فقط كما هو الأمر الشائع في الحروف الزائدة فتدبر ، وأيّا ما كان

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 20
فيدخل بنوه عليه السلام في عموم الأمر دخولا أوليا ، وفي هذا الأسلوب ما لا يخفى من حسن هدايتهم وإرشادهم إلى التوكل فيما هم بصدده على اللّه تعالى شأنه غير معتمدين على ما وصاهم به من التدبير وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ من الأبواب المتفرقة من البلد ، قيل : كانت له أربعة أبواب فدخلوا منها ، وانما اكتفى بذكره لاستلزامه الانتهاء عما نهوا عنه ، وحاصله لما دخلوا متفرقين ما كانَ ذلك الدخول يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ من جهته سبحانه مِنْ شَيْءٍ أي شيئا مما قضاه عليهم جل شأنه ، والجملة قيل : جواب لَمَّا والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقق المقارنة الواجبة بين جواب لَمَّا ومدخولها ، فإن عدم الإغناء بالفعل إنما يتحقق عند نزول المحذور لا وقت الدخول وإنما المتحقق حينئذ ما أفاده الجمع المذكور من عدم كون الدخول مغنيا فيما سيأتي ، وليس المراد بيان سببية الدخول المذكور لعدم الإغناء كما في قوله تعالى : فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر : 42] فإن مجيء النذير هناك سبب لزيادة نفورهم بل بيان عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعة في بادئ الرأي حيث إنه وقع حسبما وصاهم به عليه السلام ، وهو نظير قولك : حلف أن يعطيني حقي عند حلول الأجل فلما حل لم يعطني شيئا ، فإن المراد بيان عدم سببية حلول الأجل للإعطاء مع كونها مرجوة بموجب الحلف لا بيان سببيته لعدم الإعطاء ، فالمآل بيان عدم ترتب الغرض المقصود على التدبير المعهود مع كونه مرجو الوجود لا بيان ترتب عدمه عليه ، ويجوز أن يراد ذلك أيضا بناء على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيته من أنه لا يغني عنهم تدبيره من اللّه تعالى شيئا فكأنه قيل : ولما فعلوا ما وصاهم به لم يفدهم ذلك شيئا ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقوا ما لقوا فيكون من باب وقوع المتوقع اه ، وإلى كون الجواب ما ذكر ذهب أبو حيان وقال : إن فيه حجة
لمن زعم أن - لما - حرف وجوب لوجوب لا ظرف زمان بمعنى حين إذ لو كان كذلك ما جاز أن يكون معمولا لما بعد «ما» النافية ، ولعل من يذهب إلى ظرفيتها يجوز ذلك بناء على أن الظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره ، وقال أبو البقاء : في جواب لَمَّا وجهان : أحدهما أنه آوى وهو جواب لَمَّا الأولى والثانية كقولك : لما جئتك وكلمتك أجبتني وحسن ذلك أن دخولهم على يوسف عليه السلام تعقب دخولهم من الأبواب. والثاني أنه محذوف أي امتثلوا أو قضوا حاجة أبيهم وإلى الوجه الأخير ذهب ابن عطية أيضا ولا يخفى أنه عليه وعلى ما قبله ترتفع غائلة توجيه أمر الترتب ، وما أشار إليه صاحب القيل في ثاني وجهيه هو الذي يقتضيه ظاهر كلام كثير من المفسرين حيث ذكروا أن هذا منه تعالى تصديق لما أشار إليه يعقوب عليه السلام في قوله : «وما أغني عنكم من اللّه شيئا».
واعترض القول بعدم ترتب الغرض على التدبير بأن الغرض ليس إلا دفع إصابة العين لهم وقد تحقق بدخولهم متفرقين وهو وارد أيضا على ما ذكر في الوجه الأخير كما لا يخفى. وأجيب بأن المراد بدفع العين أن لا يمسهم سوء ما ، وإنما خصت إصابة العين لظهورها ، وقيل : إن ما أصابهم من العين أيضا فلم يترتب الغرض على التدبير بل تخلف ما أراده عليه السلام عن تدبيره وتعقب بأنه تكلف ، واستظهر أن المراد أنه عليه السلام خشي عليهم شر العين فأصابهم شر آخر لم يخطر بباله فلم يفد دفع ما خافه شيئا ، وحينئذ يدعي أن دخولهم من حيث أمرهم أبوهم كان مفيدا لهم من حيث إنه دفع العين عنهم إلا أنه لما أصابهم ما أصابهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك مع أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم لم يعد ذلك فائدة فكأن دخولهم لم يفدهم شيئا. واعترض أيضا ما ذكر في توجيه الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل بأن المشهور أن الغرض منه إفادة الاستمرار كما مرت الإشارة إليه غير مرة وظاهر ذلك لا يدل عليه ، قيل : وإذا كان الغرض هنا ذاك احتمل الكلام وجهين نفي استمرار الإغناء واستمرار نفيه وفيه تأمل فتأمل جدا. هذا وما أشرنا إليه من زيادة مِنْ في المنصوب هو أحد وجهين ذكرهما الرازي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 21
في الآية. ثانيهما جواز كونها زائدة في المرفوع وحينئذ ليس في الكلام ضمير الدخول كما لا يخفى ، قيل : ولو اعتبر على هذا الوجه كون مرفوع كانَ ضمير الشأن لم يبعد أي ما كان الشأن يغني عنهم من اللّه تعالى شيء إِلَّا حاجَةً استثناء منقطع أي ولكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أي أظهرها ووصاهم بها دفعا للخطرة غير معتقد أن للتدبير تأثيرا في تغيير التقدير ، والمراد بالحاجة شفقته عليه السلام وحرازته من أن يعانوا.
وذكر الراغب أن الحاجة إلى الشيء الفقر إليه مع محبته وجمعه حاج وحاجات وحوائج ، وحاج يحوج احتاج ثم ذكر الآية. وأنكر بعضهم مجيء الحوائج جمعا لها وهو محجوج بوروده في الفصيح ، وفي التصريح باسمه عليه السلام إشعار بالتعطف والشفقة والترحم لأنه عليه السلام قد اشتهر بالحزن والرقة ، وجوز أن يكون ضمير قَضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب عليه السلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة ، فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغني عنهم من جهة اللّه تعالى شيئا لكن قضى حاجة حاصلة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته ، والاستثناء منقطع أيضا ، وجملة قَضاها صفة حاجَةً وجوز أن يكون خبر إِلَّا لأنها بمعنى لكن وهي يكون لها اسم وخبر فإذا أولت بها فقد يقدر خبرها وقد يصرح به كما نقله القطب. وغيره عن ابن الحاجب ، وفيه أن عمل إلا بمعنى لكن عملها مما لم يقل به أحد من أهل العربية.
وجوز الطيبي كون الاستثناء متصلا على أنه من باب : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم.
فالمعنى ما أغنى عنهم ما وصاهم به أبوهم شيئا إلا شفقته التي في نفسه ، ومن الضرورة أن شفقة الأب مع قدر اللّه تعالى كالهباء فإذن ما أغني عنهم شيئا أصلا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ جليل لِما عَلَّمْناهُ أي لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر أو حيث بت القول بأنه لا يغني عنهم من اللّه تعالى شيئا فكانت الحال كما قال ، فاللام للتعليل وما مصدرية والضمير المنصوب ليعقوب عليه السلام ، وجوز كون ما موصولا اسميا والضمير لها واللام صلة علم والمراد به الحفظ أي إنه لذو حفظ ومراقبة للذي علمناه إياه ، وقيل : المعنى أنه لذو علم لفوائد الذي علمناه وحسن إثارة ، وهو إشارة إلى كونه عليه السلام عاملا بما علمه وما أشير إليه أولا هو الأولى ، ويؤيد التعليل قراءة الأعمش لِما عَلَّمْناهُ وفي تأكيد الجملة بأن واللام وتنكير عِلْمٍ وتعليله بالتعليم المسند إلى ضمير العظمة من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ سر القدر ويزعمون أنه يغني عنه الحذر ، وقيل : المراد «لا يعلمون» إيجاب الحذر مع أنه لا يغني شيئا من القدر. وتعقب بأنه يأباه مقام بيان تخلف المطلوب عن المبادئ.
وقيل : المراد لا يَعْلَمُونَ أن يعقوب عليه السلام بهذه المثابة من العلم ، ويراد - بأكثر الناس - حينئذ المشركون فإنهم لا يعلمون أن اللّه تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة ، وفيه أنه بمعزل عما نحن فيه.
وجعل المفعول سر القدر هو الذي ذهب إليه غير واحد من المحققين وقد سعى في بيان المراد منه وتحقيق إلغاء الحذر بعض أفاضل المتأخرين المتشبثين بأذيال الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم فقال : إن لنا قضاء وقدرا وسر قدر وسر سره ، وبيانه أن الممكنات الموجودة ، وإن كانت حادثة باعتبار وجودها العيني لكنها قديمة باعتبار وجودها العلمي وتسمى بهذا الاعتبار مهيئات الأشياء والحروف العالية والأعيان الثابتة ، ثم إن تلك الأعيان الثابتة صور نسبية وظلال شؤونات ذاتية لحضرة الواجب تعالى ، فكما أن الواجب تعالى والشؤون الذاتية له سبحانه مقدسة عن قبول

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 22
التغير أزلا وأبدا كذلك الأعيان الثابتة التي هي ظلالها وصورها يمتنع عليها أن تتغير عن الأحكام التي هي عليها في حد نفسها ، فالقضاء هو الحكم الكلي على أعين الموجودات بأحوال جارية وأحكام طارئة عليها من الأزل إلى الأبد ، والقدر تفصيل هذا الحكم الكلي بتخصيص إيجاد الأعيان وإظهارها بأوقات وأزمان يقتضي استعدادها الوقوع فيها وتعليق كل حال من أحوالها بزمان معين وسبب مخصوص ، وسر القدر هو أن يمتنع أن يظهر عين من الأعيان إلا على حسب ما يقتضيه استعداده ، وسر سر القدر هو أن تلك الاستعدادت أزلية غير مجعولة بجعل الجاعل لكون تلك الأعيان ظلال شؤونات ذاتية مقدسة عن الجعل والانفعال ، ولا شك أن الحكم الكلي على الموجودات تابع لعلمه تعالى بأعيانها الثابتة ، وعلمه سبحانه بتلك الأعيان تابع لنفس تلك الأعيان إذ لا أثر للعلم الأزلي في المعلوم بإثبات أمر له لا يكون ثابتا أو بنفي أمر عنه يكون ثابتا بل علمه تعالى بأمر ما إنما يكون على وجه يكون هو في حد ذاته على ذلك الوجه ، وأما الأعيان فقد عرفت أنها ظلال لأمور أزلية مقدسة عن شوائب التغير فكانت أزلا ، فاللّه تعالى علم بها كما كانت وقضى وحكم كما علم وقدر وأوجد كما قضى وحكم ، فالقدر تابع للقضاء التابع للعلم التابع للمعلوم التابع لما هو ظل له فإليه سبحانه يرجع الأمر كله فيمتنع أن يظهر خلاف ما علم فلذا يلغو الحذر ، لكن أمر به رعاية للأسباب فإن تعطيلها مما يفوت انتظام أمر هذه النشأة ، ولذا
ورد أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام ترك تعاطي أسباب تحصيل الغذاء وقال : لا أسعى في طلب شيء بعد أن كان اللّه تعالى هو المتكفل برزقي ولا آكل ولا أشرب ما لم يكن سبحانه هو الذي يطعمني ويسقيني فبقي أياما على ذلك حتى كادت تغيظ نفسه مما كابده فأوحى إليه سبحانه يا فلان لو بقيت كذلك إلى يوم القيامة ولم تتعاط سببا ما رزقتك أتريد أن تعطل أسبابي؟.
وقال بعض المحققين : إن سبب إيجاب الحذر أن كثيرا من الأمور قضي معلقا ونيط تحصيله بالأفعال الاختيارية للبشر بترتيب أسبابه ودفع موانعه فيمكن أن يكون الحفظ عن المكروه من جملة ما نيط بفعل اختياري وهو الحذر وهو لا يأبى ما قلناه كما لا يخفى «هذا».
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القدر مرتبة بين الذات والمظاهر ومن علم اللّه تعالى علمه ومن جهله سبحانه جهله واللّه تعالى شأنه لا يعلم فالقدر أيضا لا يعلم ، وإنما طوى علمه حتى لا يشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الإحاطة بها إذ لو علم أي معلوم كان بطريق الإحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشيء ولا يلزمنا على هذا الاستواء فيما علم منه ، فإن الكلام فيما علم كذلك ، فإن العبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقا بمعلومه فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما ، ومن المعلومات العلم بالعلم ، وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا هو سبحانه فلو علم القدر علمت أحكامه ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء وما احتاج إليه سبحانه في شيء وكان له الغنى على الإطلاق ، وسر القدر عين تحكمه في الخلائق ، وأنه لا ينكشف لهم هذا السر حتى يكون الحق بصرهم.
وقد ورد النهي عن طلب علم القدر وفي بعض الآثار أن عزيزا عليه السلام كان كثير السؤال عنه إلى أن قال الحق سبحانه له : يا عزيز لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة ،
ويقرب من ذلك السؤال عن علل الأشياء في مكنوناتها ، فإن أفعال الحق لا ينبغي أن تعلل فإن ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إلا عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود ، والأزل لا يقبل السؤال عن العلل ، والسؤال عن ذلك لا يصدر إلا عن جاهل باللّه تعالى فافهم ذاك واللّه سبحانه يتولى هداك وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى أي ضم إِلَيْهِ أَخاهُ بنيامين ، قال المفسرون : إنهم لما دخلوا عليه عليه السلام قالوا : أيها الملك هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال لهم : أحسنتم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 23
وأصبتم وستجدون ذلك عندي ، وبلغوه رسالة أبيهم ، فإنه عليه السلام لما ودعوه قال لهم : بلغوا ملك مصر سلامي وقولا له : إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا ، وقال أبو منصور المهراني : إنه عليه السلام خاطبه بذلك في كتاب فلما قرأه يوسف عليه السلام بكى ثم إنه أكرمهم وأنزلهم وأحسن نزلهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف عليه السلام :
بقي أخوكم وحده فقالوا له : كان له أخ فهلك قال : فأنا أجلسه معي فأخذه وأجلسه معه على مائدة وجعل يؤاكله ، فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك وقال : ينام كل اثنين منكم على فراش فبقي بنيامين وحده فقال : هذا ينام عندي على فراشي فنام مع يوسف عليه السلام على فراشه فجعل يوسف عليه السلام يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح وسأله عن ولده فقال : لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال :
من يجد أخا مثلك أيها الملك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وتعرف إليه عند ذلك قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ أي فلا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بنا فيما مضى فإن اللّه تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك ، والقول بأنه عليه السلام تعرف إليه وأعلمه بأنه أخوه حقيقة هو الظاهر.
وروي عن ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما إلا أن ابن إسحاق قال : إنه عليه السلام قال له بعد أن تعرف إليه : لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم ، قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إلى ما يعمله فتيانه عليه السلام من أمر السقاية ونحو ذلك ، وهو لعمري مما لا يكاد يقول به من له أدنى معرفة بأساليب الكلام ، وقال وهب : إنما أخبر عليه السلام أنه قائم مقام أخيه الذاهب في الود ولم يكشف إليه الأمر ، ومعنى فَلا تَبْتَئِسْ إلخ لا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم ، وروي أنه قال ليوسف عليه السلام : أنا لا أفارقك قال : قد علمت اغتمام والدي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل قال : لا أبالي فافعل ما بدا لك قال : فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم قال : افعل فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ ووفى لهم الكيل وزاد كلّا منهم على ما روي حمل بعير جَعَلَ السِّقايَةَ هي إناء يشرب به الملك وبه كان يكال الطعام للناس ، وقيل : كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحبوب ، وكانت من فضة مرصعة بالجواهر على ما روي عن عكرمة أو بدون ذلك كما روي عن ابن عباس والحسن وعن ابن زيد أنها من ذهب ، وقيل : من فضة مموهة بالذهب ، وقيل : كانت إناء مستطيلة تشبه المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم ، يروى أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك ، والظاهر أن الجاعل هو يوسف عليه السلام نفسه ، ويظهر من حيث كونه ملكا أنه عليه السلام لم يباشر الجعل بنفسه بل أمر أحدا فجعلها فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين من حيث يشعر أو لا يشعر.
وقرئ «وجعل» بواو ، وفي ذلك احتمالان الأول أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين وما بعدها هو جواب لَمَّا والثاني أن تكون عاطفة على محذوف وهو الجواب أي فلما جهزهم أمهلهم حتى انطلقوا وجعل ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مسمع كما في مجمع البيان ، وفي الكشاف وغيره نادى مناد.
وأورد عليه أن النحاة قالوا : لا يقال قام قائم لأنه لا فائدة فيه. وأجيب بأنهم أرادوا أن ذلك المنادي من شأنه الإعلام بما نادى به بمعنى أنه موصوف بصفة مقدرة تتم بها الفائدة أي أذن رجل معين للأذان أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وقد يقال : قياس ما في النظم الجليل على المثال المذكور ليس في محله وكثيرا ما تتم الفائدة بما ليس من أجزاء الجملة ، ومنه
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن»
والعير الإبل التي عليها

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 24
الأحمال سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء ، وهو اسم جمع لذلك لا واحد له ، والمراد هنا أصحاب العير كما في
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «يا خيل اللّه اركبي»
وذلك إما من باب المجاز أو الإضمار إلا أنه نظر إلى المعنى «1» في الآية ولم ينظر إليه في الحديث «2» وقيل : العير قافلة الحمير ثم توسع «3» فيها حتى قيلت لكل قافلة كأنها جمع عير بفتح العين وسكون الياء وهو الحمار ، وأصلها عير بضم العين والياء استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم كسرت العين لثقل الياء بعد الضمة كما فعل في بيض جمع أبيض وغيد جمع أغيد ، وحمل العير هنا على قافلة الإبل هو المروي عن الأكثرين ، وعن مجاهد أنها كانت قافلة حمير ، والخطاب ب إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ إن كان بأمر يوسف عليه السلام فلعله أريد بالسرقة أخذهم له من أبيه على وجه الخيانة كالسراق ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب أو أريد سرقة «4» السقاية ، ولا يضر لزوم الكذب لأنه إذا تضمن مصلحة رخص فيه. وأما كونه برضا أخيه فلا يدفع ارتكاب الكذب وإنما يدفع تأذي الأخ منه ، أو يكون المعنى على الاستفهام أي أئنكم لسارقون ولا يخفى ما فيه من البعد وإلا فهو من قبل المؤذن بناء على زعمه قيل والأول هو الأظهر الأوفق للسياق. وفي البحر الذي يظهر أن هذا التحيل ورمي البراء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه السلام بوحي من اللّه تعالى لما علم سبحانه في ذلك من الصلاح ولما أراد من محنتهم بذلك ، ويؤيده قوله سبحانه : وكَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف : 76] وقرأ اليماني «إنكم سارقون» بلا لام قالُوا أي الاخوة وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ أي على طالبي السقاية المفهوم من الكلام أو على المؤذن إن كان أريد منه جمع كأنه عليه السلام جعل مؤذنين ينادون بذلك على ما في البحر ، والجملة في موضع الحال من ضمير قالُوا جيء بها للدلالة على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم أي قالوا مقبلين عليهم ماذا تَفْقِدُونَ أي أي شيء تفقدون أو ما الذي تفقدونه؟ والفقد كما قال الراغب : عدم الشيء بعد وجوده فهو أخص من العدم فإنه يقال له ولما لم يوجد أصلا ، وقيل :
هو عدم الشيء بأن يضل عنك لا بفعلك ، وحاصل المعنى ما ضاع منكم؟ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة.
وقرأ السلمي «تفقدون» بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيدا نحو أحمدته إذا وجدته محمودا. وضعف أبو حاتم هذه القراءة ووجهها ما ذكر ، وعلى القراءتين فالعدول عما يقتضيه الظاهر من قولهم : ماذا سرق منكم على ما قيل لبيان كمال نزاهتهم بإظهار أنه لم يسرق منهم شيء فضلا عن أن يكونوا هم السارقين له ، وإنما الممكن أن يضيع منهم شيء فيسألونهم ماذا؟ ، وفيه إرشاد لهم إلى مراعاة حسن الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البراء إلى ما لا خير فيه لا سيما بطريق التأكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث قالوا في جوابهم :
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ولم يقولوا سرقتموه أو سرق ، وقيل : كان الظاهر أن يبادروا بالإنكار ونفى أن يكونوا سارقين ولكنهم قالوا ذلك طلبا لإكمال الدعوى إذ يجوز أن يكون فيها ما تبطل به فلا تحتاج إلى خصام ، وعدلوا عن ماذا سرق منكم؟ إلى ما في النظم الجليل لما ذكر آنفا ، والصواع بوزن غراب المكيال وهو السقاية ولم يعبر بها مبالغة في الإفهام والإفصاح ولذا أعاد الفعل ، وصيغة المستقبل لما تقدم أو للمشاكلة.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن جبير فيما نقل ابن عطية كما قرأ الجمهور إلا أنهم كسروا الصاد ، وقرأ أبو هريرة
___________
(1) فقيل إنكم لسارقون اه منه.
(2) فقيل اركبي دون اركبوا اه منه.
. (3) وقيل تجوز بها لقافلة الحمير فتأمل اه منه.
(4) والكلام من قبيل بنو فلان قتلوا فلانا فتدبر اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 25
ومجاهد «صاع» بغير واو على وزن فعل فالألف فيه بدل من الواو المفتوحة. وقرأ أبو رجاء «صوع» بوزن قوس.
وقرأ عبد اللّه بن عون بن أبي أرطبان «صوع» بضم الصاد وكلها لغات في الصاع ، وهو مما يذكر ويؤنث وأبو عبيدة لم يحفظ التأنيث ، وقرأ الحسن وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح ، «صواغ» بالغين المعجمة على وزن غراب أيضا ، وقرأ يحيى بن يعمر كذلك إلا أنه حذف الألف وسكن الواو ، وقرأ زيد بن علي «صوغ» على أنه مصدر من صاغ يصوغ أريد به المفعول. وكذا يراد من صواغ وصوغ في القراءتين أي نفقد مصوغ الملك وَلِمَنْ جاءَ بِهِ أي أتى به مطلقا ولو من عند نفسه ، وقيل : من دل على سارقه وفضحه حِمْلُ بَعِيرٍ أي من الطعام جعلا له ، والحمل على ما في مجمع البيان بالكسر لما انفصل وبالفتح لما اتصل ، وكأنه أشار إلى ما ذكره الراغب من أن الحمل بالفتح يقال في الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن.
واستدل بذلك كما في الهداية وشروحها على جواز تعليق الكفالة بالشروط لأن مناديه علق الالتزام بالكفالة بسبب وجوب المال وهو المجيء بصواع الملك وندائه بأمر يوسف عليه السلام ، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا مضى من غير إنكار ، وأورد عليه أمران : الأول ما قاله بعض الشافعية من أن هذه الآية محمولة على الجعالة لما يأتي به لا لبيان الكفالة فهي كقول من أبق عبده من جاء به فله عشرة دراهم وهو ليس بكفالة لأنها إنما تكون إذا التزم عن غيره وهنا قد التزم عن نفسه. الثاني أن الآية متروكة الظاهر لأن فيها جهالة المكفول له وهي تبطل الكفالة. وأجيب عن الأول بأن الزعم حقيقة في الكفالة والعمل بها مهما أمكن واجب فكأن معناه قول المنادي للغير : إن الملك قال : لمن جاء به حمل بعير وأنابه زعيم فيكون ضامنا عن الملك لا عن نفسه فتتحقق حقيقة الكفالة. وعن الثاني بأن في الآية ذكر أمرين الكفالة مع الحمالة للمكفول له ، وإضافتها إلى سبب الوجوب ، وعدم جواز أحدهما بدليل لا يستلزم عدم جواز الآخر.
وفي كتاب الأحكام أنه روي عن عطاء الخراساني زَعِيمٌ بمعنى كفيل فظن بعض الناس أن ذلك كفالة إنسان وليس كذلك لأن قائله جعل حمل بعير أجرة لمن جاء بالصاع وأكده بقوله : وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي ضامن فألزم نفسه ضمان الأجرة لرد الصاع ، وهذا أصل في جواز قول القائل : من حمل هذا المتاع لموضع كذا فله درهم وأنه إجارة جائزة وإن لم يشارط رجلا بعينه وكذا قال محمد بن الحسن في السير الكبير : ولعل حمل البعير كان قدرا معلوما ، فلا يقال : إن الإجارة لا تصح إلا بأجر معلوم كذا ذكره بعض المحققين.
وقال الإمام : إن الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم ، وقد حكم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في
قوله «الزعيم غارم»
وليس كفالة بشيء مجهول لأن حمل بعير من الطعام كان معلوما عندهم فصحت الكفالة به إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهي كفالة لما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة.
ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم ، وتعقب بأنه لا دليل على أن الراد هو من علم أنه الذي سرق ليحتاج إلى التزام القول بصحة ذلك في دينهم وتمام البحث في محله قالُوا تَاللَّهِ أكثر النحويين على أن التاء بدل من الواو كما أبدلت في تراث وتوراة عند البصريين ، وقيل هي بدل من الباء ، وقال السهيلي : إنها أصل برأسها ، وقال الزجاج :
إنها لا يقسم بها إلا في اللّه خاصة. وتعقب بالمنع لدخولها على الرب مطلقا أو مضافا للكعبة وعلى الرحمن «1» وقالوا
___________
(1) قيل على ضعف اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 26
تحياتك أيضا. وأيّا ما كان ففي القسم بها معنى التعجب كأنهم تعجبوا من رميهم بما ذكر مع ما شاهدوه من حالهم ، فقد روي أنهم كانوا يعكمون «1» أفواه إبلهم لئلا تنال من زروع الناس وطعامهم شيئا واشتهر أمرهم في مصر بالعفة والصلاح والمثابرة على فنون الطاعات ، ولذا قالوا : لَقَدْ عَلِمْتُمْ علما جازما مطابقا للواقع ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي لنسرق فإن السرقة من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أي إفساد كان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة ، ونفي المجيء للإفساد وإن لم يكن مستلزما لما هو مقتضى المقام من نفي الإفساد مطلقا لكنهم جعلوا المجيء الذي يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئا لغرض الإفساد مفعولا لأجله ادعاء إظهارا لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم فكأنهم قالوا : إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه كذا قيل.
وقيل : إنهم أرادوا نفي لازم المجيء للإفساد في الجملة وهو تصور الإفساد مبالغة في نزاهتهم عن ذلك فكأنهم قالوا : ما مر لنا الإفساد ببال ولا تعلق بخيال فضلا عن وقوعه منا ولا يخفى بعده وَما كُنَّا سارِقِينَ أي ما كنا نوصف بالسرقة قط ، والظاهر دخول هذا في حيز العلم كالأول ، ووجهه أن العلم بأحوالهم المشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الفائتة ، والحلف في الحقيقة على الأمرين اللذين في حيز العلم لا على علم المخاطبين بذلك إلا أنهم ذكروه للاستشهاد وتأكيد الكلام ، ولذا أجرت العرب العلم مجرى القسم كما في قوله :
ولقد علمت لتأتين منيتي إن المنايا لا تطيش سهامها
وفي ذلك من إلزام الحجة عليهم وتحقيق أمر التعجب المفهوم من تاء القسم من كلامهم كما فيه ، وذكر بعضهم أنه يجوز أن يكون كما جئنا إلخ متعلق العلم وأن يكون جواب القسم أو جواب العلم لتضمنه معناه وهو لا يأبي ما تقدم قالُوا أي أصحاب يوسف عليه السلام فَما جَزاؤُهُ أي الصواع ، والكلام على حذف مضاف أي ما جزاء سرقته ، وقيل : الضمير لسرق أو للسارق والجزاء يضاف إلى الجناية حقيقة وإلى صاحبها مجازا ، وقد يقال :
بحذف المضاف فافهم والمراد فما جزاء ذلك عندكم وفي شريعتكم إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أي في ادعاء البراءة كما هو الظاهر ، وفي التعبير - بإن - مراعاة لجانبهم قالُوا أي الإخوة جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ أي أخذ من وجد الصواع فِي رَحْلِهِ واسترقاقه ، وقدر المضاف لأن المصدر لا يكون خبرا عن الذات ولأن نفس ذات من وجد في رحله ليست جزاء في الحقيقة ، واختاروا عنوان الوجدان في الرحل دون السرقة مع أنه المراد لأن كون الأخذ والاسترقاق سنة عندهم ومن شريعة أبيهم عليه السلام إنما هو بالنسبة إلى السارق دون من وجد عنده مال غيره كيفما كان إشارة إلى كمال نزاهتهم حتى كأن أنفسهم لا تطاوعهم وألسنتهم لا تساعدهم على التلفظ به مثبتا لأحدهم بأي وجه كان وكأنهم تأكيدا لتلك الإشارة عدلوا عمن وجد عنده إلى من وجد في رحله فَهُوَ جَزاؤُهُ أي فأخذه جزاؤه وهو تقدير للحكم السابق بإعادته كما في قولك : حق الضيف أن يكرم فهو حقه وليس مجرد تأكيد ، فالغرض من الأول إفادة الحكم ومن الثاني إفادة حقيته والاحتفاظ بشأنه كأنه قيل : فهذا ما تلخص وتحقق للناظر في المسألة لا مرية فيه ، قيل :
وذكر الفاء في ذلك لتفرعه على ما قبله ادعاء وإلا فكان الظاهر تركها لمكان التأكيد ، ومنه يعلم أن الجملة المؤكدة قد تعطف لنكتة وإن لم يذكره أهل المعاني ، وجوز كون مَنْ موصولة مبتدأ وهذه الجملة خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجملة المبتدأ وخبره خبر جَزاؤُهُ. وأن تكون مَنْ شرطية مبتدأ ووُجِدَ فِي رَحْلِهِ فعل
___________
(1) وليتهم قد كانوا عكموا فم ذئبهم عن أكل يوسف عليه السلام اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 27
الشرط وجزاؤه فهو جزاؤه والفاء رابطة والشرط وجزاؤه خبر أيضا كما في احتمال الموصولة. واعترض على ذلك بأنه يلزم خلو الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ عن عائد إليه لأن الضمير المذكور - لمن - لا له. وأجيب بأنه جعل الاسم الظاهر وهو الجزاء الثاني قائما مقام الضمير والربط كما يكون بالضمير يكون بالظاهر والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو - هو - أي فهو الجزاء ، وفي العدول ما علم من التقرير السابق وإزالة اللبس والتفخيم لا سيما في مثل هذا الموضع فهو كاللازم ، وقد صرح الزجاج بأن الإظهار هنا أحسن من الإضمار وعلله ببعض ما ذكر وأنشد :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وبذلك يندفع ما في البحر اعتراضا على هذا الجعل من أن وضع الظاهر موضع الضمير للربط إنما يفصح إذا كان المقام مقام تعظيم كما قال سيبويه فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك ، وأن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف تقديره المسئول عن جزاؤه فهو حكاية قول السائل ويكون مَنْ وُجِدَ إلخ بيانا وشروعا في الفتوى ، وهذا على ما قيل كما يقول من يستفتي في جزاء صيد المحرم : جزاء صيد المحرم ، ثم يقول : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة : 95] فإن قول المفتي : جزاء صيد الحرم بتقدير ما استفتيت فيه أو سألت عنه ذلك وما بعده بيان للحكم وشرح للجواب ، وليس التقدير ما أذكره جزاء صيد الحرم لأن مقام الجواب والسؤال ناب عنه. نعم إذا ابتدأ العالم بإلقاء مسألة فهنالك يناسب هذا التقدير.
وتعقب ذلك أبو حيان بأنه ليس في الأخبار عن المسئول عنه بذلك كثير فائدة إذ قد علم أن المسئول عنه ذلك من قولهم : فَما جَزاؤُهُ وكذا يقال في المثال ، وأجيب بأنه يمكن أن يقال : إن فائدة ذلك إعلام المفتي المستفتي أنه قد أحاط خبره بسؤاله ليأخذ فتواه بالقبول ولا يتوقف في ذلك لظن الغفلة فيها عن تحقيق المسئول وهي فائدة جليلة.
وزعم بعضهم أن الجملة من الخبر والمبتدأ المحذوف على معنى الاستفهام الإنكاري كأن المسئول ينكر أن يكون المسئول عنه ذلك لظهور جوابه ثم يعود فيجيب وهو كما ترى كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الأوفى نَجْزِي الظَّالِمِينَ بالسرقة ، والظاهر أن هذا من تتمة كلام الإخوة فهو تأكيد للحكم المذكور غب تأكيد وبيان لقبح السرقة وقد فعلوا ذلك ثقة بكمال براءتهم عنها وهي عما فعل بهم غافلون ، وقيل : هو من كلام أصحاب يوسف عليه السلام ، وقيل : كلامه نفسه أي مثل الجزاء الذي ذكرتموه نجزي السارقين. فَبَدَأَ قيل المؤذن ورجح بقرب سبق ذكره ، وقيل : يوسف عليه السلام فقد روي أن إخوته لما قالوا ما قالوا قال لهم أصحابه : لا بد من تفتيش رحالكم فردوهم بعد أن ساروا منزلا أو بعد أن خرجوا من العمارة إليه عليه السلام فبدأ بِأَوْعِيَتِهِمْ أي بتفتيش أوعية الإخوة العشرة ورجح ذلك بمقاولة يوسف عليه السلام فإنها تقتضي ظاهرا وقوع ما ذكر بعد ردهم إليه ولا يخفى أن الظاهر أن إسناد التفتيش إليه عليه السلام مجازي والمفتش حقيقة أصحابه يأمره بذلك قَبْلَ تفتيش وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين لنفي التهمة.
روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال : ما أظن هذا أخذ شيئا فقالوا : واللّه لا تتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ففعل ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية أو الصواع لأنه كما علمت مما يؤنث ويذكر عند الحفاظ ، وقيل : الضمير للسرقة المفهومة من الكلام أي ثم استخرج السرقة مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ لم يقل منه على رجع الضمير إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصدا إلى زيادة كشف وبيان ، والوعاء الظرف الذي يحفظ فيه الشيء وكأن المراد به هنا ما يشمل الرحل وغيره لأنه الأنسب بمقام التفتيش ولذا لم يعبر بالرحال على ما قيل ، وعليه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 28
يكون عليه السلام قد فتش كل ما يمكن أن يحفظ الصواع فيه مما كان معهم من رحل وغيره.
وقولهم : مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد كما قال المدقق أبو القاسم السمرقندي لا يقتضي أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء كما في ركب القوم دوابهم يجوز أن يكون على التفاوت كما في باع القوم دوابهم فإنه يفهم معه أن كلّا منهم باع ما له من دابة وقد مر التنبيه على هذا فيما سبق وحينئذ يحتمل أن يراد من وعاء أخيه الواحد والمتعدد.
وقرأ الحسن «وعاء» بضم الواو وجاء كذلك عن نافع وقرأ ابن جبير «إعاء» بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا في وشاح إشاح وفي وسادة إسادة وقلب الواو المكسورة في أول الكلمة همزة مطرد في لغة هذيل كَذلِكَ أي مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم وحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا كِدْنا لِيُوسُفَ أي صنعنا ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس السقاية وما يتلوه فالكيد مجاز لغوي في ذلك وإلا فحقيقته وهي أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه وتريده على ما قالوا محال عليه تعالى ، وقيل : إن ذلك محمول على التمثيل ، وقيل : إن في الكيد اسنادين بالفحوى إلى يوسف عليه السلام وبالتصريح إليه سبحانه والأول حقيقي والثاني مجازي ، والمعنى فعلنا كيد يوسف وليس بذاك ، وفي درر المرتضى إن كدنا بمعنى أردنا وأنشد :
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
واللام للنفع لا كاللام في قوله تعالى : فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف : 5] فإنها للضرر على ما هو الاستعمال الشائع.
ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي في سلطانه على ما روي عن ابن عباس أو في حكمه وقضائه كما روي عن قتادة ، والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد كأنه قيل : لما ذا فعل ذلك؟ فقيل : لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد لأن جزاء السارق في دينه على ما روي عن الكلبي ، وغيره أن يضاعف عليه الغرم. وفي رواية ويضرب دون أن يؤخذ ويسترق كما هو شريعة يعقوب عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بما نسب إليه من السرقة بحال من الأحوال.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا حال مشيئته تعالى التي هي عبارة عن ذلك الكيد أو إلا حال مشيئته تعالى للأخذ بذلك الوجه ، وجوز أن يكون المراد من ذلك الكيد الإرشاد المذكور ومبادئه المؤدية إليه جميعا من إرشاد يوسف عليه السلام وقومه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال حسبما شرح مرتبا ، وأمر التعليل كما هو بيد أن المعنى على هذا الاحتمال مثل ذلك الكيد البالغ إلى هذا الحد كدنا ليوسف عليه السلام ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حال مشيئتنا له بإيجاد ما يجري مجرى الجزاء الصوري من العلة التامة وهو إرشاد إخوته إلى الإفتاء المذكور فالقصر المستفاد من تقديم المجرور مأخوذ بالنسبة إلى البعض ، وكذا يقال في تفسير من فسر كِدْنا لِيُوسُفَ بقوله علمناه إياه وأوحينا به إليه أي مثل ذلك التعليم المستتبع لما شرح علمناه دون بعض من ذلك فقط إلخ ، والاستثناء على كل حال من أعم الأحوال وجوز أن يكون من أعم العلل والأسباب أي لم يكن ليأخذ أخاه في دين الملك لعلة من العلل وسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئته تعالى ، وأيّا ما كان فهو متصل لأن أخذ السارق وإذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده دينا لا سيما عند رضاه وإفتائه به ليس مخالفا لدين الملك فلذلك لم ينازعه الملك وأصحابه في مخالفة دينهم بل لم يعدوه مخالفة.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 29
وقيل : إن جملة ما كان إلخ في موضع البيان والتفسير للكيد وإن معنى الاستثناء إلا أن يشاء اللّه تعالى أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك وفيه بحث ، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة اللّه سبحانه وإذنه في دين غير دين الملك نَرْفَعُ دَرَجاتٍ أي رتبا كثيرة عالية من العلم ، وانتصابها على ما نقل عن أبي البقاء على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات ، وجوز غير واحد النصب على المصدرية ، وأيّا ما كان فالمفعول به قوله تعالى :
مَنْ نَشاءُ أي نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف عليه السلام ، وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك سنة مستمرة غير مختصة بهذه المادة والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من أولئك المرفوعين عَلِيمٌ لا ينالون شأوه.
قال المولى المحقق شيخ الإسلام قدس سره في بيان ربط الآية بما قبل : إنه إن جعل الكيد عبارة عن إرشاد الإخوة إلى الإفتاء وحملهم عليه أو عبارة عن ذلك مع مبادئه المؤدية إليه فالمراد برفع يوسف عليه السلام ما اعتبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه السلام إلى ما يتم من قبله من المبادئ المفضية إلى استبقاء أخيه ، والمعنى أرشدنا إخوته إلى الإفتاء لأنه لم يكن متمكنا من غرضه بدونه أو أرشدنا كلّا منهم ومن يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قبل يوسف لأنه لم يكن متمكنا من غرضه بمجرد ذلك.
وحينئذ يكون قوله تعالى : نَرْفَعُ إلى عَلِيمٌ توضيحا لذلك على معنى أن الرفع المذكور لا يوجب تمام مرامه إذ ليس ذلك بحيث لا يغيب عن علمه شيء بل إنما نرفع كل من نرفع حسب استعداد وفوق كل واحد منهم عليم لا يقادر قدره يرفع كلّا منهم إلى ما يليق به من معارج العلم وقد رفع يوسف إلى ذلك وعلم أن ما حواه دائرة علمه لا يفي بمرامه فأرشد إخوته إلى الإفتاء المذكور فكان ما كان وكأنه عليه السلام لم يكن على يقين من صدور ذلك منهم وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى اللّه تعالى شأنه وجودا وعدما ، والتعرض لوصف العلم لتعيين جهة الفوقية ، وفي صيغة المبالغة مع التنكير والالتفات إلى الغيبة من الدلالة على فخامة شأنه عز شأنه وجلالة مقدار علمه المحيط جل جلاله ما لا يخفى. وإن جعل عبارة عن التعليم المستتبع للإفتاء فالرفع عبارة عن ذلك التعليم ، والإفتاء وإن كان لم يكن داخلا تحت قدرته عليه السلام لكنه كان داخلا تحت علمه بواسطة الوحي والتعليم ، والمعنى مثل ذلك التعليم البالغ إلى هذا الحد علمناه ولم نقتصر على تعليم ما عدا الإفتاء الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكنا من غرضه في أخيه إلا بذلك ، وحينئذ يكون قوله تعالى : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ توضيحا لقوله سبحانه :
كِدْنا وبيانا لأن ذلك من باب الرفع إلى الدرجات العالية من العلم ومدحا ليوسف عليه السلام برفعه إليها وَفَوْقَ إلخ تذييلا له أي نرفع الدرجات عالية من نشاء رفعه وفوق كل منهم عليم هو أعلى درجة. قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى اللّه تعالى ، والمعنى أن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف أفضل منهم اه والذي اختاره الزمخشري على ما قيل حديث التذييل إلا أنه أوجز في كلامه حتى خفي مغزاه وعد ذلك من المداحض حيث قال : وفوق كل ذي علم عليم فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم وهو اللّه عز وعلا ، وبيان ذلك على ما في الكشف أن غرضه أن يبين وجه التذييل بهذه الجملة فأفاد أنه إما على وجه التأكيد لرفع درجة يوسف عليه السلام على إخوته في العلم أي فاقهم علما لأن فوق كل ذي علم عليم أرفع درجة منه ، وفيه مدح له بأن الذين فاقهم علما أيضا وإما على تحقيق أن اللّه تعالى رفعه درجات وهو إليه لا منازع له فيه فقال : وفوق العلماء كلهم عليم هم دونه يرفع من يشاء يقربه إليه بالعلم كما رفع يوسف عليه السلام ، وذكر أن ما يقال : من أن الكل على الثاني مجموعي وعلى الأول بمعنى كل واحد كلام غير محصل لأن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 30
الداخل على النكرة لا يكون مجموعيا ، وأصل النكتة في الترديد أنه لو نظر إلى العلم ولا تناهيه كان الأول فيرتقي إلى ما لا نهاية لعلمه بل جل عن النهاية من كل الوجوه ، ولا بد من تخصيص في لفظ كُلِّ والمعنى وفوق كل واحد من العلماء عالم وهكذا إلى أن ينتهي ، ولو نظر إلى العالم وإفادته إياه كان الثاني ، والمعنى وفوق كل واحد واحد عالم واحد فأولى أن يكون فوق كلهم لأن الثاني معلول الأول ، ولظهور المعنى عليه قدر وفوق العلماء كلهم وكلا الوجهين يناسب المقام اه. ولعل اعتبار كون الجملة الأولى مدحا ليوسف عليه السلام وتعظيما لشأن الكيد وكون الثانية تذييلا هو الأظهر فتأمل. وقد استدل بالآية من ذهب إلى أنه تعالى شأنه عالم بذاته لا بصفة علم زائدة على ذلك ، وحاصل استدلالهم أنه لو كان له سبحانه صفة علم زائدة على ذاته كان ذا علم لاتصافه به وكل ذي علم فوقه عليم للآية فيلزم أن يكون فوق وأعلم منه جل وعلا عليم آخر وهو من البطلان بمكان.
وأجيب بأن المراد بكل ذي علم المخلوقات ذوو العلم لأن الكلام في الخلق ولأن العليم صيغة مبالغة معناه أعلم من كل ذي علم فيتعين أن يكون المراد به اللّه تعالى فما يقابله يلزم كونه من الخلائق لئلا يدخل فيما يقابله ، وكون المراد من العليم ذلك هو إحدى روايتين عن الحبر ، فقد أخرج عبد الرزاق وجماعة عن سعيد بن جبير قال : كنا عند ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فحدث بحديث فقال رجل عنده : «وفوق كل ذي علم عليم» فقال ابن عباس : بئسما قلت اللّه العليم وهو فوق كل عالم ، وإلى ذلك ذهب الضحاك ، فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال بعد أن تلا الآية يعني اللّه تعالى بذلك نفسه ، على أنه لو صح ما ذكره المستدل لم يكن اللّه تعالى عالما بناء على أن الظاهر اتفاقه معنا في صحة قولنا فوق كل العلماء عليم ، وذلك أنه يلزم على تسليم دليله إذا كان اللّه تعالى عالما أن يكون فوقه من هو أعلم منه ، فإن أجاب بالتخصيص في المثال فالآية مثله.
وقرأ غير واحد من السبعة «درجات من نشاء» بالإضافة ، قيل : والقراءة الأولى أنسب بالتذييل حيث نسب فيها الرفع إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجته والأمر في ذلك هين. وقرأ يعقوب بالياء في «يرفع» و«يشاء» وقرأ عيسى البصرة «نرفع» بالنون و«درجات» منونا و«من يشاء» بالياء. قال صاحب اللوامح : وهذه قراءة مرغوب عنها ولا يمكن إنكارها. وقرأ عبد اللّه الحبر «وفوق كل ذي عالم عليم» فخرجت كما في البحر على زيادة ذي أو على أن «عالم» مصدر بمعنى علم كالباطل أو على أن التقدير كل ذي شخص عالم ، والذي في الدر المنثور أنه رضي اللّه تعالى عنه قرأ «وفوق كل عالم عليم» بدون ذِي ولعله إلا ثبت واللّه تعالى العليم قالُوا أي الإخوة إِنْ يَسْرِقْ يعنون بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يريدون به يوسف عليه السلام وما جرى عليه من جهة عمته ، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته كانت تحضنه وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام وكانت إليها منطقة أبيها وكانوا يتوارثونها بالكبر فكانت لا تحب أحدا كحبها إياه حتى إذا ترعرع وقعت نفس يعقوب إليه فأتاها فقال : يا أختاه سلمي إلى يوسف فو اللّه ما أقدر على أن يغيب عني ساعة فقالت : واللّه ما أنا بتاركته فدعه عندي أياما أنظر إليه لعل ذلك يسليني ، فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها عمدت إلى تلك المنطقة فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه ثم قالت : فقدت منطقة أبي إسحاق فانظروا من أخذها فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام فقالت : واللّه إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها : أنت وذاك إن كان فعل فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في الآية : «سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 31
أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره إخوته بذلك ،
وأخرج غير واحد عن زيد بن أسلم قال : كان يوسف عليه السلام غلاما صغيرا مع أمه عند خال له وهو يلعب مع الغلمان فدخل كنيسة لهم فوجد تمثالا صغيرا من ذهب فأخذه وذلك الذي عنوه بسرقته.
وقال مجاهد : إن سائلا جاءه يوما فأخذ بيضة فناولها إياه وقال سفيان بن عيينة : أخذ دجاجة فأعطاها السائل. وقال وهب : كان عليه السلام يخبئ الطعام من المائدة للفقراء وقيل وقيل : وعن ابن المنير أن ذلك تصلف لا يسوغ نسبة مثله إلى بيت النبوة بل ولا إلى أحد من الأشراف فالواجب تركه وإليه ذهب مكي. وقال بعضهم : المعنى إن يسرق فقد سرق مثله من بني آدم وذكر له نظائر في الحديث ، قيل وهو كلام حقيق بالقبول.
وأنت تعلم أن في عد كل ما قيل في بيان المراد من سرقة الأخ تصلفا تصلف فإن فيه ما لا بأس في نسبته إلى بيت النبوة ، وإن ادعى أن دعوى نسبتهم السرقة إلى يوسف عليه السلام مما لا يليق نسبة مثله إليهم لأن ذلك كذب إذ لا سرقة في الحقيقة وهم أهل بيت النبوة الذين لا يكذبون جاء حديث أكله الذئب وهم غير معصومين أولا وآخرا وما قاله البعض. وقيل : إنه كلام حقيق بالقبول مما يأباه ما بعد كما لا يخفى على من له ذوق ، على أن ذلك في نفسه بعيد ذوقا وأتوا بكلمة إِنْ لعدم جزمهم بسرقته بمجرد خروج السقاية من رحله ، فقد وجدوا من قبل بضاعتهم في رحالهم ولم يكونوا سارقين. وفي بعض الروايات أنهم لما رأوا إخراج السقاية من رحله خجلوا فقالوا : يا ابن راحيل كيف سرقت هذه السقاية؟ فرفع يده إلى السماء فقال : واللّه ما فعلت فقالوا : فمن وضعها في رحلك؟ قال : الذي وضع البضاعة في رحالكم ، فإن كان قولهم : إِنْ يَسْرِقْ إلخ بعد هذه المقاولة فالظاهر أنها هي التي دعتهم «لأن» وأما قولهم : «إن ابنك سرق» فبناء على الظاهر ومدعى القوم وكذا علمهم مبني على ذلك وقيل : إنهم جزموا بذلك وإِنْ لمجرد الشرط ولعله الأولى لظاهر ما يأتي إن شاء اللّه اللّه تعالى تحقيقه ويَسْرِقْ لحكاية الحال الماضية ، والمعنى إن كان سرق فليس ببدع لسبق مثله من أخيه وكأنهم أرادوا بذلك دفع المعرة عنهم واختصاصها بالشقيقين ، وتنكير أَخٌ لأن الحاضرين لا علم لهم به. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي سريج عن الكسائي والوليد بن حسان.
وغيرهم «فقد سرّق» بالتشديد مبنيا للمفعول أي نسب السرقة فَأَسَرَّها يُوسُفُ الضمير لما يفهم من الكلام والمقام أي أضمر الحزازة التي حصلت له عليه السلام مما قالوا : وقيل : أضمر مقالتهم أو نسبة السرقة إليه فلم يجبهم عنها فِي نَفْسِهِ لا أنه أسرها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى : وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً [نوح : 9] وَلَمْ يُبْدِها أي يظهرها لَهُمْ لا قولا ولا فعلا صفحا لهم وحلما وهو تأكيد لما سبق قالَ أي في نفسه ، وهو استئناف مبني على سؤال نشأ من الأخبار بالإسرار المذكور كأنه قيل : فماذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك؟ فقيل : قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي منزلة في السرق ، وحاصله أنكم أثبت في الاتصاف بهذا الوصف وأقوى فيه حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء ، وقال الزجاج : إن الإضمار هنا على شريطة التفسير لأن قالَ أَنْتُمْ إلخ بدل من الضمير ، والمعنى فأسر يوسف في نفسه قوله : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً والتأنيث باعتبار أنه جملة أو كلمة. وتعقب ذلك أبو علي بأن الإضمار على شريطة التفسير على ضربين ، أحدهما أن يفسر بمفرد نحو نعم رجلا زيد وربه رجلا. وثانيهما أن يفسر بجملة كقوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص : 1] وأصل هذا أن يقع في الابتداء ثم يدخل عليه النواسخ نحو إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً [طه : 74] فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج : 46] وليس منها - شفاء النفس مبذول - وغير ذلك ، وتفسير المضمر في كلا الموضعين متصل بالجملة التي قبلها المتضمنة لذلك المضمر ومتعلق بها ولا يكون منقطعا عنها والذي ذكره الزجاج منقطع فلا يكون من الإضمار على شريطة التفسير. وفي أنوار التنزيل أن المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن ، واعترض عليه بالمنع. وفي الكشف أن هذا ليس من التفسير بالجمل في شيء حتى

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 32
يعترض بأنه من خواص ضمير الشأن الواجب التصدير وإنما هو نظير وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ [البقرة :
132] إلخ.
وتعقب بأن في تلك الآية تفسير جملة بجملة وهذه فيها تفسير ضمير بجملة. وفي الكشاف جعل أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً هو المفسر وفيه خفاء لأن ذلك مقول القول. واستدل بعضهم بالآية على إثبات الكلام النفسي بجعل قالَ إلخ بدلا من - أسر - ولعل الأمر لا يتوقف على ذلك لما أشرنا إليه من أن المراد قال في نفسه ، نعم قال أبو حيان : إن الظاهر أنه عليه السلام خاطبهم وواجههم به بعد أن أسر كراهية مقالتهم في نفسه وغرضه توبيخهم وتكذيبهم ، ويقويه أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة له بأبيه وفيه نظر. وقرأ عبد اللّه وابن أبي عبلة «فأسره» بتذكير الضمير وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي عالم علما بالغا إلى أقصى المراتب بأن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا ، فصيغة أفعل لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه تعالى على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم قاله غير واحد.
وقال أبو حيان : إن المعنى أعلم بما تصفون به منكم لأنه سبحانه عالم بحقائق الأمور وكيف كانت سرقة أخيه الذي أحلتم سرقته عليه فأفعل حينئذ على ظاهره. واعترض بأنه لم يكن فيهم علم والتفضيل يقتضي الشركة ، وأجيب بأنه تكفي الشركة بحسب زعمهم فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسهم ، ألا ترى قولهم : فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ جزما.
قالُوا عند ما شاهدوا مخايل أخذ بنيامين مستعطفين يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً طاعنا في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالة به يتعلل عن شقيقه الهالك ، وقيل : أرادوا مسنا كبيرا في القدر ، والوصف على القولين محط الفائدة وإلا فالإخبار بأن له أبا معلوم مما سبق فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ بدله فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا فأتم إحسانك فما الانعام إلا بالإتمام أو من عادتك الإحسان مطلقا فاجر على عادتك ولا تغيرها معنا فنحن أحق الناس بذلك ، فالإحسان على الأول خاص وعلى الثاني عام ، والجملة على الوجهين اعتراض تذييلي على ما ذهب إليه بعض المدققين ، وذهب بعض آخر إلى أنه إذا أريد بالإحسان الإحسان إليهم تكون مستأنفة لبيان ما قبل إذ أخذ البدل إحسان إليهم وإذا أريد أن عموم ذلك من دأبك وعادتك تكون مؤكدة لما قبل وذكر أمر عام على سبيل التذييل أنسب بذلك.
[سورة يوسف (12) : الآيات 79 إلى 95]
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 33
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أي نعوذ باللّه تعالى معاذا من أَنْ نَأْخُذَ فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول به وحذف حرف الجر كما في أمثاله إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلال بموجبها إِنَّا إِذاً أي إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه لَظالِمُونَ في مذهبكم وشرعكم وما لنا ذلك ، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير مع كون الخطاب من جهة اخوته على التوحيد من باب السلوك إلى سنن الملوك وللإشعار بأن الأخذ والإعطاء ليس مما يستبد به بل هو منوط بآراء أهل الحل والعقد ، وإيثار مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ على من سرق متاعنا الأخصر لأنه أوفق بما وقع في الاستفتاء والفتوى أو لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحملون وجدان الصواع عنده على محمل غير السرقة ، والمتاع اسم لما ينتفع به وأريد به الصواع ، وما ألطف استعماله مع الأخذ المراد به الاسترقاق والاستخدام وكأنه لهذا أوثر على الصواع ، والظاهر أن الأخذ في كلامهم محمول على هذا المعنى أيضا حقيقة.
وجوز ابن عطية أن يكون ذلك مجازا لأنهم يعلمون أنه لا يجوز استرقاق حر غير سارق بدل من قد أحكمت السنة رقه فقولهم ذلك كما تقول لمن تكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله ، ثم قال : وعلى هذا يتجه قول يوسف عليه السلام : مَعاذَ اللَّهِ لأنه تعوذ من غير جائز ، ويحتمل أن لا يريدوا هذا المعنى ، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك الحمالة أي خذ أحدنا وأبقه عندك حتى ينصرف إليك صاحبك ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه فيعرفه جلية الحال اه وهو كلام لا يعول عليه أصلا كما لا يخفى ولجواب يوسف عليه السلام معنى باطن هو أن اللّه عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها سبحانه في ذلك فلو أخذت غيره كنت ظالما لنفسي وعاملا بخلاف الوحي فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ أي يئسوا من يوسف عليه السلام واجابته لهم إلى مرادهم ، فاستفعل بمعنى فعل نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب على ما في البحر ، وقال غير واحد : إن السين والتاء زائدتان للمبالغة أي يئسوا يأسا كاملا لأن المطلوب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 34
المرغوب مبالغ في تحصيله ، ولعل حصول هذه المرتبة من اليأس لهم لما شاهدوه من عوذه باللّه تعالى مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ باللّه تعالى منه ، ومن تسميته ذلك ظلما بقوله : إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ.
وفي بعض الآثار أنهم لما رأوا خروج الصواع من رحله وكانوا قد أفتوا بما أفتوا تذكروا عهدهم مع أبيهم استشاط من بينهم روبيل «1» غضبا وكان لا يقوم لغضبه شيء ووقف شعره حتى خرج من ثيابه فقال : أيها الملك لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقين بها في مصر حامل إلا وضعت فقال يوسف عليه السلام لولد له صغير : قم إلى هذا فمسه أو خذ بيده. وكان إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه ، فلما فعل الولد سكن غضبه فقال لإخوته : من مسني منكم؟ فقالوا : ما مسك أحد منا فقال : لقد مسني ولد من آل يعقوب عليه السلام ، ثم قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا : عشرة قال : اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فلما أحس يوسف عليه السلام بذلك قام إليه وأخذ بتلابيبه وصرعه وقال : أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم قوة فعند ذلك خضعوا وقالوا : يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إلخ ،
ويمكن على هذا أن يكون حصول اليأس الكامل لهم من مجموع الأمرين.
وجوز بعضهم كون ضمير مِنْهُ لبنيامين ، وتعقب بأنهم لم ييأسوا منه بدليل تخلف كبيرهم لأجله وروى أبو ربيعة عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ «استأيسوا» من أيس مقلوب «2» يئس ، ودليل القلب على ما في البحر عدم انقلاب ياء أيس ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وحاصل المعنى «3» لما انقطع طمعهم بالكلية خَلَصُوا انفردوا عن غيرهم واعتزلوا الناس.
وقول الزجاج : انفرد بعضهم عن بعض فيه نظر نَجِيًّا أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم عليه الصلاة والسلام ، وإنما وحده وكان الظاهر جمعه لأنه حال من ضمير الجمع لأنه مصدر بحسب الأصل كالتناجي أطلق على المتناجين مبالغة أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير أو لكونه على زنة المصدر لأن فعيلا من أبنية المصادر هو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس وكعشير «4» بمعنى معاشر ، أي مناج بعضهم بعضا فيكونون متناجين وجمعه أنجية قال لبيد :
وشهدت أنجية الخلافة عاليا كعبي وارداف الملوك شهود «5»
وأنشد الجوهري :
إني إذا ما القوم كانوا أنجية واضطربوا مثل اضطراب الأرشية
هناك أوصيني ولا توصي بيه. وهو على خلاف القياس إذ قياسه في الوصف افعلاء كمغني وأغنياء قالَ كَبِيرُهُمْ أي رئيسهم وهو شمعون قاله مجاهد ، أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله قتادة ، أو كبيرهم في العقل وهو
___________
(1) وقيل : شمعون وروي عن وهب اه منه.
(2) في مجمع البيان أن أيس ويئس كل منهما لغة اه منه. [.....]
(3) على تقرير كون الزيادة للمبالغة اه منه.
(4) وخليط بمعنى مخالط وسمير بمعنى مسامر وغير ذلك اه منه.
(5) وهو يقوي كونه جامدا كرغيف وأرغفة اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 35
يهوذا قاله وهب. والكلبي ، وعن محمد بن إسحاق أنه لاوي أَلَمْ تَعْلَمُوا كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكرا عليهم : «ألم تعلموا».
أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ عهدا يوثق به وهو حلفهم باللّه تعالى وكونه منه تعالى لأنه بإذنه فكأنه صدر منه تعالى أو هو من جهته سبحانه - فمن - ابتدائية وَمِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا ، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ أي قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه وقد قلتم ما قلتم. وما مزيدة والجملة حالية ، وهذا على ما قيل أحسن الوجوه في الآية وأسلمها ، وجوز أن تكون ما مصدرية ومحل المصدر النصب عطفا على مفعول تَعْلَمُوا أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا عليكم وتفريطكم السابق في شأن يوسف عليه السلام ، وأورد عليه أمران الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف ، وتقديم معمول صلة الموصول الحرفي عليه وفي جوازهما خلاف للنحاة والصحيح الجواز خصوصا بالظرف المتوسع فيه ، وقيل : بجواز العطف على اسم أَنَّ ويحتاج حينئذ إلى خبر لأن الخبر الأول لا يصح أن يكون خبرا له فهو فِي يُوسُفَ أو مِنْ قَبْلُ على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائنا في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل.
واعترض بأن مقتضى المقام إنما هو الإخبار بوقوع ذلك التفريط لا يكون تفريطهم السابق واقعا في شأن يوسف عليه السلام كما هو مفاد الأول ، ولا يكون تفريطهم الكائن في شأنه واقعا من قبل كما هو مفاد الثاني.
وفيه أيضا ما ذكره أبو البقاء وتبعه أبو حيان من أن الغايات لا تقع خبرا ولا صلة «1» ولا صفة ولا حالا وقد صرح بذلك سيبويه سواء جرت أم لم تجر فتقول : يوم السبت يوم مبارك والسفر بعده ولا تقول والسفر بعد ، وأجاب عنه في الدر المصون بأنه إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف فينبغي الجواز إذا كان المضاف إليه معلوما مدلولا عليه كما في الآية الكريمة ، ورد بأن جواز حذف المضاف إليه في الغايات مشروط بقيام القرينة على تعيين ذلك المحذوف على ما صرح به الرضي فدل على أن الامتناع ليس معللا بما ذكر.
وقال الشهاب : «2» إن ما ذكروه ليس متفقا عليه فقد قال الإمام المرزوقي في شرح الحماسة : إنها تقع صفات وأخبارا وصلات وأحوالا ونقل هذا الإعراب المذكور هنا عن الرماني وغيره واستشهد له بما يثبته من كلام العرب ، ثم إن في تعرفها بالإضافة باعتبار تقدير المضاف إليه معرفة يعينه الكلام السابق عليها اختلافا والمشهور أنها «3» معارف ، وقال بعضهم : نكرات وإن التقدير من قبل شيء كما في شرح التسهيل. والفاضل صاحب الدر سلك مسلكا حسنا وهو أن المضاف إليه إذا كان معلوما مدلولا عليه بأن يكون مخصوصا معينا صح الأخبار لحصول الفائدة فإن لم يتعين بأن قامت قرينة العموم دون الخصوص وقدر من قبل شيء لم يصح الأخبار ونحوه إذ ما شيء إلا وهو قبل شيء ما فلا فائدة في الأخبار فحينئذ يكون معرفة ونكرة ، ولا مخالفة بين كلامه وكلام الرضي مع أن كلام الرضي غير متفق عليه انتهى ، وهو كما قال تحقيق نفيس ، وقيل : محل المصدر الرفع على الابتداء والخبر مِنْ قَبْلُ وفيه البحث السابق ،
___________
(1) أورد على أنها لا يكون صلة قوله تعالى : كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ودفع بان الصلة قوله سبحانه : كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ و«من قبل» ظرف لغو متعلق بخبر كان لا مستقر صلة اه منه.
(2) وذكر أنه تحقيق حقيق بان يرسم في دفاتر الأذهان ويعلق في حقائب الحفظ والجنان اه منه.
(3) وذكر السيرافي في شرح الكتاب ما يقتضي أن الغايات معارف لا يقدر ما حذف بعدها إلا معرفة فتأمل اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 36
وقيل : ما موصولة ومحلها من الأعراب ما تقدم من الرفع أو النصب وجملة فَرَّطْتُمْ صلتها والعائد محذوف ، والتفريط بمعنى التقديم من الفرط لا بمعنى التقصير أي ما قدمتموه من الجناية.
وأورد عليه أنه يكون قوله تعالى : مِنْ قَبْلُ تكرار فإن جعل خبرا يكون الكلام غير مفيد وإن جعل متعلقا بالصلة يلزم مع التكرار تقديم متعلق الصلة على الموصول وهو غير جائز ، وقيل : ما نكرة موصوفة ومحلها ما تقدم وفيه ما فيه فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ مفرع على ما ذكره وذكر به و«برح» تامة وتستعمل إذا كانت كذلك بمعنى ذهب وبمعنى ظهر كما في قولهم : برح الخفاء ، وقد ضمنت هنا معنى فارق فنصبت الْأَرْضَ على المفعولية ، ولا يجوز أن تكون ناقصة لأن الأرض لا يصح أن تكون خبرا عن المتكلم هنا وليست منصوبة على الظرفية ولا بنزع الخافض وعنى بها أرض مصر أي فلن أفارق أرض مصر جريا على قضية الميثاق حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في البراح بالانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب ، قال في البحر : إنه غيا ذلك بغايتين خاصة وهي إذن أبيه وعامة وهي حكم اللّه تعالى له وكأنه بعد أن غيا بالأولى رجع وفوض الأمر إلى من له الحكم حقيقة جل شأنه ، وأراد حكمه سبحانه بما يكون عذرا له ولو الموت ، والظاهر أن أحب الغايتين إليه الأولى فلذا قدم لِي فيها وأخره في الثانية فليفهم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يحكم سبحانه إلا بالحق والعدل.
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا له يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ الظاهر أن هذا القول من تتمة كلام كبيرهم وقيل :
هو من كلام يوسف عليه السلام وفيه بعد كما أن الظاهر أنهم أرادوا أنه سرق في نفس الأمر. وَما شَهِدْنا عليه إِلَّا بِما عَلِمْنا من سرقته وتبقيناه حيث استخرج صواع الملك من رحله. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق أو ما علمنا أنك ستصاب به كما أصبت بيوسف. وقرأ الضحاك «سارق» باسم الفاعل.
وقرأ ابن عباس وأبو رزين والكسائي في رواية «سرّق» بتشديد الراء مبنيا للمفعول أي نسب إلى السرقة فمعنى وَما شَهِدْنا إلخ وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق وما كنا للأمر الخفي بحافظين أسرق بالصحة أم دس الصواع في رحله ولم يشعر. واستحسنت هذه القراءة لما فيها من التنزيه كذا قالوا ، والظاهر أن القول باستفادة اليقين من استخراج الصواع من رحله مما لا يصح فكيف يوجب اليقين ، واحتمال أنه دس فيه من غير شعور قائم جعل مجرد وجود الشيء في يد المدعى عليه بعد إنكاره موجبا للسرق في شرعهم أولا ، قيل : فالوجه أن الظن البين قائم مقام العلم ، ألا ترى أن الشهادة تجوز بناء على الاستصحاب ويسمى علما كقوله تعالى : فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ [الممتحنة : 10] وإنما جزموا بذلك لبعد الاحتمالات المعارضة عندهم ، وإذا جعل الحكم بالسرقة وكذا علمهم أيضا مبنيا على ما شاهدوا من ظاهر الأمر اتحدت القراءتان ويفسر وَما كُنَّا إلخ بما فسّر به على القراءة الأخيرة ، وقيل :
معنى ما شَهِدْنا إلخ ما كانت شهادتنا في عمرنا على شيء إلا بما علمنا وليست هذه شهادة منا إنما هي خبر عن صنيع ابنك بزعمهم وَما كُنَّا إلخ كما هو وهو ذهاب أيضا إلى أنهم غير جازمين. وفي الكشف الذي يشهد له الذوق أنهم كانوا جازمين وقولهم : إن يسرق فقد سرق تمهيد بين ، وادعاء العلم لا يلزم العلم فإن كان لبعد الاحتمالات المعارضة فلا يكون كذبا محرما وإلا فغايته الكذب في دعوى العلم وليس بأول كذباتهم ، وكان قبل أن تنبؤوا ولهذا خونهم الأب في هذه أيضا ، على أن قولهم : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ مؤكدا ذلك التأكيد يدل على أنهم جعلوا الوجدان في الرحل قاطعا وإلا كان عليهم أن يقولوا : جزاؤه من وجد في رحله متعديا أو سارقا ونحوه ، فإن يحتمل عنهم الحزم هنالك فلم لا يحتمل هاهنا اه وفيه مخالفة لبعض ما نحن عليه ، وكذا لما ذكرناه في تفسير جَزاؤُهُ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 37
إلخ ، ولعل الأمر في هذا هين. ومن غريب التفسير أن معنى قولهم : لِلْغَيْبِ لليل وهو بهذا المعنى في لغة حمير وكأنهم قالوا : «وما شهدنا إلا بما علمنا - من ظاهر حاله - وما كنا لليل حافظين» أي لا ندري ما يقع فيه فلعله سرق فيه أو دلس عليه ، وأنا لا أدري ما الداعي إلى هذا التفسير المظلم مع تبلج صبح المعنى المشهور وأيا ما كان فلام لِلْغَيْبِ للتقوية والمراد حافظين الغيب وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون كما روي عن ابن عباس وقتادة والحسن مصر ، وقيل : قرية بقربها لحقهم المنادي بها ، والأول ظاهر على القول بأن المفتش لهم يوسف عليه السلام والثاني الظاهر على القول بأنه المؤذن ، وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إما مجازا في القرية لإطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية أو في النسبة أو يقدر فيه مضاف وهو مجاز أيضا عند سيبويه وجماعة. وفي المحصول وغيره أن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسما من الآخر والأكثرون على المقابلة بينهما ، وأيا ما كان فالمسؤول عنه محذوف للعلم به ، وحاصل المعنى أرسل من تثق به إلى أهل القرية واسألهم عن القصة وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أي أصحابها الذين توجهنا فيهم وكنا معهم فإن القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام ، وقيل : من أهل صنعاء ، والكلام هنا في التجوز والإضمار كالكلام سابقا.
وقيل : لا تجوز ولا إضمار في الموضعين والمقصود حالة تحقيق الحال والاطلاع على كنه القصة على السؤال من الجمادات والبهائم أنفسها بناء على أنه عليه السلام نبي فلا يبعد أن تنطق وتخبره بذلك على خرق العادة. وتعقب بأنه مما لا ينبغي أن يكون مرادا ولا يقتضيه المقام لأنه ليس بصدد إظهار المعجزة ، وقال بعض الأجلة : الأولى ابقاء الْقَرْيَةَ والْعِيرَ على ظاهرهما وعدم إضمار مضاف إليهما ويكون الكلام مبنيا على دعوى ظهور الأمر بحيث إن الجمادات والبهائم قد علمت به وقد شاع مثل ذلك في الكلام قديما وحديثا ومنه قول ابن الدمينة :
سل القاعة الوعسا من الاجرع الذي به البان هل حييت اطلال دارك
وقوله :
سلوا مضجعي عني وعنها فإننا رضينا بما يخبرن عنا المضاجع
وقوله :
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى جفني وكيف يزور من لم يعرف
ولا يخفى أن مثل هذا لا يخلو عن ارتكاب مجاز. نعم هو معنى لطيف بيد أن الجمهور على خلافه وأكثرهم على اعتبار مجاز الحذف وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به ، وليس المراد إثبات صدقهم بما ذكر حتى يكون مصادرة بل تأكيد صدقهم بما يفيد ذلك من الاسمية وإن واللام وهو مراد من قال : إنه تأكيد في محل القسم ، ويحتمل على ما قيل أن يريد أن هنا قسما مقدرا ، وقيل : المراد الإثبات ولا مصادرة على معنى أنا قوم عادتنا الصدق فلا يكون ما أخبرناك به كذبا ولا نظنك في مرية من عدم قبوله قالَ أي أبوهم عليه السلام وهو استئناف مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل : فماذا كان عند قول ذلك القائل للإخوة ما قال؟ فقيل : قال أبوهم عند ما رجعوا إليه فقالوا له ما قالوا : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً وإنما حذف للإيذان بأن مسارعتهم إلى قبول كلام ذلك القائل ورجوعهم به إلى أبيهم أمر مسلم غني عن البيان وإنما المحتاج إليه جوابه.
يروى أنهم لما عزموا على الرجوع إلى أبيهم قال لهم يوسف عليه السلام : إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله ، فساروا حتى وصلوا إليه فأخبروه بجميع ما كان فبكى وقال ما قال ،
وبَلْ للاضراب وهو على ما قيل إضراب لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون فيه بل عما يتضمنه من ادعاء البراءة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 38
عن التسبب فيما نزل به وإنه لم يصدر عنهم ما أدى إلى ذلك من قول أو فعل كأنه لم يكن الأمر كذلك بل زينت وسهلت لكم أنفسكم أمرا من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته وليس ذلك من دين الملك.
وقال أبو حيان إن هنا كلاما محذوفا وقع الاضراب عنه والتقدير ليس حقيقة كما أخبرتم بل سولت إلخ وهو عند ابن عطية وادعى أنه الظاهر على حد ما قال في قصة يوسف عليه السلام ظن سوء بهم خلا أنه عليه السلام صدق ظنه هناك ولم يتحقق هنا. وذكر ابن المنير في توجيه هذا القول هاهنا مع أنهم لم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه انهم كانوا عند أبيهم عليه السلام حينئذ متهمين وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها وهو أخذ الملك له في السرقة ولم يكن ذلك إلا من دينه لا من دينه ولا من دين غيره من الناس فظن أنهم الذين أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة التي ذكروها تعمدا ليتخلف دونهم ، واتهام من هو بحيث يتطرق إليه التهمة لا جرح فيه لا سيما فيما يرجع إلى الوالد مع الولد ، ثم قال : ويحتمل أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم ، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه فإن كان في شرعهم أيضا كذلك ففي عدم تحرير الفتوى اشعار بأنهم كانوا حراصا على أخذه وهو من التسويل وان اقتضى ذلك في شرعهم فالعمدة على الجواب الأول هذا ، والتنوين في أَمْراً للتعظيم أي أمرا عظيما فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري ذلك أو فصبر جميل أجمل وقد تقدم تمام الكلام فيه فتذكر.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وأخيه بنيامين والمتوقف بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي وحالهم الْحَكِيمُ الذي يبتلي ويرفع البلاء حسب الحكمة البالغة ، قيل : إنما ترجى عليه السلام للرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام فكان ينتظرها ويحسن ظنه باللّه تعالى لا سيما بعد أن بلغ الشظاظ الوركين وجاوز الحزام الطبيين فإنه قد جرت سنته تعالى أن الشدة إذا تناهت يجعل وراءها فرجا عظيما ، وانضم إلى ذلك ما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له أن لا يموت حتى يرى ولده وَتَوَلَّى أي أعرض عَنْهُمْ كراهة لما جاؤوا به وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف أشد الحزن على ما فات ، والظاهر أنه عليه السلام أضافه إلى نفسه ، والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف ، والمعنى يا أسفي تعال فهذا أوانك ، وقيل : الألف ألف الندبة والهاء محذوفة والمعول عليه الأول ، وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن رزأه كان قاعدة الارزاء عنده وإن تقادم عهده أخذا بمجامع قلبه لا ينساه ولا يزول عن فكره أبدا
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
ولا يرد أن هذا مناف لمنصب النبوة إذ يقتضي ذلك معرفة اللّه تعالى ومن عرفه سبحانه أحبه ومن أحبه لم يتفرغ قلبه لحب ما سواه لما قيل : إن هذه محبة طبيعية ولا تأبى الاجتماع مع حبه تعالى ، وقال الإمام : إن مثل هذه المحبة الشديدة تزيل عن القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع إليه تعالى كثير الدعاء والتضرع فيصير ذلك سببا لكمال الاستغراق ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما للصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم في هذا المقام في باب الإشارة ، وقيل : لأنه عليه السلام كان واثقا بحياتهما عالما بمكانهما طامعا بإيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة اللّه تعالى وفضله وفيه بحث.
وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن جبير «لم تعط أمة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة : 156] إلا أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم» أي لم يعلموه ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم ، ألا يرى إلى

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 39
يعقوب عليه السلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال ما قال ، وفي أَسَفى ويُوسُفَ تجنيس نفيس من غير تكلف وهو مما يزيد الكلام الجليل بهجة وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لا بيضاض عينه فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر فأقيم سبب السبب مقامه لظهوره ، والابيضاض قيل إنه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى : فَارْتَدَّ بَصِيراً [يوسف : 96] وهو يقابل بالأعمى ، وقيل : ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه السلام يدرك إدراكا ضعيفا ، وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام ، وكان الحسن ممن يرى جوازه.
فقد أخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائده وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال : كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ واللّه أكرم على اللّه تعالى منه ، والظاهر أنه عليه السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الأخير ، ويدل عليه ما
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه فقال له : أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب؟ قال : نعم. قال : ما فعل؟ قال : ابيضت عيناه من الحزن عليك قال : فما بلغ من الحزن؟ قال : حزن سبعين مثكلة قال : هل له على ذلك من أجر؟ قال : نعم أجر مائة شهيد.
وقرأ ابن عباس ومجاهد مِنَ الْحُزْنِ بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما.
واستدل بالآية على جواز التأسف والبكاء عند النوائب ، ولعل الكف عن أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد.
وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه صلى اللّه عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال : «إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون»
وإنما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب. ورويا أيضا من حديث أسامة أنه صلى اللّه عليه وسلم رفع إليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فأقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام فقال سعد : يا رسول اللّه ما هذا؟
فقال : هذه رحمة جعلها اللّه تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم اللّه تعالى من عباده الرحماء. وفي الكشاف أنه قيل له عليه الصلاة والسلام : تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ قال : ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال : ما رأيت اللّه تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه السلام فَهُوَ كَظِيمٌ
أي مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره ، وقيل : مملوء من الحزن ممسك له لا يبديه ، وهو من كظم السقاء إذا شده بعد ملئه ، ففعيل بمعنى مفعول أي مكظوم فهو كما جاء في يونس عليه السلام إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم : 48] ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كقوله تعالى وَالْكاظِمِينَ [آل عمران : 134] من كظم الغيظ إذا تجرعه أي شديد التجرع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه إلى أحدا قط ، وأصله من كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه فكأنه عليه السلام يرد ذلك في جوفه مرة بعد أخرى من غير أن يطلع أحدا عليه. وفي الكلام من الاستعارة على الوجهين ما لا يخفى ، ورجح الأخير منهما بأن فعيلا بمعنى فاعل مطرد ولا كذلك فعيلا بمعنى مفعول قالُوا أي الإخوة وقيل غيرهم من أتباعه عليه السلام تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أي لا تفتأ ولا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجعا عليه فحذف حرف النفي كما في قوله :
فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 40
لأن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات كان على النفي وعلامة الإثبات هي اللام ونون التأكيد وهما يلزمان جواب القسم المثبت فإذا لم يذكرا دل على أنه منفي لأن المنفي لا يقارنهما ولو كان المقصود هاهنا الإثبات لقيل لتفتأن ، ولزوم اللام والنون مذهب البصريين ، وقال الكوفيون والفارسي : يجوز الاقتصار على أحدهما وجاء الحذف فيما إذا كان الفعل حالا كقراءة ابن كثير «لأقسم بيوم القيامة» وقوله :
لأبغض كل امرئ يزخرف قولا ولا يفعل
ويتفرع على هذا مسألة فقهية وهي أنه إذا قال : واللّه أقوم يحنث إذا قام وإن لم يقم لا ، ولا فرق بين كون القائل عالما بالعربية أولا على ما أفتى به خير الدين الرملي ، وذكر أن الحلف بالطلاق كذلك فلو قال : علي الطلاق بالثلاث تقومين الآن تطلق إن قامت ولا تطلق إن لم تقم ، وهذه المسألة مهمة لا بأس بتحقيق الحق فيها وإن أدى إلى الخروج عما نحن بصدده فنقول : قال غير واحد : إن العوام لو أسقطوا اللام والنون في جواب القسم المثبت المستقبل فقال أحدهم : واللّه أقوم مثلا لا يحنث بعدم القيام فلا كفارة عليه ، وتعقبه المقدسي بأنه ينبغي أن تلزمهم الكفارة لتعارفهم الحلف كذلك ، ويؤيده ما في الظهيرية أنه لو سكن الهاء أو نصب في باللّه يكون يمينا مع أن العرب ما نطقت بغير الجر ، وقال أيضا : إنه ينبغي أن يكون ذلك يمينا وإن خلا من اللام والنون ، ويدل عليه قوله في الولوالجية : سبحان اللّه أفعل لا إله إلا اللّه أفعل كذا ليس بيمين إلا أن ينويه ، واعترضه الخير الرملي بأن ما نقله لا يدل لمدعاه ، أما الأول فلأنه تغيير إعراب لا يمنع المعنى الموضوع فلا يضر التسكين والرفع والنصب لما تقرر من أن اللحن لا يمنع الانعقاد ، وأما الثاني فلأنه ليس من المتنازع فيه إذ هو الإثبات والنفي لا أنه يمين ، وقد نقل ما ذكرناه عن المذهب والنقل يجب اتباعه ، ونظر فيه.
أما أولا فبأن اللحن كما في المصباح وغيره الخطأ في العربية ، وأما ثانيا فبأن ما في الولوالجية من المتنازع فيه فإنه أتى بالفعل المضارع مجردا من اللام والنون وجعله يمينا مع النية ولو كان على النفي لوجب أن يقال : إنه مع النية يمين على عدم الفعل كما لا يخفى ، وإنما اشترط في ذلك النية لكونه غير متعارف.
وقال الفاضل الحلبي : إن بحث المقدسي وجيه ، والقول بأنه يصادم المنقول يجاب عنه بأن المنقول في المذهب كان على عرف صدر الإسلام قبل أن تتغير اللغة ، وأما الآن فلا يأتون باللام والنون في مثبت القسم أصلا ويفرقون بين الإثبات والنفي بوجود لا ولا وجودها ، وما اصطلاحهم على هذا إلا كاصطلاح الفرس ونحوهم في أيمانهم وغيرها اه ، ويؤيد هذا ما ذكره العلامة قاسم وغيره من أنه يحمل كلام كل عاقد وحالف وواقف على عرفه وعادته سواء وافق كلام العرب أم لا ، ومثله في الفتح ، وقد فرق النحاة بين بلى ونعم في الجواب أن بلى لا يجاب ما بعد النفي ونعم للتصديق فإذا قيل : ما قام زيد فإن قلت : بلى كان المعنى قد قام وإن نعم كان ما قام ، ونقل في شرح المنار عن التحقيق أن المعتبر في أحكام الشرع العرف حتى يقام كل واحد منهما مقام الآخر ، ومثله في التلويح ، وقول المحيط والحلف بالعربية أن يقول في الإثبات واللّه لأفعلن إلى آخر ما قال بيان للحكم على قواعد العربية ، وعرف العرب وعادتهم الخالية عن اللحن وكلام الناس اليوم إلا ما ندر خارج عن هاتيك القواعد فهو لغة اصطلاحية لهم كسائر اللغات الأعجمية التي تصرف فيها أهلها بما تصرفوا فلا يعاملون بغير لغاتهم وقصدهم إلا من التزم منهم الإعراب أو قصد المعنى فينبغي أن يدين ، ومن هنا قال السائحاني : إن أيماننا الآن لا تتوقف على تأكيد فقد وضعناها نحن وضعا جديدا واصطلحنا عليها اصطلاحا حادثا وتعارفناها تعارفا مشهورا فيجب معاملتنا على قدر عقولنا ونياتنا كما أوقع المتأخرون الطلاق بعلي الطلاق ومن لم يدر بعرف أهل زمانه فهو جاهل اه ، ونظير هذا ما قالوه : من أنه لو أسقطت

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 41
الفاء الرابطة لجواب الشرط فهو تنجيز لا تعليق حتى لو قال : إن دخلت الدار أنت طالق تطلق في الحال وهو مبني على قواعد العربية أيضا وهو خلاف المتعارف الآن فينبغي بناؤه على العرف فيكون تعليقا وهو المروي عن أبي يوسف.
وفي البحر أن الخلاف مبني على جواز حذفها اختيارا وعدمه فأجازه أهل الكوفة وعليه فرع أبو يوسف ومنعه أهل البصرة وعليه تفرع المذهب. وفي شرح نظم الكنز للمقدسي أنه ينبغي ترجيح قول أبي يوسف لكثرة حذف الفاء في الفصيح ولقولهم : العوام لا يعتبر منهم اللحن في قولهم : أنت واحدة بالنصب الذي لم يقل به أحد اه هذا ثم إن ما ذكر إنما هو في القسم بخلاف التعليق وهو وإن سمي عند الفقهاء حلفا ويمينا لكنه لا يسمى قسما فإن القسم خاص باليمين باللّه تعالى كما صرح به القهستاني فلا يجري فيه اشتراط اللام والنون في المثبت منه لا عند الفقهاء ولا عند اللغويين ، ومنه الحرام يلزمني وعلي الطلاق لا أفعل كذا فإنه يراد به في العرف إن فعلت كذا فهي طالق فيجب امضاؤه عليهم كما صرح به في الفتح وغيره. قال الحلبي : وبهذا يندفع ما توهمه بعض الأفاضل من أن في قول القائل : علي الطلاق أجيء اليوم إن جاء في اليوم وقع الطلاق وإلا فلا لعدم اللام والنون.
وأنت خبير بأن النحاة إنما اشترطوا ذلك في جواب القسم المثبت لا في جواب الشرط وكيف يسوغ لعاقل فضلا عن فاضل أن يقول إن قام زيد أقم على معنى إن قام زيد لم أقم ، على أن أجيء ليس جواب الشرط بل هو فعل الشرط لأن المعنى إن لم أجئ اليوم فأنت طالق ، وقد وقع هذا الوهم لكثير من المفتين كالخير الرملي وغيره ، وقال السيد أحمد الحموي في تذكرته الكبرى : رفع إلى سؤال صورته رجل اغتاظ من ولد زوجته فقال : علي الطلاق بالثلاث أني أصبح أشتكيك من النقيب فلما أصبح تركه ولم يشتكه ومكث مدة فهل والحالة هذه يقع عليه الطلاق أم لا؟ الجواب «1» إذا ترك شكايته ومضت مدة بعد حلفه لا يقع عليه الطلاق لأن الفعل المذكور وقع في جواب اليمين وهو مثبت فيقدر النفي حيث لم يؤكد ثم قال : فأجبت أنا بعد الحمد للّه تعالى ما أفتى به هذا المجيب من عدم وقوع الطلاق معللا بما ذكر فمنبئ عن فرط جهله وحمقه وكثرة مجازفته في الدين وخرقه إذ ذاك في الفعل إذا وقع جوابا للقسم باللّه تعالى نحو تفتأ لا في جواب اليمين بمعنى التعليق بما يشق من طلاق وعتق ونحوهما وحينئذ إذا أصبح الحالف ولم يشتكه وقع عليه الطلاق الثلاث وبانت زوجته منه بينونة كبرى اه ولنعم ما قال وللّه تعالى در القائل :
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
فلولا رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين اللّه من كل جانب
«وفتئ» هذه من أخوات كان الناقصة كما أشرنا إليه ويقال فيها : فتأ كضرب وأفتأ كأكرم ، وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وفتر فتكون تامة وعلى ذلك جاء تفسير مجاهد - للاتفتأ - بلا تفتر عن حبه ، وأوله الزمخشري بأنه عليه الرحمة جعل الفتوء والفتور أخوين أي متلازمين لا أنه بمعناه فإن الذي بمعنى فتر وسكن هو فثأ بالمثلثة كما في الصحاح من فثأت القدر إذا سكن غليانها والرجل إذا سكن غضبه ، ومن هنا خطأ أبو حيان ابن مالك فيما زعمه وادعى أنه من التصحيف. وتعقب بأن الأمر ليس كما قاله فإن ابن مالك نقله عن الفراء وقد صرح به السرقسطي ولا يمتنع اتفاق مادتين في معنى وهو كثير ، وقد جمع ذلك ابن مالك في كتاب سماه - ما اختلف إعجامه واتفق إفهامه - ونقله عنه صاحب القاموس. واستدل بالآية على جواز الحلف بغلبة الظن ، وقيل : إنهم علموا ذلك منه ولكنهم نزلوه منزلة المنكر
___________
(1) المجيب عبد المنعم البنتيني اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 42
فلذا أكدوه بالقسم أي نقسم باللّه تعالى لا تزال ذاكر يوسف متفجعا عليه حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مشفيا على الهلاك ، وقيل : الحرض من أذابه هم أو مرض وجعله مهزولا نحيفا ، وهو في الأصل مصدر حرض فهو حرض بكسر الراء ، وجاء أحرضني كما في قوله :
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم
ولكونه كذلك في الأصل لا يؤنث ولا يثني ولا يجمع لأن المصدر يطلق على القليل والكثير ، وقال ابن إسحاق : الحرض الفاسد الذي لا عقل له. وقرئ «حرضا» بفتح الحاء وكسر الراء.
وقرأ الحسن البصري «حرضا» بضمتين ونحوه من الصفات رجل جنب وغرب «1» أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ أي الميتين ، وأَوْ قيل : يحتمل أن تكون بمعنى بل أو بمعنى إلى ، فلا يرد عليه أن حق هذا التقديم على حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً فإن كانت للترديد فهي لمنع الخلو والتقديم على ترتيب الوجود كما قيل في قوله تعالى : لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة : 255] أو لأنه أكثر وقوعاالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي
البث في الأصل إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب واستعمل في الغم الذي لا يطيق صاحبه الصبر عليه كأنه ثقل عليه فلا يطيق حمله وحده فيفرقه على من يعينه ، فهو مصدر بمعنى المفعول وفيه استعارة تصريحية. وجوز أن يكون بمعنى الفاعل أي الغم الذي بث الفكر وفرقه ، وأيّا ما كان فالظاهر أن القوم قالوا ما قالوا بطريق التسلية والإشكاء فقال في جوابهم : إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدوا لتسليتي وإنما أشكو غمي حُزْنِي إِلَى اللَّهِ
تعالى ملتجئا إلى جنابه متضرعا في دفعه لدى بابه فإنه القادر على ذلك. وفي الخبر عن ابن عمر قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كنوز البر إخفاء الصدقة وكتمان المصائب والأمراض ومن بث لم يصبر»
وقرأ الحسن وعيسى «حزني» بفتحتين وقرأ قتادة بضمتين. أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
أي من لطفه ورحمته ا لا تَعْلَمُونَ
فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي ، فالكلام على حذف مضاف ونَ
بيانية قدمت على المبين وقد جوزه النحاة. وجوز أن تكون ابتدائية أي أعلم وحيا أو إلهاما أو بسبب من أسباب العلم من جهته تعالى ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام.
قيل : إنه عليه السلام علم ذلك من الرؤيا حسبما تقدم ، وقيل إنه رأى ملك الموت في المنام فأخبره أن يوسف حي ذكره غيره واحد ولم يذكروا له سندا والمروي عن ابن أبي حاتم عن النضر أنه قال : بلغني أن يعقوب عليه السلام مكث أربعة وعشرين عاما لا يدري أيوسف عليه السلام حي أم ميت حتى تمثل له ملك الموت عليه السلام فقال له :
من أنت؟ قال : أنا ملك الموت فقال : أنشدك باله يعقوب هل قبضت روح يوسف؟ قال : لا فعند ذلك قال عليه السلام :
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا
أي فتعرفوا ، وهو تفعل من الحس وهو في الأصل الإدراك بالحاسة ، وكذا أصل التحسس طلب الإحساس ، واستعماله في التعرف استعمال له في لازم معناه ، وقريب منه التجسس بالجيم ، وقيل : إنه به في الشر وبالحاء في الخير ورد بأنه ، قرئ هنا «فتجسسوا» بالجيم أيضا ، وقال الراغب : أصل الجس مس العرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والمرض وهو أخص من الحس فإنه تعرف ما يدركه الحس والجس تعرف حال ما من ذلك مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي من خبرهما ، ولم يذكر الثالث لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها ، وعلى فرض ذلك الداعية فيهم للتحسس منه لكونه أخاهم قوية فلا حاجة لأمرهم بذلك ، والجار متعلق بما عنده وهو بمعنى عن بناء على ما نقل
___________
(1) في الصحاح هو غريب وغرب أيضا بضم الغين والراء اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 43
عن ابن الأنباري أنه لا يقال : تحسست من فلان ، وإنما يقال : تحسست عنه ، وجوز أن تكون للتبعيض على معنى تحسوا خبرا من أخبار يوسف وأخيه.
وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه ، وأصل معنى الروح بالفتح كما قال الراغب التنفس يقال : أراح الإنسان إذا تنفس ثم استعير للفرج كما قيل : له تنفيس من النفس.
وقرأ عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة «روح» بالضم ، وفسر بالرحمة على أنه استعارة من معناها المعروف لأن الرحمة سبب الحياة كالروح وإضافتها إلى اللّه تعالى لأنها منه سبحانه ، وقال ابن عطية كأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح اللّه الذي وهبه فإن كل من بقيت روحه يرجى ، ومن هذا قوله :
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع. وقول عبيد بن الأبرص :
وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب
وقرأ أبي «من رحمة اللّه» وعبد اللّه «من فضل اللّه» وكلاهما عند أبي حيان تفسير لا قراءة. وقرئ «تأيسوا».
وقرأ الأعرج «تيئسوا» بكسر التاء والأمر والنهي على ما قيل إرشاد لهم إلى بعض ما أبهم في قوله : وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف : 62] ثم إنه عليه السلام حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله : إِنَّهُ أي الشأن لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لعدم علمهم باللّه تعالى وصفاته فإن العارف لا يقنط في حال من الأحوال أو تأكيدا لما يعلمونه من ذلك ، قال ابن عباس : إن المؤمن من اللّه تعالى على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء.
وذكر الإمام أن اليأس لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم ، واعتقاد كل من هذه الثلاث يوجب الكفر فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحدها وكل منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا ، واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن اليأس من رحمة اللّه تعالى كفر ، وادعى أنها ظاهرة في ذلك.
وقال الشهاب : ليس فيها دليل على ذلك بل هو ثابت بدليل آخر ، وجمهور الفقهاء على أن اليأس كبيرة ومفاد الآية أنه من صفات الكفار لا أن من ارتكبه كان كافرا بارتكابه ، وكونه لا يحصل إلا عند حصول أحد المكفرات التي ذكرها الإمام مع كونه في حيز المنع لجواز أن ييأس من رحمة اللّه تعالى إياه مع إيمانه بعموم قدرته تعالى وشمول علمه وعظم كرمه جل وعلا لمجرد استعظام ذنبه مثلا واعتقاده عدم أهليته لرحمة اللّه تعالى من غير أن يخطر له أدنى ذرة من تلك الاعتقادات السيئة الموجبة للكفر لا يستدعي أكثر من اقتضائه سابقية الكفر دون كون ارتكابه نفسه كفرا كذا قيل ، وقيل : الأولى التزام القول بأن اليأس قد يجامع الإيمان وإن القول بأنه لا يحصل إلا بأحد الاعتقادات المذكورة غير بين ولا مبين.
نعم كونه كبيرة مما لا شك فيه بل جاء عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه أكبر الكبائر ، وكذا القنوط وسوء الظن ، وفرقوا بينها بأن اليأس عدم أمل وقوع شيء من أنواع الرحمة له ، والقنوط هو ذاك مع انضمام حالة هي أشد منه في التصميم على عدم الوقوع ، وسوء الظن هو ذاك مع انضمام أنه مع عدم رحمته له يشدد له العذاب كالكفار.
وذكر ابن نجيم في بعض رسائله ما به يرجع الخلاف بين من قال : إن اليأس كفر ومن قال : إنه كبيرة لفظيا فقال : قد ذكر الفقهاء من الكبائر الأمن من مكر اللّه تعالى واليأس من رحمته وفي العقائد واليأس من رحمة اللّه تعالى كفر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 44
فيحتاج إلى التوفيق. والجواب أن المراد باليأس إنكار سعة الرحمة للذنوب ، ومن الأمن الاعتقاد أن لا مكر ، ومراد الفقهاء من اليأس اليأس لاستعظام ذنوبه واستبعاد العفو عنها ، ومن الأمن الأمن لغلبة الرجاء عليه بحيث دخل في حد الأمن ثم قال : والأوفق بالسنة طريق الفقهاء لحديث الدار قطني عن ابن عباس مرفوعا حيث عدها من الكبائر وعطفها على الإشراك باللّه تعالى اه وهو تحقيق نفيس فليفهم فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على يوسف عليه السلام بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمر أبيهم ، وإنما لم يذكر إيذانا بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعارا بأن ذلك أمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان. وأنكر اليهود رجوعهم بعد أخذ بنيامين إلى أبيهم ثم عودهم إلى مصر وزعموا أنهم لما جاؤوا أولا للميرة اتهمهم بأنهم جواسيس فاعتذروا وذكروا أنهم أولاد نبي اللّه تعالى يعقوب وأنهم كانوا اثني عشر ولدا هلك واحد منهم وتخلف أخوه عند أبيهم يتسلى به عن الهالك حيث إنه كان يحبه كثيرا فقال : ائتوني به لأتحقق صدقكم وحبس شمعون عنده حتى يجيئوا فلما أتوا به ووقع ما وقع من أمر السرقة أظهروا الخضوع والانكسار فلم يملك عليه السلام نفسه حتى تعرف إليهم ثم أمرهم بالعود إلى أبيهم ليخبروه الخبر ويأتوا به وهو الذي تضمنته توراتهم اليوم وما بعد الحق إلا الضلال قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ خاطبوه بذلك تعظيما له على حد خطابهم السابق به على ما هو الظاهر ، وهل كانوا يعرفون اسمه أم لا؟ لم أر من تعرض لذلك فإن كانوا يعرفونه ازداد أمر جهالتهم غرابة ، والمراد على ما قال الإمام وغيره يا أيها الملك القادر المنيع مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الهزال من شدة الجوع ، والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة وغيرها وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا ، من أزجيته إذا دفعته وطردته والريح تزجي السحاب ، وأنشدوا لحاتم :
ليبك على ملحان ضيف مدفع وأرملة تزجي مع الليل أرملا
وكني بها عن القليل أو الرديء لأنه لعدم الاعتناء يرمي ويطرح ، قيل : كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفا وسمنا ، وقيل : الصنوبر وحبة الخضراء «1» وروي ذلك عن أبي صالح ، وزيد بن أسلم ، وقيل : سويق المقل والإقط ، وقيل : قديد وحش ، وقيل : حبالا واعدالا وأحقابا ، وقيل : كانت دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، والمروي عن الحسن تفسيرها بقليلة لا غير ، وعلى كل - فمزجاة - صفة حقيقية للبضاعة ، وقال الزجاج : هي من قولهم : فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل ، والمعنى إنا جئنا ببضاعة يدفع بها الزمان وليست مما ينتفع به ، والتقدير على هذا ببضاعة مزجاة بها الأيام أي تدفع بها ويصبر عليها حتى تنقضي كما قيل :
درج الأيام تندرج وبيوت الهم لا تلج
وما ذكر أولا هو الأولى ، وعن الكلبي أن «مزجاة» من لغة العجم ، وقيل : من لغة القبط. وتعقب ذلك ابن الأنباري بأنه لا ينبغي أن يجعل لفظ معروف الاشتقاق والتصريف منسوبا إلى غير لغة العرب فالنسبة إلى ذلك مزجاة.
وقرأ حمزة والكسائي «مزجية» بالإمالة لأن أصلها الياء ، والظاهر أنهم إنما قدموا هذا الكلام ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة الرحمة ثم قالوا : فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أتممه لنا ولا تنقصه لقلة بضاعتنا أو رداءتها ، واستدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ظاهره بالإيفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها.
___________
(1) معروفة وليست الفستق كما ظنه أبو حيان اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 45
وقال الضحاك ، وابن جريج : إنهم أرادوا تصدق علينا برد أخينا بنيامين على أبيه ، قيل : وهو الأنسب بحالهم بالنسبة إلى أمر أبيهم وكأنهم أرادوا تفضل علينا بذلك لأن رد الأخ ليس بصدقة حقيقة ، وقد جاءت الصدقة بمعنى التفضل كما قيل ، ومنه تصدق اللّه تعالى على فلان بكذا ، وأما قول الحسن لمن سمعه يقول : اللهم تصدق على أن اللّه تعالى لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل : اللهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني فقد رد
بقوله صلى اللّه عليه وسلم : «صدقة تصدق اللّه تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته»
وأجيب عنه مجازا ومشاكلة ، وإنما رد الحسن على القائل لأنه لم يكن بليغا كما في قصة المتوفى ، وادعى بعضهم تعين الحمل على المجاز أيضا إذا كان المراد طلب الزيادة على ما يعطى بالثمن بناء على أن حرمة أخذ الصدقة ليست خاصة بنبينا صلى اللّه عليه وسلم كما ذهب إليه سفيان بن عيينة بل هي عامة له عليه الصلاة والسلام ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام وآلهم كما ذهب إليه البعض ، والسائلون من إحدى الطائفتين لا محالة ، وتعقب بأنا لو سلمنا العموم لا نسلم أن المحرم أخذ الصدقة مطلقا بل المحرم إنما هو أخذ الصدقة المفروضة وما هنا ليس منها ، والظاهر كما قال الزمخشري : أنهم تمسكنوا له عليه السلام بقولهم : مَسَّنا إلخ وطلبوا إليه أن يتصدق عليهم بقولهم : وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا فلو لم يحمل على الظاهر لما طابقه ذلك التمهيد ولا هذا التوطيد أعني إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ بذكر اللّه تعالى وجزائه الحاملين على ذلك وإن فاعله منه تعالى بمكان.
قال النقاش : وفي العدول عن إن اللّه تعالى يجزيك بصدقتك إلى ما في النظم الكريم مندوحة عن الكذب فهو من المعاريض ، فإنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا وروي مثله عن الضحاك ، ووجه عدم بدئهم بما أمروا به على القول بخلاف الظاهر في متعلق التصدق بأن فيما سلكوه استجلابا للشفقة والرحمة فكأنهم أرادوا أن يملؤوا حياض قلبه من نميرها ليسقوا به أشجار تحسسهم لتثمر لهم غرض أبيهم ، ووجهه بعضهم بمثل هذا ثم قال : على أن قولهم وَتَصَدَّقْ إلخ كلام ذو وجهين فإنه يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه السلام حمله على طلب الرد ولذلك قالَ مجيبا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من ذلك : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وكان الظاهر على هذا الاقتصار على التعرض بما فعل مع الأخ إلا أنه عليه السلام تعرض لما فعل به أيضا لاشتراكهما في وقوع الفعل عليهما ، فإن المراد بذلك إفرادهم له عنه وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة ، والاستفهام ليس عن العلم بنفس ما فعلوه لأن الفعل الإرادي مسبوق بالشعور لا محالة بل هو عما فيه من القبح بدليل قوله : إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أي هل علمتم قبح «1» ما فعلتموه زمان جهلكم قبحه وزال ذلك الجهل أم لا؟ وفيه من إبداء عذرهم وتلقينهم إياه ما فيه كما في قوله تعالى : ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار : 6] والظاهر لهذا أن ذلك لم يكن تشفيا بل حث على الإقلاع ونصح لهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم ما رأى مع خفي معاتبة على وجود الجهل وأنه حقيق الانتفاء في مثلهم ، فلله تعالى هذا الخلق الكريم كيف ترك حظه من التشفي إلى حق اللّه تعالى على وجه يتضمن حق الاخوتين أيضا والتلطف في أسماعه مع التنبيه على أن هذا الضر أولى بالكشف ، قيل : ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعا عن كلامهم وتنبيها لهم عما هو حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحض لطلب
بنيامين ، بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه عليه السلام وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال ، والظاهر أنه عليه السلام لما رأى ما رأى منهم وهو من أرق خلق اللّه تعالى قلبا وكان قد بلغ الكتاب أجله شرع في كشف أمره فقال ما قال.
___________
(1) قيل الكلام على حذف مضاف وقيل هو كناية عما ذكر فافهم اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 46
روي عن ابن إسحاق أنهم لما استعطفوه رق لهم ورحمهم حتى أنه أرفض دمعه باكيا ولم يملك نفسه فشرع في التعرف لهم ، وأراد بما فعلوه به جميع ما جرى وبما فعلوه بأخيه أذاهم له وجفاءهم إياه وسوء معاملتهم له وإفرادهم له كما سمعت ، ولم يذكر لهم ما آذوا به أباهم على ما قيل تعظيما لقدره وتفخيما لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه مع أن ذلك من فروع ما ذكر ، وقيل : إنهم أدوا إليه كتابا من أبيهم وصورته كما في الكشاف من يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح اللّه بن إبراهيم خليل اللّه إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء ، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه اللّه تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما ، وأما أبي فوضع على قفاه السكين ليقتل ففداه اللّه تعالى ، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب الأولاد إلي فذهب به اخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا : قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن كان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق وإنك حبسته لذلك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي روق نحوه ،
فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك. وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا هذا ،
وما أشرنا إليه من كون المراد إثبات الجهل لهم حقيقة هو الظاهر ، وقيل : لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم وترك مقتضى العلم من صنيع الجهال سماهم جاهلين ، وقيل : المراد جاهلون بما يؤول إليه الأمر ، وعن ابن عباس والحسن جاهِلُونَ صبيان قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة ، وتعقب بأنه ليس بالوجه لأنه لا يطابق الوجود وينافي وَنَحْنُ عُصْبَةٌ فالظاهر عدم صحة الإسناد ، وزعم في التحرير أن قول الجمهور : إن الاستفهام للتقرير والتوبيخ ومراده عليه السلام تعظيم الواقعة أي ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وأخيه كما يقال : هل تدري من عصيت؟
وقيل : هل بمعنى قد كما في هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان : 1] والمقصود هو التوبيخ أيضا وكلا القولين لا يعول عليه والصحيح ما تقدم. ومن الغريب الذي لا يصح البتة ما حكاه الثعلبي أنه عليه السلام حين قالوا له ما قالوا غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا فرق لهم وقال : هَلْ عَلِمْتُمْ إلخ قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير ولذلك أكد بإن واللام لأن التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام الحقيقي ، ولعلهم قالوه استغرابا وتعجبا ، وقرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن «إنك» بغير همزة استفهام ، قال في البحر : والظاهر أنها مرادة ويبعد حمله على الخبر المحض ، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون وهو الظاهر ، فإن قدر أن بعضا استفهم وبعضا أخبر ونسب كل إلى المجموع أمكن وهو مع ذلك بعيد ، وأنت في القراءتين مبتدأ ويُوسُفُ خبره والجملة في موضع الرفع خبر إن ، ولا يجوز أن يكون أنت تأكيدا للضمير الذي هو اسم - إن - لحيلولة اللام ، وقرأ أبي «أإنك أو أنت يوسف» وخرج ذلك ابن جني في كتاب المحتسب على حذف خبر إن وقدره أإنك لغير يوسف أو أنت يوسف ، وكذا الزمخشري إلا أنه قدره أإنك يوسف أو أنت يوسف ثم قال : وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع فهو يكرر الاستيثاق ، قال في الكشف : وما قدره أولى لقلة الإضمار وقوة الدلالة على المحذوف وإن كان الأول أجري على قانون الاستفهام ، ولعل الأنسب أن يقدر أإنك أنت أو أنت يوسف تجهيلا لنفسه أن يكون مخاطبه يوسف أي أإنك المعروف عزيز مصر أو أنت يوسف ، استبعدوا أن يكون العزيز يوسف أو يوسف عزيزا ، وفيه قلة الإضمار أيضا مع تغاير المعطوف والمعطوف عليه وقوة الدلالة على المحذوف والجري على قانون الاستفهام مع زيادة الفائدة من إيهام البعد بين الحالتين.
فإن قيل : ذاك أوفق للمشهور لقوة الدلالة على أنه هو ، يجاب بأنه يكفي في الدلالة على الأوجه كلها أن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 47
الاستفهام غير جاء على الحقيقة ، على أن عدم التنافي بين كونه مخاطبهم المعروف وكونه يوسف شديد الدلالة أيضا مع زيادة إفادة ذكر موجب استبعادهم وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ، واختلفوا في تعيين سبب معرفتهم إياه عليه السلام فقيل : عرفوه بروائه وشمائله وكان قد أدناهم إليه ولم يدنهم من قبل ، وقيل : كان يكلمهم من وراء حجاب فلما أراد التعرف إليهم رفعه فعرفوه ، وقيل : تبسم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم وكان يضيء ما حواليه من نور تبسمه ، وقيل : إنه عليه السلام رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كان ليعقوب وإسحاق وسارة مثلها تشبه الشامة البيضاء فعرفوه بذلك ، وينضم إلى كل ذلك ، علمهم أن ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ «1» إبراهيم لا عن بعض أعزاء مصر ، وزعم بعضهم أنهم إنما قالوا ذلك على التوهم ولم يعرفوه حتى أخبر عن نفسه قالَ أَنَا يُوسُفُ والمعول عليه ما تقدم وهذا جواب عن مساءلتهم وزاد عليهم قوله : وَهذا أَخِي أي من أبوي مبالغة في تعريف نفسه ، قال بعض المدققين : إنهم سألوه متعجبين عن كونه يوسف محققين لذلك مخيلين لشدة التعجب أنه ليس إياه فأجابهم بما يحقق ذلك مؤكدا ، ولهذا لم يقل عليه السلام : بلى أو أنا هو فأعاد صريح الاسم وَهذا أَخِي بمنزلة أنا يوسف لا شبهة فيه على أن فيه ما يبنيه عليه من قوله : قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وجوز الطيبي أن يكون ذلك جاريا على الأسلوب الحكيم كأنهم لما سألوه متعجبين أنت يوسف؟ أجاب لا تسألوا عن ذلك فإنه ظاهر ولكن اسألوا ما فعل اللّه تعالى بك من الامتنان والإعزاز وكذلك بأخي ولي من ذاك في شيء كما لا يخفى.
وفي إرشاد العقل السليم إن في زيادة الجواب مبالغة وتفخيما لشأن الأخ وتكملة لما أفاده قوله : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ حسبما يفيده قَدْ مَنَّ إلخ فكأنه قال : هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من اللّه تعالى علينا بالخلاص عما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة. ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجه لطلبكم انتهى وفيه ما فيه. وجملة قَدْ مَنَّ إلخ عند أبي البقاء مستأنفة ، وقيل : حال من يُوسُفُ وأَخِي وتعقب بأن فيه بعدا لعدم العامل في الحال حينئذ ، ولا يصح أن يكون هذا لأنه إشارة إلى واحد وعلينا راجع إليهما جميعا إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يَتَّقِ أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط اللّه تعالى وعذابه وَيَصْبِرْ على البلايا والمحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تستلذها النفس فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ «2» أي أجرهم ، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصفون بالإحسان ، والجملة في موضع العلة للمن. واختار أبو حيان عدم التخصيص في التقوى والصبر ، وقال مجاهد : المراد من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن ، والنخعي من يتق الزنا ويصبر على العزوبة ، وقيل : من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس ، وقال الزمخشري : المراد من يخف اللّه تعالى ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات.
وتعقبه صاحب الفرائد بأن فيه حمل من يتق على المجاز ولا مانع من الحمل على الحقيقة والعدول عن ذلك إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز فالوجه أن يقال : من يتق من يحترز عن ترك ما أمر به وارتكاب ما نهي عنه ويصبر في المكاره وذلك باختياره وهذا بغير اختياره فهو محسن ، وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام ويجوز أن يكون ذلك لإرادة الثبات على التقوى كأنه قيل : من يتق ويثبت على التقوى انتهى.
___________
(1) أي أصل اه منه.
(2) جوز أبو حيان كون المحسنين عاما يندرج فيه من تقدم فتأمل اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 48
والوجه الأول ميل لما ذكره أبو حيان. وتعقب ذلك الطيبي بأن هذه الجملة تعليل لما تقدم وتعريض بإخوته بأنهم لم يخافوا عقابه تعالى ولم يصبروا على طاعته عز وجل وطاعة أبيهم وعن المعصية إذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة وعن المعصية ورد بأن التعريض حاصل في التفسير الآخر فكأنه فسره به لئلا يتكرر مع الصبر وفيه نظر. وقرأ قنبل من «يتق» بإثبات الياء ، فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وهذه ياء إشباع وقيل : جزمه بحذف الحركة المقدرة وقد حكوا ذلك لغة ، وقيل : هو مرفوع ومَنَّ موصول وعطف المجزوم عليه على التوهم كأنه توهم أن مَنَّ شرطية ويَتَّقِ مجزوم ، وقيل : إن يَصْبِرْ مرفوع كيتقي إلا أنه سكنت الراء لتوالي الحركات وإن كان ذلك في كلمتين كما سكنت في يَأْمُرُكُمْ ويُشْعِرُكُمْ ونحوهما أو للوقف وأجري الوصل مجرى الوقف ، والأحسن من هذه الأقوال كما في البحر أن يكون يتقي مجزوما على لغة وإن كانت قليلة ، وقول أبي علي : إنه لا يحمل على ذلك لأنه إنما يجيء في الشعر لا يلتفت إليه لأن غيره من رؤساء النحويين حكوه لغة نظما ونثرا قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي اختارك وفضلك علينا بالتقوى والصبر ، وقيل :
بالملك ، وقيل : بالصبر والعلم ورويا عن ابن عباس ، وقيل : بالحلم والصفح ذكره سليمان الدمشقي ، وقال صاحب الغنيان : بحسن الخلق والخلق والعلم والحلم والإحسان والملك والسلطان والصبر على أذانا والأول أولى.
وَإِنْ أي والحال أن الشأن كُنَّا لَخاطِئِينَ أي لمتعمدين للذنب إذ فعلنا ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا ، فالواو حالية وإِنْ مخففة اسمها ضمير الشأن واللام التي في خبر كان هي المزحلقة و«خاطئين» من خطئ إذا تعمد وأما أخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له ، وفي قولهم : هذا من الاستنزال لإحسانه عليه السلام والاعتراف بما صدر منهم في حقه مع الإشعار بالتوبة ما لا يخفى ولذلك قالَ لا تَثْرِيبَ أي لا تأنيب ولا لوم عَلَيْكُمُ وأصله من الثرب وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش ، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع ، واستعير للوم الذي يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى كما أنه باللوم تظهر العيوب فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال وهو اسم لا وعَلَيْكُمُ متعلق بمقدر وقع خبرا ، وقوله تعالى : الْيَوْمَ متعلق بذلك الخبر المقدر أو بالظرف أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم ، وليس التقييد به لإفادة وقوع التثريب في غيره فإنه عليه السلام إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره فبعده بطريق الأولى. وقال المرتضى : إن الْيَوْمَ موضوع موضع الزمان كله كقوله :
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
كأنه أريد بعد اليوم ، وجوز الزمخشري تعلقه - بتثريب - وتعقبه أبو حيان قائلا : لا يجوز ذلك لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله - بعليكم - وهو إما خبر أو صفة ولا يجوز الفصل بينهما بنحو ذلك لأن معمول المصدر من تمامه ، وأيضا لو كان متعلقا به لم يجز بناؤه لأنه حينئذ من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى المطول والممطول فيجب أن يكون معربا منونا ، ولو قيل : الخبر محذوف وعَلَيْكُمُ متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب وذلك المحذوف هو العامل في الْيَوْمَ والتقدير لا تثريب يثرب عليكم اليوم كما قدروا في لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود : 43] أي لا عاصم يعصم اليوم لكان وجها قويا لأن خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ولم يلفظ به بنو تميم ، وكذا منع ذلك أبو البقاء وعلله بلزوم الإعراب والتنوين أيضا ، واعترض بأن المصرح به في متون النحو بأن شبيه المضاف سمع فيه عدم التنوين نحو لا طالع جبلا ووقع
في الحديث «لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت»
باتفاق الرواة فيه وإنما الخلاف فيه هل هو مبني أو معرب ترك تنوينه ، وفي التصريح نقلا عن المغني أن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 49
نصب الشبيه بالمضاف وتنوينه هو مذهب البصريين ، وأجاز البغداديون لا طالع جبلا بلا تنوين أجروه في ذلك مجرى المضاف كما أجروه مجراه في الإعراب وعليه يتخرج
الحديث «لا مانع» إلخ.
فيمكن أن يكون مبنى ما قاله أبو حيان وغيره مذهب البصريين ، والحديث المذكور لا يتعين - كما قال الدنوشري أخذا من كلام المغني في الجهة الثانية من الباب الخامس - حمله على ما ذكر لجواز كون اسم لا فيه مفردا واللام متعلقة بالخبر والتقدير لا مانع مانع لما أعطيت وكذا فيما بعده. وذكر الرضي أن الظرف بعد النفي لا يتعلق بالمنفي بل بمحذوف وهو خبر وأن الْيَوْمَ في الآية معمول عَلَيْكُمُ ويجوز العكس ، واعترض أيضا حديث الفصل بين المصدر ومعموله بما فيه ما فيه ، وقيل : عَلَيْكُمُ بيان كلك في سقيا لك فيتعلق بمحذوف والْيَوْمَ خبر.
وجوز أيضا كون الخبر ذاك والْيَوْمَ متعلقا بقوله : يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ونقل عن المرتضى أنه قال في الدرر :
قد ضعف هذا قوم من جهة أن الدعاء لا ينصب ما قبله ولم يشتهر ذلك ، وقال ابن المنير : لو كان متعلقا به لقطعوا بالمغفرة بأخبار الصديق ولم يكن كذلك لقولهم : يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا [يوسف : 97] وتعقب بأنه لا طائل تحته لأن المغفرة وهي ستر الذنب يوم القيامة حتى لا يؤاخذوا به ولا يقرعوا إنما يكون ذلك الوقت وأما قبله فالحاصل هو الإعلام به والعلم بتحقق وقوعه بخبر الصادق لا يمنع الطلب لأن الممتنع طلب الحاصل لا طلب ما يعلم حصوله ، على أنه يجوز أن يكون هضما للنفس واعتبر باستغفار الأنبياء عليهم السلام ، ولا فرق بين الدعاء والاخبار هنا انتهى.
وقد يقال أيضا : إن الذي طلبوه من أبيهم مغفرة ما يتعلق به ويرجع إلى حقه ولم يكن عندهم علم بتحقق ذلك ، على أنه يجوز أن يقال : إنهم لم يعتقدوا إذ ذاك نبوته وظنوه مثلهم غير نبي فإنه لم يمض وقت بعد معرفة أنه يوسف يسع معرفة أنه نبي أيضا وما جرى من المفاوضة لا يدل على ذلك فافهم ، وإلى حمل الكلام على الدعاء ذهب غير واحد وذهب جمع أيضا إلى كونه خبرا. والحكم بذلك مع أنه غيب قيل : لأنه عليه السلام صفح عن جريمتهم حينئذ وهم قد اعترفوا بها أيضا فلا محالة أنه سبحانه يغفر لهم ما يتعلق به تعالى وما يتعلق به عليه السلام بمقتضى وعده جل شأنه بقبول توبة العباد ، وقيل : لأنه عليه السلام قد أوحي إليه بذلك ، وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على الْيَوْمَ وهو ظاهر في عدم تعلقه - بيغفر - وهو اختيار الطبري وابن إسحاق. وغيرهم واختاروا كون الجملة بعد دعائية وهو الذي يميل إليه الذوق واللّه تعالى أعلم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإن كل من يرحم سواه جل وعلا فإنما يرحم برحمته سبحانه مع كون ذلك مبنيا على جلب نفع أو دفع ضر ولا أقل من دفع ما يجده في نفسه من التألم الروحاني مما يجده في المرحوم ، وقيل : لأنه تعالى يغفر الصغائر والكبائر التي لا يغفرها غيره سبحانه ويتفضل على التائب بالقبول ، والجملة إما بيان للوثوق بإجابة الدعاء أو تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم فاللّه تعالى أولى بالعفو والرحمة لهم هذا.
ومن كرم يوسف عليه السلام ما
روي أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ونحن نستحي منك بما فرط منا فيك فقال عليه السلام : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون :
سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث عليم الناس أنكم اخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام ،
والظاهر أنه عليه السلام أنه حصل بذلك من العلم للناس ما لم يحصل قبل فإنه عليه السلام على ما دل عليه بعض الآيات السابقة والأخبار قد أخبرهم أنه ابن من وممن.
وكذا ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قال الملك يوما

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 50
ليوسف عليه السلام إني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي وأنا آنف أن تأكل معي فغضب يوسف عليه السلام ، فقال : أنا أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل اللّه وأنا ابن إسحاق ذبيح اللّه وأنا ابن يعقوب نبي اللّه لكن لم يشتهر ذلك أو لم يفد الناس علما.
وفي التوراة التي بأيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الخجل أدناهم إليه وقال : لا يشق عليكم إن بعتموني وإلى هذا المكان أوصلتموني فإن اللّه تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم ويكون ذلك سببا لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها وقد مضت من سني الجدب سنتان وبقي خمس سنين وأنا اليوم قد صيرني اللّه تعالى مرجعا لفرعون وسيدا لأهله وسلطانا على جميع أهل مصر فلا يضق عليكم أمركم اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا هو القميص الذي كان عليه حينئذ كما هو الظاهر وعن ابن عباس وغيره أنه القميص الذي كساه اللّه تعالى إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وكان من قمص الجنة جعله يعقوب حين وصل إليه في قصبة فضة وعلقه في عنق يوسف وكان لا يقع على عاهة من عاهات الدنيا إلا ابرأها بإذن اللّه تعالى. وضعف هذا بأن قوله : إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ يدل على أنه عليه السلام كان لابسا له في تعويذته كما تشهد به الإضافة إلى ضميره وهو تضعيف ضعيف كما لا يخفى ، وقيل : هو القميص الذي قد من دبر وأرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة ولا يخفى بعده ، وأيّا ما كان فالباء إما للمصاحبة أو للملابسة أي اذهبوا مصحوبين أو ملتبسين به أو للتعدية على ما قيل أي اذهبوا قميصي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً أي يصر بصيرا ويشهد له فَارْتَدَّ بَصِيراً أو يأت إلي وهو بصير وينصره قوله : وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ من النساء والذراري وغيرهم مما ينتظمه لفظ الأهل كذا قالوا.
وحاصل الوجهين - كما قال بعض المدققين - أن الإتيان في الأول مجاز عن الصيرورة ولم يذكر إتيان الأب إليه لا لكونه داخلا في الأهل فإنه يجل عن التابعية بل تفاديا عن أمر الخوة بالإتيان لأنه نوع إجبار على من يؤتى به فهو إلى اختياره ، وفي الثاني على الحقيقة وفيه التفادي المذكور ، والجزم بأنه من الآتين لا محالة وثوقا بمحبته وإن فائدة الإلقاء إتيانه على ما أحب من كونه معافى سليم البصر ، وفيه أن صيرورته بصيرا أمر مفروغ عنه مقطوع إنما الكلام في تسبب الإلقاء لإتيانه كذلك فهذا الوجه أرجح وإن كان الأول من الخلافة بالقبول بمنزل ، وفيه دلالة على أنه عليه السلام قد ذهب بصره ، وعلم يوسف عليه السلام بذلك يحتمل أن يكون بإعلامهم ويحتمل أن يكون بالوحي ، وكذا علمه بما يترتب على الإلقاء يحتمل أن يكون عن وحي أيضا أو عن وقوف من قبل على خواص ذلك القميص بالتجربة أو نحوها إن كان المراد بالقميص الذي كان في التعويذة ويتعين الاحتمال الأول إن كان المراد غيره على ما هو الظاهر. وقال الإمام : يمكن أن يقال : لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه إلا من كثرة البكاء وضيق القلب فإذا ألقى عليه قميصه فلا بد وأن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي فحينئذ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالعقل فإن القوانين الطبية تدل على صحته وأنا لا أرى ذلك ، قال الكلبي : وكان أولئك الأهل نحوا من سبعين إنسانا «1» وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنهم اثنان وسبعون من ولده وولد ولده ، وقيل : ثمانون ، وقيل : تسعون وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن مسعود أنهم ثلاثة وتسعون.
وقيل : ست وتسعون وقد نموا في مصر فخرجوا منها مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف على ما قيل.
___________
(1) وفي التوراة أن من دخل مصر من بني إسرائيل سبعون اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 51
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريبا من بيت المقدس والقول بأنه كان بالجزيرة لا يعول عليه ، يقال : فصل من البلد يفصل فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشيء فصلا إذا فرقه وهو متعد. وقرأ ابن عباس «ولما انفصل العير» قالَ أَبُوهُمْ يعقوب عليه السلام لمن عنده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أي لأشم فهو وجود حاسة الشم أشمه اللّه تعالى ما عبق بالقميص من ريح يوسف عليه السلام من مسيرة ثمانية أيام على ما روي عن ابن عباس ، وقال الحسن وابن جريج من ثمانين فرسخا ، وفي رواية عن الحسن أخرى من مسيرة ثلاثين يوما. وفي أخرى عنه من مسيرة عشر ليال ، وقد استأذنت الريح على ما روي عن أبي أيوب الهروي في إيصال عرف يوسف عليه السلام فأذن اللّه تعالى لها ، وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب عليه السلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص فقال ما قال ، ويبعد ذلك الإضافة فإنها حينئذ لأدنى ملابسة وهي فيما قبل وإن كانت كذلك أيضا إلا أنها أقوى بكثير منها على هذا كما لا يخفى لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ أي تنسبوني إلى الفند بفتحتين ويستعمل بمعنى الفساد «1» كما في قوله :
إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند
وبمعنى ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن ويقال : فند الرجل إذا نسبه إلى الفند ، وهو على ما قيل مأخوذ من الفند وهو الحجر كأنه جعل حجرا لقلة فهمه كما قيل :
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمد
ثم اتسع فيه فقيل فنده إذا ضعف رأيه ولامه على ما فعل قال الشاعر :
يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي فليس ما قلت من أمر بمردود
وجاء أفند الدهر فلانا أفسده ، قال ابن مقبل :
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه إذا كلف الافناد بالناس أفندا
ويقال : شيخ مفند إذا فسد رأيه ، ولا يقال : عجوز مفندة لأنها لا رأي لها في شبيبتها حتى يضعف قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة ، وذكره الزمخشري في الكشاف وغيره ، واستغربه السمين ولعل وجهه أن لها عقلا وإن كان ناقصا يشتد نقصه بكبر السن فتأمل ، وجواب لَوْلا محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني أو لقلت : إن يوسف قريب مكانه أو لقاؤه أو نحو ذلك ، والمخاطب قيل : من بقي من ولده غير الذين ذهبوا يمتارون وهم كثير ، وقيل : ولد ولده ومن كان بحضرته من ذوي قرابته وهو المشهور قالُوا أي أولئك المخاطبون تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي لفي ذهابك عن الصواب قدما بالإفراط في محبة يوسف والإكثار من ذكره والتوقع للقائه وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الضلال هنا بمعنى الحب ، وقال مقاتل : هو الشقاء والعناء ، وقيل :
الهلاك والذهاب من قولهم : ضل الماء في اللبن أي ذهب فيه وهلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تفسيره بالجنون وهو مما لا يليق وكأنه لتفسير بمثل ذلك قال قتادة : لقد قالوا كلمة غليظة لا ينبغي أن يقولها مثلهم لمثله عليه السلام ولعلهم إنما قالوا ذلك لظنهم أنه مات.
___________
(1) وجاء بمعنى الكذب كما في الصحاح وغيره اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 52
[سورة يوسف (12) : الآيات 96 إلى 111]
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105)
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ قال مجاهد : هو يهوذا. روي أنه قال لإخوته قد علمتم أني ذهبت إلى أبي بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه. وفي رواية عن ابن عباس أنه مالك بن ذعر والرواية الشهيرة عنه ما تقدم ، و«أن» صلة وقد أطردت زيادتها بعد لما. وقرأ ابن مسعود وعد ذلك قراءة تفسير «وجاء البشير من بين يدي العير» أَلْقاهُ أي ألقى البشير القميص عَلى وَجْهِهِ أي وجه يعقوب عليه السلام ، وقيل : فاعل «ألقى» ضمير يعقوب عليه السلام أيضا والأول أوفق بقوله : فَأَلْقُوهُ على وجه أبي وهو يبعد كون البشير مالكا كما لا يخفى ، والثاني قيل : هو الأنسب بالأدب ونسب ذلك إلى فرقد قال : إنه عليه السلام أخذه فشمه ثم وضعه على بصره فَارْتَدَّ بَصِيراً والظاهر أنه أريد بالوجه كله ، وقد جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه ، وقيل : عبر بالوجه عن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 53
العينين لأنهما فيه ، وقيل : عبر بالكل عن البعض «وارتد» عند بعضهم من أخوات كان وهي بمعنى صار - فبصيرا - خبرها وصحح أبو حيان أنها ليست من أخواتها - فبصيرا - حال ، والمعنى أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر.
وزعم بعضهم أن في الكلام ما يشعر بأن بصره صار أقوى مما كان عليه لأن فعيلا من صيغ المبالغة وما عدل من يفعل إليه إلا لهذا المعنى. وتعقب بأن فعيلا هنا ليس للمبالغة إذ ما يكون لها هو المعدول عن فاعل وأما «بصير» هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضا لأن فعيلا بمعنى مفعل ليس للمبالغة نحو أليم وسميع ، وأيّا ما كان فالظاهر أن عوده عليه السلام بصيرا بإلقاء القميص على وجهه ليس إلا من باب خرق العادة وليس الخارق بدعا في هذه القصة ، وقيل : إن ذاك لما أنه عليه السلام انتعش حتى قوي قلبه وحرارته الغريزية فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر ، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهب عليهم من جهة أرض المعشوق كما قال :
وإني لأستشفى بكل غمامة يهب بها من نحو أرضك ريح
وقال آخر :
ألا يا نسيم الصبح ما لك كلما تقربت منا فاح نشرك طيبا
كأن سليمى نبئت بسقامنا فأعطتك رياها فجئت طبيبا
إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو قريب مما سمعته آنفا عن الإمام هذا ، وجاء في بعض الأخبار أنه عليه السلام سأل البشير كيف يوسف؟ قال : ملك مصر فقال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال : على الإسلام قال : الآن تمت النعمة. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : لما جاء البشير إليه عليه السلام قال : ما وجدت عندنا شيئا وما اختبزنا منذ سبعة أيام ولكن هون اللّه تعالى عليك سكرات الموت ، وجاء في رواية أنه قال له : ما أدري ما أثيبك اليوم ثم دعا له بذلك قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يحتمل أن يكون خطابا لمن كان عنده من قبل أي ألم أقل لكم إني لأجد ريح يوسف ، ويحتمل أن يكون خطابا لبنيه القادمين أي ألم أقل لكم لا تيأسوا من رحمة اللّه وهو الأنسب بقوله : إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فإن مدار النهي العلم الذي أوتيه عليه السلام من جهة اللّه سبحانه ، والجملة على الاحتمالين مستأنفة على الأخير يجوز أن تكون مقول القول أي ألم أقل لكم : حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح اللّه تعالى أني أعلم من اللّه ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام ، واستظهر في البحر كونها مقول القول وهو كذلك.
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا طلبوا منه عليه السلام الاستغفار ، ونادوه بعنوان الأبوة تحريكا للعطف والشفقة وعللوا ذلك بقولهم : إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ أي ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له ، وكأنهم كانوا على ثقة من عفوه ولذلك اقتصروا على طلب الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار ، وقيل : حيث نادوه بذلك أرادوا ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا فإنه لولا ذلك لكنا هالكين لتعمد الإثم فمن ذا يرحمنا إذا لم ترحمنا وليس بذاك قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
روي عن ابن عباس مرفوعا أنه عليه السلام أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأن الدعاء فيه مستجاب ، وروي عنه أيضا كذلك أنه أخره إلى ليلة الجمعة «1» وجاء ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسنه ،
وقيل : سوفهم إلى قيام الليل ، وقال ابن جبير وفرقة : إلى الليالي البيض فإن الدعاء فيها
___________
(1) وفي رواية إلى سحرها اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 54
يستجاب ، وقال الشعبي : أخره حتى يسأل يوسف عليه السلام فإن عفا عنهم استغفر لهم ، وقيل أخر ليعلم حالهم في صدق التوبة وتعقب بعضهم بعض هذه الأقوال بأن سوف تأبى ذلك لأنها أبلغ من السين في التنفيس فكان حقه على ذلك السين ورد بما في المغني من أن ما ذكر مذهب البصريين وغيرهم يسوي بينهما ، وقال بعض المحققين : هذا غير وارد حتى يحتاج إلى الدفع لأن التنفيس التأخير مطلقا ولو أقل من ساعة فتأخيره إلى السحر مثلا ومضي ذلك اليوم محل للتنفيس بسوف ، وقيل : أراد عليه السلام الدوام على الاستغفار لهم وهو مبني على أن السين وسوف يدلان على الاستمرار في المستقبل وفيه كلام للنحويين. نعم جاء في بعض الأخبار ما يدل على أنه عليه السلام استمر برهة من الزمان يستغفر لهم.
أخرج ابن جرير عن أنس بن مالك قال إن اللّه تعالى لما جمع شمله ببنيه وأقر عينه خلا ولده نجيا فقال بعضهم لبعض : لستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف قالوا بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم واستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنبه فقالوا يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية فقال :
ما لكم يا بني؟ قالوا ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قالا بلى قالوا أفلستما قد عفوتما؟
قالا بلى قالوا فإن عفو كما لا يغني عنا شيئا إن كان اللّه تعالى لم يعف عنا قال فما تريدون يا بني؟ قالوا : نريد أن تدعو اللّه سبحانه فإذا جاءك الوحي من عند اللّه تعالى بأنه قد عفا عما صنعنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدا قال فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف عليه السلام خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوب عليهما السلام فقال : إن اللّه تعالى بعثني أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأنه قد عفا عما صنعوا وأنه قد عقد مواثيقهم من بعدك على النبوة ،
قيل : وهذا إن صح دليل على نبوتهم وإن ما صدر منهم كان قبل استنبائهم ، والحق عدم الصحة وقد مر تحقيق المقام بما فيه كفاية فتذكر.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عائشة قال : ما تيب على ولد يعقوب إلا بعد عشرين سنة وكان أبوهم بين يديهم فما تيب عليهم حتى نزل جبريل عليه السلام فعلمه هذا الدعاء «يا رجاء المؤمنين لا تقطع رجاءنا يا غياث المؤمنين أغثنا يا معين المؤمنين أعنا يا محب التوابين تب علينا»
فأخره إلى السحر فدعا به فتيب عليهم ، وأخرج أبو عبيد وغيره عن ابن جريج أن ما سيأتي إن شاء اللّه متعلق بهذا وهو من تقديم القرآن وتأخيره والأصل سوف أستغفر لكم ربي إن شاء اللّه.
وأنت تعلم أن هذا مما لا ينبغي الالتفات إليه فإن ذاك من كلام يوسف عليه السلام بلا مرية ولا أدري ما الداعي إلى ارتكابه ولعله محض الجهل.
واعلم أنه ذكر بعض المتأخرين في الكلام على هذه الآية أن الصحيح أن أَسْتَغْفِرُ متعد إلى مفعولين يقال :
استغفرت اللّه الذنب ، وقد نص على ذلك ابن هشام وقد حذف من اسْتَغْفِرْ لَنا أولهما ، وذكر ثانيهما وعكس الأمر في سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ ولعل السر واللّه سبحانه أعلم أن حذف الأول من الأول لإرادة التعميم أي استغفر لنا كل من أذنبنا في حقه ليشمله سبحانه وتعالى ويشمل يوسف وبنيامين وغيرهما ولم يحذف الثاني أيضا تسجيلا على أنفسهم باقتراف الذنوب لأن المقام مقام الاعتراف بالخطأ والاستعطاف لما سلف فالمناسب هو التصريح ، وأما إثباته في الثاني فلأنه الأصل مع التنبيه على أن الأهم الذي ينبغي أن يصرف إليه الهم ويمحض له الوجه هو استغفار الرب واستجلاب رضاه فإنه سبحانه إذا رضي أرضى ، على أن يوسف وأخاه قد ظهرت منهما مخايل العفو وأدركتهما رقة الأخوة ، وأما حذف الثاني منه فللإيجاز لكونه معلوما من الأول مع قرب العهد بذكره اه ، ولعل التسويف على هذا ليزداد انقطاعهم إلى اللّه تعالى فيكون ذلك أرجى لحصول المقصود فتأمل فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ
روي أنه عليه السلام جهز

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 55
إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وفي التوراة أنه عليه السلام أعطى لكل من إخوته خلعة وأعطى بنيامين ثلاثمائة درهم وخمس خلع وبعث لأبيه بعشرة حمير موقرة بالتحف وبعشرة أخرى موقرة براو طعاما.
وجاء في بعض الأخبار أنه عليه السلام خرج هو والملك «1» في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم لاستقباله فتلقوه عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر قال : لا يا أبت ولكن هذا ابنك يوسف قيل له : إنك قادم فتلقاك بما ترى ، فلما لقيه ذهب يوسف عليه السلام ليبدأه بالسلام فمنع ذلك ليعلم أن يعقوب أكرم على اللّه تعالى منه فاعتنقه وقبله وقال : السلام عليك أيها الذاهب بالأحزان عني ، وجاء أنه عليه السلام قال لأبيه : يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟
قال : بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك.
وفي الكلام إيجاز والتقدير فرحل يعقوب عليه السلام بأهله وساروا حتى أتوا يوسف فلما دخلوا عليه وكان ذلك فيما قيل يوم عاشوراء آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أي ضمهما إليه واعتنقهما ، والمراد بهما أبوه وخالته ليا ، وقيل : راحيل وليس بذاك ، والخالة تنزل منزلة الأم لشفقتها كما ينزل العم منزلة الأب ، ومن ذلك قوله : وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة : 133] وقيل : إنه لما تزوجها بعد أمه صارت رابة ليوسف عليه السلام فنزلت منزلة الأم لكونها مثلها في زوجية الأب وقيامها مقامها والرابة تدعى أما وإن لم تكن خالة ، وروي هذا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما.
وقال بعضهم : المراد أبوه وجدته أم أمه حكاه الزهراوي ، وقال الحسن وابن إسحاق : إن أمه عليه السلام كانت بالحياة فلا حاجة إلى التأويل لكن المشهور أنها ماتت في نفاس بنيامين ، وعن الحسن وابن إسحاق القول بذلك أيضا إلا أنهما قالا : إن اللّه تعالى أحياها له ليصدق رؤياه ، والظاهر أنه لم يثبت ولو ثبت مثله لاشتهر ، وفي مصحف عبد اللّه «آوى إليه أبويه وإخوته» وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ وكأنه عليه السلام ضرب في الملتقى خارج البلد مضربا فنزل فيه فدخلوا عليه فيه فآواهما إليه ثم طلب منهم الدخول في البلدة فهناك دخولان : أحدهما دخول عليه خارج البلدة ، والثاني دخول في البلدة ، وقيل : إنهم إنما دخلوا عليه عليه السلام في مصر وأراد بقوله : ادْخُلُوا مِصْرَ تمكنوا منها واستقروا فيها إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أي من القحط وسائر المكاره ، والاستثناء على ما في التيسير داخل في الأمن لا في الأمر بالدخول لأنه إنما يدخل في الوعد لا في الأمر. وفي الكشاف أن المشيئة تعلقت بالدخول المكيف بالأمن لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم فكأنه قيل : أسلموا وآمنوا في دخولكم إن شاء اللّه والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء اللّه دخلتم آمنين فحذف الجزاء لدلالة الكلام ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال اه ، وكأنه أشار بقوله :
فكأنه قيل إلخ إلى أن في التركيب معنى الدعاء وإلى ذلك ذهب العلامة الطيبي ، وقال في الكشف : إن فيه إشارة إلى أن الكيفية مقصودة بالأمر كما إذا قلت : ادخل ساجدا كنت آمرا بهما وليس فيه إشارة إلى أن في التركيب معنى الدعاء فليس المعنى على ذلك ، والحق مع العلامة كما لا يخفى ، وزعم صاحب الفرائد أن التقديم ادخلوا مصر إن شاء اللّه دخلتم آمنين ، فآمنين متعلق بالجزاء المحذوف وحينئذ لا يفتقر إلى التقديم والتأخير وإلى أن يجعل الجزائية معترضة ، وتعقب بأنه لا ارتياب أن هذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشر وفيه للتيمن والتبرك واستعماله مع الجزاء كالشريعة المنسوخة فحسن موقعه في الكلام أن يكون معترضا فافهم وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عند نزولهم بمصر عَلَى الْعَرْشِ
___________
(1) قيل : يقتضي أنه عليه السلام لم يكن ملكا وإنما كان على خزائنه كالعزيز والرواية مختلفة فيه فإنه قيل : إنه تسلطان وهو المشهور اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 56
على السرير كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما تكرم لهما فوق ما فعله بالإخوة وَخَرُّوا لَهُ أي أبواه وإخوته ، وقيل : الضمير للإخوة فقط وليس بذاك فإن الرؤيا تقتضي أن يكون الأبوان والإخوة خروا له سُجَّداً أي على الجباه كما هو الظاهر ، وهو كما قال أبو البقاء حال مقدرة لأن السجود يكون بعد الخرور وكان ذلك جائزا عندهم وهو جار مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير ، قال قتادة : كان السجود تحية الملوك عندهم وأعطى اللّه تعالى هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة كرامة منه تعالى عجلها لهم ، وقيل : ما كان ذلك إلا إيماء بالرأس ، وقيل : كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض ، وقيل : المراد به التواضع ويراد بالخرور المرور كما في قوله تعالى : وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً [الفرقان : 73] فقد قيل : المراد لم يمروا عليها كذلك ، وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في السقوط ، وقيل :
ونسب لابن عباس أن المعنى خروا لأجل يوسف سجدا للّه شكرا على ما أوزعهم من النعمة ، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى :
وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ إذ فيها رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف : 4] ، ودفع بأن القائل به يجعل اللام للتعليل فيهما ، وقيل : اللام فيهما بمعنى إلى كما في صلى للكعبة ، قال حسان :
ما كنت أعرف أن الدهر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالأشياء والسنن
وذكر الإمام أن القول بأن السجود كان للّه تعالى لا ليوسف عليه السلام حسن ، والدليل عليه أن قوله تعالى :
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً مشعر بأنهم صعدوا ثم سجدوا ولو كان السجود ليوسف عليه السلام كان قبل الصعود والجلوس لأنه أدخل في التواضع بخلاف سجود الشكر للّه تعالى ، ومخالفة ظاهر الترتيب ظاهر المخالفة للظاهر ، ودفع ما يرد عليه مما علمت بما علمت ، ثم قال : وهو متعين عندي لأنه يبعد من عقل يوسف عليه السلام ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة. وأجيب بأن تأخير الخرور عن الرفع ليس بنص في المقصود لأن الترتيب الذكري لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي فلعل تأخيره عنه ليتصل به. ذكر كونه تعبير الرؤياء وما يتصل به ، وبأنه يحتمل أن يكون اللّه تعالى قد أمر يعقوب بذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو وكان يوسف عليه السلام عالما بالأمر فلم يسعه إلا السكوت والتسليم ، وكأن في قوله : يا أَبَتِ [يوسف : 4] إلخ إشارة إلى ذلك كأنه يقول : يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سببا لوجوب الذبح في اليقظة. ولذا جاء عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه عليه السلام لما رأى سجود أبويه وإخوته له هاله ذلك واقشعر جلده منه ، ولا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد اللّه تعالى على يعقوب عليه السلام كأنه قيل له :
أنت كنت دائم الرغبة في وصاله والحزن على فراقه فإذا وجدته فاسجد له. ويحتمل أيضا أنه عليه السلام إنما فعله مع عظم قدره لتتبعه الاخوة فيه لأن الأنفة ربما حملتهم على الأنفة منه فيجر إلى ثوران الأحقاد القديمة وعدم عفو يوسف عليه السلام. ولا يخفى أن الجواب عن الأول لا يفيد لما علمت أن مبناه موافقة الظاهر. والاحتمالات المذكورة في الجواب عن الثاني قد ذكرها أيضا الإمام وهي كما ترى ، وأحسنها احتمال أن اللّه تعالى قد أمره بذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو. ومن الناس من ذهب إلى أن ذلك السجود لم يكن إلا من الاخوة فرارا من نسبته إلى يعقوب عليه السلام لما علمت ، وقد رد بما أشرنا إليه أولا من أن الرؤيا تستدعي العموم ، وقد أجاب عن ذلك الإمام بأن تعبير الرؤيا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 57
لا يجب أن يكون مطابقا للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس له عليه السلام ، ولا شك أن ذهاب يعقوب وأولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير كالأصل حذو القذة بالقذة فلم يوجبه أحد من العقلاء اه ، والحق أن السجود بأي معنى كان وقع من الأبوين والاخوة جميعا والقلب يميل إلى أنه كان انحناء كتحية الأعاجم وكثير من الناس اليوم ولا يبعد أن يكون ذلك بالخرور ولا بأس في أن يكون من الأبوين وهما على سرير ملكه ولا يأبى ذلك رؤياه عليه السلام مِنْ قَبْلُ أي من قبل سجودكم هذا أو من قبل هذه الحوادث والظرف متعلق - برؤياي - وجوز تعلقها بتأويل - لأنها أولت بهذا قبل وقوعها ، وجوز أبو البقاء كونه متعلقا بمحذوف وقع حالا من رُءْيايَ وصحة وقوع الغايات حالا تقدم الكلام فيها قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أي صدقا ، والرؤيا توصف بذلك ولو مجازا ، وأعربه جمع على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير ، وجوز أن يكون حالا أي وضعها صحيحة وأن يكون صفة مصدر محذوف أي جعلا حقا وأن يكون مصدرا من غير لفظ الفعل بل من معناه لأن جعلها في معنى حققها و«حقا» في معنى تحقيق ، والجملة على ما قال أبو البقاء حال مقدرة أو مقارنة وَقَدْ أَحْسَنَ بِي الأصل كما في البحر أن يتعدى الإحسان بإلى أو اللام كقوله تعالى : وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص : 7] وقد يتعدى بالباء كقوله تعالى : وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [البقرة : 83 ، الأنعام : 151 ، الإسراء : 23] وكقول كثير عزة :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وحمله بعضهم على تضمين أَحْسَنَ معنى لطف ولا يخفى ما فيه من اللطف إلا أن بعضهم أنكر تعدية - لطف - بالباء وزعم أنه لا يتعدى إلا باللام فيقال : لطف اللّه تعالى له أي أوصل إليه مراده بلطف وهذا ما في القاموس لكن المعروف في الاستعمال تعديه بالباء وبه صرح في الأساس وعليه المعول ، وقيل : الباء بمعنى إلى ، وقيل : المفعول محذوف أي أحسن صنعه بي فالباء متعلقة بالمفعول المحذوف ، وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو ممنوع عند البصريين ، وقوله : إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ منصوب - بأحسن - أو بالمصدر المحذوف عند من يرى جواز ذلك وإذا كانت تعليلية فالإحسان هو الإخراج من السجن بعد أن ابتلي به وما عطف عليه وإذا كانت ظرفية فهو غيرهما ، ولم يصرح عليه السلام بقصة الجب حذرا من تثريب اخوته وتناسيا لما جرى منهم لأن الظاهر حضورهم لوقوع الكلام عقيب خرورهم سجدا ولأن الإحسان إنما تم بعد خروجه من السجن لوصوله للملك وخلوصه من الرق والتهمة واكتفاء بما يتضمنه قوله : وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي البادية ، وأصله «1» البسيط من الأرض وإنما سمي بذلك لأن ما فيه يبدو للناظر لعدم ما يواريه ثم أطلق على البرية مطلقا ، وكان منزلهم على ما قيل : بأطراف الشام ببادية فلسطين وكانوا أصحاب إبل وغنم ، وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع. وزعم بعضهم أن يعقوب عليه السلام إنما تحول إلى البادية بعد النبوة لأن اللّه تعالى لم يبعث نبيا من البادية. وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : كان يعقوب عليه السلام قد تحول إلى بدا وسكنها ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها : قال ابن الأنباري : إن بدا اسم موضع معروف يقال : هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميل «2» بقوله :
وأنت الذي حببت شعبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما
___________
(1) وأصل البدو مصدر بدا يبدو مصدر بدوا ثم سمي به اه منه.
(2) وقيل كثير عزة اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 58
فالبدو على هذا قصد هذا الموضع يقال : بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا كما يقال : أغاروا إذا أتوا الغور ، فالمعنى أتى بكم من قصد بدا فهم حينئذ حضريون «1» كذا قاله الواحدي في البسيط وذكره القشيري وهو خلاف الظاهر جدا مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أي أفسد وحرش ، وأصله من نزغ الرابض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري وأسند ذلك إلى الشيطان مجازا لأنه بوسوسته وإلقائه ، وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا ، وذكره تعظيما لأمر الإحسان لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا. واستدل الجبائي والكعبي والقاضي بالآية على بطلان الجبر وفيه نظر إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته تعالى ويتسهل دونها كذا قاله غير واحد ، وحاصله أن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها والمسهل لصعابها ، ولنفوذ مشيئته سبحانه فإذا أراد شيئا سهل أسبابه أطلق عليه جل شأنه اللطيف لأن ما يلطف يسهل نفوذه ، وإلى هذا يشير كلام الراغب حيث قال : اللطيف ضد الكثيف ويعبر باللطيف عن الحركة الخفيفة وتعاطي الأمور الدقيقة فوصف اللّه تعالى به لعلمه بدقائق الأمور ورفقه بالعباد ، فاللام متعلقة - بلطيف - لأن المراد مدبر لما يشاء على ما قاله غير واحد ، وقال بعضهم : إن المعنى لأجل ما يشاء ، وهو على الأول متعد باللام وعلى الثاني غير متعد بها وقد تقدم آنفا ما في ذلك إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شيء على وجه الحكمة لا غيره.
روي أن يوسف طاف بأبيه عليهما السلام في خزائنه فلما أدخله خزينة القرطاس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال :
أمرني جبريل قال : أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط مني إليه فسأله قال جبريل عليه السلام : اللّه تعالى أمرني بذلك لقولك :
وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف : 13] قال : فهلا خفتني
وهذا عذر واضح ليوسف عليه السلام في عدم إعلام أبيه بسلامته. وقد صرح غير واحد بأنه عليه السلام أوحي إليه بإخفاء الأمر على أبيه إلى أن يبلغ الكتاب أجله ، لكن يبقى السؤال بأن يعقوب عليه السلام كان من أكابر الأنبياء نفسا وأبا وجدا وكان مشهورا في أكناف الأرض ومن كان كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لا بد وأن تبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وهو في ذلك الحزن الذي تضرب فيه الأمثال ويوسف عليه السلام ليس بمكان بعيد عن مكانه ولا متوطنا زوايا الخفاء ولا خامل الذكر بل كان مرجع العام والخاص وداعيا إلى اللّه تعالى في السر والعلن وأوقات السرور والمحن فكيف غم أمره ولم يصل إلى أبيه خبره؟.
وأجيب عن ذلك بأنه ليس إلا من باب خرق العادة ، واختلفوا في مقدار المدة بين الرؤيا وظهور تأويلها فقيل :
ثماني عشرة سنة ، وأخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد عن الحسن أن المدة ثمانون سنة ، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها سبع وتسعون سنة ، وعن حذيفة أنها سبعون سنة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنها خمس وثلاثون سنة ، وأخرج جماعة عن سلمان الفارسي أنها أربعون سنة وهو قول الأكثرين ، قال ابن شداد : وإلى ذلك ينتهي تأويل الرؤيا واللّه تعالى أعلم بحقائق الأمور.
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي بعضا عظيما منه - فمن - للتبعيض ويبعد القول بزيادتها أو جعلها لبيان الجنس والتعظيم من مقتضيات المقام ، وبعضهم قدر عظيما في النظم الجليل على أنه مفعول به كما نقل أبو البقاء وليس بشيء ، والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر ومن الْمُلْكِ ما يعم مصر وغيرها ، ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يراد من الملك مصر ومن البعض شيء منها وزعم أنه لا ينافي قوله تعالى : مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ
___________
(1) وفي الحديث من يرد اللّه تعالى به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة
اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 59
يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ [يوسف : 56] لأنه لم يكن مستقلا فيه وإن كان ممكنا فيه وفيه تأمل ، وقيل : أراد ملك نفسه من إنفاذ شهوته ، وقال عطاء : ملك حساده بالطاعة ونيل الأماني وليس بذاك وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي بعضا من ذلك كذلك ، والمراد بتأويل الأحاديث إما تعليم تعبير الرؤيا وهو الظاهر وإما تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء ، وعلى التقديرين لم يؤت عليه السلام جميع ذلك ، والترتيب على غير الظاهر ظاهر وأما على الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك على ذلك في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من اللّه سبحانه والملك أعرق في كونه نعمة من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضا نعمة جليلة في نفسه فتذكر وتأمل «1».
وقرأ عبد اللّه وابن ذر «آتيتن وعلمتن» بحذف الياء فيهما اكتفاء بالكسرة ، وحكى ابن عطية عن الأخير «آتيتني» بغير «قد» فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وخالقهما ، ونصبه على أنه نعت - لرب - أو بدل أو بيان أو منصوب بأعني أو منادى ثان ، ووصفه تعالى به بعد وصفه بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادئ ما يعقبه من قوله : أَنْتَ وَلِيِّي متولي أموري ومتكفل بها أو موال لي وناصر فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فالوالي إما من الولاية أو الموالاة ، وجوز أن يكون بمعنى المولى كالمعطى لفظا ومعنى أي الذي يعطيني نعم الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي أقبضني مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي على ما روي عن ابن عباس أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة كما قيل ، واعترض بأن يوسف عليه السلام من كبار الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلب اللحاق بمن هو في البداية؟ وأجيب بأنه عليه السلام طلبه هضما لنفسه فسبيله سبيل استغفار الأنبياء عليهم السلام ، ولا سؤال ولا جواب إذا أريد من الصالحين آباؤه الكرام يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام ، وقال الإمام : هاهنا وهاهنا مقام آخر في الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحد منها إلى الأخرى بسبب تلك الملاءمة والمجانسة فعظمت تلك الأنوار وتقوت هاتيك الأضواء ، ومثال ذلك المرايا الصقيلة الصافية إذا وصفت وصفا متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحد منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الاشراق والبريق إلى حد لا تطيقه الأبصار الضعيفة فكذلك هاهنا انتهى.
وهو كما ترى ، والحق أن يقال : إن الصلاح مقول بالتشكيك متفاوت قوة وضعفا والمقام يقتضي أنه عليه السلام أراد بالصالحين المتصفين بالمرتبة المعتنى بها من مراتب الصلاح ، وقد قدمنا ما عند أهل المكاشفات في الصلاح فارجع إليه. بقي أن المفسرين اختلفوا في أن هذا هل هو منه عليه السلام تمني للموت وطلب منه أم لا؟ فالكثير منهم على أنه طلب وتمني لذلك ، قال الإمام : ولا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لأنه حينئذ يحس بنقصانه مع شغفه بزواله وعلمه بأن الكمال المطلق ليس إلا للّه تعالى فيبقى في قلق لا يزيله إلا الموت فيتمناه ، وأيضا يرى أن السعادة الدنيوية سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها مع أنه ليس هناك لذة إلا وهي ممزوجة بما ينغصها بل لو حققت لا ترى لذة حقيقية في هذه اللذائذ الجسمانية وإنما حاصلها دفع الآلام ، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ، ولذة النكاح عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته ، وكذا الإمارة والرياسة يدفع بها الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام ونحو ذلك ، والكل لذلك خسيس وبالموت التخلص عن الاحتياج إليه ، على أن عمدة الملاذ الدنيوية الأكل والجماع والرياسة والكل في نفسه خسيس معيب ، فإن الأكل عبارة عن ترطيب الطعام بالبزاق
___________
(1) إشارة إلى ما قيل : إنه لا يمكن تمشية هذا الاعتذار فيما سبق لأن التعليم هناك وارد على نهج العلة الغائية للتمكين فإن حمل على معنى التمليك لزم تأخره عنه وأما الواقع هاهنا فمجرد التأخير في الذكر والعطف بالواو لا يستدعي ذلك الترتيب في الوجود فافهم اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 60
المجتمع في الفم ولا شك أنه مستقذر في نفسه ثم حينما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة والتعفن ومع ذا يشارك الإنسان فيه الحيوانات الخسيسة فيلتذ الجعل بالروث التذاذ الإنسان باللوزينج ، وقد قال العقلاء : من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه ، والجماع نهاية ما يقال فيه : إنه إخراج فضلة متولدة من الطعام بمعونة جلدة مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك ، وفيه أيضا تلك المشاركة وغاية ما يرجى من ذلك تحصيل الولد الذي يجر إلى شغل البال والتحيل لجمع المال ونحو ذلك ، والرياسة إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازع فيها ويطمح نظره إليها فصاحبها لم يزل خائفا وجلا من ذلك لكفاها عيبا ، وقد يقال أيضا : إن النفس خلقت مجبولة على طلب اللذات والعشق الشديد لها والرغبة التامة في الوصول إليها فما دام في هذه الحياة الجسمانية يكون طالبا لها وما دام كذلك فهو في عين الآفات ولجة الحسرات ، وهذا اللازم مكروه والملزوم مثله فلهذا يتمنى العاقل زوال هذه الحياة الجسمانية ليستريح من ذلك النصب ، وللّه تعالى قول من قال :
ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد وقال :
تعب كلها الحياة فما اعجب إلا من راغب في ازدياد
إن حزنا في ساعة الفوت أضعا ف سرور في ساعة الميلاد
وقد ذكر غير واحد أن تمني الموت حبا للقاء اللّه تعالى مما لا بأس به ، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها «من أحب لقاء اللّه تعالى أحب اللّه تعالى لقاءه» الحديث
نعم تمني الموت عند نزول البلاء منهي عنه
ففي الخبر لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ،
وقال قوم : إنه عليه السلام لم يتمن الموت وإنما عدد نعم اللّه تعالى عليه ثم دعا بأن تدوم تلك النعم في باقي عمره حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام وألحقه بالصالحين.
والحاصل أنه عليه السلام إنما طلب الموافاة على الإسلام لا الوفاة ، ولا يرد على القولين أنه من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام لا يموتون إلا مسلمين إما لأن الإسلام هنا بمعنى الاستسلام لكل ما قضاه اللّه تعالى أو لأن ذلك بيان لأنه وإن لم يتخلف ليس إلا بإرادة اللّه تعالى ومشيئته «1» والذاهبون إلى الأول قالوا إنه عليه السلام لم يأت عليه أسبوع حتى توفاه اللّه تعالى وكان الحسن يذهب إلى القول الثاني ويقول : إنه عليه السلام عاش بعد هذا القول سنين كثيرة وروى المؤرخون أن يعقوب عليه السلام أقام مع يوسف أربعا وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه فذهب به ودفنه ثمت وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة وقيل : أكثر ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه اللّه تعالى طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه ففعلوا ثم أراد موسى عليه السلام نقله إلى مدفن آبائه فأخرجه بعد أربعمائة سنة على ما قيل : من صندوق المرمر لثقله وجعله في تابوت من خشب ونقله إلى ذلك ، وكان عمره مائة وعشرين سنة ، وقيل : مائة وسبع سنين ، وقد ولد له من امرأة العزيز إفرائيم وهو جد يوشع عليه السلام وميشا ورحمة زوجة أيوب عليه السلام ، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه عليهم السلام إلى أن بعث اللّه تعالى موسى عليه السلام فكان ما كان.
___________
(1) والآية دليل لأهل السنة في أن الإيمان من الله تعالى كما قرره الامام فليراجع اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 61
وفي التوراة أن يوسف عليه السلام أسكن أباه وإخوته في مكان يقال له عين شمس من أرض السدير وبقي هناك سبع عشرة سنة وكان عمره حين دخل مصر مائة وثلاثين سنة ولما قرب أجله دعا يوسف عليه السلام فجاء ومعه ولداه «1» منشا وهو بكره وافرايم فقدمهما إليه ودعا لهما ووضع يده اليمنى على رأس الأصغر واليسرى على رأس الأكبر وكان يوسف يحب عكس ذلك فكلم أباه فيه فقال : يا بني إني لأعلم أن ما يتناسل من هذا الأصغر أكثر مما يتناسل من هذا الأكبر ودعا ليوسف عليه السلام وبارك عليه وقال : يا بني إني ميت كان اللّه تعالى معكم وردكم إلى بلد أبيكم يا بني إذا أنا مت فلا تدفنني في مصر وادفني في مقبرة آبائي وقال : نعم يا أبت وحلف له ثم دعا سائر بنيه وأخبرهم بما ينالهم في أيامهم ثم أوصاهم بالدفن عند آبائه في الأرض التي اشتراها إبراهيم عليه السلام من عفرون الختي في أرض الشام وجعلها مقبرة ، وبعد أن فرغ من وصيته عليه السلام توفي فانكب يوسف عليه السلام يقبله ويبكي وأقام له حزنا عظيما وحزن عليه أهل مصر كثيرا ثم ذهب به يوسف وإخوته وسائر آله سوى الأطفال ومعهم قواد الملك ومشايخ أهل مصر ودفنوه في المكان الذي أراد ثم رجعوا ، وقد توهم إخوة يوسف منه عليه السلام أن يسيء المعاملة معهم بعد موت أبيهم عليه السلام فلما علم ذلك منهم قال لهم : لا تخافوا إني أخاف اللّه تعالى ثم عزاهم وجبر قلوبهم ثم أقام هو وآل أبيه بمصر وعاش مائة وعشر سنين حتى رأى لافرايم ثلاثة بنين وولد بنو ما خير بن منشا في حجره أيضا ، ثم لما أحس بقرب أجله قال لإخوته : إني ميت واللّه سبحانه سيذكر كم ويردكم إلى البلد الذي أقسم أن يملكه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فإذا ذكركم سبحانه وردكم إلى ذلك البلد فاحملوا عظامي معكم ثم توفي عليه السلام فحنطوه وصيروه في تابوت بمصر وبقي إلى زمن موسى عليه السلام فلما خرج حمله حسبما أوصى عليه السلام «2»
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من أنباء يوسف عليه السلام ، وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا ، والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو مبتدأ وقوله تعالى : مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الذي لا يحوم حوله أحد خبره ، وقوله سبحانه : نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر بعد خبر أو حال من الضمير في الخبر ، وجوز أن يكون ذلِكَ اسما موصولا مبتدأ ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ صلته ونُوحِيهِ إِلَيْكَ خبره وهو مبني على مذهب مرجوح من جعل سائر أسماء الإشارة موصولات.
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ يريد إخوة يوسف عليه السلام إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وهو جعلهم إياه في غيابة الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ به ويبغون له الغوائل ، والجملة قيل : كالدليل على كون ذلك من أنباء الغيب وموحى إليه عليه الصلاة والسلام ، والمعنى أن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي لأنك لم تحضر إخوة يوسف عليه السلام حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة الجب وهم يمكرون به ، ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلمته منه ، وهذا من المذهب الكلامي على ما نص عليه غير واحد وإنما حذف الشق الأخير مع أن الدال على ما ذكر مجموع الأمرين لعلمه من آية أخرى كقوله تعالى : ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ [هود :
49] وقال بعض المحققين : إن هذا تهكم بمن كذبه وذلك من حيث أنه تعالى جعل المشكوك فيه كونه عليه السلام
___________
(1) بالنون في التوراة افرايم بالياء بعد الألف والمضبوط عندنا غير ذلك والأمر سهل ا ه منه.
(2) وأخرج ابن ابي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه عليه السلام لم يعرف موضعه ولم يجد أحدا يخبره إلا امرأة يقال لها تارخ بنت شيرين بن يعقوب فاشترطت عليه أن تصير شابة كلما كبرت وأن تكون منه عليه السلام في درجته يوم القيامة ففعل بعد أن امتنع من الطلبة الثانية حتى أمر بإمضائها فدلته فأخرجه فعادت بنت ثلاثين وعمرت الفا وستمائة او اربعمائة سنة حتى أدركت سليمان عليه السلام فتزوجها اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 62
حاضرا بين يدي أولاد يعقوب عليه السلام ما كرين فنفاه بقوله : وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وإنما الذي يمكن أن يرتاب فيه المرتاب قبل التعرف هو تلقيه من أصحاب هذه القصة ، وكان ظاهر الكلام أن ينفي ذلك فلما جعل المشكوك ما لا ريب فيه لأن كونه عليه الصلاة والسلام لم يلق أحدا ولا سمع كان عندهم كفلق الفجر جاء التهكم البالغ وصار حاصل المعنى قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهدا المن مضى من القرون الخالية وإنماركم لما أخبر به يفضي إلى أن تكابروا بأنه قد شاهد من مضى منهم ، وهذا كقوله تعالى : أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الأنعام : 144] ومنه يظهر فائدة العدول عن أسلوب ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ إلى هذا الأسلوب وهو أبلغ مما ذكر أولا ، وذكر لترك ذلك نكتة أخرى أيضا وهي أن المذكور مكرهم وما دبروه وهو مما أخفوه حتى لا يعلمه غيرهم فلا يمكن تعلمه من الغير ولا يخلو عن حسن ، وأيّا ما كان ففي الآية إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه : وَما أَكْثَرُ النَّاسِ الظاهر للعموم ، وقال ابن عباس : إنهم أهل مكة وَلَوْ حَرَصْتَ أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك عليهم بِمُؤْمِنِينَ لتصميمهم على الكفر وإصرارهم على العناد حسبما اقتضاه استعدادهم و«حرص» من باب ضرب وعلم وكلاهما لغة فصيحة ، وجواب لَوْ محذوف للعلم به ، والجملة معترضة بين المبتدأ والخبر. قال ابن الأنباري : سألت قريش واليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قصة يوسف عليه السلام فنزلت مشروحة شرحا وافيا فأمل عليه الصلاة والسلام أن يكون ذلك سبب إسلامهم ، وقيل : إنهم وعدوه أن يسلموا فلما لم يفعلوا عزاه تعالى بذلك.
وقيل : إنها نزلت في المنافقين ، وقيل : في النصارى ، وقيل : في المشركين فقط ، وقيل : في أهل الكتاب فقط وقيل : في الثنوية وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي هذا الإنباء أو جنسه أو القرآن ، وأيّا ما كان فالضمير عائد على ما يفهم مما قبله «1» والمعنى ما تطلب منهم على تبليغه مِنْ أَجْرٍ أي جعل ما كما يفعله حملة الأخبار إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي ما هو إلا تذكير وعظة من اللّه تعالى لِلْعالَمِينَ كافة ، والجملة كالتعليل لما قبلها «2» لأن الوعظ العام ينافي أخذ الأجرة من البعض لأنه لا يختص بهم. وقيل : أريد انه ليس إلا عظة من اللّه سبحانه أمرت أن أبلغها فوجب علي ذلك فكيف أسأل أجرا على أداء الواجب وهو خلاف الظاهر ، وعليه تكون الآية دليلا على حرمة أخذ الأجرة على أداء الواجبات. وقرأ مبشر بن عبيد «وما نسألهم» بالنون.
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ أي وكم من آية قال الجلال السيوطي : إن «كأي» اسم ككم التكثيرية الخبرية في المعنى مركب من كاف التشبيه وأي الاستفهامية المنونة وحكيت ، ولهذا جاز الوقف عليها بالنون لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ولذا رسم في المصحف نونا ، ومن وقف عليها بحذفه اعتبر حكمة في الأصل ، وقيل :
الكاف فيها هي الزائدة قال ابن عصفور : ألا ترى أنك لا تريد بها معنى التشبيه وهي مع ذا لازمة وغير متعلقة بشيء وأي مجرورها ، وقيل : هي اسم بسيط واختاره أبو حيان قال : ويدل على ذلك تلاعب العرب بها في اللغات ، وإفادتها للاستفهام نادر حتى أنكره الجمهور ، ومنه قول أبي لابن مسعود : كأين تقرأ سورة الأحزاب آية؟ فقال : ثلاثا وسبعين ، والغالب وقوعها خبرية ويلزمها الصدر فلا تجر خلافا لابن قتيبة. وابن عصفور ولا يحتاج إلى سماع ، والقياس على كم يقتضي أن يضاف إليها ولا يحفظ ولا يخبر عنها إلا بجملة فعلية مصدرة بماض أو مضارع كما هنا ، قال أبو حيان :
والقياس أن تكون في موضع نصب على المصدر أو الظرف أو خبر كان كما كان ذلك في كم. وفي البسيط أنها
___________
(1) وقيل الضمير لدين اللّه تعالى اه منه.
(2) ومن تأمل ظهر له أن كونه عظة للعالمين عامة فيه ما ينافي أن يسأل الاجر من غير وجه فما ألطف التعليل بذلك فتأمل اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 63
تكون مبتدأ وخبرا ومفعولا ويقال فيها : كائن بالمد بوزن اسم الفاعل من كان ساكنة النون وبذلك ، قرأ ابن كثير «وكأ» بالقصر بوزن «عم» و«كأي» بوزن رمي وبه ، قرأ ابن محيصن «وكيي ء» بتقديم الياء على الهمزة. وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ «وكي» بياء مكسورة من غير همز ولا ألف ولا تشديد و«آية» في موضع التمييز ومِنْ زائدة ، وجر تمييز كأين بها دائمي أو أكثري ، وقيل : هي مبينة للتمييز المقدر ، والمراد من الآية الدليل الدال على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته ، وهي وإن كانت مفردة لفظا لكنها في معنى الجمع أي آيات لمكان كائن ، والمعنى وكأي عدد شئت من الآيات الدالة على صدق ما جئت به غير هذه الآية فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي كائنة فيهما من الاجرام الفلكية وما فيها من النجوم وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما في الأرض من العجائب الفائتة للحصر :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
يَمُرُّونَ عَلَيْها يشاهدونها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ غير متفكرين فيها ولا معتبرين بها ، وفي هذا من تأكيد تعزيه صلى اللّه عليه وسلم وذم القوم ما فيه ، والظاهر أن فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع الصفة - لآية - وجملة يَمُرُّونَ خبر كَأَيِّنْ كما أشرنا إليه سابقا وجوز العكس ، وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد وَالْأَرْضِ بالرفع على أن في السموات هو الخبر - لكأين - وَالْأَرْضِ مبتدأ خبره الجملة بعده ويكون ضمير عَلَيْها للأرض لا للآيات كما في القراءة المشهورة ، وقرأ السدي وَالْأَرْضِ بالنصب على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره يَمُرُّونَ وهو من الاشتغال المفسر بما يوافقه في المعنى وضمير عَلَيْها كما هو فيما قبل أي ويطؤون الأرض يمرون عليها ، وجوز أن يقدر يطؤون ناصبا للأرض وجملة يَمُرُّونَ حال منها أو من ضمير عاملها.
وقرأ عبد اللّه «والأرض» بالرفع و«يمشون» بدل يَمُرُّونَ والمعنى على القراءات الثلاث أنهم يجيئون ويذهبون في الأرض ويرون آثار الأمم الهالكة وما فيها من الآيات والعبر ولا يتفكرون في ذلك.
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ في إقرارهم «1» بوجوده تعالى وخالقيته إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ به سبحانه ، والجملة في موضع الحال من الأكثر أي ما يؤمن أكثرهم إلا في حال إشراكهم. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة : هم أهل مكة آمنوا وأشركوا كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، ومن هنا
كان صلى اللّه عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول : لبيك لا شريك لك يقول له : قط قط
أي يكفيك ذلك ولا تزد إلا شريكا إلخ. وقيل : هم أولئك آمنوا لما غشيهم الدخان في سني القحط وعادوا إلى الشرك بعد كشفه. وعن ابن زيد وعكرمة وقتادة ومجاهد أيضا أن هؤلاء كفار العرب مطلقا أقروا بالخالق الرازق المميت وأشركوا بعبادة الأوثان والأصنام ، وقيل : أشركوا بقولهم : الملائكة بنات اللّه سبحانه. وعن ابن عباس أيضا أنهم أهل الكتاب أقروا باللّه تعالى وأشركوا به من حيث كفروا بنبيه صلى اللّه عليه وسلم أو من حيث عبدوا عزيزا والمسيح عليهما السلام.
وقيل : أشركوا بالتبني واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا. وقيل : هم الكفار الذين يخلصون في الدعاء عند الشدة ويشركون إذا نجوا منها وروي ذلك عن عطاء ، وقيل : هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة. وقيل : هم المنافقون جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر ونسب ذلك للبلخي ، وعن الحبر أنهم المشبهة آمنوا مجملا وكفروا مفصلا. وعن الحسن أنهمالمراءون بأعمالهم والرياء شرك خفي ، وقيل : هم المناظرون إلى الأسباب المعتمدون عليها ، وقيل : هم الذين
___________
(1) اشارة إلى أنه ايمان لساني إذ لا اعتقاد به مع الشرك اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 64
يطيعون الخلق بمعصية الخالق ، وقد يقال نظرا إلى مفهوم الآية : إنهم من يندرج فيهم كل من أقر باللّه تعالى وخالقيته مثلا وكان مرتكبا ما يعد شركا كيفما كان ، ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر ممن اللّه تعالى أعلم بحاله فيها وهم اليوم أكثر من الدود ، واحتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وفيه نظر أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أي عقوبة تغشاهم وتشملهم ، والاستفهام انكار فيه معنى التوبيخ والتهديد كما في البحر ، والكلام في العطف ومحل الاستفهام في الحقيقة مشهور وقد مر غير مرة ، والمراد بهذه العقوبة ما يعم الدنيوية والأخروية على ما قيل. وفي البحر ما هو صريح في الدنيوية للمقابلة بقوله سبحانه : أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فجأة من غير سابقة علامة وهو الظاهر وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانها غير مستعدين لها قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أي هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي كذا قالوا ، والظاهر أنهم أخذوا الدعوة إلى الإيمان من قوله تعالى :
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف : 103] لإفادة أنه يدعوهم إلى الإيمان بجد وحرص وإن لم ينفع فيهم ، والدعوة إلى التوحيد من قوله سبحانه : وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ لدلالته على أن كونه ذكرا لهم لاشتماله على التوحيد لكنهم لا يرفعون له رأسا كسائر آيات الآفاق والأنفس الدالة على توحده تعالى ذاتا وصفات ، وفسر ذلك بقوله تعالى : أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ أي أدعو الناس إلى معرفته سبحانه بصفات كماله ونعوت جلاله ومن جملتها التوحيد فالجملة لا محل لها من الإعراب ، وقيل : إن الجملة في موضع الحال من الياء والعامل فيها معنى الإشارة. وتعقب بأن الحال في مثله من المضاف إليه مخالفة للقواعد ظاهرا وليس ذلك مثل أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل : 123] واعترض أيضا بأن فيه تقييد الشيء بنفسه وليس ذاك عَلى بَصِيرَةٍ أي بيان وحجة واضحة غير عمياء ، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير «أدعو» وزعم أبو حيان أن الظاهر تعلقه - بأدعو - وقوله تعالى : أَنَا تأكيد لذلك الضمير أو للضمير الذي في الحال ، وقوله تعالى : وَمَنِ اتَّبَعَنِي عطف على ذي الحال ، ونسبة أَدْعُوا إليه من باب التغليب كما قرر في قوله تعالى : اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة : 35 ، الأعراف : 19] ومنهم من قدر في مثله فعلا عاملا في المعطوف ولم يعول عليه المحققون ، ومنع عطفه على أَنَا لكونه تأكيدا ولا يصح في المعطوف كونه تأكيدا كالمعطوف عليه.
واعترض بأن ذلك غير لازم كما يقتضيه كلام المحققين ، وجوز كون مَنِ مبتدأ خبره محذوف أي ومن اتبعني كذلك أي داع وأن يكون عَلى بَصِيرَةٍ خبرا مقدما وأَنَا مبتدأ وَمَنِ عطف عليه ، وقوله تعالى : وَسُبْحانَ اللَّهِ أي وأنزهه سبحانه وتعالى تنزيها من الشركاء ، وهو داخل تحت القول وكذا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ في وقت من الأوقات ، والكلام مؤكد لما سبق من الدعوة إلى اللّه تعالى. وقرأ عبد اللّه «قل هذا سبيلي» على التذكير والسبيل تؤنث وقد تذكر وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا رد لقولهم : لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون : 24] ونفي له ، وقيل : المراد نفي استنباء النساء ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وزعم بعضهم أن الآية نزلت «1» في سجاح بنت المنذر المنبئة التي يقول فيها الشاعر :
أمست نبيتنا أنثى نطوف بها ولم تزل أنبياء اللّه ذكرانا
فلعنة اللّه والأقوام كلهم على سجاح ومن بالإفك أغرانا
أعني مسيلمة الكذاب لاسقيت اصداؤه ماء مزن أينما كانا
وهو مما لا صحة له لأن ادعاءها النبوة كان بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم وكونه إخبارا بالغيب لا قرينة عليه نُوحِي إِلَيْهِمْ
___________
(1) وهي تميمية ادعت النبوة ثم أسلمت وحسن إسلامها وقصتها معروفة في التواريخ اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 65
كما أوحينا إليك. وقرأ أكثر السبعة «يوحي» بالياء وفتح الحاء مبنيا للمفعول ، وقراءة النون وهي قراءة حفص وطلحة وأبي عبد الرحمن موافقة لأرسلنا مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأن أهلها كما قال ابن زيد وغيره : وهو مما لا شبهة فيه أعلم وأحلم من أهل البادية ولذا يقال : لأهل البادية أهل الجفاء ، وذكروا أن التبدي مكروه إلا في الفتن ، وفي الحديث «من بدا جفا»
قال قتادة : ما نعلم أن اللّه تعالى أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى ، ونقل عن الحسن أنه قال : لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن ، وقوله تعالى : وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف : 100] قد مر الكلام فيه آنفا.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذبين بالرسل والآيات من قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح وسائر من عذبه اللّه تعالى فيحذروا تكذيبك وروي هذا عن الحسن ، وجوز أن يكون المراد عاقبة الذين من قبلهم من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا ويكفوا عن حبها وكأنه لا حظ المجوز ما سيذكر ، والاستفهام على ما في البحر للتقريع والتوبيخ وَلَدارُ الْآخِرَةِ من إضافة الصفة إلى الموصوف عند الكوفية أي ولا الدار الآخرة وقدر البصري موصوفا أي ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة وهو المختار عند الكثير في مثل ذلك خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي : أَفَلا تَعْقِلُونَ فتستعملوا عقولكم لتعرفوا خيرية دار الآخرة فتتوسلوا إليها بالاتقاء ، قيل : إن هذا من مقول «قل» أي قل لهم مخاطبا أفلا تعقلون فالخطاب على ظاهره ، وقوله سبحانه : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلى مِنْ قَبْلِهِمْ أو اتَّقَوْا اعتراض بين مقول القول ، واستظهر بعضهم كون هذا التفاتا.
وقرأ جماعة يعقلون بالياء رعيا لقوله سبحانه : أَفَلَمْ يَسِيرُوا حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ غاية لمحذوف دل عليه السباق والتقدير عند بعضهم لا يغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فإن من قبلهم قد أمهلوا حتى يئس الرسل من النصر عليهم في الدنيا أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع ، وقال أبو الفرج بن الجوزي : التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس إلخ ، وقال القرطبي : التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم حتى إذا استيأس إلخ ، وقال الزمخشري : التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى النصر حتى إذا إلخ ، ولعل الأول أولى وإن كان فيه كثرة حذف ، والاستفعال بمعنى المجرد كما أشرنا إليه وقد مر الكلام في ذلك وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بالتخفيف والبناء للمفعول وهي قراءة علي كرم اللّه تعالى وجهه وأبي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد ، وطلحة والأعمش ، والكوفيين ، واختلف في توجيه الآية على ذلك فقيل : الضمائر الثلاثة للرسل والظن بمعنى التوهم لا بمعناه الأصلي ولا بمعناه المجازي أعني اليقين وفاعل كُذِبُوا المقدر إما أنفسهم أو رجاؤهم فإنه يوسف بالصدق والكذب أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون أو كذبهم رجاؤهم النصر ، والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من اللّه تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا جاءَهُمْ نَصْرُنا فجأة وقيل : الضمائر كلها للرسل والظن بمعناه وفاعل كُذِبُوا المقدر من أخبرهم عن اللّه تعالى وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، فقد أخرج الطبراني وغيره عن عبد اللّه بن أبي مليكة قال : إن ابن عباس قرأ قَدْ كُذِبُوا مخففة ثم قال : يقول أخلفوا وكانوا بشرا وتلا
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة : 214] قال ابن أبي مليكة : فذهب ابن عباس إلى أنهم يئسوا وضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا وروى ذلك عنه البخاري في الصحيح ، واستشكل هذا بأن فيه ما لا يليق نسبته إلى الأنبياء عليهم السلام بل إلى صالحي الأمة ولذا نقل عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها ذلك ، فقد أخرج البخاري والنسائي وغيرهما من طريق عروة أنه سأل عائشة رضي اللّه تعالى عنها عن هذه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 66
الآية قال : قلت أكذبوا أم كذبوا؟ فقالت عائشة : بل كذبوا يعني بالتشديد قلت : واللّه لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن قالت : أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت : لعله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مخففة قالت : معاذ اللّه تعالى لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت : فما هذه الآية؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاء نصر اللّه تعالى عند ذلك.
وأجاب بعضهم بأنه يمكن أن يكون أراد رضي اللّه تعالى عنه بالظن ما يخطر بالبال ويهجس بالقلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وذهب المجد بن تيمية إلى رجوع الضمائر جميعها أيضا إلى الرسل مائلا إلى ما روي عن ابن عباس مدعيا أنه الظاهر وأن الآية على حد قوله تعالى : إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج : 52] فإن الإلقاء في قلبه وفي لسانه وفي علمه من باب واحد واللّه تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان ، ثم قال : والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما
فقد قال صلى اللّه عليه وسلم : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»
وقال سبحانه : إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم : 28] فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم ، وهذا قد يكون ذنبا يضعف الإيمان ولا يزيله وقد يكون حديث النفس المعفو عنه كما
قال عليه الصلاة والسلام : «إن اللّه تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل»
وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت
في الصحيح أن الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم قالوا : يا رسول اللّه إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمما أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال صلى اللّه عليه وسلم : «أو قد وجدتموه؟ قالوا : نعم. قال : ذلك صريح الإيمان» وفي حديث آخر «إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال : الحمد للّه الذي رد كيده إلى الوسوسة»
ونظير هذا ما
صح من قوله صلى اللّه عليه وسلم : «نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبى»
فسمى النبي صلى اللّه عليه وسلم التفاوت بين الإيمان والاطمئنان شكا بإحياء الموتى ، وعلى هذا يقال : الوعد بالنصر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمنا بإنجازه ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه كذب ، فالشك والظن أنه كذب من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب ، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث ، وفي قص مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلي من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فيتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمن وبذلك يصح الاتساء بالأنبياء ، ومن هنا قال سبحانه : لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ولو كان المتبوع معصوما مطلقا لا يتأتى الاتساء فإنه يقول التابع أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة فإنه يصح حينئذ أمر المتابعة كما قيل : أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم أبو البشر آدم ومن يشابه به فما ظلم. ولا يلزم الاقتداء بهم فيما نهوا عنه ووقع منهم ثم تابوا عنه لتحقق الأمر بالاقتداء بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه ووقع منهم ولم يتوبوا منه ، وما ذكر ليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإذا كان ما أمروا به وأبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة فما لم يؤمروا به ووقع منهم وتابوا عنه أحرى وأولى بانقطاع المتابعة فيه اه.
ولا يخفى أن ما ذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقروا على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 67
ذلك والقول به جهل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم ، على أن في كلامه بعد ما فيه ، وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فإنه ما لا بأس به ، وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر ، وقيل : إن الضمائر الثلاثة للمرسل إليهم لأن ذكر الرسل متقاض ذاك ، ونظير ذلك قوله :
أمنك البرق أرقبه فهاجا وبت أخاله دهما خلاجا
فإن ضمير إخاله للرعد ولم يصرح به بل اكتفى بوميض البرق عنه ، وإن شئت قلت : إن ذكرهم قد جرى في قوله تعالى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيكون الضمير للذين من قبلهم ممن كذب الرسل عليهم السلام ، والمعنى ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوة وفيما وعدوا به من لم يؤمن من العقاب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ، فقد أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي وابن جرير وغيرهم من طرق عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه كان يقرأ «كذبوا» مخففة ويقول : حتى إذا يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم فيما جاؤوا به جاء الرسل نصرنا ، وروي ذلك أيضا عن سعيد بن جبير أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ربيعة بن كلثوم قال : حدثني أبي أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير فقال : يا أبا عبد اللّه آية قد بلغت مني كل مبلغ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فإن الموت أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مثقلة أو تظن أنهم قد كذبوا مخففة فقال سعيد : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبتهم جاءهم نصرنا فقام مسلم إليه فاعتنقه وقال : فرج اللّه تعالى عنك كما فرجت عني ، وروي أنه قال ذلك بمحضر من الضحاك فقال له : لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا ، وقيل : ضمير ظَنُّوا للمرسل إليهم وضمير أَنَّهُمْ وكُذِبُوا للرسل عليهم السلام أي وظنوا أن الرسل عليهم السلام أخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم.
وقرأ غير واحد من السبعة والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وأبو رجاء وابن أبي مليكة والأعرج وعائشة في المشهور كُذِبُوا بالتشديد والبناء للمفعول ، والضمائر على هذا للرسل عليهم السلام أي ظن الرسل أن أممهم كذبوهم فيما جاؤوا به لطول البلاء عليهم فجاءهم نصر اللّه تعالى عند ذلك وهو تفسير عائشة رضي اللّه تعالى عنها الذي رواه البخاري عليه الرحمة ، والظن بمعناه أو بمعنى اليقين أو التوهم ، وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنهم قرؤوا «كذبوا» مخففا مبنيا للفاعل فضمير ظَنُّوا للأمم وضمير أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا للرسل أي ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوهم به من النصر أو العقاب ، وجوز أن يكون ضمير ظَنُّوا للرسل وضمير أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا للمرسل إليهم أي ظن الرسل عليهم السلام أن الأمم كذبتهم فيما وعدوهم به من أنهم يؤمنون ، والظن الظاهر كما قيل : إنه بمعنى اليقين ، وقرئ كما قال أبو البقاء : كُذِبُوا بالتشديد والبناء للفاعل ، وأول ذلك بأن الرسل عليهم السلام ظنوا أن الأمم قد كذبوهم في وعدهم هذا ، والمشهور استشكال الآية من جهة أنها متضمنة ظاهرا على القراءة الأولى ، نسبة ما لا يليق من الظن إلى الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام ، واستشكل بعضهم نسبة الاستيئاس إليهم عليهم السلام أيضا بناء على أن الظاهر أنهم استيأسوا مما وعدوا به وأخبروا بكونه فإن ذلك أيضا مما لا يليق نسبته إليهم. وأجيب بأنه لا يراد ذلك وإنما يراد أنهم استيأسوا من إيمان قومهم.
واعترض بأنه يبعده عطف وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا الظاهر في أنهم ظنوا كونهم مكذوبين فيما وعدوا به عليه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 68
وذكر المجد في هذا المقام تحقيقا غير ما ذكره أولا وهو أن الاستيئاس وظن أنهم مكذوبين كليهما متعلقان بما ضم للموعود به اجتهادا ، وذلك أن الخبر عن استيئاسهم مطلق وليس في الآية ما يدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا بكونه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن اللّه تعالى إذا وعد الرسل بنصر مطلق كما هو غالب اخباراته لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته ، فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق تعالى بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما اعتقد طائفة من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم إخبار النبي صلى اللّه عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به أن ذلك يكون عام الحديبية ، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم خرج معتمرا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى فلما استيئسوا من ذلك ذلك العام لما صدهم المشركون حتى قاضاهم عليه الصلاة والسلام على الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء حتى قال عمر رضي اللّه تعالى عنه مع أنه كان من المحدثين : ألم تخبرنا يا رسول اللّه أنا ندخل البيت ونطوف؟ قال : بلى أفأخبرتك إنك تدخله هذا العام؟ قال : لا. قال : إنك داخله ومطوف به ، وكذلك قال له أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه فبين له أن الوعد منه عليه الصلاة والسلام كان مطلقا غير مقيد بوقت ، وكونه صلى اللّه عليه وسلم سعى في ذلك العام إلى مكة وقصدها لا يوجب تخصيصا لوعده تعالى بالدخول في تلك السنة ، ولعله عليه الصلاة والسلام إنما سعى بناء على ظن أن يكون الأمر كذلك فلم يكن ، ولا محذور في ذلك فليس من شرط النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يكون كل ما قصده ، بل من تمام نعمة اللّه تعالى عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية ، ولا يضر أيضا خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه الصلاة والسلام ،
فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال في تأبير النخل : «إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن اللّه تعالى شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على اللّه تعالى»
ومن ذلك
قوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث ذي اليدين : «ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم تبين النسيان»
وفي قصة الوليد بن عقبة النازل فيها إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات : 6] الآية وقصة بني أبيرق النازل فيها إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء : 105] ما فيه كفاية في العلم بأنه صلى اللّه عليه وسلم قد يظن الشيء فيبينه اللّه تعالى على وجه آخر ، وإذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو - هو - هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام ، ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك لكن لا يقرون عليه فإنه لا شك أن هذا دون الخطأ في ظن ما ليس من الأحكام الشرعية في شيء ، وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال : إن أولئك الرسل عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتا حسبما ظهر لهم كما عين أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الحديبية لدخول مكة فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزما له أصلا فلا محذور.
وأنت تعلم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول حمى ما لا يليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم صلى اللّه عليه وسلم واللّه تعالى أعلم ، والظاهر أن ضمير جاءَهُمْ على سائر القراءات والوجوه للرسل ، وقيل : إنه راجع إليهم وإلى المؤمنين جاء الرسل ومن آمن بهم نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ انجاءه وهم الرسل والمؤمنون بهم ، وإنما لم يعينوا للإشارة إلى أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم.
وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب «فنجّي» بنون واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنه ماض مبني للمفعول ومَنْ نائب الفاعل. وقرأ مجاهد والحسن والجحدري وطلحة وابن هرمز كذلك إلا أنهم سكنوا الياء ، وخرجت على أن الفعل ماض أيضا كما في القراءة التي قبلها إلا أنه سكنت الياء على لغة من يستثقل الحركة على الياء مطلقا ، ومنه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 69
قراءة من قرأ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة : 89] بسكون الياء ، وقيل : الأصل ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم.
ورده أبو حيان بأنها لا تدغم فيها ، وتعقب بأن بعضهم قد ذهب إلى جواز ادغامها ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع ، وقرأت فرقة كما قرأ باقي السبعة بنونين مضارع أنجى إلا أنهم فتحوا الياء ، ورواها هبيرة عن حفص عن عاصم ، وزعم ابن عطية أن ذلك غلط من هبيرة إذ لا وجه للفتح ، وفيه أن الوجه ظاهر ، فقد ذكروا أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبا بإضمار أن بعد الفاء كقراءة من قرأ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ [البقرة : 284] بنصب يغفر ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة.
وقرأ نصر بن عاصم وأبو حيوة وابن السميفع وعيسى البصرة وابن محيصن وكذا الحسن ومجاهد في رواية «فنجا» ماضيا مخففا و«من» فاعله. وروي عن ابن محيصن أنه قرأ كذلك إلا أنه شدد الجيم ، والفاعل حينئذ ضمير النصر و«من» مفعوله. وقد رجحت قراءة عاصم ومن معه بأن المصاحف اتفقت على رسمها بنون واحدة. وقال مكي :
أكثر المصاحف عليه فأشعر بوقوع خلاف في الرسم ، وحكاية الاتفاق نقلت عن الجعبري وابن الجزري وغيرهما ، وعن الجعبري أن قراءة من قرأ بنونين توافق الرسم تقديرا لأن النون الثانية ساكنة مخفاة عند الجيم كما هي مخفاة عند الصاد والظاء في لننصر ولننظر والإخفاء لكونه سترا يشبه الإدغام لكونه تغييبا فكما يحذف عند الإدغام يحذف عند الإخفاء بل هو عنده أولى لمكان الاتصال. وعن أبي حيوة أنه قرأ «فنجّي من يشاء» بياء الغيبة أي من يشاء اللّه تعالى نجاته وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا نزل بهم ، وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين. وقرأ الحسن «بأسه» بضمير الغائب أي بأس اللّه تعالى ، ولا يخفى ما في الجملة من التهديد والوعيد لمعاصري النبي صلى اللّه عليه وسلم لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي قصص الأنبياء عليهم السلام وأممهم ، وقيل :
قصص يوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام وروي ذلك عن مجاهد وقيل : قصص أولئك وهؤلاء ، والقصص مصدر بمعنى المفعول ورجح الزمخشري الأول بقراءة أحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي. وعبد الوارث عن أبي عمرو «قصصهم» بكسر القاف جمع قصة. ورد بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة على أنه قد يطلق الجمع على الواحد ، وفيه أنه كما قيل إلا أنه خلاف المتبادر المعتاد فإنه يقال في مثله قصة لا قصص ، واقتصر ابن عطية على القول الثالث وهو ظاهر في اختياره عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لذوي العقول المبرأة عن الأوهام الناشئة عن الألف والحس. وأصل اللب الخالص من الشيء ثم أطلق على ما زكا من العقل فكل لب عقل وليس كل عقل لبا ، وقال غير واحد : إن اللب هو العقل مطلقا وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه ، ولم يرد في القرآن إلا جمعا ، والعبرة - كما قال الراغب - الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد ، وفي البحر أنها الدلالة التي يعبر بها إلى العلم ما كانَ أي القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة.
واستظهر أبو حيان عود الضمير إلى القصص فيما قبل ، واختار بعضهم الأول لأنه يجري على القراءتين بخلاف عوده إلى المتقدم فإنه لا يجري على قراءة القصص بكسر القاف لأنه كان يلزم تأنيث الضمير ، وجوز بعضهم عوده إلى القصص بالفتح في القراءة به وإليه في ضمن المكسور في القراءة به وكذا إلى المكسور نفسه ، والتذكير باعتبار الخبر وهو كما ترى حَدِيثاً يُفْتَرى أي يختلق وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السماوية وَتَفْصِيلَ أي تبيين كُلِّ شَيْءٍ قيل : أي مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط ، وقال ابن الكمال : إن كُلِّ للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى : وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل : 23] ومن لم يتنبه لهذا احتاج إلى تخصيص الشيء بالذي يتعلق بالدين ثم تكلف في بيانه فقال : إذ ما من أمر إلخ ولم يدر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 70
أن عبارة التفصيل لا تتحمل هذا التأويل ، ورد بأنه متى أمكن حمل كلمة كُلِّ على الاستغراق الحقيقي لا يحمل على غيره ، والتخصيص مما لا بأس به على أنه نفسه قد ارتكب ذلك في تفسير قوله تعالى : وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأنعام : 154 ، الأعراف : 145] وكون عبارة التفصيل لا تتحمل ذلك التأويل في حيز المنع. ومن الناس من حمل «كل» على الاستغراق من غير تخصيص ذاهبا إلى أن في القرآن تبيين كل شيء من أمور الدين والدنيا وغير ذلك مما شاء اللّه تعالى ولكن مراتب التبيين متفاوتة حسب تفاوت ذوي العلم وليس ذلك بالبعيد عند من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وقيل : المراد تفصيل كل شيء واقع ليوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام مما يهتم به وهو مبني على أن الضمير في كانَ لقصصهم وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً ينال بها خير الدارين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون تصديقا معتدا به ، وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك ونصب تَصْدِيقَ على أنه خبر كان محذوفا أي ولكن كان تصديق ، والاخبار بالمصدر لا يخفى أمره.
وقرأ حمران بن أعين ، وعيسى الكوفة فيما ذكر صاحب اللوامح وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية «تصديق» بالرفع وكذا برفع ما عطف عليه على تقدير ولكن هو تصديق إلخ ، وقد سمع من العرب في مثل ذلك الرفع والنصب ، ومنه قول ذي الرمة :
وما كان مالي من تراث ورثته ولا دية كانت ولا كسب مأثم
ولكن عطاء اللّه من كل رحلة إلى كل محجوب السرداق خضرم
فإنه روي بنصب - عطاء - ورفعه ، هذا واللّه تعالى الهادي إلى سوء السبيل.
ومن باب الإشارة في هذه السورة : قال سبحانه : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وهو اقتصاص ما جرى ليوسف عليه السلام وأبيه وإخوته عليهم السلام ، وإنما كان ذلك أحسن القصص لتضمنه ذكر العاشق والمعشوق وذلك مما ترتاح له النفوس أو لما فيه من بيان حقائق محبة المحبين وصفاء سر العارفين والتنبيه على حسن عواقب الصادقين والحث على سلوك سبيل المتوكلين والاقتداء بزهد الزاهدين والدلالة على الانقطاع إلى اللّه تعالى والاعتماد عليه عند نزول الشدائد ، والكشف عن أحوال الخائنين وقبح طرائق الكاذبين ، وابتلاء الخواص بأنواع المحن وتبديلها بأنواع الألطاف والمنن مع ذكر ما يدل على سياسة الملوك وحالهم مع رعيتهم إلى غير ذلك ، وقيل : لخلو ذلك من الأوامر والنواهي التي يشغل سماعها القلب إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ هذه أول مبادئ الكشوف فقد ذكروا أن أحوال المكاشفين أوائلها المنامات فإذا قوي الحال تصير الرؤيا كشفا ، قيل : إنه عليه السلام قد سلك به نحوا مما سلك برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك أنه بدأ بالرؤيا الصادقة كما بدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها فكان لا يرى رؤيا إلا كانت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء على ما يشير إليه قوله : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ كما حبب ذلك إلى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد ، وفيه أن حديث السجن بعد إيتاء النبوة فتدبر.
وذكر بعض الكبار أن يوسف عليه السلام كان آدم الثاني لما كان عليه من كسوة الربوبية ما كان على آدم عليه السلام وهو مجلي الحق للخلق لو يعلمون فلما رأت الملائكة ما رأت من آدم سجدوا له وهاهنا سجد ليوسف من سجد وهم الشمس والقمر والكواكب المعدودة المشار بهم إلى أبويه وإخوته الذين هم على القول بنبوتهم خير من الملائكة عليهم السلام ، ولا بدع إذ سجدوا لمن يتلألأ من وجهه الأنوار القدسية والأشعة السبوحية :
لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لعزة ركعا وسجودا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 71
وقد يقال : إن إبراهيم عليه السلام لما رأى في وجنة الكوكب ونقطة خال القمر وأسرة جبين الشمس أمارات الحدثان وصرف وجهه عنها متوجها إلى ساحة القدم المنزهة عن التغير المصونة عما يوجب النقص قائلا : إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أسجد اللّه تعالى الشمس والقمر وأسجد بدل الكواكب كواكب لبعض بنيه إعظاما لأمره ومبالغة في تنزيه جلال الكبرياء ، وحيث تأخرت البراءة إلى الثالث تأخر أمر الإسجاد إلى ثالث البنين ، وليس المقصود من هذا إلا بيان بعض من أسرار تخصيص المذكور بالإراءة مع احتمال أن يكون هناك ما يصلح أن يكون رؤياه ساجدا معبرا بسجود أبويه واخوته له عليهم السلام في عالم الحس فتدبر. قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فيه إشارة إلى بعض آداب المريدين فقد قالوا : إنه لا ينبغي لهم أن يفشوا سر المكاشفة إلا لشيوخهم وألا يقعوا في ورطة ويكونوا مرتهنين بعيون الغيرة.
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً هذا من الإلهامات المجملة وهي انذارات وبشارات ، ويجوز أن يكون علم عليه السلام ذلك من الرؤيا قال بعضهم : إن يعقوب دبر ليوسف عليهما السلام في ذلك الوقت خوفا عليه فوكل إلى تدبيره فوقع به ما وقع ولو ترك التدبير ورجع إلى التسليم لحفظ لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ وذلك كسواطع نور الحق من وجهه وظهور علم الغيب من قلبه ومزيد الكرم من أفعاله وحسن عقبى الصبر من عاقبته ، وكسوء حال الحاسد وعدم نقض ما أبرمه اللّه تعالى وغير ذلك ، وقال بعضهم : إن من الآيات في يوسف عليه السلام أنه حجة على كل من حسن اللّه تعالى خلقه أن لا يشوهه بمعصيته ومن لم يراع نعمة اللّه تعالى فعصى كان أشبه شيء بالكنيف المبيض والروث المفضض.
وقال ابن عطاء : من الآيات أن لا يسمع هذه القصة محزون مؤمن بها إلا استروح وتسرى عنه ما فيه ، وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قيل : إن ذلك كان بكاء فرح بظفرهم بمقصودهم لكنهم أظهروا أنه بكاء حزن على فقد يوسف عليه السلام ، وقيل : لم يكن بكاء حقيقة وإنما هو تباك من غير عبرة وجاؤوا عشاء ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار أو ليدلسوا على أبيهم ويوهموه أن ذلك بكاء حقيقة لا تباك فإنهم لو جاؤوا ضحى لافتضحوا :
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وهو السكون إلى موارد القضاء سرا وعلنا ، وقال يحيى بن معاذ : الصبر الجميل أن يتلقى البلاء بقلب رحيب ووجه مستبشر ، وقال الترمذي : هو أن يلقى العبد عنانه إلى مولاه ويسلم إليه نفسه مع حقيقة المعرفة فإذا جاء حكم من أحكامه ثبت له مسلما ولا يظهر لوروده جزعا ولا يرى لذلك مغتما ، وأنشد الشبلي في حقيقة الصبر.
عبرات خططن في الخد سطرا فقراه من لم يكن قط يقرا
صابر الصبر فاستغاث به الصب ر فصاح المحب بالصبر صبرا
قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ قال جعفر : كان للّه تعالى في يوسف عليه السلام سر فغطى عليهم موضع سره ولو كشف للسيارة عن حقيقة ما أودع في ذلك البدر الطالع من برج دلوهم لما اكتفى قائلهم بذلك ولما اتخذوه بضاعة ، ولهذا لما كشف للنسوة بعض الأمر قلن : ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ولجهلهم أيضا بما أودع فيه من خزائن الغيب باعوه بثمن بخس وهو معنى قوله سبحانه : وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ قال الجنيد قدس سره : كل ما وقع تحت العد والإحصاء فهو بخس ولو كان جميع ما في الكونين فلا يكن حظك البخس من ربك فتميل إليه وترضى به دون ربك جل جلاله ، وقال ابن عطاء : ليس ما باع اخوة يوسف من نفس لا يقع عليها البيع بأعجب من بيع نفسك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 72
بأدنى شهوة بعد أن بعتها من ربك بأوفر الثمن قال اللّه تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية فبيع ما تقدم بيعه باطل. وإنما باع يوسف أعداؤه وأنت تبيع نفسك من أعدائك وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ قيل : أي لا تنظري إليه نظر الشهوة فإن وجهه مرآة تجلي الحق في العالم ، أو لا تنظري إليه بنظر العبودية ولكن انظري إليه بنظر المعرفة لترى فيه أنوار الربوبية أو اجعلي محبته في قلبك لا في نفسك فإن القلب موضع المعرفة والطاعة والنفس موضع الفتنة والشهوة عَسى أَنْ يَنْفَعَنا قيل : أي بأن يعرفنا منازل الصديقين ومراتب الروحانيين ويبلغنا ببركة صحبته إلى مشاهدة رب العالمين ، وقيل : أراد حسنى صحبته في الدنيا لعله أن يشفع لنا في العقبى وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها حيث غلب عليها العشق وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قطعت الأسباب وجمعت الهمة إليه أو غلقت أبواب الدار غيرة أن يرى أحد أسرارهما وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ قال ابن عطاء : هم شهوة وَهَمَّ بِها هم زجر عما همت به بضرب أو نحوه لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وهو الواعظ الإلهي في قلبه كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والخواطر الرديئة وَالْفَحْشاءَ الأفعال القبيحة ، وقيل : البرهان هو أنه لم يشاهد في ذلك الوقت إلا الحق سبحانه وتعالى ، وقيل : هو مشاهدة أبيه يعقوب عليه السلام عاضا على سبابته ، وجعل ذلك بعض أجلة مشايخنا أحد الأدلة على أن للرابطة المشهورة عند ساداتنا النقشبندية أصلا أصيلا وهو على فرض صحته بمراحل عن ذلك وَاسْتَبَقَا الْبابَ فرارا من محل الخطر : قيل : لو فر إلى اللّه تعالى لكفاه ولما ناله بعد ما عناه وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً نفت عن نفسها الذنب لأنها علمت إذ ذاك أنها لو بينت الحق لقتلت وحرمت من حلاوة محبة يوسف
والنظر إلى وجهه.
لحبك أحببت البقاء لمهجتي فلا طال إن أعرضت عني بقائيا
وإنما عرضت بنسبة الذنب إليه لعلمها بأنه عليه السلام لم يبق في البؤس ولا يقدر أحد على أن يؤذيه لما أن وجهه سالب القلوب وجالب الأرواح.
له في طرفه لحظات سحر يميت بها ويحيي من يريد
ويسبي العالمين بمقلتيه كأن العالمين له عبيد
وقال ابن عطاء : إنها إذ ذاك لم تستغرق في محبته بعد فلذا لم تخبر بالصدق وآثرت نفسها عليه ولهذا لما استغرقت في المحبة آثرت نفسه على نفسها فقالت : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ الآية ، ثم إنه عليه السلام لم يسعه بعد تهمتها له إلا الذب عن ساحة النبوة التي هي أمانة اللّه تعالى العظمى فقال : هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وإلا فاللائق بمقام الكرم السكوت عن جوابها لئلا يفضحها ، وقيل : إنها لما ادعت محبة يوسف وتبرأت منها عند نزول البلاء أراد يوسف عليه السلام أن يلزمها ملامة المحبة فإن الملامة شعار المحبين ومن لم يكن ملوما في العشق لم يكن متحققا فيه إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ عظم كيدهن لأنهن إذا ابتلين بالحب أظهرن مما يجلب القلب ما يعجز عنه إبليس مع مساعدة الطبيعة إلى الميل إليهن وقوة المناسبة بين الرجال وبينهن كما يشير إليه قوله تعالى : خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء : 1] فما في العالم فتنة أضر على الرجال من النساء قَدْ شَغَفَها حُبًّا قال الجنيد قدس سره : الشغف أن لا يرى المحب جفاء له جفاء بل يراه عدلا منه ووفاء.
وتعذيبكم عذب لدي وجوركم علي بما يقضي الهوى لكم عدل
إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال ابن عطاء : في عشق مزعج فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ عظمنه لما رأين في وجهه نور الهيبة وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ لاستغراقهن في عظمته وجلاله ، ولعله كشف لهن ما لم يكشف لزليخا ، قال ابن عطاء :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 73
دهشن في يوسف وتحيرن حتى قطعن أيديهن ولم يشعرن بالألم وهذه غلبة مشاهدة مخلوق لمخلوق فكيف بمن يحظى بمشاهدة من الحق فينبغي أن لا ينكر عليه إن تغير وصدر عنه ما صدر ، وأعظم من يوسف عليه السلام في هذا الباب عند ذوي الأبصار السليمة النور المحمدي المنقدح من النور الإلهي والمتشعشع في مشكاة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام فإنه لعمري أبو الأنوار ، وما نور يوسف بالنسبة إلى نوره عليه الصلاة والسلام إلا النجم وشمس النهار.
لواحى زليخا لو رأين جبينه لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي
وقلن : ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قلن ذلك إعظاما له عليه السلام من أن يكون من النوع الإنساني ،
قال محمد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما : أردن ما هذا بأهل أن يدعى إلى المباشرة
بل مثله من يكرم وينزه عن مواضع الشبه والأول أوفق بقولها : فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أرادت أن لو مكن لم يقع في محزه وكيف يلام من هذا محبوبه ، وكأنها أشارت إلى أنها مجبورة في ذلك الوله معذورة في مزيد حبها له :
خليلي إني قلت بالعدل مرة ومنذ علاني الحب مذهبي الجبر
وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن اللوم لا يصدر إلا عن خلي ، ولذا لم تعاتبهن حتى رأت ما صنع الهوى بهن وما أحسن ما قيل :
وكنت إذا ما حدث الناس بالهوى ضحكت وهم يبكون في حسرات
فصرت إذا ما قيل هذا متيم تلقيتهم بالنوح والعبرات
وقال سلطان العاشقين :
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى فإذا عشقت فبعد ذلك عنف
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ قيل : لأن السجن مقام الانس والخلوة والمناجاة والمشاهدات والمواصلات وفيما يدعونه إليه ما يوجب البعد عن الحضرة والحجاب عن مشاهدة القربة ، وقيل : طلب السجن ليحتجب عن زليخا فيكون ذلك سببا لازدياد عشقها وانقلابه روحانيا قدسيا كعشق أبيه له ، وقال ابن عطاء : ما أراد عليه السلام بطلب ذلك إلا الخلاص من الزنا ولعله لو ترك الاختيار لعصم من غير امتحان كما عصم في وقت المراودة ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ قال أبو علي : أحسن الناس حالا من رأى نفسه تحت ظل الفضل والمنة لا تحت ظل العمل والسعي يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ دعاء إلى التوحيد على أتم وجه ، وحكي أن رجلا قال للفضيل : عظني فقرأ له هذه الآية وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ كان ذلك على ما قيل غفلة منه عليه السلام عما يقتضيه مقامه ويشير إليه كلامه ، ولهذا أدبه ربه باللبث في السجن ليبلغ أقصى درجات الكمال والأنبياء مؤاخذون بمثاقيل الذر لمكانتهم عند ربهم ، وقد يحمل كلامه هذا على ما لا يوجب العتاب كما ذهب إليه بعض ذوي الألباب يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ قال أبو حفص : الصديق من لا يتغير عليه باطن أمره من ظاهره ، وقيل : الذي لا يخالف قاله حاله ، وقيل : الذي يبذل الكونين في رضا محبوبه وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إشارة إلى أن النفس بطبعها كثيرة الميل إلى الشهوات قال أبو حفص :
النفس ظلمة كلها وسراجها التوفيق فمن لم يصحبه التوفيق كان في ظلمة ، وقد تخفى دسائس النفس إلى حيث تأمر بخير وتضمر فيه شرا ولا يفطن لدسائسها إلا لوذعي :
فخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
وذكر بعض السادة أن النفس تترقى بواسطة المجاهدة والرياضة من مرتبة كونها أمارة إلى مرتبة أخرى من كونها

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 74
لوامة وراضية ومرضية ومطمئنة وغير ذلك وجعلوا لها في كل مرتبة ذكرا مخصوصا وأطنبوا في ذلك فليرجع إليه قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ قيل : خزائن الأرض رجالها أي اجعلني عليهم أمينا فإني حفيظ لما يظهرونه ، عليم بما يضمرونه ، وقيل : أراد الظاهر إلا أنه أشار إلى أنه متمكن من التصرف مع عدم الغفلة أي حفيظ للأنفاس بالذكر وللخواطر بالفكر ، عليم بسواكن الغيوب وخفايا الأسرار وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال بعضهم : لما جفوه صار جفاؤهم حجابا بينهم وبين معرفتهم إياه وكذلك المعاصي تكون حجابا على وجه معرفة اللّه تعالى قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ كأنه عليه السلام أمر بذلك ليكمل لأبيه عليه السلام مقام الحزن الذي هو كما قال الشيخ الأكبر قدس سره : من أعلى المقامات ، وقال بعضهم : إن علاقة المحبة كانت بين يوسف ويعقوب عليهما السلام من الجانبين فتعلق أحدهما بالآخر كتعلق الآخر به كما يرى ذلك في بعض العشاق مع من يعشقونه وأنشدوا :
لم يكن المجنون في حالة إلا وقد كنت كما كانا
لكنه باح بسر الهوى وإنني قد ذبت كتمانا
فغار عليه السلام أن ينظر أبوه إلى أخيه نظره إليه فيكونا شركين في ذلك والمحب غيور فطلب أن يأتوه به لذلك ، والحق أن الأمر كان عن وحي لحكمة غير هذه وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ إشارة إلى العلم اللدني وهو على نوعين. ظاهر الغيب وهو علم دقائق المعاملات والمقامات والحالات والكرامات والفراسات ، وباطن الغيب وهو علم بطون الأفعال ويسمى حكمة المعرفة ، وعلم الصفات ويسمى المعرفة الخاصة ، وعلم الذات ويسمى التوحيد والتفريد والتجريد ، وعلم أسرار القدم ويسمى علم الفناء والبقاء ، وفي الأولين للروح مجال وفي الثالث للسر والرابع لسر السر ، وفي المقام تفصيل وبسط يطلب من محله. وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ كأنه عليه السلام إنما فعل ذلك ليعرفه الحال بالتدريج حتى يتحمل أثقال السرور إذ المفاجأة في مثل ذلك ربما تكون سبب الهلاك ، ومن هنا كان كشف سجف الجمال للسالكين على سبيل التدريج فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ قيل : إن اللّه تعالى أمره بذلك ليكون شريكا لإخوته في الإيذاء بحسب الظاهر فلا يخجلوا بين يديه إذا كشف الأمر ، وحيث طلب قلب بنيامين برؤية يوسف احتمل الملامة ، وكيف لا يحتمل ذلك وبلاء العالم محمول بلمحة رؤية المعشوق ، والعاشق الصادق يؤثر الملامة ممن كانت في هوى محبوبه.
أجد الملامة في هواك لذيذة حبا لذكرك فليلمني اللوم
وفي الآية - على ما قيل - إشارة لطيفة إلى أن من اصطفاه اللّه تعالى في الأزل لمحبته ومشاهدته وضع في رحله صاع ملامة الثقلين ، ألا ترى إلى ما فعل بآدم عليه السلام صفيه كيف اصطفاه ثم عرض عليه الأمانة التي لم يحملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها فحملها ثم هيج شهوته إلى حبة حنطة ثم نادى عليه بلسان الأزل وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه : 121] وذلك لغاية حبه له حتى صرفه عن الكون وما فيه ومن فيه إليه ولولا أن كشف جماله له لم يتحمل بلاء الملامة ، وهذا كما فعل يوسف عليه السلام بأخيه آواه إليه وكشف جماله له وخاطبه بما خاطبه ثم جعل السقاية في رحله ثم نادى عليه بالسرقة ليبقيه معه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي نرفع درجاتهم في العلم فلا يزال السالكون يترقون في العلم وتشرب أطيار أرواحهم القدسية من بحار علومه تعالى على مقادير حواصلها ، وتنتهي الدرجات بعلم اللّه تعالى فإن علوم الخالق محدودة وعلمه تعالى غير محدود وإلى اللّه تعالى تصير الأمور قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ قال بعض السادات : لما كان بنيامين بريئا مما

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 75
رمي به من السرقة أنطقهم اللّه تعالى حتى رموا يوسف عليه السلام بالسرقة وهو بريء منها فكان ذلك من قبيل واحدة بواحدة ليعلم العالمون أن الجزاء واجب.
وقال بعض العارفين : إنهم صدقوا بنسبة السرقة إلى يوسف عليه السلام ولكنها سرقة الباب العاشقين وأفئدة المحبين بما أودع فيه من محاسن الأزل قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ الإشارة في ذلك من الحق عز وجل أن لا نفشي أسرارنا وندني إلى حضرتنا إلا من كان في قلبه استعداد قبول معرفتنا أو لا نختار لكشف جمالنا إلا من كان في قلبه شوق إلى وصالنا ، وقال بعض الخراسانيين : الإشارة فيه أنا لا نأخذ من عبادنا أشد أخذ إلا من ادعى فينا أو أخبر عنا ما لم يكن له الاخبار عنه والادعاء فيه ، وقال بعضهم : إلا من مد يده إلى ما لنا وادعاه لنفسه ، وقال أبو عثمان : الإشارة أنا لا نتخذ من عبادنا وليا إلا من ائتمناه على ودائعنا فحفظها ولم يخن فيها ، ولطيفة الواقعة أنه عليه السلام لم يرض أن يأخذ بدل حبيبه إذ ليس للحبيب بديل في شرع المحبة.
أبى القلب إلا حب ليلى فبغضت إلي نساء ما لهن ذنوب
إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ قال بعضهم : إنهم صدقوا بذلك لكنه سرق أسرار يوسف عليه السلام حين سمع منه في الخلوة ما سمع ولم يبده لهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ كأنه عليه السلام لما رأى اشتداد البلاء قوي رجاؤه بالفرج فقال ما قال :
اشتدى أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
وكان لسان حاله يقول :
دنا وصال الحبيب واقتربا وا طربا للوصال وا طرابا
وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ قال بعض العارفين : إن تأسفه على رؤية جمال اللّه تعالى من مرآة وجه يوسف عليه السلام وقد تمتع بذلك برهة من الزمان حتى حالت بينه وبينه طوارق الحدثان فتأسف عليه السلام لذلك واشتاقت نفسه لما هنالك :
سقى اللّه أياما لنا ولياليا مضت فجرت من ذكرهن دموع
فيا هل لها يوما من الدهر أوبة وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ حيث بكى حتى أضر بعينيه وكان ذلك حتى لا يرى غير حبيبه.
لما تيقنت أني لست أبصركم غمضت عيني فلم أنظر إلى أحد
قال بعض العارفين : الحكمة في ذهاب بصر يعقوب وبقاء بصر آدم وداود عليهما السلام مع أنهما بكيا دهرا طويلا أن بكاء يعقوب كان بكاء حزن معجون بألم الفراق حيث فقد تجلي جمال الحق من مرآة وجه يوسف ولا كذلك بكاء آدم وداود فإنه كان بكاء الندم والتوبة وأين ذلك المقام من مقام العشق. وقال أبو سعيد القرشي : إنما لم يذهب بصرهما لأن بكاءهما كان من خوف اللّه تعالى فحفظا وبكاء يعقوب كان لفقد لذة فعوتب ، وقيل : يمكن أن يكون ذهاب بصره عليه السلام من غيرة اللّه تعالى عليه حين بكى لغيره وإن كان واسطة بينه وبينه ، ولهذا جاء أن اللّه تعالى أوحى إليه يا يعقوب أتتأسف على غيري وعزتي لآخذن عينيك ولا أردهما عليك حتى تنساه ، واختار بعض العارفين أن ذلك الأسف والبكاء ليسا إلا لفوات ما انكشف له عليه السلام من تجلي اللّه تعالى في مرآة وجه يوسف عليه السلام ، ولعمري إنه لو كان شاهد تجليه تعالى في أول التعنيات وعين أعيان الموجودات صلى اللّه عليه وسلم لنسي ما رأى ولما عراه ما عرا وللّه تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 76
لو أسمعوا يعقوب بعض ملاحة في وجهه نسي الجمال اليوسفي
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ هذا من الجهل بأحوال العشق وما عليه العاشقون فإن العاشق يتغذى بذكر معشوقه :
فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها فلن تمنعوا مني البكا والقوافيا
وإذا لم يستطع ذكره بلسانه كان مستغرقا بذكره إياه بجنانه :
غاب وفي قلبي له شاهد يولع إضماري بذكراه
مثلت الفكرة لي شخصه حتى كأني أتراءاه
وكيف يخوف العاشق بالهلاك في عشق محبوبه وهلاكه عين حياته كما قيل :
ولكن لدى الموت فيه صبابة حياة لمن أهوى علي بها الفضل
ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
أي أنا لا أشكو إلى غيره فإني أعلم غيرته سبحانه وتعالى على أحبابه وأنتم لا تعلمون ذلك ، وأيضا من انقطع إليه تعالى كفاه ومن أناخ ببابه أعطاه ، وأنشد ذو النون :
إذا ارتحل الكرام إليك يوما ليلتمسوك حالا بعد حال
فإن رحالنا حطت رضاء بحكمك عن حلول وارتحال
فسسنا كيف شئت ولا تكلنا إلى تدبيرنا يا ذا المعالي
وعلى هذا درج العاشقون إذا اشتد بهم الحال فزعوا إلى الملك المتعال ، ومن ذلك :
إلى اللّه أشكو ما لقيت من الهجر ومن كثرة البلوى ومن ألم الصبر
ومن حرق بين الجوانح والحشا كجمر الغضا لا بل أحر من الجمر
وقد يقال : إنه عليه السلام إنما رفع قصة شكواه إلى عالم سره ونجواه استرواحا مما يجده بتلك المناجاة كما قيل :
إذا ما تمنى الناس روحا وراحة تمنيت أن أشكو إليه فيسمع
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ كأنه عليه السلام تنسم نسائم الفرج بعد أن رفع الأمر إلى مولاه عز وجل فقال ذلك : وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ من رحمته بإرجاعهما إلي أو من رحمته تعالى بتوفيق يوسف عليه السلام برفع خجالتكم إذا وجدتموه قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ أرادوا ضر المجاعة ولو أنهم علموا وأنصفوا لقصدوا ضر فراقك فإنه قد أضر بأبيهم وبهم وبأهلهم لو يعلمون :
كفى حزنا بالواله الصب أن يرى منازل من يهوى معطلة قفرا
واعلم أن فيما قاله إخوة يوسف له عليه السلام من هنا إلى الْمُتَصَدِّقِينَ تعليم آداب الدعاء والرجوع إلى الأكابر ومخاطبة السادات فمن لم يرجع إلى باب سيده بالذلة والافتقار وتذليل النفس وتصغير ما يبدو منها ويرى أن ما من سيده إليه على طريق الصدقة والفضل لا على طريق الاستحقاق كان مبعدا مطرودا ، وينبغي لعشاق جمال القدم إذا دخلوا الحضرة أن يقولوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا من ضر فراقك والبعد عن ساحة وصالك ما لا يحتمله الصم الصلاب.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 77
خليلي ما ألقاه في الحب إن يدم على صخرة صماء ينفلق الصخر
ويقولوا : جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ من أعمال معلولة وأفعال مغشوشة ومعرفة قليلة لم تحط بذرة من أنوار عظمتك وكل ذلك لا يليق بكمال عزتك وجلال صمديتك فَأَوْفِ لَنَا كيل قربك من بيادر جودك وفضلك وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا بنعم مشاهدتك فإنه إذا عومل المخلوق بما عومل فمعاملة الخالق بذلك أولى قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ خاطبوه بعد المعرفة بخطاب المودة لا بخطاب التكلف ، وفيه من حسن الظن فيه عليه السلام ما فيه.
إذا صفت المودة بين قوم ودام ولاؤهم سمج الثناء
ويمكن أن يقال : إنهم لما عرفوه سقطت عنهم الهيبة وهاجت الحمية فلم يكلموه على النمط الأول ، وقوله :
قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي جواب لهم لكن زيادة وَهذا أَخِي قيل : لتهوين حال بديهة الخجل ، وقيل : للإشارة إلى أن إخوتهم لا تعد اخوة لأن الاخوة الصحيحة ما لم يكن فيها جفاء ، ثم إنه عليه السلام لما رأى اعترافهم واعتذارهم قال : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وهذا من شرائط الكرم فالكريم إذا قدر عفا :
والعذر عند كرام الناس مقبول وقال شاه الكرماني : من نظر إلى الخلق بعين الحق لم يعبأ بمخالفتهم ومن نظر إليهم بعينه أفنى أيامه بمخاصمتهم ، ألا ترى يوسف عليه السلام لما علم مجاري القضاء كيف عذر اخوته اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً لما علم عليه السلام أن أباه عليه السلام لا يحتمل الوصال الكلي بالبديهة جعل وصاله بالتدريج فأرسل إليه بقميصه ، ولما كان مبدأ الهم الذي أصابه من القميص الذي جاؤوا عليه بدم كذب عين هذا القميص مبدأ للسرور دون غيره من آثاره عليه السلام ليدخل عليه السرور من الجهة التي دخل عليه الهم منها وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ كان كرم يوسف عليه السلام يقتضي أن يسير بنفسه إلى أبيه ولعله إنما لم يفعل لعلمه أن ذلك يشق على أبيه لكثرة من يسير معه ولا يمكن أن يسير إليه بدون ذلك أو لأن في ذلك تعطل أمر العامة وليس هناك من يقوم به غيره ، ويحتمل أن يكون أوحى إليه بذلك لحكمة أخرى ، وقيل : إن المعشوقية اقتضت ذلك ، ومن رأى معشوقا رحيما بعاشقه؟ ، وفيه ما لا يخفى وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ يقال : إن ريح الصبا سألت اللّه تعالى فقالت : يا رب خصني أن أبشر يعقوب عليه السلام بابنه فأذن لها بذلك فحملت نشره إلى مشامه عليه السلام وكان ساجدا فرفع رأسه وقال ذلك وكان لسان حاله يقول :
أيا جبلي نعمان باللّه خليا نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت على نفس مهموم تجلت همومها
وهكذا عشاق الحضرة لا يزالون يتعرضون لنفحات ريح وصال الأزل ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات الرحمن»
ويقال : المؤمن المتحقق يجد نسيم الإيمان في قلبه وروح المعرفة السابقة له من اللّه تعالى في سره ، وإنما وجد عليه السلام هذا الريح حيث بلغ الكتاب أجله ودنت أيام الوصال وحان تصرم أيام الهجر والبلبال وإلا فلم لم يجده عليه السلام لما كان يوسف في الجب ليس بينه وبينه إلا سويعة من نهار وما ذلك إلا لأن الأمور مرهونة بأوقاتها ، وعلى هذا كشوفات الأولياء فإنهم آونة يكشف لهم على ما قيل اللوح المحفوظ ، وأخرى لا يعرفون ما تحت أقدامهم فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً فيه إشارة إلى

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 78
أن العاشق الهائم المنتظر لقاء الحق سبحانه إذا ذهبت عيناه من طول البكاء يجيء إليه بشير تجليه فيلقي عليه قميص أنسه في حضرات قدسه فيرتد بصيرا بشم ذلك فهنالك يرى الحق بالحق وينجلي الغين عن العين ، ويقال : إنه عليه السلام إنما ارتد بصيرا حين وضع القميص على وجهه لأنه وجد لذة نفحة الحق تعالى منه حيث كان يوسف عليه السلام محل تجليه جل جلاله وكان القميص معبقا بريح جنان قدسه فعاد لذلك نور بصره عليه السلام إلى مجاريه فأبصر قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعدهم إلى أن يتعرف منهم صدق التوبة أو حتى يستأذن ربه تعالى في الاستغفار لهم فيأذن سبحانه لئلا يكون مردودا فيه كما رد نوح عليه السلام في ولده بقوله تعالى :
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وقال بعضهم : وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ بعد من استبشاره إلى استغفاره ، وقيل : إنما أسرع يوسف بالاستغفار لهم ووعد يعقوب عليهما السلام لأن يعقوب كان أشد حبا لهم فعاتبهم بالتأخير ويوسف لم يرهم أهلا للعتاب فتجاوز عنهم من أول وهلة أو اكتفى بما أصابهم من الخجل وكان خجلهم منه أقوى من خجلهم من أبيهم ، وفي المثل كفى للمقصر حياء يوم اللقاء فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ لأنهما ذاقا طعم مرارة الفراق فخصهما من بينهم بمزيد الدنو يوم التلاق ، ومن هنا يتبين أين منازل العاشقين يوم الوصال وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً حيث بان لهم أنواع جلال اللّه تعالى في مرآة وجهه عليه السلام وعاينوا ما عاينت الملائكة عليهم السلام من آدم عليه السلام حين وقعوا له ساجدين ، وما هو إذ ذاك إلا كعبة اللّه تعالى التي فيها آيات بينات مقام إبراهيم رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً مفوضا إليك شأني كله بحيث لا يكون لي رجوع إلى نفسي ولا إلى سبب من الأسباب بحال من الأحوال وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بمن أصلحتهم لحضرتك وأسقطت عنهم سمات الخلق وأزلت عنهم رعونات الطبع ، ولا يخفى ما في تقديمه عليه السلام الثناء على الدعاء من الأدب وهو الذي يقتضيه المقام وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال غير واحد من الصوفية : من التفت إلى غير اللّه تعالى فهو مشرك ، وقال قائلهم :
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ بيان من اللّه تعالى وعلم لا معارضة للنفس والشيطان فيه أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وذكر بعض العارفين أن البصيرة أعلى من النور لأنها لا تصح لأحد وهو رقيق الميل إلى السوي ، وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى اللّه تعالى أن يكون عارفا بطريق الإيصال إليه سبحانه عالما بما يجب له تعالى وما يجوز وما يمتنع عليه جل شأنه ، والدعاة إلى اللّه تعالى اليوم من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم إلى الإرشاد بزعمهم أجهل من حمار الحكيم توما ، وهم لعمري في ضلالة مدلهمة ومهامه يحار فيها الخريت وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ وهم ذوو الأحوال من العارفين والعاشقين والصابرين والصادقين وغيرهم ، وفيها أيضا عبرة للملوك في بسط العدل كما فعل يوسف عليه السلام ، ولأهل التقوى في ترك ما تراودهم النفس الشهوانية عليه ، وللمماليك في حفظ حرم السادة ، ولا أحد أغير من اللّه تعالى ولذلك حرم الفواحش ، وللقادرين في العفو عمن أساء إليهم ولغيرهم في غير ذلك ولكن أين المعتبرون؟ أشباح ولا أرواح وديار ولا ديار فإنا للّه وإنا إليه راجعون هذا.
وقد أول بعض الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم يوسف بالقلب المستعد الذي هو في غاية الحسن ، ويعقوب بالعقل والاخوة بني العلات بالحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والقوة الشهوانية ، وبنيامين بالقوة العاقلة العملية ، وراحيل أم يوسف بالنفس اللوامة ، وليا بالنفس الأمارة ، والجب بقعر الطبيعة البدنية ، والقميص الذي ألبسه يوسف في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 79
الجب بصفة الاستعداد الأصلي والنور الفطري ، والذئب بالقوة الغضبية ، والدم الكذب بأثرها ، وابيضاض عين يعقوب بكلال البصيرة وفقدان نور العقل ، وشراؤه من عزيز مصر بثمن بخس بتسليم الطبيعة له إلى عزيز الروح الذي في مصر مدينة القدس بما يحصل للقوة الفكرية من المعاني الفائضة عليها من الروح ، وامرأة العزيز بالنفس اللوامة ، وقد القميص من دبر بخرقها لباس الصفة النورية التي هي من قبل الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة ، ووجدان السيد بالباب بظهور نور الروح عند إقبال القلب إليه بواسطة تذكر البرهان العقلي وورود الوارد القدسي عليه ، والشاهد بالفكر الذي هو ابن عم امرأة العزيز أو بالطبيعة الجسمانية الذي هو ابن خالتها ، والصاحبين بقوة المحبة الروحية وبهوى النفس ، والخمر بخمر العشق ، والخبز باللذات ، والطير بطير القوى الجسمانية ، والملك بالعقل الفعال ، والبقرات بمراتب النفس ، والسقاية بقوة الإدراك ، والمؤذن بالوهم إلى غير ذلك ، وطبق القصة على ما ذكر وتكلف له أشد تكلف وما أغناه عن ذلك واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 80
سورة الرّعد
جاء من طريق مجاهد عن ابن عباس. وعلي بن أبي طلحة أنها مكية ، وروي ذلك عن سعيد بن جبير قال سعيد ابن منصور في سننه : حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال : سألت ابن جبير عن قوله تعالى : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد : 39] هل هو عبد اللّه بن سلام؟ فقال : كيف وهذه السورة مكية. وأخرج مجاهد عن ابن الزبير ، وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس ، ومن طريق ابن جريج. وعثمان عن عطاء عنه ، وأبو الشيخ عن قتادة أنها مدنية إلا أن في رواية الأخير استثناء قوله تعالى : وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرعد : 31] الآية فإنها مكية ، وروي أن أولها إلى آخر وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً [الرعد : 31]. الآية مدني وباقيها مكي. وفي الإتقان يؤيد القول بأنها مدنية ما أخرجه الطبراني وغيره عن أنس أن قوله تعالى : اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [الرعد : 8] إلى قوله سبحانه : وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [الرعد : 13] نزل في قصة أربد بن قيس وعامر بن الطفيل حين قدما المدينة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قال :
والذي يجمع به بين الاختلاف أنها مكية إلا آيات منها ، وهي ثلاث وأربعون آية في الكوفي ، وأربع في المدني ، وخمس في البصري ، وسبع في الشامي. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه قال فيما تقدم : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف : 105] فأجمل سبحانه الآيات السماوية والأرضية ثم فصل جل شأنه ذلك هنا أتم تفصيل ، وأيضا أنه تعالى قد أتى هنا مما يدل على توحيده عز وجل ما يصلح شرحا لما حكاه عن يوسف عليه السلام من قوله : أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف : 39] وأيضا في كل من السورتين ما فيه تسلية له صلى اللّه عليه وسلم ، هذا مع اشتراك آخر تلك السورة وأول هذه فيما فيه وصف القرآن كما لا يخفى. وجاء في فضلها ما أخرجه ابن أبي شيبة. والمروزي في الجنائز أنه كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه ، وجاء في ذلك أخبار أخر نصوا على وضعها واللّه تعالى أعلم.
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 إلى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 81

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 82
المر أخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن عباس أن معنى ذلك أنا اللّه أعلم وأرى وهو أحد أقوال مشهورة في مثل ذلك تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ جعل غير واحد الكتاب بمعنى السورة وهو بمعنى المكتوب صادق عليها من غير اعتبار تجوز ، والإشارة إلى آياتها باعتبار أنها لتلاوة بعضها والبعض الآخر في معرض التلاوة صارت كالحاضرة أو لثبوتها في اللوح أو مع الملك ، والمعنى تلك الآيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ، واستفيد هذا على ما قيل من اللام ، وذلك أن الإضافة بيانية فالمآل ذلك الكتاب ، والخبر إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة وأن هذا المحكوم عليه اكتسب من الفضيلة ما يوجب جعله نفس الجنس وأنه ليس نوعا من أنواعه. وحيث إنه في الظاهر كالممتنع أريد ذلك.
وجوز أن يكون المراد بالكتاب القرآن ، وتِلْكَ إشارة إلى آيات السورة ، والمعنى آيات هذه السورة آيات القرآن الذي هو الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف بذلك المعروف به من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب ، والظاهر أن المراد جميعه. وجوز أن يراد به المنزل حينئذ ، ورجح إرادة القرآن بأنه المتبادر من مطلق الكتاب المستغني عن النعت وبه يظهر جميع ما أريد من وصف الآيات بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمال بخلاف ما إذا جعل عبارة عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف وفيه بحث ، وأيّا ما كان فلا محذور في حمل آيات الكتاب على تلك كما لا يخفى ، وقيل : الإشارة - بتلك - إلى ما قص سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام من أنباء الرسل عليهم السلام المشار إليها في آخر السورة المتقدمة بقوله سبحانه :
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ [يوسف : 102] وجوز على هذا أن يراد بالكتاب ما يشمل التوراة والإنجيل ، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد. وقتادة.
وجوز ابن عطية هذا على تقدير أن تكون الإشارة إلى - المر - مرادا بها حروف المعجم أيضا وجعل ذلك مبتدأ أولا وتِلْكَ مبتدأ ثانيا وآياتُ خبره والجملة خبر الأول والرابط اشارة ، وأما قوله سبحانه وتعالى : وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فالظاهر أن الموصول فيه مبتدأ وجملة أُنْزِلَ من الفعل ومرفوعه صلته ومِنْ رَبِّكَ متعلق - بأنزل - والْحَقُّ خبر ، والمراد بالموصول عند كثير القرآن كله والكلام استدراك على وصف السورة فقط بالكمال ، وفي أسلوبه قول فاطمة الأنمارية وقد قيل لها : أي بنيك أفضل؟ ربيع بل عمارة بل قيس بل أنس ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل واللّه إنهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها ، وذلك كما أنها نفت التفاضل آخرا بإثبات الكمال لكل واحد دلالة على أن كمال كل لا يحيط به الوصف وهو إجمال بعد التفصيل لهذا الغرض ، كذلك لما أثبت سبحانه لهذه السورة خصوصا الكمال استدركه بأن كل المنزل كذلك لا يختص به سورة دون أخرى للدلالة المذكورة ، وهو على ما قيل معنى بديع ووجه بليغ ذكره صاحب الكشاف ، وقيل : إنه لتقرير ما قبله والاستدلال عليه لأنه إذا كان كل المنزل عليه حقا فذلك المنزل أيضا حق ضرورة أنه من كل المنزل فهو كامل لأنه لا أكمل من الحق والصدق ، ولخفاء أمر الاستدلال قال العلامة البيضاوي أنه كالحجة على ما قبله ، ولعل الأول أولى ومع ذا لا يخلو عن خفاء أيضا ، ولو قيل : المراد بالكمال فيما تقدم الكمال الراجع إلى الفصاحة والبلاغة ويكون ذلك وصفا للمشار إليه بالإعجاز من جهة ذلك ، ويكون هذا وصفا له بخصوصه على تقدير أن يكون فيه وضع الظاهر موضع الضمير أو لما يشمله وغيره على تقدير أن لا يكون فيه ذلك بكونه حقا مطابقا للواقع إذ لا تستدعي الفصاحة والبلاغة الحقية كما يشهد به الرجوع إلى المقامات الحريرية لم يبعد كل البعد فتدبر.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 83
وجوز الحوفي كون مِنْ رَبِّكَ هو الخبر والْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق أو خبر بعد خبر أو كلاهما خبر واحد كما قيل في الرمان حلو حامض ، وهو إعراب متكلف ، وجوز أيضا كون الموصول في محل خفض عطفا على الْكِتابِ والْحَقُّ حينئذ خبر مبتدأ محذوف لا غير.
قيل : والعطف من عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى كما قالوا في قوله :
هو الملك القرم وابن الهمام البيت ، وبعضهم يجعله من عطف الكل على الجزء أو من عطف أحد المترادفين على الآخر ، ولكل وجهة ، وإذا أريد بالكتاب ما روي عن مجاهد ، وقتادة فأمر العطف ظاهر ، وجوز أبو البقاء كون الَّذِي نعتا للكتاب بزيادة الواو في الصفة كما في : أتاني كتاب أبي حفص والفاروق والنازلين والطيبين ، وتعقب بأن الذي ذكر في زيادة الواو للإلصاق خصه صاحب المغني بما إذا كان النعت جملة ، ولم نر من ذكره في المفرد.
وأجاز الحوفي أيضا كون الموصول معطوفا على آياتُ وجعل الْحَقُّ نعتا له وهو كما ترى. ثم المقصود على تقدير أن يكون الْحَقُّ خبر مبتدأ مذكور أو محذوف قصر الحقية على المنزل لعراقته فيها وليس في ذلك ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلا على أن حقيته مستتبعة لحقية سائر الكتب السماوية لكونه مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه ، وساق بعض نفاة القياس هذه الآية بناء على تضمنها الحصر في معرض الاستدلال على نفي ذلك فقالوا : الحكم المستنبط بالقياس غير منزل من عند اللّه تعالى وإلا لكان من يحكم به كافرا لقوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة : 44] وكل ما ليس منزلا من عند اللّه تعالى ليس بحق لهذه الآية لدلالتها على أن لا حق إلا ما أنزله اللّه تعالى ، والمثبتون لذلك أبطلوا ما ذكروه في المقدمة الأولى بأن المراد بعدم الحكم الإنكار وعدم التصديق أو المراد من لم يحكم بشيء أصلا مما أنزل اللّه تعالى ، ولا شك أنه من شأن للكفرة أو المراد بما أنزله هناك التوراة بقرينة ما قبله ، ونحن غير متعبدين بها فيختص باليهود ويكون المراد الحكم بكفرهم إذ لم يحكموا بكتابهم ، ونحن نقول بموجبه كما بين في شرح المواقف ، وما ذكروه في المقدمة الثانية بأن المراد بالمنزل من اللّه تعالى ما يشمل الصريح وغيره فيدخل فيه القياس لاندراجه في حكم المقيس عليه المنزل من عنده سبحانه وقد جاء في المنزل صريحا فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر : 2] وهو دال على ما حقق في محله على حسن اتباع القياس على أنك قد علمت المقصود من الحصر.
ويحتمل أيضا على ما قيل أن يكون المراد هو الحق لا غيره من الكتب الغير المنزلة أو المنزلة إلى غيره بناء على تحريفها ونسخها ، وقد يقال : إن دليلهم منقوض بالسنة والإجماع ، والجواب الجواب ، ولا يخفى ما في التعبير عن القرآن بالموصول وإسناد الإنزال إليه بصيغة ما لم يسم فاعله ، والتعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من الدلالة على فخامة المنزل وتشريف المنزل والإيماء إلى وجه بناء الخبر ما لا يخفى وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ قيل هم كفار مكة ، وقيل : اليهود والنصارى والأولى أن يراد أكثرهم مطلقا لا يُؤْمِنُونَ بذلك الحق المبين لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه فعدم إيمانهم كما قال شيخ الإسلام متعلق بعنوان حقيته لأنه المرجع للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونه منزلا كما قيل ولأنه وارد على سبيل الوصف دون الاخبار اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ أي خلقهن مرتفعات على طريقة سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض لا أنه سبحانه رفعها بعد إن لم تكن كذلك بِغَيْرِ عَمَدٍ أي دعائم ، وهو اسم جمع عند الأكثر والمفرد عماد كاهاب وأهب يقال : عمدت الحائط أعمده عمدا إذا دعمته فاعتمد واستند ، وقيل : المفرد عمود ، وقد جاء أديم وأدم وقصيم وقصم ، وفعيل وفعول يشتركان في كثير من الأحكام ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 84
وقيل : إنه جمع ورجح الأول بما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى قريبا.
وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب «عمد» بضمتين ، وهو جمع عماد كشهاب وشهب أو عمود كرسول ورسل ويجمعان في القلة على أعمدة ، والجمع لجمع السموات لا لأن المنفي عن كل واحدة منها العمد لا العماد ، والجار والمجرور في موضع الحال أي رفعها خالية عن عمد تَرَوْنَها استئناف لا محل له من الإعراب جيء به للاستشهاد على كون السموات مرفوعة كذلك كأنه قيل : ما الدليل على ذلك؟ فقيل : رؤيتكم لها بغير عمد فهو كقولك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني.
ويحتمل أن يكون الاستئناف نحويا بدون تقدير سؤال وجواب والأول أولى ، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من السموات أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأن المخاطبين حين رفعها لم يكونوا مخلوقين ، وأيّا ما كان فالضمير المنصوب للسموات.
وجوز كون الجملة صفة للعمد فالضمير لها واستدل لذلك بقراءة أبي «ترونه» لأن الظاهر أن الضمير عليها للعمد وتذكيره حينئذ لائح الوجه لأنه اسم جمع فلوحظ أصله في الإفراد ورجوعه إلى الرفع خلاف الظاهر ، وعلى تقدير الوصفية يحتمل توجه النفي إلى الصفة والموصوف على منوال : ولا ترى الضب بها ينجحر. لأنها لو كانت لها عمد كانت مرئية وهذا في المعنى كالاستئناف ، ويحتمل توجه إلى الصفة فيفيد أن لها عمدا لكنها غير مرئية وروي ذلك عن مجاهد وغيره ، والمراد بها قدرة اللّه تعالى وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض ، فيكون العمد على هذا استعارة. وأخرج ابن حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك. وزعم بعضهم أن العمد جبل قاف فإنه محيط بالأرض والسماء عليه كالقبة ، وتعقبه الإمام بأنه في غاية السقوط وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يمكن أن يكون مراده في وجه ذلك ، وأنا لا أرى ما قبله يصح عن ابن عباس ، فالحق أن العمد قدرة اللّه تعالى ، وهذا دليل على وجود الصانع الحكيم تعالى شأنه وذلك لأن ارتفاع السموات على سائر الأجسام المساوية لها في الجرمية كما تقرر في محله واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون لمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته.
ورجح في الكشف استئناف الجملة بأن الاستدلال برفع هذه الأجرام دون عمد كاف ، والاستشهاد عليه بكونه مشاهدا محسوسا تأكيد للتحقيق ، ثم لا يخفى أن الضمير المنصوب في تَرَوْنَها إذا كان راجعا إلى السموات المرفوعة اقتضى ظاهر الآية أن المرئي هو السماء. وقد صرح الفلاسفة بأن المرئي هو كرة البخار وثخنها كما قال صاحب التحفة أحد وخمسون ميلا وتسع وخمسون دقيقة ، والمجموع سبعة عشر فرسخا وثلث فرسخ تقريبا ، وذكروا أن سبب رؤيتها زرقاء أنها مستضيئة دائما بأشعة الكواكب وما وراءها لعدم قبوله الضوء كالمظلم بالنسبة إليها فإذا نفذ نور البصر من الأجزاء المستنيرة بالأشعة إلى الأجزاء التي هي كالمظلم رأى الناظر ما فوقه من المظلم بما يمازجه من الضياء الأرضي والضياء الكوكبي لونا متوسطا بين الظلام والضياء وهو اللون اللازوردي ، وذلك كما إذا نظرنا من جسم أحمر مشف إلى جسم أخضر فإنه يظهر لنا لون مركب من الحمرة والخضرة. وأجمعوا أن السموات التي هي الأفلاك لا ترى لأنها شفافة لا لون لها لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب وكل ملون فإنه يحجب عن ذلك. وتعقب ذلك الإمام الرازي بأنا لا نسلم أن كل ملون حاجب فإن الماء والزجاج ملونان لأنهما مرئيان ومع ذلك لا يحجبان. فإن قيل : فيهما حجب عن الابصار الكامل قلنا : وكيف عرفتم أنكم أدركتكم هذه الكواكب إدراكا تاما انتهى ، على أن ما ذكروه لا يتمشى في المحدد إذ ليس وراءه شيء حتى يرى ولا في الفلك الذي يسمونه بفلك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 85
الثوابت أيضا إذ ليس فوقه كوكب مرئي وليس لهم أن يقولوا لو كان كل منهما ملونا لوجب رؤيته لأنا نقول جاز أن يكون لونه ضعيفا كلون الزجاج فلا يرى من بعيد ولئن سلمنا وجوب رؤية لونه قلنا : لم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة الصافية المرئية لونه وما ذكر أولا فيها دون إثباته كرة النار وما يقال : إنها أمر يحسن في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر فإنه يرى أزرق متفاوت الزرقة بتفاوت قعره قربا وبعدا فالزرقة المذكورة لون يتخيل في الجو الذي بين السماء والأرض لأنه شفاف بعد عمقه لا يجدي نفعا لأن الزرقة كما تكون لونا متخيلا قد تكون أيضا لونا حقيقيا قائما بالأجساد ، وما الدليل على أنها لا تحدث إلا بذلك الطريق التخيلي فجاز أن تكون تلك الزرقة المرئية لونا حقيقيا لأحد الفلكين كذا قال بعض المحققين ، وأنت تعلم أنه لا مانع عند المسلمين من كون المرئي هو السماء الدنيا المسماة بفلك القمر عند الفلاسفة بل هو الذي تقتضيه الظواهر ، ولا نسلم أن ما يذكرونه من طبقات الهواء مانعا ، وهذه الزرقة يحتمل أن تكون لونا حقيقيا لتلك السماء صبغها اللّه تعالى به حسبما اقتضته حكمته ، وعليه الأثريون كما قال القسطلاني ، ويؤيده ظاهر ما
صح من قوله صلى اللّه عليه وسلم : «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء» ، وفي رواية «الأرض من ذي لهجة أصدق من أبي ذر»
ويحتمل أن يكون لونا تخيليا في طبقة من طبقات الهواء الشفاف الذي ملأ اللّه به ما بين السماء والأرض ويكون لها في نفسها لون حقيقي اللّه تعالى أعلم بكيفيته ولا بعد في أن يكون أبيض وهو الذي يقتضيه بعض الأخبار لكنا نحن نراها من وراء ذلك الهواء بهذه الكيفية كما نرى الشيء الأبيض من وراء جام أخضر أخضر ، ومن وراء جام أزرق أزرق وهكذا ، وجاء في بعض الآثار أن ذلك من انعكاس لون جبل قاف عليها.
وتعقب بأن جبل قاف لا وجود له ، وبرهن عليه بما يرده - كما قال العلامة ابن حجر - ما جاء عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما من طرق أخرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح ، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جيلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل ، وخرج بعض أولئك عن عبد اللّه بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء ، وعن مجاهد مثله. ونقل صاحب حل الرموز ان له سبع شعب وأن لكل سماء منها شعبة ، وفي القلب من صحة ذلك ما فيه ، بل أنا أجزم بأن السماء ليست محمولة إلا على كاهل القدرة ، والظاهر أنها محيطة بالأرض من سائر جهاتها كما روي عن الحسن ، وفي الزرقة الاحتمالان. بقي الكلام في رؤية باقي السموات وظاهر الآية يقتضيه وأظنك لا ترى ذلك وظاهر بعض الآيات يساعدك فتحتاج إلى القول بأن الباقي وإن لم يكن مرئيا حقيقة لكنه في حكم المرئي ضرورة أنه إذا لم يكن لهذا عماد لا يتصور أن يكون لما وراءه عماد عليه بوجه من الوجوه ، ويؤول هذا إلى كون المراد ترونها حقيقة أو حكما بغير عمد ، وجوز أن يكون المراد ترون رفعها أي السموات جميعا بغير ذلك.
وفي الكشف ما يشير إليه وإذا جعل الضمير للعمد فالأمر ظاهر فتدبر ، ومن البعيد الذي لا نراه زعم بعضهم أن تَرَوْنَها خبر في اللفظ ومعناه الأمر روها وانظروا هل لها من عمد ثُمَّ اسْتَوى سبحانه استواء يليق بذاته عَلَى الْعَرْشِ وهو المحدد بلسان الفلاسفة ، وقد جاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول ، وجعل غير واحد من الخلف الكلام استعارة تمثيلية للحفظ والتدبير ، وبعضهم فسر استوى باستولى ، ومذهب السلف في ذلك شهير ومع هذا قد قمنا الكلام فيه ، وأيّا ما كان فليس المراد به القصد إلى إيجاد العرش كما قالوا في قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة : 29] لأن إيجاده قبل إيجاد السموات ، ولا حاجة إلى إرادة ذلك مع القول بسبق الإيجاد وحمل ثُمَّ على التراخي في الرتبة ، نعم قال بعضهم : إنها للتراخي الرتبي لا لأن الاستواء بمعنى القصد المذكور وهو متقدم بل لأنه صفة قديمة لائقة به تعالى شأنه وهو متقدم على رفع السموات أيضا وبينهما تراخ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 86
في الرتبة وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما كُلٌّ من الشمس والقمر يَجْرِي يسير في المنازل والدرجات لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت معين ، فإن الشمس تقطع الفلك في سنة والقمر في شهر لا يختلف جرى كل منهما كما في قوله تعالى : وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس : 38] وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس : 39] وهو المروي عن ابن عباس ، وقيل : أي كل يجري لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره وهي إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير : 1 ، 2] وهذا مراد مجاهد من تفسير الأجل المسمى بالدنيا ، قيل : والتفسير الحق ما روي عن الحبر ، وأما الثاني فلا يناسب الفصل به بين التسخير والتدبير. ثم إن غايتهما متحدة والتعبير - بكل يجري - صريح في التعدد وما للغاية إلى دون اللام ، ورد بأنه إن أراد أن التعبير بذلك صريح في تعدد ذي الغاية فمسلم لكن لا يجديه نفعا ، وإن أراد صراحته في تعدد الغاية فغير مسلم ، واللام تجيء بمعنى إلى كما في المغني وغيره. وأنت تعلم لا يفيد أكثر من صحة التفسير الثاني فافهم ، وما أشرنا إليه من المراد من كل هو الظاهر ، وزعم ابن عطية أن ذكر الشمس والقمر قد تضمن ذكر الكواكب فالمراد من كل كل منهما ومما هو في معناهما من الكواكب والحق ما علمت يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي أمر العالم العلوي والسفلي ، والمراد أنه سبحانه يقضي ويقدر ويتصرف في ذلك على أكمل الوجوه وإلا فالتدبير بالمعنى اللغوي لاقتضائه التفكر في دبر الأمور مما لا يصح نسبته إليه تعالى : يُفَصِّلُ الْآياتِ أي ينزلها ويبينها مفصلة ، والمراد بها آيات الكتب المنزلة أو القرآن على ما هو المناسب لما قبل ، أو المراد بها الدلائل المشار إليها فيما تقدم وبتفصيلها تبيينها ، وقيل إحداثها على ما هو المناسب لما بعد.
والجملتان جوز أن يكونا مستأنفتين وأن يكونا حالين من ضمير اسْتَوى وسخر من تتمته بناء على أنه جيء به لتقرير معنى الاستواء وتبيينه أو جملة مفسرة له ، وجوز أن يكون يُدَبِّرُ حالا من فاعل سَخَّرَ ويُفَصِّلُ حالا من فاعل يُدَبِّرُ ، واللَّهُ الَّذِي إلخ على جميع التقادير مبتدأ وخبر ، وجوز أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والموصول صفته وجملة يُدَبِّرُ خبره وجملة يُفَصِّلُ خبرا بعد خبر ، ورجح كون ذلك مبتدأ وخبرا في الكشف بأن قوله تعالى الآتي : وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات وفي المقابل تتعين الخبرية فكذلك في المقابل ليتوافقا ، ولدلالته على أن كونه كذلك هو المقصود بالحكم لا أنه ذريعة إلى تحقيق الخبر وتعظيمه كما في الوجه الآخر ، ثم قال : وهو على هذا جملة مقررة لقوله سبحانه : وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وعدل عن ضمير الرب إلى الاسم المظهر الجامع لترشيح التقرير كأنه قيل : كيف لا يكون منزل من هذه أفعاله الحق الذي لا أحق منه ، وفي الإتيان بالمبتدأ والخبر معرفتين ما يفيد تحقيق إن هذه الأفعال دون مشاركة لا سيما وقد جعلت صلات للموصول ، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيدا تحقيق كونه تعالى مدبرا مفصلا مع التعظيم لشأنهما كما في قول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
وتقدم ذكر الآيات ناصر ضعيف لأن الآيات في الموضعين مختلفة الدلالة ولأن المناسب حينئذ تأخره عن قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي مَدَّ إلخ ، على أن سوق تلك الصفات أعني رفع السموات وما تلاه للغرض المذكور وسوق مقابلاتها لغرض آخر منافر ، وفي الأول روعي لطيفة في تعقيب الأوائل بقوله سبحانه : يُدَبِّرُ يُفَصِّلُ للإيقان والثواني بقوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي من فضل السوابق لإفادتها اليقين واللواحق ذرائع إلى حصوله لأن الفكر آلته والإشارة إلى تقديم الثواني بالنسبة إلينا مع التأخر رتبة وذلك فائت على الوجه الآخر اه وهو من الحسن بمكان فيما أرى ، ولا تنافي كما قال الشهاب بين الوجهين باعتبار أن الوصفية تقتضي المعلومية والخبرية

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 87
تقتضي خلافها لأن المعلومية عليهما والمقصود بالإفادة قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي لكم تتفكروا وتحققوا كمال قدرته سبحانه فتعلموا أن من قدر على ذلك قدر على الإعادة والجزاء ، وحاصله أنه سبحانه فعل كل ذلك لذلك ، وعلى الوجه الآخر فعل الأخيرين لذلك مع أن الكل له ثم قال : وهذا مما يرجح الوجه الأول أيضا كما يرجحه أنه ذكر تبيين الآيات وهي الرفع وما تلاه فإنه ذكرها ليستدل بها على قدرته تعالى وعلمه ولا يستدل بها إلا إذا كانت معلومة فيقتضي كونها صفة.
فإن قيل : لا بد في الصلة أن تكون معلومة سواء كانت صفة أو خبرا يقال : إذا كان ذلك صلة دل على انتساب الآيات إلى اللّه تعالى وإذا كان خبرا دل على انتسابها إلى موجود مبهم وهو غير كاف في الاستدلال فتأمل. وقرأ النخعي وأبو رزين. وأبان بن تغلب عن قتادة «ندبر». «نفصل» بالنون فيهما وكذا روى أبو عمرو الداني عن الحسن ووافق في «نفصل» بالنون الخفاف. وعبد الوهاب عن أبي عمرو ، وهبيرة عن حفص ، وقال صاحب اللوامح : جاء عن الحسن. والأعمش «نفصل» بالنون ، وقال المهدوي : لم يختلف في يُدَبِّرُ وليس كما قال لما سمعت ، ثم أنه تعالى لما ذكر من الشواهد العلوية ما ذكر أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال عز شأنه : وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي بسطها طولا وعرضا ، قال الأصم : البسط المد إلى ما لا يرى منتهاه ، ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها ، وقيل : كانت مجتمعة فدحاها من مكة من تحت البيت ، وقيل : كانت مجتمعة عند بيت المقدس فدحاها وقال سبحانه لها : اذهبي كذا وكذا وهو المراد بالمد ، ولا يخفى أنه خلاف ما يقتضيه المقام. واستدل بالآية على أنها مسطحة غير كرية ، والفلاسفة مختلفون في ذلك فذهب فريق منهم إلى أنها ليست كرية وهؤلاء طائفتان. فواحدة تقول : إنها محدبة من فوق مسطحة من أسفل فهي كقدح كب على وجه الماء. وأخرى تقول بعكس ذلك ، وذهب الأكثرون منهم إلى أنها كرية أما في الطول فلأن البلاد المتوافقة في العرض أو التي لا عرض لها كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متأخرا بنسبة واحدة ولا يعقل ذلك إلا في الكرة ، وأما في العرض فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه بحسب إيغاله فيه على نسبة واحدة بحيث يراه قريبا من سمت رأسه وكذلك تظهر له الكواكب الشمالية وتخفى عنه الكواكب الجنوبية ، والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك ، وأما فيما بينهما فلتركب الأمرين.
وأورد عليهم الاختلاف المشاهد في سطحها فأجابوا عنه بأن ذلك لا يقدح في أصل الكرية الحسية المعلومة بما ذكر ، فإن نسبة ارتفاع أعظم الجبال على ما استقر عليه استقراؤهم وانتهت إليه آراؤهم وهو جبل دماوند فيما بين الري وطبرستان أو جبل في سرنديب إلى قطر الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع.
واعترض ذلك بأنه هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور في الماء؟ فإن قالوا : إذا كان الظاهر كريا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة. قلنا : فالمرجع حينئذ إلى البساطة واقتضاؤها الكرية الحقيقية ولا شك أنه يمنعها التضاريس وإن لم تظهر للحس لكونها في غاية الصغر ، لكن أنت تعلم أن أرباب التعليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ولا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة ، والحق الذي لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل أن ما ظهر منها كري حسا ، ولذلك كرية الفلك تختلف أوقات الصلاة في البلاد فقد يكون الزوال ببلد ولا يكون ببلد آخر وهكذا الطلوع والغروب وغير ذلك ، وكرية ما عدا ما ذكر لا يعلمها إلا اللّه تعالى. نعم إنها لعظم جرمها الظاهر يشاهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح وهكذا كل دائرة عظيمة وبذلك يعلم أنه لا تنافي بين المد وكونها كرية. وزعم ابن عطية أن ظاهر الشريعة يقتضي أنها مسطحة وكأنه يقول بذلك وهو خلاف ما يقتضيه الدليل. وهي عندهم ثلاث طبقات الطبقة الصرفة المحيطة بالمركز ثم الطبقة الطينية ثم الطبقة المخالطة التي تتكون

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 88
فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات ، والصرفة منها غير ملونة عند بعضهم ، ومال ابن سينا إلى أنها ملونة ، واحتج عليه بأن الأرض الموجودة عندنا وإن كانت مخلوطة بغيرها ولكنا قد نجد فيها ما يكون الغالب عليه الأرضية فلو كانت الأرض البسيطة شفافة لكان يجب أن نرى في شيء من أجزاء الأرض مما ليس متكونا تكونا معدنيا شيئا فيه اشفاف ولكان حكم الأرض في ذلك حكم الماء والهواء فإنهما وإن امتزجا إلا أنهما ما عدما الاشفاف بالكلية.
واختلف القائلون بالتلون فمنهم من قال : إن لونها هو الغبرة ، ومنهم من زعم أنه السواد وزعم أن الغبرة إنما تكون إذا خالطت الأجزاء الأرضية أجزاء هوائية فبسببها ينكسر ويحصل الغبرة ، وأما إذا اجتمعت تلك الأجزاء بحيث لا يخالطها كثير هوائية اشتد السواد وذلك مثل الفحم قبل أن يترمد فإن النار لا عمل لها إلا في تفريق المختلفات فهي لما حللت ما في الخشب من الهوائية واجتمعت الأجزاء الأرضية من غير أن يتخللها شيء غريب ظهر لون أجزائها وهو السواد ، ثم إذا رمدته اختلطت بتلك الأجزاء أجزاء هوائية فلا جرم ابيضت مرة أخرى. والذي صح في الخبر وقد سبق إطلاق الغبراء على الأرض وهو محتمل لأن تكون سائر طبقاتها كذلك ولأن يكون وجهها الأعلى كذلك ، نعم جاء في بعض الآثار أن في أسفل الأرض ترابا أبيض وما ذكر من الطبقات مما لا يصادم خبرا صحيحا في ذلك ، وكونها سبع طبقات بين كل طبقة وطبقة كما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفي كل خلق غير مسلم ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق : 12] لا يثبته كما ستعلم إن شاء اللّه تعالى ، والخبر في ذلك غير مسلم الصحة أيضا ، ومثل ذلك فيما أرى ما روي عن كعب أنه قال لعمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : إن اللّه تعالى جعل مسيرة ما بين المشرق والمغرب خمسمائة سنة فمائة سنة في المشرق لا يسكنها شيء من الحيوان لا جن ولا انس ولا دابة وليس في ذلك شجرة ومائة سنة في المغرب كذلك وثلاثمائة سنة فيما بين المشرق والمغرب يسكنها الحيوان ، وكذا ما أخرجه ابن حاتم عن عبد اللّه بن عمر من أن الدنيا مسيرة خمسمائة عام أربعمائة عام خراب ومائة عمران ، والمقرر عند أهل الهندسة والهيئة غير هذا.
فقد ذكر القدماء منهم أن محيط دائرة الأرض الموازية لدائرة نصف النهار ثمانية آلاف فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة واحدة وهي عندهم اثنان وعشرون فرسخا وتسعا فرسخ في ثلاثمائة وستين محيط الدائرة العظمى على الأرض ، والمتأخرون أن ذلك ستة آلاف وثمانمائة فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة وهي عندهم تسعة عشر فرسخا إلا تسع فرسخ في المحيط المذكور ، وعلى القولين التفاوت بين ما يقوله المهندسون ومن معهم وما نسب لغيرهم ممن تقدم أمر عظيم والحق في ذلك مع المهندسين.
وزعموا أن الموضع الطبيعي للأرض هو الوسط من الفلك وأنها بطبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء ساكنة في حاق الوسط منه لكن لما حصل في جانب منها تلال وجبال ومواضع عالية وفي جانب آخر ضد ذلك لأسباب ستسمعها بعد إن شاء اللّه تعالى وكان من طبع الماء أن يسيل من المواضع العالية إلى المواضع العميقة لا جرم انكشف الجانب المشرف من الأرض وسال الماء إلى الجوانب العميقة منها. وللكواكب في زعمهم تأثير في ذلك بحسب المسامتات التي تتبدل عند حركاتها خصوصا الثوابت والأوجات والحضيضات المتغيرة في أمكنتها. وحكم أصحاب الأرصاد أن طول البر المنكشف نصف دور الأرض وعرضه أحد أرباعها إلى ناحية الشمال ، وفي تعيين أي الربعين الشماليين منكشف تعذر أو تعسر كما قال صاحب التحفة ، وأما ما عدا ذلك فقال الإمام : لم يقم دليل على كونه مغمورا في الماء ولكن الأشبه ذلك إذ الماء أكثر من الأرض أضعافا لأن كل عنصر يجب أن يكون بحيث لو استحال بكليته إلى عنصر آخر كان مثله ، والماء يصغر حجمه عند الاستحالة أرضا ومع ذلك لو كان في بعض المواضع من الأرباع الثلاثة عمارة قليلة لا يعتد بها ، وأما تحت القطبين فلا يمكن أن يكون عمارة لاشتداد البرد : وإنما حكموا بأن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 89
المعمور الربع لأنهم لم يجدوا في أرصاد الحوادث الفلكية كالخسوفات وقرانات الكواكب التي لا اختلاف منظر لها تقدما في ساعات الواغلين في المشرق لتلك الحوادث على ساعات الواغلين في المغرب زائدا على اثنتي عشرة ساعة مستوية وهي نصف الدور لأن كل ساعة خمسة عشر جزءا من أجزاء معدل النهار تقريبا وضرب خمسة عشر في اثني عشر مائة وثمانون. ونحن نقول بوجود الخراب وانه أكثر من المعمور بكثير وأكثر المعمور شمالي ولا يوجد في الجنوب منه إلا مقدار يسير ، لكنا نقول : ما زعموه سببا للانكشاف غير مسلم ونسند كون الأرض بحيث وجدت صالحة لسكنى الحيوانات وخروج النبات إلى قدرته تعالى واختياره سبحانه وإلا فمن أنصف علم أن لا سبيل للعقل إلى معرفة سبب ذلك على التحقيق وقال : إنه تعالى فعل ذلك في الأرض لمجرد مشيئته الموافقة للحكمة.
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت في أحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لإغناء غلبة الوصف بها عن ذلك ، وفواعل يكون جمع فاعل إذا كان صفة مؤنث كحائض أو صفة ما لا يعقل مذكر كجمل بازل وبوازل أو اسما جامدا أو ما جرى مجراه كحائط وحوائط وانحصار مجيئه جمعا لذلك في فوارس وهوالك ونواكس إنما هو في صفات العقلاء لا مطلقا ، والجمع هنا في صفة ما لا يعقل ، قيل : فلا حاجة إلى جعل المفرد هنا راسية صفة لجمع القلة أعني أجبلا ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالا انتظامه لطائفة من جموع القلة وينزل كل منها منزلة مفردة كما قيل ، على أنه لا مجال لذلك لأن جمعية كل من صيغتي الجمعين إنما هي لشمول الأفراد لا باعتبار شمول جمع القلة للأفراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منهما جمع جبل لا أن جبالا جمع أجبل اه.
وتعقب بأنه لعل من قال : إن الرواسي هنا جمع راسية صفة أجبل لا يلتزم ما ذكر وأنه إذا صح إطلاق أجبل راسية على جبال قطر مثلا صح إطلاق الجبال على جبال جميع الأقطار من غير اعتبار جعل الجبال جمعا لجموع القلة نعم لا يصح أن يكون جبال جمع أجبل لأنه يصير حينئذ جمع الجمع وهو خلاف ما صرح به أهل اللغة. وجعل راسية صفة جبل لا أجبل والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كما في - علامة - يرد عليه أن تاء المبالغة في فاعلة غير مطرد.
وقال أبو حيان : إنه غلب على الجبال وصفها بالرواسي ولذا استغنوا بالصفة عن الموصوف وجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وهو مما لا حاجة إليه لما سمعت ، وأورد عليه أيضا أن الغلبة تكون بكثرة الاستعمال والكلام في صحته من أول الأمر ففيما ذكره دور ، وأجيب بأن كثرة استعمال الرواسي غير جار على موصوف يكفي لمدعاه وفيه تأمل ، وكذا لا حاجة إلى ما قيل : إنه جمع راسية صفة جبل مؤنث باعتبار البقعة وكل ذلك ناشىء من الغفلة عما ذكره محققو علماء العربية ، هذا والتعبير عن الجبال بهذا العنوان لبيان تفرع قرار الأرض على ثباتها ، وفي الخبر «لما خلق اللّه تعالى الأرض جعلت تميد فخلق اللّه تعالى الجبال عليها فاستقرت فقالت الملائكة : ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال؟ قال : نعم الحديد ، فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الحديد؟ قال : نعم النار ، فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من النار؟ قال : نعم الماء فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الماء؟ قال : نعم الهواء ، فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الهواء؟ قال نعم ابن آدم يتصدق الصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله»
وأول جبل وضع على الأرض كما أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء أبو قبيس ، ومجموع ما يرى عليها من الجبال مائة وسبعة وثمانون جبلا «1» وأبى الفلاسفة كون استقرار الأرض بالجبال واختلفوا في سبب ذلك فالقائلون بالكرية منهم من جعله جذب الفلك لها من جميع الجوانب فيلزم أن
___________
(1) في الإقليم الأول عشرون وفي الثاني سبعة وعشرون وفي الثالث ثلاثة وثلاثون وفي الرابع خمسة وخمسون وفي الخامس ثلاثون وفي السادس أحد عشر وفي السابع مثله اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 90
تقف في الوسط كما يحكى عن صنم حديدي في بيت مغناطيسي الجوانب كلها فإنه وقف في الوسط لتساوي الجذب من كل جانب.
ورد بأن الأصغر أسرع انجذابا إلى الجاذب من الأكبر فما بال المدرة لا تنجذب إلى الفلك بل تهرب عنه إلى المركز ، وأيضا إن الأقرب أولى بالانجذاب من الأبعد فالمدرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب على أصلهم فكان يجب أن لا تعود ، ومنهم من جعله دفع الفلك بحركته لها من كل الجوانب كما إذا جعل شيء من التراب في قارورة كرية ثم أديرت على قطبيها إدارة سريعة فإنه يعرض وقوف التراب في وسطها لتساوي الدفع من كل جانب ورد بأن الدفع إذا كانت قوته هذه القوة فما باله لا يحس به ، وأيضا ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة الرياح والسحب إلى جهة بعينها ، وأيضا ما باله لم يجعل انتقالنا إلى المغرب أسهل من انتقالنا إلى المشرق ، وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل كلما كان أعظم أيضا لأن اندفاع الأعظم من الدافع أبطأ من اندفاع الأصغر ، وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل النازل ابتداء أسرع من حركته انتهاء لأنه عند الابتداء أقرب إلى الفلك ، وغير القائلين بها منهم من جعلها غير متناهية من جانب السفل وسبب سكونها عندهم أنها لم يكن لها مهبط تنزل فيه ، ويرد دليل تناهي الأجسام ، ومنهم من قال بتناهيها وجعل السبب طفوها على الماء أما مع كون محدبها فوق ومسطحها أسفل وأما مع العكس ، ورد بأن مجرد الطفو لا يقتضي السكون على أن فيه عند الفلاسفة بعد ما فيه ، وذهب محققوهم إلى أن سكونها لذاتها لا لسبب منفصل ، قال في المباحث المشرقية : والوجه المشترك في إبطال ما قالوا في سبب السكون أن يقال : جميع ما ذكرتموه من الجذب والدفع وغيرهما أمور عارضة وغير طبيعية ولا لازمة للماهية فيصح فرض ماهية الأرض عارية عنها فإذا قدرنا وقوع هذا الممكن فإما أن تحصل في حيز معين أولا تحصل فيه وحينئذ إما أن تحصل في كل الاحياز أو لا تحصل في شيء منها والأخيران ظاهرا الفساد فتعين الأول وهو أن تختص بحيز معين ويكون ذلك لطبعها المخصوص ويكون حينئذ سكونها في الحيز
لذاتها لا لسبب منفصل ، وإذا عقل ذلك فليعقل في اختصاصها بالمركز أيضا ، ثم ذكر في تكون الجبال مباحث : الأول الحجر الكبير إنما يتكون لأن حرا عظيما يصادق طينا لزجا إما دفعة أو على سبيل التدريج.
وأما الارتفاع فله سبب بالذات وسبب بالعرض ، أما الأول فكما إذا نقلت الريح الفاعلة للزلزلة طائفة من الأرض وجعلتها تلّا من التلال ، وأما الثاني فإن يكون الطين بعد تحجره مختلف الأجزاء في الرخاوة والصلابة وتتفق مياه قوية الجري أو رياح عظيمة الهبوب فتحفر الأجزاء الرخوة وتبقي الصلبة ثم لا تزال السيول والرياح تؤثر في تلك الحفر إلى أن تغور غورا شديدا ويبقى ما تنحرف عنه شاهقا ، والأشبه أن هذه المعمورة قد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحار فحصل هناك الطين اللزج الكثير ثم حصل بعد الانكشاف «1» وتكونت الجبال ، ومما يؤيد هذا الظن في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف ثم لما حصلت الجبال وانتقلت البحار حصل الشهوق إما لأن السيول حفرت ما بين الجبال وإما لأن ما كان من هذه المنكشفات أقوى تحجرا وأصلب طينة إذا انهد ما دونه بقي أرفع وأعلى ، إلا أن هذه أمور لا تتم في مدة تفي التواريخ بضبطها. والثاني سبب عروق الطين في الجبال يحتمل أن يكون من جهة ما تفتت منها وتترب وسالت عليه المياه ورطبته أو خلطت به طينها الجيد ، وأن يكون من جهة أن
___________
(1) وذكر حضرة مولانا علي رضا باشا خلد اللّه تعالى ملكه خلود الجبال أن من جملة أسباب التكون أن بعض المياه تخرج من بعض العيون فتنقلب حجرا وهكذا لا تزال تخرج وتنقلب حجرا إلى أن يصير ذلك جبلا عظيما ويتفق له عارض فينقطع وذكر أنه شاهد ذلك اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 91
القديم من طين البحر غير متفق الجوهر منه ما يقوى تحجره ومنه ما يضعف وأن يكون من جهة أنه يعرض للبحر أن يفيض قليلا قليلا على سهل وجبل فيعرض للسهل أن يصير طينا لزجا مستعدا للتحجر القوي وللجبل أن يتفتت كما إذا نقعت آجرة وترابا في الماء ثم عرضت الآجرة والطين على النار فإنه حينئذ تتفتت الآجرة ويبقى الطين متحجرا.
والثالث قد نرى بعض الجبال منضودا ساقا فساقا فيشبه أن يكون ذلك لأن طينته قد ترتبت هكذا بأن كان ساق قد ارتكم أولا ثم حدث بعده في مدة أخرى ساق آخر فارتكم وكان قد سال على كل ساق من خلاف جوهره فصار حائلا بينه وبين الساق الآخر فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن انتثر عما بين الساقين. هذا وتعقب ما ذكروه في سبب التكون بأنه لا يخفى أن اختصاص بعض من أجزاء الأرض بالصلابة وبعض آخر منها بالرخاوة مع استواء نسبة تلك الأجزاء كلها إلى الفلكيات التي زعموا أنها المعدات لها قطعا للمجاورة والملاصقة الحاصلة بين الأجزاء الرخوة والصلبة يستدعي سببا مخصصا وعند هذا الاستدعاء يقف العقل ويحيل ذلك الاختصاص على سبب من خارج هو الفاعل المختار جل شأنه فليت شعري لم لم يفعل ذلك أولا حذفا للمؤنة. نعم لا يبعد أن يكون ذلك من أسباب تكونها بإرادة اللّه تعالى عند من يقول من المليين وغيرهم بالوسائط لا عند الأشاعرة إذ الكل عندهم مستند إليه سبحانه ابتداء فلا يتصور واسطة حقيقة على رأيهم وما ذكر من الأسباب أمور لا تفيد إلا ظنا ضعيفا. وحديث رؤية أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف كذلك أيضا فإنا كثيرا ما نرى ذلك في مواضع المطر. وقد أخبرني من أثق به أنه شاهد ضفادع وقعت مع المطر ، على أن ذلك لا يتم على تقدير أن يكون المكشوف من الأرض قد انكشف في مبدأ الفطرة ولم يكن مغمورا بالماء ثم انكشف ، وهو مما ذهب إليه بعض محققي الفلاسفة أيضا. واعترضوا على القائلين بأن الانكشاف قد حصل بعد بأن أقوى أدلته أن حضيض الشمس في جانب الجنوب فقرب الشمس إلى الأرض هناك أكثر من جانب الشمال بقدر ثخن المتمم من ممثلها فتشتد بذلك الحرارة هناك فانجذب الماء من الشمال إلى الجنوب لأن الحرارة جذابة للرطوبة فلذا انكشف الربع الشمالي فإذا انتقل الحضيض إلى جانب الشمال انعكس الأمر.
ويرد عليه أنه لو كان كذلك لكان الربع الشمالي الآخر أيضا مكشوفا إذ لا فرق بين الربعين في ذلك وفي التزام ذلك بعد على أنه لم يلتزمه أحد.
ثم إن وجود الجبال في المغمور وجودها في المعمور يستدعي أنه كان معمورا وأن الحضي إض كان في غير جهته اليوم وهو قول بأن البر لا يزال يكون بحرا والبحر لا يزال يكون برا بتبدل جهتي الأوج والحضيض فيكون المنكشف تارة جانب الشمال وأخرى جانب الجنوب وحيث إن ذلك إنما يكون على سبيل التدريج يقتضي أن نشاهد اليوم شيئا من جانب الجنوب منكشفا ومن جانب الشمال مغمورا ولا نظن وجود ذلك ولو كان لاشتهر ، فإن أوج الشمس اليوم في عاشرة السرطان وحركته في كل سنة دقيقة تقريبا فيكون من الوقت الذي انتقل فيه من الجانب الشمالي إلى اليوم آلاف عديدة من السنين يغمر فيها كثير ويعمر كثير. نعم يحكى أن جزيرة قبرس كانت متصلة بالبر ثم حال البحر بينهما لكنه على تقدير ثبوته ليس مما نحن فيه ولا نسلم إن يكي دنيا مما حدث انكشافها لجواز أن تكون منكشفة من قبل ، فالحق أن هذا البر بعد أن وجد لم يصر بحرا وهذا البحر المحيط بعد أن أحاط لم يصر برا وهو الذي تقتضيه الأخبار الإلهية والآثار النبوية. نعم جاء في بعض الآثار ما ظاهره أن الأرض المسكونة كانت مكشوفة في مبدأ الفطرة كأثر الياقوتة ، وفي بعض آخر منها ما ظاهره أنها كانت مغمورة كخبر ابن عباس أن اللّه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق أمر الريح فأبدت عن حشفة ومنها دحيت الأرض ما شاء اللّه تعالى في الطول والعرض فجعلت تميد فجعل عليها الجبال الرواسي ، وفي التوراة ما هو نص في ذلك ففي أول سفر الخليقة منها أول ما خلق اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 92
السماء والأرض وكانت الأرض غامرة مستبحرة وكان هناك ظلام وكانت رياح الإله تهب على وجه الماء فشاء اللّه تعالى أن يكون نور فكان ثم ذكر فيه أنه لما مضى يوم ثان شاء اللّه تعالى أن يجتمع الماء من تحت السماء إلى موضع واحد ويظهر اليبس فكان كذلك وسمى اللّه سبحانه اليبس أرضا ومجتمع الماء بحارا ، وفيه أيضا إن خلق النيرين كان في اليوم الثالث ، وهو آب عن جعل سبب الانكشاف ما سمعت عن قرب من قرب الشمس ، وما أشارت إليه هذه الآية ونطق به غيرها من الآيات من كون الجبال سببا لاستقرار الأرض وانها لولاها لمادت أمر لا يقوم على أصولنا دليل يأباه فنؤمن به وإن لم نعلم ما وجه ذلك على التحقيق ، ويحتمل أن يكون وجهه أن اللّه تعالى خلق الأرض حسبما اقتضته حكمته صغيرة بالنسبة إلى سائر الكرات وجعل لها مقدارا من الثقل معينا ووضعها في المكان الذي وضعها فيه من الماء وأظهر منها ما أظهر وليس ذلك إلا بسبب مشيئته تعالى التابعة لحكمته سبحانه لا لأمر اقتضاه ذاتها فجعلت تميد لاضطراب أمواج البحر المحيط بها فوضع عليها من الجبال ما ثقلت به بحيث لم يبق للأمواج سلطان عليها وهذا كما يشاهد في السفن حيث يضعون فيها ما يثقلها من أحجار وغيرها لنحو ذلك ، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إليها النسبة السابقة لا يضرنا في هذا المقام لأن الحجم أمر والثقل أمر آخر فقد يكون ذو الحجم الصغير أثقل من ذي الحجم الكبير بكثير ، لا يقال : إن خلقها ابتداء بحيث لا تزحزحها الأمواج كان ممكنا فلم لم يفعله سبحانه وتعالى بل خلقها بحيث تحركها الأمواج ثم وضع عليها الجبال لدفع ذلك؟ لأنا نقول إنما فعل سبحانه هكذا لما فيه من الحكم التي هو جل شأنه بها أعلم ، وهذا السؤال نظير أن يقال : إن خلق الإنسان ابتداء بحيث لا يؤثر فيه الجوع والعطش مثلا شيئا كان ممكنا فلم لم يفعله تعالى بل خلقه بحيث يؤثران فيه ثم خلق له ما يدفع به ذلك ليدفعه به وله نظائر
بعد كثيرة ، وليس ذلك إلا ناشئا عن الغفلة عما يترتب على ما صدر منه تعالى من الحكم ، ولعل الحكمة فيما نحن فيه إظهار مزيد عظمته جلت عظمته للملائكة عليهم السلام فإن ذلك مما يوقظ جفن الاستعظام ألا تراهم كيف قالوا حين رأوا ما رأوا ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال إلخ.
ويقال لمن لم يؤمن بهذا بين أنت لنا حكمة تقدم بعض الأشياء على بعض في الخلق كيفما كان التقدم وكذا حكمة خلق الإنسان ونحوه محتاجا وخلق ما يزيل احتياجه دون خلقه ابتداء على وجه لا يحتاج معه إلى شيء ، فإن بين شيئا قلنا بمثله فيما نحن فيه ، ثم إنا نقول : ليس حكمة خلق الجبال منحصرة في كونها أوتادا للأرض وسببا لاستقرارها بل هناك حكم كثيرة لا يعلمها إلا اللّه تعالى.
وقد ذكر الفلاسفة للجبال منافع كثيرة قالوا : إن مادة السحب والعيون والمعدنيات هي البخار فلا تتكون إلا في الجبال أو فيما يقرب منها. أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرضين فلا جرم كانت أقواها على حبس البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ، ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الانبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئا من البخار يتحلل وقعر الأرض التي تحته كالقرع والعيون كالأذناب التي في الأنابيق والأودية والبخار كالقوابل ، ولذلك أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وهو مع هذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة ، وأما إن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه : أحدها أن في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة ، وثانيها : أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الانداء والثلوج ما لا يبقى على ظاهر الأرضين ، وثالثها : إن الأبخرة الصاعدة تكون في الجبال ، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب تراكم السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر والاحتقان أشد والسبب المحلل وهو الحر أقل ، وأما

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 93
المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإقامتها في مواضع لا تتفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال ، ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لا تحصى فلا يضر أن بعضا من الناس من وراء المنع لبعض ما ذكر وسمعت من بعض «1» العصريين أن من جملة منافعها كونها سببا لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض وذلك لاحتباس الأبخرة الطالبة لجهة العلو فيها ، وهو يقتضي أن الأرض قبلها كانت مغمورة وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام «لما خلق اللّه تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت»
على أنه يتراءى المنافاة بين جعلها أوتادا للمصرح به في الآيات وكونها جاذبة للأرض إلى جهة العلو ولا يرد على ما ذكر في توجيه كونها سببا لاستقرار الأرض أن كونها فيها كشرع في سفينة ينافيه إذ يقتضي ذلك أن تتحرك الأرض إلى خلاف جهة مهب الهواء لأنا من وراء منع حدوث الهواء على وجه يحركها بسببه كذلك.
وهذا كله إذا حكمنا العقل في البين وتقيدنا بالعاديات ، وأما إذا أسندنا كل ذلك إلى قدرة الفاعل المختار جل شأنه وقلنا : إنه سبحانه خلق الأرض مائدة وجعل عليها الجبال وحفظها عن الميد لحكم علمها تحار فيها الأفكار ولا يحيط بها إلا من أوتي علما لدنيا من ذوي الأبصار ارتفعت عنا جميع المؤن وزالت سائر المحن ولا يلزمنا على هذا أيضا القول بأن الأرض وسط العالم كما هو رأي أكثر الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين. ولم يخالف من الأولين إلا شرذمة زعموا أن كرة النار في الوسط لأنها أشرف من الأرض لكونها مضيئة لطيفة حسنة اللون وكون الأرض كثيفة مظلمة قبيحة اللون وحيز الأشرف يجب أن يكون أشرف الاحياز وهو الوسط فإذن هي في الوسط وهذا من الإقناعات الضعيفة ، ومع ذلك يرد عليه أنا لا نسلم شرافة النار على الأرض مطلقا فإنها إن ترجحت عليها باللطافة وما معها فالأرض راجحة بأمور. أحدها أن النار مفرطة الكيفية مفسدة والأرض ليست كذلك ، وثانيها أنها لا تبقى في المكان الغريب مثل ما تبقى الأرض.
وثالثها أن الأرض حيز الحياة والنشوء والنار ليست كذلك ، وما ذكر من استحسان الحس البصري للنار يعارضه استحسان الحس اللمسي للأرض بالنسبة إليها ، على أنا لو سلمنا الأشرفية فهي لا تقتضي إلا الوسط الشرقي لا المقداري إذ لا شرف له وذلك ليس هو الا حيزها الذي يزعمه جمهور المتقدمين لها لأنه متوسط بين الأجرام العنصرية والأجرام الفكلية ، ولم يخالف من الآخرين إلا شرذمة قليلة وهم هرشل وأصحابه زعموا أن الشمس ساكنة في وسط العالم وكل ما عداها يتحرك عليها لأنها جرم عظيم جدا وكل الأجرام دونها لا سيما الأرض فإنها بالنسبة إليها كلا شيء ، والحكمة تقتضي سكون الأكبر وتحرك الأصغر ، وهذا أيضا من الإقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أن سكون الأصغر لا سيما بين أمواج ورياح وحركة الأكبر لا سيما مثل الحركة التي يثبتها الجمهور للشمس أبلغ في القدرة ، وتعليلهم ذلك أيضا بأنا لا نرى للشمس ميلا عما يقال له منطقة البروج فيقتضي أن تكون ساكنة بخلاف غيرها لا يخفي ما فيه ، والذي يميل إليه كثير من الناس أن تحت الأرض ماء وأنها فيه كبطيخة خضراء في حوض. وجاء في بعض الأخبار أن الأرض على متن ثور والثور على ظهر حوت والحوت في الماء ولا يعلم ما تحت الماء إلا الذي خلقه. وذكر غير واحد أن زيادة كبد ذلك الحوت هو الذي يكون أول طعام أهل الجنة فحملوا الحوت فيما
صح من قوله صلى اللّه عليه وسلم : «أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت»
على ذلك الحوت وبينوا حكمة ذلك الأكل أنه إشارة إلى خراب الدنيا وبشارة بفساد أساسها وأمن العود إليها حيث إن الأرض التي كانوا يسكنونها كانت مستقرة عليه ، وخص الأكل بالزائدة لما بينه الأطباء من أن العلة إذا وقعت في الكبد دون الزائدة رجي برؤه فإن وقعت
___________
(1) هو الرشتي سيد كاظم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 94
في الزائدة هلك العليل فأكلهم من ذلك أدخل في البشرى. ومنع بعضهم صحة الأخبار الدالة على أنها ليست على الماء بلا واسطة لا سيما الخبر الطويل الذي ذكره البغوي في سورة «ن» ولم ينكر صحة الخبر في أن
أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت
إلا أنه قال : المراد بالحوت فيه حوت ما بدليل ما
رواه سلطان المحدثين البخاري «أول ما يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت يأكل منه سبعون ألفا»
بتنكير لفظ حوت ، ونظير ذلك في صحيح مسلم حيث ذكر فيه أنه تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وإن ادامهم ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا ، وذكر حال الأرض فيه لا يعين مراد الخصم فإنه يجوز أن يكون الجمع بين ذلك للإشارة إلى خراب الدنيا وانقطاع أمر الاستعداد للمعاش وانصرام الحياة العنصرية المائية أما الإشارة إلى الأول فظاهر ، وأما إلى الثاني فبالاستيلاء على الثور وأكل زائدة كبده فإنه عمدة عدة الحارث المهتم لأمر معاشه وفي الخبر «كلكم حارث وكلكم همام»
وأما الإشارة إلى الثالث فبالاستيلاء على الحوت وأكل زائدة كبده أيضا فإنه حيوان عنصري مائي لا يمكن أن يحيا سويعة إذا فارق الماء ، وبهذا يظهر المناسبة التامة بين ما اشتمل عليه الخبر ، ولا يبعد أن يكون ظهور الحياة الدنيوية بصورة الحوت وما يحتاج إليه فيها من أسباب الحراثة الضرورية في أمر المعاش بصورة الثور وكل الصيد في جوف الفراء ، ويكون ذلك من قبيل ظهور الموت في صورة الكبش الأملح في ذلك اليوم ، وقال بعض العارفين في سر تخصيص الكبد : إنه بيت الدم وهو بيت الحياة ومنه تقع قسمتها في البدن إلى القلب وغيره ، وبخار ذلك الدم هو النفس المعبر عنه بالروح الحيواني ففي كونه طعاما لأهل الجنة بشارة بأنهم أحياء لا يموتون. وذكر أنه يستخرج من الثور الطحال وهو في الحيوان بمنزلة الأوساخ في البدن فإنه يجتمع فيه أوساخ البدن مما يعطيه البدن من الدم الفاسد فيعطى لأهل النار يأكلونه ، وكان ذلك من الثور لأنه بارد يابس كطبع الموت ، وجهنم على صورة جاموس والغذاء لأهل النار من طحاله أشد مناسبة منه فلما فيه من الدمية لا يموت أهل النار ولما أنه من أوساخ البدن ومن الدم الفاسد المؤلم لا يحيون ولا ينعمون فما يزيدهم أكله إلا مرضا وسقما.
ونقل عن الغزالي والعهدة على الناقل أنه صلى اللّه عليه وسلم سئل تارة ما تحت الأرض؟ فقال : الحوت وسئل أخرى فقال :
الثور ،
وعنى عليه الصلاة والسلام بذلك البرجين الذين هما من البروج الاثني عشر المعلومة وقد كان كل منهما وتد الأرض وقت السؤال ولو كان الوتد إذ ذاك العقرب مثلا لقال عليه الصلاة والسلام العقرب تحت الأرض. وأنت تعلم أن ذلك بمعزل عن مقاصد الشارع صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يتم على ما وقفت عليه من أن الأرض على متن الثور والثور على ظهر الحوت والحوت على الماء ، والقول بأن المراد أن الأرض فوق الثور باعتبار أنه وتدها حين الإخبار والثور فوق الحوت باعتبار أنه من البروج الشمالية والحوت من البروج الجنوبية والبروج الشمالية في غالب المعمورة تعد فوق البروج الجنوبية والحوت فوق الماء باعتبار أنه ليس بينه وبينه حائل يرى لا يقدم عليه الا ثور أو حمار. وبعضهم يؤول خبر الترتيب بأن المراد منه الإشارة إلى أن عمارة الأرض موقوفة على الحراثة وهي موقوفة على السعي والاضطراب وذلك الثور من مبادئ الحراثة والحوت لا يكاد يسكن عن الحركة في الماء وهي كما ترى والذي ينبغي أن يعول عليه الإيمان بما جاء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا صح فليس وراءه عليه الصلاة والسلام حكيم ، والترتيب الذي يذكره الفلاسفة لم يأتوا له ببرهان مبين وليس عندهم فيه سوى ما يفيد الظن ، وحينئذ فيمكن القول بترتيب آخر. نعم لا ينبغي القول بترتيب يكذبه الحس ويأباه العقل الصريح وإن جاء مثل ذلك عن الشارع وجب تأويله كما لا يخفى «1» وذكر بعض
___________
(1) ومن رام الجمع بين الشريعة والفلسفة فقد رام الجمع بين الضدين كما لا يخفى اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 95
الفضلاء أنه لم يجىء في ترتيب الأجرام العلوية والسفلية وشرح أحوالها كما فعل الفلاسفة عن الشارع صلى اللّه عليه وسلم لما أن ذلك ليس من المسائل المهمة في نظره عليه الصلاة والسلام ، وليس المهم إلا التفكر فيها والاستدلال بها على وحدة الصانع وكماله جل شأنه وهو حاصل بما يحس منها ، فسبحان من رفع السماء بغير عمد ومد الأرض وجعل فيها رواسي وَأَنْهاراً جمع نهر وهو مجرى الماء الفائض وتجمع أيضا على نهر ونهور وأنهر وتطلق على المياه السائلة على الأرض وضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث إن الجبال سبب لتكونها على ما قيل. وتعقب بأنه مبني على ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من إن الجبال لتركبها من أحجار صلبة إذا تصاعدت إليها الأبخرة احتبست فيها وتكاملت فتنقلب مياها وربما خرقتها فخرجت ، وذكر أن الذي تدل عليه الآثار أنها تنزل من السماء لكن لما كان نزولها عليها أكثر كانت كثيرا ما تخرج الأنهار منها ، ويكفي هذا لتشريكهما في عامل واحد وجعلهما جملة واحدة ، وكأنهم عنوا بالنزول من السماء على الجبال نزول ماء المطر من السماء التي هي أحد الأجرام العلوية عليها ، والأكثرون أن النزول من السحاب ، والمراد من السماء جهة العلو وهو الذي تحكم به المشاهدة ، وقد أسلفنا لك ما يتعلق بذلك أول الكتاب فتذكر.
والأنهار التي جعلها اللّه تعالى في الأرض كثيرة ، وذكر بعضهم أنها مائة وستة وتسعون نهرا «2» وقيل : هي أكثر من ذلك ، وجاء في أربعة منها أنها من الجنة ،
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيحان ، وجيحان ، والفرات ، والنيل كل من أنهار الجنة»
والأولان بالألف بعد الحاء وهما نهران في أرض الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر أدنه ، وقول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام غلط أو أنه أراد المجاز من حيث إنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام ، وهما غير سيحون وجيحون بالواو فإن سيحون نهر الهند وهو يجري من جبال بأقاصيها مما يلي العين إلى أن ينصب في البحر الحبشي مما يلي ساحل الهند ، ومقدار جريه أربعمائة فرسخ ، وجيحون نهر بلخ يجري من أعين إلى أن يأتي خوارزم فيتفرق بعضه في أماكن ويمضي باقيه إلى البحيرة التي عليها القرية المعروفة بالجرجانية أسفل خوارزم يجري منه إليها السفن طولها مسيرة شهر وعرضها نحو ذلك ، وأما قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان فقد قال النووي : إن فيه إنكارا من أوجه. أحدها قوله : الفرات بالعراق وليست بالعراق وإنما هي فاصلة بين الشام والجزيرة. الثاني قوله : سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس. والثالث قوله : ببلاد خراسان إنما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام انتهى.
وقد يجاب عن الأول بنحو ما أجيب به عن الجوهري ، ولا يخفى أنه بعد زعم الترادف يصح الحكم بأنهما ببلاد خراسان كما يصح الحكم بأنهما ببلاد الأرمن ، وفي كون هذه الأنهار من الجنة تأويلان : الأول أن المراد تشبيه مياهها بمياه الجنة والإخبار بامتيازها على ما عداها ومثله كثير في الكلام. والثاني ما ذكره القاضي عياض أن الإيمان عم بلادها وأن الأجسام المتغذية منها صائرة إلى الجنة وهذا ليس بشيء. ولورد إلى اعتبار التشبيه أي إنها مثل أنهار الجنة في أن المتغذين من مائها المؤمنون لكان أوجه ، وقال النووي : الأصح أن الكلام على ظاهره وأن لها مادة من الجنة وهي موجودة اليوم عند أهل السنة.
___________
(2) في الإقليم الأول ثلاثون وفي الثاني سبعة وعشرون وفي الثالث اثنان وعشرون وفي الرابع كذلك وفي الخامس خمسة عشر وفي السادس أربعون وفي السابع كذلك واللّه تعالى أعلم اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 96
ويأبى التأويل الأول ما
في صحيح مسلم أيضا من حديث الإسراء وحدث نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت : يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال : أما النهر إن الباطنان فنهران في الجنة «1» وأما الظاهران فالفرات والنيل ،
وضمير أصلها لسدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره.
والقاضي عياض قال هنا : إن هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهي في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها. وتعقبة النووي بأن ذلك ليس بلازم بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد اللّه تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها ، وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه ، قيل : ولعل اللّه تعالى يوصل مياه هاتيك الأنهار بقدرته الباهرة إلى محالها التي يشاهد خروجها منها من حيث لا يراها أحد وما ذلك على اللّه بعزيز ، والظاهر أن المراد أصل مياهها الخارجة من محالها لا هي وما ينضم إليها من السيول وغيرها ، وكأني أرى بعض الناس لا يلتزمون ذلك في جميع ما يجري في هاتيك الأنهار ، وبعضهم أيضا يجعل الأخبار في هذا الشأن إشارات إلى أمور أنفسية فقط وليس مما ترتضيه الأنفس المرضية. نعم أنا لا أمنع التأويل مع بقاء الأمر آفاقيا وليس عدم اعتقاد الظاهر مما يخل بالدين كما لا يخفى على من لا تعصب عنده.
وللاخباريين في هذه الأنهار كلام طويل تمجه أسماع ذوي الألباب ولا يجري في أنهار قلوبهم ولا أراه يصلح إلا للإلقاء في البحر.
وجاء في بعض الأخبار مرفوعا «نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات وأما الكافران فدجلة وجيحون»
وحمل ذلك على أنه صلى اللّه عليه وسلم شبه النهرين الأولين لنفعهما بسهولة بالمؤمن والنهرين الأخيرين بالكافر لعدم نفعهما كذلك أنهما إنما يخرج في الأكثر ماؤهما بآلة ومشقة وإلا فوصف ذلك بالإيمان والكفر على الحقيقة غير ظاهر ، ثم إن أفضل الأنهار كما قال غير واحد النيل وباقيها على السواء. وزاد بعضهم في عداد ما هو من الجنة دجلة وروي في ذلك خبرا عن مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وليس مما يعول عليه ، واللّه تعالى أعلم وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلق - بجعل - في قوله تعالى : جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع لكن اثنينية ذلك اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك.
وقيل : المعنى خلق في الأرض من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت ، وتعقب أنه دعوى بلا دليل مع أن الظاهر خلافه فإن النوع الناطق المحتاج إلى زوجين خلق ذكره أولا فكيف في الثمرات وتكون واحد من كل أولا كاف في التكون والوجه ما ذكر أولا ، وجوز أن يتعلق الجار - بجعل - الأول ويكون الثاني استئنافا لبيان كيفية الجعل.
وزعم بعضهم أن المراد بالزوجين على تقدير تعلق الجار بجعل السابق الشمس والقمر ، وقيل : الليل. والنهار وكلا القولين ليس بشيء يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا ، ففيه اسناد ما لمكان الشيء إليه ، وفي جعل الجو مكانا للنهار تجوز لأن الزمان لا مكان له والمكان إنما هو للضوء الذي هو لازمه ،
___________
(1) هما السلسبيل والكوثر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 97
وجوز في الآية استعارة كقوله تعالى : يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر : 5] بجعله مغشيا للنهار ملفوفا عليه كاللباس على الملبوس ، قيل : والأول أوجه وأبلغ ، واكتفى بذكر تغشية الليل النهار مع تحقق عكسه للعلم به منه مع أن اللفظ يحتملهما إلا أن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار ، وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار ظهوره في الأرض.
وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو بكر «يغشّي» بالتشديد وقد تقدم تمام الكلام في ذلك إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من مد الأرض وجعل الرواسي عليها وإجراء الأنهار فيما وخلق الثمرات واغشاء الليل النهار ، وفي الإشارة بذلك تنبيه على عظم المشار إليه في بابه لَآياتٍ باهرة قيل : هي آثار تلك الأفاعيل البديعة جلت حكمة صانعها - ففي - على معناها فإن تلك الآثار مستقرة في تلك الأفاعيل منوطة بها ، وجوز أن يشار بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها بتلك الأفاعيل لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن التفكر فيها يؤدي إلى الحكم بأن يكون كل من ذلك على هذا النمط الرائق والأسلوب اللائق لا بد له من مكون قادر حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والفكرة كما قال الراغب قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم ، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك لإنسان دون الحيوان ، ولا يقال : إلا فيما لا يمكن أن يحصل له صورة في القلب ، ولهذا
روي تفكروا في آلاء اللّه تعالى ولا تتفكروا في اللّه تعالى إذ كان اللّه سبحانه منزها أن يوصف بصورة.
وقال بعض الأدباء : الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها ، والمشهور أنه ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول ، وقد تقدم وجه جعل هذا مقطعا في الآية.
وذكر الإمام أن الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلي أن يجعل مقطعها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وما يقرب منه وسببه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلى إلى الاختلافات الواقعة في الإشكالات الكوكبية فرده اللّه تعالى بقوله : لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لأن من تفكر فيها علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث تلك الحوادث من الاتصالات الفلكية فتفكر. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي في الأرض بقاع كثيرة مختلفة في الأوصاف فمن طيبة منبتة ومن سبخة لا تنبت ومن رخوة ومن صلبة ومن صالحة للزرع لا للشجر ومن صالحة للشجر لا للزرع إلى غير ذلك مُتَجاوِراتٌ أي متلاصقة والمقصود الأخبار بتفاوت أجزاء الأرض المتلاصقة على الوجه الذي علمت وهذا هو المأثور عن الأكثرين ، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أن المعنى وفي الأرض قرى قريب بعضها من بعض ، وأخرج عن الحسن أنه فسر ذلك بالأهواز. وفارس. والكوفة.
والبصرة ، ومن هنا قيل في الآية اكتفاء على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل : 81] والمراد قطع متجاورات وغير متجاورات ، وفي بعض المصاحف «وقطعا متجاورات» بالنصب أي وجعل في الأرض قطعا وَجَنَّاتٌ أي بساتين كثيرة «1» مِنْ أَعْنابٍ أي من أشجار الكرم وَزَرْعٌ من كل نوع من أنواع الحبوب ، لمراعاة أصله حيث كان مصدرا ، ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لما أن في صنعة الأعناب مما يبهر العقول ما لا يخفى ، ولو لم يكن فيها إلا أنها مياه متجمدة في ظروف رقيقة حتى إن منها شفافا لا يحجب البصر عن إدراك ما في جوفه لكفى ، ومن هنا جاء في بعض الأخبار القدسية أتكفرون بي وأنا خالق العنب. وفي إرشاد العقل السليم تعليل ذلك بظهور حال الجنات في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها ، وتأخير قوله تعالى : وَنَخِيلٌ لئلا يقع بينها
___________
(1) التقييد بذلك من المقام ا ه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 98
وبين صفتها وهي قوله تعالى : صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ فاصلة أو يطول الفصل بين المتعاطفين ، وصنوان جمع صنو وهو الفرع الذي يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل ، ومنه قيل : للعم صنو ، وكسر الصاد في الجمع كالمفرد هو اللغة المشهورة وبها قرأ الجمهور ، ولغة تميم وقيس صِنْوانٌ بالضم كذئب وذؤبان وبذلك قرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما والسلمي. وابن مصرف ، ونقله الجعبري في شرح الشاطبية عن حفص.
وقرأ الحسن ، وقتادة بالفتح ، وهو على ذلك اسم جمع كالسعدان لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته ، وقرأ الحسن «جنات» بالنصب عطفا عند بعض على «زوجين» مفعول «جعل» و«من كل الثمرات» حينئذ حال مقدمة لا صلة «جعل» لفساد المعنى عليه أن جعل فيها زوجين حال كونه من كل الثمرات وجنات من أعناب ، ولا يجب هنا تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه.
وزعم بعضهم أن العطف على رَواسِيَ وقال أبو حيان : الأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين أو بالجر عطفا على كُلِّ الثَّمَراتِ على أن يكون هو مفعولا بزيادة مِنْ في الإثبات وزَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ حالا منه ، والتقدير وجعل فيها من كل الثمرات حال كونها صنفين ، فلعل عدم نظم قوله تعالى : وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ في هذا السلك مع أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض خلق الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها - على ما قيل - الإيماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع. وقرأ جمع من السبعة وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ بالجر على أن العطف على أَعْنابٍ وهو كما في الكشف من باب - متلقدا سيفا ورمحا - أو المراد أن في الجنات فرجا مزروعة بين الأشجار وإلا فلا يقال للمزرعة وحدها جنة وهذا أحسن منظرا وأنزه. وادعى أبو حيان أن في جعل الجنة من الأعناب تجوزا لأن الجنة في الحقيقة هي الأرض التي فيها الأعناب يُسْقى أي ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل وقرأ أكثر السبعة بالتأنيث مراعاة للفظ وهي قراءة الحسن. وأبي جعفر ، قيل : والأول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل في حالة السقي بِماءٍ واحِدٍ لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي من ماء الأمطار أو من ماء الأنهار ، وقيل : إن الثاني أوفق بقوله سبحانه : وَنُفَضِّلُ أي مع وجود أسباب التشابه بمحض قدرتنا وإحساننا بَعْضَها عَلى بَعْضٍ آخر منها فِي الْأُكُلِ لمكان التأنيث ، وأمال فتحة القاف حمزة والكسائي والأكل بضم الهمزة والكاف وجاء تسكينها ما يؤكل ، وهو هنا الثمر والحب ، وقول بعضهم :
أي في الثمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما من باب التغليب ، وقرأ حمزة والكسائي «يفضل» بالياء على بناء الفاعل ردا على يُدَبِّرُ ويُفَصِّلُ ويُغْشِي وقرأ يحيى بن يعمر وهو أول من نقط المصحف. وأبو حيوة والحلبي عن عبد الوارث بالياء على بناء المفعول ورفع «بعضها» وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر مغن عن بناء الفعل للفاعل إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فصل من أحوال القطع وغيرها لَآياتٍ كثيرة عظيمة باهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعلمون على قضية عقولهم فإن من عقل هاتيك الأحوال العجيبة وخروج الثمار المختلفة في الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك القطع المتباينة المتلاصقة مع اتحاد ما تسقى به بل وسائر أسباب نموها لا يتلعثم في الجزم بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لها لا يعجزه شيء ، وقيل : المراد أن من عقل ذلك لا يتوقف في الجزم بأن من قدر على إبداع ما ذكر قادر على إعادة ما أبداه بل هي أهون في القياس ولعل ما ذكرناه أولى. ثم إن الأحوال وإن كانت هي الآيات أنفسها لا أنها فيها إلا أنها قد جردت عنها أمثالها مبالغة في كونه آية - ففي - تجريدية مثلها في قوله تعالى : لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت : 28] على المشهور. وجوز أن يكون المشار إليه الأحوال الكلية ، والآيات إفرادها الحادثة شيئا فشيئا في الأزمنة وآحادها الواقعة في الأقطار والأمكنة المشاهدة لأهلها - ففي - على معناها ومنهم من فسر الآيات بالدلالات لتبقى في على ذلك وهو كما ترى ، وحيث كانت دلالة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 99
هذه الأحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق سبحانه كونها آيات بمحض التعقل كما قال أبو حيان وغيره ، ولذلك - على ما قيل - لم يتعرض جل شأنه لغير تفضيل بعضها على بعض في الأكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك في الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لا حاجة إلى التفكر في ذلك أيضا ، وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين ، ولبعض الرجاز فيما تشير إليه الآية :
والأرض فيها عبرة للمعتبر تخبر عن صنع مليك مقتدر
تسقى بماء واحد أشجارها وبقعة واحدة قرارها
والشمس والهواء ليس يختلف وأكلها مختلف لا يأتلف
لو أن ذا من عمل الطبائع أو أنه صنعة غير صانع
لم يختلف وكان شيئا واحدا هل يشبه الأولاد إلا الوالدا
الشمس والهواء يا معاند والماء والتراب شيء واحد
فما الذي أوجب ذا التفاضلا إلا حكيم لم يرده باطلا
وأخرج ابن جرير عن الحسن في هذه الآية أنه قال : هذا مثل ضربه اللّه تعالى لقلوب بني آدم كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها فصارت قطعا متجاورة فينزل عليها الماء من السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد فلو كان الماء ملحا قيل إنما استسبخت هذه من قبل الماء ، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتخضع ، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو ، ثم قال : واللّه ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال اللّه تعالى : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء : 82] ا ه قال أبو حيان وهو شبيه بكلام الصوفية وَإِنْ تَعْجَبْ أي إن يقع منك عجب يا محمد فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ بعد مشاهدة الآيات الدالة على عظيم قدرته تعالى أي فليكن عجبك من قولهم : أَإِذا كُنَّا تُراباً إلى آخره فإنه الذي ينبغي أن يتعجب منه ، ورفع عجب على أنه خبر مقدم وقَوْلُهُمْ مبتدأ مؤخر ، وقدم الخبر للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم أمرا عجيبا ، وفي البحر أنه لا بد من تقدير صفة - لعجب - لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فيقدر اللّه تعالى أعلم فعجب أي عجب أو فعجب غريب ، وإذا قدرناه موصوفا جاز أن يعرب مبتدأ للمسوغ وهو الوصف ولا يضر كون الخبر معرفة ، وذلك كما قال سيبويه في - كم مالك - ان كم مبتدأ لوجود المسوغ فيه وهو الاستفهام ، وفي نحو اقصد رجلا خير منه أبوه إن خير مبتدأ للمسوغ أيضا وهو العمل ، ونقل أبو البقاء القول بأن عجب بمعنى معجب ثم قال :
فعلى هذا يجوز أن يرتفع قَوْلُهُمْ به. وتعقب بأنه لا يجوز ذلك لأنه لا يلزم من كون شيء بمعنى شيء أن يكون حكمه في العمل حكمه فمعجب يعمل وعجب لا يعمل ، ألا ترى أن فعلا كذبح وفعلة كقبض وفعلة كغرفة بمعنى مفعول ولا يعمل عمله فلا تقول مررت برجل ذبح كبشه أو قبض ماله أو غرفة ماؤه ، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومغروف ماؤه وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا العمل عن المفعول ، وحصر النحويون ما يرفع الفاعل في أشياء ولم يعدوا المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل منها.
والظاهر أن أَإِذا كُنَّا إلى آخره في محل نصب مقول لقول محكي به ، والاستفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار ، وجوز أن يكون في محل رفع على البدلية من قَوْلُهُمْ على أنه بمعنى المقول وهو على ما قال أبو حيان : إعراب متكلف وعدول عن الظاهر ، وعليه فالعجب تكلمهم بذلك وعلى الأول كلامهم ذلك ، والعامل في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 100
إِذا ما دل عليه قوله تعالى : أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو نعاد ، والجديد ضد الخلق والبالي ، ويقال :
ثوب جديد أي كما فرغ من عمله وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه قطع من نسجه ، وتقديم الظرف لتقوية الإنكار بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له ، وتكرير الهمزة في أَإِنَّا لتأكيد الإنكار ، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونهم ترابا بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ، وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تنتصب إِذا بكنا لأنها مضافة إليها ولا بجديد لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وكذا الاستفهام. ورد الأول في المغني بأن إِذا عند من يقول بأن العامل فيها شرطها وهو المشهور غير مضافة كما يقوله الجميع إذا جزمت كما في قوله :
وإذا تصبك خصاصة فتحمل قيل : فالوجه في رد ذلك أن عمله فيها موقوف على تعيين مدلولها وتعيينه ليس إلا بشرطها فيدور ، ونظر فيه الشهاب بأنها عندهم بمنزلة متى وأيان غير معينة بل مبهمة كما ذكره القائلون به وبه صرح في المغني أيضا.
وقيل : معنى الآية إن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث فقولهم عجيب حقيق أن يتعجب منه.
وتعقبه في البحر بأنه ليس مدلول اللفظ لأنه جعل فيه متعلق عجبه صلى اللّه عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث وجواب الشرط هو ذلك القول فيتحد الشرط والجزاء إذ تقديره إن تعجب من إنكارهم البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث وهو غير صحيح. ورد بأن ذلك مما اتحد فيه الشرط والجزاء صورة وتغايرا حقيقة كما في
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «من كانت هجرته إلى اللّه تعالى ورسوله فهجرته إلى اللّه تعالى ورسوله»
وقولهم : من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى وهو أبلغ في الكلام لأن معناه أنه أمر لا يكتنه كنهه ولا تدرك حقيقته وأنه أمر عظيم.
وذهب بعض إلى أن الخطاب في إِنْ تَعْجَبْ عام ، والمعنى إن تعجب يا من نظر ما في هذه الآيات وعلم قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجبا ممن ينكر مع هذا قدرته على البعث وهو أهون شيء عليه ، وقيل : المعنى إن تجدد منك التعجب لإنكارهم البعث فاستمر عليه فإن إنكارهم ذلك من الأعاجيب ، وقيل : المراد إن كنت تريد أيها المريد عجبا فهلم فإن من أعجب العجب إنكارهم البعث ، واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعا هذا. وفي المؤمنين. والعنكبوت. والنمل. والسجدة والواقعة. والنازعات. وبني إسرائيل في موضعين وكذا في الصافات ، فقرأ نافع. والكسائي بجعل الأول استفهاما والثاني خبرا إلا في العنكبوت والنمل فعكس نافع وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نونا.
وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبرا والثاني استفهاما إلا في النمل والنازعات فعكس وزاد في النمل نونا كالكسائي وإلا في الواقعة فقرأ باستفهامين وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب إلا ابن كثير وحفصا فإنهما قرآ في العنكبوت بالخير في الأول والاستفهام في الثاني وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين أُولئِكَ مبتدأ والموصول خبره أي أولئك المنكرون للبعث ريثما عاينوا من آيات ربهم الكبرى ما يرشدهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وتمادوا في ذلك فإن إنكار قدرته عز وجل إنكار له سبحانه لأن الإله لا يكون عاجزا مع ما في ذلك من تكذيبه جل شأنه وتكذيب رسله المتفقون عليه عليهم السلام وَأُولئِكَ مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وفيه احتمالان : الأول أن يكون المراد وصفهم بذلك في الدنيا فهو تشبيه وتمثيل لحالهم في امتناعهم عن الإيمان وعدم الالتفات إلى الحق بحال طائفة في أعناقهم أغلال وقيود لا يمكنهم الالتفات معها كقوله :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 101
كيف الرشاد وقد خلفت في نفر لهم عن الرشد أغلال وأقياد
كأنه قيل : أولئك مقيدون بقيود الضلالة لا يرجى خلاصهم. الثاني أن يكون المراد وصفهم به في الآخرة والكلام إما باق على حقيقته كما قال سبحانه : إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غافر : 71] وروي ذلك عن الحسن قال : إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكنما جعلت في أعناقهم لكي إذا طغا بهم اللهب أرستهم في النار ، وأما مخرج مخرج التشبيه لحالهم بحال من يقدم للسياسة. وقيل : المراد من الأغلال أعمالهم الفاسدة التي تقلدوها كالأغلال ، وهو جار على احتمال أن يكون ذلك في الدنيا أو في الآخرة والأول ناظر إلى ما قبل والثاني إلى قوله تعالى : وَأُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا ينفكون عنها ، قيل : وتوسيط الفصل ليس لتخصيص الخلود بمنكري البعث خاصة بل بالجميع المدلول عليه بقوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ.
وأورد على ذلك أن هُمْ ليس ضمير فصل لأن شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر يكون اسما معرفة أو مثل المعرفة في أنه لا يقبل حرف التعريف كأفعل التفضيل وهذا ليس كذلك ، وأجيب بأن المراد بالفصل الضمير المنفصل وأنه أتى به وجعل الخبر جملة مع أن الأصل فيه الإفراد لقصد الحصر والتخصيص المذكور كما في هو عارف.
وقال بعضهم : لعل القائل بما ذكر لا يتبع النحاة في الاشتراط المذكور كما أن الجرجاني والسهيلي جوزا ذلك إذا كان الخبر مضارعا واسم الفاعل مثله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة التي هددوا بها على الإصرار على الكفر استهزاء وتكذيبا قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي العافية والسلامة منها ، والمراد بكونها قبلها أن سؤالها قبل سؤالها أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها ، وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : هؤلاء مشركو العرب استعجلوا بالشر قبل الخير فقالوا : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال :
32] وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ جمع مثلة كسمرة وسمرات وهي العقوبة الفاضحة ، وفسرها ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بالعقوبة المستأصلة للعضو كقطع الاذن ونحوه سميت بها لما بين العقاب والمعاقب به من المماثلة كقوله تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : 40] أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص يقال : أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته بمعنى واحد أو هي من المثل المضروب لعظمها.
والجملة في موضع الحال لبيان ركاكة رأيهم في الاستعجال بطريق الاستهزاء أي يستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين لوقوع ما أنذرتهم إياه والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين. وقرأ مجاهد. والأعمش «المثلات» بفتح الميم والثاء ، وعيسى بن عمرو في رواية الأعمش. وأبو بكر بضمهما وهو لغة أصلية ، ويحتمل أنه أتبع فيه العين للفاء ، وابن وثاب بضم الميم وسكون الثاء وهي لغة تميم ، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء وهي لغة الحجازيين وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ عظيمة لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أنفسهم بالذنوب والمعاصي ، والجار والمجرور في موضع الحال من الناس والعامل فيها هو العامل في صاحبها وهو مَغْفِرَةٍ أي إنه تعالى لغفور للناس مع كونهم ظالمين : قيل : وهذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة وهو جواز مغفرة الكبائر والصغائر بدون توبة لأنه سبحانه ذكر المغفرة مع الظلم أي الذنب ولا يكون معه إلا قبل التوبة لأن
التائب من الذنب كمن لا ذنب له ،
وأول ذلك المعتزلة بأن المراد مغفرة الصغائر لمجتنب الكبائر أو مغفرتها لمن تاب أو المراد بالمغفرة معناها اللغوي وهو الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة كأنه قيل : إنه تعالى لا يعجل للناس العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يستر عليهم بتأخيرها. واعترض التأويل بالتخصيص بأنه تخصيص للعام من غير دليل. وأجيب بأن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 102
الكفر قد خص بالإجماع فيسري التخصيص إلى ذلك. وتعقب الأخير بأنه في غاية البعد لأنه كما قال الإمام لا يسمى مثله مغفرة وإلا لصح أن يقال : الكفار مغفورون. ورد بأن المغفرة حقيقتها في اللغة الستر وكونهم مغفورين بمعنى مؤخر عذابهم إلى الآخر لا محذور فيه وهو المناسب لاستعجالهم العذاب. وأجيب بأن المراد أن ذلك مخالف للظاهر ولاستعمال القرآن ، وذكر العلامة الطيبي أنه يجب تأويل الآية بأحد الأوجه الثلاثة لأنها بظاهرها كالحث على الظلم لأنه سبحانه وعد المغفرة البالغة مع وجود الظلم. وتعقب ذلك في الكشف فقال : فيه نظر لأن الأسلوب يدل على أنه تعالى بليغ المغفرة لهم مع استحقاقهم لخلافها لتلبسهم بما العقاب أولى بهم عنده ، والظاهر أن التأويل بناء على مذهب الاعتزال. وأما على مذهب أهل السنة فإنما يؤول لو عم الظلم الكفر ، ثم قال : والتأويل بالستر والإمهال أحسن فيكون قوله تعالى : وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لتحقيق الوعيد بهم وإن كانوا تحت ستره وإمهاله ، ففيه إشارة إلى أن ذلك إمهال لا إهمال. والمراد بالناس إما المعهودون وهم المستعجلون المذكورون قبل أو الجنس دلالة على كثرة الهالكين لتناولهم وأضرابهم وهذا جار على المذهبين ، وكذا اختار الطيبي هذا التأويل وقال هو الوجه. والآية على وزان قوله تعالى : قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان : 6] على ما ذكره الزمخشري في تفسيره وأنت قد سمعت ما له وما عليه فتدبر. واختار غير واحد إرادة الجنس من الناس وهو مراد أيضا في «شديد العقاب».
والتخصيص بالكفار غير مختار. ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية وَإِنَّ رَبَّكَ إلخ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «لولا عفو اللّه تعالى وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد»
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المستعجلون كما روي عن قتادة ، وكأنه إنما عبر عنهم بذلك نعيا عليهم كفرهم بآيات اللّه تعالى التي تخر لها صم الجبال حيث لم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من جنس الآيات وقالوا :
لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام من قلب العصا حية وإحياء الموتى عنادا أو مكابرة وإلا ففي أدنى آية أنزلت عليه عليه الصلاة والسلام غنية وعبرة لأولي الألباب ، والتعبير بالمضارع استحضارا للحال الماضية ، وجوز أن يكون إشارة إلى أن ذلك القول ديدنهم ، وتنوين آيَةٌ للتعظيم وجوز أن يكون للوحدة.
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مرسل للإنذار من سوء عاقبة ما نهى اللّه تعالى عنه كدأب من قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيان بما يعلم به نبوتك وقد حصل بما لا مزيد عليه ولا حاجة إلى إلزامهم وإلقامهم الحجر بالإتيان بما اقترحوه وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي نبي داع إلى الحق مرشد إليه بآية تليق به وبزمانه ، والتنكير للإبهام وروي هذا عن قتادة أيضا.
ومجاهد ، وعليه فقوله تعالى : اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى استئناف جوابا عن سؤال من يقول : لما ذا لم يجابوا إلى المقترح فتنقطع حجتهم ولعلهم يهتدون؟ بأن ذلك أمر مدبر ببالغ العلم ونافذ القدرة لا عن الجزاف واتباع آرائهم السخاف ، وجوز أن يراد بالهادي هو اللّه تعالى وروي ذلك عن ابن عباس. والضحاك. وابن جبير ، فالتنوين فيه للتفخيم والتعظيم ، وتوجيه الآية على ذلك أنهم لما أنكروا الآيات عنادا لكفرهم الناشئ عن التقليد ولم يتدبروا الآيات قيل :
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ لا هاد مثبت للإيمان في صدورهم صاد لهم عن جحودهم فإن ذلك إلى اللّه تعالى وحده وهو سبحانه القادر عليه ، وعلى هذا قيل : يجوز أن يكون قوله سبحانه : اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف أي هو اللّه ويكون ذلك تفسيرا - لهاد - ويَعْلَمُ جملة مقررة لاستقلاله تعالى بالهداية كالعلة لذلك ، ويجوز أن يكون جملة اللَّهُ يَعْلَمُ مقررة ويكون من باب إقامة الظاهر ، مقام المضمر كأنه هو تعالى يعلم أي ذلك الهادي ، والأول بعيد جدا ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس ، وابن جرير عن عكرمة. وأبي الضحى أن المنذر والهادي هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ووجه ذلك بأن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 103
هادٍ عطف على مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ متعلق به قدم عليه للفاصلة. وفي ذلك دليل على عموم رسالته صلى اللّه عليه وسلم وشمول دعوته ، وفيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجار والمجرور والنحويون في جوازه مختلفون ، وقد يجعل هادٍ خبر مبتدأ مقدر أي وهو هاد أو وأنت هاد ، وعلى الأول فيه التفات ، وقال أبو العالية : الهادي العمل ، وقال علي بن عيسى : هو السابق إلى الهدى ولكل قوم سابق سبقهم إلى الهدى. قال أبو حيان : وهذا يرجع إلى أن الهادي هو النبي لأنه الذي يسبق إلى ذلك وعن أبي صالح أنه القائد إلى الخير أو إلى الشر والكل كما ترى. وقالت الشيعة : إنه علي كرم اللّه تعالى وجهه ورووا في ذلك أخبارا ، وذكر ذلك القشيري منا. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والديلمي وابن عساكر عن ابن عباس قال : لما نزلت إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ الآية وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده على صدره فقال : أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي كرم اللّه تعالى وجهه فقال : أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي.
وأخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن عساكر أيضا عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال في الآية : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنذر وأنا الهادي ، وفي لفظ والهادي رجل من بني هاشم
- يعني نفسه ..
واستدل بذلك الشيعة على خلافة علي كرم اللّه وجهه بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلا فصل. وأجيب بأنا لا نسلم صحة الخبر ، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند أهل الأثر ، وليس في الآية دلالة على ما تضمنه بوجه من الوجوه ، على أن قصارى ما فيه كونه كرم اللّه تعالى وجهه به يهتدي المهتدون بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك لا يستدعي إلا إثبات مرتبة الإرشاد وهو أمر والخلافة التي نقول بها أمر لا تلازم بينهما عندنا.
وقال بعضهم : إن صح الخبر يلزم القول بصحة خلافة الثلاثة رضي اللّه تعالى عنهم حيث دل على أنه كرم اللّه تعالى وجهه على الحق فيما يأتي ويذر وأنه الذي يهتدي به وهو قد بايع أولئك الخلفاء طوعا ومدحهم وأثنى عليهم خيرا ولم يطعن في خلافتهم فينبغي الاقتداء به والجري على سننه في ذلك ودون إثبات خلاف ما أظهر خرط القتاد.
وقال أبو حيان : إنه صلى اللّه عليه وسلم على فرض صحة الرواية إنما جعل عليا كرم اللّه تعالى وجهه مثالا من علماء الأمة وهداتها إلى الدين فكأنه عليه الصلاة والسلام قال : يا علي هذا وصفك فيدخل الخلفاء الثلاث وسائر علماء الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم بل وسائر علماء الأمة ، وعليه فيكون معنى الآية إنما أنت منذر ولكل قوم في القديم والحديث إلى ما شاء اللّه تعالى هداة دعاة إلى الخير اه وظاهره أنه لم يحمل تقديم المعمول في خبر ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما على الحصر الحقيقي وحينئذ لا مانع من القول بكثرة من يهتدي به ، ويؤيد عدم الحصر ما جاء عندنا من
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»
وأخبار أخر متضمنة لإثبات من يهتدي به غير علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وأنا أظنك لا تلتفت إلى التأويل ولا تعبأ بما قيل وتكتفي بمنع صحة الخبر وتقول ليس في الآية مما يدل عليه عين ولا أثر هذا ، وما يحتمل أن تكون مصدرية أي يعلم حمل كل أنثى من أي الإناث كانت ، والحمل على هذا بمعنى المحمول ، وأن تكون موصولة والعائد محذوف أي الذي تحمله في بطنها من حين العلوق إلى زمن الولادة لا بعد تكامل الخلق فقط ، وجوز أن تكون نكرة موصوفة ويَعْلَمُ قيل متعدية إلى واحد فهي عرفانية ، ونظر فيه بأن المعرفة لا يصح استعمالها في علم اللّه تعالى وهو ناشئ من عدم المعرفة بتحقيق ذلك وقد تقدم ، وجوز أن تكون استفهامية معلقة - ليعلم - وهي مبتدأ أو مفعول مقدم والجملة سادة مسد المفعولين ، أي يعلم أي شيء تحمل وعلى أي حال هو من الأحوال المتواردة عليه طورا فطورا ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر المتبادر ، وكما جوز في «ما» هذه هذه الأوجه جوزت في ما بعدها أيضا ، ووجه مناسبة الآية لما قبلها قد علم مما سبق ، وقيل : وجهها أنه لما تقدم إنكارهم البعث

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 104
وكان من شبههم تفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها نبه سبحانه بهذه الآية على إحاطة علمه جل شأنه إزاحة لشبهتهم وقيل : وجهها أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه عز وجل على إحاطة علمه تعالى ليفيد أنه جلت حكمته إنما ينزل العذاب حسبما يعلم من المصلحة والحكمة ، وفي مصحف أبي ومر ما قيل في نظيره ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ [فاطر : 11 ، فصلت : 47] وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي ما تنقصه وما تزداده في الجثة كالخديج والتام وروي ذلك عن ابن عباس ، وفي المدة كالمولود في أقل مدة الحمل والمولود في أكثرها وفيما بينهما وهو رواية أخرى عن الحبر ، قيل : إن الضحاك ولد لسنتين ، وإن هرم «1»
بن حيان لأربع ومن ذلك سمي هرما ، وإلى كون أقصى مدة الحمل أربع سنين ذهب الشافعي ، وعند مالك أقصاها خمس ، وعند الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أقصاها سنتان وهو المروي عن عائشة رضي اللّه عنها ، فقد أخرج ابن جرير عنها لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما تتحرك فلكة مغزل ، وفي العدد كالواحد فما فوق ، قيل : ونهاية ما عرف أربعة فإنه يروى أن شريك «2»
بن عبد اللّه بن أبي نمير القرشي كان رابع أربعة وهو الذي وقف عليه إمامنا الأعظم رضي اللّه تعالى عنه ، وقال الشافعي عليه الرحمة : أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة وهذا من النوادر ، وقد اتفق مثله لكن ما زاد على اثنين لضعفه لا يعيش إلا نادرا.
وما يحكى أنه ولد لبعضهم أربعون في بطن واحدة كل منهم مثل الإصبع وأنهم عاشوا كلهم فالظاهر أنه كذب ، وقيل : المراد نقصان دم الحيض وازدياده وروي ذلك عن جماعة ، وفيه جعل الدم في الرحم كالماء في الأرض يغيض تارة ويظهر أخرى ، وغاض جاء متعديا ولازما كنقص وكذا ازداد وهو مما اتفق عليه أهل اللغة ، فإن جعلتهما لازمين لا يجوز أن تكون «ما» موصولة أو موصوفة لعدم العائد ، وإسناد الفعلين كيفما كانا إلى الأرحام فإنهما على اللزوم لما فيها وعلى التعدي للّه جل شأنه وعظم سلطانه وَكُلُّ شَيْءٍ من الأشياء عِنْدَهُ سبحانه بِمِقْدارٍ بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر : 49] فإن كل حادث من الأعراض والجواهر له في كل مرتبة من مراتب التكوين ومباديها وقت معين وحال مخصوص لا يكاد يجاوزه ولعل حال المعدوم معلوم بالدلالة إذا قلنا : إن الشيء هو الموجود وعند ظرف متعلق بمحذوف وقع صفة لشيء أو لكل وبِمِقْدارٍ خبر كُلُّ وجوز أن يكون الظرف متعلقا بمحذوف وقع حالا من - مقدار - وهو في الأصل صفة له لكنه لما قدم أعرب حالا وفاء بالقاعدة وأن يكون ظرفا لما يتعلق به الجار ، والمراد بالعندية الحضور العلمي بل العلم الحضوري على ما قيل ، فإن تحقق الأشياء في أنفسها في أي مرتبة كانت من مراتب الوجود والاستعداد لذلك علم بالنسبة إليه تعالى ، وقيل : معنى عنده في حكمه عالِمُ الْغَيْبِ أي الغائب عن الحس وَالشَّهادَةِ أي الحاضر له عبر عنهما بهما مبالغة.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الغيب السر والشهادة العلانية ، وقيل : الأول المعدوم والثاني الموجود ونقل عن بعضهم أنه قال : إنه سبحانه لا يعلم الغيب على معنى أن لا غيب بالنسبة إليه جل شأنه والمعدومات مشهودة له تعالى بناء على القول برؤية المعدوم كما برهن عليه الكوراني في رسالة ألفها لذلك ، ولا يخفى ما في ذلك من مزيد الجسارة على اللّه تعالى والمصادمة لقوله جل شأنه : عالِمُ الْغَيْبِ ولا ينبغي لمسلم أن يتفوه بمثل هذه الكلمة التي تقشعر من سماعها أبدان المؤمنين نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا للوقوف عند حدنا ويمن علينا بحسن الأدب معه سبحانه ،
___________
(1) وزنه ككتف اه منه.
(2) ويعد من التابعين اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 105
ورفع عالِمُ على أنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «عالم» بالنصب على المدح ، وهذا الكلام كالدليل على ما قبله من قوله تعالى : اللَّهُ يَعْلَمُ إلخ.
الْكَبِيرُ العظيم الشأن الذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء في ذاته وعلمه وسائر صفاته سبحانه ، وجوز أن يكون المعنى الكبير الذي يجل عما نعته به الخلق من صفات المخلوقين ويتعالى عنه ، فعلى الأول المراد تنزيهه سبحانه في ذاته وصفاته عن مداناة شيء منه وعلى هذا المراد تنزيهه تعالى عما وصفه الكفرة به فهو رد لهم كقوله جل شأنه : سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون : 91 ، الصافات : 159] قال العلامة الطيبي : إن معنى الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ بالنسبة إلى مردوفه وهو عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هو العظيم الشأن الذي يكبر عن صفات المخلوقين ليضم مع العلم العظمة والقدرة بالنظر إلى ما سبق من قوله تعالى ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى إلى آخر ما يعيد التنزيه عما يزعمه النصارى والمشركون ورفع الْكَبِيرُ على انه خبر بعد أن يكون عالِمُ مبتدأ وهو خبره سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ أخفاه في نفسه ولم يتلفظ به ، وقيل : تلفظ به بحيث لم يسمع نفسه دون غيره وَمَنْ جَهَرَ بِهِ من يقابل ذلك بالمعنيين وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ مبالغ في الاختفاء كأنه مختف بِاللَّيْلِ وطالب للزيادة وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي ظاهر فيه كما روي عن ابن عباس ، وهو على ما قال جمع في الأصل اسم فاعل من سرب إذا ذهب في سربه أي طريقه ، ويكون بمعنى تصرف كيف شاء قال الشاعر :
إني سربت وكنت غير سروب وتقرب الأحلام غير قريب
وقال الآخر :
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي فهو متصرف كيف شاء لا يدفع عن جهة يفتخر بعزة قومه ، فما ذكره الخبر لازم معناه ، وقرينته وقوعه في مقابلة مستخف ، والظاهر من كلام بعضهم أنه حقيقة في الظاهر ، ورفع سَواءٌ على أنه خبر مقدم ومَنْ مبتدأ مؤخر ، ولم يثن الخبر لأنه في الأصل مصدر وهو الآن بمعنى مستو ولم يجئ تثنيته في أشهر اللغات ، وحكى أبو زيد هما سواءان ، ومِنْكُمْ حال من الضمير المستتر فيه لا في أَسَرَّ وجَهَرَ لأن ما في حيز الصلة والصفة لا يتقدم على الموصول والموصوف ، وجوز أبو حيان كون سَواءٌ مبتدأ لوصفه بمنكم وما بعده الخبر ، وكذا أعرب سيبويه قول العرب : سواء عليه الخير والشر ، وقول ابن عطية : إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة لا يصح وسارِبٌ عطف على مَنْ كأنه قيل : سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر سارب ، والنكتة في زيادة هو في الأول أنه الدال على كمال العلم فناسب زيادة تحقيق وهو النكتة في حذف الموصوف عن سارب أيضا ، والوجه في تقديم أَسَرَّ وأعماله في صريح القول على جهره وأعماله في ضميره ، وجوز أن يكون على مُسْتَخْفٍ واستشكل بأن سواء يقتضي ذكر شيئين فإذا كان سارب معطوفا على جزء الصلة أو الصفة لا يكون هناك الا شيء واحد ، ولا يجيء هذا على الأول لأن المعنى ما علمت. وأجيب بأن مَنْ عبارة عن الاثنين كما في قوله :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فكأنه قيل : سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار ، قال في الكشف : وعلى الوجهين مَنْ موصوفة لا موصولة فيحمل الأوليان أيضا على ذلك ليتوافق الكل. وإيثارها على الموصولة دلالة على أن المقصود الوصف فإن ذلك متعلق العلم ، وأما لو قيل : سواء الذي أسر القول والذي جهر به فإن أريد الجنس من باب :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 106
ولقد أمر على اللئيم يسبني فهو والأول سواء لكن الأول نص ، وإن أريد المعهود حقيقة أو تقديرا لزم إيهام خلاف المقصود لما مر ، وقيل :
في الكلام موصول محذوف والتقدير ومن هو سارب كقول أبي فراس :
فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
وقول حسان :
أمن يهجو رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء
وهو ضعيف جدا لما فيه من حذف الموصول مع صدر الصلة ، وقد ادعى الزمخشري أن أحد الحذفين سائغ لكن اجتماعهما منكر من المنكرات بخلاف البيتين ، وقال أبو حيان : إن حذف من هنا وإن كان للعلم به لا يجوز «1»
عند البصريين ويجوز عند الكوفيين ، وزعم بعضهم أن المقصود استواء الحالتين سواء كانتا لواحد أو لاثنين ، والمعنى سواء استخفاؤه وسروبه بالنسبة إلى علم اللّه تعالى فلا حاجة إلى توجيه الآية بما مر ، وكذا حال ما تقدمه فعبر بأسلوبين والمقصود واحد.
وتعقب بأنه لا تساعده العربية لأن مَنْ لا تكون مصدرية ولا سابك في الكلام. وزعم ابن عطية جواز أن تكون الآية متضمنة ثلاثة أصناف فالذي يسر طرف والذي يجهر طرف مضاد للأول والثالث متلون يعصى بالليل مستخفيا ويظهر البراءة بالنهار وهو كما ترى. ومن الغريب ما نقل عن الأخفش وقطرب تفسير المستخفي بالظاهر فإنه وإن كان موجودا في كلامهم بهذا المعنى لكن يمنع عنه في الآية ما يمنع ، ثم إن في بيان علمه تعالى بما ذكر بعد بيان شمول علمه سبحانه الأشياء كلها ما لا يخفى من الاعتناء بذلك.
لَهُ الضمير راجع إلى من تقدم ممن أسر بالقول وجهر به إلى آخره باعتبار تأويله بالمذكور وإجرائه مجرى اسم الإشارة وكذا المذكورة بعده مُعَقِّباتٌ ملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته جمع معقبة من عقب مبالغة في عقبه إذا جاء على عقبة وأصله من العقب وهو مؤخر الرجل ثم تجوز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة كأن أحدهم يطأ عقب الآخر ، فالتفعيل للتكثير وهو إما في الفاعل أو في الفعل لا للتعدية لأن ثلاثيه متعد بنفسه ، ويجوز أن يكون إطلاق المعقبات على الملائكة عليهم السلام باعتبار أنهم يعقبون أقوال الشخص وأفعاله أي يتبعونها ويحفظونها بالكتابة. وقال الزمخشري : إن أصله معتقبات فهو من باب الافتعال فادغمت التاء في القاف كقوله تعالى : وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ [التوبة :
90] أي المعتذرون. وتعقب بأنه وهم فاحش فإن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين ، وقد نص الصرفيون على أن القاف والكاف كل منهما لا يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما ، والتاء في معقبة للمبالغة كتاء - نسابة - لأن الملائكة عليهم السلام غير مؤنثين ، وقيل : هي للتأنيث بمعنى أن معقبة صفة جماعة منهم ، فمعنى معقبات جماعات كل جماعة منها معقبة وليس معقبة جمع معقب ، وذكر الطبري أنه جمعه وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات وهو كما ترى لكن أوله أبو حيان بأنه أراد بقوله : جمع معقب أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب فصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد وتشبيه ذلك بما ذكر من حيث المعنى لا من حيث صناعة النحو ، فبين أن معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع وإن معقبات من حيث استعمل جمعا لمعقبة المستعمل في الجمع كرجالات الذي هو جمع رجال.
___________
(1) أي في الشعر اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 107
وقرأ أبي وإبراهيم «معاقيب» وهو جمع كما قال الزمخشري جمع معقب أو معقبة بتشديد القاف فيهما والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير ، وقال ابن جني : إنه تكسير معقب كمطعم ومطاعيم ومقدم ومقاديم كأنه جمع على معاقبة ثم حذفت الهاء من الجمع وعوضت الياء عنها ولعله الأظهر ، وقرئ «معتقبات» من اعتقب مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ متعلق بمحذوف وقع صفة لمعقبات أو حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا له ، فالمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه أو هو متعلق بمعقبات ومِنْ لابتداء الغاية ، فالمعنى أن المعقبات تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال أي تحفظ جميع أعماله ، وجوز أن يكون متعلقا بقوله تعالى : يَحْفَظُونَهُ والجملة صفة معقبات أو حال «1»
من الضمير في الظرف.
وقرأ أبي «من بين يديه ورقيب من خلفه» وابن عباس «ورقباء من خلفه» وروى مجاهد عنه أنه قرأ «له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه» مِنْ أَمْرِ اللَّهِ متعلق بما عنده ومِنْ للسببية أي يحفظونه من المضار بسبب أمر اللّه تعالى لهم بذلك ، ويؤيد ذلك أن عليا كرم اللّه تعالى وجهه ، وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. وزيد بن علي. وجعفر بن محمد. وعكرمة رضي اللّه تعالى عنهم قرؤوا «بأمر اللّه» بالباء وهي ظاهرة في السببية.
وجوز أن يتعلق بذلك أيضا لكن على معنى يحفظونه من بأسه تعالى متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له أي يحفظونه باستدعائهم من اللّه تعالى أن يمهله ويؤخر عقابه ليتوب أو يطلبون من اللّه تعالى أن يغفر له ولا يعذبه أصلا ، وقال في البحر : إن معنى الكلام يصير على هذا الوجه إلى التضمين أي يدعون له بالحفظ من نقمات اللّه تعالى.
وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي له معقبات من أمر اللّه يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، وروي هذا عن مجاهد. والنخعي. وابن جريج فيكون مِنْ أَمْرِ اللَّهِ متعلقا بمحذوف وقع صفة لمعقبات أي كائنة من أمره تعالى ، وقيل : إنه لا يحتاج في هذا المعنى إلى دعوى تقديم وتأخير بأن يقال : إنه سبحانه وصف المعقبات بثلاث صفات. احداها كونها كائنة من بين يديه ومن خلفه. وثانيتها كونها حافظة له. وثالثتها كونها كائنة من أمره سبحانه ، وإن جعل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ متعلقا - بيحفظونه - يكون هناك صفتان الجملة والجار والمجرور ، وتقديم الوصف بالجملة على الوصف به سائغ شائع في الفصيح ، وكأن الوصف بالجملة الدالة على الديمومة في الحفظ لكونه آكد قدم على الوصف الآخر. وأخرج ابن أبي حاتم. وابن جرير. وأبو الشيخ عن ابن عباس أن المراد بالمعقبات الحرس الذين يتخذهم الأمراء لحفظهم من القتل ونحوه ، وروي مثله عن عكرمة ، ومعنى يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أنهم يحفظونه من قضاء اللّه تعالى وقدره ويدفعون عنه ذلك في توهمه لجهله باللّه تعالى. ويجوز أن يكون من باب الاستعارة التهكمية على حد ما اشتهر في قوله تعالى : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران : 21 ، التوبة : 34 ، الانشقاق : 24] فهو مستعار لضده وحقيقته لا يحفظونه. وعلى ذلك يخرج قول بعضهم : إن المراد لا يحفظونه لا على أن هناك نفيا مقدرا كما يتوهم ، والأكثرون على أن المراد بالمعقبات الملائكة.
وفي الصحيح «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر»
وذكروا أن مع العبد غير الملائكة الكرام الكاتبين ملائكة حفظة ،
فقد أخرج أبو داود. وابن المنذر وابن أبي الدنيا. وغيرهم عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : لكل عبد حفظة يحفظونه لا يخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة حتى إذا جاء القدر الذي قدر له خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء اللّه تعالى أن يصيبه.
___________
(1) وقد تكون مستأنفة اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 108
وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني والصابوني عن أبي أمامة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «وكل بالمؤمن «1»
ثلاثمائة وستون ملكا يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل كلهم باسط يديه فاغر فاه وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».
وأخرج ابن جرير عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان رضي اللّه تعالى عنه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ فقال : ملك عن يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال إذا عملت حسنة كتبت عشرا فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب؟ قال : لا لعله يستغفر اللّه تعالى ويتوب فإذا قال ثلاثا قال : نعم اكتب أراحنا اللّه تعالى منه فبئس القرين ما أقل مراقبته للّه سبحانه وأقل استحياءه منه تعالى يقول اللّه جل وعلا : ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق : 18] وملكان من بين يديك وملكان من خلفك يقول اللّه تعالى : لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت للّه تعالى رفعك وإذا تجبرت على اللّه تعالى قصمك وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية فيه وملكان على عينك فهؤلاء عشرة أملاك ينزلون على كل بني آدم في النهار وينزل مثلهم في الليل».
والاخبار في هذا الباب كثيرة. واستشكل أمر الحفظ بأن المقدر لا بد من أن يكون وغير المقدر لا يكون بدا فالحفظ من أي شيء. وأجيب بأن من القضاء والقدر ما هو معلق فيكون الحفظ منه ولهذا حسن تعاطي لأسباب وإلا فمثل ذلك وارد فيها بأن يقال : إن الأمر الذي نريد أن نتعاطاه إما أن يكون مقدرا وجوده فلا بد أن يكون أو مقدرا عدمه فلا بد أن لا يكون فما الفائدة في تعاطيه والتشبث بأسبابه؟. وتعقب هذا أن ما ذكر إنما حسن منا لجهلنا بأن ما نطلبه من المعلق أو من غيره والمسألة المستشكلة ليست كذلك ، وأنت تعلم أن اللّه تعالى جعل في المحسوسات أسبابا محسوسة وربط بها مسبباتها حسبما تقتضيه حكمته الباهرة ولو شاء لأوجد المسببات من غير أسباب لفناه جل شأنه الذاتي ولا مانع من أن يجعل في الأمور الغير المحسوسة أسبابا يربط بها المسببات كذلك ، وحينئذ يقال : إنه جلت عظمته جعل أولئك الحفظة أسبابا للحفظ كما جعل في المحسوس نحو الجفن للعين سببا لحفظها مع أنه ليس سببا إلا للحفظ مما لم يبرم من قضائه وقدره جل جلاله ، والوقوف على الحكم بأعيانها مما لم نكلف به ، والعلم بأن أفعاله تعالى لا تخلو عن الحكم والمصالح على الإجمال مما يكفي المؤمن ، ويقال نحو هذا في أمر الكرام الكاتبين فهم موجودون بالنص وقد جعلهم اللّه تعالى حفظة لأعمال العبد كاتبين لها ونحن نؤمن بذلك وإن لم نعلم ما قلمهم وما مدادهم وما قرطاسهم وكيف كتابتهم وأين محلهم وما حكمة ذلك مع أن علمه تعالى كاف في الثواب والعقاب عليها وكذا تذكر الإنسان لها وعلمه بها يوم القيامة كاف في دفع ما عسى أن يختلج في صدره عند معاينة ما يترتب عليها ، ومن الناس من خاض في بيان الحكمة وهو أسهل من بيان ما معها.
وذكر الإمام الرازي في جواب السؤال عن فائدة جعل الملائكة عليهم السلام موكلين علينا كلاما طويلا فقال :
اعلم أن ذلك غير مستبعد لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة ، ولا شك أن لتلك الكواكب أرواحا عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الأرواح في الحقيقة ، وكذا القول في تدبير الهيلاج والكدخداه على ما يقولون. وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور على ألسنتهم فإنهم يقولون :
___________
(1) لعل التخصيص بالذكر للشرف فلا تغفل اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 109
أخبرنا الطباع التام بكذا ، ومرادهم به أن لكل إنسان روحا فلكية تتولى صلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته ، وإذا كان هذا متفقا عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئه في الشرع.
وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها حرة وبعضها نذلة وبعضها قوية القهر وبعضها ضعيفته ، وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك فكذلك القول في الأرواح الفلكية ، ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وصفة أقوى من الأرواح البشرية ، وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة وتكون في مرتبة روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية ، فتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي وإذا كان الأمر كذلك فإن ذلك الروح الفلكي يكون معينا على مهماتها ومرشدا لها إلى مصالحها وعاصما إياها عن صنوف الآفات ، وهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة ، وبذلك يعلم أن ما وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فلا يمكن استنكاره اه.
ولعل مقصوده بذلك تنظير أمر الحفظة مع العبد بأمر الأرواح الفلكية معه على زعم الفلاسفة في الجملة ، وإلا فما يقوله المسلمون في أمرهم أمر وما يقوله الفلاسفة في أمر تلك الأرواح أمر آخر وهيهات هيهات أن نقول بما قالوا فإنه بعيد عما جاء عن الشارع عليه الصلاة والسلام بمراحل ، ثم ذكر عليه الرحمة من فوائد الحفظة للأعمال أن العبد إذا علم أن الملائكة عليهم السلام يحضرونه ويحصون عليه أعماله وهم - هم - كان أقرب إلى الحذر عن ارتكاب المعاصي ، كمن يكون بين يدي أناس أجلاء من خدام الملك موكلين عليه فإنه لا يكاد يحاول معصية بينهم ، وقد ذكر ذلك غيره ولا يخلو عن حسن ، ثم نقل عن المتكلمين في فائدة الصحف المكتوبة أنها وزنها يوم القيامة فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ، ويظهر كل من الأمرين للخلائق.
وتعقبه القاضي بأن ذلك بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء والعياذ باللّه تعالى فلا يجوز توقف حصول المعرفة على الميزان ، ثم أجاب بأنه لا يمتنع أيضا ما ذكرناه لأمر يرجع إلى حصول سرور العبد عند الخلق العظيم بظهور أنه من أولياء اللّه تعالى لهم وحصول ضد ذلك لمن كان من أعداء اللّه تعالى ، ولا يخفى أن هذا مبني على أن الذي يوزن هو الصحف وهو أحد أقوال في المسألة. نعم ذهب إليه جمع من الأجلّة لحديث البطاقة والسجلات المشهور ، وكذا على أن الكتابة على معناها الظاهر وهو الذي ذهب إليه أهل الحديث بل وغيرهم فيما أعلم ونقل «1»
عن حكماء الإسلام معنى آخر فقال : إن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف بعض المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني بأعيانها وذواتها كانت تلك الكتابة أقوى وأكمل ، وحينئذ نقول : إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب ذلك ملكة قوية راسخة ، فإن كانت تلك الملكة ملكة في أعمال نافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بعد الموت ، وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد ، ثم قال : إذا ثبت هذا فنقول : إن التكرير الكثير إن كان سببا لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة ، وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة ، وإذا عرف هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو آثار
___________
(1) أي الرازي اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 110
الشقاوة قل أو كثر ، وهذا هو المراد من كتب الأعمال عند حكماء الإسلام واللّه تعالى العالم بحقائق الأمور انتهى ، وقد رأيت ذلك لبعض الصوفية.
وأنت تعلم أنه خلاف ما نطقت به الآيات والأخبار ، ونحن في أمثال هذه الأمور لا نعدل عن الظاهر ما أمكن ، والحق أبلج وما بعد الحق إلا الضلال هذا. ومن الناس من جعل ضمير «له» لمن الأخير والأول أولى ، ومنهم من جعله للّه تعالى وما بعده - لمن - وفيه تفكيك للضمائر من غير داع ، ومنهم من جعله للنبي صلى اللّه عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام معلوم من السياق وقد تقدم الأخبار عنه صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى : وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [يونس : 20] الآية.
واستدل على ذلك بما
أخرجه ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني في الكبير. وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس أن أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانتحيا إليه وهو عليه الصلاة والسلام جالس فجلسا بين يديه فقال عامر : ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال : أتجعل لي إن أسلمت الأمر بعدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل قال : فاجعل لي الوبر ولك المدر فقال صلى اللّه عليه وسلم : لا فلما قفى من عنده قال : لأملأنها عليك خيلا ورجلا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : يمنعك اللّه تعالى ، وفي رواية وأبناء قيلة - يريد الأوس والخزرج - فلما خرجا قال عامر : يا أربد إني سألهي محمدا عنك بالحديث فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلته لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد : افعل فأقبلا راجعين فقال عامر : يا محمد قم معي أكلمك فقام عليه الصلاة والسلام معه فخليا إلى الجدار ووقف عامر يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده عليه يبست على قائمة فلم يستطع سله وأبطأ على عامر فالتفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما وقال عامر لأربد : مالك؟ قال : وضعت يدي على قائم سيفي فيبست فلما خرجا حتى إذا كانا بالرقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فوقع بهما أسيد قال : اشخصا يا عدوي اللّه تعالى لعنكم اللّه تعالى فقال عامر : من هذا يا سعد؟ فقال : هذا أسيد بن حضير الكتائب فقال : أما واللّه إن كان حضير صديقا لي ، ثم إن اللّه سبحانه أرسل على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان بوادي الجريد أرسل اللّه تعالى عليه قرحة فأدركه الموت ، وفي رواية أنه كان يصيح يا لعامر أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فأنزل اللّه
تعالى فيهما اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى إلى قوله سبحانه : لَهُ مُعَقِّباتٌ إلى آخره ثم قال : المعقبات من أمر اللّه يحفظون محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، وجاء في رواية أخرى عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : هذه للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة ،
والأكثرون على اعتبار العموم. وسبب النزول لا يأبى ذلك واللّه تعالى أعلم ، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر إحاطة علمه بالعباد وإن لهم معقبات يحفظونهم من أمره جل شأنه نبه على لزوم الطاعة ووبال المعصية فقال عز من قائل : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعمة والعافية حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ما اتصفت به ذواتهم من الأحوال الجميلة لا ما أضمروه ونووه فقط ، والمراد بتغيير ذلك تبديله بخلافه لا مجرد تركه ، وجاء عن علي كرم اللّه تعالى وجهه مرفوعا يقول اللّه تعالى : «وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي وما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي إلا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من عذابي» أخرجه ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه.
واستشكل ظاهر الآية حيث أفادت أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 111
خلاف ما قررته الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة ومنه قوله سبحانه : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال : 25] وقوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل «أنهلك وفينا الصالحون؟ نعم إذا كثر الخبث»
وقوله صلى اللّه عليه وسلم : «إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم اللّه سبحانه بعقاب»
في أشياء كثيرة وأيضا قد ينزل اللّه تعالى بالعبد مصائب يزيد بها أجره ، وقد يستدرج المذنب بترك ذلك.
وأولها ابن عطية لذلك بأن المراد حتى يقع تغيير ما منهم أو ممن هو منهم كما غير سبحانه بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم والحق أن المراد أن ذلك عادة اللّه تعالى الجارية في الأكثر لا أنه سبحانه لا يصيب قوما إلا بتقدم ذنب منهم فلا إشكال ، قيل : ولك أن تقول : إن قوله سبحانه :
وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ تتميم لتدارك ما ذكر وفيه تأمل ، والسوء بجمع كل ما يسوء من مرض وفقر وغيرهما من أنواع البلاء ، ومَرَدَّ مصدر ميمي أي فلا رد له ، والعامل في إِذا ما دل عليه الجواب لأن معمول المصدر وكذا ما بعد الفاء لا يتقدم عليه ، والتقدير كما قال أبو البقاء وقع أو لم يرد أو نحو ذلك ، والظاهر أن إِذا للكلية ، وقد جاءت كذلك في أكثر الآيات وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ سبحانه مِنْ والٍ يلي أمورهم من ضر ونفع ويدخل في ذلك دخولا أوليا دفع السوء عنهم ، وقيل : الأول إشارة إلى نفي الدافع بالدال وهذا إشارة إلى نفي الرافع بالراء لئلا يتكرر ولا حاجة إلى ذلك كما لا يخفى. واستدل بالآية على أن خلاف مراد اللّه تعالى محال.
واعترض بأنها إنما تدل على أنه تعالى إذا أراد بقوم سوءا وجب وقوعه ولا تدل على أن كل مراد له تعالى كذلك ولا على استحالة خلافه بل على عدم وقوعه ، وأجيب بأنه لا فرق بين إرادة السوء وإرادة غيره لكن اقتصر على إرادة الأول لأن الكلام في الانتقام من الكفار وهو أبلغ في تخويفهم فإذا امتنع رد السوء فغيره كذلك ، والمراد بالاستحالة عدم الإمكان الوقوعي لا الذاتي ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ، ومن أعجب ما قيل : إن الجمهور احتجوا بالآية على أن المعاصي مما يشملها السوء وإنها بخلقه تعالى ، ومن الناس من جعل الآية متعلقة بقوله تعالى : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ [الرعد : 6] إلى آخره وبين ذلك أبو حيان بما لا يرتضيه إنسان ، وقيل : إن فيها إيذانا بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا ما في أنفسهم من الفطرة فاستحقوا لذلك حلول غضب اللّه تعالى هذا.
ووقف ابن كثير على هادٍ وكذا واقٍ
حيث وقع وعلى والٍ هنا وباقٍ في النحل بإثبات الياء وباقي السبعة وقفوا بحذفها. وفي الإقناع لأبي جعفر ابن الباذش عن ابن مجاهد الوقف في جميع الباب لابن كثير بالياء وهذا لا يعرفه المكيون ، وفيه أيضا عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب بين أن يقف بالياء وأن يقف بحذفها كذا في البحر ، وفيه أنه أثبت ابن كثير وأبو عمرو في رواية ياء «المتعال» وقفا ووصلا وهو الكثير في لسان العرب وحذفها الباقون وصلا ووقفا لأنها كذلك رسمت في الإمام.
واستشهد سيبويه لحذفها في الفواصل والقوافي وأجاز غيره حذفها مطلقا ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين وأل معاقبة له إجراء المعاقب مجرى المعاقب.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من الصاعقة وَطَمَعاً في الغيث قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال : خوفا لأهل البحر وطمعا لأهل البر. وعن قتادة خوفا للمسافر من أذى المطر وطمعا للمقيم في نفعه ، وعن الماوردي خوفا من العقاب وطمعا في الثواب ، والمراد من البرق معناه المتبادر وعن ابن عباس أن المراد به الماء فهو مجاز من باب إطلاق الشيء على ما يقارنه غالبا.
ونصب خَوْفاً وَطَمَعاً على أنهما مفعول له - ليريكم - واتحاد فاعل العلة والفاعل المعلل ليس شرطا للنصب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 112
مجمعا ، ففي شرح الكافية للرضي وبعض النحاة لا يشترط تشاركهما في الفاعل وهو الذي يقوى في ظني وإن كان الأغلب هو الأول. واستدل على جواز عدم التشارك بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف.
وفي همع الهوامع وشرط الأعلم والمتأخرون المشاركة للفعل في الوقت والفاعل ولم يشترط ذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين ، واحتاج المشترطون إلى تأويل هذا للاختلاف في الفاعل فإن فاعل الإراءة هو اللّه تعالى وفاعل الطمع والخوف غيره سبحانه فقيل : في الكلام مضاف مقدر وهو إرادة أي يريكم ذلك إرادة أن تخافوا وتطمعوا فالمفعول له المضاف المقدر وفاعله وفاعل الفعل المعلل به واحد ، وقيل : الخوف والطمع موضوعان موضع الإخافة والأطماع كما وضع النبات موضع الإنبات في قوله تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] والمصادر ينوب بعضها عن بعض أو هما مصدران محذوفا الزوائد كما في شرح التسهيل ، وقيل : إنهما مفعول له باعتبار أن المخاطبين رائين لأن إراءتهم متضمنة لرؤيتهم والخوف والطمع من أفعالهم فهم فعلوا الفعل المعلل بذلك وهو الرؤية فيرجع إلى معنى قعدت عن الحرب جبنا وهذا على طريقة قول النابغة الذبياني :
وحلت بيوتي في يفاع ممنع يخال به راعي الحمولة طائرا
حذارا على أن لا تنال مقادتي ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
حيث قيل : إنه على معنى أحللت بيوتي حذارا ، ورد ذلك المولى أبو السعود بأنه لا سبيل إليه لأن ما وقع في معرض العلة الغائية لا سيما الخوف لا يصلح علة لرؤيتهم. وتعقبه عزمي زاده وغيره بأن كلام واه لأن القائل صرح بأنه من قبيل قعدت عن الحرب جبنا ويريد أن المفعول له حامل على الفعل وموجود قبله وليس مما جعل في معرض العلة الغائية كما قالوا في ضربته تأديبا فلا وجه للرد عليه بما ذكر ، وقيل : التعليل هنا مثله في لام العاقبة لا أن ذلك من قبيل قعدت عن الحرب جبنا كما ظن لأن الجبن باعث على القعود دونهما للرؤية وهو غير وارد لأنه باعث بلا شبهة ، واعترض عليه العزمي بأن اللام المقدرة في المفعول له لم يقل أحد بأنها تكون لام العاقبة ولا يساعده الاستعمال وهو ليس بشيء ، كيف وقد قال النحاة كما في الدر المصون : إنه كقول النابغة السابق ، وقال أيضا : بقي هاهنا بحث وهو أن مقتضى جعل الآية نحو قعدت إلى آخره على ما قاله ذلك القائل أن يكون الخوف والطمع مقدمين في الوجود على الرؤية وليس كذلك بل هما إنما يحصلان منها ويمكن أن يقال : المراد بكل من الخوف والطمع على ما قاله ما هو من الملكات النفسانية كالجبن في المثال المذكور ويصح تعليل الرؤية من الإراءة بهما يعني أن الرؤية التي تقع بإراءة اللّه سبحانه إنما كانت لما فيهم من الخوف والطمع إذ لو لم يكن في جبلتهم ذلك لما كان لتلك الرؤية فائدة اه ، ولا يخفى ما فيه من التعسف ، وقد علمت أنه غير وارد ، وقيل : إن النصب على الحالية من الْبَرْقَ أو المخاطبين بتقدير مضاف أو تأويل المصدر باسم المفعول أو الفاعل أو إبقاء المصدر على ما هو عليه للمبالغة كما قيل في زيد عدل وَيُنْشِئُ السَّحابَ أي الغمام المنسحب في الهواء الثِّقالَ بالماء وهي جمع ثقيلة وصف بها السحاب لكونه اسم جنس في معنى الجمع ويذكر ويؤنث فكأنه جمع سحابة ثقيلة لا أنه جمع أو اسم جنس جمعي لاطلاقه على
الواحد وغيره.
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ قيل : هو اسم للصوت المعلوم والكلام على حذف مضاف أي سامعو الرعد أو الإسناد مجازي من باب الإسناد للحامل والسبب ، والباء في قوله سبحانه : بِحَمْدِهِ للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال أي يسبح السامعون لذلك الصوت ملتبسين بحمد اللّه تعالى فيضجون بسبحان اللّه والحمد للّه.
وقيل : لا حذف ولا تجوز في الإسناد وإنما التجوز في التسبيح والتحميد حيث شبه دلالة الرعد بنفسه على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 113
تنزيهه تعالى عن الشريك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي ودلالته على فضله جل شأنه ورحمته بحمد الحامد لما فيهما من الدلالة على صفات الكمال ، وقيل : إنه مجاز مرسل استعمل في لازمه ، وقيل : الرعد اسم ملك فإسناد التسبيح والتحميد إليه حقيقة.
قال في الكشف : والأشبه في الآية الحمل على الإسناد المجازي ليتلاءم الكلام فإن الرعد في المتعارف يقع على الصوت المخصوص وهو الذي يقرن بالذكر مع البرق والسحاب والكلام في إراءة الآيات الدالة على القدرة الباهرة وإيجادها وتسبيح ملك الرعد لا يلائم ذلك ، أما حمل الصوت المخصوص للسامعين على التسبيح والحمد فشديد الملاءمة جدا ، وإذا حمل على الإسناد حقيقة فالوجه أن يكون اعتراضا دلالة على اعتراف الملك الموكل بالسحاب وسائر الملاءمة بكمال قدرته سبحانه جلت قدرته وجحود الإنسان ذلك ، وأنت تعلم أن تسبيح الملائكة على ما ادعى أنه الأشبه يبقى كالاعتراض في البين ، والذي اختاره أكثر المحدثين كون الإسناد حقيقيا بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب ،
فقد أخرج أحمد. والترمذي وصححه. والنسائي. وآخرون عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن اليهود سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : أخبرنا ما هذا الرعد؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ملك من ملائكة اللّه تعالى موكل بالسحاب بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره اللّه تعالى قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال عليه الصلاة والسلام : صوته فقالوا : صدقت ،
والأخبار في ذلك كثيرة ، واستشكل بأنه لو كان علما للملك لما ساغ تنكيره وقد نكر في البقرة ، وأجيب بأن له إطلاقين ثانيهما إطلاقه على نفس الصوت والتنكير على هذا الإطلاق ، وقال ابن عطية : وقيل : إن الرعد ريح تخفق بين السحاب ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وتعقبه أبو حيان بقوله : وهذا عندي لا يصح فإن ذلك من نزغات الطبيعيين وغيرهم.
وقال الإمام : إن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وسائر الآثار العلوية ، وهو عين ما قلنا : من أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح اللّه تعالى ، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء فكيف يليق بالعاقل الإنكار اه. وتعقبه أبو حيان أيضا بأن غرضه جريان ما يتخيله الفلاسفة على مناهج الشريعة ولن يكون ذلك أبدا ، ولقد صدق رحمه اللّه تعالى في عدم صحة التطبيق بين ما جاءت به الشريعة وما نسجته عناكب أفكار الفلاسفة. نعم إن ذلك ممكن في أقل قليل من ذاك وهذا ، والمشهور عن الفلاسفة أن الريح تحتقن في داخل السحاب ويستولي البرد على ظاهره فيتجمد السطح الظاهر ثم إن ذلك الريح يمزقه تمزيقا عنيفا فيتولد من ذلك حركة عنيفة وهي موجبة للسخونة وليس البرق والرعد إلا ما حصل من الحركة وتسخينها ، وأما السحاب فهو أبخرة متصاعدة قد بلغت في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء لكن لما لم يقو البرد تكاثفت بذلك القدر من البرد واجتمعت وتقاطرت ويقال للمتقاطر مطر. ورد الأول بأنه خلاف المعقول من وجوه. أحدها أنه لو كان الأمر كما ذكر لوجب أن يكون كلما حصل البرق حصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزيق السحاب ومعلوم أنه كثيرا ما يحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد.
ثانيها أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة بالطبيعة المائية الموجبة للبرد وعند حصول هذا المعارض القوي كيف تحدث النارية بل يقال : النيران العظيمة تنطفئ بصب الماء عليها والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية. ثالثها أن من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكمة الحاصلة في أجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر؟ ورد الثاني بأن الأمطار مختلفة فتارة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 114
تكون قطراتها كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة وأخرى تكون متباعدة إلى غير ذلك من الاختلافات وذلك مع أن طبيعة الأرض واحدة وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة يأبى أن يكون ذلك كما قرروا ، وأيضا التجربة دالة على أن للتضرع والدعاء في انعقاد السحاب ونزول الغيث أثرا عظيما وهو يأبى أن يكون ذلك للطبيعة والخاصية فليس كل ذلك إلا بإحداث محدث حكيم قادر يخلق ما يشاء كيف يشاء ، وقال بعض المحققين : لا يبعد أن يكون في تكون ما ذكر أسباب عادية كما في الكثير من أفعاله تعالى وذلك لا ينافي نسبته إلى المحدث الحكيم القادر جل شأنه ، ومن أنصف لم يسعه إنكار الأسباب بالكلية فإن بعضها كالمعلوم بالضرورة وبهذا أنا أقول ، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام.
وكان صلى اللّه عليه وسلم كما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة إذا هبت الريح أو سمع صوت الرعد تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه الشريف ثم يقول للرعد : «سبحان من سبحت له وللريح اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا».
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد. والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك».
وأخرج أبو داود في مراسيله عن عبيد اللّه بن أبي جعفر «أن قوما سمعوا الرعد فكبروا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إذا سمعتم الرعد فسبحوا ولا تكبروا»
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس «أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا سمع الرعد : سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم».
وأخرج ابن مردويه. وابن جرير عن أبي هريرة قال : «كان صلى اللّه عليه وسلم إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده».
وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي ويسبح الملائكة عليهم السلام من هيبته تعالى وإجلاله جل جلاله ، وقيل : الضمير يعود على الرعد ، والمراد بالملائكة أعوانه جعلهم اللّه تعالى تحت يده خائفين خاضعين له وهو قول ضعيف وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ جمع صاعقة وهي كالصاقعة في الأصل الهدة الكبيرة إلا أن الصقع يقال في الأجسام الأرضية والصعق في الأجسام العلوية ، والمراد بها هنا النار النازلة من السحاب مع صوت شديد فَيُصِيبُ سبحانه بِها مَنْ يَشاءُ أصابته بها فيهلكه ، قيل : وهذه النار قيل تحصل من احتكاك أجزاء السحاب ، واستدل بما أخرجه ابن المنذر.
وابن مردويه عن ابن عباس قال : الرعد ملك اسمه الرعد وصوته هذا تسبيحه فإذا اشتد زجره احتك السحاب واصطدم من خوفه فتخرجه الصواعق من بينه ، وقال الفلاسفة : إن الدخان المحتبس في جوف السحاب إذا نزل ومزق السحاب قد يشتعل بقوة التسخين الحاصل من الحركة الشديدة والمصاكة العنيفة وإذا اشتعل فلطيفه ينطفئ سريعا وهو البرق وكثيفه لا ينطفئ حتى يصل إلى الأرض وهو الصاعقة ، وإذا وصل إليها فربما صار لطيفا ينفذ في المتخلخل ولا يحرقه بل يبقى منه أثر سواد ويذيب ما يصادمه من الأجسام الكثيفة المندمجة فيذيب الذهب والفضة في الصرة مثلا ولا يحرقها إلا ما أحرق من المذوب ، وقد أخبر أهل التواتر بأن صاعقة وقعت منذ زمان بشيراز على قبة الشيخ الكبير أبي عبد اللّه بن خفيف قدس سره فأذابت قنديلا فيها ولم تحرق شيئا منها ، وربما كان كثيفا غليظا جدا فيحرق كل شيء أصابه ، وكثيرا ما يقع على الجبل فيدكه دكا ، وقد يقع على البحر فيغوص فيه ويحرق ما فيه من الحيوانات ، وربما كان جرم الصاعقة دقيقا جدا مثل السيف فإذا وصل إلى شيء قطعه بنصفين ولا يكون مقدار الانفراج إلا قليلا ، ويحكى أن صبيا كان نائما بصحراء فأصابت الصاعقة ساقيه فسقطت رجلاه ولم يخرج دم لحصول الكي من حرارتها ، وهذا الذي قالوه في سبب تكونها ليس بالبعيد عما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في ذلك ، ومادتها على ما نقل بعضهم عن ابن سينا أجسام نارية فارقتها السخونة وصارت لاستيلاء البرودة على جوهرها متكاثفة ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 115
وقال الإمام في شرح الإشارات : الصواعق على ما نقل عن الشيخ تشبه الحديد تارة والنحاس تارة والحجر تارة وهو ظاهر في أن مادتها ليست كذلك وإلا لما اختلفت ، ومن هنا قيل : إن مادتها الأبخرة والأدخنة الشبيهة بمواد هذه الأجسام ، وقيل : إنها نار تخرج من فم الملك الموكل بالسحاب إذا اشتد زجره. واخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني قال : إن بحورا من نار دون العرش يكون منها الصواعق ، وإذا صح ما روي عن الحبر لا يعدل عنه.
وقد أخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال «من صوت الرعد فقال سبحانه الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته».
وأخرج ابن أبي حاتم. وغيره عن أبي جعفر قال : «الصاعقة تصيب المؤمن والكافر ولا تصيب ذاكرا»
وفي خبر مرفوع ما يؤيده ، وقد أهلكت أربد كما علمت ، وقد أشار إلى ذلك أخوه لأمه لبيد العامري بقوله يرثيه :
أخشى على أربد ، الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد
فجعني البرق والصواعق بال فارس يوم الكريهة النجد
وفي تلك القصة على ما قال ابن جريج وغيره نزلت الآية. وعن مجاهد أن يهوديا ناظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت ، وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال : أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أم من ذهب أم من نحاس؟ فنزلت عليه صاعقة فأهلكته فنزلت.
ومِنْ مفعول فَيُصِيبُ والكلام على ما في البحر من باب الأعمال وقد أعمل فيه الثاني إذ كل من يُرْسِلُ وفَيُصِيبُ يطلب مِنْ ولو أعمل الأول لكان التركيب ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء ، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو أعمال الثاني ، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده تعالى وما دل على قدرته الباهرة ووحدانيته قال جل شأنه : وَهُمْ أي الذين كفروا وكذبوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأنكروا آياته يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ حيث يكذبون ما يصفه الصادق به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم ، فالمراد بالمجادلة فيه تعالى المجادلة في شأنه سبحانه وما أخبر به عنه جل شأنه ، وهي من الجدل بفتحتين أشد الخصومة ، وأصله من الجدل بالسكون وهو فتل الحبل ونحوه لأنه يقوي به ويشد طاقاته.
وقال الراغب : أصل ذلك من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كأن المتجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه ، وقيل : الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة ، وإلى تفسير الآية بما ذكر ذهب الزمخشري ، قال في الكشف : وفي كلامه إشارة إلى أن في الكلام التفاتا لأن قوله تعالى : سَواءٌ مِنْكُمْ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وإن شئت فتأمل من قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ إلى قوله سبحانه : الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة وحسن موقعهما ، أما الأول فما فيه من تخصيص الوعيد المدمج في سَواءٌ مِنْكُمْ ولهذا ذيل بقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ إلى مِنْ والٍ وفيه من التهديد ما لا يخفى على ذي بصيرة ، والحث على طلب النجاة وزيادة التقريع في قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ وفي مجيء سَواءٌ مِنْكُمْ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ بعد قوله تعالى : اللَّهُ يَعْلَمُ هكذا من دون حرف النسق لأن الأول مقرر لقوله سبحانه : اللَّهُ يَعْلَمُ من زيادة الادماج المذكور تحقيقا للعلم والثاني مقرر لما ضمن من الدلالة على القدرة في قوله تعالى : وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ مع رعاية نمط التعديد على أسلوب الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن : 1 ، 2] ما يبهر الألباب ويظهر للمتأمل في وجه الاعجاز التنزيلي العجب العجاب ، وأما الثاني فما فيه من

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 116
الدلالة على أنهم مع وضوح الآيات وتلاوتها عليهم والتنبيه البالغ ترغيبا وترهيبا لم يبالوا بها بالة فكأنه يشكوا جنايتهم إلى من يستحق الخطاب أو كمن يدمدم في نفسه أني أصنع بهم وأفعل كيت وكيت جزاء ما ارتكبوه ليرى ما يريد أن يوقع بهم ، وعلى هذا فقوله تعالى : هُمْ إلى آخره معطوف على قوله تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ المعطوف على وَيَسْتَعْجِلُونَكَ والعدول عن الفعلية إلى الاسمية وطرح رعاية التناسب للدلالة على أنهم ما ازدادوا بعد الآيات إلا عنادا «وأما الذين كفروا فزادتهم رجسا إلى رجسهم» «1»
وجاز أن يقال : إنه معطوف على هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ على معنى هو الذي يريكم هذه الآيات الكوامل الدالة على القدرة والرحمة وأنتم تجادلون فيه سبحانه وهذا أقرب مأخذا والأول أملأ بالفائدة اه ومخايل التحقيق ظاهرة عليه وزعم الطيبي أن الأنسب لتأليف النظم أن يكون هذا تسلية لحبيبه صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه تعالى لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات كآيات موسى. وعيسى عليهما السلام وإنكارهم كون الذي جاء عليه الصلاة والسلام آيات سلاه جل شأنه بما ذكر كأنه قال : هون عليك فإنك لست مختصا بذلك فإنه مع ظهور الآيات البينات ودلائل التوحيد يجادلون في اللّه تعالى باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد ومع شمول علمه تعالى وكمال قدرته جل جلاله ينكرون الحشر والنشر ومع قهر سلطانه وشديد سطوته يقدمون على المكايدة والعناد فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فليتأمل ، ولا يستحسن العطف على يُرْسِلُ الصَّواعِقَ لعدم الاتساق ، وجوز أن تكون الجملة حالا من مفعول فَيُصِيبُ أي يصيب بها من يشاء في حال جداله أو من مفعول يَشاءُ على ما قيل وهو كما ترى ، ولا يعين سبب النزول الحالية كما لا يخفى وَهُوَ سبحانه وتعالى شَدِيدُ الْمِحالِ أي المماحلة وهي المكايدة من محل بفلان بالتخفيف إذا كاده وعرضه للهلاك ، ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه فهو مصدر كالقتال ، وقيل : هو اسم لا مصدر من المحل بمعنى القوة وحمل على ذلك قول الأعشى :
فرع نبل يهتز في غصن المج د عظيم الندى شديد المحال
وقول عبد المطلب :
لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدوا محالك
وكأن أصله من المحل بمعنى القحط ، وكلا التفسيرين مروي على ابن عباس ، وقيل : هو مفعل لأفعال من الحول بمعنى القوة ، وقال ابن قتيبة : هو كذلك من الحيلة المعروفة وميمه زائدة كميم مكان ، وغلطه الأزهري بأنه لو كان مفعلا لكان كمرود ومحور ، واعتذر عن ذلك بأنه أعل على غير قياس ، وأيد دعوى الزيادة بقراءة الضحاك. والأعرج «المحال» بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال لأن الأصل توافق القراءتين ، ويقال للحيلة أيضا المحالة ومنه المثل المرء يعجز لا المحالة ، وقال أبو زيد : هو بمعنى النقمة وكأنه أخذه من المحل بمعنى القحط أيضا ، وقال ابن عرفة : هو الجدال يقال : ما حل عن أمره أي جادل ، وقيل : هو بمعنى الحقد وروي عن عكرمة وحملوه على التجوز.
وجوز أن يكون «المحال» بالفتح بمعنى الفقار وهو عمود الظهر وقوامه ، قال في الأساس : يقال فرس قوي المحال أي الفقار الواحدة محالة والميم أصلية ، ويكون ذلك مثلا في القوة والقدرة كما
جاء في الحديث الصحيح «2»
«فساعد اللّه تعالى أسد وموساه أحد»
لأن الشخص إذا اشتد محاله كان منعوتا بشدة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه
___________
(1) في سورة التوبة ، الآية : 125 وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ....
(2) في البحر والمراد أنه سبحانه لو أراد تحريمها بشق آذانها لخلقها كذلك فإنه سبحانه يقول لما أراد كن فيكون اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 117
غيره ، ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر وهو مثل لتوهين القوى ، وبهذا الحمل لا يلزم إثبات الجسمية له تعالى ، والجملة الاسمية في موضع الحال من الاسم الجليل لَهُ أي للّه تعالى دَعْوَةُ الْحَقِّ أي الدعاء والتضرع الثابت الواقع في محله المجاب عند وقوعه ، والإضافة للايذان بملابسة الدعوة للحق واختصاصها به وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضلال والضياع كما يقال : كلمة الحق والمراد أن إجابة ذلك له تعالى دون غيره ، ويؤيده ما بعد كما لا يخفى «1»
وقيل : المراد بدعوة الحق الدعاء عند الخوف فإنه لا يدعى فيه إلا اللّه تعالى كما قال سبحانه : ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء : 67] وزعم الماوردي أن هذا أشبه بسياق الآية ، وقيل : الدعوة بمعنى الدعاء أي طلب الإقبال ، والمراد به العبادة للاشتمال ، والإضافة على طرز ما تقدم ، وبعضهم يقول : إن هذه الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والكلام فيه شهير ، وحاصل المعنى أن الذي يحق أن يعبد هو اللّه تعالى دون غيره.
ويفهم من كلام البعض - على ما قيل - أن الدعوة بمعنى الدعاء ومتعلقها محذوف أي للعبادة والمعنى أنه الذي يحق أن يدعى إلى عبادته دون غيره ، ولا يخفى ما بين المعنيين من التلازم فإنه إذا كانت الدعوة إلى عبادته سبحانه حقا كانت عبادته جل شأنه حقا وبالعكس ، وعن الحسن أن المراد من الحق هو اللّه تعالى ، وهو - كما في البحر - ثاني الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري ، والمعنى عليه كما قال : له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجب ، والأول ما أشرنا إليه أولا وجعل الحق فيه مقابل الباطل.
وبين صاحب الكشف حاصل الوجهين بأن الكلام مسوق لاختصاصه سبحانه بأن يدعى ويعبد ردا لمن يجادل في اللّه تعالى ويشرك به سبحانه الأنداد ولا بد من أن يكون في الإضافة اشعار بهذا الاختصاص ، فإن جعل الحق في مقابل الباطل فهو ظاهر ، وإن جعل اسما من أسمائه تعالى كان الأصل للّه دعوته تأكيدا للاختصاص من اللام والإضافة ثم زيد ذلك بإقامة الظاهر مقام المضمر معادا بوصف ينبئ عن اختصاصها به أشد الاختصاص فقيل : له دعوة المدعو الحق والحق من أسمائه سبحانه يدل على أنه الثابت بالحقيقة وما سواه باطل من حيث هو وحق بتحقيقه تعالى إياه فيتقيد بحسب كل مقام للدلالة على أن مقابله لا حقيقة له ، وإذا كان المدعو من دونه بطلانه لعدم الاستجابة فهو الحق الذي يسمع فيجيب انتهى. وبهذا سقط ما قاله أبو حيان في الاعتراض على الوجه الثاني من أن مآله إلى اللّه دعوة اللّه وهو نظير قولك : لزيد دعوة زيد ولا يصح ذلك ، واستغنى عما قال العلامة الطيبي في تأويله : من أن المعنى وللّه تعالى الدعوة التي تليق أن تنسب وتضاف إلى حضرته جل شأنه لكونه تعالى سميعا بصيرا كريما لا يخيب سائله فيجيب الدعاء فإن ذلك كما ترى قليل الجدوى. ويعلم ما في الكشف وجه تعلق هذه الجملة بما تقدم ، وقال بعضهم :
وجه تعلق هذه والجملة التي قبلها أعني قوله تعالى : وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ إن كان سبب النزول قصة أربد. وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من اللّه تعالى وإجابة لدعوة رسوله صلى اللّه عليه وسلم
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «اللهم احبسهما عني بما شئت»
أو دلالة على رسوله صلى اللّه عليه وسلم على الحق ، وإن لم يكن سبب النزول ذلك فالوجه أن ذلك وعيد للكفرة على مجادلتهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعائه عليه الصلاة والسلام أن دعا عليهم أو بيان ضلالتهم وفساد رأيهم في عبادة غير اللّه تعالى ، ويعلم مما ذكر وجه التعلق على بعض التفاسير إذا قلنا :
إن سبب النزول قصة اليهودي أو الجبار فتأمل.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ أي الأصنام الذين يدعونهم أي المشركون ، وحذف عائد الموصول في مثل ذلك كثير ،
___________
(1)
عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أن دعوة الحق التوحيد
وعن ابن عباس ما هو أعم من ذلك فافهم اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 118
وجوز أن يكون الموصول عبارة عن المشركين وضمير الجمع المرفوع عائد إليه ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي الأصنام وحذف لدلالة قوله تعالى : مِنْ دُونِهِ عليه لأن معناه متجاوزين له وتجاوزه إنما هو بعبادتها ويؤيد الوجه الأول قراءة البزدوي عن أبي عمرو «تدعون» بتاء الخطاب ، وضمير لا يَسْتَجِيبُونَ عليه عائد على الَّذِينَ وعلى الثاني عائد على مفعول يَدْعُونَ وعلى كل فالمراد لا يستجيب الأصنام لَهُمْ أي للمشركين بِشَيْءٍ من طلباتهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ أي لا يستجيبون شيئا من الاستجابة وطرفا منها إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد يطلبه ويدعوه لِيَبْلُغَ أي الماء بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه فاهُ وَما هُوَ أي الماء بِبالِغِهِ أي ببالغ فيه أبدا لكونه جمادا لا يشعر بعطشه وبسط يديه إليه ، وجوز أبو حيان كون هُوَ ضمير الفم والهاء في بِبالِغِهِ ضمير الماء أي وما فوه ببالغ الماء لأن كلا منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال.
وجوز بعضهم كون الأول ضمير باسط والثاني ضمير «الماء» قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون الأول عائدا على «باسط» والثاني عائدا على الفم لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له لزم إبراز الفاعل فكان يجب على ذلك أن يقال : وما هو ببالغه الماء ، والجمهور على ما سمعت أولا ، والغرض - كما قال بعض المدققين - نفي الاستجابة على البت بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه ، والحاصل أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلا عن الاستطاعة للاستجابة وبقائهم لذلك في الخسار بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة فهو لذلك في زيادة الكباد والبوار ، والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل أبرز في معرض التهكم حيث أثبت أنهما استجابتان زيادة في التخسير والتحسير ، فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر كما أشرنا إليه ، والظاهر أن الاستجابة هناك مصدر من المبني للفاعل وهو الذي يقتضيه الفعل الظاهر ، وجوز أن يكون من المبني للمفعول ويضاف إلى الباسط بناء على استلزام المصدر من المبني للفاعل للمصدر من المبني للمفعول وجودا وعدما فكأنه قيل : لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم استجابة كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قول الفرزدق :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت «1» أو مجلف
أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت «2»
أو مجلف. وأبو البقاء يجعل الاستجابة مصدر المبني للمفعول وإضافته إلى كَباسِطِ من باب إضافة المصدر إلى مفعوله كما في قوله تعالى : لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ [فصلت : 49] والفاعل ضمير «الماء» على الوجه الثاني في الموصول ، وقد يراد من بسط الكفين إلى الماء بسطهما أي نشر أصابيعهما ومدها لشربه لا للدعاء ، والإشارة إليه كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وعلى هذا قيل : شبه الداعون لغير اللّه تعالى بمن أراد أن يغرف الماء بيديه فبسطهما ناشرا أصابعه في أنهما لا يحصلان على طائل ، وجعل بعضهم وجه الشبه قلة الجدوى ، ولعله أراد عدمها لكنه بالغ بذكر القلة وإرادة العدم دلالة على هضم الحق وإيثار الصدق ولإشمام طرف من التهكم ، والتشبيه على هذا من تشبيه المفرد المقيد كقولك لمن لا يحصل من سعيه على شيء : هو كالراقم على الماء فإن المشبه هو الساعي مقيدا بكون سعيه كذلك والمشبه به هو الراقم مقيدا بكونه على الماء كذلك فيما نحن
___________
(1) رواه الجوهري إلا مسحتا أو مجلف بنصب الأول ورفع الثاني ثم قال : يريد الا مسحتا أو هو مجلف فلا تغفل اه منه.
(2) المسحت المهلك والمجلف بالجيم الذي بقيت منه بقية اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 119
فيه ، وليس من المركب العقلي في شيء على ما توهم. نعم وجه الشبه عقلي اعتباري والاستثناء مفرغ عن أعم عام الأحوال أي لا يستجيب الآلهة لهؤلاء الكفرة الداعين إلا مشبهين أعني الداعين بمن بسط كفيه ولم يقبضهما وأخرجهما كذلك فلم يحصل على شيء لأن الماء يحصل بالقبض لا بالبسط. وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أن ذلك تشبيه بعطشان على شفير بئر بلا رشاء ولا يبلغ قعر البئر ولا الماء يرتفع إليه ،
وهو راجع إلى الوجه الأول وليس مغايرا له كما قيل. وعن أبي عبيدة أن ذلك تشبيه بالقابض على الماء في أنه لا يحصل على شيء ، ثم قال : والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بذلك ، وأنشد قول الشاعر :
فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد
وقوله :
وإني وإياكم وشوقا إليكم كقابض ماء لم تسعه أنامله
وهو راجع إلى الوجه الثاني خلا أنه لا يظهر من (باسط) معنى قابض فإن بسط الكف ظاهر في نشر الأصابع ممددة كما في قوله :
تعود بسط الكف حتى لو أنه أراد انقباضا لم تطعه أنامله
وكيفما كان فالمراد - بباسط - شخص باسط أي شخص كان ، وما يقتضيه ظاهر ما روي عن بكير بن معروف من أنه قابيل حيث إنه لما قتل أخاه جعل اللّه تعالى عذابه أن أخذ بناصيته في البحر ليس بينه وبين الماء إلا أصبع فهو يريده ولا يناله مما لا ينبغي أن يعول عليه. وقرئ «كباسط كفّيه» بالتنوين أي كشخص يبسط كفيه وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع وخسار وباطل ، والمراد بهذا الدعاء إن كان دعاء آلهتهم فظاهر أنه كذلك لكنه فهم من السابق وحينئذ يكون مكررا للتأكيد ، وإن كان دعائهم اللّه تعالى فقد استشكلوا ذلك بأن دعاء الكافر قد يستجاب وهو المصرح به في الفتاوى ، واستجابة دعاء إبليس وهو رأس الكفار نص في ذلك. وأجيب بأن المراد دعاؤهم اللّه تعالى بما يتعلق بالآخرة ، وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما من أن أصوات الكفار محجوبة عن اللّه تعالى فلا يسمع دعاءهم ، وقيل : يجوز أن يراد دعاؤهم مطلقا ولا يقيد بما أجيبوا به وَلِلَّهِ وحده يَسْجُدُ يخضع وينقاد لا لشيء غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا ، فالقصر ينتظم القلب والأفراد مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والثقلين كما يقتضيه ظاهر التعبير بمن ، وتخصيص انقياد العقلاء مع كون غيرهم أيضا كذلك لأنهم العمدة وانقيادهم دليل انقياد غيرهم على أن فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيانا لذلك ، وقيل : المراد ما يشمل أولئك وغيرهم ، والتعبير بمن للتغليب طَوْعاً وَكَرْهاً نصب على الحال ، فإن قلنا بوقوع المصدر حالا من غير تأويل فهو ظاهر وإلا فهو بتأويل طائعين وكارهين أي إنهم خاضعون لعظمته تعالى منقادون لاحداث ما أراد سبحانه فيهم من أحكام التكوين والاعدام شاؤوا أو أبوا من غير مداخلة حكم غيره جل وعلا بل غير حكمه تعالى في شيء من ذلك.
وجوز أن يكون النصب على العلة فالكره بمعنى الإكراه وهو مصدر المبني للمفعول ليتحد الفاعل بناء على اشتراط ذلك في نصب المفعول لأجله وهو عند من لم يشترط على ظاهره ، وما قيل عليه من أن اعتبار العلية في الكره غير ظاهر لأنه الذي يقابل الطوع وهو الإباء ولا يعقل كونه علة للسجود فمدفوع بأن العلة ما يحمل على الفعل أو ما يترتب عليه لا ما يكون غرضا له وقد مر عن قرب فتذكره ، وقيل : النصب على المفعولية المطلقة أي سجود طوع وكره وَظِلالُهُمْ أي وتنقاد له تعالى ظلال من له ذلك منهم وهم الانس فقط أو ما يعمهم وكل كثيف.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 120
وفي الحواشي الشهابية ينبغي أن يرجع الضمير لمن في الأرض لأن من في السماء لا ظل له إلا أن يحمل على التغليب أو التجوز ، ومعنى انقياد الظلال له تعالى أنها تابعة لتصرفه سبحانه ومشيئته في الامتداد والتقلص والفيء والزوال ، وأصل الظل - كما قال الفراء - مصدر ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم ، وهو إما معكوس أو مستو وبينى على كل منهما أحكام ذكروها في محلها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ظرف للسجود المقدر والباء بمعنى في وهو كثير ، والمراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل للتأبيد ، قيل : فلا يقال لم خص بالذكر؟ وكذا يقال : إذا كانا في موضع الحال من الظلال ، وبعضهم يعلل ذلك بأن امتدادها وتقلصها في ذينك الوقتين أظهر.
والغدو جمع غداة كقنى وقناة ، والآصال جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب ، وقسل : هو جمع أصل جمع أصيل ، وأصله أأصال بهمزتين فقلبت الثانية ألفا ، وقيل : الغدو مصدر وأيد بقراءة ابن مجلز «الإيصال» بكسر الهمزة على أنه مصدر آصلنا بالمد أي دخلنا في الأصيل كام قاله ابن جني هذا ، وقيل : إن المراد حقيقة السجود فإن الكفرة حالة الاضطرار وهو المعنى بقوله تعالى : وَكَرْهاً يخصون السجود به سبحانه قال تعالى : فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت : 65] ولا يبعد أن يخلق اللّه تعالى في الظلال افهاما وعقولا بها تسجد للّه تعالى شأنه كما خلق جل جلاله ذلك للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهرت فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري. وجوز أن يراد بسجودها ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها ، وهذا على ما قيل : مبني على ارتكاب عموم المجاز في السجود المذكور في الآية بأن يراد به الوقوع على الأرض فيشمل سجود الظلال بهذا المعنى أو تقدير فعل مؤد ذلك رافع للظلال أو خبر له كذلك أو التزام أن إرادة ما ذكر لا يضر في الحقيقة لكونه بالتبعية والعرض أو أن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز ولا يخفى ما في بعض الشقوق من النظر. وعن قتادة أن السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة وقد عبر بالطوع عن سجود الملائكة عليهم السلام والمؤمنين وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام فيسجد كرها اما نفاقا أو يكون الكره أول حالة فيستمر عليه الصفة وان صح إيمانه بعد ، وقيل : الساجد طوعا من لا يثقل عليه السجود والساجد كرها من يثقل عليه ذلك.
وعن ابن الأنباري الأول من طالت مدة إسلامه فألف السجود والثاني من بدأ بالإسلام إلى أن يألف ، وأيّا ما كان - فمن - عام أريد به مخصوص إذ يخرج من ذلك من لا يسجد ، وقيل : هو عام لسائر أنواع العقلاء والمراد - بيسجد - يجب أن يسجد لكن عبر عن الوجوب بالوقوع مبالغة.
واختار غير واحد في تفسير الآية ما ذكرناه أولا ، ففي البحر والذي يظهر أن مساق الآية إنما هو أن العالم كله مقهور للّه تعالى خاضع لما أراد سبحانه منه مقصور على مشيئته لا يكون منه إلا ما قدر جل وعلا فالذين تعبدونهم كائنا ما كانوا داخلون تحت القهر لا يستطيعون نفعا ولا ضرا ، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود وهي ليست أشخاصا يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها سبحانه حسبما أراد إذ هي من العالم والعالم جواهره واعراضه داخلة تحت قهر إرادته تعالى كما قال سبحانه : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ [النحل : 48] وكون المراد بالظلال الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف وأضعف منه ما قاله ابن الأنباري ، وقياسها على الجبال ليس بشيء لأن الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به وإنما معنى سجودها ميلها من جانب إلى جانب واختلاف أحوالها كما أراد سبحانه وتعالى. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما قيل أولا وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر حالة الاضطرار والشدة للّه تعالى لا يجدي فإن سجوده للصنم حالة الاختيار والرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور ، فالوجه حمل السجود على الانقياد ولأن تحقيق انقياد الكل في الإبداع والإعدام

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 121
له تعالى أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه سبحانه وتعالى من تحقيق سجودهم له تعالى اه وفي تلك الأقوال بعد ما لا يخفى على الناقد البصير.
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تحقيق كما قال بعض المحققين لأن خالقهما ومتولي أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو اللّه تعالى ، وقيل : إنه سبحانه بعد أن ذكر انقياد المظروف لمشيئته تعالى ذكر ما هو كالحجة على ذلك من كونه جل وعلا خالق هذا الظرف العظيم الذي يبهر العقول ومدبره أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا من دونه أولياء من رب هذه الإجرام العظيم العلوية والسفلية؟ قُلِ اللَّهُ أمر صلى اللّه عليه وسلم بالجواب إشعارا بأنه متعين للجوابية فهو عليه الصلاة والسلام والخصم في تقريره سواء ، ويجوز أن يكون ذلك تلقينا للجواب ليبين لهم ما هم عليه من مخالفتهم لما علموه ، وقيل : إنه حكاية لاعترافهم والسياق يأباه.
وقال مكي : إنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهته صلى اللّه عليه وسلم فأمر باعلامهم به ، ويبعده أنه تعالى قد أخبر بعلمهم في قوله سبحانه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : 25 ، الزمر : 38] وحينئذ كيف يقال :
انهم جهلوا الجواب فطلبوه؟ نعم قال البغوي : روي أنه لما قال صلى اللّه عليه وسلم ذلك للمشركين عطفوا عليه فقالوا : أجب أنت فأمره اللّه تعالى بالجواب ، وهو يفرض صحته لا يدل على جهلهم كما لا يخفى قُلْ إلزاما لهم وتبكيتا أَفَاتَّخَذْتُمْ لأنفسكم مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ عاجزين لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وهي أعز عليهم منكم نَفْعاً يستجلبونه وَلا ضَرًّا يدفعونه عنها فضلا عن القدرة على جلب النفع للغير ودفع الضرر عنه ، والهمزة للإنكار ، والمراد بعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء في غاية العجز عن نفعكم فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم سبب الإشراك ، فالفاء عاطفة للتسبب والتفريع دخلت الهمزة عليه لأن المنكر الاتخاذ بعد العلم لا العلم ولا هما معا ، ووصف الأولياء بما ذكر مما يقوي الإنكار ويؤكده ، ويفهم - على ما قيل - من كلام البعض أن هذا دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن ينفعوهم ، واختلف في الدليل الأول فقيل : هو ما يفهم من قوله تعالى : قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وقيل : هو ما يفهم من قوله سبحانه :
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلخ فتدبر قُلْ تصويرا لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى الذي هو المشرك الجاهل بالعبادة ومستحقها وَالْبَصِيرُ الذي هو الموحد العالم بذلك وإلى هذا ذهب مجاهد ، وفي الكلام عليه استعارة تصريحية ، وكذا على ما قيل : إن المراد بالأول الجاهل بمثل هذه الحجة بالثاني العالم بها ، وقيل : إن الكلام على التشبيه والمراد لا يستوي المؤمن الكافر كما لا يستوي الأعمى والبصير فلا مجاز. ومن الناس من فسر الأول بالمعبود الغافل «1»
والثاني بالمعبود العالم بكل شيء وفيه بعد أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ التي هي عبارة عن الكفر والضلال وَالنُّورُ الذي هو عبارة عن الإيمان والتوحيد وروي ذلك عن مجاهد أيضا ، وجمع الظلمات لتعدد أنواع الكفر ككفر النصارى وكفر المجوس والكفر غيرهم ، وكون الكفر كله ملة واحدة أمر آخر.
و«أو» كما في البحر منقطعة وتقدر - ببل - والهمزة على المختار ، والتقدير بل أهل تستوي ، وهل وإن نابت عن الهمزة في كثير من المواضع فقد جامعتها أيضا كما في قوله :
أهل رأونا بوادي القف ذي الأكم وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى ، ويجوز فيها بعد أَمْ هذه أن يؤتى بها
___________
(1) هذا من إرخاء العنان أو من باب المشاكلة كذا قيل فتدبر اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 122
لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كما في قوله تعالى : أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [يونس : 31] ويجوز أن لا يؤتى بها لأن «أم» متضمنة للاستفهام ، وقد جاء الأمران في قوله :
هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته أثر الأحبة يوم البين مشكوم
وقرأ الأخوان. وأبو بكر «أم هل يستوي» بالباء التحتية ، ثم إنه تعالى أكد ما اقتضاه الكلام السابق من تخطئة المشركين فقال سبحانه : أَمْ جَعَلُوا أي بل أجعلوا لِلَّهِ جلا وعلا شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ سبحانه وتعالى ، والهمزة لانكار الوقوع وليس المنكر هو الجعل لأنه واقع منهم وإنما هو الخلق كخلقه تعالى ، والمعنى أنهم لم يجعلوا للّه تعالى شركاء خلقوا كخلقه فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ بسبب ذلك وقالوا : هؤلاء خلقوا كخلق اللّه تعالى واستحقوا بذلك العبادة كما استحقها سبحانه ليكون ذلك منشأ لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق ، والمقصود بالإنكار والنفي هو والمقيد على ما نص عليه غير واحد من المحققين. وفي الانتصاف أن خَلَقُوا كَخَلْقِهِ في سياق الإنكار جيء به للتهكم فإن غير اللّه تعالى لا يخلق شيئا ولا مساويا ولا منحطا وقد كان يكفي في الإنكار لولا ذلك أن الآلهة التي اتخذوها لا تخلق.
وتعقبه الطيبي بأن إثبات التهكم تكلف فإنه ذكر الشيء وإرادة نقيضه استحقارا للمخاطب كما في قوله تعالى :
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران : 21 ، التوبة : 34 ، الانشقاق : 24] ، وهاهنا كَخَلْقِهِ جيء به مبالغة في إثبات العجز لآلهتهم على سبيل الاستدراج وإرخاء العنان ، فإنه تعالى لما أنكر عليهم أولا اتخاذهم من دونه شركاء ووصفها بأنها لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا فكيف تملك ذلك لغيرها أنكر عليهم ثانيا على سبيل التدرج وصف الخلق أيضا ، يعني هب أن أولئك الشركاء قادرون على نفع أنفسهم وعلى نفع عبدتهم فهل يقدرون على أن يخلقوا شيئا ، وهب أنهم قادرون على خلق بعض الأشياء فهل يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من خلق السموات والأرض اه. والحق أن الآية ناعية عليهم متهكمة بهم فإن من لا يملك لنفسه شيئا من النفع والضر أبعد من أن يفيدهم ذلك ، وكيف يتوهم فيه أنه خالق وأن يشتبه على ذي عقل فينبه على نفيه ، وهذا المقدار يكفي في الغرض فافهم قُلْ تحقيقا للحق وإرشاد لهم اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الجواهر والاعراض ، ويلزم هذا أن لا خالق سواه لئلا يلزم التوارد وهو المقصود ليدل على المراد وهو نفي استحقاق غيره تعالى للعبادة والألوهية أي لا خالق سواه فيشاركه في ذلك الاستحقاق.
وبعموم الآية استدل أهل السنة على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى ، والمعتزلة تزعم التخصيص بغير أفعالهم.
ومن الناس من يحتج أيضا لما ذهب إليه أهل الحق بالآية الأولى وهو كما ترى وَهُوَ الْواحِدُ المتوحد بالألوهية المنفرد بالربوبية الْقَهَّارُ الغالب على كل ما سواه ومن جملة ذلك آلهتهم فكيف يكون المغلوب شريكا له تعالى ، وهذا على ما قيل كالنتيجة لما قبله ، وهو يحتمل أن يكون من مقول القول وأن يكون جملة مستأنفة.
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهتها على ما هو المشاهد ، وقيل : منها نفسها ولا تجوز في الكلام. واستدل له بآثار اللّه تعالى أعلم بصحتها ، وقيل : أنزل منها نفسها ماءً أي كثيرا أو نوعا منه وهو ماء المطر باعتبار أن مباديه منها وذلك لتأثير الأجرام الفلكية في تصاعد البخار فيتجوز من مِنَ فَسالَتْ بذلك أَوْدِيَةٌ دافعة في مواقعه لا جميع الأودية إذ الأمطار لا تستوعب الأقطار وهو جمع واد.
قال أبو علي الفارسي : ولا يعلم أن فاعلا جمع على أفعلة ، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير. ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 123
وأطيار. ووزن فعيل يجمع على أفعلة كجريب وأجربة ، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع فاعل جمع فعيل فيقال : واد وأودية ويجمع فعيل جمع فاعل يتيم وأيتام وشريف وأشراف اه. ونظير ذلك ناد وأندية وناج وأنجية قيل. ولا رابع لها. وفي شرح التسهيل ما يخالفه. والوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة ، وبه سميت الفرجة بين الجبلين ويطلق على الماء الجاري فيه ، وهو اسم فاعل من ودي إذا سال فإن أريد الأول فالإسناد مجازي أو الكلام على تقدير مضاف كما قال الإمام أي مياه أودية ، وإن أريد الثاني وهو معنى مجازي من باب اطلاق اسم المحل على الحال فالإسناد حقيقي ، وإيثار التمثيل بالأودية على الأنهار المستمرة الجريان لوضوح المماثلة بين شأنها وما مثل بها كما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى بِقَدَرِها أي بمقدارها الذي عينه اللّه تعالى واقتضته حكمته سبحانه في نفع الناس ، أو بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغرا وكبرا لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل بمجرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعي لكثرة الموارد ، فإن موارد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من موارد السيل الجاري في الوادي الكبير ، هذا إذا أريد بالأودية ما يسيل فيها أما إن أريد بها المعنى الحقيقي فالمعنى سالت مياها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفا أو يراد بضميرها مياها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين قاله شيخ الإسلام ، والجار والمجرور على ما نقل عن الحوفي متعلق بسالت ، وقال أبو البقاء : إنه في موضع الصفة لأودية ، وجوز أن يكون متعلقا بأنزل. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما. والأشهب العقيلي. وأبو عمرو في رواية «بقدرها» بسكون الدال وهي لغة في ذلك.
فَاحْتَمَلَ أي حمل وجاء افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر السَّيْلُ أي الماء الجاري في تلك الأودية والتعريف لكونه معهودا مذكوا بقوله تعالى : أَوْدِيَةٌ ولم يجمع لأنه كما قال الراغب مصدر بحسب الأصل ، وفي البحر أنه إنما عرف لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان نكرة إلا أنه إذا عاد في البحر أنه إنما عرف لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان نكرة إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة ، وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شرا له أي الكذب ، ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من سالت اه. وأورد عليه أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث والمذكور المعرف عين كما علمت. وأجيب بأنه بطريق الاستخدام. ورد بأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر حقيقيا كان أو مجازيا وهذا ليس كذلك لأن الأول مصدر أي حدث في ضمن الفعل وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك فكيف يتصور فيه الاستخدام.
نعم ما ذكروه أغلبي لا يختص بما ذكر فإن مثل الضمير اسم الإشارة وكذا الاسم الظاهر «1»
اه. وانظر هل يجوز أن يراد من السيل المعنى المصدري فلا يحتاج إلى حديث الاستخدام أم لا ، وعلى الجواز يكون المعنى فاحتمل الماء المنزل من السماء بسبب السيل زَبَداً هو الغثاء الذي يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أمواجه على ما قاله أبو الحجاج الأعلم ، وهو معنى قول ابن عيسى : إنه وضر الغليان وخبثه ، قال الشاعر :
وما الفرات إذا جاشت غواربه ترمي أواذيه العبرين «2» بالزبد
رابِياً أي عاليا منتفخا فوق الماء ، ووصف الزبد بذلك قيل : بيانا لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون المحمول غير طاف كالأشجار الثقيلة ، وإنما لم يدفع ذلك بأن يقال فاحتمل السيل زبدا فوقه للإيذان بأن تلك الفوقية
___________
(1) كقول بعض المولدين. أخت الغزالة إشراقا وملتفتا. اه منه.
(2) أي الجانبين ا ه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 124
مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقا للمماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطن الذي شأنه الظهور في مبادئ الرأي من غير مداخلة في الحق وَمِمَّا يُوقِدُونَ ابتداء جملة كما روي عن مجاهد معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثل آخر أي ومن الذي يفعلون الإيقاد عَلَيْهِ وضمير الجمع للناس أضمر مع عدم السبق لظهوره ، وقرأ أكثر السبعة. وأبو جعفر. والأعرج. وشيبة «توقدون» بتاء الخطاب ، والجار متعلق بما عنده وكذا قوله تعالى : فِي النَّارِ عند أبي البقاء والحوفي ، قال أبو علي : قد يوقد على الشيء وليس في النار كقوله تعالى : فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ [القصص : 38] فإن الطين الذي أمر بالوقد عليه ليس في النار وإنما يصيبه لهبها ، وقال مكي. وغيره : إن فِي النَّارِ متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أي كائنا أو ثابتا فيها ، ومنعوا تعلقه - بتوقدون - قالوا : لأنه لا يوقد على شيء الا وهو في النار والتعليق بذلك يتضمن تخصيص حال من حال أخرى ، وقال أبو حيان : لو قلنا : إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار لجاز أيضا التعليق على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله تعالى : وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام : 38] وقيل : إن زيادة ذلك للإشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد والمراد بالموصول نحو الذهب. والفضة. والحديد. والنحاس.
والرصاص ، وفي عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالإيقاد عليها المشعر بضربها بالمطارق لأنه لأجله وبكونها كالحطب الخسيس تهاون بها إظهارا لكبريائه جل شأنه على ما قيل ، وهو لا ينافي كون ذلك ضرب مثل للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الإشارة إلى كونه مرغوبا فيه منتفعا به بقوله تعالى : ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ فوفى كل من المقامين حقه فما قيل : إن الحمل على التهاون لا يناسب المقام لأن المقصود تمثيل الحق بها وتحقيرها لا يناسبه ساقط فتأمل.
ونصب ابْتِغاءَ على أنه مفعول له كما هو الظاهر ، وقال الحوفي : إنه مصدر في موقع الحال أي مبتغين وطالبين اتخاذ حلية وهي ما يتزين ويتجمل به كالحلى المتخذ من الذهب والفضة واتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وغير ذلك من الفلزات زَبَدٌ خبث مِثْلُهُ أي مثل ما ذكر من زبد الماء في كونه رابيا فوقه رفع زَبَدٌ على أنه مبتدأ خبره مِمَّا يُوقِدُونَ ومِنَ لابتداء الغاية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئا منه. واستظهر أبو حيان كونها للتبعيض لأن ذلك الزبد بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ولم يرتضه بعض المحققين لإخلاله على ما قال بالتمثيل ، وإنما لم يتعرض لإخراج ذلك من الأرض كما تعرض لعنوان إنزال الماء من السماء لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل على ما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى كما أن للعنوان السابق دخلا فيه بل له إخلال بذلك كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة : يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي مثل الحق ومثل الباطل ، والحذف للابناء «1»
على كمال التماثل بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل فَأَمَّا الزَّبَدُ من كل من السيل وما يوقدون عليه ، وأفرد ولم يثن وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهما واحد باعتبار القدر المشترك فَيَذْهَبُ جُفاءً مرميا به يقال : جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به ، ويقال :
أجفا أيضا بمعناه ، وقال ابن الأنباري : جفاء أي متفرقا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وفرقته وجفأت الرجل صرعته ، ويقال : جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف ، وقرئ «جفالا» باللام بدل الهمزة وهو بمعنى متفرقا أيضا أخذا من جفلت الريح الغيم كجفأت ونسبت هذه القراءة إلى رؤبة ، قال ابن أبي حاتم : ولا يقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر يعني أنه كان أعرابيا جافيا ، وعنه لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن ، والنصب على الحالية وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ أي من الماء
___________
(1) قوله للأبناء كذا بخط المؤلف ولعله للابتناء تأمل اه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 125
الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث فَيَمْكُثُ يبقى فِي الْأَرْضِ أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلي ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها ، وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله ، وقيل : النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أولا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره ، والآية من الجمع والتقسيم كما لا يخفى.
وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظا وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلانا مقدرا بمقدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعا يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعا بها مدة طويلة ، ومثل الباطل الذي ابتلي به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما وإخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعا.
وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن مثل ما بعثني اللّه تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب اكتسبت الماء نفع اللّه تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين اللّه تعالى ونفعه ما بعثني اللّه تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللّه تعالى الذي أرسلت به»
وقال ابن عطية : صدر الآية تنبيه على قدرة اللّه تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرع من ذلك جعله مثالا للحق والباطل والإيمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه ، وكأنه أراد بعطف الإيمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل. وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة إلى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب العجيب يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الإرشاد ، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه : «يضرب اللّه الحق والباطل» إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعا. وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبا وترهيبا فقال سبحانه : لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإن له لما فيه من تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيرا بليغا في تسخير النفوس ، والجار والمجرور خبر مقدم ، وقوله سبحانه : الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة. وغيره ، وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لا يشوبها كدر أصلا. وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لا إله إلا اللّه وفيه من البعد ما لا يخفى مبتدأ مؤخر وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ سبحانه وعاندوا الحق الجلي لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من أصناف الأموال جَمِيعاً بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعا غير متفرق بحسب الأزمان وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 126
جميعا ليتخلصوا عما بهم ، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان ، والموصول مبتدأ والجملة الشرطية خبره وهي على ما قيل واقعة موضع السوأى المقابلة للحسنى الواقعة في القرينة الأولى فكأنه قيل : وللذين لم يستجيبوا له السوأى. وتعقب بأن الشرطية وإن دلت على سوء حالهم لكنها بمعزل عن القيام مقام لفظ السوأى مصحوبا باللام الجارة الداخلة على الموصول أو ضميره وعليه يدور حصول المرام فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى : أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبره أعني الجملة الظرفية خبرا عن الموصول في الحقيقة ومبينا لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبرا عنه أولا ولذلك ترك العطف فكأنه قيل : والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال : وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده. واعتذر بأنه يمكن أن يكون المراد أن لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إلى آخره الآية واقع موقع ذلك على معنى أن رعاية حسن المقابلة لقوله تعالى : لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى تقتضي أن يقال : وللذين لم يستجيبوا له السوأى ولا يزاد على ذلك لكنه جيء بقوله سبحانه : لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ بدل ما ذكر ، ولعل في كلام الطيبي ما يستأنس به لذلك. وإلى اعتبار السوأى في المقابلة ذهب أيضا صاحب الكشف قال : إن قوله تعالى لَوْ أَنَّ لَهُمْ في مقابلة الحسنى بدل السوأى مع زيادة تصوير وتحسير ، وأوثر الإجمال في الأول دلالة على أن جزاء المستجيبين لا يدخل تحت الوصف فتدبر ، والمراد بسوء الحساب أي الحساب السيء على ما روي عن إبراهيم النخعي. والحسن أن يحاسبوا بذنوبهم كلها لا يغفر لهم منها شيء وهو المعني بالمناقشة.
وعن ابن عباس هو أن يحاسبوا فلا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم وَمَأْواهُمْ أي مرجعهم جَهَنَّمُ بيان لمؤدى ما تقدم وفيه نوع تأييد لتفسير الحسنى بالجنة وَبِئْسَ الْمِهادُ أي المستقر ، والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو جهنم.
وقال الزمخشري : اللام في قوله تعالى : لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا متعلقة بيضرب اللّه الأمثال وقوله سبحانه :
الْحُسْنى صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى ، وقوله عز وجل : وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا معطوف على الموصول الأول ، وقوله جل وعلا : لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب ، والمعنى كذلك يضرب اللّه تعالى الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين انتهى ، قال أبو حيان : والتفسير الأول أولى لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين ، واللّه تعالى قد ضرب أمثالا كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف هذا ولأن تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقا وإنما هو نفي الاستجابة الحسنى واللّه تعالى قد نفى الاستجابة مطلقا ولأنه حينئذ يكون لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ كلاما مفلتا أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب اللّه الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم إلخ ، ولو كان هنا حرف يربط لَوْ بما قبلها زال التفلت ، وأيضا أنه يوهم الاشتراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما : وتعقب بأنه لا كلام في أولوية التفسير الأول لكن كون ما ذكر وجها لها محل كلام إذ لا مقتضى في التفسير الثاني لتقييد الأمثال عموما بمثل هذين ، ألا ترى قوله تعالى : كَذلِكَ ثم إن فيه تفهيم ثواب المستجيبين أيضا ألا يرى إلى القصر المستفاد من تقديم الظرف ، وأيضا قوله تعالى :
الْحُسْنى صفة كاشفة لا مفهوم لها فإن الاستجابة للّه تعالى لا تكون إلا حسنى وكيف يكون قوله سبحانه : لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ مفلتا وقد قالوا : إنه كلام مبتدأ لبيان حال المستجيبين يعنون أنه استئناف بياني جواب للسؤال عن مآل حالهم ثم كيف يتوهم الاشتراك مع كون تخصيصه بالكافرين معلوما انتهى. قال بعض المحققين : إن ما ذكر متوجه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 127
بحسب بادئ الرأي والنظرة الأولى أما إذا نظر بعين الإنصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فإن قوله تعالى : كَذلِكَ يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الأمثال فيقتضي أن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك ، وما ذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر. وأما قوله : إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمنا والعلم صراحة ، وأما أن الصفة مؤكدة أولا مفهوم لها فخلاف الأصل أيضا ، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر ، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس ، وعود الضمير على ما قبله مطلقا هو المتبادر وما ذكر لا يدفع الإيهام. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل التفسير الأخير وحمل الأمثال فيه على الأمثال السابقة : وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل. نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضا كما في قوله تعالى :
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [التحريم : 11] ونظائره ، على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروبا لهم أيضا بأن يجعل في حكم أن يقال : كذلك يضرب اللّه الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين ويؤيد هذا ما في الكشف حيث قال : إن جعل لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا من تتمة الأمثال لا من صلة يضرب متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالأصالة ومن صلة يَضْرِبُ أبعد لأن الأمثال إنما ضربت لمن يعقل.
ثم إن كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ما تقدم كان أمثالا والمشهور أنه مثلان ، نعم أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : هذه ثلاثة أمثال ضربها اللّه تعالى في مثل واحد ، وبعد هذا كله لا شك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وإنه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امرئ القيس :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
عن قول المتنبي :
إذا كان مدحا فالنسيب المقدم أكل فصيح قال شعرا متيم
وهو الذي فهمه السلف من الآية ، ومن هنا كان أكثر الشيوخ يقفون على الأمثال ويتبدؤون بقوله تعالى : لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا وقال صاحب المرشد : إنه وقف تام والوقف على الْحُسْنى حسن وكذا على لَافْتَدَوْا بِهِ والعجب من الزمخشري كيف اختار خلاف ذلك مع وضوحه واللّه تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة : المر أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة تِلْكَ آياتُ علامات الْكِتابِ الجامع الذي هو الوجود المطلق اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية ، وجعل الشيخ الأكبر قدس سره عمادها الإنسان الكامل ، وقيل : النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبعة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لا يختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي بمنزلة الخيال فينا وفيه ما فيه ، وقيل : رفع سموات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بالتأثير والتقويم ، وقيل : عرش القلب بالتجلي وَسَخَّرَ الشَّمْسَ شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراف الأنوار العالية «والقمر» قمر القلب بإدراك ما في العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وهو كماله بحسب الفطرة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 128
المبادئ يُفَصِّلُ الْآياتِ في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ عند مشاهدة آيات التجليات تُوقِنُونَ عين اليقين.
وقال ابن عطاء : يدبر الأمر بالقضاء السابق ويفصل الآيات بأحكام الظاهر لعلكم توقنون أن اللّه تعالى الذي يجري تلك الأحوال لا بد لكم من الرجوع إليه سبحانه وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي أرض قلوب أوليائه ببسط أنوار المحبة وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ المعرفة لئلا تتزلزل بغلبة هيجان المواجيد وجعل فيها أَنْهاراً من علوم الحقائق وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وهي ثمرات أشجار الحكم المتنوعة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تجلى الجلال وتجلى الجمال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في آيات اللّه تعالى ، قال أبو عثمان : الفكر إراحة القلب من وساوس التدبير ، وقيل : تصفيته لوارد الفوائد ، وقيل : الإشارة في ذلك إلى مد أرض الجسد وجعل رواسي العظام فيها وأنهار العروق وثمرات الأخلاق من الجود والبخل والفجور والعفة والجبن والشجاعة والظلم والعدل وأمثالها والسواد والبياض والحرارة والبرودة والملاسة والخشونة ونحوها ، وتغشية ليل ظلمة الجسمانيات نهار الروحانيات وفي ذلك آيات لقوم يفتكرون في صنع اللّه تعالى وتطابق عالميه الأصغر والأكبر وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقلوب العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين ، وقيل : في أرض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الأنوار والرابعة أشجار نور العلم وفيها جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ أي أعناب العشق وَزَرْعٌ أي زرع دقائق المعرفة وَنَخِيلٌ أي نخل الإيمان صِنْوانٌ في مقام الفرق وَغَيْرُ صِنْوانٍ في مقام الجمع ، وقيل : صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وهو التجلي الذي يقتضيه
الجود المطلق وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ في الطعم الروحاني ، وقيل : أشير أيضا إلى أن في أرض الجسد قطعا متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الإنسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والأذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم يسقى بماء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الإدراكات والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة الحكمة على العفة وهكذا وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ بعد ظهور الآيات أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ولم يعلموا أن القادر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى.
وقيل : إن منشأ التعجب أنهم أنكروا الخلق الجديد يوم القيامة مع أن الإنسان في كل ساعة في خلق آخر جديد بل العالم بأسره في كل لحظة يتجدد بتبدل الهيئات والأحوال والأوضاع والصور ، وإلى كون العالم كل لحظة في خلق جديد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره فعنده الجوهر وكذا العرض لا يبقى زمانين كما أن العرض عند الأشعري كذلك ، وهذا عند الشيخ قدس سره مبني على أن الجواهر والأعراض كلها شؤونه تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا وهو سبحانه كل يوم أي وقت في شأن ، وأكثر الناس ينكرون على الأشعري قوله بتجدد الأعراض ، والشيخ قدس سره زاد في الشطرنج جملا ولا يكاد يدرك ما يقول بالدليل بل هو موقوف على الكشف والشهود ، وقد اغتر كثير من الناس بظاهر كلامه فاعتقدوه من غير تدبر فضلوا وأضلوا أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فلم يعرفوا عظمته سبحانه وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم المنكسة إلى النظر في الآيات وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 129
فِيها خالِدُونَ
لعظم ما أتوا به وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بمناسبة استعدادهم للشر وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبة أمثالهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أنفسهم باكتساب الأمور الحاجبة لهم عن النور ولم ترسخ فيهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن رسخت فيه وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لعمى بصائرهم عن مشاهدة الآيات الشاهدة بالنبوة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ تشهد له صلى اللّه عليه وسلم بذلك إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ هو اللّه تعالى ، وقيل : لكل طائفة شيخ يعرفهم طريق الحق اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال أي ما في قوة كل استعداد وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ أي تنقص أرحام الاستعداد بترك النفس وهواها وَما تَزْدادُ بالتزكية وبركة الصحبة وَكُلُّ شَيْءٍ من الكمالات عِنْدَهُ سبحانه بِمِقْدارٍ معين على حسب القابلية سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في ممكن استعداده وَمَنْ جَهَرَ بِهِ بإبرازه إلى الفعل وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ظلمة ظلمه نفسه وَسارِبٌ بِالنَّهارِ بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إشارة إلى سوابق الرحمة الحافظة له من خاطفات الغضب أو الإمدادات الملكوتية الحافظة له من جنب القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية وإهلاكها إياه إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعم الظاهرة أو الباطنة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الاستعداد وقوة القبول قال النصرابادي : إن هذا الحكم عام لكن مناقشة الخواص فوق مناقشة العوام ، وعن بعض السلف أنه قال : إن الفأرة مزقت خفي وما أعلم ذلك إلا
بذنب أحدثته وإلا لما سلطها علي وتمثل بقول الشاعر :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ إذ الكل تحت قهره سبحانه ، قال القاسم : إذا أراد اللّه تعالى هلاك قوم حسن موارده في أعينهم حتى يمشون إليها بتدبيرهم وأرجلهم ، وللّه تعالى در من قال :
إذا لم يكن عون من اللّه للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ أي برق لوامع الأنوار القدسية خَوْفاً خائفين من سرعة انقضائه أو بطء رجوعه وَطَمَعاً طامعين في ثباته أو سرعة رجوعه وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ بماء العلم والمعرفة ، وقيل : يرى المحبين برق المكاشفة وينشئ للعارفين سحاب العظمة الثقال بماء الهيبة فيمطر عليهم ما يحييهم به الحياة التي لا تشبهها حياة ، وأنشدوا للشبلي :
أظلت علينا منك يوما غمامة أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها
فلا غيمها يصحو فييأس طامع ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها
وعن بعضهم أن البرق إشارة إلى التجليات البرقية التي تحصل لأرباب الأحوال وأشهر التجليات في تشبيهه بالبرق التجلي الذاتي ، وأنشدوا :
ما كان ما أوليت من وصلنا إلا سراجا لاح ثم انطفى
وذكر الإمام الرباني قدس سره في المكتوبات أن التجلي الذاتي دائمي للكاملين من أهل الطريقة النقشبندية لا يرقى وأطال الكلام في ذلك مخالفا لكبار السادة الصوفية كالشيخ محيي الدين قدس سره. وغيره ، والحق أن ما ذكره من التجلي الذاتي ليس هو الذي ذكروا أنه برقي كما لا يخفى على من راجع كلامه وكلامهم وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ أي رعد سطوة التجليات الجلالية ويمجد اللّه تعالى عما يتصوره العقل ملتبسا بِحَمْدِهِ وإثبات ما ينبغي له عز شأنه وَالْمَلائِكَةُ وتسبح ملائكة القوى الروحانية مِنْ خِيفَتِهِ من هيبة جلاله جل جلاله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ هي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 130
صواعق السبحات الإلهية عند تجلي القهر الحقيقي المتضمن للّطف الكلي فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيحرقه عن بقية نفس ، وفي الخبر «إن للّه تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
وقال ابن الزنجاني : الرعد صعقات الملائكة والبرق ذفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم ، وجعل الزمخشري هذا من بدع المتصوفة ، وكأني بك تقول : إن أكثر ما ذكر في باب الإشارة من هذا الكتاب من هذا القبيل.
والجواب إنا لا ندعي إلا الإشارة وأما أن ذلك مدلول اللفظ أو مراد اللّه تعالى فمعاذ اللّه تعالى من أن يمر بفكري ، واعتقاد ذلك هو الضلال البعيد والجهل الذي ليس عليه مزيد ، وقد نص المحققون من الصوفية على أن معتقد ذلك كافر والعياذ باللّه تعالى ، ولعلك تقول : كان الأولى مع هذا ترك ذلك. فنقول : قد ذكر مثله من هو خير منا والوجه في ذكره غير خفي عليك لو أنصفت وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ بالتفكر في ذاته والنظر للوقوف على حقيقة صفاته وَهُوَ سبحانه شَدِيدُ الْمِحالِ في دفع الأفكار والأنظار عن حرم ذاته وحمى صفاته جل جلاله :
هيهات أن تصطاد عنقاء البقاء بلعابهن عناكب الأفكار
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي الحقة الحقيقة بالإجابة لا لغيره سبحانه وَالَّذِينَ يَدْعُونَ الأصنام لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ أي إلا استجابة كاستجابة من ذكر لأن ما يدعونه بمعزل عن القدرة وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ المحجوبين إِلَّا فِي ضَلالٍ أي ضياع لأنهم لا يدعون إلا له الحق وإنما يدعون الها توهموه ونحتوه في خيالهم وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ينقاد مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الحقائق والروحانيات طَوْعاً وَكَرْهاً شاؤوا أو أبوا وَظِلالُهُمْ هياكلهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي دائما وقيل : يسجد من في السموات وهو الروح والعقل والقلب وسجودهم طوعا ومن في الأرض النفس وقواها وسجودهم كرها.
وقيل : الساجدون طوعا أهل الكشف والشهود والساجدون كرها أهل النظر والاستدلال أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من سماء روح القدس ماءً أي ماء العلم فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ أي أودية القلوب بِقَدَرِها بقدر استعدادها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً من خبث صفات أرض النفس رابِياً طافيا على ذلك وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ طلب زينة النفس لكونها كمالات لها أَوْ مَتاعٍ من الفضائل الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما زَبَدٌ خبث مِثْلُهُ كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس «فأما الزبد فيذهب جفاء» منفيا بالعلم «وأما ما ينفع الناس» من المعاني الحقة والفضائل الخالصة «فيمكث في الأرض» أرض النفس ، وقال بعضهم : إنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية ، فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقدار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد ، وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلا فيحتمل السيل زبدا وحثالة وما يكون مانعا من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى ، وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض من الذهب والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبدا مثل زبد السيل وأنه يذهب
ويمكث أصلهما الصافي ، فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 131
ويبقى ما هو خالص للّه تعالى ، وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعا خاطر الباطل ، وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الانس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعا من القربة والقرب من اللّه عز وجل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ باللّه تعالى ، وقال ابن عطية : روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : «أنزل من السماء ماء» إلخ يريد بالماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه ، ثم قال : وهذا قول لا يصح - واللّه تعالى أعلم - عن ابن عباس لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق ، وفيه إخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير داع إلى ذلك ، وإن صح ذلك عن ابن عباس فيقال فيه : إنما قصد رضي اللّه تعالى عنه أن قوله تعالى : كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها اه ونحن نقول : إن صح ذلك فمقصود الخبر منه الإشارة وإن كان يريد غير ظاهر فيه ، وحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد اللّه تعالى كما لا يخفى على متتبعي كلامه ، وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على ما يوافق غرضهم ولم أقف على ذلك «للذين استجابوا لربهم» بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس «الحسنى» المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء «والذين لم يستجيبوا له» تعالى وبقوا في الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية «لو أن لهم ما في الأرض» الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا أنفسهم بها «ومثله معه لافتدوا به» مما ينالهم من الحجاب والحرمان أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ الحرمان «وبئس المهاد» جهنم والعياذ باللّه تعالى ونسأله العفو والعافية.
[سورة الرعد (13) : الآيات 19 إلى 43]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38)
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 132
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن الذي مثل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالص في المنفعة والجدوى هو الْحَقُّ الذي لا حق وراءه أو الحق الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيب له كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب لا يدركه ولا يقدر قدره وهو - هو - فيبقى حائرا في ظلمات الجهل وغياهب الضلال ولا يتذكر بما ضرب من الأمثال ، والمراد كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادة تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى ، والهمزة للإنكار وإيراد الفاء بعدها لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المماثلة على ظهور حال كل منهما بما ضرب من الأمثال وما بين من المصير والمآل كأنه قيل : أبعد ما بين حال كل من الفريقين وما لهما يتوهم المماثلة بينهما.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما أو من يعلم بالواو مكان الفاء إِنَّما يَتَذَكَّرُ بما ذكر من

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 133
المذكرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي أُولُوا الْأَلْبابِ أي العقول الخالصة المبرأة من متابعة الألف ومعارضة الوهم ، فاللب أخص من العقل وهو الذي ذهب إليه الراغب ، وقيل : هما مترادفان والقصد بما ذكر دفع ما يتوهم من أن الكفار عقلاء مع أنهم غير متذكرين ولو نزلوا منزلة المجانين حسن ذلك.
والآية «1»
على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في حمزة رضي اللّه تعالى عنه. وأبي جهل وقيل :
في عمر رضي اللّه تعالى عنه. وأبي جهل ، وقيل : في عمار بن ياسر رضي اللّه تعالى عنه. وأبي جهل ، وقد أشرنا إلى وجه اتصالها بما قبلها ، والعلامة الطيبي بعد أن قرر وجه الاتصال بأن فَمَنْ يَعْلَمُ عطف على جملة لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا إلخ والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وذكر من معنى الآية على ذلك ما ذكر قال : ثم إنك إذا أمعنت النظر وجدتها متصلة بفاتحة السورة يعني بقوله تعالى : وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وهو كما ترى الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ بما عقدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا :
بلى ، أو بما عهد اللّه تعالى عليهم في كتبه من الأحكام فالمراد بهم ما يشمل جميع الأمم ، وإضافة العهد إلى الاسم الجليل من باب إضافة المصدر إلى مفعوله على الوجه الأول ومن باب إضافة المصدر إلى الفاعل على الثاني ، وإذا أريد بالعهد ما عقده اللّه تعالى عليهم يوم قال سبحانه : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف : 172] كانت الإضافة مطلقا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل وهو الظاهر كما في البحر ، وحكى حمل العهد على عهد ألست عن قتادة ، وحمله على ما عهد في الكتب عن بعضهم ، ونقل عن السدي حمله على ما عهد إليهم في القرآن ، وعن القفال حمله على ما في جبلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات إلى غير ذلك واستظهر حمله على العموم وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما وثقوا من المواثيق بين اللّه تعالى وبينهم من الإيمان به تعالى والأحكام والنذور وما بينهم وبين العباد كالعقود وما ضاهاها ، وهو تعميم بعد تخصيص وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل.
وقال أبو حيان : الظاهر أن هذه الجملة تأكيد للتي قبلها لأن العهد هو الميثاق ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقضه ، وقال ابن عطية : المراد بالجملة الأولى يوفون بجميع عهود اللّه تعالى وهي أوامره ونواهيه التي وصى اللّه تعالى بها عبيده ويدخل في ذلك التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي ، والمراد بالجملة الثانية أنهم إذا عقدوا في طاعة اللّه تعالى عهدا لم ينقضوه اه ، وعليه فحديث التعميم بعد التخصيص لا يتأتى كما لا يخفى ، وقد تقدم اللّه سبحانه إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية من كتابه كما روي عن قتادة ، ومن أعظم المواثيق - على ما قال ابن العربي - أن لا يسأل العبد سوى مولاه جل شأنه.
وفي قصة أبي حمزة الخراساني ما يشهد لعظم شأنه فقد عاهد ربه أن لا يسأل أحدا سواه فاتفق أن وقع في بئر فلم يسأل أحدا من الناس المارين عليه إخراجه منها حتى جاء من أخرجه بغير سؤال ولم ير من أخرجه فهتف به هاتف كيف رأيت ثمرة التوكل؟ فينبغي الاقتداء به في الوفاء بالعهد على ما قال أيضا. وقد أنكر ابن الجوزي فعل هذا الرجل وبين خطأه وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال ، وذكر أن سفيان الثوري وغيره قالوا : لو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار ، ولا ينكر أن يكون اللّه تعالى قد لطف بأبي حمزة الجاهل. نعم لا ينبغي الاستغاثة بغير اللّه تعالى على النحو الذي يفعله الناس اليوم مع أهل القبور الذين يتخيلون فيهم ما يتخيلون فآها ثم آها مما يفعلون.
___________
(1) هي أفمن يعلم إلخ اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 134
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ الظاهر العموم في كل ما أمر اللّه تعالى به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال الحسن : المراد صلة الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالإيمان به ، وروي نحوه عن ابن جبير ، وقال قتادة : المراد صلة الأرحام ، وقيل : صلة الإيمان بالعمل ، وقيل : صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام وعيادة المرضى وشهود الجنائز ومراعاة حق الجيران والرفقاء والخدم ، ومن ذهب إلى العموم أدخل في ذلك الأنبياء عليهم السلام ووصلهم أن يؤمن بهم جميعا ولا يفرق بين أحد منهم والناس على اختلاف طبقاتهم ووصلهم بمراعاة حقوقهم بل سائر الحيوانات ووصلها بمراعاة ما يطلب في حقها وجوبا أو ندبا ، وعن الفضيل بن عياض أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم؟ قالوا : من أهل خراسان «1»
قالوا : اتقوا اللّه تعالى وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن محسنا ، ومفعول «أمر» محذوف والتقدير ما أمرهم اللّه به ، و«أن يوصل» بدل من الضمير المجرور أي ما أمر اللّه بوصله وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي وعيده سبحانه والظاهر أن المراد به مطلقا ، وقيل : المراد وعيده تعالى على قطع ما أمروا بوصله وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام ، والخشية والخوف قيل بمعنى ، وفي فروق العسكري أن الخوف يتعلق بالمكروه ومنزله تقول خفت زيدا وخفت المرض والخشية تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه ، ولذا قال سبحانه : «يخشون» أولا «ويخافون» ثانيا ، وعليه فلا يكون اعتبار الوعيد في محله ، لكن هذا غير مسلم لقوله تعالى : «خشية إملاق» و«لمن خشي العنت منكم» وفرق الراغب بينهما فقال : الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم ولذلك خص العلماء بها في قوله تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر : 28].
وقال بعضهم : الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم : شجرة خشية أي يابسة ولذا خصت بالرب في هذه الآية ، وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويا والخوف من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا ، يدل على ذلك أن تقاليب الخاء والشين والياء تدل على الغفلة وفالتدبر ، والحق أن مثل هذه الفروق أغلبي لا كلي وضعي ولذا لم يفرق كثير بينهما ، نعم اختار الإمام ان المراد من يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أنهم يخافونه خوف مهابة وجلالة زاعما أنه لولا ذلك يلزم التكرار وفيه ما فيه. وَالَّذِينَ صَبَرُوا على كل ما تكرهه النفس من المصائب المالية والبدنية وما يخالفه هوى النفس كالانتقام ونحوه ويدخل فيما ذكر التكاليف ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلبا لرضاه تعالى من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء أو سمعة ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا ، وقيل :
المراد طالبين ذلك فنصب ابْتِغاءَ على الحالية وعلى الأول هو منصوب على أنه مفعول له ، والكلام في مثل الوجه منسوبا إليه تعالى شهير.
وفي البحر أن الظاهر منه هاهنا جهة اللّه تعالى أي الجهة التي تقصد عنده سبحانه بالحسنات ليقع عليها المثوبة كما يقال : خرج زيد لوجه كذا ، وفيه أيضا أنه جاءت الصلة هنا بلفظ الماضي وفيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن المبتدأ في معنى اسم الشرط والماضي كالمضارع في اسم الشرط فكذلك فيما أشبهه : ولذا قال النحويون : إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي وإن يراد به الاستقبال ، فمن الأول الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران : 173] ومن الثاني إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة : 341]
___________
(1) كأنهم تعرفوا إليه بأنهم من منشئه فأجاب بأن الجامع التقوى لا المولد ، وقيل : كأنهم افتخروا بأنهم من خراسان والأول أولى اه منه.==

18. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 135
ويظهر أيضا أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وما تقدم بالمضارع أن ما تقدم قصد به الاستصحاب ، والالتباس وأما هذه فقد قصد بها تقدمها على ذلك لأن حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذا لم يأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها.
وفي إرشاد العقل السليم حيث كان الصبر ملاك الأمر في كل ما ذكر من الصلات السابقة واللاحقة أورد بصيغة الماضي اعتناء بشأنه ودلالة على وجوب تحققه فإن ذلك مما لا بد منه إما في نفس الصلات كما فيها عدا الأولى والرابعة والخامسة أو في إظهار أحكامها كما في الصلات الثلاث المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقة على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشية والخوف لكن إظهار أحكامها والجري على موجبها غير خال عن الاحتياج إليه وهو لا يخلو عن شيء ، والأولى على ما قيل الاقتصار في التعليل على الاعتناء بشأنه ، وعطف قوله سبحانه : وَأَقامُوا الصَّلاةَ وكذا ما بعده على ذلك على ما نص عليه غير واحد من باب عطف الخاص على العام ، والمراد بالصلاة قيل الصلاة المفروضة وقيل مطلقا وهو أولى ، ومعنى إقامتها إتمام أركانها وهيئاتها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ بعض ما أعطيناهم وهو الذي وجب عليهم إنفاقه كالزكاة وما ينفق على العيال والمماليك أو ما يشمل ذلك والذي ندب سِرًّا حيث يحسن السر كما في إنفاق من لا يعرف بالمال إذا خشي التهمة في الإظهار أو من عرف به لكن لو أظهره ربما داخله الرياء والخيلاء ، وكما في الإعطاء لمن تمنعه المروءة من الأخذ ظاهرا وَعَلانِيَةً حيث تحسن العلانية كما إذا كان الأمر على خلاف ما ذكر ، وقال بعضهم : إن الأول مخصوص بالتطوع والثاني بأداء الواجب ، وعن الحسن أن كلا الأمرين في الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سرا وإلا فالأولى أداؤها علانية ، وقيل : السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الإمام والأولى الحمل على العموم ، ولعلّ تقديم السر للإشارة إلى فضل صدقته ، وجاء في الصحيح عد المتصدق سرا من الذين يظلمهم اللّه تعالى في ظله يوم القيامة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان
على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد ، وعن ابن جبير يردون معروفا على من يسيء إليهم فهو كقوله تعالى : وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان : 63] وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا وقيل : يتبعون السيئة بالحسنة فتمحوها. وفي الحديث أن معاذا قال : أوصني يا رسول اللّه قال : «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية»
وعن ابن كيسان يدفعون بالتوبة معرة الذنب. وقيل : بلا إله إلا اللّه شركهم ، وقيل : بالصدقة العذاب. وقيل : إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره ، وقيل وقيل ، ويفهم صنيع بعض المحققين اختيار الأول فهم كما قيل :
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وهذا بخلاف خلق بعض الجهلة :
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم
وقال في الكشف : الأظهر التعميم أي يدرؤون بالجميل السيء سواء كان لأذاهم أو لا مخصوصا بهم أو لا طاعة أو معصية مكرمة أو منقصة ولعل الأمر كما قال ، وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كمال العناية بالحسنة أُولئِكَ أي المنعتون بالنعوت الجليلة والملكات الجميلة ، وليس المراد بهم أناسا بأعيانهم وإن كانت الآية نازلة - على ما قيل - في الأنصار ، واسم الإشارة مبتدأ خبره الجملة الظرفية أعني قوله سبحانه : لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أمر أهلها وهي الجنة ، فتعريف الدار للعهد والعاقبة المطلقة تفسر بذلك وفسرت به في قوله تعالى : «والعاقبة للمتقين» وفسرها الزمخشري أيضا بالجنة إلا أنه قال : لأنها التي أراد اللّه تعالى أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها ، وفيه على ما قيل شائبة اعتزال.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 136
وجوز أن يراد - بالدار - الآخرة أي لهم العقبى الحسنة في الدار الآخرة ، وقيل : الجار والمجرور خبر اسم الإشارة و«عقبى» فاعل الاستقرار ، وأيا ما كان فليس فيه قصر حتى يرد أن بعض ما في حيز الصلة ليس من العزائم التي يخل إخلالها بالوصول إلى حسن العاقبة.
وقال بعضهم : إن المراد مآل أولئك الجنة من غير تخلل بدخول النار فلا بأس لو قيل بالقصر ، ولا يلزم عدم دخول الفاسق المعذب الجنة ، والقول إنه موصوف بتلك الصفات في الجملة كما ترى. والجملة خبر للموصولات المتعاطفة أن رفعت بالابتداء أو استئناف نحو أو بياني في جواب ما بال الموصوفين بهذه الصفات؟ إن جعلت الموصولات المتعاطفة صفات - لأولي الألباب - على طريقة المدح من غير أن يقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخل في التذكر ، والأول أوجه لما في الكشف من رعاية التقابل بين الطائفتين ، وحسن العطف في قوله تعالى :
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ وجريهما على استئناف الوصف للعالم ومن هو كأعمى ، وقوله سبحانه : جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عقبى الدار كما قال الزجاج بدل كل من كل ، وجوز أبو البقاء. وغيره أن يكون مبتدأ خبره قوله تعالى : يَدْخُلُونَها وتعقب بأنه بعيد عن المقام ، والأولى أن يكون مبتدأ محذوف كما ذكر في البحر ، ورد بأنه لا وجه له لأن الجملة بيان لعقبى الدار فهو مناسب للمقام ، والعدن الإقامة والاستقرار يقال : عدن بمكان كذا إذا استقر ، ومنه المعدن لمستقر الجواهر أي جنات يقيمون فيها ، وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال : «جنات عدن» بطنان الجنة أي وسطها ، وروي نحو ذلك عن الضحاك إلا أنه قال : هي مدينة وسط الجنة فيها الأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، وجاء فيها غير ذلك من الأخبار ، ومتى أريد منها مكان مخصوص من الجنة كان البدل بدل بعض من كل. وقرأ النخعي «جنة» بالإفراد ، وروي عن ابن كثير وأبي عمرو «يدخلونها» مبنيا للمفعول وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ جمع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل : من آبائهم وأمهاتهم وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وهو كما قال أبو البقاء عطف على المرفوع في - يدخلون - وإنما ساغ ذلك مع عدم التأكيد للفصل بالضمير الآخر ، وجوز أن يكون مفعولا معه. واعترض بأن واو المعية لا تدخل إلا على المتبوع. ورد بأن هذا إنما ذكر في مع لا في الواو وفيه نظر ، والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهليهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم تعظيما لشأنهم.
أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن جبير قال : يدخل الرجل الجنة فيقول : أين أمي أين ولدي أين زوجتي؟ فيقال : لم يعملوا مثل عملك فيقول : كنت أعمل لي ولهم ثم قرأ الآية ، وفسر «من صلح» بمن آمن وهو المروي عن مجاهد وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وفسر ذلك الزجاج بمن آمن وعمل صالحا ، وذكر أنه تعالى بين بذلك أن الأنساب لا تنفع إذا لم يكن معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة. ورد عليه الواحدي فقال : الصحيح ما روي عن ابن عباس لأن اللّه تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة ، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة فلو دخلوها بأعمالهم لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان مصلحا في عمله فهو يدخل الجنة. وضعف ذلك الإمام بأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سرورا وبهجة فإذا بشر اللّه تعالى المكلف بأنه إذا دخل الجنة يحضر معه أهله يعظم سروره وتقوى بهجته. ويقال : إن من أعظم سرورهم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون اللّه تعالى على الخلاص منها ، ولذلك حكى سبحانه عن بعض أهل الجنة أنه يقول : «يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين» وعلى هذا لا تكون الآية دليلا على أن الدرجة تعلو بالشفاعة. ومنهم من استدل بها على ذلك على المعنى الأول لها.
وتعقب بأنها أيضا لا دلالة لها على ما ذكر. وأجيب بأنه إذا جاز أن تعلو بمجرد التبعية للكاملين في الإيمان تعظيما لشأنهم فالعلو بشفاعتهم معلوم بالطريق الأولى. وقال بعضهم : إنهم لما كانوا بصلاحهم مستحقين لدخول

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 137
الجنة كان جعلهم في درجتهم مقتضى طلبهم وشفاعتهم لهم بمقتضى الإضافة. والحق أن الآية لا تصلح دليلا على ذلك خصوصا إذا كان الواو بمعنى مع فتأمل ، والظاهر أنه لا تمييز بين زوجة وزوجة وبذلك صرح الإمام ثم قال : ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه. وما روي عن سودة أنها لما هم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول اللّه أحشر في جملة نسائك كالدليل على ما ذكر. واختلف في المرأة ذات الأزواج إذا كانوا قد ماتوا عنها فقيل : هي في الجنة لآخر أزواجها. ويؤيده كون أمهات المؤمنين زوجاته صلى اللّه عليه وسلم فيها مع كون أكثرهن كن قد تزوجن قبل بغيره عليه الصلاة والسلام. وقيل : هي لأول أزواجها كامرأة أخبرها ثقة أن زوجها قد مات ووقع في قلبها صدقه فتزوجت بعد انقضاء عدتها ثم ظهرت حياته فإنها تكون له. وتعقب بأن هذا ليس من هذا القبيل بل هو يشبه ما لو مات رجل وأخبر معصوم كالنبي بموته فتزوجت امرأته بعد انقضاء العدة ثم أحياه اللّه تعالى وقد قالوا في ذلك : إن زوجته لزوجها الثاني.
وقيل : إن الزوجة تخير يوم القيامة بين أزواجها فمن كان منهم أحسنهم خلقا معها كانت له وارتضاه جمع. وقرأ ابن أبي عبلة «صلح» بضم اللام والفتح أفصح وعيسى الثقفي «ذريتهم» بالتوحيد وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل.
أخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك أنه قرأ الآية حتى ختمها ثم قال : إن المؤمن لفي خيمة من درة مجوفة ليس فيها جذع ولا وصل طولها في الهواء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ومال لها أربعة آلاف مصراع من ذهب يقوم على كل باب منها سبعون ألفا من الملائكة مع كل ملك هدية من الرحمن ليس مع صاحبه مثلها لا يصلون إليه إلا بإذن بينه وبينهم حجاب» وروي عن ابن عباس ما هو أعظم من ذلك.
وقال أبو الأصم : أريد من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ، وقيل : من أبواب الفتوح والتحف ، قيل : فعلى هذا المراد بالباب النوع ومَنْ للتعليل ، والمعنى يدخلون لإتحافهم بأنواع التحف ، وتعقب بأن في كون الباب بمعنى النوع كالبابة نظرا فإن ظاهر كلام الأساس وغيره يقتضي أن يكون مجازا أو كناية عما ذكر لأن الدار التي لها أبواب إذا أتاها الجم الغفير يدخلونها من كل باب فأريد به دخول الأرزاق الكثيرة عليهم وأنها تأتيهم من كل جهة وتعدد الجهات يشعر بتعدد المأتيات فإن لكل جهة تحفة سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي قائلين ذلك وهو بشارة بدوام السلامة ، فالجملة مقول لقول محذوف واقع حالا من فاعل يَدْخُلُونَ وجوز كونها حالا من غير تقدير أي مسلمين ، وهي في الأصل فعلين أي يسلمون سلاما ، وقوله تعالى : بِما صَبَرْتُمْ متعلق كما قال أبو البقاء بما تعلق به عَلَيْكُمْ أو به نفسه لأنه نائب عن متعلقه ، ومنع هذا - كما قال السيوطي - السفاقسي وقال : لا وجه له ، والصحيح أنه متعلق بما تعلق به عَلَيْكُمْ وجوز الزمخشري تعلقه - بسلام - على معنى نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم ومنعه أبو البقاء بأن فيه الفصل بين المصدر ومعمول له بالأجنبي وهو الخبر ، ووجه ذلك في الدر المصون بأن المنع إنما هو في المصدر المؤول بحرف مصدري وهذا ليس منه مع أن الرضي جوز ذلك مع التأويل أيضا وقال : لا أراه مانعا لأن كل مؤول بشيء لا يثبت له جميع أحكامه ، وجوز لهذه العلة العلامة الثاني تقديم معمول المصدر المؤول بأن والفعل عليه في نحو قوله تعالى : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ [النور : 2] وقال في الكشف : إن عَلَيْكُمْ نظرا إلى الأصل غير أجنبي فلذلك جاز أن يفصل به ، على أن الزمخشري لم يصرح بأنه معموله بل من مقتضاه ولذا قال : أي نسلم إلخ فدل على أن التعلق معنوي يقدر ما يناسبه ، ولو جعل معمولا للظرف المستقر أعني عَلَيْكُمْ فيكون
متعلقا معنى - بسلام - ضرورة لكان وجها خاليا عن التكلف ، وجعله أبو حيان خبر مبتدأ محذوف وبِما مصدرية والباء سببية أو بدلية أي هذا الثواب الجزيل بسبب صبركم في الدنيا على المشاق أو بدله. وعن أبي عمران بما صبرتم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 138
على دينكم ، وعن الحسن عن فضول الدنيا ، وعن محمد بن النصر على الفقر ، والتعميم أولى. وتخصيص الصبر بالذكر من بين الصلات السابقة لما أنه ملاك الأمر والأمر المعتنى به كما علمت فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة ، وقيل : المراد بالدار الآخرة ، وقال بعضهم : المراد أنهم عقبوا الجنة من جهنم ، قال ابن عطية : وهذا مبني على ما ورد من أن كل رجل من أهل الجنة قد كان له مقعد من النار فصرفه اللّه تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له : هذا مقعدك من النار قد أبدلك اللّه تعالى بالجنة بإيمانك وصبرك. وقرأ ابن يعمر «فنعم» بفتح النون وكسر العين وذلك هو الأصل ، وابن وثاب «فنعم» بفتح النون وسكون العين وتخفيف فعل لغة تميم ، وجاء فيها - كما في الصحاح - «نعم» بكسر النون واتباع العين لها وأشهر استعمالاتها ما عليه الجمهور. وأخرج ابن جرير عن محمد بن إبراهيم قال : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
وكذا كان يفعل أبو بكر. وعمر وعثمان رضي اللّه تعالى عنهم ، وتمسك بعضهم بالآية على أن الملك أفضل من البشر فقالوا : إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية والإكرام والتعظيم والسلام فكانوا أجلّ مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجبا علو درجاتهم وشرف مراتبهم ، ولا شك أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته إنه يزوره الأمير. والوزير. والقاضي. والمفتي دل على أن درجة المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذا هاهنا ، وهو من الركاكة بمكان.
ولم لا يجوز أن يكون ما هنا نظير ما إذا أتى السلطان بشخص من عماله الممتازين عنده قد أطاعه في أوامره ونواهيه إلى محل كرامته ثم بعد أن أنزله المنزل اللائق به أرسل خدمه إليه بالهدايا والتحف والبشارة بما يسره فهل إذا قيل : إن فلانا قد أحله السلطان محل كرامته ودار حكومته وأنزله المنزل اللائق به وأرسل خدمه إليه بما يسره كان ذلك دليلا على أن أولئك الخدم أعلى درجة منه؟ لا أظنك تقول ذلك. نعم جاء في بعض الأخبار ما يؤيد بظاهره ما تقدم ،
فقد أخرج أحمد. والبزار. وابن حبان. والحاكم وصححه. وجماعة عن عبد اللّه بن عمرو قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أول من يدخل الجنة من خلق اللّه تعالى فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول اللّه تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم فيقول اللّه تعالى : إن هؤلاء عباد لي كانوا يعبدوني ولا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار»
ومن أنصف ظهر له أن هذا لا يدل على أن الملائكة مطلقا أفضل من البشر مطلقا كما لا يخفى ، وذكر الإمام الرازي في تفسير الآية على الوجه المروي عن الأصم في تفسير دخول الملائكة من كل باب أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ومنهم كروبيون فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهز قدسي وروح علوي مختص بتلك الصفة مزيد اختصاص فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفات المخصوصة فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب اه. وتعقبه أبو حيان بأنه كلام فلسفي لا تفهمه العرب ولا جاءت به الأنبياء عليهم السلام فهو مطروح لا يلتفت إليه المسلمون. وأنت تعلم أن مثل هذا كلام كثير من الصوفية وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ أريده بهم من يقابل الأولين ويعاندهم بالاتصاف بنقائض أوصافهم مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ الاعتراف به ، قيل :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 139
المراد بالعهد قوله سبحانه : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف : 172] وبالميثاق ما هو اسم آلة أعني ما يوثق به الشيء وأريد به الاعتراف بقول : بَلى وقد يسمى العهد من الطرفين ميثاقا لتوثيقه بين المتعاهدين وفسر الإمام عهد اللّه تعالى بما ألزمه عباده بواسطة الدلائل العقلية لأن ذلك أوكد كل عهد وكل أيمان إذ الأيمان إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاء بمقتضاها ، ثم قال : والمراد من نقضها أن لا ينظر المرء فيها فلا يمكنه حينئذ العمل بموجبها أو بأن ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعلمه أو بأن ينظر في الشبه فلا يعتقد الحق ، والمراد بقوله سبحانه مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد أن أوثق إليه تلك الأدلة وأحكامها لأنه لا شيء أقوى مما دل اللّه تعالى على وجوبه في أنه ينفع فعله ويضر تركه.
وأورد أنه إذا كان العهد لا يكون إلا بالميثاق فما فائدة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ؟ وأجاب بأنه لا يمتنع أن يكون المراد مفارقة من تمكن من معرفته بالحلف لمن لم يتمكن أو لا يمتنع أن يكون المراد الأدلة المؤكدة لأنه يقال : قد تؤكد إليك بدلائل أخرى سواء كانت عقلية أو سمعية اه ولا يخفى أنه إذا أريد بالعهد ذلك القول وبالميثاق الاعتراف به لم يحتج إلى القيل والقال ، وحمل بعضهم العهد هنا على سائر ما وصى اللّه تعالى به عباده كالعهد فيما سبق والميثاق على الإقرار والقبول. والآية كما روي عن مقاتل نزلت في أهل الكتاب وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام المجتمعين على الحق حيث يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ومن حقوق الأرحام وموالاة المؤمنين وغير ذلك ، وإنما لم يتعرض - كما قال بعض المحققين - لنفي الخشية والخوف عنهم صريحا لدلالة النقض والقطع على ذلك.
وأما عدم التعرض لنفي الصبر المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققه في ضمن الحسنات المعهودة ليقعن معتدا بهن فلا وجه لنفيه عمن بينه وبين الحسنات بعد المشرقين لا سيما بعد تقييده بكونه ابتغاء وجهه تعالى ، كما لا وجه لنفي الصلاة والإنفاق بناء على أن المراد منه إعطاء الزكاة ممن لا يحوم حول الإيمان باللّه تعالى فضلا عن فروح الشرائع ، وإن أريد بالإنفاق ما يشمل ذلك وغيره فنفيه مندرج تحت قطع ما أمر اللّه تعالى بوصله بل قد يقال باندراج نفي الصلاة أيضا تحت ذلك ، وأما درء السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهر مما سبق ولحق فإن من يجازي إحسانه عزّ وجلّ بنقض عهده سبحانه ومخالفة الأمر ويباشر الفساد حسبما يحكيه قوله عزّ وجلّ : وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالظلم لأنفسهم وغيرهم وتهييج الفتن بمخالفة دعوة الحق وإثارة الحرب على المسلمين كيف يتصور منه الدرء المذكور ، على أنه قيل : إن ذلك يشعر بأن له دخلا في الإفضاء إلى العقوبة التي ينبئ عنها قوله سبحانه :
أُولئِكَ إلخ أي أولئك الموصوفون بتلك القبائح لَهُمُ بسبب ذلك اللَّعْنَةُ أي الإبعاد من رحمة اللّه تعالى وَلَهُمْ مع ذلك سُوءُ الدَّارِ أي سوء عاقبة الدار ، والمراد بها الدنيا وسوء عاقبتها عذاب جهنم أو جهنم نفسها ، ولم يقل : سوء عاقبة الدار تفاديا أن يجعلها عاقبة حيث جعل العاقبة المطلقة هي الجنة ، وجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها ، والأول أوجه لرعاية التقابل ولأن المبادر إلى الفهم من الدار الدنيا بقرينة السابق ولأنها الحاضرة في أذهانهم ولما ذكر من النكتة السرية وذلك لأن ترتيب الحكم على الموصول يشعر بعلية الصلة له ، ولا يخفى أنه لا دخل له في ذلك على أكثر التفاسير فإن مجازاة السيئة بمثلها مأذون فيها ، ودفع الكلام السيء بالحسن وكذا الإعطاء عند المنع والعفو عند الظلم والوصل عند القطع ليس مما يورث تركه تبعة وأما ما اعتبر اندراجه تحت الصلة الثانية من الإخلال ببعض الحقوق المندوبة فلا ضير في ذلك لأن اعتباره من حيث إنه من مستتبعات الإخلال بالعزائم كالكفر ببعض الأنبياء عليهم السلام وعقوق الوالدين وترك سائر الحقوق الواجبة ، وقيد بالأكثر لأنه على الكثير مما ذكرناه في تفسيره المدخلية ظاهرة ، وقيل : إنه سلك في وصف الكفرة وذمهم وذكر ما لهم في مآلهم ما لم يسلك في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 140
وصف المؤمنين ومدحهم وشرح ما أعد لهم وما ينتهي إليه أمرهم فأتى في أحدهما بموصولات متعددة وصلات متنوعة إلى غير ذلك ولم يؤت بنحو ذلك في الآخر تنبيها على مزيد الاعتناء بشأن المؤمنين قولا وفعلا وعدم الاعتناء بشأن أضدادهم فإنهم أنجاس يتمضمض من ذكرهم هذا ، مع الجزم بأن مقتضى الحال هو هذا ، وقيل : إن المسلكين من آثار الرحمة الواسعة فتأمل ، وتكرير لَهُمُ للتأكيد والإيذان باختلافهما واستقلال كل منهما في الثبوت اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ من عباده وَيَقْدِرُ أي يضيق ، وقيل : يعطي بقدر الكفاية ، والمراد بالرزق الدنيوي لا ما يعم الاخروي لأنه على ما قيل غير مناسب للسياق ، وقال صاحب الكشف : إنه شامل للرزقين الحسي والمعنوي الدنيوي والأخروي وذكر في بيان ربط الآية على ذلك ما ذكر ، وهي كما روي عن ابن عباس نزلت في أهل مكة ثم إنها وإن كانت كذلك عامة وكأنها دفع لما يتوهم من أنه كيف يكونون مع ما هم عليه من الضلال في سعة من الرزق فبين سبحانه أن سعة رزقهم ليس تكريما لهم كما أن تضييق رزق بعض المؤمنين ليس لإهانة لهم وإنما كل من الأمرين صادر منه تعالى لحكم إلهية يعلمها سبحانه وربما وسع على الكافر إملاء واستدراجا له وضيق على المؤمن زيادة لأجره.
وتقديم المسند إليه في مثل هذه الآية للتقوى فقط عند السكاكي ، والزمخشري يرى أنه لا مانع من أن يكون للتقوى والتخصيص ولذا قال : أي اللّه وحده يبسط ويقدر دون غيره سبحانه ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «ويقدر» بضم الدال حيث وقع وَفَرِحُوا استئناف ناع قبح أفعالهم ما وسعه عليه.
والضمير قبل لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم واختاره جماعة ، وقال أبو حيان : للذين ينقضون ، وزعم بعضهم أن الجملة معطوفة على صلة الَّذِينَ وفي الآية تقديم وتأخير ومحل هذا بعد يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ولا يخفى بعده للاختلاف عموما وخصوصا واستقبالا ومضيا أي فرحوا فرح أشر وبطر لا فرح سرور بفضل اللّه تعالى. بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي بما بسط فيها من النعيم لأن فرحهم ليس بنفس الدنيا فنسبة الفرح إليها مجازية أو هناك تقدير أي ببسط الحياة أو الحياة الدنيا مجاز عما فيها وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي كائنة في جنب نعيمها. فالجار والمجرور في موضع الحال وليس متعلقا بالحياة ولا بالدنيا كما قال أبو البقاء لأنهما ليسا فيها.
وفِي هذه معناها المقايسة وهي كثيرة في الكلام كما يقال : ذنوب العبد في رحمة اللّه تعالى كقطرة في بحر وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق وهي الظرفية المجازية لأن ما يقاس بشيء يوضع بجنبه ، وإسناد مَتاعٌ في قوله تعالى : إِلَّا مَتاعٌ إلى الحياة الدنيا يحتمل أن يكون مجازيا ويحتمل أن يكون حقيقيا ، والمراد أنها ليست إلا شيئا نزرا يتمتع به كعجالة الراكب وزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو نحو ذلك ، والمعنى أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة والحال أن ما أشروا به في جنب ما أعرضوا عنه نزر النفع سريع النفاد ،
أخرج الترمذي وصححه عن عبد اللّه بن مسعود قال : «نام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا : يا رسول اللّه لو اتخذنا لك فقال : ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» ،
وقيل : معنى الآية
كالخبر «الدنيا مزرعة الآخرة»
يعني كان ينبغي أن يكون ما بسط لهم في الدنيا وسيلة إلى الآخرة كمتاع تاجر يبيعه بما يهمه وينفقه في مقاصده لا أن يفرحوا بها ويعدوها مقاصد بالذات والأول أولى وأنسب.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أهل مكة عبد اللّه بن أبي أمية وأصحابه ، وإيثار هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتهم عقيب ذكر فرحهم بناء على أن ضمير «فرحوا» لهم لذمهم والتسجيل عليهم بالكفر فيما حكى عنهم من قولهم : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فإن ذلك في أقصى مراتب المكابرة والعناد كأن ما أنزل عليه الصلاة والسلام

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 141
من الآيات العظام الباهرة ليست عندهم بآية حتى اقترحوا ما لا تقتضيه الحكمة من الآيات كسقوط السماء عليهم كسفا وسير الأخشبين وجعل البطاح محارث ومفترسا كالأردن وإحياء قصي لهم إلى غير ذلك قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها ، وهو كلام جار مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها صلى اللّه عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها كان ذلك موضعا للتعجب والإنكار ، وكان الظاهر أن يقال في الجواب : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على الكفر ونحوه إلا أنه وضع هذا موضعه للإشارة إلى أن المتعجب منه يقول : إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ إلخ أي إنه تعالى يخلق فيمن يشاء الضلال بصرف اختياره إلى تحصيله ويدعه منهمكا فيه لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد لسوء استعداده كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد وشدة الشكيمة والغلو في الفساد فلا سبيل له إلا الاهتداء ولو جاءته كل آية.
وَيَهْدِي إِلَيْهِ أي إلى جانبه العلي الكبير.
وقال أبو حيان : أي إلى دينه وشرعه سبحانه هداية موصلة إليه لا دلالة مطلقة إلى ما يوصل فإن ذلك غير مختص بالمهتدين وفيه من تشريفهم ما لا يوصف ، وقيل : الضمير للقرآن أو للرسول عليه الصلاة والسلام وهو خلاف الظاهر جدا مَنْ أَنابَ أي أقبل إلى الحق وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة وحقيقة الإنابة الرجوع إلى نوبة الخير ، وإيثارها في الصلة على إيراد المشيئة كما في الصلة الأولى على ما قال مولانا شيخ الإسلام للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة ، وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد ، وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية السابقة كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم ، والآية صريحة في مذهب أهل السنة في نسبة الخير والشر إليه عزّ وجلّ وأولها المعتزلة فقال أبو علي الجبائي : المعنى يضل من يشاء عن ثوابه ورحمته عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه اللّه تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عن الثواب ويهدي إلى جنته من تاب وآمن ، ثم قال : وبهذا تبين أن الهدى هو الثواب من حيث علق بقوله تعالى : مَنْ أَنابَ والهدى الذي يفعله سبحانه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه ، وذلك يدل على أنه تعالى يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا اه ولا يخفى ما فيه.
الَّذِينَ آمَنُوا بدل من مَنْ أَنابَ بدل كل من كل فإن أريد بالهداية الهداية المستمرة فالأمر ظاهر لظهور كون الإيمان مؤديا إليها ، وإن أريد إحداثها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرهم إلى الإيمان كما قالوا في هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة : 21] أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمان لا يؤدي إلى الهداية نفسها ، ويجوز أن يكون عطف بيان على ذلك أو منصوبا على المدح أو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ أي تستقر وتسكن بِذِكْرِ اللَّهِ أي بكلامه المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو المروي عن مقاتل ، وإطلاق الذكر على ذلك شائع في الذكر ، ومنه قوله تعالى : وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ [الأنبياء : 50] وإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر : 9] وسبب اطمئنان قلوبهم بذلك علمهم أن لا آية أعظم ومن ذلك لا يقترحون الآيات التي يقترحها غيرهم ، والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان وتجدده حسب تجدد المنزل من الذكر أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ وحده تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ للّه دون غيره من الأمور التي تمل إليها النفوس من الدنيا ويأت ، وإذا أريد سائر المعجزات فالقصر من حيث إنها ليست في إفادة الطمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدها بمثابة القرآن المجيد فإنه معجزة باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كل أحد وتطمئن به القلوب كافة وفيه إشعار بأن الكفرة لا قلوب لهم وأفئدتهم هواء

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 142
حيث لم يطمئنوا به ولم يعدوه آية وهو أظهر الآيات وأبهرها ، وقيل : في الكلام مضاف مقدر أي لتطمئن قلوبهم بذكر رحمته تعالى ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته تعالى كقوله تعالى : ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر : 23] وهذا مناسب على ما في الكشف للإنابة إليه تعالى ، والمصدر عليه مضاف إلى الفاعل وقيل : المراد بذكر اللّه دلائله سبحانه الدالة على وحدانيته عزّ وجلّ والاطمئنان عن قلق الشك والتردد ، وهذا مناسب لذكر الكفر ووقوعه في مقابلته ، وقيل : المراد بذكره تعالى أنسا به وتبتلا إليه سبحانه فالمراد بالهداية دوامها واستمرارها. وقيل :
وهذا مناسب أيضا حديث الكفر لأن الكفرة إذا ذكر اللّه تعالى وحده اشمأزت قلوبهم ، والمصدر على القولين مضاف إلى المفعول. والوجه الأول أشد ملاءمة للنظم لا سيما لقوله تعالى : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ والمصدر فيه بمعنى المفعول.
ومن الغريب ما نقل في تفسير الخازن أن هذا في الحلف باللّه وذلك أن المؤمن إذا حلف له باللّه تعالى سكن قلبه ، وروي نحو ذلك أبو الشيخ عن السدي فإن الحمل عليه هنا مما لا يناسب المقام ، وأما ما
روي عن أنس من أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه حين نزلت هذه الآية : «هل تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم قال : من أحب اللّه تعالى ورسوله وأحب أصحابي : ومثله ما روي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه من أنه عليه الصلاة والسلام قال حين نزلت :
«ذاك من أحب اللّه تعالى ورسوله وأحب أهل بيتي صادقا غير كاذب وأحب المؤمنين شاهدا غائبا»
فليس المراد منه تفسير المراد بذكر اللّه بل بيان أن الموصوفين بما ذكر
من أحبه اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه وسلم إلخ ،
وهو كذلك إذ لا يكاد يتحقق الانفكاك بين هاتيك الصفات فليتأمل ، ولا تنافي بين هذه الآية على سائر الأوجه وقوله تعالى : إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال : 2 ، الحج : 35] لأن المراد هناك وجلت من هيبته تعالى واستعظامه جلت عظمته. وذكر الأمام في بيان اطمئنان القلب بذكره تعالى وجوها فقال : إن الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لا يتأثر. ومتأثر لا يؤثر وموجود يؤثر ويتأثر فالأول هو اللّه تعالى. والثاني هو الجسم فإنه ليس له خاصية إلى القبول للآثار المتنافية والصفات المختلفة.
والثالث الموجودات الروحانية فإنها توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عليها منها وإذا توجهت إلى أعلام الأجسام اشتاقت إلى التصرف فيها لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام فإذا عرف هذا فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليه والتصرف فيه وإذا توجه إلى مطالعة الحضرة الإلهية وحصلت فيه الأنوار الصمدية فهناك يكون ساكنا مطمئنا ، وأيضا أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى أمر آخر أشرف منه لأنه لا سعادة في عالم الجسم إلا وفوقها مرتبة أخرى أما إذا انتهى إلى الاستسعاد بالمعارف الالهية والأنوار القدسية ثبت واستقر فلم يقدر على الانتقال من البتة لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منه وأكمل ، وأيضا أن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على ممر الدهور صابرا على الذوبان الحاصل بالنار فاكسير نور اللّه تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا باقيا صافيا نورانيا لا يقبل التغير والتبدل ، ولهذه الأوجه قال سبحانه : أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ اه ، والأولى أن يقال : إن سبب الطمأنينة نور يفيضه اللّه تعالى عن قلب المؤمنين بسبب ذكره فيذهب ما فيها من القلق والوحشة ونحو ذلك ، وللمناقشة فيما ذكره مجال وسيؤتي إن شاء اللّه تعالى في باب الإشارة ما يشبه ذلك الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بدل من الْقُلُوبُ أي قلوب الذين آمنوا ، والأظهر أنه بدل الكل لأن القلوب في الأول قلوب المؤمنين المطمئنين وكذلك لو عمم القلب على معنى أن قلوب هؤلاء الأجلاء كل القلوب لأن الكفار أفئدتهم هواء ، وأما الحمل على بدل البعض ليعمم القلب من غير الملاحظة المذكورة واستنباط هذا المعنى من البدل فبعيد ، وأما احتماله

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 143
لبدل الاشتمال وإن استحسنه الطيبي فكلا أو مبتدأ خبره الجملة الدعائية على التأويل أعني قوله سبحانه : طُوبى لَهُمْ أي يقال لهم ذلك ، أو لا حاجة إلى التأويل والجملة خبرية أو خبر مبتدأ مضمر أو نصب على المدح - فطوبى لهم - حال مقدرة والعامل فيها الفعلان.
وقال بعض المدققين : لعل الأشبه وجه آخر وهو أن يتم الكلام عند قوله تعالى : مَنْ أَنابَ ثم قيل : الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ في مقابلة وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ وقوله سبحانه : أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ جملة اعتراضية تفيد كيف لا تطمئن قلوبهم به ولا اطمئنان للقلب بغيره ، وقوله عز وجل : الَّذِينَ آمَنُوا بدل من الأول ، وفيه إشارة إلى أن ذكر اللّه تعالى أفضل الأعمال الصالحة بل هو كلها وطُوبى لَهُمْ خبر الأول فيتم التقابل بين القرينتين وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا والَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ وبين جزئي التذييل : يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ومن الناس من زعم أن الموصول الأول مبتدأ والموصول الثاني خبره وأَلا بِذِكْرِ اللَّهِ اعتراض وطُوبى لَهُمْ دعاء وهو كما ترى ، وطُوبى قيل مصدر من طاب كبشرى وزلفى والواو منقلبة من الياء كموسر وموقن. وقرأ مكوزة الأعرابي «طيبي» ليسلم الياء ، وقال أبو الحسن الهنائي : هي جمع طيبة كما قالوا في كيسة كوسى. وتعقبه أبو حيان بأن فعلى ليست من أبنية الجموع فلعله أراد أنه اسم جمع ، وعلى الأول فلهم في المعنى المراد عبارات. فأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن المعنى فرح وقرة عين لهم ، وعن الضحاك غبطة لهم ، وعن قتادة حسنى لهم. وفي رواية أخرى عنه أصابوا خيرا ، وعن النخعي خير كثير لهم. وفي رواية أخرى عنه كرامة لهم ، وعن سميط بن عجلان دوام الخير لهم ويرجع ذلك إلى معنى العيش الطيب لهم. وفي رواية عن ابن عباس.
وابن جبير أن طُوبى اسم للجنة بالحبشية وقيل بالهندية ، وقال القرطبي : الصحيح أنها علم لشجرة في الجنة ،
فقد أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والبيهقي في البعث والنشور ، وصححه السهيلي وغيره عن عتبة ابن عبد قال : «جاء أعرابي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه أفي الجنة فاكهة؟ قال : نعم فيها شجرة تدعى طوبى هي نطاق الفردوس قال : أي شجر أرضنا تشبه؟ قال : ليس تشبه شيئا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام؟ قال : لا قال :
فإنها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها قال : ما عظم أصلها؟ قال : لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرما قال : فهل فيها عنب؟ قال : نعم. قال : ما عظم العنقود منه؟ قال : مسيرة شهر للغراب الأبقع»
والأخبار المصرحة بأنها شجرة في الجنة منتشرة جدا ، وحينئذ فلا كرم في جواز الابتداء بها وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم : سلام عليك الا أنه ذهب ابن مالك إلى أنه التزم فيها الرفع على الابتداء ، ورد عليه بأن عيسى الثقفي قرأ وَحُسْنُ مَآبٍ بالنصب ، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى وأنها في موضع نصب ، وهي عنده مصدر معمول لقد رأى طاب واللام للبيان كما في سقيا له ، ومنهم من قدر جعل طُوبى لَهُمْ وقال صاحب اللوامح : إن التقدير يا طوبى لهم ويا حسن مآب - فحسن - معطوف على المنادى وهو مضاف للضمير واللام مقحمة كما في قوله : يا بؤس للجهل ضرار الأقوام. ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل. يا طوباهم ويا حسن مآبهم أي ما أطيبهم وأحسن مآبهم كما تقول : يا طيبها ليلة أي ما أطيبها ليلة ولا يخفى ما فيه من التكلف. وأجاب السفاقسي عن ابن مالك بأنه يجوز نصب حُسْنُ بمقدر أي ورزقهم حسن مآب وهو بعيد.
وقرئ «حسن مآب» بفتح النون ورفع «مآب» وخرج ذلك على أن حُسْنُ فعل ماض أصله حسن نقلت ضمة السين إلى الحاء ومثله جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا : حسن ذا أدبا كَذلِكَ أي مثل ذلك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 144
الإرسال العظيم الشأن المصحوب بالمعجزة الباهرة ، ويجوز أن يراد مثل إرسال الرسل قبلك أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ فيكون قد شبه إرساله صلى اللّه عليه وسلم بإرسال من قبله وإن لم يجر لهم ذكر لدلالة قوله تعالى : قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ كثيرة قد أرسل إليهم رسل عليهم وروي هذا عن الحسن ، وقيل : الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله تعالى : قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إلخ أي كما أنفذنا ذلك أرسلناك ونقل نحوه عن الحوفي وقال ابن عطية : الذي يظهر أن المعنى كما أجرينا العادة في الأمم السابقة بأن نضل ونهدي بوحي لا بالآيات المقترحة كذلك أيضا فعلنا في هذه الأمة وأرسلناك إليهم بوحي لا بالآيات المقترحة فنضل من نشاء ونهدي من أناب ، وقال أبو البقاء : التقدير الأمر كذلك ، والحسن ما قدمناه وما روي عن الحسن.
وفِي بمعنى إلى كما في قوله تعالى : فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم : 9] وقيل : هي على ظاهرها ، وفيها إشارة إلى أنه من جملتهم وناشئ بينهم ولا تكون بمعنى إلى إذ لا حاجة لبيان من أرسل إليهم وفيه نظر ظاهر ، وهي متعلقة بالفعل المذكور ، وقول الزمخشري : في تفسير الآية يعني أرسلنا إرسالا له شأن وفضل على الإرسالات ثم فسر كيف أرسله بقوله : فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أي أرسلناك في أمة قد تقدمها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء لم يرد به أنها لا تتعلق بالمذكور بل أراد أن المشار إليه المبهم لما كان ما بعده تفخيما كان بيانه بصلة ذلك الفعل حتى يزول الإبهام ، ويجوز أن يريد ذلك فيقدر أرسلناك ثانيا ويكون قوله : أي أرسلناك في أمة إظهاراللمحذوف أيضا لا بيانا لحاصل الآية وهو الذي آثره العلامة الطيبي ، والتعلق بالمذكور هو الظاهر ، وجملة قَدْ خَلَتْ إلخ في موضع الصفة - لأمة - وفائدة الوصف بذلك قيل :
ما أشار إليه الزمخشري.
واعترض بأنه لا يلزم من تقدم أمم كثيرة قبل أن لا يكون أمة يرسل إليها بعد حتى يلزم أن يكون صلى اللّه عليه وسلم خاتم الأنبياء عليهم السلام ، وبحث فيه الشهاب بأن المراد بكون إرساله عليه الصلاة والسلام عجيبا أن رسالته أعظم من كل رسالة فهي جامعة لكل ما يحتاج إليه فيلزم أن لا نسخ إذ النسخ إنما يكون للتكميل والكامل أتم كمال غير محتاج لتكميل كما قال تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة : 3] اه ولعمري أن الاعتراض قوي والبحث في غاية الضعف إذ لا يلزم من كون إرساله صلى اللّه عليه وسلم عجيبا ما ادعاه ، ولو سلمنا ذلك لا يلزم منه أيضا كونه عليه الصلاة والسلام خاتما إذ بعثه مقرر دينه الكامل كما بعث كثير من أنبياء بني إسرائيل لتقرير دين موسى عليه السلام لا يأبى ما ذكر من جامعية رسالته عليه الصلاة والسلام ولزوم عدم النسخ لذلك كما لا يخفى ، ولعله لهذا اختار بعضهم ما روي عن الحسن وقال : منبها على فائدة الوصف يعني مثل إرسال الرسل قبلك أرسلناك إلى أمم تقدمتها أمم أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليها لِتَتْلُوَا لتقرأ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي الكتاب العظيم الشأن ، ويشعر بهذا الوصف ذكر الموصول غير جار على موصوف ، وإسناد الفعل في صلته إلى ضمير العظمة وكذا الإيصال إلى المخاطب المعظم بدليل سابقه على ما سمعت أولا ، وتقديم المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما في قوله تعالى :
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح : 2] وفيه ما لا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرد وحسن قبولها له عند وروده عليها ، وضمير الجمع للأمة باعتبار معناها كما روعي في ضمير خَلَتْ لفظها.
وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ أي بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسعت كل شيء رحمته فلم يشكروا نعمه سبحانه لا سيما ما أنعم به عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القرآن الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية عليهم بل قابلوا رحمته ونعمه بالكفر ومقتضى العقل عكس ذلك ، وكان الظاهر - بنا - إلا أنه التفت إلى الظاهر وأوثر هذا الاسم الدال على المبالغة في الرحمة للإشارة إلى أن الإرسال ناشئ منها كما قال سبحانه : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 145
لِلْعالَمِينَ
[الأنبياء : 107] وضمير الجمع للأمة أيضا ، والجملة في موضع الحال من فاعل أَرْسَلْناكَ لا من ضمير عَلَيْهِمُ إذ الإرسال ليس للتلاوة عليهم حال كفرهم ، ومنهم من جوز ذلك والتلاوة عليهم حال الكفر ليقفوا على إعجازه فيصدقوا به لعلمهم بأفانين البلاغة ولا ينافي تلاوته عليهم بعد إسلامهم ، وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والضمير حسبما علمت ، وقيل : إنه يعود على الذين قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقيل : يعود على أُمَّةٍ وعلى أُمَمٌ ويكون في الآية تسلية له صلى اللّه عليه وسلم ، وعن قتادة. وابن جريج. ومقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب فيه علي كرم اللّه تعالى وجهه «بسم اللّه الرحمن الرحيم» فقال : سهيل بن عمرو : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة ، وقيل : سمع أبو جهل قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا اللّه يا رحمن فقال إن محمدا ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين فنزلت ،
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه لما قيل لكفار قريش : اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ [الفرقان : 60]؟ فنزلت ، وضعف كل ذلك بأنه غير مناسب لأنه يقتضي أنهم يكفرون بهذا الاسم وإطلاقه عليه سبحانه وتعالى والظاهر أن كفرهم بمسماه قُلْ حين كفروا به سبحانه ولم يوحدوه هُوَ أي الرحمن الذي كفرتم به رَبِّي خالقي ومتولي أمري ومبلغي إلى مراتب الكمال ، وإيراد هذا قبل قوله تعالى : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا مستحق للعبادة سواه تنبيه على أن استحقاق العبادة منوط بالربوبية ، والجملة داخلة في حيز القول وهي خبر بعد خبر عند بعض ، وقال بعض آخر : إنه تعالى بعد أن نعى على الكفرة حالهم وعكسهم مقتضى العقل أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن ينبههم على خاصة نفسه ووظيفته من الشكر ومآل أمره تأنيبا لهم فقال : قل هو ربي الذي أرسلني إليكم وأيدني بما أيدني ولا رب لي سواه عَلَيْهِ لا على أحد سواه تَوَكَّلْتُ في جميع أموري لا سيما في النصرة عليكم وَإِلَيْهِ خاصة مَتابِ أي مرجعي فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم ، وقوله سبحانه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض أكد به اختصاص التوكل عليه سبحانه وتفويض الأمور عاجلا وآجلا إليه ، ومثله قوله تعالى : اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام : 106] اه وإلى القول بالاعتراض ذهب صاحب الكشف وحمل على ذلك كلام الكشاف حيث ذكر بعد هُوَ رَبِّي الواحد المتعالي عن الشركاء فقال : جعله فائدة الاعتراض بلا إله إلا هو أي هذا البليغ الرحمة ولا إله إلا هو فهو بليغ الانتقام كما هو بليغ الرحمة يرحمني وينتقم لي منكم ، وهو تمهيد أيضا لقوله : عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ولم يجعل خبرا بعد خبر إذ ليس المقصود الإخبار بأنه تعالى متوحد بالإلهية بل المقصود أن المتوحد بها ربي وذلك يفيده الاعتراض وأما أن المفهوم من كلامه
أنه حال ولذلك أجرى مجرى الوصف فكلا إلا أن يجعل حالا مؤكدة ولا يغاير الاعتراض إذا كثير مغايرة لكن الأول أملأ بالفائدة اه ولا يخفى ما في توجيه كلام الكشاف بذلك من الخفاء ، وفي كون المقصود أن المتوحد بالإلهية ربي دون الإخبار بأنه تعالى متوحد بها على ما قيل تأمل. ولعل مبناه أن ما أثبته أوفق بالغرض الذي يشير كلامه إلى اعتباره مساقا للآية ، وفيه من المبالغة في وصفه تعالى بالتوحد ما لا يخفى.
نعم قيل للقول بالاعتراض وجه وأنه حينئذ لا يبعد أن يقال : إنه تعالى بعد أن ذكر إرساله صلى اللّه عليه وسلم إليهم وأن حالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة ولا يقابلون رحمته بالشكر فيأمنوا به ويوحدوه أمره بالإخبار بتخصيص توكله واعتماده على ذلك البليغ الرحمة ورجوعه في سائر أموره إليه إيماء إلى أن إصرارهم على الكفر لا يضره شيئا وأن له عليه الصلاة والسلام عاقبة محمودة وأنه سبحانه سينصره عليهم ، وفي ذلك من تسفيه رأيهم في الإصرار على الكفر واستنهاضهم إلى اتباعه ما فيه إلا أنه عز شأنه أمره أولا أن يقول : هُوَ رَبِّي توطئة لذلك وجيء بلا إله إلا هو اعتراضا للتأكيد ، والذي يميل إليه الطبع بعد التأمل وملاحظة الأسلوب القول بالاعتراض ، ثم لا يخفى أن حمل وَإِلَيْهِ مَتابِ على إليه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 146
رجوعي في سائر أموري خلاف الظاهر وأنه على ذلك يكون كالتأكيد لما قبله ، وقال شيخ الإسلام في تفسيره : أي إليه توبتي كقوله تعالى : وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر : 55 ، محمد : 19] أمر عليه الصلاة والسلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند اللّه تعالى وأنها صفة الأنبياء وبعثا للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطفه ، فإنه عليه الصلاة والسلام حيث أمر بها وهو منزه عن شائبة اقتراف ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لا بد منه أصلا اه ، وفيه أن هذا إنما يصلح باعثا للإقلاع عن الذنب على أبلغ وجه وألطفه لو كان الكلام مع غير الكفرة الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ولعل ذلك ظاهر عند المنصف ، وقال العلامة البيضاوي ، في ذلك : أي إليه مرجعي ومرجعكم وكأنه أراد أيضا فيرحمني وينتقم منكم ، والانتقام من الرحمن أشد كما قيل : أعوذ باللّه تعالى من غضب الحليم.
وتعقب بأنه إنما يتم لو كان المضاف إليه المحذوف ضمير المتكلم ومعه غيره أي متابنا إذ يكون حينئذ مرجعي ومرجعكم تفصيلا لذلك ولا يكاد يقول به أحد مع قوله بكسر الباء فإنه يقتضي أن يكون المحذوف الياء على أن ذلك الضمير لا يناسب ما قبله ، ولعل العلامة اعتبر أن في الآية اكتفاء على ما قيل : أي متابي ومتابكم أو أن الكلام دال عليه التزاما وهذا أولى على ما قيل فتأمل وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً أي قرآنا ما ، والمراد به المعنى اللغوي ، وهو اسم أن والخبر قوله تعالى شأنه : سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وجواب لَوْ محذوف لا نسياق الكلام إليه كما في قوله :
فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
والمقصود إما بيان عظم شأن القرآن العظيم وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدره ولم يعدوه من قبيل الآيات واقترحوا غيره وإما بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلالة والفساد ، والمعنى على الأول لو أن كتابا سيرت بإنزاله أو بتلاوته الجبال وزعزعت عن مقارها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه السلام أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما فعل بالحجر حين ضربه موسى عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعا متصدعة أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى أي كلم أحد به الموتى بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم بعد ، وذلك كما وقع الاحياء لعيسى عليه السلام لكان ذلك هذا القرآن لكونه الغاية القصوى في الانطواء على عجائب آثار قدرة اللّه تعالى وهيبته عز وجل كقوله تعالى : لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر : 21] قاله بعض المحققين ، وقيل : في التعليل لكونه الغاية في الإعجاز والنهاية في التذكير والإنذار.
وتعقب بأنه لا مدخل للإعجاز في هذه الآثار والتذكير والإنذار مختصان بالعقلاء مع أنه لا علاقة لذلك بتكليم الموتى واعتبار فيض العقول إليها مخل بالمبالغة المقصودة ، وبحث فيه بأن ما ذكر أولا من مزيد الانطواء على عجائب آثار قدرة اللّه تعالى أمر يرجع إلى الهيبة وهي أيضا مما لا يترتب عليها تكليم الموتى بل لعلها مانعة من ذلك لأنها حيث اقتضت تزعزع الجبال وتقطع الأرض فلأن تقتضي موت الأحياء دون إحياء الأموات الذي يكون التكليم بعده من باب أولى وفيه نظر ، والباء في المواضع الثلاثة للسببية وجوز في الثالث منها أن تكون صلة ما عندها ، وتقديم المجرور فيها على المرفوع لقصد الإبهام ، ثم التفسير لزيادة التقرير على ما مر غير مرة.
وأَوْ في الموضعين لمنع الخلو لا الجمع ، والتذكير في كُلِّمَ لتغليب المذكر من الموتى على غيره ، واقتراحهم وإن كان متعلقا بمجرد ظهور مثل هذه الأفاعيل العجيبة على يده صلى اللّه عليه وسلم لا بظهورها بواسطة القرآن لكن ذلك حيث كان مبنيا على عدم اشتماله في زعمهم على الخوارق نيط ظهورها به مبالغة في شأن اشتماله عليها وأنه حقيق بأن يكون مصدرا لكل خارق وإبانة لركاكة رأيهم في شأنه الرفيع كأنه قيل : لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه من مقتضيات

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 147
الحكمة لكان مظهرها هذا القرآن الذي لم يعدوه آية ، وفيه من تفخيم شأنه العزيز ووصفهم بركاكة العقل ما لا يخفى كذا حققه بعض الأجلة وهو من الحسن بمكان ، وعلى الثاني لو أن قرآنا فعلت به هذه الأفاعيل العجيبة لما آمنوا به كقوله تعالى : وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى [الأنعام : 111] الآية ، والكلام على ما استظهره الشهاب على التقديرين حقيقة على سبيل الفرض كقوله :
ولو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر
وجعله على الأول تمثيلا كالآية المذكورة هناك على ما قال لا وجه له ، وتمثيل الزمخشري بها لبيان أن القرآن يقتضي غاية الخشية ، وصنيع كثير من المحققين ظاهر في ترجيح التقدير الأول ، وفي الكشف لو تأملت في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجدت بناء الكلام فيها على حقية الكتاب المجيد واشتماله على ما فيه صلاح الدارين وإن السعيد كل السعيد من تمسك بحبله والشقي كل الشقي من أعرض عنه إلى هواه حيث قال تعالى أولا : وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد : 1] ثم تعجب من إنكارهم ذلك بقوله سبحانه : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ثم قال تعالى : لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرعد : 14] فأثبت حقيته بالحجة ، ثم قال جل وعلا : أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً [الرعد : 17] وهو مثل للحق الذي هو القرآن ومن انتفع به على ما فسره المحققون ، ثم صرح تعالى بنتيجة ذلك كله بالبرهان النير في قوله سبحانه : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الرعد : 19] ثم أعاد جل شأنه قوله : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا دلالة على إنكارهم أول ما أتاهم وبعد رصانة علمهم بحقيته فهم متمادون في الإنكار ، ثم كر إلى بيان الحقية فيما نحن فيه وبالغ المبالغة التي ليس بعدها سواء جعل داخلا في حيز القول أو جعل ابتداء كلام منه تعالى تذييلا وهو الأبلغ ليكون مقصودا بذاته في الإفادة المذكورة مؤكدا لمجموع ما دل عليه قوله تعالى : وكَذلِكَ أَرْسَلْناكَ من تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه وشدة إنكارهم وتصميمهم لا علاوة في أن لم يبق إلا التوكل والصبر على مجاهدتكم إذ لا وراء هذا القرآن حتى أجيء به لتسلموا ثم فخمه ونعى عليهم مكابرتهم بقوله تعالى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وأيد حقية الكتاب فيمن أنزل عليه في خاتمة السورة بقوله جل وعلا : كَفى بِاللَّهِ إلى قوله سبحانه : عِلْمُ الْكِتابِ تنبيها على أنه مع ظهور أمره في إفادة الحقائق العرفانية والخلائق الإيمانية لا يعلم حقيقة ما فيه إلا من تفرد به وبإنزاله تبارك وتعالى اه.
وفي سبب النزول وستعلمه قريبا إن شاء اللّه تعالى مما يؤيد الثاني ، والظاهر على حققه وأشرنا إليه أولا أن الآية على الأول متعلقة بقوله تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ وهي على الثاني متعلقة بقوله سبحانه وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ بيانا لتصميمهم في كفرهم وإنكارهم الآيات ومن أتى بها لا بذلك لبعد المرمى من غير ضرورة ، وقوله تعالى : بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي له الأمر الذي يدور عليه فلك الأكوان وجودا وعدما يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد حسبما تقتضيه الحكم البالغة ، قيل : إضراب عما تقتضيه الشرطية من معنى النفي لا بحسب منطوقه بل باعتبار موجبه ومؤداه أي لو أن قرآنا فعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآن ولكن لم يفعل سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده ، فالإضراب ليس بمتوجه إلى كون الأمر للّه تعالى بل إلى ما يؤدي إليه ذلك من كون الشأن على ما كان لما تقتضيه الحكمة ، وقيل : إن حاصل الإضراب لا يكون تسيير الجبال مع ما ذكر بقرآن بل يكون بغيره مما أراده اللّه تعالى فإن الأمر له سبحانه جميعا ، وزعم بعضهم أن الأحسن العطف على مقدر أي ليس لك من الأمر شيء بل الأمر للّه جميعا ، ومعنى قوله سبحانه : أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أفلم يعلموا وهي - كما قال القاسم بن معن لغة هوازن ، وقال ابن الكلبي : هي لغة حي من النخع ، وأنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 148
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
وقول رباح بن عدي :
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
فإنكار الفراء ذلك وزعمه أنه لم يسمع أحد من العرب يقول يئست بمعنى علمت ليس في محله ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، والظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقة ، وقيل : مجاز لأنه متضمن للعلم فإن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ، واعترض بأن اليأس حينئذ يقتضي حصول العلم بالعدم وهو مستعمل في العلم بالوجود ، وأجيب بأنه لما تضمن العلم بالعدم تضمن مطلق العلم فاستعمل فيه ، ويشهد لإرادة العلم هنا قراءة علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وابن عباس. وعلي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهم. وعكرمة. وابن أبي مليكة. والجحدري. وأبي يزيد المدني. وجماعة «أفلم يتبين» من تبينت كذا إذا علمته وهي قراءة مسندة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة «1»
وأما قول من قال : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس فسوى أسنان السين فهو قول زنديق ابن ملحد على ما في البحر ، وعليه فرواية ذلك كما في الدر المنثور عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما غير صحيحة ، وزعم بعضهم أنها قراءة تفسير وليس بذاك ، والفاء للعطف على مقدر أي أغفلوا عن كون الأمر جميعه للّه تعالى فلم يعلموا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ بتخفيف أن وجعل اسمها ضمير الشأن والجملة الامتناعية خبرها وأن وما بعدها ساد مسد مفعولي العلم لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أي بإظهار أمثال تلك الآثار العظيمة ، والإنكار على هذا متوجه إلى المعطوفين جميعا أو أعلموا كون الأمر جميعا للّه تعالى فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلم مما ذكر.
وحينئذ هو متوجه إلى ترتب المعطوف على المعطوف عليه أي تخلف العلم الثاني عن العلم الأول ، وأيّا ما كان فالإنكار إنكار الوقوع لا الواقع ومناط الإنكار ليس عدم علمهم بمضمون الشرطية فقط بل عدم علمهم بعدم تحقق مقدمها كأنه قيل : ألم يعلموا أن اللّه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم وأنه سبحانه لم يشأ ذلك ، وذلك لما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الكفار لما سألوا الآيات ود المؤمنون أن يظهرها اللّه تعالى ليجتمعوا على الإيمان هذا على التقدير الأول ، وأما على التقدير الثاني فالإضراب متوجه إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح ، والمعنى فليس لهم ذلك بل للّه تعالى الأمر إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء سبحانه لم يأت به حسبما تستدعيه حكمته الباهرة من غير أن يكون لأحد عليه جل جلاله حكم أو اقتراح ، واليأس بمعنى القنوط كما هو الشائع في معناه أي ألم يعلم الذين آمنوا حالهم هذه فلم يقنطوا من إيمانهم حتى ودوا ظهور مقترحاتهم فالإنكار متوجه إلى المعطوفين أو أعلموا ذلك فلم يقنطوا من إيمانهم فهو متوجه إلى وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه أي إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور ، والإنكار على هذين التقديرين إنكار الواقع لا الوقوع فإن عدم قنوطهم من ذلك مما لا مرد له ، وقوله تعالى : أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ إلى آخره مفعول به لعلما محذوف وقع مفعولا له أي أفلم ييأسوا من إيمان الكفار علما منهم بأنه لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعا وأنه لم يشأ ذلك ، وقد يجعل العلم في موضع الحال أي عالمين بذلك ، ولم يعتبر التضمين لبعده ، ويجوز أن يكون متعلقا - بآمنوا - بتقدير الباء أي أفلم يقنط الذين آمنوا وصدقوا بأن لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعا على معنى أفلم ييأس من إيمان هؤلاء الكفرة المؤمنون بمضمون هذه الشرطية وبعدم تحققها المنفهم من مكابرتهم حسبما يحكيه كلمة لَوْ فالوصف المذكور من دواعي إنكار يأسهم ، وبما أشرنا إليه ينحل ما قيل : من أن تعلق الإيمان بمضمون الشرطية
___________
(1) قيل : إن رسم ييأس ولا تيأسوا بألف ورسم غيرهما من نظائرهما بدونهما فليراجع اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 149
وتخصيصه بالذكر يقتضي أن لذلك دخلا في اليأس من الإيمان مع أن الأمر بالعكس لأن قدرة اللّه تعالى على هداية جميع الناس يقتضي رجاء إيمانهم لا اليأس منه وذلك لاعتبار العلم بعدم تحقق المضمون أيضا.
وقال بعضهم في الجواب عن ذلك : إن وجه تخصيص الإيمان بذلك أن إيمان هؤلاء الكفرة المصممين كأنه محال متعلق بما لا يكون لتوقفه على مشيئة اللّه تعالى هداية جميع الناس وذلك ما لا يكون بالاتفاق وهو في معنى ما أشير إليه ، وذكر أبو حيان احتمالا آخر في الآية وهو أن الكلام قد تم عند قوله سبحانه : أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا وهو تقرير أي قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين أَنْ لَوْ يَشاءُ إلخ جواب قسم محذوف أي أقسم لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعا ، ويدل على إضمار القسم وجود أن مع لو كقوله :
أما واللّه ان لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيق
وقوله :
فأقسم أن لو التقينا وأنتم لكان لنا يوم من الشر مظلم
وقد ذكر سيبويه أن أن تأتي بعد القسم ، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها انتهى ، وفيه من التكلف ما لا يخفى ، ومن الناس من جعل الإضراب مطلقا عما تضمنه لَوْ من معنى النفي على معنى بل اللّه تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوا إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك لعلمه سبحانه بأنه لا تلين له شكيمتهم ، ولا يخفى أنه ظاهر على التقدير الثاني. وأما على التقدير الأول فقد قيل : إن إرادة تعظيم شأن القرآن لا تنافي الرد على المقترحين ، وأيد جانب الرد بما
أخرجه ابن أبي شيبة. وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : قالت قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن كنت نبيا كما تزعم فباعد جبلي مكة أخشبيها هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة فإنها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى وابعث لنا أباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي أو احملنا إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا : سير بالقرآن الجبال ، قطع بالقرآن الأرض ، أخرج به موتانا فنزلت ،
وعلى هذا لا حاجة إلى الاعتذار في إسناد الأفاعيل المذكورة إلى القرآن كما احتيج إليه فيما تقدم ، وعلى خبر الشعبي يراد من تقطيع الأرض قطعها بالسير ، ويشهد للتفسير بما قدمنا أولا ما
أخرجه أبو نعيم في الدلائل. وغيره من حديث الزبير بن العوام أنه لما نزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين» صاح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أبي قبيس يا آل عبد مناف إني نذير فجاءته عليه الصلاة والسلام قريش فحذرهم وأنذرهم فقالوا ، تزعم أنك نبي يوحى إليك وأن سليمان سخر له الريح والجبال وأن موسى سخر له البحر وأن عيسى كان يحيي الموتى فادع اللّه تعالى أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا فنتخذ محارث فنزرع ونأكل وإلا فادع اللّه تعالى أن يحيي لنا موتانا نكلمهم ويكلمونا وإلا فادع اللّه تعالى أن يجعل هذه الصخرة التي تحتك ذهبا فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فإنك تزعم أنك كهيئتهم.
الخبر ،
وفيه فنزلت وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء : 59] إلى تمام ثلاث آيات ، ونزلت وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً الآية هذا.
وعن الفراء أن جواب لَوْ مقدم وهو قوله تعالى : وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وما بينهما اعتراض وهو مبني - كما قيل - على جواز تقديم جواب الشرط عليه ، ومن النحويين من يراه ، ولا يخفى أن في اللفظ نبوة عن ذلك لكون تلك الجملة اسمية مقترنة بالواو ، ولذا أشار السمين إلى أن مراده أن تلك الجملة دليل الجواب والتقدير ولو أن قرآنا فعل

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 150
به كذا وكذا لكفروا بالرحمن ، وأنت تعلم أنه لا فرق بين هذا وتقدير لما آمنوا في المعنى ، وجوز جعل لَوْ وصلية ولا جواب لها والجملة حالية أو معطوفة على مقدر.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة على ما روي عن مقاتل تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه ، وإبهامه إما لقصد تهويله أن استهجانه ، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة له مع ما في صيغة الصنع من الإيذان برسوخهم في ذلك قارِعَةٌ من القرع وأصله ضرب شيء بشيء بقوة ، ومنه قوله :
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
والمراد بها الرزية التي تقرع قلب صاحبها ، وهي هنا ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب ، وتقديم المجرور على الفاعل لما مر غير مرة من إرادة التفسير إثر الإبهام لزيادة التقرير والأحكام مع ما فيه من بيان أن مدار الإصابة من جهتهم أثر ذي أثير أَوْ تَحُلُّ تلك القارعة قَرِيباً مكانا قريبا مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها ، شبه القارعة بالعدو المتوجه إليهم فاسند إليها الإصابة تارة والحلول أخرى ففيه استعارة بالكناية وتخييل وترشيخ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ أي موتهم أو القيامة فإن كلا منهما وعد محتوم لا مرد له ، وفيه دلالة على أن ما يصيبهم حينئذ من العذاب أشد ، ثم حقق ذلك بقوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي الوعد كالميلاد والميثاق بمعنى الولادة والتوثقة ، ولعل المراد به ما يندرج تحته الوعد الذي نسب إليه الإتيان لا هو فقط ، قال القاضي : وهذه الآية تدل على بطلان من يجوز الخلف على اللّه تعالى في ميعاده وهي وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق ، وأجاب الإمام بأن الخلف غير وتخصيص العموم غير ، ونحن لا نقول بالخلف ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو ، وأنت تعلم أن المشهور في الجواب أن آيات الوعد مطلقة وآيات الوعيد وإن وردت مطلقة لكنها مقيدة حذف قيدها لمزيد التخويف ومنشأ الأمرين عظم الرحمة ونهاية الكرم ، والفرق بين الوعد والوعيد أظهر من أن يذكر. نعم قد يطلق الوعد على ما هو وعيد في نفس الأمر لنكتة وليتأمل فيما هنا على الوجه الذي تقرر.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد بالقارعة السرايا التي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبعثها كانوا بين غارة واختطاف وتخويف بالهجوم عليهم في دارهم. فالإصابة والحلول حينئذ من أحوالهم ، وجوز على هذا أن يكون قوله تعالى : أَوْ تَحُلُّ خطابا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرادا به حلول الحديبية ، والمراد بوعد اللّه تعالى ما وعد به من فتح مكة.
وعزا ذلك الطبري إلى ابن عباس. ومجاهد وقتادة. وروي عن مقاتل. وعكرمة. وذهب ابن عطية إلى أن المراد - بالذين كفروا - كفار قريش. والعرب ، وفسر القارعة بما ينزل بهم من سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وعن الحسن. وابن السائب أن المراد بهم الكفار مطلقا قالا : وذلك الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة ، ولا يتأتى على هذا أن يراد بالقارعة سرايا رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فيراد بها حينئذ ما ذكر أولا ، وأنت تعلم أنه إذا أريد جنس الكفرة لا يلزم منه حلول ما تقدم بجميعهم. وقرأ مجاهد وابن جبير «أو يحل» بالياء على الغيبة ، وخرج ذلك على أن يكون الضمير عائدا على القارعة باعتبار أنها بمعنى البلاء أو بجعل هائها للمبالغة أو على أن يكون عائدا على الرسول عليه الصلاة والسلام. وقرآ أيضا «من ديارهم» على الجمع.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي تركتهم ملاوة أي من الزمان ومنه الملوان في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 151
أمن ودعة كما يملى للبهيمة في المرعى ، وهذا تسلية للحبيب صلى اللّه عليه وسلم عما لقي من المشركين من الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام وتكذيبه وعدم الاعتداد بآياته واقتراح غيرها وكل ذلك في المعنى استهزاء ووعيد لهم ، والمعنى أن ذلك ليس مختصا بك بل هو أمر مطرد قد فعل برسل جليلة كثيرة كائنة من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم ، والعدول في الصلة إلى وصف الكفر ليس لأن المملى لهم غير المستهزئين بل للإشارة إلى أن ذلك الاستهزاء كفر كما قيل. وفي الإرشاد لإرادة الجمع بين الوصفين أي فأمليت للذين كفروا بكفرهم مع استهزائهم لا باستهزائهم فقط ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي إياهم ، والمراد التعجيب مما حل بهم وفيه من الدلالة على شدته وفظاعته ما لا يخفى.
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ أي رقيب ومهيمن عَلى كُلِّ نَفْسٍ كائنة ما كانت بِما كَسَبَتْ فعلت من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا يفوته ما يستحقه كل من الجزاء وهو اللّه تعالى شأنه ، وما حكاه القرطبي عن الضحاك من أن المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم فمما لا يكاد يعرج عليه هنا ، ومن مبتدأ والخبر محذوف أي كمن ليس كذلك ، ونظيره قوله تعالى : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر : 22] وحسن حذفه المقابلة ، وقد جاء مثبتا كثيرا كقوله تعالى : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل : 17] وقوله سبحانه : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الرعد : 19] إلى غير ذلك ، والهمزة للاستفهام الإنكاري ، وإدخال الفاء قيل : لتوجيه الإنكار إلى توهم المماثلة غب ما علم مما فعل سبحانه بالمستهزئين من الإملاء والأخذ ومن كون الأمر كله له سبحانه وكون هداية الناس جميعا منوطة بمشيئته جل وعلا ومن تواتر القوارع على الكفرة حتى يأتي وعده تعالى كأنه قيل : الأمر كذلك فمن هذا شأنه كما ليس في عداد الأشياء حتى يشركوه به فالإنكار متوجه إلى ترتب المعطوف أعني توهم المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعني كون الأمر كما ذكر «1»
لا إلى المعطوفين جميعا «2»
وفي الكشف أنه ضمن هذا التعقيب الترقي في الإنكار يعني لا عجب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها إنما العجب كل العجب جعلهم القادر على إنزالها المجازي لهم على اعراضهم عن تدبر معانيها وأمثالها بقوارع تترى واحدة غب أخرى يشاهدونها رأي عين تترامى بهم إلى دار البوار وأهوالها كمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عمن اتخذه ربا يرجو منه دفعا أو جلبا. وزعم بعضهم أن الفاء للتعقيب الذكرى أي بعد ما ذكر أقول هذا الأمر وليس بذاك وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ جملة مستأنفة وفيها دلالة على الخبر المحذوف ، وجوز أن تكون معطوفة على كَسَبَتْ على تقدير أن تكون بِما مصدرية لا موصولة والعائد محذوف ، ولا يلزم اجتماع الأمرين حتى يخص كل نفس بالمشركين ، وأبعد من قال : إنها عطف على اسْتُهْزِئَ وجوز أن تكون حالية على معنى أفمن هذه صفاته كمن ليس كذلك؟ وقد جعلوا له شركاء لا شريكا واحدا ، وقال صاحب حل العقد : المعنى على الحالية أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود والحال أنهم جعلوا له شركاء ، وهذا نظير قولك : أجواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي. ومنهم من أجاز العطف على جملة أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ كمن ليس كذلك لأن الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي فهي خبرية معنى ، وقدر آخرون الخبر - لم يوحدوه - وجعل العطف عليه أي أفمن هذا شأنه لم يوحدوه وجعلوا له شركاء وظاهر كلامهم اختصاص العطف على الخبر بهذا التقدير دون تقدير كمن ليس كذلك ، قال البدر الدماميني : ولم يظهر وجه الاختصاص ، ووجه ذلك الفاضل الشمني بأن حصول المناسبة بين
___________
(1) كما في قولك أتعلم الحق فلا تعمل به اه منه.
(2) كما في قولك ألا تعلم الحق فلا تعمل به اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 152
المعطوف والمعطوف عليه التي هي شرط قبول العطف بالواو إنما هو على التقدير الأخير دون التقدير الأول.
ويدل على الاشتراط قول أهل المعاني : زيد يكتب ويشعر مقبول دون يعطي ويشعر. وتعقبه الشهاب بأنه من قلة التدبر فإن مرادهم أنه على التقدير الأول يكون الاستفهام إنكاريا بمعنى لم يكن نفيا للتشابه على طريق الإنكار فلو عطف جعلهم شركاء عليه يقتضي أنه لم يكن وليس بصحيح ، وعلى التقدير الأخير الاستفهام توبيخي والإنكار فيه بمعنى لم كان وعدم التوحيد وجعل الشركاء واقع موبخ عليه منكر فيظهر العطف على الخبر ، وأما ما ذكر من حديث التناسب فغفلة لأن المناسبة بين تشبيه اللّه سبحانه بغيره والشرك تامة وعلى الوجه الأخير عدم التوحيد عين الإشراك فليس محلا للعطف عند أهل المعاني على ما ذكره فهو محتاج إلى توجيه آخر.
واختار بعض المحققين التقدير الأول ، وفي ذلك الحذف تعظيم للقالة وتحقير لمن زن بتلك الحالة ، وفي العدول عن صريح الاسم في أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ تفخيم فخيم بواسطة الإبهام المضمر في إيراده موصولا مع تحقيق أن القيام كائن وهم محققون ، وفي وضع الاسم الجليل موضع المضمر الراجع إلى من تنصيص على وحدانيته تعالى ذاتا واسما وتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادة مع ما فيه من البيان بعد الإبهام ، ولعل توجيه الوضع المذكور مما لا يختص به تقدير دون تقدير وخصه بعضهم فيما يحتاج عليه إلى ضمير قُلْ سَمُّوهُمْ تبكيت إثر تبكيت أي سموهم من هم وماذا أسماؤهم؟ وفي البحر أن المعنى أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى إنما يذكر ويسمى من ينفع ويضر ، وهذا مثل أن يذكر لك أن شخصا يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره : سمه حتى أبين لك زيفه وأنه بمعزل عن استحقاق ذلك ، وقريب منه ما قيل : إن ذلك إنما يقال في الشيء المستحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم فيقال سمه على معنى أنه أخس من أن يذكر ويسمى ولكن إن شئت أن تضع له اسما فافعل فكأنه قيل : سموهم بالآلهة على التهديد ، والمعنى سواء سميتوهم بذلك أم لم تسموهم به فإنهم في الحقارة بحيث لا يستحقون أن يلتفت إليهم عاقل ، وقيل : إن التهديد هنا نظير التهديد لمن نهي عن شرب الخمر ثم قيل له : سم الخمر بعد هذا وهو خلاف الظاهر ، وقيل : المعنى اذكروا صفاتهم وانظروا هل فيها ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة أَمْ تُنَبِّئُونَهُ أي بل أتخبرون اللّه تعالى بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أي بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم سبحانه وتعالى ، والمراد نفيها بنفي لازمها على طريق الكناية لأنه سبحانه إذا كان لا يعلمها وهو الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فهي لا حقيقة لها أصلا ، وتخصيص الأرض بالذكر لأن المشركين إنما زعموا أنه
سبحانه له شركاء فيها ، والضمير المستقر في يَعْلَمُ على هذا التفسير للّه تعالى والعائد على ما محذوف كما أشرنا إلى ذلك.
وجوز أن يكون العائد ضمير «يعلم» والمعنى أتنبئون اللّه تعالى بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة ، وذكر نفي العلم في الأرض لأن الأرض مقر الأصنام فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه فانتفاؤه في السموات العلى أحرى ، وقرأ الحسن «أتنبئونه» بالتخفيف من الأنباء أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير معنى متحقق في نفس الأمر كتسمية الزنجي كافورا كقوله تعالى : ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [التوبة : 30] وروي عن الضحاك. وقتادة أن الظاهر من القول الباطل منه ، وأنشدوا من ذلك قوله :
أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
ويطلق الظاهر على الزائل كما في قوله :
وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 153
ومن أراد ذلك هنا فقد تكلف ، وعن الجبائي أن المراد من - ظاهر من القول - ظاهر كتاب أنزله اللّه تعالى وسمى به الأصنام آلهة حقة ، وحاصل الآية نفي الدليل العقلي والدليل السمعي على حقية عبادتها واتخاذها آلهة ، وجوز أن تكون أَمْ متصلة والانقطاع هو الظاهر ، ولا يخفى ما في الآية من الاحتجاج والأساليب العجيبة ما ينادي بلسان طلق ذلق أنه ليس من كلام البشر كما نص على ذلك الزمخشري ، وبين ذلك صاحب الكشف بأنه لما كان قوله تعالى : أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ كافيا في هدم قاعدة الإشراك للتفرع السابق والتحقق بالوصف اللاحق مع ما ضمن من زيادات النكت وكان إبطالا من طرف الحق وذيل باطاله من طرف النقيض على معنى وليتهم إذا أشركوا بمن لا يجوز أن يشرك به أشركوا من يتوهم فيه أدنى توهم وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء فضلا عن المسمى على الكناية الإيمائية ثم بولغ فيه بأنه لا يستأهل السؤال عن حالها بظهور فسادها وسلك فيه مسلك الكناية التلويحية من نفي العلم بنفي المعلوم ثم منه بعدم الاستئهال ، والهمزة المضمنة فيها تدل على التوبيخ وتقرير أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السر والخفيات بما لا يعلمه وهذا محال على محال ، وفي جعله اتخاذهم شركاء ومجادلتهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نكتة سرية بل نكت سرية ثم أضرب عن ذلك ، وقيل : قد بين الشمس لذي عينين وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول من غير أن يكون تحته طائل وما هو إلا مجرد صوت فارغ حق لمن تأمل فيه حق التأمل أن يعترف بأنه كلام مصون عن التعمل ، صادر عن خالق القوى والقدر ، تتضاءل عن بلوغ طرف من أسراره إفهام البشر.
وقد ذيل الزمخشري كلامه بقوله فتبارك اللّه أحسن الخالقين ، وهي كما في الانتصاف كلمة حق أريد بها باطل يدندن بها من هو عن حلية الإنصاف عاطل هذا بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إضراب عن الاحتجاج عليهم ، ووضع الموصول موضع المضمر ذما لهم وتسجيلا عليهم بالكفر كأنه قيل دع هذا فإنه لا فائدة فيه لأنهم زين لهم مَكْرُهُمْ كيدهم للاستلام بشركهم أو تمويههم الأباطيل فتكلفوا إيقاعها في الخيال من غير حقيقة ثم بعد ذلك ظنوها شيئا لتماديهم في الضلال ، وعلى هذا المراد مكرهم بأنفسهم وعلى الأول مكرهم بغيرهم ، وإضافة - مكر - إلى ضميرهم من إضافة المصدر إلى الفاعل ، وجوز على الثاني أن يكون مضافا إلى المفعول وفيه بعد.
وقرأ مجاهد «بل زيّن» على البناء للفاعل و«مكرهم» بالنصب وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الحق فتعريفه للعهد أو ما عداه كأنه غير سبيل ، وفاعل الصد إما مكرهم ونحوه أو اللّه تعالى بختمه على قلوبهم أو الشيطان بإغوائه لهم ، والاحتمالان الأخيران جاريان في فاعل التزيين ، وقرأ ابن كثير. ونافع. وأبو عمرو. وابن عامر «وصدّوا» على البناء للفاعل وهو كالأول من صده صدا فالمفعول محذوف أي صدوا الناس عن الإيمان ، ويجوز أن يكون من صد صدودا فلا مفعول. وقرأ ابن وثاب «وصدّوا» بكسر الصاد ، وقال بعضهم : إنه قرأ كذلك في المؤمن والكسر هنا لابن يعمر ، والفعل على ذلك مجهول نقلت فيه حركة العين إلى الفاء إجراء له مجرى الأجوف. وقرأ ابن أبي إسحق «وصد» بالتنوين عطفا على مكرهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي يخلق فيه الضلال لسوء استعداده فَما لَهُ مِنْ هادٍ يوفقه للهدى ويوصله إلى ما فيه لَهُمْ عَذابٌ
شاق فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
. بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبة من اللّه تعالى على كفرهم ، وأما وقوع مثل ذلك للمؤمن فعلى طريق الثواب ورفع الدرجات وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
من ذلك لشدته ودوامه وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
أي عذابه سبحانه مِنْ واقٍ
من حافظ يعصمهم من ذلك - فمن - الأولى صلة واقٍ
والثانية مزيدة للتأكيد ، ولا يضر تقديم معمول المجرور عليه لأن الزائد لا حكم له.
وجوز أن تكون مِنَ
الأولى ظرفا مستقرا وقع حالا من واقٍ
وصلته محذوفة ، والمعنى ما لهم واق وحافظ من عذاب اللّه تعالى حال كون ذلك الواقي من جهته تعالى ورحمته ومِنَ
على هذا للتبيين ، وجوز أيضا أن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 154
تكون لغوا متعلقة بما في الظرف أعني لَهُمْ
من معنى الفعل وهي للابتداء ، والمعنى ما حصل لهم من رحمة اللّه تعالى واق من العذاب مَثَلُ الْجَنَّةِ أي نعتها وصفتها كما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن عكرمة ، فهو على ما في البحر من مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم ، ومنه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم : 27] أي الصفة العليا ، وأنكر أبو علي ذلك وقال : إن تفسير المثل بالصفة غير مستقيم لغة ولم يوجد فيها وإنما معناه الشبيه.
وقال بعض المحققين : إنه يستعمل في ثلاثة معان. فيستعمل بمعنى الشبيه في أصل اللغة ، وبمعنى القول السائر المعروف في عرف اللغة ، وبمعنى الصفة الغريبة ، وهو معنى مجازي له مأخوذ من المعنى العرفي بعلاقة الغرابة لأن المثل إنما يسير بين الناس لغرابته ، وأكثر المفسرين على تفسيره هنا بالصفة الغريبة ، وهو حينئذ مبتدأ خبره - عند سيبويه - محذوف أي فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي عن الكفر والمعاصي ، وقدر مقدما لطول ذيل المبتدأ ولئلا يفصل بينه وبين ما يتعلق به معنى ، وقوله تعالى : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ جملة مفسرة - كخلقه من تراب - في قوله سبحانه : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران : 59] أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال من العائد المحذوف من الصلة أي التي وعدها ، وقيل : هي الخبر على طريقة قولك : شأن زيد يأتيه الناس ويعظمونه. واعترض بأنه غير مستقيم معنى لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة وهي فيها لا في صفتها ، وفيه أيضا تأنيث الضمير العائد على «مثل» حملا على المعنى ، وقد قيل : إنه قبيح. وأجيب بأن ذاك على تأويل أنها تجري ، فالمعنى مثل الجنة جريان الأنهار أو أن الجملة في تأويل المفرد فلا يعود منها ضمير للمبتدأ أو المراد بالصفة ما يقال فيه هذا إذا وصف ، فلا حاجة إلى الضمير كما في خبر ضمير الشأن.
وقال الطيبي : إن تأنيث الضمير لكونه راجعا إلى الجنة لا إلى المثل ، وإنما جاز ذلك لأن المقصود من المضاف عين المضاف إليه وذكره توطئة له وليس نحو غلام زيد. وتعقب كل ذلك الشهاب بأنه كلام ساقط متعسف لأن تأويل الجملة بالمصدر من غير حرف سابك شاذ ، وكذا التأويل بأنه أريد بالصفة لفظها الموصوف به وليس في اللفظ ما يدل عليه وهو تجوز على تجوز ولا يخفى تكلفه ، وقياسه على ضمير الشأن قياس مع الفارق ، وأما عود الضمير على المضاف إليه دون المبتدأ في مثل ذلك فأضعف من بيت العنكبوت فالحزم الإعراض عن هذا الوجه ، وعن الزجاج أن الخبر محذوف والجملة المذكورة صفة له ، والمراد مثل الجنة جنة تجري إلى آخره ، فيكون سبحانه قد عرفنا الجنة التي لم نرها بما شاهدناه من أمور الدنيا وعايناه. وتعقبه أبو علي - على ما في البحر - بأنه لا يصح لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون صفة لأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين الشيئين وهو حدث فلا يجوز الإخبار عنه بالجنة الجنة. ورد بأن المراد بالمثل المثيل أو الشبيه فلا غبار في الاخبار ، وقيل : إن التشبيه هنا تمثيلي منتزع وجهه من عدة أمور من أحوال الجنان المشاهدة من جريان أنهارها وغضارة أغصانها والتفاف أفنانها ونحوه ، ويكون قوله تعالى : أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها بيانا لفضل تلك الجنان وتمييزها عن هذه الجنان المشاهدة ، وقيل : إن هذا بيان لحال جنان الدنيا على سبيل الفرض وأن فيما ذكر انتشارا واكتفاء في النظير بمجرد جريان الأنهار وهو لا يناسب البلاغة القرآنية وهو كما ترى.
ونقل عن الفراء أن الجملة خبر أيضا إلا أن المثل بمعنى الشبه مقحم ، والتقدير الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار إلى آخره ، وقد عهد إقحامه بهذا المعنى ، ومنه قوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى : 11] وتعقبه أبو حيان بأن إقحام الأسماء لا يجوز ، ورد بأنه في كلامهم كثير - كثم اسم السلام عليكما - ولا صدقة إلا عن ظهر غني - إلى غير ذلك ، والأولى بعد القيل والقال الوجه الأول فإنه سالم من التكلف مع ما فيه من الإيجاز والإجمال

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 155
والتفصيل ، والظاهر أن المراد من الأكل ما يؤكل فيها ، ومعنى دوامه أنه لا ينقطع أبدا ، وقال إبراهيم التيمي : إن لذته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل بشبع وهو خلاف الظاهر.
وفسر بعضهم الأكل بالثمرة ، فقيل : وجهه أنه ليس في جنة الدنيا غيره وإن كان في الموعودة غير ذلك من الأطعمة ، واستظهر أن ذلك لإضافته إلى ضمير الجنة والأطعمة لا يقال فيها أكل الجنة وفيه تردد ، والظل في الأصل ضد الضح وهو عند الراغب أعم من الفيء فإنه يقال : ظل الليل ولا يقال فيؤه ، ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه ، وفي القاموس هو الضح والفيء أو هو بالغداة والفيء بالعشي جمعه ظلال وظلول واظلال ، ويعبر به عن العزة والمنعة وعن الرفاهة ، والمشهور تفسيره هنا بالمعنى الأول ، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي وأكلها كذلك أي دائم ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ، ومعنى دوامه أنه لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس إذ لا شمس هناك على الشائع عند أهل الأثر أو لأنها لا تأثير لها على ما قيل ، ويجوز عندي أن يراد بالظل العزة أو الرفاهة وأن يراد المعنى الأول ويجعل الكلام كناية عن دوام الراحة ، وأكفر خارجة بن معصب كما روي عنه ذلك ابن المنذر. وأبو الشيخ القائل بعدم دوام الجنة كما يحكى عن جهم. وأتباعه لهذه الآية. وبها استدل القاضي على أنها لم تخلق بعد لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن يفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص : 88] لكن أكلها لا ينقطع ولا يفنى للآية المذكورة فوجب أن لا تكون مخلوقة بعد ، ثم قال : ولا ننكر أن يكون الآن جنان كثيرة في السماء يتمتع بها من شاء اللّه تعالى من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أنا نقول : إن جنة الخلد إنما تخلق بعد الإعادة.
وأجاب الإمام عن ذلك بأن دليله مركب من شيئين قوله تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وقوله سبحانه : أُكُلُها دائِمٌ فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط الدليل فنحن نخصص أحدهما بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة كقوله تعالى : وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحديد : 21] اه.
ويرد على الاستدلال أنه مشترك الإلزام إذ الشيء في قوله تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ الموجود مطلقا كما في قوله تعالى : «خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم» «1»
والمعنى أن كل ما يوجد في وقت من الأوقات يصير هالكا بعد وجوده فيصح أن يقال : لو وجدت الجنة في وقت لوجب هلاك أكلها تحقيقا للعموم لكن هلاكه باطل لقوله تعالى : أُكُلُها دائِمٌ فوجودها في وقت من الأوقات باطل. وأجيب بأنه لعل المراد من الشيء الموجود في الدنيا فإنها دار الفناء دون الموجود في الآخرة فإنها دار البقاء وهذا كاف في عدم اشتراك الإلزام وفيه أنه إن أريد أن معنى الشيء هو الموجود في الدنيا فهو ظاهر البطلان ، وإن أريد أن المراد ذلك بقرينه كونه محكوما عليه بالهلاك وهو إنما يكون في الدنيا لأنها دار الفناء فنقول : إنه تخصيص بالقرينة اللفظية فنحن نخصصه بغير الجنة لقوله تعالى :
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ وأُكُلُها دائِمٌ فلا يتم الاستدلال.
وأجاب غير الإمام بأن المراد هو الدوام العرفي وهو عدم طريان العدم زمانا يقيد به وهذا لا ينافي طريان العدم عليه وانقطاعه لحظة على أن الهلاك لا يستلزم الفناء بل يكفي فيه الخروج عن الانتفاع المقصود ، ولو سلم يجوز أن يكون المراد أن كل ممكن فهو هالك في حد ذاته بمعنى أن الوجود الإمكاني بالنظر إلى الوجود الواجبي بمنزلة العدم ، وقيل : في الجواب أيضا : إن المراد بالدوام المعنى الحقيقي أعني عدم طريان العدم مطلقا ، والمراد بدوام الأكل دوام
___________
(1) كذا في الأصل ، وفي سورة الزمر ، الآية : 62 خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 156
النوع وبالهلاك هلاك الأشخاص ، ويجوز أن لا ينقطع النوع أصلا مع هلاك الأشخاص بأن يكون هلاك كل شخص معين من الأكل بعد وجود مثله ، وهذا مبني على ما ذهب إليه الأكثرون من أن الجنة لا يطرأ عليها العدم ولو لحظة ، وأما على ما قيل : من جريانه عليها لحظة فلا يتم لأنه يلزم منه انقطاع النوع قطعا كما لا يخفى.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه «مثال الجنة»
وفي اللوامح عن السلمي «أمثال الجنة» أي صفاتها تِلْكَ الجنة المنعوتة بما ذكر عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر والمعاصي أي مآلهم ومنتهى أمرهم وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا غير كما يؤذن به تعريف الخبر ، وحمل الاتقاء على اتقاء الكفر والمعاصي لأن المقام مقام ترغيب وعليه يكون العصاة مسكوتا عنهم ، وقد يحمل على اتقاء الكفر بقرينة المقابلة فيدخل العصاة في الذين اتقوا لأن عاقبتهم الجنة وإن عذبوا.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ نزلت - كما قال الماوردي - في مؤمني أهل الكتابين كعبد اللّه بن سلام. وكعب.
وأضرابهما من اليهود وكالذين أسلموا من النصارى كالثمانين المشهورين وهم أربعون رجلا بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة ، فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إذ هو الكتاب الموعود فيما أوتوه وَمِنَ الْأَحْزابِ أي من أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف. وأصحابه. والسيد ، والعاقب أسقفي نجران. وأشياعهما ، وأصله جمع حزب بكسر وسكون الطائفة المتحزبة أي المجتمعة لأمر ما كعداوة وحرب وغير ذلك ، وإرادة جماعة مخصوصة منه بواسطة العهد مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهو ما لا يوافق كتبهم من الشرائع الحادثة إنشاء أو نسخا وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به ، وعن ابن عباس. وابن زيد أنها نزلت في مؤمني اليهود خاصة. فالمراد بالكتاب التوراة وبالأحزاب كفرتهم. وعن مجاهد.
والحسن. وقتادة أن المراد بالموصول جميع أهل الكتاب فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم. فالمراد - بما أنزل إليك - بعضه وهو الموافق ، واعترض عليه بأنه يأباه مقابلة قوله سبحانه : وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ لأن إنكار البعض مشترك بينهم ، وأجيب بأن المراد من الأحزاب من حظه إنكار بعضه فحسب ولا نصيب له من الفرح ببعض منه لشدة بغضه وعداوته وأولئك يفرحون ببعضه الموافق لكتبهم ، وقيل : الظاهر أن المعنى أن منهم من يفرح ببعضه إذا وافق كتبهم وبعضهم لا يفرح بذلك البعض بل يغتم به وإن وافقها وينكر الموافقة لئلا يتبع أحد منهم شريعته صلى اللّه عليه وسلم كما في قصة الرجم ، وأنت تعلم أن الجوابين ليسا بشيء ، وعلى تفسير الموصول بعامة أهل الكتاب فسر البعض البعض بما لم يوافق ما حرفوه ، وبين ذلك بأن منهم من يفرح بما وافق ومنهم من ينكره لعناده وشدة فساده ، وإنكارهم لمخالفة المحرف بالقول دون القلب لعلمهم به أو هو بالنسبة لمن لم يحرفه ، ولعل نعي الإنكار أوفق بالمقام من نعي التحريف عليهم على ما لا يخفى على المتأمل ، وقيل : المراد بالموصول مطلق المسلمين وبالأحزاب اليهود والنصارى والمجوس «1».
وأخرج ذلك ابن جرير عن قتادة ، فالمراد بالكتاب القرآن ، ومعنى يَفْرَحُونَ استمرار فرحهم وزيادته وقالت فرقة : المراد بالأحزاب أحزاب الجاهلية من العرب ، وقال مقاتل : هم بنو أمية. وبنو المغيرة. وآل أبي طلحة قُلْ صادعا بالحق غير مكترث بمنكر بعض ما أنزل إليك إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ أي شيئا من الأشياء أو لا أفعل الإشراك به سبحانه ، والظاهر أن المراد قصر الأمر على عبادته تعالى خاصة وهو الذي يقتضيه كلام الإمام حيث
___________
(1) وهم لا ينكرون كثيرا من القصص اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 157
قال : إن إِنَّما للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة اللّه تعالى وهو يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك ، وقيل : معناه إنما أمرت بعبادته تعالى وتوحيده لا بما أنتم عليه.
وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى إلزاما للمنكرين وردا لإنكارهم إنما أمرت إلى آخره ، والمراد قصر الأمر بالعبادة على اللّه تعالى لا قصر الأمر مطلقا على عبادته سبحانه أي قل لهم : إنما أمرت فيما أنزل إلي بعبادة اللّه تعالى وتوحيده. وظاهر أن لا سبيل لكم إلى إنكاره لإطباق جميع الأنبياء عليهم السلام والكتب على ذلك لقوله تعالى :
تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران : 65] فما لكم تشركون به عزيرا. والمسيح عليهما السلام ، ولا يخفى أن هذا التفسير مبني على كون المراد من الأحزاب كفرة أهل الكتابين وهذا الكلام إلزام لهم ، واعترض بأن منهم من ينكر التوحيد وإطباق جميع الأنبياء والكتب عليه كالمثلثة من النصارى.
وأجيب بأنهم مع التثليث يزعمون التوحيد ولا ينكرونه كما يدل عليه قولهم : باسم الأب والابن وروح القدس إلها واحدا ، وأنت تعلم أن هذا مما لا يحتاج إليه والاعتراض ناشئ من الغفلة عن المراد ، وقد يقال : المعنى إنما أمرت بعبادة اللّه تعالى وعدم الإشراك به وذلك أمر تستحسنه العقول وتصرح به الدلائل الآفاقية والأنفسية :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فإنكاره دليل الحماقة وشاهد الجهالة لا ينبغي لعاقل أن يلتفت إليه ، ويجري هذا على سائر تفاسير الأحزاب.
وقرأ أبو خليد عن نافع «ولا أشرك» بالرفع على القطع أي وأنا لا أشرك ، وجوز أن يكون حالا أي أن أعبد اللّه غير مشرك به قيل : وهو الأولى لخلو الاستئناف عن دلالة الكلام على أن المأمور به تخصيص العبادة به تعالى وفيه بحث إِلَيْهِ أي إلى اللّه تعالى خاصة على النهج المذكور من التوحيد أو إلى ما أمرت به من التوحيد أَدْعُوا الناس لا إلى غيره ولا إلى شيء آخر مما لا يطبق عليه الكتب الإلهية والأنبياء عليهم السلام فما وجه إنكاركم؟ قاله في الإرشاد أيضا ، والأولى عود المضير على اللّه تعالى كنظيره السابق وكذا اللاحق في قوله سبحانه : وَإِلَيْهِ أي اللّه تعالى وحده مَآبِ أي مرجعي للجزاء وعلى ذلك اقتصر العلامة البيضاوي وكان قد زاد ومرجعكم فيما تقدم غير بعيد ، واعترض بأنه كان عليه أن يزيده هنا أيضا بل هذا المقام أنسب بالتعميم ليدل على ثبوت الحشر عموما وهو المروي عن قتادة ، وقد جعل الإمام هذه الآية جامعة لكل ما يحتاج المرء إليه من معرفة المبدأ والمعاد فقوله سبحانه : قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ جامع لكل ما ورد التكليف به وقوله تعالى : إِلَيْهِ أَدْعُوا مشير إلى نبوته عليه الصلاة والسلام. وقوله جل وعلا : وَإِلَيْهِ مَآبِ إشارة إلى الحشر والبعث والقيامة. وأجاب الشهاب عن ذلك بقوله : إن قول الزمخشري إليه لا إلى غيره مرجعي وأنتم تقولون مثل ذلك فلا معنى لإنكاركم فيه بيان لنكتة التخصيص من أنهم ينكرون حقيقة أو حكما فلا حاجة إلى ما يقال لا حاجة لذكره هنا لدلالة قوله تعالى : تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ انتهى. وهو كما ترى ، ولعل الأظهر أن يقال : إن دلالة الكلام عليه هنا ليست كدلالته عليه هناك إذ مساق الآية فيه للتخويف اللائق به اعتباره ومساقها هنا لأمر آخر والاقتصار على ذلك كاف فيه.
وأنت تعلم أنه لا مانع من اعتباره ويكون معنى الآية قل في جوابهم : إني إنما أمرني اللّه تعالى بما هو من معالي الأمور وإليه أدعو وقتا فوقتا وإليه مرجعي ومرجعكم فيثيبني على ما أنا عليه وينتقم منكم على إنكاركم وتخلفكم عن اتباع دعوتي أو فحينئذ يظهر حقية جميع ما أنزل إلي ويتبين فساد رأيكم في إنكار كم شيئا منه ، وقد يقال على عدم اعتباره نحو ما قيل فيما قبل : إن المعنى قل في مقابلة إنكارهم إني إنما أمرني اللّه تعالى بما أمرني به وإليه أدعو وإليه مرجعي فيما يعرض لي في أمر الدعوة وغيره فلا أبالي بإنكاركم فإنه سبحانه كاف من رجع إليه ، ولعل هذا المعنى هنا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 158
من حيث إنه فيه تأسيس محض أولى منه هناك ، واقتصر في الإرشاد على جعل الكلام إلزاما وجعله نكتة أمره صلى اللّه عليه وسلم بأن يخاطبهم بذلك ، وذكر أن قوله تعالى : وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا شروع في رد إنكارهم لفروع الشرائع الواردة ابتداء أو بدلا من الشرائع المنسوخة ببيان الحكمة في ذلك وأن الضمير راجع - لما أنزل إليك - والإشارة إلى مصدر أَنْزَلْناهُ أو أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي مثل ذلك الإنزال البديع الجامع لأصول مجمع عليها وفروع متشعبة إلى موافقة ومخالفة حسبما يقتضيه قضية الحكمة أنزلناه حاكما يحكم في القضايا والواقعات بالحق ويحكم به كذلك ، والتعرض لهذا العنوان مع أن بعضه ليس بحكم لتربيته وجوب مراعاته وتحتم المحافظة عليه ، والتعرض لكونه عربيا أي مترجما بلسان العرب للإشارة إلى أن ذلك إحدى مواد المخالفة للكتب السابقة مع أن ذلك مقتضى الحكمة إذ بذلك يسهل فهمه وإدراك إعجازه يعني بالنسبة للعرب ، وأما بالنسبة إلى غيرهم فلعل الحكمة أن ذلك يكون داعيا لتعلم العلوم التي يتوقف عليها ما ذكر. ومنهم من اقتصر على اشتمال الإنزال على أصول الديانات المجمع عليها حسبما يفيده على رأي قوله تعالى : قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ إلى آخره ، وتعقب بأنه يأباه التعرض لاتباع أهوائهم وحديث المحو والإثبات وإنه لكل أجل كتاب فإن المجمع عليه لا يتصور فيه استتباع والاتباع ، وقيل : إن الإشارة إلى إنزال الكتب السالفة على الأنبياء عليهم السلام ، والمعنى كما أنزلنا الكتب على من قبلك أنزلنا هذا الكتاب عليك لأن قوله تعالى : والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يتضمن إنزاله تعالى ذلك وهذا الذي أنزلناه بلسان العرب كما أن الكتب السابقة بلسان من أنزلت عليه وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم : 4] وإلى هذا ذهب الإمام.
وأبو حيان ، وقال ابن عطية : المعنى كما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض أنزلناه حكما إلى آخره وليته ما قيل ، وإلا بلغ الاحتمال الأول مما أشرنا إليه ، ونصب حُكْماً على الحال من منصوب أَنْزَلْناهُ وإذا أريد به حاكما كان هناك مجاز في النسبة كما لا يخفى ، ونصب عَرَبِيًّا على الحال أيضا إما من ضمير أَنْزَلْناهُ كالحال الأولى فتكون حالا مترادفة أو من المستتر في الأولى فتكون حالا متداخلة ، ويصح أن يكون وصفا - لحكما - الحال وهي موطئة وهي الاسم الجامد الواقع حالا لوصفه بمشتق وهو الحال في الحقيقة ، والأول أولى لأن حُكْماً مقصود بالحالية هنا والحال الموطئة لا تقصد بالذات.
واختار الطبرسي أن معنى حكما حكمة كما في قوله تعالى : «وآتيناه الحكم والنبوة» «1»
وهو أحد أوجه ذكرها الإمام ، ونصبه على الحال أيضا فلا تغفل. واستدلت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن من وجوه. الأول أنه تعالى وصفه بكونه منزلا وذلك لا يليق إلا بالمحدث. الثاني أنه وصفه بكون عربيا والعربي أمر وضعي وما كان كذلك كان محدثا. الثالث أنها دلت على أنه إنما كان حكما عربيا لأن اللّه تعالى جعله كذلك والمجعول محدث. وأجاب الإمام بأن كل ذلك إنما يدل على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه أي بين المعتزلة والأشاعرة وإلا فالحنابلة على ما اشتهر عنهم قائلون بقدم الكلام اللفظي ، وقد أسلفنا في المقدمات كلاما نفيسا في مسألة الكلام فارجع إليه ولا يهولنك قعاقع المخالفين لسلف الأمة.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها كالصلاة إلى بيت المقدس بعد تحويل القبلة إلى الكعبة وكترك الدعوة إلى الإسلام بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ العظيم الشأن الفائض عليك من ذلك الحكم العربي أو العلم بمضمونه ما لَكَ مِنَ اللَّهِ من جنابه العزيز جل شأنه والالتفات من التكلم إلى الغيبة وإيراد الاسم الجليل لتربية المهابة مِنْ وَلِيٍ
___________
(1) ليس هذا نص آية.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 159
يلي أمرك وينصرك على من يبغيك الغوائل وَلا واقٍ يقيك من مصارع السوء ، وحيث لم يستلزم نفي الناصر على العدو نفي الواقي من نكايته أدخل في المعطوف حرف النفي للتأكيد كقولك : ما لي دينار ولا درهم أو مالك من بأس اللّه تعالى من ناصر وواق لاتباعك أهواءهم بعد ما جاءك من الحق ، وأمثال هذه القوارع إنما هي لقطع أطماع الكفرة وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين لا للنبي صلى اللّه عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث أو مهيج ، ومن هنا قيل : إن الخطاب لغيره صلى اللّه عليه وسلم ، واللام في لئن موطئة ومِنَ الثانية مزيدة وما لَكَ ساد مسد جوابي الشرط والقسم وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا كثيرة كائنة مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً أي نساء وأولادا كما جعلناها لك ،
روي عن الكلبي أن اليهود عيرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا : ما نرى لهذا الرجل همه إلا النساء والنكاح ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فنزلت
ردا عليهم حيث تضمنت أن التزوج لا ينافي النبوة وأن الجمع بينهما قد وقع في رسل كثيرة قبله.
ذكر أنه كان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة مهرية وسبعمائة سرية وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة ، ولم يتعرض جل شأنه لرد قولهم : ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء للإشارة إلى أنه لا يستحق جوابا لظهور أنه عليه الصلاة والسلام لم يشغله أمر النساء عن شيء ما من أمر النبوة ، وفي أدائه صلى اللّه عليه وسلم للأمرين على أكمل وجه دليل وأي دليل على مزيد كماله ملكية وبشرية. ومما يوضح ذلك أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يجوع الأيام حتى يشد على بطنه الشريف الحجر ومع ذا يطوف على جميع نسائه في الليلة الواحدة ولا يمنعه ذاك عن هذا.
وفي تكثير نسائه عليه الصلاة والسلام فوائد جمة ، ولو لم يكن فيه سوى الوقوف على استواء سره وعلنه لكفى ، وذلك لأن النساء من شأنهن أن لا يحفظن سرا كيفما كان فلو كان منه عليه الصلاة والسلام في السر ما يخالف العلن لوقفن عليه مع كثرتهن ولو كن قد وقفن لأفشوه عملا بمقتضى طباع النساء لا سيما الضرائر.
ومن وقف على الآثار وأحاط خبرا بما روى عن هاتيك النساء الطاهرات علم أنهن لم يتركن شيئا من أحواله الخفية إلا ذكروه ، وناهيك ما روي أن الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم اختلفوا في الإيلاج بدون إنزال هل يوجب الغسل أم لا؟ فسألوا عائشة رضي اللّه تعالى عنها فقالت ولا حياء في الدين : فعل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معي فاغتسلنا جميعا وروي أنهم طعنوا في نبوته بالتزوج وبعدم الإتيان بما يقترحونه من الآيات فنزل ذلك وقوله تعالى : وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي وما صح وما استقام ولم يكن في وسع رسول من الرسل الذين من قبل أن يأتي من أرسل إليهم بآية ومعجزة يقترحونها عليه إلا بتيسير اللّه تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح التي يدور عليها أمر الكائنات ، وقد يراد بالآية الآية الكتابية النازلة بالحكم على وفق مراد المرسل إليهم وهو أوفق بما بعد ، وجوز إرادة الأمرين باعتبار عموم المجاز أي الدال مطلقا أو على استعمال اللفظ في معنييه بناء على جوازه ، والالتفات لما تقدم ولتحقيق مضمون الجملة بالإيماء إلى العلة.
لِكُلِّ أَجَلٍ أي لكل وقت ومدة من الأوقات والمدد كِتابٌ حكم معين يكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمة ، فإن الشرائع كلها لإصلاح أحوالهم في المبدأ والمعاد ، ومن قضية ذلك أن تختلف حسب أحوالهم المتغيرة حسب تغير الأوقات كاختلاف العلاج حسب اختلاف أحوال المرضى بحسب الأوقات ، وهذا عند بعض رد لما أنكروه عليه عليه الصلاة والسلام من نسخ بعض الأحكام كما أن ما قبله رد لطعنهم بعدم الإتيان بالمعجزات المقترحة.
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت وَيُثْبِتُ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 160
بدله ما فيه الحكمة أو يبقيه على حاله غير منسوخ أو يثبت ما يشاء إثباته مطلقا أعم منهما ومن الإنشاء ابتداء ، وقال عكرمة : يمحو بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل ذلك حسنات كما قال تعالى : إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان : 70] وقال ابن جبير : يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفره ، وقال : يمحو ما يشاء ممن حان أجله ويثبت ما يشاء ممن لم يأت أجله ، وقال علي كرم اللّه تعالى وجهه : يمحو ما يشاء من القرون لقوله تعالى : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [يس : 31] ويثبت ما يشاء منها لقوله سبحانه :
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ [المؤمنون : 42]
وقال الربيع : هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها اللّه تعالى إليه فمن أراد موته فجأة أمسك روحه فلم يرسلها ومن أراد بقاءه أرسل روحه ، بيانه قوله تعالى : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر : 42] الآية ، وعن ابن عباس. والضحاك يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا بسيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت ما هو حسنة أو سيئة ، وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضا من الأناسي وسائر الحيوانات والنباتات والأشجار وصفاتها وأحوالها ، وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة ، وقال الحسن. وفرقة : ذلك في آجال بني آدم يكتب سبحانه في ليلة القدر ، وقيل : في ليلة النصف من شعبان آجال الموتى فيمحو أناسا من ديوان الأحياء ويثبتهم في ديوان الأموات ، وقال السدي : يمحو القمر ويثبت الشمس بيانه قوله تعالى : فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء : 12] وفي رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يمحو اللّه تعالى ما يشاء من أمور عباده ويثبت إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنها لا محو فيها ، ورواه عنه مرفوعا ابن مردويه ، وقيل : هو عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ونسب إلى جماعة من الصحابة والتابعين وكانوا يتضرعون إلى اللّه تعالى أن يجعلهم سعداء ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف.
وغيره عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال : ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع عليه في معيشته يا ذا المن ولا يمن عليه يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول لا إله إلا أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيا فامح عني اسم الشقاوة وأثبتني عندك سعيدا وان كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محروما مقترا عليّ رزقي فامح حرماني ويسر رزقي وأثبتني عندك سعيدا موفقا للخير فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال وهو يطوف بالبيت : اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه واجعله سعادة ومغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
وأخرج ابن جرير عن شقيق أبي وائل أنه كان يكثر الدعاء بهذه الدعوات اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء وإن كنت كتبتنا سعداء فاثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
واخرج ابن سعد وغيره عن الكلبي أنه قال : يمحو اللّه تعالى من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه فقيل له : من حدثك بهذا؟ فقال : أبو صالح عن جابر بن عبد اللّه بن رئاب الأنصاري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.
وأبو حيان يقول : إن صح شيء من ذلك ينبغي تأويله فمن المعلوم أن السعادة والشقاوة والرزق والأجل لا يتغير شيء منها ، وإلى التعميم ذهب شيخ الإسلام قال بعد نقل كثير من الأقوال : والأنسب تعميم كل من المحو والإثبات ليشمل الكل ويدخل في ذلك مواد الإنكار دخولا أوليا وما أخرجه ابن جرير عن كعب من أنه قال لعمر رضي اللّه تعالى عنه : يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب اللّه تعالى لأنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة قال : وما هي؟ قال قوله تعالى : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ الآية يشعر بذلك ، وأنت تعلم أن المحو والإثبات إذا كانا بالنسبة إلى ما في أيدي الملائكة ونحو فلا فرق بين السعادة والشقاوة والرزق والأجل وبين غيرها في أن كلا يقبل المحو والإثبات ، وإن كانا بالنسبة إلى ما في العلم فلا فرق أيضا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 161
بين تلك الأمور وبين غيرها في أن كلا لا يقبل ذلك لأنه العلم إنما تعلق بها على ما هي عليه في نفس الأمر وإلا لكان جهلا وما في نفس الأمر مما لا يتصور فيه التغير والتبدل ، وكيف يتصور تغير زوجية الأربعة مثلا وانقلابها إلى الفردية مع بقاء الأربعة أربعة هذا مما لا يكون أصلا ولا أظنك في مرية من ذلك ، ولا يأبى هذا عموم الأدلة الدالة على أنه ما شاء اللّه تعالى كان لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم بالشيء تابع لما عليه الشيء في نفس الأمر فهو سبحانه لا يشاء إلا ما عليه الشيء في نفس الأمر ، قيل : ويشير إلى أن ما في العلم لا يتغير قوله سبحانه : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ بناء على أن أُمُّ الْكِتابِ هو العلم لأن جميع ما يكتب في صحف الملائكة وغيرها لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما ثبت فيه فهو أم لذلك أي أصل له فكأنه قيل : يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء إثباته مما سطر في الكتب وثابت عنده العلم الأزلي الذي لا يكون شيء إلا على وفق ما فيه ، وتفسير أُمُّ الْكِتابِ بعلم اللّه تعالى مما رواه عبد الرزاق. وابن جرير عن كعب رضي اللّه تعالى عنه ، والمشهور أنها اللوح المحفوظ قالوا : وهو أصل الكتب إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوب فيه كما هو.
والظاهر أن المراد الذاهب والثابت مما يتعلق بالدنيا «1»
لا مما يتعلق بها وبالآخرة أيضا لقيام الدليل العقلي على تناهي الأبعاد مطلقا والنقلي على تناهي اللوح بخصوصه ، فقد جاء أنه من درة بيضاء له دفتان من ياقوت طوله مسيرة خمسمائة عام وامتناع ظرفية المتناهي لغير المتناهي ضروري ، ولعل من يقول بعموم الذاهب والثابت يلتزم القول بالإجمال حيث يتعذر التفصيل. وقد ذهب بعضهم إلى تفسير أُمُّ الْكِتابِ بما هو المشهور ، والتزم القول بأن ما فيه لا يتغير وإنما التغير لما في الكتب غيره ، وهذا قائل بعدم تغير ما في العلم لما علمت. ورأيت في نسخة لبعض الأفاضل كانت عندي وفقدت في حادثة بغداد ألفت في هذه المسألة وفيها أنه ما من شيء إلا ويمكن تغييره وتبديله حتى القضاء الأزلي واستدل لذلك بأمور. منها أنه
قد صح من دعائه صلى اللّه عليه وسلم في القنوت : «وقني شر ما قضيت»
وفيه طلب الحفظ من شر القضاء الأولى ولم لم يمكن تغييره ما صح طلب الحفظ منه. ومنها ما
صح في حديث التراويح من عذره صلى اللّه عليه وسلم عن الخروج إليها ، وقد اجتمع الناس ينتظرونه لمزيد رغبتهم فيها بقوله : «خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها»
فإنه لا معنى لهذه الخشية لو كان القضاء الأزلي لا يقبل التغيير ، فإنه إن كان قد سبق القضاء بأنها ستفرض فلا بد أن تفرض وإن سبق القضاء بأنها لا تفرض فمحال أن تفرض على ذلك الفرض ، على أنه قد جاء في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج بعد ما هو ظاهر في سبق القضاء بأنها خمس صلوات مفروضة لا غير فما معنى الخشية بعد العلم بذلك لولا العلم بإمكان التغيير والتبديل. ومنها ما
صح أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يضطرب حاله الشريف ليلة الهواء الشديد حتى أنه لا ينام وكان يقول في ذلك : «أخشى أن تقوم الساعة»
فإنه لا معنى لهذه الخشية أيضا مع اخبار اللّه تعالى أن بين يديها ما لم يوجد إذ ذاك كظهور المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك مما يستدعي تحققه زمانا طويلا فلو لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أن القضاء يمكن تغييره وان ما قضي من أشراطها يمكن تبديله ما خشي صلى اللّه عليه وسلم من ذلك. ومنها أن المبشرين بالجنة كانوا من أشد الناس خوفا من النار حتى أن منهم من كان يقول : ليت أمي لم تلدني ، وكان عمر رضي اللّه تعالى عنه يقول : لو نادى مناد كل الناس في الجنة إلا واحدا لظننت أني ذلك الواحد ، وهذا مما لا معنى له مع إخبار الصادق وتبشيره له بالجنة والعلم بأن القضاء لا يتغير. ومنها أنه لولا إمكان التغيير للغا الدعاء إذ المدعو به إما أن يكون قد سبق القضاء بكونه فلا
___________
(1) وفي الأخبار ما يؤيد ذلك اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 162
بد أن يكون وإلا فمحال أن يكون ، وطلب ما لا بد أن يكون أو محال أن يكون لغو مع أنه قد ورد الأمر به ، والقول بأنه لمجرد إظهار العبودية والافتقار إلى اللّه تعالى وكفى بذلك فائدة يأباه ظاهر قوله تعالى : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر : 60] وأيضا أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : «لا ينفع الحذر من القدر ولكن اللّه تعالى يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر» وأخرج ابن مردويه. وابن عساكر عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ الآية فقال له عليه الصلاة والسلام : «لأقرن عينك بتفسيرها ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها ، الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء»
وهذا لا يكاد يعقل على تقدير أن القضاء لا يتغير ، وفي الأخبار والآثار مما هو ظاهر في إمكان التغير ما لا يحصى كثرة ، ولعل من ذلك الدعاء المار عن ابن مسعود ، ثم ان القضاء المعلق يرجع في المال إلى القضاء المبرم عند مثبته فلا يفيده التعلق بذلك في دفع ما يرد عليه ، ودفع ما يرد على القول بالتغير من أنه يلزم منه التغير في ذاته تعالى لما أنه ينجر إلى تغير العلم وهو يوجب التغير في ذاته تعالى من صفة إلى أخرى أو يلزم من ذلك الجهل. وهذا مأخوذ من الشبهة التي ذكرها جمهور الفلاسفة في نفي علم اللّه تعالى بالجزئيات المتغيرة فإنهم قالوا : إنه تعالى إذا علم مثلا أن زيدا في الدار الآن ثم خرج عنها فإما أن يزول ذلك العلم ولا يعلم سبحانه أنه في الدار أو يبقى ذلك العلم بحاله ، والأول يوجب التغير في ذاته سبحانه ، والثاني يوجب الجهل وكلاهما نقص يجب تنزيه اللّه تعالى عنه بما دفعوا به تلك الشبهة ، وهو ما ذكر في المواقف وشرحه من منع لزوم التغير فيه تعالى بل التغير إنما هو في الإضافات لأن العلم عندنا اضافة مخصوصة وتعلق بين العالم والمعلوم. أو صفة حقيقية ذات إضافة ، فعلى الأول يتغير نفس العلم ، وعلى الثاني يتغير إضافاته فقط ، وعلى التقديرين لا يلزم تغير في صفة موجودة بل في مفهوم اعتباري وهو جائز.
وأجاب كثير من الاشاعرة والمعتزلة بأن العلم بأن الشيء وجد والعلم بأنه سيوجد واحد فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم بأنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمرا بلا غفلة مزيلة له وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدد يعلم به أنه دخل الآن لطريان الغفلة عن الأول ، والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة فكان علمه سبحانه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد فلا يلزم من تغير المعلوم تغير في العلم ونهاية كلامه في هذا المقام أنه يجوز أن يتغير ما في علم اللّه تعالى والا لتعين عليه سبحانه الفعل أو الترك وفيه من الحجر عليه جل جلاله ما لا يخفى ، ولا يلزم من ذلك التغير سوى التغير في التعلقات وهو غير ضار ، واعترض بأنه على هذا القول لا يبقى وثوق بشيء من الأخبار الغيبية كالحشر والنشر وكذا لا يبقى وثوق بالأخبار بأنه صلى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين لجواز أن يكون اللّه تعالى قد علم ذلك حين أخبر ثم تعلق علمه بخلافه لكنه سبحانه لم يخبر ولا نقص في الاخبار الأول لأنه اخبار عما كان متعلق العلم إذ ذاك ، وأيضا يلزم من ذلك نفي نفس الأمر أو نفي كون تعلق العلم على وفقه وكلا النفيين كما ترى. بقي الجواب عما تمسك به وهو عن بعض ظاهر وعن بعض يحتاج إلى تأمل فتأمل. واستدل بالآية بعض الشيعة القائلين بجواز البداء على اللّه سبحانه وفيه ما فيه هذا.
ويخطر لي في الآية معنى لم أر من ذكره وهو أن يراد بقوله سبحانه : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ما ذكرناه أولا قبل حكاية الأقوال وهو مما رواه البيهقي في المدخل. وغيره عن ابن عباس ، وابن جرير عن قتادة ويخصص ذلك بالأحكام الفرعية ، ويراد بأم الكتاب الأحكام الأصلية فإنها مما لا تقبل النسخ وهي أصل لكل كتاب باعتبار أن الأحكام الفرعية التي فيه إنما تصح ممن أتى بها لكن لا يساعد على هذا المأثور عن السلف. نعم هو مناسب للمقام كما لا يخفى ، وزعم الضحاك. والفراء أن في الآية قلبا والأصل لكل كتاب أجل. وتعقب بأنه لا يجوز ادعاء القلب إلا في

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 163
ضرورة الشعر على أنه لا داعي إليه هنا بل قد يدعى فساد المعنى عليه وأيا ما كان فأل في الكتاب للجنس فهو شامل للكثير ، ولهذا فسره غير واحد بالجمع ، وقرأ نافع ، وابن عامر وَيُثْبِتُ بالتشديد وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ أصله إن نريك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ومن ثمة ألحقت النون بالفعل ، قال ابن عطية : ولو كانت إِنْ وحدها لم يجز الحاق النون ، وهو مخالف لظاهر كلام سيبويه ، قال ابن خروف : أجاز سيبويه الإتيان - بما - وعدم الإتيان بها والإتيان بالنون مع ما وعدم الإتيان بها ، والإراءة هنا بصرية والكاف مفعول أول وقوله سبحانه : بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ مفعول ثان ، والمراد بعض الذي وعدناهم من إنزال العذاب عليهم ، والعدول إلى صيغة المضارعة لحكاية الحال الماضية أو نعدهم وعدا متجددا حسب ما تقتضيه الحكمة من إنذار عقيب إنذار ، وفي إيراد البعض رمز على ما قيل إلى إراءة بعض الموعود أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي تبليغ أحكام ما أنزلنا عليك وما تضمنه من الوعد والوعيد لا تحقيق مضمون الوعيد الذي تضمنه ذلك ، فالمقصور عليه البلاغ ولهذا قدم الخبر ، وهذا الحصر مستفاد من إنما لا من التقديم وإلا لانعكس المعنى ، وقوله تعالى : وَعَلَيْنَا الْحِسابُ الظاهر أنه معطوف على ما في حيز إنما فيصير المعنى إنما علينا محاسبة أعمالهم السيئة والمؤاخذة بها دون جبرهم على اتباعك أو إنزال ما اقترحوه عليك من الآيات.
واعتبر الزمخشري عطفه على جملة فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ فيصير المعنى وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم ، قيل : وهو الظاهر ترجيحا للمنطوق على المفهوم إذا اجتمع دليلا حصر ، وحاصل معنى الآية كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم نركه فعلينا ذلك وما عليك إلا التبليغ فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك به من الظفر ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية. وفي البحر عن الحوفي أنه قد تقدم في الآية شرطان نُرِيَنَّكَ ونَتَوَفَّيَنَّكَ لأن المعطوف على الشرط شرط ، وقوله تعالى : فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ لا يصلح أن يكون جوابا للشرط الأول ولا للشرط الثاني لأنه لا يترتب على شيء منهما وهو ظاهر فيحتاج إلى تأويل ، وهو أن يقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتبا عليه ، فيقال واللّه تعالى أعلم : وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذلك شافيك من أعدائك ودليل صدقك وإما نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب ، ويكون قوله تعالى : فَإِنَّما إلخ دليلا عليهما ، والواقع من الشرطين هو الأول كما في بدر.
ثم إنه سبحانه طيب نفسه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشير الظفر فقال جل شأنه : أَوَلَمْ يَرَوْا إلخ.
والاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا في ذلك ولم يروا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي أرض الكفرة نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها من جوانبها بأن نفتحها شيئا فشيئا ونلحقها بدار الإسلام ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا مقدمة لذاك.
ومثل هذه الآية قوله تعالى : أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء : 44] وروي ذلك عن ابن عباس والحسن والضحاك وعطية والسدي وغيرهم ، وروي عن ابن عباس أيضا وأخرجه الحاكم عنه وصححه أن انتقاص الأرض موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها. وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الاقتصار على الأخير ، وروي أيضا عن مجاهد فالمراد من الأرض جنسها ، والأطراف كما قيل بمعنى الأشراف ، ومجيء ذلك بهذا المعنى محكي عن ثعلب ، واستشهد له الواحدي بقول الفرزدق :
واسأل بنا وبكم إذا وردت مني أطراف كل قبيلة من يمنع
وقريب من ذلك قول ابن الأعرابي : الطرف والطرف الرجل الكريم. وقول بعضهم : طرف كل شيء خياره ، وجعلوا من هذا
قول علي كرم اللّه تعالى وجهه : العلوم أودية في أي واد أخذت منها خسرت فخذوا من كل شيء طرفا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 164
قال ابن عطية : أراد كرم اللّه تعالى وجهه خيارا وأنت تعلم أن الأظهر جانبا ، وادعى الواحدي أن تفسير الآية بما تقدم هو اللائق. وتعقبه الإمام بأنه يمكن القول بلياقة الثاني ، وتقرير الآية عليه أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة وموتا بعد حياة وذلا بعد عز ونقصا بعد كمال وهذه تغييرات مدركة بالحس فما الذي يؤمنهم أن يقلب اللّه تعالى الأمر عنهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهو كما ترى ، وقيل :
نقصها هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وخراب أرضهم أي ألم يروا هلاك من قبلهم وخراب ديارهم فكيف يأمنون من حلول ذلك بهم ، والأول أيضا أوفق بالمقام منه ، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة كما في قوله تعالى : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان : 23] وفي الحواشي الشهابية أن المعنى يأتيها أمرنا وعذابنا ، وجملة نَنْقُصُها في موضع الحال من فاعل نَأْتِي أو من مفعوله وقرأ الضحاك نَنْقُصُها مثقلا من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم على ما في البحر وَاللَّهُ يَحْكُمُ ما يشاء كما يشاء وقد حكم لك ولأتباعك بالعز والإقبال وعلى أعدائك ومخالفيك بالقهر والاذلال حسبما يشاهده ذوو الأبصار من المخائل والآثار ، وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى ، وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها ، وقوله سبحانه : لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ اعتراض أيضا لبيان علو شأن حكمه جل وعلا ، وقيل : هو نصب على الحال كأنه قيل : واللّه تعالى يحكم نافذا حكمه كما تقول : جاء زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة أي حاسرا وإليه ذهب الزمخشري ، قيل : وإنما أول الجملة الاسمية بالمفرد لأن تجردها من الواو إذا وقعت حالا غير فصيح عنده ولا يخفى عليك أن جعلها معترضة أولى وأعلى ، والمعقب من يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإبطال ، ومنه يسمى الذي يطلب حقا من آخر معقبا لأن يعقب غريمه ويتبعه للتقاضي ، قال لبيد :
حتى تهجر بالرواح وهاجها طلب المعقب حقه المظلوم
وقد يسمى الماطل معقبا لأنه يعقب كل طلب برد ، وعن أبي علي عقبني حقي أن مطلني. ويقال للبحث عن الشيء تعقب ، وجوز الراغب أن يراد هذا المعنى هنا على أن يكون الكلام نهيا للناس أن يخوضوا في البحث عن حكمه وحكمته إذا خفيت عليهم ، ويكون ذلك من نحو النهي عن الخوض في سر القدر وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاء في الدنيا حسبما يرى ، وكأنه قيل : لا تستبطئ عقابهم فإنه آت لا محالة وكل آت قريب ، وقال ابن عباس : المعنى سريع الانتقام.
وَقَدْ مَكَرَ الكفار الَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل كفار مكة بأنبيائهم وبالمؤمنين كما فعل هؤلاء ، وهذا تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنه لا عبرة بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة ، ولم يصرح سبحانه بذلك اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعني قوله تعالى : فَلِلَّهِ الْمَكْرُ أي جنس المكر جَمِيعاً لا وجود لمكرهم أصلا ، إذ هو عبارة عن إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يشعر به وحيث كان جميع ما يأتون ويذرون بعلمه وقدرته سبحانه وإنما لهم جرد الكسب من غير فعل ولا تأثير حسبما يبينه قوله تعالى : يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ومن قضيته عصمة أوليائه سبحانه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما كسبت ظهر إن ليس لمكرهم بالنسبة إلى من مكروا بهم عين ولا أثر وإن المكر كله للّه تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرهم من حيث لا يحتسبون ، كذا قاله شيخ الإسلام ، وقد تكلف قدس سره في ذلك ما تكلف ، وحمل الكسب على ما هو الشائع عند الاشاعرة واللّه تعالى لا يفرق بينه وبين الفعل وكذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والصحابة رضي اللّه تعالى عنهم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 165
والتابعون واللغويون ، وقيل : وجه الحصر أنه لا يعتد بمكر غيره سبحانه لأنه سبحانه هو القادر بالذات على إصابة المكروه المقصود منه وغيره تعالى إن قدر على ذلك فبتمكينه تعالى وإذنه فالكل راجع إليه جل وعلا. وفي الكشاف أن قوله تعالى : يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلخ تفسير لقوله سبحانه : فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها فهو له المكر لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة مما يراد بهم ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي فلله جزاء المكر. وجوز في أل أن تكون للعهد أي له تعالى المكر الذي باشروه جميعا لا لهم ، على معنى أن ذلك ليس مكرا منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكر من اللّه تعالى بهم وهم لا يشعرون حيت لا يحيق المكر السيء إلا بأهله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ حين يأتيهم العذاب لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي العاقبة الحميدة من الفريقين وان جهل ذلك قبل ، وقيل : السين لتأكيد وقوع ذلك وعلمه به حينئذ ، والمراد من الكافر الجنس فيشمل سائر الكفار ، وهذه قراءة الحرميين. وأبي عمرو ، وقرأ باقي السبعة «وسيعلم الكفار» بصيغة جمع التكسير.
وقرأ ابن مسعود «الكافرون» بصيغة جمع السلامة ، وقرأ أبي «الذين كفروا» وقرأ «الكفر» أي أهله ، وقرأ جناح بن حبيس «وسيعلم» بالبناء للمفعول من أعلم أي سيخبر واللام للنفع ، وجوز أن تكون للملك على معنى سيعلم الكفرة من يملك الدنيا آخرا ، وفسر عطاء «الكافر» بالمستهزئين وهم خمسة والمقسمين وهم ثمانية وعشرون ، وقال ابن عباس :
يريد بالكافر أبا جهل ، وما تقدم هو الظاهر ، ولعل ما ذكر من باب التمثيل وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قيل :
قاله رؤساء اليهود.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسقف من اليمن فقال له عليه الصلاة والسلام : هل تجدني في الإنجيل رسولا؟ قال : لا. فأنزل اللّه تعالى الآية ،
فالمراد من الذين كفروا على هذا هذا ومن وافقه ورضي بقوله ، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة كلمتهم الشنعاء تعجيبا منها أو للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإنه جل وعلا قد أظهر على رسالتي من الأدلة والحجج ما فيه غنى عن شهادة شاهد آخر ، وتسمية ذلك شهادة مع أنه فعل وهي قول مجاز من حيث إنه يغني غناها بل هو أقوى منها وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أي علم القرآن وما عليه من النظم المعجز ، قيل : والشهادة إن أريد بها تحملها فالأمر ظاهر وإن أريد أداؤها فالمراد بالموصول المتصف بهذا العنوان من ترك العناد وآمن.
وفي الكشف أن المعنى كفى هذا العالم شهيدا بيني وبينكم ، ولا يلزم من كفايته في الشهادة أن يؤديها فمن أداها فهو شاهد أمين ومن لم يؤدها فهو خائن ، وفيه تعريض بليغ بأنهم لو أنصفوا شهدوا ، وقيل : المراد «بالكتاب» التوراة والإنجيل ، والمراد بمن عنده علم ذلك الذين أسلموا من أهل الكتابين كعبد اللّه بن سلام وأضرابه فإنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتابهم وإلى هذا ذهب قتادة ، فقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في الآية : كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبد اللّه بن سلام والجاورد وتميم الداري ، وسلمان الفارسي ، وجاء عن مجاهد وغيره وهي رواية عن ابن عباس أن المراد بذلك عبد اللّه ولم يذكروا غيره.
وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال : جاء عبد اللّه بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال : أنشدكم باللّه تعالى أتعلمون أني الذي أنزلت فيه وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ؟ قالوا : اللهم نعم.
وأنكر ابن جبير ذلك ، فقد أخرج سعيد بن منصور وجماعة عنه أنه سئل أهذا الذي عنده علم الكتاب هو عبد اللّه بن سلام؟ فقال : كيف وهذه السورة مكية. والشعبي أنكر أن يكون شيء من القرآن نزل فيه وهذا لا يعول عليه فمن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وأجيب عن شبهة ابن جبير بأنهم قد يقولون : إن السورة مكية وبعض آياتها مدنية فلتكن هذه من ذلك ، وأنت تعلم أنه لا بد لهذا من نقل.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 166
وفي البحر أن ما ذكر لا يستقيم إلا أن تكون هذه الآية مدنية والجمهور على أنها مكية ، وأجيب بأن ذلك لا ينافي كون الآية مكية بأن يكون الكلام إخبارا عما سيشهد به ، ولك أن تقول. إذا كان المعنى على طرز ما في الكشف وانه لا يلزم من كفاية من ذكر في الشهادة أداؤها لم يضر كون الآية مكية وعدم إسلام عبد اللّه بن سلام حين نزولها بل ولا عدم حضوره ، ولا مانع أن تكون الآية مكية ، والمراد من الذين كفروا أهل مكة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ اليهود والنصارى كما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ويكون حاصل الجواب لذلك إنكم لستم بأهل كتاب فاسألوا أهله فإنهم في جواركم. نعم قال شيخ الإسلام : إن الآية مدنية بالاتفاق وكأنه لم يقف على الخلاف ، وقيل :
المراد بالكتاب اللوح ومَنْ عبارة عنه تعالى وروي هذا عن مجاهد. والزجاج ، وعن الحسن لا واللّه ما يعني إلا اللّه تعالى ، والمعنى كما في الكشاف كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا وهو شهيدا بيني وبينكم ، وبهذا التأويل صار العطف مثله في قوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
فلا محذور في العطف ، والحصر إما من الخارج لأن علم ذلك مخصوص به تعالى أو للذهاب إلى أن الظرف خبر مقدم فيفيد الحصر. وقسم الحسن للمبالغة في رد ما زعموا على ما قيل : وفي الكشف إنما بالغ الحسن لما قدمنا «1»
من بناء السورة الكريمة على ما بني وجعل السابقة مثل الخاتمة وما في العطف من النكتة ، ولهذا فسره الزمخشري بقوله : كفى بالذي إلخ عطفه عطف ذات على ذات إشارة إلى الاستقلال بالشهادة من كل واحد من الوصفين من غير نظر إلى الآخر فالذي يستحق العبادة قد شهد بما شحن الكتاب من الدعوة إلى عبادته وبما أيد عبده من عنده بأنواع التأييد والذي لا يعلم علم ما في اللوح أي علم كل شيء إلا هو قد شهد بما ضمن الكتاب من المعارف وأنزل على أسلوب فائق على المتعارف ، ويعضد ذلك القول أنه قرأ على كرم اللّه تعالى وجهه. وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد اللّه بن عمر وابن أبي إسحاق ومجاهد والحكم والأعمش وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ يجعل من حرف جر والجار والمجرور خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه أيضا وابن السميفع والحسن بخلاف عنه وَمَنْ عِنْدَهُ بحرف الجر وعِلْمُ الْكِتابِ على أن علم فعل مبني للمفعول والْكِتابِ نائب الفاعل فإن ضمير عِنْدَهُ على القراءتين راجع للّه تعالى كما في القراءة السابقة على ذلك التأويل والأصل توافق القراءات ، وقيل : المراد - بالكتاب - اللوح «وبمن» جبريل عليه السلام. وأخرج تفسير مِنْ بذلك ابن أبي حاتم عن ابن جبير وهو كما ترى.
وقال محمد بن الحنفية والباقر - كما في البحر : المراد «بمن» علي كرم اللّه تعالى وجهه ، والظاهر أن المراد «بالكتاب» حينئذ القرآن ، ولعمري أن عنده رضي اللّه تعالى عنه علم الكتاب كملا لكن الظاهر أنه كرم اللّه تعالى وجهه غير مراد ، والظاهر أن مَنْ في قراءة الجمهور في محل جر بالعطف على لفظ الاسم الجليل ، ويؤيده أنه قرئ بإعادة الباء في الشواذ ، وقيل : إنه في محل رفع بالعطف على محله لأن الباء زائدة ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون في موضع رفع الابتداء والخبر محذوف تقديره أعدل أو أمضى قولا أو نحو هذا مما يدل عليه لفظ شَهِيداً ويراد بذلك اللّه تعالى ، وفيه من البعد ما لا يخفى ، والعلم في القراءة التي وقع عِنْدَهُ فيها صلة مرفوع بالمقدر في الظرف فيكون فاعلا لأن الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول فعمل عمل الفعل كقولك :
___________
(1) وقد ذكرناه فيما مر فتذكر اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 167
مررت بالذي في الدار أخوه فأخوه فاعل كما تقول : بالذي استقر في الدار أخوه قاله الزمخشري ، وليس بالمتحتم لأن الظرف وشبهه إذا وقعا صلتين أو صفتين أو حالين أو خبرين أو تقدمها أداة نفي أو استفهام جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعلية وهو الأجود وجاز أن يكون مبتدأ والظرف أو شبهه في موضع الخبر والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر ، وهذا مبني على اسم الفاعل فكما جاز ذلك فيه وإن كان الأحسن أعماله في الاسم الظاهر فكذلك يجوز فيما ناب عنه من ظرف أو مجرور ، وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو مررت برجل حسن وجهه فأجاز رفع حسن على أنه خبر مقدم ، وقد توهم بعضهم أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكر تحتم أعماله في الظاهر وليس كذلك ، وقد أعرب الحوفي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ مبتدأ وخبرا في صلة مَنْ وهو ميل إلى المرجوح ، وفي الآية على القراءتين بمن الجارة دلالة على أن تشريف العبد بعلوم القرآن من إحسان اللّه تعالى إليه وتوفيقه ، نسأل اللّه تعالى أن يشرفنا بهاتيك العلوم ويوفقنا للوقوف على أسرار ما فيه من المنطوق والمفهوم ويجعلنا ممن تمسك بعروته الوثقى واهتدى بهداه حتى لا يضل ولا يشقى ببركة النبي صلى اللّه عليه وسلم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ قيل : عهد اللّه تعالى مع المؤمنين القيام له سبحانه بالعبودية في السراء والضراء وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فيصلون بقولهم محبته وبأسرارهم مشاهدته سبحانه وقربته وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عند تجلي الصفات في مقام القلب فيشاهدون جلال صفة العظمة ويلزمهم الهيبة والخشية وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ عند تجلي الأفعال في مقام النفس فينظرون إلى البطش والعقاب فيلزمهم الخوف.
وسئل ابن عطاء ما الفرق بين الخشية والخوف؟ فقال : الخشية من السقوط عن درجات الزلفى والخوف من اللحوق بدركات المقت والجفا ، وقال بعضهم الخشية أدق والخوف أصلب وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ صبروا عما دون اللّه تعالى باللّه سبحانه لكشف أنوار وجهه الكريم أو صبروا في سلوك سبيله سبحانه عن المألوفات طلبا لرضاه وَأَقامُوا الصَّلاةَ صلاة المشاهدة أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات البدنية وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً أفادوا مما مننا عليهم من الأحوال والمقامات والكشوف وهذبوا المريدين حتى صار لهم ما صار لهم ظاهرا وباطنا أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات المالية أيضا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ الحاصلة لهم من تجلي الصفة الالهية السنية السَّيِّئَةَ التي هي صفة النفس ، وقال بعضهم : يعاشرون الناس بحسن الخلق فإن عاملهم أحد بالجفاء قابلوه بالوفاء أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ البقاء بعد الفناء أو العاقبة الحميدة جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ قيل : يدخلون جنة الذات ومن صلح من آباء الأرواح ويدخلون جنة الصفات بالقلوب ويدخلون جنة الأفعال ومن صلح من أزواج النفوس وذريات القوى أو يدخلون جنات القرب والمشاهدة والوصال ومن صلح من المذكورين تبع لهم - ولأجل عين ألف عين تكرم - وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ يدخل عليهم أهل الجبروت والملكوت من كل باب من أبواب الصفات محيين لهم بتحايا الإشراقات النورية والامدادات القدسية أو يدخل عليهم الملائكة الذين صحبوهم في الدنيا من كل باب من أبواب الطاعة مسلمين عليهم بعد استقرارهم في منازلهم كما يسلم أصحاب الغائب عليه إذا قدم إلى منزله واستقر فيه الَّذِينَ آمَنُوا
الإيمان العلمي بالغيب وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ قالوا : ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم ، وذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة صفات الجمال ، وذكر السر بالمناجاة ، وذكر الروح بالمشاهدة ، وذكر الخفاء بالمناغاة في العشق ، وذكر اللّه تعالى بالفناء فيه أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وذلك أن النفس تضطرب بظهور

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 168
صفاتها وأحاديثها وتطيش فيتلون القلب ويتغير لذلك فإذا تفكر في الملكوت ومطالعة أنوار الجمال والجبروت استقر واطمأن ، وسائر أنواع الذكر إنما يكون بعد الاطمئنان ، قال الهزجوري : قلوب الأولياء مطمئنة لا تتحرك دائما خشية أن يتجلى اللّه تعالى عليها فجأة فيجدها غير متسمة بالأدب الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تخلية وتحلية طُوبى لَهُمْ بالوصول إلى الفطرة وكمال الصفات وَحُسْنُ مَآبٍ بالدخول في جنة القلب وهي جنة الصفات أو طوبى لهم الآن حيث لم يوجد منهم ما يخالف رضاء محبوبهم وحسن مآب في الآخرة حيث لا يجدون من محبوبهم خلاف مأمولهم أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أي بحسب كسبها ومقتضاه أي كما تقتضي مكسوباتها من الصفات والأحوال التي تعرض لاستعدادها يفيض عليها من الجزاء قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ما أخرج سبحانه أحدا من العبودية حتى سيد أحرار البرية صلى اللّه عليه وسلم ، وفسرها أبو حفص بأنها ترك كل ملك وملازمة المأمور به.
وقال الجنيد قدس سره : لا يرتقي أحد في درجات العبودية حتى يحكم فيما بينه وبين اللّه تعالى أوائل البدايات وهي الفروض والواجبات والسنن والأوراد ، ومطايا الفضل عزائم الأمور فمن أحكم على نفسه هذا من اللّه تعالى عليه بما بعده وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً فيه على ما قيل إشارة إلى أنه إذا شرف اللّه تعالى شخصا بولايته لم يضر به مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد ولم يكن بسط الدنيا له قدحا في ولايته ، وقوله سبحانه : وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فيه منع طلب الكرامات واقتراحها من المشايخ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ لكل وقت أمر مكتوب يقع فيه ولا يقع في غيره ومن هنا قيل : الأمور مرهونة لأوقاتها ، وقيل : للّه تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قيل : يمحو عن ألواح العقول صور الأفكار ويثبت فيها أنوار الأذكار ويمحو عن أوراق القلوب علوم الحدثان ويثبت فيها لدنيات علم العرفان ، وقيل : يمحو العارفين بكشف جلاله ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله ، وقال ابن عطاء : يمحو أوصافهم ويثبت أسرارهم لأنها موضع المشاهدة ، وقيل : يمحو ما يشاء عن الألواح الجزئية التي هي النفوس السماوية من النقوش الثابتة فيها فيعدم عن المواد ويفني ويثبت ما يشاء فيها فيوجد وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ العلم الأزلي القائم بذاته سبحانه ، وقيل : لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل وفيه كل ما كان ويكون أزلا وأبدا على الوجه الكلي المنزه عن المحو والإثبات ، وذكروا أن الألواح أربعة. لوح القضاء السابق العالي عن المحو الإثبات وهو لوح العقل الأول. ولوح القدر وهو لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ.
ولوح النفوس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه. ثم لوح الهيولى القابل للصور في عالم الشهادة اه وهو كلام فلسفي أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قيل : ذلك بذهاب أهل الولاية الذين بهم عمارة الأرض ، وقيل : الإشارة أنا نقصد أرض وقت الجسد الشيخوخة ننقصها من أطرافها بضعف الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة شيئا فشيئا حتى يحصل الموت أو نأتي أرض النفس وقت السلوك ننقصها من أطرافها بإفناء أفعالها بأفعالنا أولا وبافناء صفاتها بصفاتنا ثانيا وبإفناء ذاتها في ذاتنا ثالثا لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا راد ولا مبدل لكل ما حكم به نسأل اللّه تعالى أن يحكم لنا بما هو خير وأولى في الآخرة والأولى بحرمة النبي صلى اللّه عليه وسلم تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 169
سورة إبراهيم
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير أنها نزلت بمكة ، والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك وهو الذي عليه الجمهور ، وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم : 28] الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين ، وأخرج نحوه أبو الشيخ عن قتادة ، وقال الإمام : إذا لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام فنزولها بمكة والمدينة سواء إذ لا يختلف الغرض فيه إلا أن يكون فيها ناسخ أو منسوخ فتظهر فائدته يعني أنه لا يختلف الحال وتظهر ثمرته إلا بما ذكر فإن لم يكن فليس فيه إلا ضبط زمان النزول وكفى به فائدة ، وهل في هذه السورة منسوخ أو لا؟ قولان والجمهور على الثاني. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن فيها آية منسوخة وهي قوله تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم : 34] فإنه قد نسخت باعتبار الآخر بقوله تعالى في سورة النحل : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل : 18] وفيه نظر ، وهي إحدى وخمسون آية في البصري ، وقيل : خمسون فيه ، واثنان وخمسون في الكوفي ، وأربع في المدني ، وخمس في الشامي.
وارتباطها بالسورة التي قبلها واضح جدا لأنه قد ذكر في تلك السورة من مدح الكتاب وبيان أنه مغن عما اقترحوه ما ذكر ، وافتتحت هذه بوصف الكتاب والإيماء إلى أنه مغن عن ذلك أيضا ، وإذا أريد ب مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد : 43] اللّه تعالى ناسب مطلع هذه ختام تلك أشد مناسبة ، وأيضا قد ذكر في تلك إنزال القرآن حكما عربيا ولم يصرح فيها بحكمة ذلك وصرح بها هنا وأيضا تضمنت تلك الأخبار من قبله تعالى بأنه ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللّه تعالى وتضمنت هذه الأخبار به من جهة الرسل عليهم السلام وأنهم قالوا : ما كان لنا أن نأتي بسلطان إلا بإذن اللّه ، وأيضا ذكر هناك أمره عليه الصلاة والسلام بأن عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ [الرعد : 30] وحكي هنا عن إخوانه المرسلين عليهم السلام توكلهم عليه سبحانه وأمرهم بالتوكل عليه جل شأنه ، واشتملت تلك على تمثيل للحق والباطل واشتملت هذه على ذلك أيضا بناء على بعض ما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى في قوله سبحانه : مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً [إبراهيم : 24] إلى آخره ، وأيضا ذكر في الأولى من رفع السماء ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر إلى غير ذلك ما ذكر وذكر هنا نحو ذلك إلا أنه سبحانه اعتبر ما ذكر أولا آيات وما ذكر ثانيا نعما وصرح في كل بأشياء لم يصرح بها في الآخر ، وأيضا قد ذكر هناك مكر الكفرة وذكر هنا أيضا وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك ، وأيضا قال الجلال السيوطي : إنه ذكر في الأولى قوله تعالى : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ [الرعد : 32] وذلك مجمل في أربعة مواضع الرسل. والمستهزئين.
وصفة الاستهزاء والأخذ وقد فصلت الأربعة في قوله سبحانه : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ [إبراهيم : 9] الآيات ، وقد اشتركت السورتان مما عدا افتتاح كل منهما بالمتشابه بأن كلا قد افتتح بالألف واختتم بالباء ، وجمعا أيضا في آخر ما ختما به ، وبقي مناسبات بينهما غير ما ذكرنا لو ذكرناها لطال الكلام واللّه تعالى أعلم بما في كتابه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 170
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 إلى 34]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24)
تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 171
الر مر الكلام فيما يتعلم به كِتابٌ جوز فيه أن يكون خبرا - لألر - على تقدير كونه مبتدأ أو لمبتدأ مضمر على تقدير كونه خبرا لمبتدأ محذوف أو مفعول لفعل محذوف أو مسرودا على نمط التعديد ، وجوز أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ الذي أخبر عنه - بالر - وأن يكون مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه موصوفا في التقدير أي كتاب عظيم ، وقوله تعالى : أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ إما في موضع الصفة أو الخبر وهو مع مبتدآته قيل في موضع التفسير ، وفي إسناد الإنزال

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 172
إلى ضمير العظمة ومخاطبته عليه الصلاة والسلام مع إسناد الإخراج إليه صلى اللّه عليه وسلم في قوله سبحانه : لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ما لا يخفى من التفخيم والتعظيم ، واللام متعلقة ب أَنْزَلْناهُ ، والمراد من الناس جميعهم أي أنزلناه إليك لتخرجهم كافة بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحة عن كونه من عند اللّه تعالى الكاشفة عن العقائد الحقة من عقائد الكفر والضلال وعبادة اللّه عزّ وجلّ من الآلهة المختلفة كالملائكة وخواص البشر والكواكب والأصنام التي كلها ظلمات محضة وجهالات صرفة إلى الحق المؤسس على التوحيد الذي هو نور بحت وقرئ «ليخرج الناس» بالياء التحتانية في «يخرج» ورفع «الناس» به بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتيسيره وتوفيقه تعالى وهو مستعار من الاذن الذين يوجب تسهيل الحجاب لمن يقصد الورود ، ويجوز أن يكون مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم ، وقال محيي السنة : اذنه تعالى أمره وقيل : علمه سبحانه وقيل : إرادته جل شأنه وهي على ما قيل متقاربة ، ومنه الإمام أن يراد بذلك الأمر أو العلم وعلله بما لا يخلو عن نظر. وفي الكلام على ما ذكر أولا ثلاث استعارات.
إحداهما ما سمعت في الاذن والأخريان في الظُّلُماتِ والنُّورِ وقد أشير إلى المراد منهما ، وجوز العلامة الطيبي أن تكون كلها استعارة مركبة تمثيلية بتصوير الهدى بالنور والضلال بالظلمة والمكلف المنغمس في ظلمة الكفر بحيث لا يتسهل له الخروج إلى نور الايمان إلا بتفضل اللّه تعالى بإرسال رسول بكتاب يسهل عليه ذلك كمن وقع في تيه مظلم ليس منه خلاص فبعث ملك توقيعا لبعض خواصه في استخلاصه وضمن تسهيل ذلك على نفسه ثم استعمل هنا ما كان مستعملا هناك فقيل : كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إلى آخره ، وكان الظاهر - بإذننا - إلا أنه وضع ذلك الظاهر موضع الضمير ، وقيل : رَبِّهِمْ للإشعار بالتربية واللطف والفضل وبأن الهداية لطف محض ، وفيه أن الكتاب والرسول والدعوة لا تجدي دون إذن اللّه تعالى كما قال سبحانه : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص : 56] اه ، وما ذكره من الاستعارة التمثيلية مع بلاغته وحسنه لا يخلو عن بعد ، وكأنه للإنباء عن كون التيسير والتوفيق منوطين بالإقبال إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى : وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ [الرعد : 27] استعير لذلك الاذن الذي هو ما علمت ، وأضيف إلى ضمير الناس اسم الرب المفصح عن التربية التي هي عبارة عن تبليغ الشيء إلى كماله المتوجه إليه ، وشمول الإذن بذلك المعنى للكل واضح وعليه يدور كون الانزال لإخراجهم جميعا ، وعدم تحقق الاذن بالفعل في بعضهم لعدم تحقق شرطه المستند إلى سوء اختيارهم ورداءة استعدادهم غير مخل بذلك ، ومن هنا فساد قول الطبرسي : إن اللام لام الغرض لا لام العاقبة وإلا لزم أن يكون جميع الناس مؤمنين والواقع بخلافه ، وذكر الإمام أن المعتزلة استدلوا بهذه الآية على أن أفعال اللّه تعالى تعلل برعاية المصالح ، ثم ساق دليل أصحابه على امتناع ذلك وذكر أنه إذا ثبت الامتناع يلزم تأويل كل ما أشعر بخلافه وتأويله بحمل
اللام على لام العاقبة ونحوها ، ونقل عن ابن القيم وغيره القول بالتعليل وأنه مذهب السلف وأن في الكتاب والسنة ما يزيد على عشرة آلاف موضع ظاهرة في ذلك وتأويل الجميع خروج عن الإنصاف ، وليس الدليل على امتناع ذلك من المتانة على وجه يضطر معه إلى التأويل ، وللشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله كلام نفيس في هذا الغرض سالم فيما أرى عن العلة إن أردته فارجع إليه ، والباء متعلقة - بتخرج - على ما هو الظاهر ، وجوز أن يكون متعلقا بمضمر وقع حالا من مفعوله أي ملتبسين بإذن ربهم ، ومنهم من جوز كونه حالا من فاعله أي ملتبسا بإذن ربهم. وتعقب بأنه يأباه إضافة الرب إليهم لا إليه صلى اللّه عليه
وسلم. ورد بما رد فتأمل. واستدل بالآية القائلون بأن معرفة اللّه تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم من الرسول صلى اللّه عليه وسلم حيث ذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي يخرج الناس من ظلمات الضلال إلى نور الهدى. وأجيب بأن الرسول عليه الصلاة والسلام كالمنبه وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل. واستدل بها أيضا كل من المعتزلة وأهل السنة على مذهبه في أفعال العباد وتفصيل ذلك في تفسير الإمام.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 173
إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما تقدم أعني قوله تعالى : إِلَى النُّورِ وقال غير واحد : إن صِراطِ بدل من النُّورِ وأعيد عامله وكرر لفظا ليدل على البدلية كما في قوله تعالى : لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف : 75] ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه بما قبله لأنه غير أجنبي إذ هو من معمولات العامل في المبدل منه على كل حال. واستشكل هذا مع الاستعارة السابقة بأن التعقيب بالبدل لا يتقاعد عن التعقيب بالبيان في مثل قوله تعالى : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة : 187] وأجيب بأن الصراط استعارة أخرى للهدى جعل نورا أولا لظهوره في نفسه واستضاءة الضلال في مهواة الهوى به ، ثم جعل ثانيا جادة مسلوكة مأمونة لا كبنيات الطرق دلالة على تمام الإرشاد.
وفي الإرشاد أن إخلال البيان والبدل بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز وهو ظاهر ، وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف على أنه جواب سائل يسأل إلى أي نور؟ فقيل : إِلى صِراطِ إلى آخره ، وإضافة الصراط إليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له ، وتخصيص الوصفين الجليلين بالذكر للترغيب في سلوكه إذ في ذلك إشارة إلى أنه يعز سالكه ويحمد سابله ، وقال أبو حيان : النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا يقدر عليه سواه ، وصفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر.
وقال الإمام : إنما قدم ذكر الْعَزِيزِ على ذكر الْحَمِيدِ لأن الصحيح أن أول العلم باللّه تعالى العلم بكونه تعالى قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا عن الحاجات ، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد اه ولم نر تفسير الْحَمِيدِ بما ذكر لغيره ، وفي المواقف وشرح أسماء اللّه تعالى الحسنى لحجة الإسلام الغزالي وغيرهما أن الْحَمِيدِ هو المحمود المثني عليه وهو سبحانه محمود بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له تعالى أبدا ، وبين هذا وما ذكره الإمام بعد بعيد ، وأما ما ذكره في الْعَزِيزِ فهو قول لبعضهم وقيل : هو الذي لا مثل له.
وربما يقال على هذا : إن التقديم للاعتناء بالصفات السلبية كما يؤذن به قولهم : التخلية أولى من التحلية وكذا قوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى : 11] ولعل كلامه قدس سره بعد لا يخلو عن نظر ، وقوله تعالى : اللَّهِ بالرفع على ما قرأ نافع. وابن عامر خبر مبتدأ محذوف أي هو اللّه والموصول الآتي صفته ، وبالجر على قراءة باقي السبعة والأصمعي عن نافع بدل مما قبله في قول ابن عطية : والحوفي وأبي البقاء ، وعطف بيان في قول الزمخشري قال : لأنه أجري مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود بحق كما غلب النجم على الثريا ، ولعل جعله جاريا مجرى ذلك ليس لاشتراطه في عطف البيان بل لأن عطف البيان شرطه إفادة زيادة إيضاح لمتبوعه وهي هنا بكونه كالعلم باختصاصه بالمعبود بحق وقد خرج عن الوصفية بذلك فليس صفة كالعزيز الحميد.
ثم إنه لا يخفى عليك أنه عند الأئمة المحققين علم لا أنه كالعلم ، وعن ابن عصفور أنه لا تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل ، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان : أحدهما أن تقدم الصفة وتبقيها على ما كانت عليه ، وفي إعراب مثل هذا وجهان : أحدهما إعرابه نعتا مقدما. والثاني أن يجعل ما بعد الصفة بدلا ، والوجه الثاني أن تضيف الصفة إلى الموصوف اه ، وعلى هذا يجوز أن يكون الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ صفتين متقدمتين ويعرب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 174
الاسم الجليل موصوفا متأخرا ، ومما جاء فيه تقديم ما لو أخر لكان صفة وتأخير ما لو قدم لكان موصوفا قوله :
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسعد
فلو جاء على الكثير لكان التركيب والمؤمن الطير العائذات ، ومثله قوله :
لو كنت ذا نبل وذا تشذيب لم أخش شدات الخبيث الذيب
وجوز في قراءة الرفع كون الاسم الجليل مبتدأ وقوله تعالى الَّذِي لَهُ أي ملكا وملكا ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خبره وما تقدم أولى ، فإن في الوصفية من بيان كمال فخامة شأن الصراط وإظهار تحتم سلوكه على الناس ما ليس في الخبرية ، والمراد بما في السموات وما في الأرض ما وجد داخلا فيهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما ، ومن الناس من استدل بعموم ما على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى كما ذكره الإمام ، وقوله تعالى :
وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور بالويل.
وهو عند بعض نقيض الوأل بالهمزة بمعنى النجاة فمعناه الهلاك فهو مصدر إلا أنه لا يشتق منه فعل إنما يقال : ويلا له فينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال : ويل له كسلام عليك ، وقال الراغب : قال الأصمعي ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر ، وويس استصغار ، وويح ترحم ، ومن قال : هو واد في جهنم لم يرد أنه في اللغة موضوع لذلك وإنما أراد أن من قال اللّه تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت له ذلك ، وقوله سبحانه :
مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ في موضع الصفة لويل ولا يضر الفصل على ما في البحر وغيره بالخبر ، وجوز أن يكون في موضع الحال على ما في الحواشي الشهابية ومِنْ بيانية ، وجوز أن تكون ابتدائية على معنى أن الويل بمعنى عدم النجاة متصل بالعذاب الشديد وناشىء عنه ، وقيل إن الجار متعلق : بويل على معنى أنهم يولولون من العذاب ويضجون من قائلين يا ويلاه كقوله تعالى : دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الفرقان : 13] ومنع أبو حيان وأبو البقاء ذلك لما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر وهو لا يجوز ، وقد مر قريبا في الرعد ما يتعلق بذلك فتذكر فما في العهد من قدم. وفي الكشاف أن مِنْ عَذابٍ إلخ مصل بالويل على معنى أنهم يولولون إلى آخر ما ذكرنا ، وهو محتمل لتعلقه به ولتعلقه بمحذوف ، واستظهر هذا في البحر. وفي الكشف أن الزمخشري لما رأى أن الويل من الذنوب لا من العذاب كما يرشد إليه قوله تعالى : فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة : 79] وأمثاله أشار هنا إلى أن الاتصال معنوي لا من ذلك الوجه فإنه هناك جعل الويل نفس العذاب وهنا جعله تلفظهم بكلمة التلهف من شدة العذاب وكلاهما صحيح ، ولم يرد أن هنالك فصلا بالخبر لقرب ما مر في قوله تعالى : سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرعد : 24] اه.
واعترض عليه بأنه لا حاجة لما ذكر من التكلف لأن اتصاله به ظاهر لا يحتاج إلى صرفه للتلفظ بتلك الكلمة ، ومِنْ بيانية لا ابتدائية حتى يحتاج إلى ما ذكر ، ولا يخفى قوة ذلك وأنه لا يحتاج إلى التكلف ولو جعلت مِنْ ابتدائية فتأمل ، والظاهر أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الآخرة ، وجوز أن يكون المراد عذابا يقع بهم في الدنيا الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليه من غيره ، فالسين للطلب ، والمحبة مجاز مرسل عن الاختيار والإيثار بعلاقة اللزوم في الجملة فلا يضر وجود أحدهما بدون الآخر كاختيار المريض الدواء المر لنفعه وترك ما يحبه ويشتهيه من الأطعمة اللذيذة لضرره ، ولاعتبار التجوز عدى الفعل بعلى ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب بمعنى أجاب والفعل مضمن معنى الاختيار والتعدية بعلى لذلك وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعوقون الناس ويمنعونهم عن دين اللّه تعالى والإيمان به وهو الصراط الذي بين شأنه ، والاقتصار على الإضافة إلى الاسم الجليل المنطوي على كل وصف جميل لزوم الاختصار.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 175
وقرأ الحسن «يصدون» من أصد المنقول من صده صدودا إذا تنكب وحاد وهو ليس بفصيح بالنسبة إلى القراءة الأخرى لأن في صده مندوحة عن تكلف النقل ولا محذور في كون القراءة المتواترة أفصح من غيرها ، ومن مجيء أصد قوله :
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم صدود السواقي عن أنوف الحوائم
ونظير هذا وقفه وأوقفه وَيَبْغُونَها أي يبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير أي يطلبون لها عِوَجاً أي زيغا واعوجاجا وهي أبعد شيء عن ذلك أي يقولون لمن يريدون صده وإضلاله عن السبيل هي سبيل ناكبة وزائغة غير مستقيمة ، وقيل : المعنى يطلبون أن يروا فيها ما يكون عوجا قادحا فيها كقول من لم يصل إلى العنقود وليسوا بواجدين ذلك ، وكلا المعنيين أنسب مما قيل : إن المعنى يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة. ومحل موصول هذه الصلات الجر على أنه بدل كما قيل من الكافرين فيعتبر كل وصف من أوصافهم بما ينسابه من المعاني المعتبرة في الصراط ، فالكفر المنبئ عن الستر بإزال كونه نورا ، واستحباب الحياة الدنيا الفانية المفصحة عن وخامة العاقبة بمقابلة كون مسلوكه محمود العاقبة. والصد عنه بإزالة كون سالكه عزيزا.
وقال الحوفي. وأبو البقاء : إنه صفة الكافرين ورد ذلك أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ سواء كان في موضع الصفة - لويل - أو متعلقا بمحذوف ، ونظير ذلك على الوصفية قولك : الدار لزيد الحسنة القرشي وهو لا يجوز لأنك قد فصلت بين زيد وصفته بأجنبي عنهما والتركيب الصحيح فيه أن يقال الدار الحسنة لزيد القرشي أو الدار لزيد القرشي الحسنة ، وقيل إذا جعل مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراضية لا يضر الفصل بها وهو كما ترى وجوز أن يكون محله النصب على الذم أو الرفع عليه بأن يقدر أنه كان نعتا فقطع أي هم الذين ، وجوز أن لا يقدر ذلك ويجعل مبتدأ خبره قوله تعالى : أُولئِكَ فِي ضَلالٍ أي بعد عن الحق بَعِيدٍ وهو على غير هذا الوجه استئناف في موضع التعليل ، وفيه تأكيد لما أشعر به بناء الحكم على الموصول ، والمراد أنهم قد ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل. وفي الآية من المبالغة في ضلالهم ما لا يخفى حيث أسند فيها إلى المصدر ما هو لصاحبه مجازا - كجد جده - إلا أن الفرق بين ما نحن فيه وذاك أن المسند إليه في الأول مصدر غير المسند وفي ذاك مصدره وليس بينهما بعد.
ويجوز أن يقال : إنه أسند فيها ما للشخص إلى سبب اتصافه بما وصف به بناء على أن البعد في الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده وسبب بعده ضلاله لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه ، فيكون كقولك : قتل فلانا عصيانه ، والإسناد مجازي وفيه المبالغة المذكورة أيضا ، وفي الكشاف هو من الإسناد المجازي والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله ، ويجوز أن يراد في ضلال ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال قد يضل عن الطريق مكانا قريبا وبعيدا ، وكتب عليه في الكشف أن الاسناد المجازي على جعل البعد لصاحب الضلال لأنه الذي يتباعد عن طريق الضلال فوصف ضلاله بوصفه مبالغة وليس المراد ابعادهم في الضلال وتعمقهم فيه.
وأما قوله : فيجوز أن يراد في ضلال ذي بعد فعلى هذا البعد صفة للضلال حقيقة بمعنى بعد غوره وأنه هاوية لا نهاية لها ، وقوله : أو فيه بعد على جعل الضلال مستقرا للبعد بمنزلة مكان بعيد عن الجادة وهو معنى بعده في نفسه عن الحق لتضادهما ، وإليه الإشارة بقوله : لأن الضال قد يضل مكانا بعيدا وقريبا ، والغرض بيان غاية التضاد وأنه بعد لا يوازن وزانه ، وعلى جميع التقارير البعد مستفاد من البعد المسافي إلى تفاوت ما بين الحق والباطل أو ما بين أهلهما وجاز أن يكون قوله : ذي بعد أو فيه بعد وجها واحدا إشارة إلى الملابسة بين الضلال والبعد لا بواسطة صاحب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 176
الضلال لكن الأول أولى تكثيرا للفائدة ، ثم قوله تعالى : أُولئِكَ فِي ضَلالٍ دون أن يقول سبحانه : أولئك ضالون ضلالا بعيدا للدلالة على تمكنهم فيه تمكن المظروف في الظرف وتصوير اشتمال الضلال عليهم اشتمال المحيط على المحاط وليكون كناية بالغة في إثبات الوصف أعني الضلال على الأوجه فافهم.
وَما أَرْسَلْنا أي في الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر إن شاء اللّه تعالى إجمالا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا متلبسا بِلِسانِ قَوْمِهِ متكلما بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولا ، وقيل : بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم ، ولا ينتقض الحصر بلوط عليه السلام فإنه تزوج منهم وسكن معهم ، وأما يونس عليه السلام فإنه من القوم الذين أرسل إليهم كما قالوه فلا حاجة إلى القول بأن ذلك باعتبار الأكثر الأغلب ولعل الأولى ما ذكرنا. وقرأ أبو السمال. وأبو الحوراء. وأبو عمران الجوني «بلسن» بإسكان السين على وزن ذكر وهي لغة في لسان كريش ورياش ، وقال صاحب اللوامح : إنه خاص باللغة واللسان يطلق عليها وعلى الجارحة وإلى ذلك ذهب ابن عطية. وقرأ أبو رجاء.
وأبو المتوكل. والجحدري «بلسن» بضم اللام والسين وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرئ «بلسن» بضم اللام وسكون السين وهو مخفف لسن كرسل ورسل لِيُبَيِّنَ ذلك الرسول لَهُمْ لأولئك القوم الذين أرسل إليهم ما كلفوا به فيتلقوه منه بسهولة وسرعة فيمتثلوا ذلك من غير حاجة إلى الترجمة وحيث لم تتأت هذه القاعدة في شأن سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم وعلى إخوانه المرسلين أجمعين لعموم بعثته وشمول رسالته الأسود والأحمر والجن والبشر على اختلاف لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل إليه صلى اللّه عليه وسلم عليه حسب تعدد ألسنة الأمم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالإعجاز مئنة لقدح القادحين ، واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الإلجاء المنافي للتكليف ، وحصل البيان بالترجمة والتفسير اقتضت «1»
الحكمة المنبئ عن العزة وجلالة الشأن المستتبع لفوائد غنية عن البيان ، على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لا بد لكل طائفة من معرفة توافق الكل حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو في خصلة فذة ، وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحدا أو متعددا وفيه من التعذر ما فيه ، ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومه الذين بعث بين ظهرانيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المبين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامه بين الأمم أجمعين ، كذا قرره شيخ الإسلام والمسلمين وهو من الحسن بمكان ، بيد أن بعضهم أبقى الكلام على عمومه بحيث يشمل النبي «2»
صلى اللّه عليه وسلم وأراد بالقوم الذين ذلك الرسول منهم وبعث فيهم ، والمراد من قومه صلى اللّه عليه وسلم العرب كلهم ، ونقل ذلك أبو شامة في المرشد عن السجستاني واحتج
بقوله صلى اللّه عليه وسلم : «أنزل القرآن على سبعة أحرف»
وفيه نظر ظاهر.
وقال ابن قتيبة : المراد منهم قريش ولم ينزل القرآن إلا بلغتهم ، وقيل : إنما نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر رضي اللّه تعالى عنه : نزل القرآن بلغة مضر ، وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر سبعا منهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش ، وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : نزل بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة فقيل : وكيف؟ فقال : لأن الدار واحدة يعني خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم وجاء عن أبي صالح عنه أنه قال : نزل على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن ويقال لهم عليا هوازن ، ومن هنا قال أبو عمرو بن العلاء : أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني بني دارم ، والذي يذهب مذهب السجستاني يقول : إن في القرآن ما نزل بلغة حمير. وكنانة. وجرهم. وأزدشنوءة. ومذحج وخثعم وقيس عيلان وسعد العشيرة.
___________
(1) قوله اقتضت إلخ هكذا بخطه اه منه.
(2) ادعى بعضهم أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يعلم كل اللغات لعموم البعثة وإن كان لم يتكلم على خلاف بغير العربية فافهم ولا تغفل اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 177
وكندة. وعذرة. وحضر موت. وغسان. ومزينة. ولخم. وجذام. وحنيفة. واليمامة. وسبأ. وسليم. وعمارة. وطي.
وخزاعة. وعمان. وتميم. وإنمار. والأشعريين. والأوس. والخزرج. ومدين وقد مثل لكل ذلك أبو القاسم ، وذكر أبو بكر الواسطي أن في القرآن من اللغات خمسين لغة وسردها ممثلا لها إلا أنه ذكر أن فيه من غير العربية الفرس والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط ، والذاهب إلى ما ذهب إليه ابن قتيبة يقول : إن ما نسب إلى غير قريش على تقدير صحة نسبته مما يوافق لغتهم ، ونقل أبو شامة عن بعض ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح لسائر العرب أن تقرأه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها كاختلافهم في اللفظ والإعراب ، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة. ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل المراد لكن أنت تعلم أن هذه الإباحة لم تستمر ، وكون المتبادر من قومه عليه الصلاة والسلام قريشا مما لا أظن أن أحدا يمتري فيه ويليه في التبادر العرب. وفي البحر أن سبب نزول الآية أن قريشا قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ وهذا إن صح ظاهر في العموم ، ثم إنه لا يلزم من كون لغته لغة قريش أو العرب اختصاص بعثته صلى اللّه عليه وسلم بهم ، وإن زعمت طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية اختصاص البعثة بالعرب لذلك ، وحكمة إنزاله بلغتهم أظهر من أن تخفى ، وقيل : الضمير في قَوْمِهِ لمحمد صلى اللّه عليه وسلم المعلوم من السياق فإنه كما أخرج ابن أبي عن سفيان الثوري لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه ، وقيل :
كان يترجم ذلك جبريل عليه السلام ونسب إلى الكلبي ، وفيه أنه إذا لم يقع التبيين إلا بعد الترجمةفات الغرض مما ذكر ، وضمير لَهُمْ للقوم بلا خلاف وهم المبين لهم بالترجمة. وفي الكشاف أن ذلك ليس بصحيح لأن ضمير لَهُمْ للقوم وهم العرب فيؤدي إلى أن اللّه تعالى أنزل التوراة مثلا بالعربية ليبين للعرب وهو معنى فاسد.
وتكلف الطيبي دفع ذلك بأن الضمير راجع إلى كل قوم قوم بدلالة السياق ، والجواب كما في الكشف أنه لا يدفع عن الإيهام على خلاف مقتضى المقام. واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توقيفية قال :
لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل. وقد دلت الآية على أن إرسال كل من الرسل لا يكون إلا بلغة قومه وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسول ، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالاصطلاح انتهى.
وأجيب بأنا لا نسلم توقف التوقيف على إرسال الرسل لجواز أن يخلق اللّه تعالى في العقلاء علما بأن الألفاظ وضعها واضع لكذا وكذا ، ولا يلزم من هذا كون العاقل عالما باللّه تعالى بالضرورة بل الذي يلزم منه ذلك لو خلق سبحانه في العقلاء علما ضروريا بأنه تعالى الواضع وأين هذا من ذاك ، على أنه لا ضرر في التزام خلق اللّه تعالى هذا العلم الضروري وأي ضرر في كونه سبحانه معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء؟ والقول بأنه يبطل التكليف حينئذ على عمومه غير مسلم وعلى تخصيص بالمعرفة مسلم وغير ضار فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ إضلاله أي يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه ، وقيل : يخذله فلا يلطف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف وَيَهْدِي يخلق الهداية أو يمنح الألطاف مَنْ يَشاءُ هدايته لما فيه من الأسباب المؤدية إلى ذلك ، والالتفات بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل لتفخيم شأنهما وترشيخ مناط كل منهما ، والفاء قيل فصيحة مثلها في قوله تعالى : فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [البقرة : 60] «1»
كأنه قيل : فبينوه لهم فأضل اللّه تعالى من شاء إضلاله وهدى من شاء هدايته حسبما اقتضته حكمته تعالى البالغة ، والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به وجريان كل من الفعلين
___________
(1) هكذا نظمها وجاء في أصل المؤلف «فانفلق» وهو غلط اه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 178
على سننه أمر محقق غني عن الذكر والبيان. وفي الكشف وجه التعقيب عن السابق كوجهه في قوله تعالى : يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة : 26] على معنى أرسلنا الكتاب للتبين فمنهم من نفعناه بذلك البيان ومنهم من جعلناه حجة عليه ، والفاء على هذه تفصيلية ، والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو الدلالة على التجدد والاستمرار حيث تجدد البيان من الرسل عليهم السلام المتعاقبة عليهم ، وتقديم الإضلال على الهداية - كما قال بعض المحققين - إما لأنه إبقاء ما كان على ما كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أنه لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل عليهم السلام وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتب الضلالة أسرع من ترتب الاهتداء ، وهذا محقق لما سلف من تقييد لإخراج من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يغالب في مشيئته تعالى الْحَكِيمُ فلا يشاء ما يشاء إلا لحكمة بالغة ، وفيه كما في البحر وغيره أن ما فوض إلى الرسول عليهم الصلاة والسلام إنما هو التبليغ وتبيين طريق الحق ، وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد اللّه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ثم إن هذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الضلالة والهداية بخلقه سبحانه ، وقد ذكر المعتزلة لها عدة تأويلات ، وللإمام فيها كلام طويل إن أردته فارجع إليه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى شروع في تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ الآية بِآياتِنا أي ملتبسا بها وهي كما أخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد. وعطاء. وعبيد بن عمير الآيات التسع التي أجراها اللّه تعالى على يده عليه السلام ، وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ بمعنى أي أخرج - فإن - تفسيرية لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه أو بأن أخرج فهي مصدرية حذف قبلها حرف الجر لأن أرسل يتعدى بالباء ، والجار يطرد حذفه قبل أن وأن ، واتصال المصدرية بالأمر أمر مر تحقيقه.
وزعم بعضهم أن أَنْ هنا زائدة ولا يخفى ضعفه ، والمراد من قومه عليه السلام كما هو الظاهر بنو إسرائيل ومن إخراجهم إخراجهم بعد مهلك فرعون مِنَ الظُّلُماتِ من الكفر والجهالات التي كانوا فيها وأدت بهم إلى أن يقولوا : يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف : 138] إِلَى النُّورِ إلى الإيمان باللّه تعالى وتوحيده وسائر ما أمروا به ، وقيل : أخرجهم من ظلمات النقص إلى نور الكمال وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي بنعمائه وبلائه كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، واختاره الطبري لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من الكلام ، والعطف على أَخْرِجْ وجوز أن تكون الجملة مستأنفة ، والالتفات من التكلم إلى الغيبة بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنها والإشعار - على ما قيل - بعدم اختصاص ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومه كما يوهمه الإضافة إلى ضمير المتكلم ، وحاصل المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وعن ابن عباس أيضا والربيع ومقاتل وابن زيد المراد - بأيام اللّه - وقائعه سبحانه ونقماته في الأمم الخالية ، ومن ذلك أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار ويوم الفجار ويوم قضة وغيرها ، واستظهره الزمخشري للغلبة العرفية وأن العرب استعملته للوقائع ، وأنشد الطبرسي لذلك قول عمرو بن كلثوم :
وأيام لنا غرر طوال عصينا الملك فيها إن ندينا
وأنشده الشهاب للمعنى السابق ، وأنشد لهذا قوله :
وأيامنا مشهورة في عدونا وأخرج النسائي وعبد اللّه بن أحمد في زوائد المسند. والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن أبي بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه فسر الأيام في الآية بنعم اللّه تعالى وآلائه ، وروى ذلك ابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد
وجعل أبو

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 179
حيان من ذلك بيت عمرو ، والأظهر فيه ما ذكره الطبرسي.
وأنت تعلم أنه إن صح الحديث فعليه الفتوى ، لكن ذكر شيخ الإسلام في ترجيح التفسير المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أولا على ما روي ثانيا بأنه يرد الثاني ما تصدى له عليه السلام بصدد الامتثال من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى بعد ، وهو يبعد صحة الحديث ، والقول بأن النقم بالنسبة إلى قوم نعم بالنسبة إلى آخرين كما قيل :
مصائب قوم عند قوم فوائد مما لا ينبغي أن يلتفت إليه عاقل في هذا المقام. نعم إن قوله تعالى : اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ظاهر في تفسير الأيام بالنعم وما يستدعي غير ذلك ستسمع فيه أقوالا لا يستدعيه على بعضها.
وزعم بعضهم أن المراد من قومه عليه السلام القبط والظُّلُماتِ والنُّورِ الكفر والإيمان لا غير ، وقيل :
قومه عليه السلام القبط. وبنو إسرائيل وكان عليه السلام مبعوثا إليهم جميعا إلا أنه بعث إلى القبط بالاعتراف بوحدانية اللّه تعالى وأن لا يشركوا به سبحانه شيئا ، وإلى بني إسرائيل بذلك وبالتكليف بفروع الشريعة.
وقيل : هم بنو إسرائيل فقط إلا أن المراد من الظُّلُماتِ والنُّورِ إن كانوا كلهم مؤمنين ظلمات ذل العبودية ونور عزة الدين وظهور أمر اللّه تعالى ، ونحن نقول : نسأل اللّه تعالى أن يخرجنا وأهل هذه الأقوال من ظلمات الجهل إلى نور العلم إِنَّ فِي ذلِكَ أي في التذكير بأيام اللّه تعالى أو في الأيام لَآياتٍ عظيمة أو كثيرة دالة على وحدانية اللّه تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ، وهي على الأول الأيام ، ومعنى كون التذكير ظرفا لها كونه مناطا لظهورها ، وعلى الثاني كذلك أيضا إلا أن كلمة فِي تجريدية أو هي عليه كل واحدة من النعماء والبلاء ، والمشار إليه المجموع المشتمل عليها من حيث هو مجموع ، وجوز أن يراد بالأيام فيما سبق أنفسها المنطوية على النعم والنقم ، فإذا كانت الإشارة إليها وحملت الآيات على النعماء والبلاء فأمر الظرفية ظاهر لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر على بلائه تعالى شَكُورٍ كثير الشكر لنعمائه عز وجل.
وقيل : المراد لكل مؤمن ، فعلى الأول الوصفان عبارتان لمعنيين ، وعلى هذا عبارة عن معنى واحد على طريق الكناية كحي مستوي القامة بادي البشرة في الكناية عن الإنسان ، والتعبير عن المؤمن بذلك للإشعار بأن الصبر والشكر عنوان المؤمن الدال على ما في باطنه. والمراد على ما قيل لكل من يليق بكمال الصبر والشكر أو الإيمان ويصير أمره إلى ذلك لا لمن اتصف به بالفعل لأن الكلام تعليل للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدي إلى تلك المرتبة ، فإن من تذكر ما فاض أو نزل عليه أو على ما قبله من النعمة والنقمة وتنبه لعاقبة الصبر والشكر أو الإيمان لا يكاد يفارق ذلك وتخصيص الآيات بالصبار الشكور لأنه المنتفع بها لا لأنها خافية عن غيره فإن التبيين حاصل بالنسبة إلى الكل ، وتقديم الصبر على الشكر لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضي للشكر ، وقيل : لأنه من قبيل التروك يقال :
صبرت الدابة إذا حبستها بلا علف والشكر ليس كذلك فإنه - كما قال الراغب - تصور النعمة وإظهارها ، قيل : وهو مقلوب الكشر أي الكشف ، وقيل : أصله من عين شكرى أي ممتلئة فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه ، وهو على ثلاثة أضرب : شكر القلب. وشكر اللسان. وشكر الجوارح ، وذكر أن توفية شكر اللّه تعالى صعبة ، ولذلك لم يثن سبحانه بالشكر على أحد من أوليائه إلا على اثنين نوح «1»
وإبراهيم «2»
عليهما السلام ، وقد يكون انقسام الشكر
___________
(1) قال تعالى فيه إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً اه منه.
(2) قال فيه «شاكرا لأنعمه اجتباه» اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 180
على النعمة وعدم انقسام الصبر على النقمة وجها للتقديم والتأخير ، وقيل : ذلك لتقدم متعلق الصبر - أعني البلاء - على متعلق الشكر أعني النعماء.
وَإِذْ قالَ مُوسى شروع في بيان تصديه عليه السلام لما أمر به من التذكير للإخراج المذكور وَإِذْ منصوب على المفعولية عند كثير بمضمر خوطب به النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث لما مر غير مرة أي اذكر لهم وقت قوله عليه السلام لِقَوْمِهِ الذين أمرناه بإخراجهم من الظلمات إلى النور اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تعالى الجلية عَلَيْكُمْ وبدا عليه السلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبل وهي إليه أميل ، وقيل : بدأ بهذا الأمر لما بينه وبين آخر الكلام السابق من مزيد الربط ، ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير أن يكون عليه السلام مأمورا بالترغيب والترهيب ، أما إذا كان مأمورا بالترغيب فقط فلا سؤال ، والظرف متعلق بنفس النعمة أن جعلت مصدرا بمعنى الأنعام أو بمحذوف وقع حالا منها إن جعلت اسما أي اذكروا انعامه عليكم أو نعمته كائنة عليكم ، وإِذْ في قوله سبحانه : إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يجوز أن يتعلق بالنعمة أيضا على تقدير جعلها مصدرا أي اذكروا إنعامه عليكم وقت انجائكم ، ويجوز أن يتعلق بكلمة عَلَيْكُمْ إذا كانت حالا لا ظرفا لغوا للنعمة لأن الظرف المستقر لنيابته عن عامله يجوز أن يعمل عمله أو هو على هذا معمول لمتعلقه كأنه قيل : اذكروا نعمة اللّه تعالى مستقرة عليكم وقت إنجائكم ، ويجوز أن يكون بدل اشتمال من نعمة اللّه مرادا بها الأنعام أو العطية المنعم بها يَسُومُونَكُمْ يبغونكم من سامه خسفا إذا أولاه ظلما ، وأصل السوم - كما قال الراغب - الذهاب في طلب الشيء فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والطلب فأجرى مجرى الذهاب في قولهم : سامت الإبل فهي سائمة ، ومجرى الطلب في قولهم : سمته كذا سُوءَ الْعَذابِ مفعول ثان - ليسومونكم - والسوء مصدر ساء يسوء ، والمراد جنس العذاب السيء أو استعبادهم واستعمالهم من الأعمال الشاقة والاستهانة بهم وغير ذلك.
وفي أنوار التنزيل أن المراد بالعذاب هاهنا غير المراد به في سورة البقرة والأعراف لأنه مفسر بالتذبيح والتقتيل ثم ومعطوف عليه التذبيح المفاد بقوله تعالى : وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ هاهنا ، وفيه إشارة إلى وجه العطف وتركه مع أن القصة واحدة ، وحاصل ذلك أنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال وحيث عطف لم يقصد ذلك ، والعذاب إن كان المراد به الجنس فالتذبيح لكونه أشد أنواعه عطف عليه عطف جبريل على الملائكة عليهم السلام تنبيها على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس ، وإن كان المراد به غيره كالاستعباد فهما متغايران والمحل محل العطف ، وقد جوز أهل المعاني أن يكونا بمعنى في الجميع وذكر الثاني للتفسير ، وترك العطف في السورتين ظاهر والعطف هنا لعد التفسير لكونه أوفى المراد وأظهر منزلة المغاير وهو وجه حسن أيضا ، وسبب هذا التذبيح أن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة. إنه سيولد لبني إسرائيل من يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلم يغن عنهم من قضاء اللّه تعالى شيئا وقرأ ابن محيصن «ويذبحون» مضارع ذبح ثلاثيا. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما كذلك إلا أنه حذف الواو وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يبقونهن في الحياة مع الذل ، ولذلك عد من جملة البلاء أو لأن إبقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل :
ومن أعظم الرزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا
والجمل أحوال من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل منهما ، ولا اختلاف في العامل لأنه وإن كان في آل فرعون من في الظاهر لكنه لفظ أَنْجاكُمْ في الحقيقة ، والاقتصار على الاحتمالين الأولين هنا وتجويز الثلاثة في سورة البقرة كما فعل البيضاوي بيض اللّه تعالى غرة أحواله لا يظهر وجهه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 181
وَفِي ذلِكُمْ أي فيما ذكرنا من الأفعال الفظيعة بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي ابتلاء منه تعالى لأن البلاء عين تلك الأفعال اللهم إلا أن تجعل فِي تجريدية فنسبته إلى اللّه تعالى إما من حيث الخلق وهو الظاهر أو الإقدار والتمكين ، ويجوز أن يكون المشار إليه الإنجاء من ذلك والبلاء الابتلاء بالنعمة فإنه يكون بها كما يكون بالمحنة قال تعالى :
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء : 35] وقال زهير :
جزى اللّه بالإحسان ما فعلا بكم فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وهو الأنسب بصدر الآية ، ويلوح إليه التعرض لوصف الربوبية ، وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاء أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربية له ونفع في الحقيقة عَظِيمٌ لا يطاق حمله أو عظيم الشأن جليل القدر وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ داخل في مقول موسى عليه السلام لا كلام مبتدأ ، وهو معطوف على نعمة اللّه أي اذكروا نعمة اللّه تعالى عليكم واذكروا حين تأذن ربكم أي آذن إيذانا بليغا واعلم إعلاما لا يبقى معه شبهة لما في صيغة التفعل من معنى التكلف المحمول في حقه تعالى لاستحالة حقيقته عليه سبحانه على غايته التي هي الكمال ، وجوز عطفه على إِذْ أَنْجاكُمْ أي اذكروا نعمته تعالى في هذين الوقتين فإن هذا التأذن أيضا نعمة من اللّه تعالى عليهم لما فيه من الترغيب والترهيب الباعثين إلى ما ينالون به خيري الدنيا والآخرة ، وفي قراءة ابن مسعود «وإذ قال ربكم» لَئِنْ شَكَرْتُمْ ما خولتكم من نعمة الإنجاء من إهلاك وغير ذلك وقابلتموه بالإيمان أو بالثبات عليه أو الإخلاص فيه والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ أي نعمة إلى نعمة فإن زيادة النعمة ظاهرة في سبق نعمة أخرى ، وقيل : يفهم ذلك أيضا من لفظ الشكر فإنه دال على سبق النعم فليس الزيادة لمجرد الأحداث ، والظاهر - على ما قيل - إن هذه الزيادة في الدنيا ، وقيل :
يحتمل أن تكون في الدنيا وفي الآخرة وليس ببعيد ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم في الثواب ، وعن الحسن. وسفيان الثوري أن المعنى لئن شكرتم أنعامي لأزيدنكم من طاعتي ، والكل خلاف الظاهر. وذكر الإمام أن حقيقة الشكر الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه ، وبيان زيادة النعم به أن النعم منها روحانية ومنها جسمانية والشاكر يكون أبدا في مطالعة أقسام نعم اللّه تعالى وأنواع فضله وكرمه وذلك يوجب تأكد محبة اللّه تعالى المحسن عليه بذلك ومقام المحبة أعلى مقامات الصديقين ، ثم قد يترقى العبد من تلك الحالة إلى أن يكون حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعمة وهذه أعلى وأغلى فثبت من هذا أن الاشتغال بالشكر يوجب زيادة النعم الروحانية ، وكونه موجبا لزيادة النعم الجسمانية فللاستقراء الدال على أن كل من كان اشتغاله بالشكر أكثر كان وصول النعم إليه أكثر وهو كما ترى وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ذلك وعمطتموه ولم تشكروه كما تدل عليه المقابلة ، وقيل : المراد بالكفر ما يقابل الإيمان كأنه قيل : ولئن أشركتم إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم ، ومن عادة الكرام غالبا التصريح بالوعد والتعريض بالوعيد فما ظنك بأكرم الأكرمين ، فلذا لم يقل سبحانه : إن عذابي لكم لأعذبنكم كما قال جل وعلا : لَأَزِيدَنَّكُمْ.
وجوز أن يكون المذكور تعليلا للجواب المحذوف أي لأعذبنكم ، وبين الإمام وجه كون كفران النعم سببا للعذاب أنه لا يحصل الكفران إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من اللّه تعالى والجاهل بذلك جاهل باللّه تعالى والجهل به سبحانه من أعظم أنواع العذاب. والآية مما اجتمع فيها القسم والشرط فالجواب ساد مسد جوابيهما ، والجملة إما مفعول - لتأذن - لأنه ضرب من القول أو مفعول قول مقدر منصوب على الحال ساد معموله مسده أي قائلا لئن شكرتم إلخ ، وهذان مذهبان مشهوران للكوفية والبصرية في أمثال ذلك.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 182
واستدل بالآية على أن شكر المنعم واجب وهو مما أجمع عليه السنيون والمعتزلة إلا أن الأولين على وجوبه شرعا والآخرين على وجوبه عقلا ، وهو مبني على قولهم بالحسن والقبح العقليين ، وقد هد أركانه أهل السنة ، على أنه لو قيل به لم يكد يتم لهم الاستدلال بذلك في هذا المقام كما بين في محله وَقالَ مُوسى لهم : إِنْ تَكْفُرُوا نعمه سبحانه ولم تشكروها أَنْتُمْ يا بني إسرائيل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الناس وقيل من الخلائق جَمِيعاً لم يتضرر هو سبحانه وإنما يتضرر من يكفر فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم وشكرهم حَمِيدٌ مستوجب للحمد بذاته تعالى لكثرة ما يوجبه من أياديه وإن لم يحمده أحد أو محمود تحمده الملائكة عليهم السلام بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده ، والحمد حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدل على كماله جل وعلا ، وهو تعليل لما حذف من جواب إِنْ تَكْفُرُوا كما أشرنا إليه ، ثم إن موسى عليه السلام بعد أن ذكرهم أولا بنعمائه تعالى عليهم صريحا وضمنه بذكر ما أصابهم من الضراء ، وأمرهم ثانيا بذكر ما جرى منه سبحانه من الوعد بالزيادة على الشكر والوعيد بالعذاب على الكفر وحقق لهم مضمون ذلك ، وحذرهم من عند نفسه عن الكفران ثالثا لما رأى منهم ما يوجب ذلك شرع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الدارجة فقال : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ليتدبروا ما أصاب كل واحد من حزبي المؤمن والكافر فيتم له عليه السلام مقصوده منهم.
وجوز أن يكون من تتمة قوله عليه السلام : إِنْ تَكْفُرُوا إلخ على أنه كالبيان لما أشير إليه في الجواب من عود ضرر الكفران على الكافر دونه عز وجل ، وقيل : هو من كلامه تعالى جيء تتمة لقوله سبحانه : لَئِنْ شَكَرْتُمْ إلخ وبيانا لشدة عذابه ونقل كلام موسى عليه السلام معترض في البين وهو كما ترى ، وقيل : هو ابتداء كلام منه تعالى مخاطبا به أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم بعد ما ذكر إرساله عليه الصلاة والسلام بالقرآن وقص عليهم من قصص موسى عليه الصلاة والسلام مع أمته ولعل تخصيص تذكيرهم بما أصاب أولئك المعدودين مع قرب غيرهم إليهم للإشارة إلى أن إهلاكه تعالى الظالمين ونصره المؤمنين عادة قديمة له سبحانه وتعالى ، ومن الناس من استبعد ذلك.
قَوْمِ نُوحٍ بدل من الموصول أو عطف بيان وَعادٍ معطوف على قوم نوح وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هؤلاء المذكورين عطف على قوم نوح وما عطف عليه ، وقوله تعالى : لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ اعتراض أو الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره وجملة المبتدأ وخبره اعتراض ، والمعنى على الوجهين أنهم «1»
من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا اللّه تعالى ، ومعنى الاعتراض على الأول ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها إن في ذلك لمعتبرا ، وعلى الثاني هو ترق ومعناه ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى عددهم كأنه يقول : دع التفصيل فإنه لا مطمع في الحصر ، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل ولذا جعله الزمخشري أول الوجهين ، وما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : بين عدنان وإسماعيل عليه السلام ثلاثون أبا لا يعرفون ، وعن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى اللّه تعالى علمهما عن العباد أظهر فيه على ما قيل.
ومن هنا يعلم أنترجيح الطيبي الوجه الأول بما رجحه به ليس في محله : واعترض أبو حيان القول بالاعتراض بأنه لا يكون إلا بين جزئين يطلب أحدهما الآخر وما ذكر ليس كذلك ، ومنع بأن بين المعترض بينهما ارتباطا يطلب به
___________
(1) إلا أن مرجع الضمير في أنهم مختلف اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 183
أحدهما الآخر لأنه يجوز أن تكون الجملة الآتية حالا بتقدير قد والاعتراض يقع بين الحال وصاحبها ، فليس ما ذكر مخالفا لكلام النحاة ، ولو سلم أنها ليست بحالية فما ذكروه هنا على مصطلح أهل المعاني وهم لا يشترطون الشرط المذكور ، حتى جوزوا أن يكون الاعتراض في آخر الكلام كما صرح به ابن هشام في المغني ، مع أن الجملة الآتية مفسرة لما في الجملة الأولى فهي مرتبطة بها معنى ، واشتراط الارتباط الإعرابي عند النحاة غير مسلم أيضا فتأمل.
وجعل أبو البقاء جملة لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ على تقدير عطف الموصول على ما قبل حالا من الضمير في مِنْ بَعْدِهِمْ. وجوز الاستئناف ، ولعله أراد بذلك الضمير المستقر في الجار والمجرور لا الضمير المجرور بالإضافة لفقد شرط مجيء الحال منه ، وجوز على تقدير كون الموصول مبتدأ كون تلك الجملة خبرا وكونها حالا والخبر قوله تعالى : جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ والكثير على أنه استئناف لبيان نبئهم بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرة ، فبين كل رسول منهم لأمته طريق الحق وهداهم إليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي على زعمكم ، وهي البينات التي أظهروها حجة على صحة رسالتهم.
ومرادهم بالكفر بها الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم أو الكتب والشرائع ، وحاصله أنهم أشاروا إلى جوابهم هذا كأنهم قالوا : هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق ، وهذا كما يقع في كلام المخاطبين أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه أو يقررونه ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب ، فضمير أَيْدِيَهُمْ وأَفْواهِهِمْ إلى الكفار ، والأيدي على حقيقتها ، والرد مجاز عن الإشارة وهي تحتمل المقارنة والتقدم والتأخر ، وقال أبو صالح : المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك للرسل عليهم السلام أن يكفوا ويسكتوا عن كلامهم كأنهم قالوا : اسكتوا فلا ينفعكم الإكثار ونحن مصرون على الكفر لا نقلع عنه. فكم أنا لا أصغي وأنت تطيل.
فالضميران للكفار أيضا وسائر ما في النظم على حقيقته.
وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أن المراد أنهم عضوا أيديهم غيظا من شدة نفرتهم من رؤية الرسل وسماع كلامهم ، فالضميران أيضا كما تقدم ، واليد والفم على حقيقتهما ، والرد كناية عن العض ، ولا ينافي الحقيقة كون المعضوض الأنامل كما في قوله تعالى : عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران : 119] فإن من عض موضعا من اليد يقال حقيقة إنه عض اليد ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم تعجبا مما جاء به الرسل عليهم السلام ، وهذا كما يضع من غلبه الضحك يده على فيه ، فالضميران وسائر ما في النظم كما في القول الثاني ، وجوز أن يرجع الضمير في أَيْدِيَهُمْ إلى الكفار وفي أَفْواهِهِمْ إلى الرسل عليهم السلام ، وفيه احتمالان : الأول أنهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل عليهم السلام أن اسكتوا ، والآخر أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرسل عليهم السلام منعا لهم من الكلام. وروي هذا عن الحسن ، والكلام يحتمل أن يكون حقيقة ويحتمل أن يكون استعارة تمثيلية بأن يراد برد أيدي القوم إلى أفواه الرسل عليهم السلام عدم قبول كلامهم واستماعه مشبها بوضع اليد على فم المتكلم لإسكاته.
وظاهر ما في البحر يقتضي أنه حقيقة حيث قال : إن ذلك أبلغ في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل عليهم السلام والنيل منهم ، وأن يكون الضمير في أَيْدِيَهُمْ للكفار وضمير أَفْواهِهِمْ للرسل عليهم السلام.
والأيدي جمع يد بمعنى النعمة أي ردوا نعم الرسل عليهم السلام التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والأحكام في أفواههم ، ويكون ذلك مثلا لردها وتكذيبها بأن يشبه رد الكفار ذلك برد

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 184
الكلام الخارج من الفم فقيل : ردوا أيديهم أي مواعظهم في أفواههم والمراد عدم قبولها ، وقيل : المراد بالأيدي النعم والضمير الأول للرسل عليهم السلام أيضا لكن الضمير الثاني للكفار على معنى كذبوا ما جاؤوا به بأفواههم أي تكذيبا لا مستند له ، وفِي بمعنى الباء ، وقد أثبت الفراء مجيئها بمعناها وأنشد :
وأرغب فيها «1» عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب
وضعف حمل الأيدي على النعم بأن مجيئها بمعنى ذلك قليل في الاستعمال حتى أنكره بعض أهل اللغة وإن كان الصحيح خلافه ، والمعروف في ذلك الأيادي كما في قوله :
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت
وبأن الرد والأفواه يناسب إرادة الجارحة ، وقال أبو عبيدة الضميران للكفار والكلام ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا ، والعرب تقول للرجل إذا سكت عن الجواب وأمسك رد يده في فيه ، ومثله عن الأخفش.
وتعقبه القتبي بأنا لم نسمع أحدا من العرب يقول رد فلان يده في فيه إذا سكت وترك ما أمر به ، وفيه أنهما سمعا ذلك ومن سمع حجة على من لم يسمع ، قال أبو حيان : وعلى ما ذكراه يكون ذلك من مجاز التمثيل كأن الممسك عن الجواب الساكت عنه وضع يده على فيه. ورده الطبري بأنه قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا : إِنَّا كَفَرْنا إلى آخره. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون مراد القائل أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل عليهم السلام إليهم بالبينات وهو الاعتراف والتصديق ، وقال ابن عطية : الضميران للكفار ويحتمل أن يتجوز في الأيدي ويراد منها ما يشمل أنواع المدافعة ، والمعنى ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي إلى ما قالوا بأفواههم من التكذيب ، وحاصله أنهم لم يجدوا ما يدفعون به كلام الرسل عليهم السلام سوى التكذيب المحض ، وعبر عن جميع المدافعة بالأيدي إذ هي موضع أشد المدافعة والمرادة.
وقيل : المراد أنهم جعلوا أيديهم في محل ألسنتهم على معنى أنهم آذوا الرسل عليهم السلام بألسنتهم نحو الإيذاء بالأيدي ، والذي يطابق المقام وتشهد له بلاغة التنزيل هو الوجه الأول ، ونص غير واحد على أنه الوجه القوي لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل عليهم السلام كل الإنكار جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول ، ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب وصدروا الجملة بإن ، ويلي ذلك على ما في الكشف الوجه الثاني ولا يخفى ما في أكثر الوجوه الباقية فتأمل وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ عظيم مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان والتوحيد ، وبهذا وتفسير بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ بما ذكر أولا يندفع ما يتوهم من المنافاة بين جزمهم بالكفر وشكهم هذا ، وقيل في دفع ذلك على تقدير كون متعلقي الكفر والشك واحدا : إن الواو بمعنى أو أي أحد الأمرين لازم وهو أنا كفرنا جزما بما أرسلتم به فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه وأيا ما كان فلا سبيل إلى الإقرار والتصديق ، وقيل : إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه - فكفرنا - بمعنى لم نصدق وبذلك فسره ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وذلك لا ينافي الشك. وفي البحر أنهم بادروا أولا إلى الكفر وهو التكذيب المحض ثم أخبروا أنهم في شك وهو التردد كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد أو هما قولان من طائفتين طائفة بادرت بالتكذيب والكفر وأخرى شكت ، والشك في مثل ما جاءت به الرسل عليهم السلام كفر ، وهذا أولى من قرينه.
وقرأ طلحة «مما تدعونا» بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما تدغم في نون الوقاية في نحو أتحاجوني.
___________
(1) يعني بنتا له ولقيط اسم رجل ورهطه قبيلته وسنبس قبيلة أيضا اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 185
مُرِيبٍ أي موقع في الريبة من أرابني بمعنى أوقعني في ريبة أو ذي ريبة من أراب صار ذا ريبة ، وهي قلق النفس وعدم اطمئنانها بالشيء ، وهو صفة توكيدية قالَتْ رُسُلُهُمْ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقام كأنه قيل : فماذا قالت لهم رسلهم حين قابلوهم بما قابلوهم به؟ فأجيب بأنهم قالوا منكرين عليهم ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء : أَفِي اللَّهِ شَكٌّ بتقديم الظرف وإدخال الهمزة عليه للإيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيمن لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلا ، ولولا هذا القصد لجاز تقديم المبتدأ ، والقول بأنه ليس كذلك خطأ لأن وقوع النكرة بعد الاستفهام مسوغ للابتداء بها وهو مما لا شك فيه ، وكون ذلك المؤخر مبتدأ غير متعين بل الأرجح كونه فاعلا بالظرف المعتمد على الاستفهام كما ستعلم إن شاء اللّه تعالى ، والكلام على تقدير مضاف على ما قيل أي أفي وحدانية اللّه تعالى شك ، بناء على أن المرسل إليهم لم يكونوا دهرية منكرين للصانع بل كانوا عبدة أصنام ، وقيل : يقدر في شأن اللّه ليعلم الوجود والوحدة لأن فيهم دهرية ومشركين. وقيل : يقدر حسب المخاطبين وتقدير الشأن مطلقا ذو شأن ، وفي عدم تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا : أأنتم في شك مريب من اللّه تعالى مبالغة في تنزيه ساحة الجلال عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه تعالى شأنه من وجوده ووحدته ووجوب الإيمان به وحده شك ما وهو أظهر من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قبله سبحانه في شك عظيم مريب ، وحيث كان مقصدهم الأقصى الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وكان إظهار البينات وسيلة إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قولهم : إِنَّا كَفَرْنا إلى آخره واقتصروا على بيان ما هو الغاية القصوى ، وقد يقال : إنهم عليهم السلام قد اقتصروا على إنكار ما ذكر لأنه يعلم منه إنكار وقوع الجزم بالكفر به سبحانه من باب أولى.
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيق شاهد بتحقق ما أنتم في شك منه.
وفي الآية - كما قيل - إشارة إلى دليل التمانع. وجر فاطِرِ على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له.
وحيث كان «شك» فاعلا بالظرف وهو كالجزء من عامله لا يعد أجنبيا فليس هناك فصل بين التابع والمتبوع بأجنبي وبهذا رجحت الفاعلية على المبتدئية لأن المبتدأ ليس كذلك. نعم إلى الابتدائية ذهب أبو حيان وقال : إنه لا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ فيجوز أن تقول : في الدار زيد الحسنة وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «فاطر» نصبا على المدح. ثم إنه بعد أن أشير إلى الدليل الدال على تحقق ما هم في شك منه نبه على عظم كرمه ورحمته تعالى فقيل : يَدْعُوكُمْ أي إلى الإيمان بإرساله إيانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهم قولكم مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ لِيَغْفِرَ لَكُمْ بسببه ، فالمدعو إليه غير المغفرة.
وتقدير الإيمان لقرينة ما سبق. ويحتمل أن يكون المدعو إليه المغفرة لا لأن اللام بمعنى إلى فإنه من ضيق العطن بل لأن معنى الاختصاص ومعنى الانتهاء كلاهما واقعان في حاق الموقع فكأنه قيل : يدعوكم إلى المغفرة لأجلها لا لغرض آخر. وحقيقته أن الأغراض غايات مقصودة تفيد معنى الانتهاء وزيادة قاله : في الكشف ، وهذا نظير قوله :
دعوت لما نابني مسورا فلبى «1» فلبى يدي مسور
___________
(1) والمعنى دعوته فأجابني فكان مجابا دعا له بأن يكون مجابا كما كان مجيبا ، وكتب ابن حبيب الكاتب لبى الأول بالألف للتمييز اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 186
مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعضها وهو ما عدا المظالم وحقوق العباد على ما قيل ، وهو مبني على أن الإسلام إنما يرفع ما هو من حقوق اللّه تعالى الخالصة له دون غيره ، والذي صححه المحدثون في شرح ما صح من
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «إن الإسلام يهدم ما قبله»
أنه يرفع ما قبله مطلقا حتى المظالم وحقوق العباد ، وأيد ذلك بظاهر قوله تعالى في آية أخرى :
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران : 31 ، الأحزاب : 71] بدون من ، ومِنْ هنا ذهب أبو عبيدة. والأخفش إلى زيادة مِنْ فيما هي فيه ، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها في الموجب ولا إذا جرت المعرفة كما هنا فلا يتأتى التوفيق بذلك بين الآيتين ، وجعلها الزجاج للبيان ويحصل به التوفيق ، وقيل : هي للبدل أي ليغفر لكم بدل ذنوبكم ونسب للواحدي.
وجوز أيضا أن تكون للتبعيض ويراد من البعض الجميع توسعا. ورد الإمام الأول بأن مِنْ لا تأتي للبدل ، والثاني بأنه عين ما نقل عن أبي عبيدة. والأخفش وهو منكر عند سيبويه والجمهور وفيه نظر ظاهر ، ولو قال : إن استعمال البعض في الجميع مسلم وأما استعمال من التبعيضية في ذلك فغير مسلم لكان أولى. وفي البحر يصح التبعيض ويراد بالبعض ما كان قبل الإسلام وذلك لا ينافي الحديث وتكون الآية وعدا بغفران ما تقدم لا بغفران ما يستأنف ويكون ذاك مسكوتا عنه باقيا تحت المشيئة في الآية والحديث ، ونقل عن الأصم القول بالتبعيض أيضا على معنى إنكم إذا آمنتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر وأما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في نفسها مغفورة ، واستطيب ذلك الطيبي قال : والذي يقتضيه المقام هذا لأن الدعوة عامة لقوله سبحانه : قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ كأنه قيل : أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والمعاصي إن اللّه تعالى يدعوكم إلى الإيمان والتوحيد ليطهركم من أخباث أنجاس الذنوب فلا وجه للتخصيص أي بحقوق اللّه تعالى الخالصة له ، وقد ورد إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال : 38] و«ما» للعموم سيما في الشرط ، ومقام الكافر عند ترغيبه في الإسلام بسط لا قبض ، والكفار إذا أسلموا إنما اهتمامهم في الشرك ونحوه لا في الصغائر ، ويؤيده ما
روي أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم اللّه تعالى لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وعبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم اللّه تعالى فنزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر : 53] الآية ،
وقصة وحشي مشهورة ، وجرح ذلك القاضي فقال : إن الأصم قد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر وإنما تكون الصغيرة مغفورة من الموحدين من حيث إنه يزيد ثوابهم على عقابها وأما من لا ثواب له أصلا فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرا ولا يكون شيء منها مغفورا ، ثم قال : وفي ذلك وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور إلا ما ذكره وتاب منه اه. ولو سمع الأصم هذا التوجيه لأخذ ثأره من القاضي فإنه لعمري توجيه غير وجيه ولو أن أحدا سخم وجه القاضي لسخمت وجهه ، وقال الزمخشري : إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي مِنْ ذُنُوبِكُمْ وفي المؤمنين ذُنُوبِكُمْ وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي في الميعاد بين الفريقين.
وحاصله على ما في الكشف أن ليس مغفرة بعض الذنوب للدلالة على أن بعضا آخر لا يغفر فإنه من قبيل دلالة مفهوم اللقب ولا اعتداد به ، كيف وللتخصيص فائدة أخرى هي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان. وفيه أيضا أن هذا معنى حسن لا تكلف فيه.
واعترض ابن الكمال بأن حديث التفرقة إنما يتم لو لم يجىء خطاب على العموم وقد جاء كذلك في سورة الأنفال في قوله سبحانه : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وأجيب بأن هذا غير وارد إذ المراد التفرقة فيما ذكر فيه صيغة ويغفر ذنوبكم لا مطلق ما كان بمعناه ولذا أسند الأمر إلى الاستقراء ، ومثل الزمخشري لا يخفى عليه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 187
ما أورد ولا يلزم رعاية هذه النكتة في جميع المواد ، وذكر البيضاوي في وجه التفرقة بين الخطابين ما حاصله لعل المعنى في ذلك أنها لما ترتبت المغفرة في خطاب الكفرة على الإيمان لزم فيه مِنْ التبعيضية لإخراج المظلم لأنها غير مغفورة ، وأما في خطاب المؤمنين فلما ترتبت على الطاعة واجتناب المعاصي التي من جملتها المظالم لم يحتج إلى مِنْ لإخراجها لأنها خرجت بما رتبت عليه ، وهو مبني على خلاف ما صححه المحدثون ، وينافيه ما ذكره في تفسير مِنْ ذُنُوبِكُمْ في سورة نوح عليه السلام ومع ذا أورد عليه قوله تعالى : يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح : 2 - 4] حيث ذكرت مِنْ مع ترتيب المغفرة على الطاعة واجتناب المعاصي الذي أفاده اتقوا وقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصف : 10] الآية لعدم ذكر مِنْ مع ترتبها على الإيمان ، والجواب بأنه لا ضير إذ يكفي ترتيب ذلك على الإيمان في بعض المواد فيحمل مثله على أن القصد إلى ترتيبه عليه وحده بقرينة ذلك البعض وما ذكر معه يحمل على الأمر به بعد الإيمان أدنى من أن يقال فيه ليس بشيء ، وبالجملة توجيه الزمخشري أوجه مما ذكره البيضاوي فتأمل وتذكر.
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى وقت سماه اللّه تعالى وجعله منتهى أعماركم على تقدير الإيمان ولا يعاجلكم بعذاب الاستئصال ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يمتعكم في الدنيا باللذات والطيبات إلى الموت ، ولا يلزم مما ذكر القول بتعدد الأجل كما يزعمه المعتزلة ، وقد مر تحقيق ذلك قالُوا استئناف كما سبق آنفا إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا من غير فضل يؤهلكم لما تدعون من الرسالة. والزمخشري تهالك في مذهبه حتى اعتقد أن الكفار كانوا يعتقدون تفضيل الملك تُرِيدُونَ صفة ثانية - لبشر - حملا على المعنى كقوله تعالى : أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التغابن : 6] أو كلام مستأنف أي تريدون بما أنتم عليه من الدعوة والإرشاد أَنْ تَصُدُّونا بما تدعونا إليه من التوحيد وتخصيص العبادة باللّه تعالى عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا عما استمر على عبادته آباؤنا من غير شيء يوجبه. وقرأ طلحة «أن تصدونّا» بتشديد النون ، وخرج على جعل أن مخففة من الثقيلة وتقدير فاصل بينها وبين الفعل أي إنه قد تصدونا ، وقد جاء مثل ذلك في قوله :
علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا بأعظم سؤل
والأولى أن يخرج على أن إِنْ هي الثنائية التي تنصب المضارع لكنها لم تعمل كما قيل : في قوله تعالى :
لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة : 233] في قراءة الرفع حملا لها على أختها ما المصدرية كما عملت ما حملا عليها فيما ذكره بعضهم في قولهم :
أن تقرءان على أسماء ويحكما مني السلام وأن لا تشعرا أحدا
فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي إن لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم رسلا من قبله تعالى كما تدعون فأتونا بما يدل على صحة ما تدعونه من الرسالة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبا عن جد ، أو على فضلكم واستحقاقكم لتلك المرتبة.
قال ابن عطية : إنهم استبعدوا إرسال البشر فأرادوا حجة عليه ، وقيل : بل إنهم اعتقدوا محاليته وذهبوا مذهب البراهمة وطلبوا الحجة على جهة التعجيز أي بعثكم محال وإلا فأتوا بسلطان مبين أي إنكم لا تفعلون ذلك أبدا. وهو خلاف الظاهر ، وهذا الطلب كان بعد إتيانهم عليهم السلام لهم من الآيات الظاهرة والبينات الباهرة ما تخر له الجبال الصنم أقدمهم عليه العناد والمكابرة قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ مجاراة لأول مقالتهم : إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كما تقولون وهذا كالقول بالموجب لأن فيه أطماعا في الموافقة ثم كر إلى جانبهم بالإبطال بقولهم عليهم السلام : وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي إنما اختصنا اللّه تعالى بالرسالة بفضل منه سبحانه وامتنان ، والبشرية غير مانعة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 188
لمشيئته جل وعلا ، وفيه دليل على أن الرسالة عطائية وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئته تعالى ، ولا يخفى ما في العدول عن ولكن اللّه من علينا إلى ما في النظم الجليل من التواضع منهم عليهم السلام ، وقيل : المعنى ما نحن من الملائكة بل نحن بشر مثلكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ولكن اللّه تعالى يمن على من يشاء بالفضائل والكمالات والاستعدادات التي يدور عليها فلك الاصطفاء للرسالة ، وفي هذا ذهاب إلى قول بعض حكماء الإسلام : إن الإنسان لو لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصا بخواص شريفة علوية قدسية فإنه يمتنع عقلا حصول صفة النبوة فيه ، وأجابوا عن عدم ذكر المرسلين عليهم السلام فضائلهم النفسانية والبدنية بأنه من باب التواضع كاختيار العموم ، والحق منع الامتناع العقلي وإن كانوا عليهم السلام جميعا لهم مزايا وخواص مرجحة لهم على غيرهم ، وإنما قيل لهم كما قيل لاختصاص الكلام بهم حيث أريد إلزامهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوع الشك فيه تعالى فإنه عام وإن اختص بهم ما يعقبه وَما كانَ لَنا أي ما صح وما استقام أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ أي بحجة ما من الحجج فضلا عن السلطان المبين الذي اقترحتموه بشيء من الأشياء وسبب من الأسباب إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإنه أمر يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا وَعَلَى اللَّهِ وحده دون ما عداه مطلقا فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم ، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل من الإيمان وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا ، ويدل على ذلك قولهم :
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ومحل الخلاف في دخول المتكلم في عموم كلامه حيث لم يعلم دخوله فيه بالطريق الأولى أو تقم عليه قرينة كما هنا. واحتمال أن يراد بالمؤمنين أنفسهم وما لَنا التفات لا التفات إليه ، والجمع بين الواو والفاء تقدم الكلام فيه «1» و«ما» استفهامية للسؤال عن السبب والعذر وأن على تقدير حرف الجر أي أي عذر لنا في عدم التوكل عليه تعالى ، والإظهار لإظهار النشاط بالتوكل عليه جل وعلا والاستلذاذ باسمه تعالى وتعليل التوكل وَقَدْ هَدانا أي والحال أنه سبحانه قد فعل بنا ما يوجب ذلك ويستدعيه حيث هدانا سُبُلَنا أي أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له وأوجب عليه سلوكه في الدين.
وقرأ أبو عمرو «سبلنا» بسكون الباء ، وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكيد القسمي مظهرين لكمال العزيمة. وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وما مصدرية أي اذائكم إيانا بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه ، وجوزوا أن تكون موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي الذي آذيتموناه ، وكان الأصل آذيتمونا به فهل حذف به أو الباء ووصل الفعل إلى الضمير؟ قولان وَعَلَى اللَّهِ خاصة فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي فليثبت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل ، والمراد بهم المؤمنون ، والتعبير عنهم بذلك لسبق اتصافهم به ، وغرض المرسلين من ذلك نحو غرضهم مما تقدم وربما يتجوز في المسند إليه. فالمعنى وعليه سبحانه فليتوكل مريدو التوكل لكن الأول أولى.
وقرأ الحسن بكسر لام الأمر في ليتوكل وهو الأصل هذا ، وذكر بعضهم أن من خواص هذه الآية دفع أذى البرغوث.
فقد أخرج المستغفري في الدعوات عن أبي ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «إذا آذاك البرغوث فخذ قدحا من ماء واقرأ عليه سبع مرات وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ الآية وتقول : إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا ثم ترشه حول فراشك فإنك تبيت آمنا من شرها».
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي الدرداء مرفوعا نحو ذلك إلا أنه ليس فيه «إن كنتم مؤمنين فكفوا
___________
(1) في سورة يوسف عليه السلام اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 189
شركم وأذاكم عنا»
ولم أقف على صحة الخبر ولم أجرب ذلك إذ ليس للبرغوث ولع بي والحمد للّه تعالى ، وأظن أن ذلك لملوحة الدم كما أخبرني به بعض الأطباء واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل : لعل هؤلاء القائلين بعض المتمردين في الكفر من أولئك الأمم الكافرة التي نقلت مقالاتهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيب وأضرابهم ولذلك لم يقل : وقالوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وجوز أن يكون المراد بهم أهل الحل والعقد الذين لهم قدرة على الإخراج والإدخال ، ويكون ذلك علة للعدول عن قالوا أيضا ، وأَوْ لأحد الأمرين ، ومرادهم ليكونن أحد الأمرين إخراجكم أو عودكم ، فالمقسم عليه في وسع المقسم ، والقول بأنها بمعنى حتى أو إلا أن قول من لم يمعن النظر كما في البحر فيما بعدها إذ لا يصح تركيب ذلك مع ما ذكر كما يصح في لألزمنك أو تقضيني حقي ، والمراد من العود الصيرورة والانتقال من حال إلى أخرى وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى ، فيندفع ما يتوهم من أن العود يقتضي أن الرسل عليهم السلام كانوا وحاشاهم في ملة الكفر قبل ذلك.
واعترض في الفرائد بأنه لو كان العود بمعنى الصيرورة لقيل إلى ملتنا فتعديته بفي يقتضي أنه ضمن معنى الدخول أي لتدخلن في ملتنا. ورده الطيبي بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان فِي مِلَّتِنا صلة الفعل أما إذا جعل خبرا له لأن صار من أخوات كان فلا يرد كما في نحو صار زيد في الدار. نعم يفهم مما ذكره وجه آخر وهو جعله مجازا بمعنى تدخلن لا تضمينا لأنه على ما قرروه يقصد فيه المعنيان فلا يدفع المحذور. وفي الكشف أن فِي أبلغ من إلى لدلالته على الاستقرار والتمكن كأنهم لم يرضوا بأن يتظاهروا أنهم من أهل ملتهم ، وقيل : المراد من العود في ملتهم سكوتهم عنهم وترك مطالبتهم بالإيمان وهو كما ترى ، وقيل : هو على معناه المتبادر والخطاب لكل رسول ولمن آمن معه من قومه فغلبوا الجماعة على الواحد ، فإن كان الجماعة حاضرين فالأمر ظاهر وإلا فهناك تغليب آخر في الخطاب ، وقيل :
لا تغليب أصلا والخطاب للرسل وحدهم بناء على زعمهم أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة كقول فرعون عليه اللعنة لموسى عليه السلام : وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الشعراء : 19] وقد مر الكلام في مثل ذلك فتذكر فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي إلى الرسل عليهم السلام بعد ما قيل لهم ما قيل رَبُّهُمْ مالك أمرهم سبحانه لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ أي المشركين المتناهين في الظلم وهم أولئك القائلون ، وقال ابن عطية : خص سبحانه الظالمين من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا تلك المقالة ناس فالتوعد بإهلاك من خلص للظلم ، و«أوحى» يحتمل أن يكون بمعنى فعل الإيحاء فلا مفعول له ولَنُهْلِكَنَّ على إضمار القول أي قائلا لنهلكن ، ويحتمل أن يكون جاريا مجرى القول لكونه ضربا منه ولَنُهْلِكَنَّ مفعوله وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ أي أرضهم وديارهم ، فاللام للعهد وعند بعض عوض عن المضاف إليه مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاكهم ، وأقسم سبحانه وتعالى في مقابلة قسمهم ، والظاهر أن ما أقسم عليه جل وعلا عقوبة لهم على قولهم : لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا وفي ذلك دلالة على مزيد شناعة ما أتوا به حيث إنهم لما أرادوا إخراج المخاطبين من ديارهم جعل عقوبته إخراجهم من دار الدنيا وتوريث أولئك أرضهم وديارهم ، وفي الحديث «من آذى جاره أورثه اللّه تعالى داره»
وقرأ أبو حيوة «ليهلكن الظالمين وليسكننكم الأرض» بياء الغيبة اعتبارا - لأوحى - كقولك : أقسم زيد ليخرجن ذلِكَ إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المخاطبين ديارهم ، وبذلك الاعتبار وحد اسم الإشارة مع أن المشار إليه اثنان فلا حاجة إلى جعله من قبيل عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة : 68] وإن صح أي ذلك الأمر محقق ثابت.
لِمَنْ خافَ مَقامِي أي موقفي الذي يقف به العباد بين يدي للحساب يوم القيامة ، وإلى هذا ذهب الزجاج

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 190
فالمقام اسم مكان وإضافته إلى ضميره تعالى لكونه بين يديه سبحانه ، وقال الفراء : هو مصدر ميمي أضيف إلى الفاعل أي خاف قيامي عليه بالحفظ لأعماله ومراقبتي إياه ، وقيل : المراد إقامتي على العدل والصواب وعدم الميل عن ذلك.
وقيل : لفظ مقام مقحم لأن الخوف من اللّه تعالى أي لمن خافني وَخافَ وَعِيدِ أي وعيدي بالعذاب فياء المتكلم محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف. والوعيد على ظاهره ومتعلقه محذوف ، وجوز أن يكون مصدرا من الوعد على وزن فعيل وهو بمعنى اسم المفعول أي عذابي الموعود للكفار : وفيه استعارة الوعد للإيعاد ، والمراد بمن خاف على ما أشير إليه في الكشاف المتقون ، ووقوع ذلك إلى آخره بعد وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ موقع وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ في قصة موسى عليه السلام حيث قال لقومه : اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف : 128] وَاسْتَفْتَحُوا أي استنصروا اللّه تعالى على أعدائهم كقوله تعالى : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال : 19] ويجوز أن يكون من الفتاحة أي الحكومة أي استحكموا اللّه تعالى وطلبوا منه القضاء بينهم كقوله تعالى : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف : 89] والضمير المرسل عليهم السلام كما روي عن قتادة وغيره ، والعطف على فَأَوْحى ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس.
ومجاهد وابن محيصن «واستفتحوا» بكسر التاء أمرا للرسل عليهم السلام معطوفا على «ليهلكن» فهو داخل تحت الموحى ، والواو من الحكاية دون المحكي ، وقيل : ما قبله لإنشاء الوعد فلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر مع أن مذهب بعضهم تجويزه ، وأخر على القراءتين عن قوله تعالى : لَنُهْلِكَنَّ أو - أوحى إليهم - على ما في الكشف دلالة على أنهم لم يزالوا داعين إلى أن تحقق الموعود من إهلاك الظالمين ، وذلك لأن لَنُهْلِكَنَّ وعد وإنما حقيقة الإجابة حين الإهلاك ، وليس من تفويض الترتيب إلى ذهن السامع في شيء ولا ذلك من مقامه كما توهم. وقال ابن زيد :
الضمير للكفار والعطف حينئذ على قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا ذلك واستفتحوا على نحو ما قال قريش : عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص : 16] وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة ظنوا أن ما قيل لهم باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح : فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [هود : 32] وقوم شعيب فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً [الشعراء :
187] إلى غير ذلك ، وقيل : الضمير للرسل عليهم السلام ومكذبيهم لأنهم كانوا كلهم سألوا اللّه تعالى أن ينصر المحق ويهلك المبطل ، وجعل بعضهم العطف على فَأَوْحى على هذا أيضا بل ظاهر كلام بعض أن العطف عليه على القراءة المشهورة مطلقا ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى احتمال آخر في الضمير ذكره الزمخشري.
وَخابَ أي خسر وهلك كُلُّ جَبَّارٍ متكبر عن عبادة اللّه تعالى وطاعته ، وقال الراغب : الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها ، ولا يقال إلا على طريق الذم عَنِيدٍ معاند للحق مباه بما عنده ، وجاء فعيل بمعنى مفاعل كثيرا كخليط بمعنى مخالط ورضيع بمعنى مراضع ، وذكر أبو عبيدة إن اشتقاق ذلك من العند وهو الناحية ، ولذا قال مجاهد : العنيد مجانب الحق ، قيل : والوصف الأول إشارة إلى ذمه باعتبار الخلق النفساني والثاني إلى ذمة باعتبار الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانبا منحرفا عن الحق ، وفي الكلام إيجاز الحذف بحذف الفاء الفصيحة والمعطوف عليه أي استفتحوا ففتح لهم وظفروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم المعاندون فالخيبة بمعنى مطلق الحرمات دون الحرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعمون أنهم على الحق ، هذا إذا كان ضمير اسْتَفْتَحُوا للرسل عليهم السلام ، وأما إذا كان للكفار فالعطف كما في البحر على اسْتَفْتَحُوا أي استفتح الكفار على الرسل عليهم السلام وخابوا ولم يفلحوا ، وإنما وضع كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ موضع ضميرهم ذما لهم وتسجيلا عليهم بالتجبر والعناد لا أن بعضهم ليسوا كذلك ولم تصبهم الخيبة ، ويقدر إذا كان الضمير للرسل عليهم السلام وللكفرة استفتحوا جميعا فنصر الرسل وخاب كل عات متمرد ، والخيبة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 191
على الوجهين بمعنى الحرمان غب الطلب ، وفي إسناد الخيبة إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي من قدامه وبين يديه كما قال الزجاج. والطبري. وقطرب. وجماعة ، وعلى ذلك قوله «1» :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
ومعنى كونها قدامه أنه مرصد لها واقف على شفيرها ومبعوث إليها ، وقيل : المراد من خلف حياته وبعدها ، ومن ذلك قوله :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء اللّه للمرء مذهب
وإليه ذهب ابن الأنباري ، واستعمال «وراء» في هذا وذاك بناء على أنها من الأضداد عند أبي عبيدة. والأزهري فهي من المشتركات اللفظية عندهما. وقال جماعة : إنها من المشتركات المعنوية فهي موضوعة لأمر عام صادق على القدام والخلف وهو ما توارى عنك. وقد تفسر بالزمان مجازا فيقال : الأمر من ورائك على معنى أنه سيأتيك في المستقبل من أوقاتك وَيُسْقى قيل عطف على متعلق مِنْ وَرائِهِ المقدر ، والأكثر على أنه عطف على مقدر جوابا عن سؤال سائل كأنه قيل : فماذا يكون اذن؟ فقيل : يلقى فيها ما يلقى ويسقى مِنْ ماءٍ مخصوص لا كالمياه المعهودة صَدِيدٍ قال مجاهد. وقتادة. والضحاك هو ما يسيل من أجساد أهل النار ، وقال محمد بن كعب. والربيع.
ما يسيل من فروج الزناة والزواني ، وعن عكرمة هو الدم والقيح وأعربه الزمخشري عطف بيان لماء. وفي إبهامه أولا ثم بيانه من التهويل ما لا يخفى ، وجواز عطف البيان في النكرات مذهب الكوفيين. والفارسي ، والبصريون لا يرونه وعلى مذهبهم هو بدل من ماءٍ ان اعتبر جامدا أو نعت إن اعتبر فيه الاشتقاق من الصد أي المنع من الشرب كأن ذلك الماء لمزيد قبحه مانع عن شربه ، وفي البحر قيل : إنه بمعنى مصدود عنه أي لكراهته يصد عنه ، وإلى كونه نعتا ذهب الحوفي وكذا ابن عطية قال : وذلك كما تقول : هذا خاتم حديد ، وإطلاق الماء على ذلك ليس بحقيقة وإنما أطلق عليه باعتبار أنه بدله ، وقال بعضهم : هو نعت على إسقاط مفيد التشبيه كما تقول مررت برجل أسد ، والتقدير مثل صديد وعلى هذا فاطلاق الماء عليه حقيقة ، وبالجملة تخصيص السقي من هذا الماء بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه يَتَجَرَّعُهُ جوز أبو البقاء كونه صفة لماء أو حالا منه أو استئنافا.
وجوز أبو حيان كونه حالا من ضمير يُسْقى والاستئناف أظهر وهو مبني على سؤال كأنه قيل : فماذا يفعل به؟ فقيل : يتجرعه أي يتكلف جرعه مرة بعد أخرى لغلبة العطش واستيلاء الحرارة عليه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لا يقارب أن يسيغه فضلا عن الاساغة بل يغص به فيشربه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالة فإن السوغ انحدار الماء انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيه لا يفيد نفي ما ذكر جميعا ، وقيل : تفعل مطاوع فعل يقال : جرعه فتجرع وقيل : إنه موافق للمجرد أي جرعه كما تقول عدا الشيء ، وتعداه ، وقيل : الاساغة الإدخال في الجوف ، والمعنى لا يقارب أن يدخله في جوفه قبل أن يشربه ثم شربه على حد ما قيل في قوله تعالى : فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة : 71] أي ما قاربوا قبل الذبح ، وعبر عن ذلك
___________
(1) وقوله :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقوم تميم والفلاة ورائيا
وقوله :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 192
بالاساغة لما أنها المعهودة في الأشربة.
أخرج أحمد. والترمذي. والنسائي. والحاكم وصحح. وغيرهم عن أبي أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في الآية : يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول اللّه تعالى : وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد : 15] وقال سبحانه : وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف : 29] ،
ويسيغه بضم الياء لأنه يقال : ساغ الشراب وأساغه غيره وهو الفصيح وإن ورد ثلاثيه متعديا أيضا على ما ذكره أهل اللغة ، وجملة لا يَكادُ إلى آخره في موضع الحال من فاعل يتجرعه أو من مفعوله أو منهما جميعا وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب فالكلام على المجاز أو بتقدير مضاف مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من كل موضع ، والمراد أنه يحيط به من جميع الجهات كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقال إبراهيم التيمي : من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره وروي نحو ذلك عن ميمون بن مهران. ومحمد بن كعب ، واطلاق المكان على الأعضاء مجاز ، والظاهر أن هذا الإتيان في الآخرة.
وقال الأخفش : أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا سماها موتا لشدتها. ولا يخفى بعده لأن سياق الكلام في أحوال الكافر في جهنم وما يلقى فيها وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أي والحال أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجيء أسبابه على أتم وجه فيستريح مما غشيه من أصناف الموبقات وَمِنْ وَرائِهِ أي من بين يدي من حكم عليه بما مر عَذابٌ غَلِيظٌ يستقبل كل وقت عذابا أشد وأشق مما كان قبله ، وقيل : في وراء هنا نحو ما قيل فيما تقدم أمامه ، وذكر هذه الجملة لدفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتياد كما في عذاب الدنيا ، وقيل : ضمير ورائه يعود على العذاب المفهوم من الكلام السابق لا على كل جبار ، وروي ذلك عن الكلبي ، والمراد بهذا العذاب قيل : الخلود في النار وعليه الطبرسي ، وقال الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد هذا ، وجوز في الكشاف أن تكون هذه الآية - أعني قوله تعالى : وَاسْتَفْتَحُوا إلى هنا - منقطعة عن قصة الرسل عليهم السلام نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنينهم التي أرسلت عليهم بدعوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخيب سبحانه رجاءهم ولم يسقهم ووعدهم أن يسنيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار ، والواو على هذا قيل : للاستئناف ، وقيل : للعطف إما على قوله تعالى :
وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ أو على خبر أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ لقربه لفظا ومعنى ، والوجه الأول أوجه لبعد العهد وعدم قرينة تخصيص الاستفتاح بالاستمطار ولأن الكلام على ذلك التقدير يتناول أهل مكة تناولا أوليا فان المقصود من ضرب القصة أن يعتبروا مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي في الغرابة كالمثل كما ذهب إليه سيبويه ، وقوله سبحانه : أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة لبيان مثلهم ، ورجح ابن عطية كونه مبتدأ وهذه الجملة خبره ، وتعقبه الحوفي بأنه لا يجوز لخلو الجملة عما يربطها بالمبتدأ وليست نفسه في المعنى لتستغني عن ذلك لظهور أن ليس المعنى مثلهم هذه الجملة. وأجاب عنه السمين بالتزام أنها نفسه لأن مثل الدين في تأويل ما يقال فيهم ويوصفون به إذا وصفوا فلا حاجة إلى الرابط كما في قولك : صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول ، قيل : ولا يخفى حسنه إلا أن المثل عليه بمعنى الصفة ، والمراد بالصفة اللفظ الموصوف به كما يقال :
صفة زيد أسمر أي اللفظ الذي يوصف به هو هذا ، وهذا وإن كان مجازا على مجاز لكنه يغتفر لأن الأول ملحق بالحقيقة لشهرته وليس من الاكتفاء بعود الضمير على المضاف إليه لأن المضاف ذكر توطئة له فإن ذلك أضعف من بيت العنكبوت كما علمت.
وذهب الكسائي. والفراء إلى أن مَثَلُ مقحم وتقدم ما عليه وله ، وقال الحوفي : هو مبتدأ وكَرَمادٍ خبره وأعمالهم بدل من المبتدأ بدل اشتمال كما في قوله :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 193
ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا يحملن أم حديدا
وفيه خفاء ، ولعله اعتبر المضاف إليه. وفي الكشاف جواز كونه بدلا من مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا لكن على تقدير مثل أعمالهم فيكون التقدير مثل الذين كفروا مثل أعمالهم كرماد ، قال في الكشف : وهو بدل الكل من الكل وذلك لأن مثلهم ومثل أعمالهم متحدان بالذات ، وفيه تفخيم اه ، وقيل : إنه على هذا التقدير أيضا بدل اشتمال لأن مثل أعمالهم كونها كرماد ومثلهم كون أعمالهم كرماد فلا اتحاد لكن الأول سبب للثاني فتأمل ، والرماد معروف وعرفه ابن عيسى بأنه جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة وشذ جمعه على أفعلاء قالوا أرمداء كذا في البحر ، وذكر في القاموس أن الأرمداء كالأربعاء الرماد ولم يذكر أنه جمع ، والمراد بأعمالهم ما هو من باب المكارم كصلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسارى وقرى الأضياف واغاثة الملهوفين وغير ذلك ، وقيل : ما فعلوه لأصنامهم من القرب بزعمهم ، وقيل : ما يعم هذا وذاك ولعله الأولى ، وجيء بالجملة على ما اختاره بعضهم جوابا لما يقال : ما بال أعمالهم التي عملوها حتى آل أمرهم إلى ذلك المآل؟ إذ بين فيها أنها كرماد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ أي حملته وأسرعت الذهاب به فاشتد من شد بمعنى عدا ، والباء للتعدية أو للملابسة ، وجوز أن يكون من الشدة بمعنى القوة أي قويت بملابسة حمله فِي يَوْمٍ عاصِفٍ العصف اشتداد الريح وصف به زمان هبوبها على الإسناد المجازي كنهاره صائم وليله قائم للمبالغة ، وقال الهروي : التقدير في يوم عاصف الريح فحذف الريح لتقدم ذكره كما في قوله :
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف «1» والتنوين على هذا عوض من المضاف إليه ، وضعف هذا القول ظاهر ، وقيل : إن عاصف صفة الريح إلا أنه جر على الجوار ، وفيه أنه لا يصح وصف الريح به لاختلافهما تعريفا وتنكيرا ، وقرأ نافع. وأبو جعفر «الرياح» على الجمع وبه يشتد فساد الوصفية ، وقرأ ابن أبي اسحق. وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن فِي يَوْمٍ عاصِفٍ على الإضافة ، وذلك عند أبي حيان من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه والتقدير في يوم ريح عاصف ، وقد يقال : إنه من إضافة الموصوف إلى الصفة من غير حاجة إلى حذف عند من يرى جواز ذلك لا يَقْدِرُونَ أي يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا من تلك الأعمال عَلى شَيْءٍ ما أي لا يرون له أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب.
ويؤيد التعميم ما
ورد في الصحيح عن عائشة أنها قالت : يا رسول اللّه إن ابن جدعان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين هل ذلك نافعه؟ قال : لا ينفعه لأنه لم يقل ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين ،
وقيل : الكلام على حذف مضاف أي لا يقدرون من ثواب ما كسبوا على شيء ما والأول أولى ، وقدم المتعلق الأول - للايقدرون - على الثاني وعكس في البقرة لأهمية كل في آيته وذلك ظاهر لمن له أدنى بصيرة ، وحاصل التمثيل تشبيه أعمالهم في حبوطها وذهابها هباء منثورا لابتنائها على غير أساس من معرفة اللّه تعالى والإيمان به وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف وفرقته ، وهذه الجملة فذلكة ذلك والمقصود منه ، قيل : والاكتفاء بيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوبات للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند اللّه تعالى ، وفيه تهكم بهم ذلِكَ أي ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة من ضلالهم مع حسبانهم أنهم على شيء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن طريق الحق والصواب ، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك غير بعيد.
أَلَمْ تَرَ خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم والمراد به أمته الذين بعث إليهم ، وقيل : خطاب لكل واحد من الكفرة لقوله
___________
(1) يريد كاسف اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 194
تعالى : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ والرؤية رؤية القلب ، وقوله تعالى : أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ساد مسد مفعوليها أي ألم تعلم أنه تعالى خلقهما بِالْحَقِّ أي ملتبسة بالحكمة والوجه الصحيح الذي يحق أن يخلق عليه. وقرأ السلمي «ألم تر» بسكون الراء ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، قال أبو حيان : وتوجيه آخر وهو ان «ترى» حذفت العرب ألفها في قولهم : قام القوم ولو تر ما زيد كما حذفت ياء لا أبالي وقالوا لا أبال فلما دخل الجازم تخيل إن الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في لا أبال لم أبل ، تخيلوا اللام آخر الكلمة ، والمشهور التوجيه الأول. وقرأ الأخوان «خالق السموات والأرض» بصيغة اسم الفاعل والإضافة وجر «الأرض».
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعدمكم أيها الناس كما قاله جماعة أو أيها الكفرة كما روي عن ابن عباس بالمرة وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أي يخلق بدلكم خلقا مستأنفا لا علاقة بينكم وبينهم ، والجمهور على أنه من جنس الآدميين ، وذهب آخرون إلى أنه أعم من أن يكون من ذلك الجنس أو من غيره ، أورد سبحانه هذه الشرطية بعد أن ذكر خلقه السموات والأرض : إرشادا إلى طريق الاستدلال فإن من قدر على خلق مثل هاتيك الأجرام العظيمة كان على إعدام المخاطبين وخلق آخرين بدلهم أقدر ولذلك قال سبحانه : وَما ذلِكَ أي المذكور من إذهابكم والإتيان بخلق جديد مكانكم عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر أو متعسر فإنه سبحانه وتعالى قادر بذاته لا باستعانة وواسطة على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور. وهذه الآية على ما في الكشاف بيان لإبعادهم في الضلال وعظم خطبهم في الكفر باللّه تعالى لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يؤمن به ويرجى ثوابه ويخشى عقابه وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي يبرزون يوم القيامة ، وإيثار الماضي لتحقق الوقوع أو لأنه لا مضي ولا استقبال بالنسبة إليه سبحانه ، والمراد ببروزهم للّه ظهورهم من قبورهم للرائين لأجل حساب اللّه تعالى ، فاللام للتعليل وفي الكلام حذف مضاف ، وجوز أن تكون اللام صلة البروز وليس هناك حذف مضاف ، ويراد أنهم ظهورا له عز شأنه عند أنفسهم وعلى زعمهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابهم الفواحش سرا أنها تخفى على اللّه تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا له تعالى عند أنفسهم وعلموا أنه لا تخفى عليه جل شأنه خافية ، وقال ابن عطية : معنى برزوا صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة فاستعير ذلك لمجمع يوم القيامة ، وهذا ميل إلى التعليل والحذف.
ونقل الإمام عن الحكماء في تأويل البروز أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت مجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها هو البروز للّه تعالى وهو كلام تعده العرب من الأحاجي ولذا لم يلتفت إليه المحدثون.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وَبَرَزُوا مبنيا للمفعول وبتشديد الراء ، والمراد أظهرهم اللّه تعالى وأخرجهم من قبورهم لمحاسبته فَقالَ الضُّعَفاءُ جمع ضعيف ، والمراد بهم ضعاف الرأي وهم الاتباع ، وكتب في المصحف العثماني بواو قبل الهمزة ، ووجه ذلك بأنه على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ، ونظيره علموا بني إسرائيل. ورد ذلك الجعبري قائلا : إنه ليس من لغة العرب ولا حاجة للتوجيه بذلك لأن الرسم سنة متبعة ، وزعم ابن قتيبة أنه لغة ضعيفة ، ولو وجه بأنه اتباع للفظه في الوقف فإن من القراء من يقف في مثل ذلك بالواو كان حسنا صحيحا كذا ذكر فليراجع. ولعل من أنصف لا يرى أحسن من ترك التوجيه.
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم إِنَّا كُنَّا في الدنيا لَكُمْ تَبَعاً في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراض عن نصائحهم وهو جمع تابع كخادم وخدم وغايب وغيب أو اسم جمع لذلك ولم يذكر كونه جمعا في البحر. أو هو مصدر نعت به مبالغة أو بتأويل أو بتقدير مضاف أي تابعين أو ذوي تبع وبه على سائر الاحتمالات يتعلق الجار والمجرور ، والتقديم للحصر أي تبعا لكم لا لغيركم.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 195
وقيل : المعنى انا تبع لكم لا لرأينا ولذا سماهم اللّه تعالى ضعفاء ، ولا يلزم منه كون الرؤساء أقوياء الرأي حيث ضلوا وأضلوا ، ولو حمل الضعف على كونهم تحت أيديهم وتابعين لهم كان أحسن وليس بذاك.
فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا استفهام أريد به التوبيخ والتقريع ، والفاء للدلالة على سببية الاتباع للاغنياء ، وهو من الغناء بمعنى الفائدة ، وضمن معنى الدفع ولذا عدي بعن أي أنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال فهل أنتم اليوم دافعون عنا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي بعض الشيء الذي هو عذاب اللّه تعالى بناء على ما قيل : إن مِنْ الثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول للوصف السابق والأولى للبيان وهي واقعة موقع الحال من مجرور الثانية لأنها لو تأخرت كانت صفة له وصفة النكرة إذا قدمت أعربت حالا. واعترض هذا الوجه بأن فيه تقديم من البيانية على ما تبينه وهو لا يجوز ، وكذا تقديم الحال على صاحبها المجرور.
وأجيب بأن في كل من هذين الأمرين اختلافا ، وقد أجاز جماعة تقديم مِنْ البيانية وصححه ذلك لأنه إنما يفوت بالتقديم الوصفية لا البيانية ، وكذا أجاز كثير كابن كيسان وغيره تقديم الحال على صاحبها المجرور فلعل الذاهب إلى هذا الوجه في الآية يرى رأي المجوزين لكل من التقديمين.
وقال بعض المدققين : جاز تقديم هذه الحال لأنها في الحقيقة عما سد مسده من شيء أعني بعض لا عن المجرور وحده ، وفيه من البعد ما لا يخفى ، وجوز أن تكون الأولى والثانية للتبعيض ، والمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب اللّه تعالى والأعراب كما سبق ، واختار بعضهم على هذا كون الحال عما سد مسده من شيء إذ لو جعل حالا عن المجرور لآل الكلام إلى هل أنتم مغنون عنا بعض بعض عذاب اللّه تعالى ولا معنى له ، وفيه أنه يفيد المبالغة في عدم الغناء كقولهم : أقل من القليل فنفي المعنى لا معنى له ، ولا يصح الإلغاء إذ لا يصح أن يتعلق بفعل ظرفان من جنس دون ملابسة بينهما تصحح التبعية ، وجعل الثاني بدلا من الأول يأباه - كما في الكشف - اللفظ والمعنى وقد تعقب أبو حيان توجيه التبعيض في المكانين كما سمعت بأن ذلك يقتضي البدلية فيكون بدل عام من خاص لأن مِنْ شَيْءٍ أعم من قوله : مِنْ عَذابِ وهذا لا يقال : لأن بعضية الشيء مطلقة فلا يكون لما بعض ، ومما ذكرنا يعلم ما فيه.
وجوز أن تكون الأولى مفعولا والثانية صفة مصدر سادة مسده ، والشيء عبارة عن إغناء ما أي فهل أنتم مغنون عنا بعض عذاب اللّه بعض الإغناء. وتعقب بأنه يلزم على هذا أن يتعلق بعامل طرفان إلى آخر ما سمعت آنفا ، وفيه نظر لأنه لكون أحدهما في تأويل المفعول به والآخر في تأويل المفعول المطلق صح التعلق ولم يكونا من جنس واحد ، وقد يقال : إن تقييد الفعل بالثاني بعد اعتبار تقييده بالأول فليس العامل واحدا.
ونص الحوفي وأبو البقاء على أن مِنْ الثانية زائدة للتوكيد وسوغ زيادتها تقدم الاستفهام الذي هو هنا في معنى النفي ، ومِنْ عَذابِ اللَّهِ إما متعلق - بمغنون - أو متعلق بمحذوف وقع حالا من شَيْءٍ أي شيئا كائنا من عذاب اللّه تعالى أو مغنون من عذاب اللّه غناء ما قالُوا أي المستكبرون جوابا عن توبيخ الضعفاء وتقريعهم واعتذارا عما فعلوا بهم : لَوْ هَدانَا اللَّهُ إلى الإيمان ووفقنا له لَهَدَيْناكُمْ ولكن ضللنا فضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا ، وحاصله على ما قيل : إن ما كان منا في حقكم هو النصح لكن قصرنا في رأينا ، وقال الزمخشري : إنهم وركوا الذنب في ضلالهم واضلالهم على اللّه تعالى وكذبوا في ذلك ، ويدل على وقوع الكذب من أمثالهم يوم القيامة قوله تعالى حكاية عن المنافقين : يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ [المجادلة : 18] وقد خالف في ذلك أصول مشايخه لأنهم لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فلا يقبل منه ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 196
وجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان ، ونقل ذلك القاضي وزيفه كما ذكره الإمام ، وقيل : المعنى لو هدانا اللّه تعالى إلى الرجعة إلى الدنيا فنصلح ما أفسدناه لهديناكم وهو كما ترى ، وقال الجياني. وأبو مسلم : المراد لو هدانا اللّه تعالى إلى طريق الخلاص من العقاب والوصول إلى النعيم والثواب لهديناكم إلى ذلك ، وحاصله لو خلصنا لخلصناكم أيضا لكن لا مطمع فيه لنا ولكم ، قال الإمام : والدليل على أن المراد من الهدى هو هذا أنه الذي طلبوه والتمسوه. سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا مما لقينا أَمْ صَبَرْنا على ذلك وسَواءٌ اسم بمعنى الاستواء مرفوع على الخبرية للفعل المذكور بعده لأنه مجرد عن النسبة والزمان فحكمه حكم المصدر. والهمزة وأَمْ قد جردتا عن الاستفهام لمجرد التسوية ولذا صارت الجملة خبرية فكأنه قيل : جزعنا وصبرنا سواء علينا أي سيان ، وإنما أفرد الخبر لأنه مصدر في الأصل ، وقال الرضي في مثله : إن سَواءٌ خبر مبتدأ محذوف أي الأمران سواء ثم بين الأمران بقولهم : أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا وما قيل : من أن سَواءٌ خبر مبتدأ محذوف والجملة جزاء للجملة المذكورة بعد لتضمنها معنى الشرط ، وإفادة همزة الاستفهام معنى إن لاشتراكهما في الدلالة على عدم الجزم ، والتقدير إن جزعنا أم صبرنا فالأمران سيان فتكلف كما لا يخفى ، والجزع حزن يصرف عما يراد فهو حزن شديد. وفي البحر هو عدم احتمال الشدة فهو نقيض الصبر ، وإنما أسندوا كلا من الجزع والصبر واستوائهما إلى ضمير المتكلم المنتظم للمخاطبين أيضا مبالغة في النهي عن التوبيخ بإعلامهم أنهم شركاء لهم فيما ابتلوا به وتسلية لهم.
وجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين فهو مردود إلى ما سيق له الكلام وهم الفريقان ، ولا نظر إلى القرب كما قيل في قوله تعالى : ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف : 52] وأيد ذلك بما
أخرجه ابن أبي حاتم. والطبراني.
وابن مردويه عن كعب بن مالك رفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فيما يظن أنه قال : «يقول أهل النار : هلموا فلنصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : هلموا فلنجزع فيبكون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا :
سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا الآية ،
وإلى كون هذه المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين في النار ذهب بعضهم ميلا لظواهر الاخبار.
واستظهر أبو حيان أنها في موضع العرض وقت البروز بين يدي اللّه تعالى ، وقول الاتباع : فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا جزع منهم ، وكذا جواب الرؤساء باعترافهم بالضلال ، واحتمال أنه من كلام الأولين فقط خلاف الظاهر جدا ، وقوله تعالى : ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ جملة مفسرة لا جمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الإعراب أو حال مؤكدة أو بدل منه ، والمحيص من حاص حاد وفر ، وهو إما اسم مكان كالمبيت والمصيف أو مصدر ميمي كالمغيب والمشيب ، والمعنى ليس لنا محل ننجو فيه من عذابه أو لا نجاة لنا من ذلك وَقالَ الشَّيْطانُ الذي أضل كلا الفريقين واستتبعهما عند ما عتباه وقرعاه على نمط ما قاله الاتباع للرؤساء لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي أحكم وفرغ منه وهو الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار خطيبا في محفل الأشقياء من الثقلين.
أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال : إذا كان يوم القيامة قام إبليس خطيبا على منبر من نار فقال : إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ إلى آخره ،
وعن مقاتل أن الكفار يجتمعون عليه في النار باللائمة فيرقى منبرا من نار فيقول ذلك ، وفي بعض الآثار ما هو ظاهر في أن هذا في الموقف ،
فقد أخرج الطبراني. وابن المبارك في الزهد. وابن جرير.
وابن عساكر لكن بسند ضعيف من حديث عقبة بن عامر يرفعه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «أن الكفار حين يروا شفاعة النبي صلى اللّه عليه وسلم للمؤمنين يأتون إبليس فيقولون له قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 197
فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد فيقول ما قص اللّه تعالى».
ومعنى وَعْدَ الْحَقِّ وعدا من حقه أن ينجز أو وعدا نجز وهو الوعد بالبعث والجزاء ، وقيل : أراد بالحق ما هو صفته تعالى أي إن اللّه تعالى وعدكم وعده الذي لا يخلف ، والظاهر أنه صفة الوعد ، وفي الآية على الأول إيجاز أي إن اللّه سبحانه وعدكم وعد الحق فوفاكم وأنجزكم ذلك وَوَعَدْتُكُمْ وعد الباطل وهو أن لا بعث ولا حساب ولئن كانا فالأصنام تشفع لكم فَأَخْلَفْتُكُمْ موعدي أي لم يتحقق ما أخبرتكم به وظهر كذبه ، وقد استعير الإخلاف لذلك ولو جعل مشاكلة لصح وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي تسلط أو حجة تدل على صدقي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة ، وهذا وإن لم يكن من جنس السلطان حقيقة لكنه أبرزه في مبرزه وجعله منه ادعاء فلذا كان الاستثناء متصلا ، وهو من تأكيد الشيء بضده كقوله :
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
وهو من التهكم لا من باب الاستعارة أو التشبيه أو غيرهما على ما حقق في موضعه ، فإن لم يعتبر فيه التهكم والادعاء يكون الاستثناء منقطعا على حد قوله :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
وإلى الانقطاع ذهب أبو حيان وقال : إنه الظاهر ، وجوز الإمام القول بالاتصال من غير اعتبار الادعاء ووجه ذلك بأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه وهذا نوع من أنواع التسلط فكأنه قال : ما كان لي تسلط عليكم إلا بالوسوسة لا بالضرب ونحوه فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أي أسرعتم إجابتي كما يؤذن بذلك الفاء ، وقيل : يستفاد الإسراع من السين لأن الاستجابة وإن كانت بمعنى الإجابة لكن عد ذلك من التجريد وأنهم كأنهم طلبوا ذلك من أنفسهم فيقتضي السرعة وفيه بعد فَلا تَلُومُونِي بوعدي إياكم حيث لم يكن على طريق القسر والإلجاء كما يدل عليه الفاء ، وقيل : بوسوستي فإن من صرح بالعداوة وقال : لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف : 16] لا يلام بأمثال ذلك. وقرئ «فلا يلوموني» بالياء على الالتفات وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث استجبتم لي باختياركم الناشئ عن سوء استعدادكم حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل بل بمجرد تزيين وتسويل ولم تستجيبوا لربكم إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبينات والحجج ، وليس مراد اللعين التنصل عن توجه اللائمة إليه بالمرة بل بيان أنهم أحق بها منه. وفي الكشاف أن في هذه الآية دليلا على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة ويحصلهما لنفسه وليس من اللّه تعالى إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين ، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن اللّه تعالى قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه ، وليس قوله المحكي باطلا لا يصح التعلق به وإلا لبين اللّه سبحانه بطلانه وأظهر إنكاره ، على أنه لا طائل في النطق بالباطل في ذلك المقام ، ألا ترى كيف أتى بالصدق الذي لا ريب فيه في قوله : إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ إلى آخره وقوله : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ إلى آخره اه.
واعترض قوله : وإلا لبين سبحانه بطلانه بأنه ينقلب عليه في قول المستكبرين لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ إذ لم يعقب بالبطلان على وجه التوريك الذي ادعاه ، وكذلك قوله : على أنه لا طائل إلى آخره.
والجواب أن الأول غير متعين لذلك الوجه كما سمعت ، ومع ذلك قد عقب بالبطلان في مواضع عديدة ، ويكفي حكاية الكذب عنهم في ذلك الموطن ، وذلك في الموطن على توهم أنه نافع كما حكى اللّه تعالى عنهم ، أما بعد قضاء الأمر ودخول أهل الجنة الجنة والنار النار فلا يتوهم لذلك طائل البتة لا سيما والشيطان لا غرض له في ذلك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 198
فافترقا قائلا وموطنا وحكما ، بل الجواب أن أهل الحق لا ينكرون توجه اللائمة عليهم وأن اللّه تعالى مقدس عن ذلك وحجته البالغة وقضاؤه سبحانه الحق ، حيث أثبتوا للعبد القدرة الكاسبة التي يدور عليها فلك التكليف وجعلوا لها مدخلا في ذلك فإنه سبحانه إنما يخلق أفعاله حسبما يختاره ، وسلبهم التأثير الذاتي عن قدرته لا ينفي اللوم عنهم كما بين في محله ، وما ذكره من أنه لو كان الأمر إلى آخره مبني على عدم الفرق بين مذهب أهل الحق الملقبين عنده بالمجبرة وبين مسلك المجبرة في الحقيقة والفرق مثل الصبح ظاهر ، هذا واستدل بظاهر الآية على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان أو تعويج أعضائه وجوارحه أو على إزالة عقله لأنه نفي أن يكون له تسلط إلا بالوسوسة.
وأجاب من زعم القدرة على نحو ذلك بأن المقصود في الآية نفي أن يكون له تسلط في أمر الإضلال إلا بمحض الوسوسة لا نفي أن يكون له تسلط أصلا والسياق أدل قرينة على ذلك. وانتزع بعضهم من الآية ابطال التقليد في الاعتقاد ، قال ابن الفرس : وهو انتزاع حسن لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ولم يطلبوا منه برهانا فحكى ذلك عنهم متضمنا لذمهم ، ثم الظاهر أن هذه الدعوة من الشيطان - أعني إبليس - بلا واسطة ، وهي إن كانت في وقت واحد لمتعددين مما يعسر تصوره ، ولا يبعد أن يقال : إن له أعوانا يفعلون كما يفعل لكن لما كان ذلك بأمره تصدى وحده لما تصدى ونسبت الدعوة إليه ، وللإمام الرازي في الآية كلام طويل ساقه لبيان كيفية الدعوة وإلقاء الشيطان الوسوسة في قلب الإنسان ، وأكثره عند المحدثين والسلف الصالحين أشبه شيء بوساوس الشياطين ، ولعل النوبة تفضي إن شاء اللّه تعالى إلى تحقيق ذلك بعون اللّه تعالى القادر المالك ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب ، يقال : استصرخني فأصرخته أي استغاثني فأغثته ، وأصله من الصراخ وهو مد الصوت ، والهمزة للسلب كأن المغيث يزيل صراخ المستغيث. وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ مما أنا فيه ، وفي تعرضه لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغة في بيان عدم إصراخه إياهم وإيذان بأنه أيضا مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الاصراخ فكيف له بإصراخ الغير ولذلك آثار الجملة الاسمية ، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار ، وكذا يقال في التأكيد فكان ما مضى جوابا منه عن توبيخهم وتقريعهم وهذا جواب استغاثتهم واستعانتهم به في دفع ما دهمهم من العذاب. وقرأ يحيى بن وثاب.
والأعمش. وحمزة «بمصرخي» بكسر الياء على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين ، وذلك أن الأصل بمصرخين لي فاضيف وحذفت نون الجمع للإضافة فالتقت ياء الجمع الساكنة وياء المتكلم والأصل فيها السكون فكسرت لالتقاء الساكنين وأدغمت. وطعن في هذه القراءة كثير من النحاة ، قال الفراء : لعلها من زعم القراء فإنه قل من سلم منهم من الوهم. وقال أبو عبيد : نراهم غلطوا. وقال الأخفش : ما سمعت هذا الكسر من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين ، وقال الزجاج : إنها عند الجميع رديئة مرذولة ولا وجه لها إلا وجيه ضعيف. وقال الزمخشري : هي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول :
قال لها هل لك يا تافيّ قالت له ما أنت بالمرضيّ «1»
وكأنهم قدروا ياء الإضافة ساكنة فحركوها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو عصاي فما بالها وقبلها ياء والقول بأنه جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل ذهاب إلى القياس وهو قياس حسن ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات اه.
___________
(1) وقبله : أقبل في ثوب معافري. عند اختلاط الليل والعشي. ماض إذا ما هم بالمضي اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 199
وقد قلد هؤلاء الطاغين جماعة ، وقد وهموا طعنا وتقليدا فإن القراءة متواترة عن السلف والخلف فلا يجوز أن يقال فيها : إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة ، وقد نقل جماعة من العلماء أنها لغة لكنه قل استعمالها.
ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع فإنهم يكسرون ياء المتكلم إذا كان قبلها ياء أخرى ويصلونها بها كعليه ولديه ، وقد يكتفون بالكسرة وذلك لغة أهل الموصل وكثير من الناس اليوم ، وقد حسنها أبو عمرو وهو إمام لغة وإمام نحو إمام قراءة وعربيّ صحيح ، ورووا بيت النابغة :
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
بكسر ياء - على - فيه ، وأنشدوا لذلك أيضا البيت السابق وهو للأغلب العجلي ، وجهل الزمخشري به كالزجاج لا يلتفت إليه ، وقوله : إن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة إلى آخره مردود بأنه روي سكون الياء بعد الألف ، وقرأ به القراء في مَحْيايَ [الأنعام : 162] وما ذكره أيضا قياس مع الفارق فإنه لا يلزم من كسرها مع الياء المجانسة للكسرة كسرها مع الألف الغير المجانية لها ولذا فتحت بعدها للمجانسة وكون الأصل في هذا الياء الفتح في كل موضع غير مسلم كيف وهي من المبنيات والأصل في المبني أن يبنى على السكون. ومن الناس من وجه القراءة بأنها على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراء لها مجرى هاء الضمير وكافه ، فإن الهاء قد توصل بالواو إذا كانت مضمومة كهذا لهو وضربهو ، وبالياء إذا كانت مكسورة نحو بهي ، والكاف قد تلحقها الزيادة فيقال أعطيتكاه وأعطيتكيه إلا أنه حذفت الياء هنا اكتفاء بالكسرة ، وقال البصير : كسر الياء ليكون طبقا لكسر الهمزة في قوله : إِنِّي كَفَرْتُ لأنه أراد الوصل دون الوقف والابتداء بذلك والكسر أدل على الوصل من الفتح وفيه نظر ، وبالجملة لا ريب في صحة تلك القراءة وهي لغة فصيحة ، وقد روي أنه تكلم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حديث بدء الوحي وشرح حاله عليه الصلاة والسلام لورقة بن نوفل رضي اللّه تعالى عنه فانكارها محض جهالة ، وأراد بقوله : إِنِّي كَفَرْتُ إني كفرت اليوم بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا اليوم - يعني في الدنيا - .
وما مصدرية ومِنْ متعلقة بأشركتموني أي كفرت باشراككم إياي للّه تعالى في الطاعة لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر كما يطاع اللّه تعالى في أعمال الخير ، فالإشراك استعارة بتشبيه الطاعة به وتنزيلها منزلته أو لأنهم لما أشركوا الأصنام ونحوها بإيقاعه لهم في ذلك فكأنهم أشركوه ، والكفر مجاز عن التبري كما في قوله تعالى :
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر : 14] ومراد اللعين أنه إن كان اشراككم لي باللّه تعالى هو الذي أطمعكم في نصرتي لكم وخيل إليكم أن لكم حقا علي فإني تبرأت من ذلك ولم أحمده فلم يبق بيني وبينكم علاقة ، وإرادة اليوم حسبما ذكرنا هو الظاهر فيكون الكلام محمولا على إنشاء التبري منهم يوم القيامة. وجوز النسفي أن يكون إخبارا عن أنه تبرأ منهم في الدنيا فيكون مِنْ قَبْلُ متعلقا - بكفرت - أو متنازعا فيه.
وجوز غير واحد أن تكون ما موصولة بمعنى من كما قيل في قولهم : سبحانه ما سخركن لنا ، والعائد محذوف ومِنْ قَبْلُ متعلق - بكفرت - أي إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتمونيه أي جعلتموني شريكا له بالطاعة وهو اللّه عز وجل ، فأشرك منقول من شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان ، والكلام على هذا إقرار من اللعين بقدم كفره وبيان لأن خطيئته سابقة عليهم فلا إغاثة لهم منه فهو في المعنى تعليل لعدم إصراخه إياهم. وزعم الإمام أنه لنفي تأثير الوسوسة كأنه يقول : لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة ، وكان الظاهر على هذا تقديمه على قوله : ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ إلى آخره ولا يظهر لتأخيره نكتة يهش لها

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 200
الخاطر. ومنهم من جعله تعليلا لعدم اصراخهم إياه وهو مما لا وجه له إذ لا احتمال لذلك حتى يحتاج إلى التعليل ، وقيل : لأن تعليل عدم إصراخهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانع من جهته.
واعترض بأن نحو هذا الإيهام جار في الوجه الأول وهم الكفرة الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين. وتعقب في البحر القول بالموصولية بأن فيه إطلاق ما على اللّه تعالى والأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم ، وما في سبحان ما سخركن يجوز أن تكون مصدرية بتقدير مضاف أي سبحان موجد أو ميسر تسخير كن لنا.
وقال الطيبي : إن ما لا تستعمل في ذي العلم إلا باعتبار الوصفية فيه وتعظيم شأنه والمثال على ذلك أي سبحان العظيم الشأن الذي سخر كن للرجال مع مكركن وكيدكن ، وكون ما موصولة عبارة عن الصنم أي إني كفرت بالصنم الذي أشركتمونيه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ الظاهر أنه من تمام كلام إبليس قطعا لأطماع الكفار من الإغاثة والإعانة ، وحكى اللّه تعالى عنه ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيها للسامعين وحثا لهم على النظر في عاقبتهم والاستعداد لما لا بد منه وأن يتصوروا ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول فيخافوا ويعملوا ما ينفعهم هناك ، وقيل : إنه من كلام الخزنة يوم ذاك ، وقيل : إنه ابتداء كلام من جهته تعالى ، وأيد بأنه قرأ الحسن. وعمرو بن عبيد أُدْخِلَ في قوله تعالى :
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بصيغة المضارع المسند إلى المتكلم. وأنت تعلم أنه إذا اعتبرت هذه القراءة مؤيدة لهذا القول فلتعتبر قراءة الجمهور أُدْخِلَ بصيغة الماضي المبني للمفعول مؤيدة لما قبله فإن المدخلين الملائكة عليهم السلام فتأمل ، وكأن اللّه تعالى لما جمع الفريقين في قوله سبحانه : وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً وذكر شيئا من أحوال الكفار ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من ادخالهم الجنة بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بأمره سبحانه أو بتوفيقه وهدايته جل شأنه ، والجار والمجرور متعلق - بأدخل - على قراءة الجمهور. وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار مزيد اللطف بهم ، وعلقه جماعة على القراءة الأخرى بقوله تعالى : تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي يحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم. وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري وفعل عليه وهو غير جائز لما أن ذلك في حكم تقديم جزء من الشيء المرتب الأجزاء عليه. ورد بأن الظاهر أنه هنا غير منحل إليهما لأنه ليس المعنى المقصود منه أن يحيوا فيها بسلام ، ولو سلم فمراد القائل بالتعلق التعلق المعنوي فالعامل فيه فعل مقدر يدل عليه تَحِيَّتُهُمْ أي يحيون بإذن ربهم.
وقال العلامة الثاني : الأظهر أن التقديم جائز إذا كان المعمول ظرفا أو شبهه وهو في الكلام كثير ، والتقدير تكلف ، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أوّل به ، مع أن الظرف مما يكفيه رائحة من الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه ، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتسع في غيرها اه ، وبالجواز أقول ، وإنما لم يجعله المحققون متعلقا - بأدخل - على تلك القراءة مع أنه سالم من الاعتراض ومشتمل على الالتفات أو التجريد وهو من المحسنات لأن قولك : أدخلته باذني ركيك لا يناسب بلاغة التنزيل ، والالتفات أو التجريد حاصل إذا علق بما بعده أيضا.
وفي الانتصاف الصارف عن هذا الوجه هو أن ظاهر أُدْخِلَ بلفظ المتكلم يشعر بأن إدخالهم الجنة لم يكن بواسطة بل من اللّه تعالى مباشرة وظاهر الاذن يشعر بإضافة الدخول إلى الواسطة فبينهما تنافر ، واستحسن أن يعلق - بخالدين - والخلود غير الدخول فلا تنافر ، وتعقبه في الكشف بأن ذلك لا يدفع الركاكة وكأنه لما أن الإذن للدخول لا للاستمرار بحسب الظاهر ، وكون المراد بمشيئتي وتيسيري لا يدفع ذلك عند التأمل الصادق ، فما ذهب إليه ابن جني

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 201
واستطيبه الشيخ الطيبي وارتضاه ليس بشيء لمن سلم له ذوقه أَلَمْ تَرَ الخطاب لسيد المخاطبين صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل : لمن يصلح له والفعل معلق بما بعده من قوله تعالى : كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي كيف اعتمله ووضعه في موضعه اللائق به كَلِمَةً طَيِّبَةً نصب على البدلية من مَثَلًا وضَرَبَ متعدية إلى مفعول واحد كما ذهب إلى ذلك الحوفي.
والمهدوي. وأبو البقاء ، وهو على ما قيل : بدل اشتمال ولو جعل بدل كل من كل لم يبعد. واعترض عليه بأنه لا معنى لقولك ضرب اللّه كلمة طيبة إلا بضم مَثَلًا إليه فمثلا هو المقصود بالنسبة فكيف يبدل منه غيره ، ولا يخفى أن هذا بناء على ظاهر قول النحاة : إن المبدل في نية الطرح وهو غير مسلم ، وقوله سبحانه : كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ صفة كَلِمَةً أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة ، وجوز أن يكون كلمة منصوبا بمضمر وضَرَبَ أيضا متعدية لواحد أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة أي حكم بأنها مثلها والجملة تفسير لقوله سبحانه : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كقولك : شرف الأمير زيدا كساه حلة وحمله على فرس. وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه.
وأجاب عنه السمين بما فيه بحث ، وجوز أيضا أن يكون ضرب المذكور متعديا إلى مفعولين إما لكونه بمعنى جعل واتخذ أو لتضمينه معناه وكلمة أول مفعوليه قد أخر عن ثانيهما أعني مَثَلًا لئلا يبعد عن صفته التي هي كَشَجَرَةٍ قيل : ولا يرد على هذا بأن المعنى أنه تعالى ضرب لكلمة طيبة مثلا لا كلمة طيبة مثلا لأن المثل عليه بمعنى الممثل به والتقدير ذات مثل أو لها مثلا. وقرئ «كلمة» بالرفع على الابتداء لكونها نكرة موصوفة والخبر «كشجرة» ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف و«كشجرة» صفة أخرى أَصْلُها ثابِتٌ أي ضارب بعروقه في الأرض. وقرأ أنس بن مالك «كشجرة طيبة ثابت أصلها» وقراءة الجماعة على الأصل وذكروا أنها أقوى معنى.
قال ابن جني : لأنك إذا قلت ثابت أصلها فقد أجريت الصفة على شجرة وليس الثبات لها إنما هو للأصل ، والصفة إذا كانت في المعنى لما هو من سبب الموصوف قد تجري عليه لكنها أخص بما هي له لفظا ومعنى فالأحسن تقديم الأصل عناية به ، ومن ثم قالوا : زيد ضربته فقدموا المفعول عناية به حيث إن الغرض ليس ذكر الفاعل وإنما هو ذكر المفعول ، ثم لم يقنعوا بذلك حيث أزالوه عن لفظ الفضلة وجعلوه رب الجملة لفظا فرفعوه بالابتداء وصار ضربته ذيلا له وفضلة ملحقة به ، وكذلك قولك : مررت برجل أبوه قائم أقوى معنى من قولك : مررت برجل قائم أبوه لأن المخبر عنه بالقيام إنما هو الأب لا الرجل مع ما في التقديم هنا من حسن التقابل والتقسيم إلا أن لقراءة أنس وجها حسنا ، وهو أن ثابت أصلها صفة الشجرة وأصل الصفة أن تكون اسما مفردا لأن الجملة إذا وقعت صفة حكم على موضعها بإعراب المفرد وذاك لم يبلغ مبلغ الجملة بخلاف «أصلها ثابت» فإنه جملة قطعا ، وقال بعضهم : إنها أبلغ ولم يذكر وجه ذلك فزعم من زعم أنه ما أشير إليه من وجه الحسن وهو بمعزل عن الصواب.
وقال ابن تمجيد : هو أنه كوصف الشيء مرتين مرة صورة ومرة معنى مع ما فيه من الإجمال والتفصيل كما في أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح : 1] فإنه لما قيل : «كشجرة طيبة ثابت» تبادر الذهن من جعل ثابِتٌ صفة لشجرة صورة أن شيئا من الشجرة متصف بالثبات ثم لما قيل : أَصْلُها علم صريحا أن الثبات صفة أصل الشجرة وقيل : كونها أكثر مبالغة لجعل الشجرة بثبات أصولها ثابتة بجميع أغصانها فتدبر وَفَرْعُها أي أعلاها من قولهم :
فرع الجبل إذا علاه ، وسمي الأعلى فرعا لتفرعه على الأصل ولهذا أفرد وإلا فكل شجرة لها فروع وأغصان ، ويجوز أن يراد به الفروع لأنه مضاف والإضافة حيث لا عهد ترد للاستغراق أو لأنه مصدر بحسب الأصل وإضافته على ما اشتهر تفيد العموم فكأنه قيل : وفروعها فِي السَّماءِ أي في جهة العلو تُؤْتِي أُكُلَها تعطي ثمرها كُلَّ حِينٍ وقت أقته اللّه تعالى لإثمارها بِإِذْنِ رَبِّها بإرادة خالقها جل شأنه ، والمراد بالكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا اللّه على ما

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 202
أخرجه البيهقي. وغيره عن ابن عباس ، وعن الأصم أنها القرآن ، وعن ابن بحر دعوة الإسلام ، وقيل : التسبيح والتنزيه ، وقيل : الثناء على اللّه تعالى مطلقا ، وقيل : كل كلمة حسنة ، وقيل : جميع الطاعات ، وقيل : المؤمن نفسه ، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وهو خلاف الظاهر ، وكأن إطلاق الكلمة عليه نظير إطلاقها على عيسى عليه السلام ، والمراد بالشجرة المشبه بها النخلة عند الأكثرين ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن زيد.
وأخرج عبد الرزاق والترمذي وغيرهما عن شعيب بن الحبحاب قال : كنا عند أنس فأتينا بطبق عليه رطب فقال أنس لأبي العالية : كل يا أبا العالية فإن هذا من الشجرة التي ذكرها اللّه تعالى في كتابه «ضرب اللّه مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ثابت أصلها» وأخرج الترمذي أيضا. والنسائي. وابن حبان. والحاكم وصححه عن أنس قال : «أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقناع من بسر فقال : مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ - حتى بلغ - كُلَّ حِينٍ قال : هي النخلة «1».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه رضي اللّه تعالى عنه أيضا أنها شجرة في الجنة ، وقيل : كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لا ينبغي العدول عنه.
ووجه تشبيه الكلمة الطيبة بمعنى شهادة أن لا إله إلا اللّه بهذه الشجرة المنعوتة بما ذكر أن أصل تلك الكلمة ومنشأها وهو الإيمان ثابت في قلوب المؤمنين وما يتفرع منها وينبني عليها من الأعمال الصالحة والأفعال الزكية يصعد إلى السماء ، وما يترتب على ذلك من ثواب اللّه تعالى ورضاه هو الثمرة التي تؤتيها كل حين ، ويقال نحو هذا على تقدير أن تكون الكلمة بمعنى آخر فتأمل. والذاهبون إلى تفسير الشجرة بالنخلة من السلف اختلفوا في مقدار الحين ، فأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب أنه شهران قال : إن النخلة إنما يكون فيها حملها شهرين.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه سنة وقيل غير ذلك ، واختلفت الروايات عن ابن عباس والأشهر أنه فسره بستة أشهر وقال : إن النخلة ما بين حملها إلى صرامها ستة أشهر ، وأفتى رضي اللّه تعالى عنه لرجل حلف أن لا يكلم أخاه حينا أنه لو كلمه قبل ستة أشهر حنث وهو الذي قال به الحنيفة ، فقد ذكروا أن الحين والزمان معرفين أو منكرين واقعين في النفي أو في الإثبات ستة أشهر ، وعللوا ذلك بأن الحين قد جاء بمعنى الساعة وبمعنى أربعين سنة وبمعنى الأبد وبمعنى ستة أشهر فعند عدم النية ينصرف إليه لأنه الوسط ولأن القليل لا يقصد بالمنع لوجود الامتناع فيه عادة والأربعون سنة لا تقصد بالحلف عادة لأنه في معنى الأبد ، ولو سكت عن الحين تأبد فالظاهر أنه لم يقصد ذلك ولا الأبد ولا أربعين سنة فيحكم بالوسط في الاستعمال والزمان استعمل استعمال الحين ويعتبر ابتداء الستة أشهر من وقت اليمين في نحو لا أكلم فلانا حينا مثلا ، وهذا بخلاف لأصومن حينا فإن له أن يعين فيه أي ستة أشهر شاء كما بين في محله ، ومتى نوى الحالف مقدارا معينا في الحين وأخيه صدق لأنه نوى حقيقة كلامه لأن كلا منهما للقدر المشترك بين القليل والكثير والمتوسط واستعمل في كل كما لا يخفى على المتتبع فليتذكر وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير فإنه تصوير المعاني العقلية بصور المحسوسات وبه يرتفع التنازع بين الحس والخيال.
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي كلمة الكفر أو الدعاء إليه أو الكذب أو كل كلمة لا يرضاها اللّه تعالى. وقرئ
___________
(1) قال الترمذي الحديث الموقوف أصح اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 203
وَمَثَلُ بالنصب عطفا على كَلِمَةً طَيِّبَةً وقرأ أبيّ «وضرب اللّه مثلا كلمة خبيثة» كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد ، وفي الكلام مضاف مقدر أي كمثل شجرة خبيثة ، والمثل بمعنى الصفة الغريبة اجْتُثَّتْ أي اقتلعت من أصلها ، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة وهي شخص الشيء كلها مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لكون عروقها قريبة من الفوق فكأنها فوق ما لَها مِنْ قَرارٍ أي استقرار على الأرض ، والمراد بهذه
الشجرة المنعوتة الحنظلة. وروي ذلك أيضا مرفوعا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
وعن الضحاك أنها الكشوث ، ويشبه به الرجل الذي لا حسب له ولا نسب كما قال الشاعر :
فهو الكشوث فلا أصل ولا ورق ولا نسيم ولا خللّ ولا ثمر
وقال الزجاج وفرقة شجرة الثوم ، وقيل : شجرة الشوك ، وقيل : الطحلب ، وقيل : الكمأة وقيل : كل شجر لا يطيب له ثمر ، وفي رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها شجرة لم تخلق على الأرض والمقصود التشبيه بما اعتبر فيه تلك النعوت ، وقال ابن عطية : الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف وفي رواية عن الحبر أيضا تفسير هذه الشجرة بالكافر. وروى الإمامية - وأنت تعرف حالهم - عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه تفسيرها ببني أمية وتفسير الشجرة الطيبة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : وعلي كرم اللّه تعالى وجهه. وفاطمة رضي اللّه تعالى عنها وما تولد منهما ،
وفي بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أمية.
فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن أبي حاتم قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريشا وهي الشجرة المباركة التي قال اللّه تعالى في كتابه : مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ»
لأن بني أمية من قريش وأخبار الطائفتين في هذا الباب ركيكة وأحوال بني أمية التي يستحقون بها ما يستحقون غير خفية عند الموافق والمخالف ، والذي عليه الأكثرون في هذه الشجرة الخبيثة أنها الحنظل ، وإطلاق الشجرة عليه للمشاكلة وإلا فهو نجم لا شجر ، وكذا يقال في إطلاقه على الكشوث ونحوه.
وللإمام الرازي قدس سره كلام في هذين المثلين لا بأس بذكره ملخصا وهو أنه تعالى ذكر في المثل الأول شجرة موصوفة بأربع صفات ثم شبه الكلمة الطيبة بها. الصفة الأولى كونها طَيِّبَةً وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر وكونها طيبة الرائحة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كونها لذيذة مستطابة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كثرة الانتفاع بها ، ويجب إرادة الجميع إذ به يحصل كمال الطيب. والثانية كون «أصلها ثابتا» وهو صفة كمال لها لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الزوال فهو وإن كان يحصل الفرح بوجدانه إلا أنه يعظم الحزن بالخوف من زواله وأما إذ لم يكن كذلك فإنه يعظم السرور به من غير ما ينغص ذلك. والثانية كون فَرْعُها فِي السَّماءِ وهو أيضا صفة كمال لها لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب. والرابعة كونها «دائمة الثمر» لا أن ثمرها حاضر في بعض الأوقات دون بعض وهو صفة كمال أيضا إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذ.
ثم إن من المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة ، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها ينبغي أن يقوم له على ساق ولا يتساهل عنه ، والمراد من الكلمة المشبهة بذلك معرفة اللّه تعالى والاستغراق في محبته سبحانه وطاعته ، وشبه ذلك للشجرة في صفاتها الأربعة ، أما في الأولى فظاهر بل لا لذة ولا طيب في الحقيقة إلا لهذه المعرفة لأنها ملائمة لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ولا كذلك لذة الفواكه إذ هي أمر ملائم لمزاج البدن ، ومن تأمل أدنى تأمل ظهر له فروق لا تحصى بين اللذتين ، وأما في الصفة الثانية فثبوت الأصل في شجرة معرفة اللّه تعالى أقوى وأكمل لأن عروقها راسخة في جوهر النفس القدسية وهو جوهر مجرد آمن عن الكون

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 204
والفساد بعيد عن التغير والفناء ، وأيضا مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلي جلال اللّه تعالى وهو من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلا زواله وأما في الصفة الثالثة فلأن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني ، والنوع الأول أقسامه كثيرة يجمعها
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «التعظيم لأمر اللّه تعالى»
ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفته سبحانه كأحوال العوالم العلوية والسفلية ، وكذا محبة اللّه تعالى والتشوق إليه سبحانه والمواظبة على ذكره جل شأنه والاعتماد عليه وقطع النظر عما سواه جل وعلا إلى غير ذلك ، والنوع الثاني أقسامه كذلك ويجمعها
قوله عليه الصلاة والسلام ، «والشفقة على خلق اللّه تعالى»
ويدخل فيه الرأفة والرحمة والصفح والتجاوز عن الإساءة والسعي في إيصال الخبر إلى عباد اللّه تعالى ودفع الشرور عنهم ومقابلة الإساءة بالإحسان إلى ما لا يحصى ، وهي فروع من شجرة المعرفة فإن الإنسان كلما كان متوغلا فيها كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى. وأما في الصفة الرابعة فلأن شجرة المعرفة موجبة لما علمت من الأحوال ومؤثرة في حصولها والمسبب لا ينفك عن السبب ، فدوام أكل هذه الشجرة أتم من دوام أكل الشجرة المنعوتة فهي أولى بهذه الصفة بل ربما توغل العبد في المعرفة فيصير بحيث كلما لا حظ شيئا لا حظ الحق فيه وربما عظم ترقيه فيصير لا يرى شيئا إلا يرى اللّه تعالى قبله ، وأيضا قد يحصل للنفس من هذه المعرفة الهامات نفسانية وملكات روحانية ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل كثمرة هذه الشجرة ، وفي قوله سبحانه : بِإِذْنِ رَبِّها دقيقة عجيبة وذلك لأن الإنسان عند حصول هذه الأحوال السنية والدرجات العلية قد يفرح بها من حيث هي - هي - وقد يترقى فلا يفرح بها كذلك وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى جل جلاله وعند ذلك يكون فرحه في الحقيقة بالمولى تبارك وتعالى ولذلك قال بعض المحققين : من آثر العرفان للعرفان فقد وقف بالساحل ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول.
وذكر بعضهم في هذا المثال كلاما لا يخلو عن حسن ، وهو أنه إنما مثل سبحانه الإيمان بالشجرة لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ. وأصل قائم. وأغصان عالية فكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : معرفة في القلب. وقول باللسان. وعمل بالأركان ، ولم يرتض قدس سره تفسير الشجرة بالنخلة ولا الحين بما شاع فقال : بعد نقل كلام جماعة إن هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود لأنه تعالى وصف شجرة بالصفات المذكورة ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها ، فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الكذائية يسعى في تحصيلها وادخارها لنفسه كل عاقل سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل ، واختلافهم في تفسير الحين أيضا من هذا الباب واللّه تعالى أعلم ، وذكر تبارك وتعالى في المثل الثاني شجرة أيضا إلا أنه تعالى وصفها بثلاث صفات. الصفة الأولى كونها خَبِيثَةٍ وذلك يحتمل أن يكون بحسب الرائحة وأن يكون بحسب الطعم وأن يكون بحسب الصورة وأن يكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة ولا حاجة إلى القول بأنها شجرة كذا أو كذا فإن الشجرة الجامعة لتلك الصفات وإن لم تكن موجودة إلا أنها إذا كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعا في المطلوب. والثانية «اجتثاثها من فوق الأرض» وهذه في مقابلة أصلها ثابت في الأول.
والثالثة نفى أن يكون لها قرار وهذه كالمتممة للصفة الثانية ، والمراد بالكلمة المشبهة بذلك الجهل باللّه تعالى والإشراك به سبحانه فإنه أول الآفات وعنوان المخافات ورأس الشقاوات فخبثه أظهر من أن يخفى وليس له حجة ولا ثبات ولا قوة بل هو داحض غير ثابت اه ، وهو كلام حسن لكن فيه مخالفة لظواهر كثير من الآثار فتأمل يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة ، والظاهر أن الجار متعلق - بيثبت - وكذا قوله سبحانه : فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي يثبتهم بالبقاء على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 205
ذلك مدة حياتهم فلا يزالون إذا قيض لهم من يفتنهم ويحاول زللهم عنه كما جرى لأصحاب الأخدود. ولجرجيس.
وشمشون وكما جرى لبلال وكثير من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورضي اللّه تعالى عنهم وَفِي الْآخِرَةِ أي بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ولا تدهشهم الأهوال. وأخرج ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب أنه قال في الآية : التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا له : من ربك؟ قال : ربي اللّه. قالا : وما دينك؟ قال : ديني الإسلام : قالا : ومن نبيك؟
قال : نبيي محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى هذا فالمراد من الْآخِرَةِ يوم القيامة ، وأخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : «سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في هذه الآية : يُثَبِّتُ اللَّهُ إلخ في الآخرة القبر»
وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء واختاره الطبري. نعم اختار بعضهم أن الحياة الدنيا مدة حياتهم والآخرة يوم القيامة والعرض وكان الداعي لذلك عموم الَّذِينَ آمَنُوا وشمولهم لمؤمني الأمم السابقة مع عدم عموم سؤال القبر ، وجوز تعلق الجار الأول - بآمنوا - على معنى آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه سبحانه ، وكذا جوز تعلق الجار الثاني - بالثابت - ومن الناس من زعم أن التثبيت في الدنيا الفتح والنصر وفي الآخرة الجنة والثواب ولا يخفى أن هذا مما لا يكاد يقال ، وأمر تعلق الجارين ما قدمنا وهذا عند بعضهم مثال إيتاء الشجرة أكلها كل حين وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم الناشئ عن سوء استعدادهم ، والمراد بهم الكفرة بدليل مقابلتهم - بالذين آمنوا - ووصفهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعه ، وإما باعتبار ظلمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرة اللّه تعالى التي فطر الناس عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابت أو حيث قلدوا أهل الضلال وأعرضوا عن البينات الواضحة ، وإضلالهم - على ما قيل - في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل. وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. والبيهقي من حديث ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره فإذا دخل قبره اقعد فقيل له : من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئا وأنساه اللّه تعالى ذكر ذلك ، وإذا قيل له : من الرسول الذي بعث إليكم؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا فذلك قوله تعالى :
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ : وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض وإضلال بعض آخرين حسبما توجبه مشيئته التابعة للحكم البالغة المقتضية لذلك ، وفي إظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى مع ما فيه - كما قيل - من الإيذان بالتفاوت في مبادئ التثبيت والإضلال فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر ، وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها أَلَمْ تَرَ تعجيب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أي شكر نعمته تعالى الواجب عليهم ووضعوا موضعه كُفْراً عظيما وغمطا لها ، فالكلام على تقدير مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه وهو المفعول الثاني وكُفْراً المفعول الأول ، وتوهم بعضهم عكس ذلك ، وقد لا يحتاج إلى تقدير على معنى أنهم بدلوا النعمة نفسها كفرا لأنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبيها موصوفين بالكفر ، وقد ذكر هذا كالأول الزمخشري ، والوجهان كما في الكشف خلافا لما قرره الطيبي وتابعه عليه غيره متفقان في أن التبديل هاهنا تغيير في الذات إلا أنه واقع بين الشكر والكفر أو بين النعمة نفسها والكفر ، والمراد بهم أهل مكة فإن اللّه سبحانه أسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته وأكرمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فكفروا نعمة اللّه تعالى بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم ، أو أصابهم اللّه تعالى بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين فكفروا نعمته سبحانه فضربهم جل جلاله بالقحط سبع سنين وقتلوا وأسروا يوم بدر فحصل لهم الكفر بدل النعمة وبقي ذلك طوقا في أعناقهم.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 206
وأخرج الحاكم وصححه. وابن جرير. والطبراني. وغيرهم من طرق عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال في هؤلاء المبدلين : هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع اللّه تعالى دابرهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وأخرج البخاري في تاريخه. وابن المنذر. وغيرهما عن عمر رضي اللّه تعالى عنه مثل ذلك «1».
وجاء في رواية كما في جامع الأصول هم واللّه كفار قريش.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم ، ولعله رضي اللّه تعالى عنه لا يريد أنها نزلت في جبلة ومن معه لأن قصتهم كانت في خلافة عمر رضي اللّه تعالى عنه وإنما يريد أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة وَأَحَلُّوا أي أنزلوا قَوْمَهُمْ بدعوتهم إياهم لما هم فيه من الضلال ، ولم يتعرض لحلولهم لدلالة الإحلال عليه إذ هو فرع الحلول كما قالوا في قوله تعالى في فرعون : يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود :
98] دارَ الْبَوارِ أي الهلاك من بار يبور بوارا وبورا ، قال الشاعر :
فلم أر مثلهم أبطال حرب غداة الحرب إذ خيف البوار
وأصله - كما قال الراغب - فرط الكساد ، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر به عن الهلاك جَهَنَّمَ عطف بيان للدار ، وفي الإبهام ثم البيان مالا يخفى من التهويل ، وأعربه الحوفي وأبو البقاء بدلا منها ، وقوله تعالى : يَصْلَوْنَها أي يقاسون حرها حال من الدار أو من جَهَنَّمَ أو من «قومهم» أو استئناف لبيان كيفية الحلول ، وجوز أبو البقاء كون جَهَنَّمَ منصوبا على الاشتغال أي يصلون جهنم يصلونها وإليه ذهب ابن عطية ، فالمراد بالإحلال حينئذ تعريضهم للهلاك بالقتل والأسر ، وأيد بما روى عطاء أن الآية نزلت في قتلى بدر ، وبقراءة ابن أبي عبلة جَهَنَّمَ بالرفع على الابتداء ، ويحتمل أن يكون جَهَنَّمَ على هذه القراءة خبر مبتدأ محذوف واختاره أبو حيان معللا بأن النصب على الاشتغال مرجوح من حيث إنه لم يتقدم ما يرجحه ولا ما يجعله مساويا ، وجمهور القراء على النصب ولم يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي ، إذ زيد ضربته بالرفع أرجح من زيدا ضربته فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في تلك القراءة راجحا ، وأنت تعلم أن قوله تعالى : قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ يرجح التفسير السابق وَبِئْسَ الْقَرارُ على حذف المخصوص بالذم أي بئس القرار هي أي جهنم أو بئس القرار قرارهم فيها ، وفيه بيان أن حلولهم وصليّهم على وجه الدوام والاستمرار وَجَعَلُوا عطف على أَحَلُّوا أو ما عطف عليه داخل معه في حيز الصلة وحكم التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم لِلَّهِ الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء وهو الواحد القهار أَنْداداً أمثالا في التسمية أو في العبادة ، وقال الراغب : ند الشيء مشاركه في جوهره وذلك ضرب من المماثلة فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت فكل ند مثل وليس كل مثل ندا ، ولعل المعول عليه هنا ما أشرنا إليه.
لِيُضِلُّوا قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا عَنْ سَبِيلِهِ القويم الذي هو التوحيد ، وقيل : مقتضى ظاهر النظم الكريم أن يذكر كفرانهم نعمة اللّه تعالى ثم كفرانهم بذاته سبحانه باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار ، ولعل تغيير الترتيب لتثنية التعجيب وتكريره والإيذان بأن كل واحد من هذه الهنات يقضي منه العجب ولو سيق النظم على نسق الوجود لربما فهم التعجيب من المجموع ، وله نظائر في الكتاب الجليل ، وقرأ ابن
___________
(1) كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عز وجل قُلْ تَمَتَّعُوا الآية اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 207
كثير. وأبو عمرو. ورويس عن يعقوب لِيُضِلُّوا بفتح الياء ، والظاهر أن اللام في القراءتين مثلها في قوله تعالى :
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص : 8] وذلك أنه لما كان الإضلال أو الضلال نتيجة للجعل المذكور شبه بالغرض والعلة الباعثة فاستعمل له حرفه على سبيل الاستعارة التبعية قاله غير واحد وقيل عليه : إن كون الضلال نتيجة للجعل للّه سبحانه أندادا غير ظاهر إذ هو متحد معه أو لازم لا ينفك عنه إلا أن يراد الحكم به أو دوامه.
ورد بأنهم مشركون لا يعتقدون أنه ضلال بل يزعمون أنه اهتداء فقد ترتب على اعتقادهم ضده ، على أن المراد بالنتيجة ما يترتب على الشيء أعم من أن يكون من لوزامه أولا وفيه تأمل قُلْ لأولئك الضلال المتعجب منهم تَمَتَّعُوا بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها تبديل نعمة اللّه تعالى كفرا واستتباع الناس في الضلال ، وجعل ذلك متمتعا به تشبيها له بالمشتهيات المعروفة لتلذذهم به كتلذذهم بها ، وفي التعبير بالأمر - كما قال الزمخشري إيذان بأنهم لانغماسهم بالتمتع بما هم عليه وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرا دونه وهو آمر الشهوة وعلى هذا يكون قوله تعالى : فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ جواب شرط ينسحب عليه الكلام على ما أشار إليه بقوله : والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لآمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار ، ويجوز أن يكون الأمر مجازا عن التخلية والخذلان وأن ذلك الآمر متسخط إلى غاية ، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أن ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم حردت عليه وقلت : أنت وشأنك فافعل ما شئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر ولكنك كأنك تقول : فاذ قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك افعل ما شئت وتبعث عليه ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك انتهى.
قال صاحب الكشف : إن الوجهين مشتركان في إفادة التهديد لكن الأداء إليه مختلف ، والأول نظير ما إذا أطاع أحد عبيدك بعض من تنقم طريقته فتقول : أطع فلانا ، وهذا صحيح صدر من المنقوم أمر ومن العبد طاعة أو كان منه موافقة لبعض ما يهواه ، والقسم الأخير هو ما نحن فيه والثاني ظاهر انتهى.
وظاهر هذا أن التهديد على الوجهين مفهوم من صيغة الأمر ، ويفهم من كلام بعض الأجلة أن ذلك على الوجه الأول من الشرطية وعلى الثاني من الأمر وما في حيز الفاء تعليل له ، ولعل النظر الدقيق قاض بما أفتى به ظاهر ما في الكشف ، وذكر غير واحد أن هذا كقول الطبيب لمريض يأمره بالاحتماء فلا يحتمي : كل ما تريد فإن مصيرك إلى الموت فإن المقصود - كما قال صاحب الفرائد - التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول.
وجعل الطيبي ما قرر في المثال هو المراد من قول الزمخشري إن في تَمَتَّعُوا إيذانا بأنهم لانغماسهم إلخ ، وأنت تعلم أنه ظاهر في الوجه الثاني فافهم. والمصير مصدر صار التامة بمعنى رجع وهو اسم إن وإِلَى النَّارِ في موضع الخبر ، ولا ينبغي أن يقال : إنه متعلق - بمصير - وهو من صار بمعنى انتقل ولذا عدى بالى لأنه يدعو إلى القول بحذف خبر إن وحذفه في مثل هذا التركيب قليل ، والكثير فيما إذا كان الاسم نكرة والخبر جار ومجرور. والحوفي جوز هذا التعلق فالخبر عنده محذوف أي فإن مصيركم إلى النار واقع أو كائن لا محالة.
ثم إنه تعالى لما هدد الكفار وأشار إلى انهماكهم في اللذة الفانية أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يأمر خلص عباده بالعبادة البدنية والمالية فقال سبحانه : قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وخصهم بالإضافة إليه تعالى رفعا لهم وتشريفا وتنبيها على أنهم المقيمون لوظائف العبودية الموفون بحقوقها ، وترك العطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالهما تهديدا وغيره ، ومقول القول على ما ذهب إليه المبرد. والأخفش. والمازني محذوف دل عليه يُقِيمُوا أي قل لهم : أقيموا الصلاة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 208
وأنفقوا. يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ والفعل المذكور مجزوم على أنه جواب قُلْ عندهم. وأورد أنه لا يلزم من قوله عليه الصلاة والسلام : أقيموا وأنفقوا أن يفعلوا. ورد بأن المقول لهم الخلص وهم متى أمروا امتثلوا ، ومن هنا قالوا : إن في ذلك إيذانا بإكمال مطاوعتهم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال ، ويشد عضد ذلك حذف المقول لما فيه من إيهام أنهم يفعلون من غير أمر ، على أن مبنى الإيراد على أنه يشترط في السببية التامة وقد منع. وجعل ابن عطية - قل - بمعنى بلغ وأد الشريعة والزم في جواب ذلك. وهو قريب مما تقدم.
وحكي عن أبي علي وعزي للمبرد أن الجزم في جواب الأمر المقول المحذوف ، وتعقبه أبو البقاء بأنه فاسد لوجهين : الأول أن جواب الشرط لا بد أن يخالف فعل الشرط إما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما فإذا اتحدا لا يصح كقولك : قم تقم إذ التقدير هنا إن يقيموا يقيموا. والثاني أن الأمر المقدر للمواجهة والفعل المذكور على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا. وقيل عليه : إن الوجه الأول قريب ، وأما الثاني فليس بشيء لأنه يجوز أن تقول : قل لعبدك أطعني يطعك وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال.
وعن أبي علي وجماعة أن يُقِيمُوا خبر في معنى اومر وهو مقول القول. ورد بحذف النون وهي في مثل ذلك لا تحذف ، ومنه قوله تعالى : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ إلى قوله سبحانه : تُؤْمِنُونَ [الصف : 10 ، 11] إذ المراد منه آمنوا ، والقول بأنه لما كان بمعنى الأمر بني على حذف النون كما بني الاسم المتمكن في النداء على الضم في نحو يا زيد لما شبه بقبل وبعد ما لم يبن إنما لوحظ فيه لفظه مما لا يكاد يلتفت إليه ، وذهب الكسائي.
والزجاج وجماعة إلى أنه مقول القول وهو مجزوم بلام أمر مقدرة أي ليقيموا وينفقوا على حد قول الأعشى :
محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر تبالا
وأنت تعلم أن إضمار الجازم أضعف من إضمار الجار إلا أن تقدم قُلْ نائب منابه كما أن كثرة الاستعمال في أمر المخاطب ينوب مناب ذلك. والشيء إذا كثر في موضع أو تأكد الدلالة عليه جاز حذفه ، منه حذف الجار من أني إذا كانت بمعنى من أين ، وبما ذكرنا من النيابة فارق ما هنا ما في البيت فلا يضرنا تصريحهم فيه بكون الحذف ضرورة ، وعن ابن مالك أنه جعل حذف هذه اللام على أضرب. قليل. وكثير. ومتوسط ، فالكثير أن يكون قبله قول بصيغة الأمر كما في الآية ، والمتوسط ما تقدمه قوله غير أمر كقوله :
قلت لبواب لديه دارها تيذن فإني حمها وجارها
والقليل ما سوى ذلك. وظاهر كلام الكشف اختيار هذا الوجه حيث قال المدقق فيه : والمعنى على هذا أظهر لكثرة ما يلزم من الإضمار ، وإن تقييد الجواب بقوله تعالى : مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ إلى وَلا خِلالٌ ليس فيه كثير طائل إنما المناسب تقييد الأمر به ، وقال : ابن عطية : ويظهر أن مقول القول اللَّهُ الَّذِي إلخ ولا يخفى ما في ذلك من التفكيك ، على أنه لا يصح حينئذ أن يكون يُقِيمُوا مجزوما في جواب الأمر لأن قول اللَّهُ الَّذِي إلخ لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جدا هذا ، والمراد بالصلاة قيل ما يعم كل صلاة فرضا كانت أو تطوعا ، وعن ابن عباس تفسيرها بالصلاة المفروضة وفسر الإنفاق بزكاة الأموال.
ولا يخفى عليك أن زكاة المال إنما فرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد صدقة الفطر وإن هذه السورة كلها مكية عند الجمهور ، والآيتين ليست هذه الآية إحداهن عند بعض ، ثم إن لم يكن هذا المأمور به في الآية مأمورا به من قبل فالأمر ظاهر وإن كان مأمورا به فالأمر للدوام فتحقق ذلك ولا تغفل سِرًّا وَعَلانِيَةً منتصبان على المصدرية

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 209
لكن من الأمر المقدر أو من الفعل المذكور على ما ذهب إليه الكسائي ومن معه على ما قيل ، والأصل انفاق سر وانفاق علانية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه ، ويجوز أن يكون الأصل إنفاقا سرا وإنفاقا علانية فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه ، وجوز أن يكونا منتصبين على الحالية إما على التأويل بالمشتق أو على تقدير مضاف أي مسرين ومعلنين أو ذوي سر وعلانية أو على الظرفية أي في سر وعلانية ، وقد تقدم الكلام في حكم نفقة السر ونفقة العلانية مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصر فيه ما يتلافى به تقصيره أو يفتدي به نفسه ، والمقصود - كما قال بعض المحققين - نفي عقد المعاوضة بالمرة ، وتخصيص البيع بالذكر للإيجاز مع المبالغة نفي العقد إذ انتفاء البيع يستلزم انتفاء الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه ربما يتصور مع تحقق الإيجاب من البائع انتهى ، وقيل : إن البيع كما يستعمل في إعطاء المثمن وأخذ الثمن وهو المعنى الشائع يستعمل في إعطاء الثمن وأخذ المثمن وهو معنى الشراء ، وعلى هذا جاء
قوله صلى اللّه عليه وسلم : «لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه»
ولا مانع من إرادة المعنيين هنا ، فإن قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه مطلقا كما قال به الشافعية أو في النفي كما قال به ابن الهمام فذاك وإلا احتجنا إلى ارتكاب عموم المجاز فكأنه قيل : لا معاوضة فيه وَلا خِلالٌ أي مخالة فهو كما قال أبو عبيدة وغيره مصدر خاللته كالخلال ، وقال الأخفش : هو جمع خليل كأخلاء وأخلة ، والمراد واحد وهو نفي أن يكون هناك خليل ينتفع به بأن يشفع له أو يسامحه بما يفتدي به ، ويحتمل أن يكون المعنى من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه لما لهجوا بتعاطيه من البيع والمخالة ولا انتفاع بذلك وإنما الانتفاع والارتفاق فيه بالإنفاق لوجه اللّه تعالى ، فعل الأول المنفي البيع والخلال في الآخرة ، وعلى هذا المراد نفي البيع والخلال الذين كانا في الدنيا بمعنى نفي الانتفاع بهما ، وفِيهِ ظرف للانتفاع المقدر حسبما أشرنا إليه ، ولا يشكل ما هنا مع قوله تعالى : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف : 67] حيث أثبت فيه المخالة وعدم العداوة بين المتقين لأن المراد هنا على ما قيل نفي المخالة النافعة بذاتها في تدارك ما فات ولم يذكر في تلك الآية أن المتقين يتدارك بعضهم لبعض ما فات.
وقيل في التوفيق بين الآيتين : إن المراد لا مخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس وتلك المخالة الواقعة بين المتقين في اللّه تعالى ، مع أن الاستثناء من الإثبات لا يلزمه النفي وإن سلم لزومه فنفي العداوة لا يلزم منه المخالة وهو كما ترى ومثله ما قيل : إن الإثبات والنفي بحسب المواطن. والظرف على ما استظهره غير واحد متعلق بالأمر المقدر ، وعلقه بالفعل المذكور من رأى رأي الكسائي ومن معه بل وبعض من رأي غير ذلك إلا أنه لا يخلو عن شيء ، وتذكير إتيان ذلك اليوم على ما في إرشاد العقل السليم لتأكيد مضمون الأمر من حيث إن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير معاوضة وتبرعا وانقطاع آثار البيع والخلال والواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيل اللّه تعالى أو من حيث إن ادخار المال وترك إنفاقه إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت. وتخصيص أمر الإنفاق بذلك التأكيد لميل النفوس إلى المال وكونها مجبولة على حبه والضنة به. وفيه أيضا أنه لا يبعد أن يكون تأكيدا لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضا من حيث إن تركها كثيرا ما يكون للاشتغال بالبياعات والمخاللات كما في قوله تعالى : وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة : 11] وأنت تعلم بعده لفظا بناء على تعلق سِرًّا وَعَلانِيَةً بالأمر بالإنفاق ، ثم إن ما ذكر من الوجهين في الآية هو الذي ذكره بعض المحققين ، واقتصر الزمخشري فيها على الوجه الثاني ، وكلامه في تقريره ظاهر في أن فائدة التقييد الحث على الإنفاق حسبما بينه في الكشف ، وفيه في تقرير الحاصل أن قوله تعالى : لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ أي لا انتفاع بهما كناية عن الانتفاع بما يقابلهما وهو ما

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 210
أنفق لوجه اللّه تعالى فهو حث على الإنفاق لوجهه سبحانه كأنه قيل : لينفقوا له من قبل أن يأتي يوم ينتفع بانفاقهم المنفقون له ولا ينفع الندم لمن أمسك ، والعدول إلى ما في النظم الجليل ليفيد الحصر وإن ذلك وحده هو المنتفع به ، وليفيد المضادة بين ما ينفع عاجليا وما ينفع آجليا ، وذكر في آية [البقرة : 254] مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ أن المعنى من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع حتى تبتاعوا ما تنفقونه ولا خلة حتى يسامحكم أخلاؤكم به ، وبين المدقق وجه اختصاص كل من المعنيين بموضعه مع صحة جريانهما جميعا في كل من الموضعين بأن الأول خطاب عام فكان الحث فيه على الإنفاق مطلاقا وتصوير أن الإنفاق نفسه هو المطلوب فليغتنم قبل أن يأتي يوم يفوت فيه ولا يدركه الطالب هو الموافق لمقتضى المقام وأن الثاني لما اختص بالخلص كان الموافق للمقام تحريضهم على ما هم عليه من الإنفاق ليدوموا عليه فقيل : دوموا عليه وتمسكوا به تغتبطوا يوم لا ينفع إلا من دام عليه ، ولو قيل : دوموا عليه قبل أن يفوتكم ولا تدركوه لم يكن بتلك الوكادة لأن الأول بالحث على طلب أصل الفعل أشبه والثاني بطلب الدوام فتفطن له اه ولا يخلو عن دغدغة.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ويعقوب «لا بيع فيها ولا خلال» بفتح الاسمين تنصيصا على استغراق النفي ، ودلالة الرفع على ذلك باعتبار خطابي هو على ما قيل وقوعه في جواب هل فيه بيع أو خلال؟ ثم إنه لما ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لها شرع جل وعلا في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين أتم إخلال بها فقال عز قائلا : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إلخ ، وهذا أولى مما قيل : إنه تعالى لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء وكان حصول السعادة بمعرفة اللّه تعالى وصفاته والشقاوة بالجهل بذلك ختم الوصف بالدلائل الدالة على وجوده جل شأنه وكمال علمه وقدرته فقال سبحانه ما قال لظهور اعتبار المذكورات في حيز الصلة نعما لا دلائل ، والاسم الجليل مبتدأ والموصول خبره ولا يخفى ما في الكلام من تربية المهابة والدلالة على قوة السلطان ، والمراد خلق السموات وما فيها من الإجرام العلوية والأرض وما فيها من أنواع المخلوقات وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي السحاب ماءً أي نوعا منه وهو المطر ، وسمي السحاب سماء لعلوه وكل ما علاك سماء وقيل : المراد بالسماء الفلك المعلوم فإن المطر منه يتبدى إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض ، وعليه الكثير من المحدثين لظواهر الأخبار.
واستبعد ذلك الإمام لأن الإنسان ربما كان واقفا على قلة جبل عال ويرى السحاب أسفل منه فإذا نزل رآه ماطرا ، ثم قال : وإذا كان هذا أمرا مشاهدا بالبصر كان النزاع فيه باطلا ، وأول بعضهم الظواهر لذلك بأن معنى نزول المطر من السماء نزوله بأسباب ناشئة منها ، وأيّا ما كان «فمن» ابتدائية وهي متعلقة «بأنزل» وتقديم المجرور على المنصوب إما باعتبار كونه مبتدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك : أعطاه السلطان من خزائنه مالا أو لما مر غيره مرة من التشويق إلى المؤخر فَأَخْرَجَ بِهِ أي بذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به وهو بمعنى المرزوق مرادا به المعنى اللغوي وهو كل ما ينتفع به فيشمل المطعوم والملبوس ، ونصبه على أنه مفعول فَأَخْرَجَ ومِنَ الثَّمَراتِ بيان له فهو في موضع الحال منه ، وتقدم مِنَ البيانية على ما تبينه قد أجازه الكثير من النحاة وقد مر الكلام في ذلك ، واستظهر أبو حيان المانع لذلك كون مِنَ للتبعيض ، والجار والمجرور في موضع الحال ورِزْقاً مفعول فَأَخْرَجَ أيضا ، وجوز أن تكون مِنَ بمعنى بعض مفعول أخرج ورِزْقاً بمعنى مرزوقا حالا منه فهو بيان للمراد من بعض الثمرات لأن منها ما ينتفع به فهو رزق ومنها ما ليس كذلك ، ويجوز أن يكون رِزْقاً باقيا على مصدريته ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 211
ونصبه على أنه مفعول له أي أخرج به ذلك لأجل الرزق والانتفاع به أو مفعول مطلق - لأخرج - لأن أخرج بعض الثمرات في معنى رزق فيكون في معنى قعدت جلوسا على المشهور ، وقيل : من زائدة ولا يرى جواز ذلك هنا إلا الأخفش ولَكُمْ صفة - لرزقا - إن أريد به المرزوق ومفعول به إن أريد به المصدر كأنه قيل : رزقا إياكم ، والباء للسبية.
ومعنى كون الإخراج بسببه أن اللّه تعالى أودع فيه قوة مؤثرة بإذنه في ذلك حسبما جرت به حكمته الباهرة مع غناه الذاتي سبحانه عن الاحتياج إليه في الإخراج ، وهذا هو رأي السلف الذي رجع إليه الأشعري كما حقق في موضعه ، وزعم من زعم أن المراد أخرج عنده والتزموا هذا التأويل في ألوف من المواضع وضللوا القائلين بأن اللّه تعالى أودع في بعض الأشياء قوة مؤثرة في شيء ما حتى قالوا : إنهم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان ، وأولئك عندي أقرب إلى الجنون وسفاهة الرأي. والثَّمَراتِ يراد بها ما يراد من جمع الكثرة لأن صيغ الجموع يتعاور بعضها موضع بعض أو لأنه أريد بالمفرد جماعة الثمرة التي في قولك : أكلت ثمرة بستان فلان ، وقد تقدم لك ما ينفعك تذكره في هذا المقام فتذكر وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ السفن بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك ، وقيل :
بأن جعلها لا ترسب في الماء لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ حيث توجهتم بِأَمْرِهِ بمشيئته التي بها نيط كل شيء ، وتخصيصه بالذكر على ما ذكره بعض المحققين للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمال واستعمال الآلات كما يتراءى من ظاهر الحال ، ويندرج في تسخير الفلك كما في البحر تسخيره «1» وكذا تسخير الرياح وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ جعلها معدة لانتفاعكم حيث تشربون منها وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم وما أشبه ذلك ، هذا إذا أريد بالأنهار المياه العظيمة الجارية في المجاري المخصوصة وأما إذا أريد بها نفس المجاري فتسخيرها تيسيرها لهم لتجري فيها المياه وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أي دائمين في الحركة لا يفتران إلى انقضاء عمر الدنيا. أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر ، والقول بجريانهما إذا غربا تحت الأرض مروي أيضا عن الحسن البصري وهو الذي يشهد له العقل السليم وللأخباريين غير ذلك ، وظاهر الآية إثبات الحركة لهما أنفسهما. والفلاسفة يثبتون لهما حركتين يسمون إحداهما الحركة الأولى وهي الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب الحاصلة لها بقسر المحدد لفلكيهما ، والأخرى الحركة الثانية وهي الحركة على توالي البروج من المغرب إلى المشرق الحاصلة لهما بحركة فلكيهما حركة ذاتية ، ولا يثبتون لهما حركة في ثخن الفلك على نحو حركة السمكة في الماء لصلابة الفلك وعدم قبوله الخرق أصلا عندهم.
وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته حركتهما على ذلك النحو ، والفلك عنده مثل الماء والهواء.
ذكر بعض الأخباريين أنهما وسائر الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة يسيرونها كيف شاء اللّه تعالى وحيث شاء سبحانه ، والأفلاك ساكنة عند هذا البعض ، وكذا عند الشيخ قدس سره على ما يقتضيه ظاهر كلامه ، والأخبار في هذا الباب ليست بحيث تسد ثغر الخصم. وذكر النسفي أنه ليس فيها ما يعول عليه ، وكلام الفلاسفة ما لم يكن فيه مصادمة لما تحقق عن المخبر الصادق للّه مما لا بأس به ، وفسر بعضهم دائِبَيْنِ بمجدين تعبين وهو
___________
(1) فيه استخدام فلا تغفل اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 212
على التشبيه والاستعارة ، وأصل الدأب العادة المستمرة ، ونصب الاسم على الحال ، وتسخير هذين الكوكبين العظيمين جعلهما منيرين مصلحين ما نيط بهما صلاحه من المكونات ، ولعمري أن اللّه سبحانه جعلهما اجدى من تفاريق العصا.
وفي كتاب المشارع والمطارحات للشيخ شهاب الدين السهروردي قتيل حلب أن تأثير الشمس والقمر أظهر الآثار السماوية ، وتأثير الشمس أظهر من تأثير القمر ، وأظهر الآثار بعد الشعاع التسخين الحاصل منه ولولا ذلك ما كان كون ولا فساد ولا استحالة ولا ليل ولا نهار ولا فصول ولا مزاج ولا حيوانات ولا غيرها ، وأطال الكلام في بيان ذلك وما يتعلق به ، ولا ضرر عندي في اعتقاد أنهما مؤثران بإذن اللّه تعالى كسائر الأسباب عند السلف الصالح وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم ، وأرجع بعض المحققين التسخير في المواضع الأربعة إلى معنى التصريف ، وأصله سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا ، وذكر أن في التعبير عن ذلك به من الإشعار بما في ذلك من صعوبة المأخذ وعزة المنال والدلالة على عظم السلطان وشدة المحال ما لا يخفى ، والظاهر أنه في المعنى المراد به هنا مجاز في تلك المواضع جميعا ، ونقل أبو حيان عن المتكلمين أنه مجاز في الأخير منها قال : لأن الليل والنهار عرضان والأعراض لا تسخر وفيه قصور ، وفي إبراز كل من هذه النعم في جملة مستقلة تنويه لشأنها وتنبيه على رفعة مكانها وتنصيص على كون كل نعمة جليلة مستوجبة للشكر.
وتأخير تسخير الشمس والقمر عن تسخير ما تقدم من الأمور مع ما بينه وبين خلق السموات من المناسبة الظاهرة قيل : لاستتباع ذكرها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزال الماء منها إليها الموجب لذكر إخراج الرزق الذي من جملته ما يحصل بواسطة الفلك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل - أعني خلق السموات والأرض وتسخير الشمس والقمر - نعمة واحدة ، وقد تقدم نظيره آنفا ، وذكر بعضهم في وجه ذكر هذه المتعاطفات على هذا الأسلوب أنه بدأ بخلق السموات والأرض لأنهما أصلان يتفرع عليهما سائر ما يذكر بعد ، وثنى بإنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به لشدة تعلق النفوس بالرزق فيكون تقديمه من قبيل تعجيل المسرة. ولما كان الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجواري في البحر وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع من ذلك وبالنقل يكثر الربح ذكر سبحانه تسخير الفلك التي ينقل عليها واقتصر عليها اعتناء بشأنها ، ولما ذكر أمر الثمرات وما به يكمل الانتفاع بها من حيث النقل ذكر تسخير الأنهار العذبة التي يشرب منها الناس في سائر الأحيان إتماما لأمر الرزق وذكر تسخير الشمس والقمر بعد لأن الانتفاع بهما ليس بالمباشرة كالانتفاع بالفلك والانتفاع بالأنهار ، وأخر تسخير الليل والنهار لأنهما عرضان وما تقدمهما جوهر والعرض من حيث هو بعد الجوهر اه ، وليس بشيء يعول عليه.
وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي أعطاكم بعض جميع من سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة - فمن كل - مفعول ثان - لآتي - ومِنْ تبعيضية ، وقال بعض الكاملين : إن كُلِّ للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى : وفَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام : 44] واعترض على حمل مِنْ على التبعيض دون ابتداء الغاية بأنه يفضي إلى إخلاء لفظ كُلِّ عن فائدة زائدة لأن ما نص في العموم بل يوهم إيتاء البعض من كل فرد متعلق به السؤال ولا وجه له.
ودفع بأنه بعد تسليم كون ما نصا في العموم هنا عمومان عموم الأفراد وعموم الأصناف بمعنى كل صنف صنف وهما مقصودان هنا ، فالمعنى أعطاكم من جميع أفراد كل صنف سألتموه ، فإن الاحتياج بالذات إلى النوع والصنف لا لفرد بخصوصه ، وفسر ما سَأَلْتُمُوهُ بما من شأنه أن يسأل لاحتياج الناس إليه سواء سئل بالفعل أم لم يسأل ، فلا ينفى إيتاء ما لا حاجة إليه مما لا يخطر بالبال ، وجعلوا الاحتياج إلى الشيء سؤالا له بلسان الحال وهو من

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 213
باب التمثيل ، وسبيل هذا السؤال سبيل الجواب في رأي في قوله تعالى : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى [الأعراف :
172] وقيل : الأصل وآتاكم من كل منا سألتموه وما لم تسألوه فحذف الثاني لدلالة ما أبقى على ما ألقى ، وما يحتمل أن تكون موصولة والضمير المنصوب في سَأَلْتُمُوهُ عائد عليها ، والتقدير من كل الذي سألتموه إياه ومنع أبو حيان جواز أن يكون راجعا إليه تعالى يكون العائد على الموصول محذوفا مستندا بأنه لو قدر متصلا لزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة من دون اختلاف وهو لا يجوز «1» ولو قدر منفصلا حسبما تقتضيه القاعدة في مثل ذلك لزم حذف العائد المنفصل وقد نصوا على عدم جوازه اه.
وذهب بعضهم إلى جواز كلا التقديرين مدعيا أن منع اتصال المتحدين رتبة خاصة فيما إذا ذكرا معا أما إذا ذكر أحدهما وحذف الآخر فلا منع إذ الاتصال حينئذ محض اعتبار وعلة المنع لا تجري فيه ، وأن منع حذف المنفصل خاص أيضا فيما إذا كان الانفصال لغرض معنوي كالحصر في قولك : جاء الذي أباه ضربت إذ بالحذف حينئذ يفوت ذلك الغرض ، أما إذا كان لغرض لفظي كدفع اجتماع المثلين فلا منع إذ ليس هناك غرض يفوت ، ويحتمل أن تكون موصوفة والكلام في الضمير كما تقدم ، وأن تكون مصدرية والضمير للّه تعالى والمصدر بمعنى المفعول أي مسؤولكم.
وقرأ ابن عباس والضحاك ، والحسن ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وعمرو بن قائد وقتادة وسلام. ويعقوب ونافع في رواية مِنْ كُلِّ بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، وجوز على هذه القراءة أن تكون ما نافية والمفعول الثاني مِنْ كُلِّ كما في قوله تعالى : وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل : 23] والجملة المنفية في موضع الحال أي أتاكم من كل غير سائليه ، وهو إخبار منه تعالى بسبوغ نعمته سبحانه عليهم بما لم يسألوه من النعم وروي هذا عن الضحاك ، ولا يخفى أن الوجه هو الأول لما أن القراءة على هذا الوجه تخالف القراءة الأولى والأصل توافق القراءتين وإن فهم منها إيتاء ما سألوه بطريق الأولى.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ أي ما أنعم به عليكم كما هو الظاهر.
وقال الواحدي : إن نِعْمَتَ هنا اسم أقيم مقام المصدر يقال : أنعم إنعاما ونعمة كما يقال أنفقت إنفاقا ونفقة فالنعمة بمعنى الإنعام ولذا لم تجمع ، والمعول عليه ما أشرنا إليه من أنها اسم جنس بمعنى المنعم به ، والمراد بها الجمع كأنه قيل : وإن تعدوا نعم اللّه لا تُحْصُوها وقد نص بعضهم على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة وما قيل : إن الاستغراق ليس مأخوذا من الإضافة بل من الشرط والجزاء المخصوصين فيه نظر لأن الحكم المذكور يقتضي صحة إرادته منه ولولاه تنافيا ، والمراد - بلا تحصوها - لا تطيقوا حصرها ولو إجمالا فإنها غير متناهية ، وأصل الإحصاء العد بالحصى فإن العرب كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع ولذا قال الأعشى :
ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر
ثم استعمل لمطلق العد وقال بعض الأفاضل : إن أصله أن الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلا عن بلوغ غايتها وهو من الحسن بمكان إلا أنه ذهب إلى الأول الراغب وغيره ، ولو الإحصاء بالحصر لئلا يتنافى الشرط والجزاء إذا ثبت في الأول العد ونفي في الثاني ولو أول إِنْ تَعُدُّوا بأن تريدوا العد يندفع السؤال على ما قيل أيضا والأول أولى ، وقال بعض الفضلاء : إن المعنى أن تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعمه تعالى لا تطيقوا عدها.
___________
(1) قال ابن مالك. وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا. اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 214
وإنما أتى بإن وعدم العد مقطوع به نظرا إلى توهم أنه يطاق ، قيل : والكلام عليه أبلغ منه على الأول لما فيه من الإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يمكن عد تفاصيلها ، لكن أنت تعلم أن الظاهر هو الأول. وقد ذكر الإمام مثالين يستوضح بهما الوقوف على أن نعم اللّه تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى فقال :
الأول أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان دماغية ونخاعية ، والدماغية سبعة وقد اتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد منها ، ولا شك أن كل واحدة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحدة من تلك الشعب تنقسم أيضا إلى شعب أدق من الشعر ، ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ، ولو أن واحدة اختلت كيفا أو وضعا أو نحو ذلك لاختلت مصالح البنية ، ولكل منها على كثرتها حكم مخصوصة ، وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة ، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والوضع والفعل الانفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحرا لا ساحل له ، وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان فاعتبر في نفسه وروحه فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجسام وإذا اعتبرت أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والمعدن والحيوان ظهر لك أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلا واحدا وتأمل به الإنسان في حكمة اللّه تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل.
الثاني أنه إذا أخذت لقمة من الخبز لتضعها في فمك فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها ، فأما الأول فاعرف أنها لا تتم إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائما على الوجه الأصوب لأن الحنطة لا بد منها ولا تنبت إلا بمعونة الفصول وتركب الطبائع وظهور الأمطار والرياح ، ولا يحصل شيء من ذلك إلا بدوران الأفلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة ، ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد لها من آلات الطحن ونحوه وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ثم تأمل كيف تكونت على الأشكال المخصوصة ، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر حتى يمكن الطبخ ، وأما الثاني فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق ذلك حتى يمكنه الانتفاع بتلك اللقمة ، وإنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار فلا يمكنك أن تعرف القليل إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب على الوجه الأكمل ، وأنى للعقول بإدراك كل ذلك فظهر بالبرهان الباهر صحة هذه الشرطية اه.
وقال مولانا أبو السعود قدس سره بعد كلام : وإن رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على ما جل من السرودق فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من أنواع الفيوض المتعلق بذاته ووجوده وسائر الصفات الروحانية والنفسانية والجسمانية ما لا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير ، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدئ الأول عز شأنه وجل فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارئ لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي.
وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكم الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية ، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود وارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده ، نعم غير متناهية حقيقة لا ادعاء ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 215
وكذا الحال في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداء وبقاء ، وكذا في كمالاته التابعة لوجوده اه ، ويتراءى منه أنه قد ترك الإمام في تحقيق هذا المقام وراءه وأنه لو سمع ذلك لاقتدى به في ذكره ولعد من النعم اقتداءه وقريب منه ما يقال في بيان عدم تناهي النعم : إن الوجود نعمة وكذا كل ما يتبعه من الكمالات ، وذلك موقوف على وجوده تعالى في الأزمنة الموهومة الغير المتناهية ، وتحقق ما يتوقف عليه وجود النعمة نعمة فتحققه سبحانه في كل آن من تلك الآنات نعمة ، فالنعم غير متناهية ، ولك أن تقول من بيان ذلك : إنه ما من إنسان إلا وقد دفع اللّه تعالى عنه من البلايا ما لا يحيط به نطاق الحصر لأن البلايا الداخلة تحت حيطة الإمكان غير متناهية ، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية ، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية ، ومما يوضح عدم تناهي البلايا الممكنة أن أهل النار المخلدين فيها لا زال عذابهم بازدياد كما يرشد إليه قوله تعالى : فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ : 30] وقد ذكر غير واحد في ذلك أنهم كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد من ذلك ، فيكون كل مرتبة منه متناهيا في الشدة وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة وعلى هذا نعم اللّه تعالى على المبتلي أيضا لا تحصى.
وفي رواية ابن أبي الدنيا. والبيهقي عن ابن مسعود قال : إن للّه تعالى على أهل النار منة فلو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم. ثم الظاهر المراد بالنعمة معناها اللغوي - أعني الأمر الملائم - لا المعنى الشرعي - أعني الملائم الذي تحمد عاقبته - إذ لا يتأتى عليه عموم الخطاب ، ولا يبعد إطلاق النعمة بذلك المعنى على نحو رفع الموانع وتحقق العلل والشرائط حسبما ذكر سابقا ، وظاهر ما تقدم يقتضي أن النعم في حد ذاتها غير محصورة والآية ظاهرة في أن الإنسان لا يحصرها بالعد وفرق بين الأمرين فتدبر. وبالجملة ليس للعبد إلا العجز عن الوقوف على نهاية نعمه سبحانه وتعالى وكذا العجز عن شكر ذلك ، وما أحسن ما قال أبو الدرداء رضي اللّه تعالى عنه : من لم يعرف نعمة اللّه تعالى عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.
وأخرج البيهقي في الشعب. وغيره عن سليمان التيمي قال : إن اللّه تعالى أنعم على العباد على قدره سبحانه وكلفهم الشكر على قدرهم ، وعن طلق بن حبيب قال : إن حق اللّه تعالى أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم اللّه سبحانه أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين. وأفضل نعمه جل شأنه على عباده على ما روي عن سفيان بن عيينة أن عرفهم أن لا إله إلا اللّه. وأخرج ابن أبي الدنيا. وغيره عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم أن داود عليه السلام قال : رب أخبرني ما أدنى نعمتك علي؟ فأوحى اللّه تعالى إليه يا داود تنفس فتنفس فقال تبارك وتعالى : هذا أدنى نعمتي عليك.
واشتهر أن أول النعم المقصودة لذاتها الوجود وأنه معدن كل كمال كما أن العدم معدن كل نقص. ويدل على أنه نعمة لا يكاد يقاس بها غيرها عند كثير من الناس أن الإنسان منهم يفدي نفسه بملك الدنيا لو كان بيده وعلم أن الفداء ممكن إذا ألم به الألم وتحقق العدم.
ومن العجيب أن أبا على الشبلي البغدادي ، وقيل : ابن سيناء لم يعد وجود الإنسان نعمة عليه فقد قال من أبيات :
ودهر ينثر الأعمار نثرا كما للغصن بالورق انتثار
ودنيا كلما وضعت جنينا غذاه من نوائبها ظؤار
إلى أن قال :
نعاقب في الظهور وما ولدنا ويذبح في حشا الأم الحوار
وننتظر البلايا والرزايا وبعد فللوعيد لنا انتظار

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 216
ونخرج كارهين كما دخلنا خروج الضب أخرجه ال
وجار فماذا الامتنان على وجود لغير الموجدين به ال
خيار فكانت أنعما لو أن كونا نخير قبله أو نس
تشار فهذا الداء ليس له دواء وهذا الكسر ليس له انجبار
إلى آخر ما قال ، ولعمري لقد غمط نعمة اللّه تعالى عليه وظلمها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ يظلم النعمة باغفال شكرها بالكلية أو بوضعه في غير موضعه أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان بترك الشكر كَفَّارٌ شديد الكفران والجحود ، وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع ، والأول أنسب بما قبله ، وأل في الإنسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم وأخيه بعض من وجدا من أفراده فيه ويدخل في ذلك الذين بدلوا نعمة اللّه تعالى كفرا ، والظاهر أن الجملة استئناف بياني وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل : لم يراعوا حقها؟ أو لم حرمها بعضهم؟
وقيل : إنها تعليل لعدم تناهي النعم ولذا أتى بصيغتي المبالغة فيها وهو كما ترى هذا ، وفي النحل وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل : 18] وفرق أبو حيان بين الختمين بأنه هنا لما تقدم قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم : 28] وبعده وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً فكان ذلك نصا على ما فعلوا من القبائح من الظلم والكفران ناسب أن يختم بذم من وقع ذلك منه فختمت الآية بقوله سبحانه إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وأما في المحل فلما ذكر عدة تفضلات وأطنب فيها وقال جل شأنه : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل : 17] أي من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ذكر من تفضيلاته تعالى اتصافه بالغفران والرحمة تحريضا على الرجوع إليه سبحانه وأن هاتين الصفتين هو جل وعلا متصف بهما كما هو متصف بالخلق ، ففي ذلك اطماع لمن آمن به تعالى وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق تبارك وتعالى أنه يغفر لله السابق ويرجمه ، وأيضا فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ذكر ما حصل من المنعم ومن جنس المنعم عليه ، فحصل من المنعم ما يناسل حالة عطائه وهو الغفران والرحمة إذ لولاهما لما أنعم عليه ، وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسب حالة الأنعام ويقع معها في الجملة وهو الظلم والكفران فكأنه وقصوره. إن صدر من الإنسان ظلم فاللّه تعالى غفور أو كفران فاللّه تعالى رحيم لعلمه بعجز الإنسان وقصوره. وما نقل السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من أن هذه الآية منسوخة بآية النحل مما لا يلتفت إليه انتهى كلامه.
وفيه بحث ، وقيل : إنما ختم سبحانه آية النحل بما ختم للإطناب هناك في ذكر النعم مع تقدم الدعوة إلى الشكر صريحا فكان ذلك مظنة التقصير فيه ويناسب الإطناب في سرد النعم أن يذكر منها ما يتعلق بذلك وهو الغفران والرحمة فتأمل واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ومن باب الإشارة في الآيات : الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فيه احتمالات عندهم فقيل : من ظلمات الكثرة إلى نور الوحدة أو من ظلمات صفات النشأة إلى نور الفطرة ، أو من ظلمات حجب الأفعال والصفات إلى نور الذات ، وهو المراد بقولهم : النور البحت الخالص من شوب المادة والمدة.
وقال جعفر : من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمات البدعة إلى نور السنة ، ومن ظلمات النفوس إلى نور القلوب ، وقال أبو بكر بن طاهر : من ظلمات الظن إلى نور الحقيقة وقيل غير ذلك بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتيسيره بهبة الاستعداد وتهيئة أسباب الخروج إلى الفعل إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الذي يقهر الظلمة بالنور الْحَمِيدِ بكمال ذاته أو بما يهب لعباده المستعدين من الفضائل والعلوم أو من الوجود الباقي أو نحو ذلك وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ المحجوبين مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ وهو عذاب الحرمان الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا الحسية والصورية عَلَى الْآخِرَةِ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 217
العقلية والمعنوية وَيَصُدُّونَ المريدين عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ طريقه الموصول إليه سبحانه : وَيَبْغُونَها عِوَجاً انحرافا مع استقامتها وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أي بكلام يناسب حالهم واستعدادهم وقدر عقولهم والألم يفهموا فلا يحصل البيان ، وعن عمر رضي اللّه تعالى عنه كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه وسلم؟ وفي أسرار التأويل لكل نبي وصديق اصطلاح في كلام المعرفة وطريق المحبة يخاطب به من يعرفه من أهل السلوك ، وعلى هذا لا ينبغي للصوفي أن يخاطب العامة باصطلاح الصوفية لأنهم لا يعرفونه ، وخطابهم بذلك مثل خطاب العربي بالعجمية أو العجمي بالعربية ، ومنشأ ضلال كثير من الناس الناظرين في كتاب القوم جهلهم باصطلاحاتهم فلا ينبغي للجاهل بذلك النظر فيها لأنها تأخذ بيده إلى الكفر الصريح بل توقعه في هوة كفر ، كفر أبي جهل إيمان بالنسبة إليه ، ومن هنا صدر الأمر السلطاني إذ كان الشرع معتني به بالنهي عن مطالعة كتب الشيخ الأكبر قدس سره ومن انخرط في سلكه فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ إضلال لزوال استعداده بالهيئات الظلمانية ورسوخها والاعتقادات الباطلة واستقرارها وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته ممن بقي على استعداده أو لم يرسخ فيه تلك الهيئات والاعتقادات وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وهي أيام وصاله سبحانه حين كشف لعباده سجف الربوبية في حضرة قدسية وأدناهم إلى جنابه ومن عليهم بلذيذ من خطابه :
سقيا لها ولطيبها ولحسنها وبهائها
أيام لم يلج النوى ب ين العصا ولحائها
وما أحسن ما قيل :
وكانت بالعراق لنا ليال سلبناهن من ريب الزمان
جعلناهن تاريخ الليالي وعنوان المسرة والأماني
وأمره عليه السلام بتذكير ذلك ليثور غرامهم ويأخذ نحو الحبيب هيامهم فقد قيل :
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
وجوز أن يراد بأيام اللّه تعالى أيام تجليه جل جلاله بصفة الجلال وتذكيرهم بذلك ليخافوا فيمتثلوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي لكل مؤمن بالإيمان الغيبي إذ الصبر والشكر - على ما قيل - مقامان للسالك قبل الوصول وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ قال الجوزجاني : أي لئن شكرتم الإحسان لأزيدنكم المعرفة ولئن شكرتم المعرفة لأزيدنكم الوصلة ولئن شكرتم الوصلة لأزيدنكم القرب ولئن شكرتم القرب لأزيدنكم الأنس ، ويعم ذلك كله ما قيل : لئن شكرتم نعمة لأزيدنكم نعمة خيرا منها ، وللشكر مراتب وأعلى مراتبه الإقرار بالعجز عنه.
وفي بعض الآثار أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك والشكر من آلائك؟ فأوحى اللّه تعالى إليه الآن شكرتني يا داود ، وقال حمدون : شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أي إن سبحانه لا شك فيه لأنه الظاهر في الآفاق والأنفس فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ موجدهما ومظهرهما من كتم العدم يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ليستر بنوره سبحانه ظلمات حجب صفاتكم فلا تشكون فيه عند جلية اليقين وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى غاية يقتضيها استعدادكم من السعادة قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا منعهم ذلك عن اتباع الرسل عليهم السلام قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ سلموا لهم المشاركة في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة ما من اللّه تعالى به عليهم مما يرشحهم لذلك ، وكثيرا ما يقول المنكرون في حق أجلة المشايخ مثل ما قال هؤلاء الكفرة في حق رسلهم والجواب نحو هذا الجواب وَما كانَ لَنا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 218
أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
جواب عن قول أولئك : فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ويقال نحو ذلك للمنكرين الطالبين من الولي الكرامة تعنتا ولجاجا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لأن الإيمان يقتضي التوكل وهو الخمود تحت الموارد وفسره بعضهم بأنه طرح القلب في الربوبية والبدن في العبودية ، فالمتوكل لا يريد إلا ما يريده اللّه تعالى ، ومن هنا قيل : إن الكامل لا يحب إظهار الكرامة ، وفي المسألة تفصيل عندهم وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ذكر بعضهم أن البروز متعدد فبروز عند القيامة الصغرى بموت الجسد. وبروز عند القيامة الوسطى بالموت الإرادي وهو الخروج عن حجاب صفات النفس إلى عرصة القلب. وبروز عند القيامة الكبرى وهو الخروج عن حجاب الآنية إلى فضاء الوحدة الحقيقية ، وإن حدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين المشار إليه بقوله تعالى : فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إلخ فهو بوجود المهدي القائم بالحق الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء وفسروا الشيطان بالوهم وقد يفسرونه في بعض المواضع بالنفس الأمارة. والقول المقصوص عنه في الآية عند ظهور سلطان الحق ، وبعضهم حمل الشيطان هنا على الشيطان المعروف عند أهل الشرع وذكر أن قوله : فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ دليل بقائه على الشرك حيث رأى الغير في البين وما ثم غير اللّه تعالى ، وإلى هذا يشير كلام الواسطي حيث قال : من لام نفسه فقد أشرك ، ويخالفه قول محمد بن حامد : النفس محل كل لائمة فمن لم يلم نفسه على الدوام ورضي عنها في حال من الأحوال فقد أهلكها ، ويأباه ما
صح في الحديث القدسي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد اللّه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
فتأمل وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ لم يذكر من يحييهم ، وقد ذكروا أن منهم من يحييهم ربهم وهم أهل الصفوة والقربة ، ومنهم من يحييهم الملائكة وهم أهل الطاعات والدرجات ، وما أطيب سلام المحبوب على محبة وما ألذه على قلبه :
أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس تسيل من الآماق والاسم أدمع
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها إشارة كما قيل إلى كلمة التوحيد التي غرسها الحق في أرض بساتين الأرواح وجعل سبحانه أصلها هناك ثابتا بالتوفيق وفرعها في سماء القربة وسقيها من سواقي العناية وساقها المعرفة وأغصانها المحبة وأوراقها الشوق وحارسها الرعاية تؤتي أكلها في جميع الأنفاس من لطائف العبودية وعرفان أنوار الربوبية ، وقال بعضهم : الكلمة الطيبة النفس الطيبة أصلها ثابت بالاطمئنان ، وثبات الاعتقاد بالبرهان وفرعها في سماء الروح تؤتي أكلها من ثمرات المعارف والحكم والحقائق كل وقت بتسهيله تعالى وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ إشارة إلى كلمة الكفر أو النفس الخبيثة ، وقال جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه : الشجرة الخبيثة الشهوات وأرضها النفوس وماؤها الأمل وأوراقها الكسل وثمارها المعاصي وغايتها النار
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
قال الصادق رضي اللّه تعالى عنه : يثبتهم في الحياة الدنيا على الإيمان وفي الآخرة على صدق جواب الرحمن ،
وجعل بعضهم القول الثابت قوله سبحانه وحكمه الأزلي أي يثبتهم على ما فيه تبجيلهم وتوقيرهم في الدارين حيث حكم بذلك في الأزل وحكمه سبحانه الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ في الحياتين لسوء استعدادهم الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ من الهداية الأصلية والنور الفطري كُفْراً احتجابا وضلالا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ من تابعهم واقتدى بهم في ذلك دارَ الْبَوارِ الهلاك والحرمان وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً من متاع الدنيا ومشتهياتها التي يحبونها كحب اللّه سبحانه لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ كل من نظر إلى ذلك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 219
والتفت إليه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أي سموات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الأجساد وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي سماء عالم القدس ماءً وهو ماء العلم فَأَخْرَجَ بِهِ من أرض النفس مِنَ الثَّمَراتِ وهي ثمرات الحكم والفضائل رِزْقاً لَكُمْ في تقوى القلب بها وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ أي فلك العقول لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ أي بحر آلائه وأسرار مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ أي أنهار العلم التي تنتهي بكم إلى ذلك البحر العظيم وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ شمس الروح وَالْقَمَرَ قمر القلب دائِبَيْنِ
في السير بالمكاشفة والمشاهدة وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ ليل ظلمة صفات النفس وَالنَّهارَ نهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بلسان الاستعداد فإن المسئول بذلك لا يمنع وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ السابقة واللاحقة لا تُحْصُوها لعدم تناهيها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ ينقص حق اللّه تعالى أو حق نفسه بإبطال الاستعداد أو يضع نور الاستعداد في ظلمة الطبيعة ومادة البقاء في محل الفناء كَفَّارٌ لتلك النعم التي لا تحصى لغفلته عن المنعم عليه بها ، وقيل : إن الإنسان لظلوم لنفسه حيث يظن أن شكره يقابل نعمه تعالى ، كفار محجوب عن رؤية الفضل عليه بداية ونهاية. نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويكرمنا بالهداية والعناية.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 إلى 52]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49)
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 220
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ مفعول لفعل محذوف أي اذكر ذلك الوقت ، والمقصود تذكير ما وقع فيه على نهج ما قيل في أمثاله رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ يعني مكة شرفها اللّه تعالى : آمِناً أي ذا أمن ، فصيغة فاعل للنسب كلابن وتامر لأن الآمن في الحقيقة أهل البلد ، ويجوز أن يكون الإسناد مجازيا من إسناد ما للحال إلى المحل كنهر جار ، والفرق بين ما هنا وما في [البقرة : 126] من قوله : رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً أنه عليه السلام سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا كذا في الكشاف ، وتحقيقه أنك إذا قلت : اجعل هذا خاتما حسنا فقد أشرت إلى المادة طالبا أن يسبك منها خاتم حسن وإذا قلت : اجعل هذا الخاتم حسنا فقد قصدت الحسن دون الخاتمية ، وذلك لأن محط الفائدة هو المفعول الثاني لأنه بمنزلة الخبر ، وإلى هذا يرجع ما قيل في الفرق أن في الأول سؤال أمرين البلدية والأمن وهاهنا سؤال أمر واحد وهو الأمن. واستشكل هذا التفسير بأن يقتضي أن يكون سؤال البلدية سابقا على السؤال المحكي في هذه السورة وأنه يلزم أن تكون الدعوة الأولى غير مستجابة.
قال في الكشف : والتقصي عن ذلك إما بأن المسئول أولا صلوحه للسكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمر في البلاد فقد كان غير صالح لها بوجه على ما هو المشهور في القصة ، وثانيا إزالة خوف عرض كما يعتري البلاد الآمنة أحيانا ، وأما بالحمل على الاستدامة وتنزيله منزلة العاري عنه مبالغة أو بأن أحدهما أمن الدنيا والآخر أمن الآخرة أو أن الدعاء الثاني صدر قبل استجابة الأول ، وذكر بهذه العبارة إيماء إلى أن المسئول الحقيقي هو الأمن والبلدية توطئة لا أنه بعد الاستجابة عراه خوف ، وكأنه بنى الكلام على الترقي فطلب أولا أن يكون بلدا آمنا من جملة البلاد التي هي كذلك ، ثم لتأكيد الطلب جعله مخوفا حقيقة فطلب الأمن لأن دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة ولذا ذيله عليه السلام بقوله : إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ اه.
وهو مبني على تعدد السؤال وإن حمل على وحدته وتكرير الحكاية كما استظهره بعضهم ، واستظهر آخرون الأول لتغاير التعبير في المحلين ، فالظاهر أن المسئول كلا الأمرين وقد حكى أولا ، واقتصر هاهنا على حكاية سؤال الأمن لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ إذ المسئول هويها إليهم للمساكنة كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لا للحج فقط وهو عين سؤال البلدية وقد حكى بعبارة أخرى على ما اختاره بعض الأجلة أو لأن نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشكر فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله على ما قيل ، وهذه الآية وما تلاها أعني قصة إبراهيم عليه السلام على ما نص عليه صاحب الكشف واردة على سبيل الاعتراض مقررة لما حث عليه من الشكر بالإيمان والعمل الصالح وزجر عنه من مقابلهما مدمجا فيها دعوة هؤلاء النافرين بلسان اللطف والتقريب مؤكدة لجميع ما سلف أشد التأكيد.
وفي إرشاد العقل السليم أن المراد منها تأكيد ما سلف من تعجيبه صلى اللّه عليه وسلم ببيان فن آخر من جنايات القوم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم مكة زادها اللّه تعالى شرفا لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم اللّه تعالى وسأله أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات ويهوى قلوب الناس إليهم فاستجاب اللّه تعالى دعاءه وجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا دار البوار بالبلد الحرام وجعلوا للّه تعالى أندادا وفعلوا ما فعلوا من القبائح الجسام وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أي بعدني وإياهم أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ أي عن عبادتها ، وقرأ الجحدري. وعيسى الثقفي «وأجنبني»

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 221
بقطع الهمزة وكسر النون بوزن أكرمني وهما لغة أهل نجد يقولون : جنبه مخففا وأجنبه رباعيا وأما أهل الحجاز فيقولون : جنبه مشددا ، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره ثم استعمل بمعنى البعد ، والمراد هنا على ما قال الزجاج طلب الثبات والدوام على ذلك أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وإلا فالأنبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير اللّه تعالى. وتعقب ذلك الإمام بأنه لما كان من المعلوم أنه سبحانه يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب فما الفائدة في سؤال التثبيت؟ ثم قال : والصحيح عندي في الجواب وجهان : الأول أن عليه السلام وإن كان يعلم أن اللّه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضما لنفسه وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل اللّه سبحانه وتعالى في كل المطالب ، والثاني أن الصوفية يقولون : الشرك نوعان. ظاهر وهو الذي يقول به المشركون. وخفي وهو تعلق القلب بالوسائط والأسباب الظاهرة والتوحيد المحض قطع النظر عما سوى اللّه تعالى ، فيحتمل أن يكون مراده عليه السلام من هذا الدعاء العصمة عن هذا الشرك انتهى ، ويرد على هذا الأخير أنه يعود السؤال عليه فيما أظن لأن النظر إلى السوي يحاكي الشرك الذي يقول به المشركون عند الصوفية فقد قال قائلهم «1» :
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
ولا أظن أنهم يجوزون ذلك للأنبياء عليهم السلام ، وحيث بني الكلام على ما قرروه يقال : ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والأنبياء عليهم السلام معصومون عنه؟ والجواب الصحيح عندي ما قيل : إن عصمة الأنبياء عليهم السلام ليست لأمر طبيعي فيهم بل بمحض توفيق اللّه تعالى إياهم وتفضله عليهم ، ولذلك صح طلبها وفي بعض الآثار أن اللّه سبحانه قال لموسى عليه السلام : يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط.
وأنت تعلم أن المبشرين بالجنة على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كانوا كثيرا ما يسألون اللّه تعالى الجنة مع أنهم مقطوع لهم بها ، ولعل منشأ ذلك ما قيل لموسى عليه السلام فتدبر ، والمتبادر من بنيه عليه السلام من كان من صلبه ، فلا يتوهم أن اللّه تعالى لم يستجب دعاءه لعبادة قريش الأصنام وهم من ذريته عليه السلام حتى يجاب بما قاله بعضهم من أن المراد كل من كان موجودا حال الدعاء من أبنائه ولا شك أن دعوته عليه السلام مجابة فيهم أو بأن دعاءه استجيب في بعض دون بعض ولا نقص فيه كما قال الإمام.
وقال سفيان بن عيينة : إن المراد ببنيه ما يشمل جميع ذريته عليه السلام وزعم أنه لم يعبد أحد من أولاد إسماعيل عليه السلام الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هذا حجر والبيت حجر وكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ولهذا كره غير واحد أن يقال دار بالبيت»
بل يقال طاف به ، وعلى ذلك أيضا حمل مجاهد البنين وقال : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنما وإنما عبد بعضهم الوثن ، وفرق بينهما بأن الصنم هو التمثال المصور والوثن هو التمثال الغير المصور ، وليت شعري كيف ذهبت على هذين الجليلين ما في القرآن من قوارع تنعى على قريش عبادة الأصنام. وقال الإمام بعد نقله كلام مجاهد : إن هذا ليس بقوي لأنه عليه السلام لم يرد بهذا الدعاء إلا عبادة غير اللّه تعالى والصنم كالوثن في ذلك ويرد مثله على ابن عيينة ، ومن هنا قيل عليه : إن فيما ذكره كرا على ما فر منه لأن ما كانوا يصنعونه عبادة لغير اللّه تعالى أيضا : واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان
___________
(1) هو ابن الفارض قدس سره اه منه.
(2) ولا يخفى أن هذا من الآداب وإلا فقد ورد «دار» في بعض من الآثار كما قال النووي اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 222
ليس إلا من اللّه تعالى لأنه عليه السلام إنما طلب التبعيد عن عبادة الأصنام منه تعالى ، وحمل ذلك على الألطاف فيه ما فيه رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي تسببن له في الضلال فاسناد الإضلال إليهن مجازي لأنهن جماد لا يعقل منهن ذلك والمضل في الحقيقة هو اللّه تعالى ، وهذا تعليل لدعائه عليه السلام السابق ، وصدر بالنداء إظهارا للاعتناء به ورغبة في استجابته فَمَنْ تَبِعَنِي منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملة الإسلام فَإِنَّهُ مِنِّي يحتمل أن تكون من تبعيضية على التشبيه أي فإنه كبعضي في عدم الانفكاك ، ويحتمل أن تكون اتصالية كما في
قوله صلى اللّه عليه وسلم لعليّ كرم اللّه تعالى وجهه «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»
أي فإنه متصل بي لا ينفك عني في أمر الدين ، وتسميتها اتصالية لأنه يفهم منها اتصال شيء بمجرورها وهي ابتدائية إلا أن ابتدائيته باعتبار الاتصال كذا في حواشي شرح المفتاح الشريفي ، يعني أن مجرورها ليس مبدأ أو منشأ لنفس ما قبلها بل لاتصاله ، فإما أن يقدر متعلقها فعلا خاصا كما قاله الجلال السيوطي في بيان الخبر من أن مِنِّي فيه خبر المبتدأ ومن اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة بمعنى أنت متصل بي ونازل مني بمنزلة هارون من موسى ، وإما أن يقدر فعل عام كما ذهب إليه الشريف هناك أي منزلته بمنزلة كائنة وناشئة مني كمنزلة هارون من موسى عليهما السلام ، وتقديره خاصا هنا كما فعلنا على تقدير جعلها اتصالية مما يستطيبه الذوق السليم دون تقديره عاما وَمَنْ عَصانِي أي لم يتبعني ، والتعبير عنه بالعصيان كما قيل للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباع من لم يتبعه إنما هو لعصيانه لا لأن الدعوة لم تبلغه. وفي البحر أن بين الاتباع والعصيان طباقا معنويا لأن الاتباع طاعة فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي قادر على أن تغفر له وترحمه ، وفي الكلام على ما أشار إليه البعض حذف والتقدير ومن عصاني فلا أدعو عليه فإنك إلخ ، وفي الآية دليل على أن الشرك يجوز أن يغفر ولا إشكال في ذلك بناء على ما قال النووي في شرح مسلم من أن مغفرة الشرك كانت في الشرائع القديمة جائزة في أممهم وإنما امتنعت في شرعنا.
واختلف القائلون بأن مغفرة الشرك لم تكن جائزة في شريعة من الشرائع في توجيه الآية ، فمنهم من ذهب إلى أن المراد غفور رحيم بعد التوبة ونسب ذلك إلى السدي. ومنهم من ذهب إلى تقييد العصيان بما دون الشرك وغفل عما تقتضيه المعادلة ، وروي ذلك عن مقاتل. وفي رواية أخرى عنه أنه قال : إن المعنى ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والإسلام وتهديه إلى الصواب. ومنهم من قال :
المعنى ومن لم يتبعني فيما أدعو إليه من التوحيد وأقام على الشرك فإنك قادر على أن تستره عليه وترحمه بعدم معاجلته بالعذاب ، ونظير ذلك قوله تعالى : وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد : 6] ومنهم من قال : إن الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم أن اللّه سبحانه لا يغفر الشرك ، ولا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلا كما تقرر في الأصول لكن الدليل السمعي منع منها ، ولا يلزم النبي أن يعلم جميع الأدلة السمعية في يوم واحد. والإمام لم يرتض أكثر هذه الأوجه وجعل هذا الكلام منه عليه السلام شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وأنه دليل لحصول ذلك لنبينا صلى اللّه عليه وسلم فقال : إن المعصية المفهومة من الآية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو قبلها ، والأول والثاني باطلان لأن مَنْ عَصانِي مطلق فتخصيصه عدول عن الظاهر ، وأيضا الصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصم فلا يمكن اللفظ عليه فثبت أن الآية شفاعة لأهل الكبائر قبل التوبة ، ومتى ثبتت منه عليه السلام ثبتت في حق نبينا عليه الصلاة والسلام لمكان اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النساء : 125] ونحوه ، ولئلا يلزم النقص ، وهو كما ترى ، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فتذكر هداك اللّه تعالى.
رَبَّنا قال في البحر كرر النداء رغبة في الإجابة والالتجاء إليه تعالى ، وأتى بضمير الجماعة لأنه تقدم ذكره

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 223
عليه السلام وذكر بنيه في قوله : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ وتعقب بأن ذلك يقتضي ضمير الجماعة في رَبِّ إِنَّهُنَّ إلخ مع أنه جيء فيه بضمير الواحد ، فالوجه أن ذلك لأن الدعاء المصدر به وما هو بصدد تمهيد مبادئ إجابته من قوله :
إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ متعلق بذريته ، فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول وإجابة المسئول ، والتأكيد لمزيد الاعتناء فيما قصده من الخبر ومِنْ في قوله مِنْ ذُرِّيَّتِي بمعنى بعض وهي في تأويل المفعول به أي أسكنت بعض ذريتي ، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا والجار والمجرور صفته سدت مسده أي أسكنت ذرية من ذريتي ومِنْ تحتمل التبعيض والتبيين. وزعم بعضهم أن مِنْ زائدة على مذهب الأخفش لا يرتضيه سليم البصيرة كما لا يخفى ، والمراد بالمسكن إسماعيل عليه السلام ومن سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم ، والداعي للتعميم على ما قيل قوله الآتي : لِيُقِيمُوا إلخ ، ولا يخفى أن الإسكان له حقيقة ولأولاده مجاز ، فمن لم يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز يرتكب لذلك عموم المجاز ، وهذا الإسكان بعد ما كان بينه عليه السلام وبين أهله ما كان.
وذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه السلام فلما ولدت له إسماعيل غارت فلم تقاره على كونه معها فأخرجها وابنها إلى أرض مكة فوضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى منطلقا فتبعته هاجر فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له : اللّه أمرك بهذا؟ قال : نعم «1» قالت : إذن لا يضيعنا.
ثم رجعت ، وانطلق عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرون استقبل بوجهه البيت وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال : رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ - إلى - لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر ، فهبطت حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزته ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر ففعلت ذلك سبع مرات ولذلك سعى الناس بينهما سبعا ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور فشربت وأرضعت ولدها وقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت اللّه تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن اللّه سبحانه لا يضيع أهله ، ثم إنه مرت رفقة من جرهم فرأوا طائرا عائفا فقالوا : لا طير إلا على الماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده ، فقالوا : أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت ، فلما أدرك إسماعيل عليه السلام زوجوه امرأة منهم وتمام القصة في كتب السير.
بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وهو وادي مكة شرفها اللّه تعالى ، ووصفه بذلك دون غير مزورع للمبالغة لأن المعنى ليس صالحا للزرع ، ونظيره قوله تعالى : قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر : 28] وكان ذلك لحجريته ، قال ابن عطية : وإنما لم يصفه عليه السلام بالخلو عن الماء مع أنه حاله إذ ذاك لأنه كان علم أن اللّه تعالى لا يضيع إسماعيل عليه السلام وأمه في ذلك الوادي وأنه سبحانه يرزقهما الماء فنظر عليه السلام النظر البعيد ، وقال أبو
___________
(1) وبهذا يبطل استدلال بعض غلاة المتصوفة بالآية على أنه يجوز للإنسان أن يضع ولده وعياله في أرض مضيعة اتكالا اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 224
حيان بعد نقله وقد يقال : إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء إذ لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث الماء فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء اه ، وقال بعضهم : إن طلب الماء لم يكن مهما له عليه السلام لما أن الوادي مظنة السيول والمحتاج للماء يدخر منها ما يكفيه وكان المهم له طلب الثمرات فوصف ذلك بكونه غير صالح للزرع بيانا لكمال الافتقار إلى المسئول فتأمل. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ظرف لأسكنت كقولك : صليت بمكة عند الركن ، وزعم أبو البقاء أنه صفة واد أبو بدل منه ، واختار بعض الأجلة الأول إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقرب إلى اللّه تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره ، فإنهم قالوا : معنى كون البيت محرما أن اللّه تعالى حرم التعرض له والتهاون به أو أنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه الجبابرة في كل عصر أو لأنه منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذا سمي عتيقا على ما قيل «1» ، وأبعد من قال إنه سمي محرما لأن الزائرين يحرمون على أنفسهم عند زيارته أشياء كانت حلالا عليهم ، وسماه عليه السلام بيتا باعتبار ما كان فإنه كان مبنيا قبل ، وقيل : باعتبار ما سيكون بعد وهو ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة كذلك.
رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي لأن يقيموا ، فاللام جارة والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ، والجار والمجرور متعلق - بأسكنت - المذكور ، وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة فإنها عماد الدين ولذا خصها بالذكر من بين سائر شعائره ، والمعنى على ما يقتضيه كلام غير واحد على الحصر أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين رحمتك التي آثرت بها سكان حرمك.
وهذا الحصر - على ما ذكروا - مستفاد من السياق فإنه عليه السلام لما قال : بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ نفى أن يكون سكانهم للزراعة ولما قال : عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أثبت أنه مكان عبادة فلما قال : لِيُقِيمُوا أثبت أن الإقامة عنده عبادة وقد نفى كونها للكسب فجاء الحصر مع ما في رَبَّنا من الإشارة إلى أن ذلك هو المقصود.
وعن مالك أن التعليل يفيد الحصر ، فقد استدل بقوله تعالى : لِتَرْكَبُوها [النحل : 8] على حرمة أكلها ، وفي الكشف أن استفادة الحصر من تقدير محذوف مؤخر يتعلق به الجار والمجرور أي ليقوموا أسكنتهم هذا الإسكان ، أخبر أولا أنه أسكنهم ، بواد قفر فأدمج فيه حاجتهم إلى الوافدين وذكر وجه الإيثار لشرف الجوار بقوله : عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ثم صرح ثانيا بأنه إنما آثر ذلك ليعمروا حرمك المحرم وبنى عليه الدعاء الآتي ، ومن الدليل على أنه غير متعلق بالمذكور تخلل رَبَّنا ثانيا بين الفعل ومتعلقه وهذا بين ولا وجه لاستفادة ذلك من تكرار رَبَّنا إلا من هذا الوجه اه ، واختار بعضهم ما ذكرناه أولا في وجه الاستفادة وقال : إنه معنى لطيف ولا ينافيه الفصل بالنداء لأنه اعتراض لتأكيد الأول وتذكيره فهو كالمنبه عليه فلا حاجة إلى تعلق الجار بمحذوف مؤخر واستفادة الحصر من ذلك ، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه ، ويجعل النداء مؤكدا للأول يندفع ما قيل : إن النداء له صدر الكلام فلا يتعلق ما بعده بما قبله فلا بد من تقدير متعلق ، ووجه الاندفاع ظاهر ، وقيل : اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها ، والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من اللّه تعالى أن يوفقهم لها ولا يخفى بعده ، وأبعد منه ما قاله أبو الفرج بن
___________
(1) وقيل : العتيق مقابل الجديد اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 225
الجوزي : إن اللام متعلقة بقوله : اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وفي قوله : لِيُقِيمُوا بضمير الجمع على ما في البحر دلالة على أن اللّه تعالى أعلمه بأن ولده إسماعيل عليه السلام سيعقب هنالك ويكون له نسل فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أي أفئدة من أفئدتهم تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تسرع إليهم شوقا وودادا - فمن - للتبعيض ، ولذا قيل : لو قال عليه السلام : أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم ، وهو مبني على الظاهر من إجابة دعائه عليه السلام وكون الجمع المضاف يفيد الاستغراق. وروي عن ابن جبير أنه قال : لو قال عليه السلام : أفئدة الناس لحجت البيت اليهود والنصارى.
وتعقب بأنه غير مناسب للمقام إذ المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإن عين الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى اه. وأنت تعلم أنه لا منافاة بين الشرطية في المروي وكون المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم ، وقد جاء نحو تلك الشرطية عن ابن عباس ، ومجاهد كما في الدر المنثور. وغيره ، على أن بعضهم جعل هذا دعاء بتوجيه القلوب إلى البيت. فقد أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن الحكم قال : سألت عكرمة. وطاوسا. وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية فَاجْعَلْ إلى آخره فقالوا : البيت تهوى إليه قلوبهم يأتونه ، وفي لفظ قالوا : هواهم إلى مكة أن يحجوا نعم هو خلاف الظاهر ، وجوز أن تكون مِنْ للابتداء كما في قولك : القلب منه سقيم تريد قلبه فكأنه قيل : أفئدة ناس ، واعترضه أبو حيان بأنه لا يظهر كونها للابتداء لأنه لا فعل هنا يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل أفئدة من الناس.
وتعقبه بعض الأجلة بقوله : وفيه بحث فإن فعل الهوى للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي إليها ، ألا يرى إلى قوله : إِلَيْهِمْ وفيه تأمل اه وكأن فيه إشارة إلى ما قيل : من أن الابتداء في مِنْ الابتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقا ، وإن جعلناها متعلقة - بتهوى - لا يظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة ، وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلاما لا يخلو عن بحث فقال : اعلم أنه قال في الإيضاح أنه قد يكون القصد إلى الابتداء دون أن يقصد انتهاء مخصوص إذا كان المعنى لا يقتضي إلا المبتدأ منه كأعوذ باللّه تعالى من الشيطان الرجيم ، وزيد أفضل من عمرو.
وقد قيل : إن جميع معاني مِنْ دائرة على الابتداء ، والتبعيض هنا لا يظهر فيه فائدة كما في قوله : وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم : 4] فإن كون قلب الشخص وعظمه بعضا منه معنى مكشوف غير مقصود بالإفادة فلذا جعلت للابتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه إذا صلح صلح البدن كله ، وإلى هذا نحا المحققون من شراح الكشاف لكنه معنى غامض فتدبره ، والأفئدة مفعول أول - لا جعل - وهو جمع فؤاد وفسروه على ما في البحر. وغيره بالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد ، يقال : فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي ، وقيل : الأفئدة هنا القطع من الناس بلغة قريش وإليه ذهب ابن بحر ، والمفعول الثاني جملة «تهوى» وأصل الهوى الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة ، وكان حقه أن يعدى باللام كما في قوله :
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها طارت وفي كفه من ريشها تبك
وإنما عدي بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله :
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما مؤمن الجن كأنجاسها
ولما كان ما تقدم كالمبادئ لإجابة دعائه عليه السلام وإعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله : «فاجعل» إلى آخره وقرأ هشام «أفئيدة» بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه ، وخرج ذلك على الإشباع كما في قوله :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 226
أعوذ باللّه من العقراب الشائلات عقد الأذناب
ولما كان ذلك لا يكون إلا في ضرورة الشعر عند بعضهم قالوا : إن هشاما قرأ بتسهيل الهمزة كالياء فعبر عنها الراوي بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة ، والمراد بياء عوضا من الهمزة. وتعقب ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بأن النقلة عن هشام كانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها فهم أجل من أن يعتقد فيهم مثل ذلك. وقرئ «آفدة» على وزن ضاربة وفيه احتمالان : أحدهما أن يكون قدمت فيه الهمزة على الفاء فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة فقلبت ألفا فوزنه أعفلة كما قيل في أدور جمع دار قلبت فيه الواو المضمومة همزة ثم قدمت وقلبت الفاء فصار آدر.
وثانيهما أنه اسم فاعل من أفد يأفد بمعنى قرب ودنا ويكون بمعنى عجل ، وهو صفة لمحذوف أي جماعة أو جماعات آفدة. وقرئ «أفدة» بفتح الهمزة من غير مد وكسر الفاء بعدها دال ، وهو إما صفة من أفد بوزن خشنة فيكون بمعنى آفدة في القراءة الأخرى أو أصله أفئدة فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها ثم طرحت وهو وجه مشهور عند الصرفيين والقراء.
قال الأولون : إذا تحركت الهمزة بعد ساكن صحيح تبقى أو تنقل حركتها إلى ما قبلها وتحذف ، ولا يجوز جعلها بين بين لما فيه من شبه التقاء الساكنين ، وقال صاحب النشر من الآخرين : الهمزة المتحركة بعد حرف صحيح ساكن كمسؤولا وأفئدة وقرآن وظمآن فيها وجه واحد وهو النقل وحكى فيه وجه ثان وهو بين بين وهو ضعيف جدا وكذا قال غيره منهم ، فما قيل : إن الوجه إخراجها بين بين ليس بالوجه. وقرأت أم الهيثم «أفودة» بالواو المكسورة بدل الهمزة ، قال صاحب اللوامح : وهو جمع وفد ، والقراءة حسنة لكني لا أعرف هذه المرأة بل ذكرها أبو حاتم اه. وقال أبو حيان : يحتمل أنه أبدل الهمزة في فؤاد ثم جمع وأقرت الواو في الجمع إقرارها في المفرد أو هو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح وقلب إذ الأصل أوفدة ، وجمع فعل على أفعلة شاذ ونجد وأنجدة ووهى وأوهية ، وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «إفادة» على وزن امارة ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا : أشاح في وشاح فالوزن فعالة أي فاجعل ذوي وفادة ، ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة أي ذوي إفادة وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم. وقرأ مسلمة بن عبد اللّه «تهوى» بضم التاء مبنيا للمفعول من أهوى المنقول بهمزة التعدية من هوى اللازم كأنه قيل : يسرع بها إليهم. وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه. وجماعة من أهله.
ومجاهد «تهوى»
مضارع هو بمعنى أحب ، وعدي بإلى لما تقدم وَارْزُقْهُمْ أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك. وجوز أن يريدهم والذين ينحازون إليهم من الناس ، وإنما لم يخص عليه السلام الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله : وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة : 126] اكتفاء - على ما قيل - بذكر إقامة الصلاة.
مِنَ الثَّمَراتِ من أنواعها بأن تجعل بقربهم قرى يحصل فيها ذلك أو تجبى إليهم من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلا الأمرين حتى أنه يجتمع في مكة المكرمة البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد. أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها اللّه تعالى ووضعها حيث وضعها رزقا للحرم. وفي رواية أن جبريل عليه السلام اقتلعها فجاء وطاف بها حول البيت سبعا ولذا سميت الطائف ثم وضعها قريب مكة. وروي نحو ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن اللّه تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام. والظاهر أن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقصوده من هذا الدعاء نقل أرض منبتة من فلسطين أو قرية من قرى الشام وإنما مقصوده عليه السلام أن يرزقهم سبحانه من الثمرات وهو لا يتوقف على النقل ، فلينظر ما وجه الحكمة فيه ، وأنا لست على يقين من صحته ولا أنكر والعياذ باللّه تعالى أن اللّه جل وعلا على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 227
كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات ، ولا يخفى ما في دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة ، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسئول ، ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من الحاجات وغيرها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي أن مراده عليه السلام ما نخفي من حب إسماعيل وأمه وما نعلن لسارة من الجفاء لهما ، وقيل : ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة وما نعلن من البكاء والدعاء ، وقيل : ما نخفي من كآبة الافتراق وما نعلن مما جرى بيننا وبين هاجر عند الوداع من قولها : إلى من تكلنا؟ وقولي لها : إلى اللّه تعالى ، وما في جميع هذه الأقوال موصولة والعائد محذوف والظاهر العموم وهو المختار ، والمراد بما نخفي على ما قيل ما يقابل ما نُعْلِنُ سواء تعلق به الإخفاء أو لا أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمه تعالى متعلق بما لا يخظر بباله عليه السلام من الأحوال الخفية ، وتقديم ما نُخْفِي على ما نُعْلِنُ لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم على أبلغ وجه فكان تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السر والخفاء متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن الا وهو قبل ذلك خفي فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية ، وجعل بعضهم ما مصدرية والتقديم والتأخير لتحقيق المساواة أيضا ، ومن هنا قيل : أي تعلم سرنا كما تعلم علننا.
والمقصود من فحوى كلامه عليه السلام أن إظهار هذه الحاجات وما هو مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتذلل لعزتك وعرض الافتقار لما عندك والاستعجال لنيل أياديك ، وقيل : أراد عليه السلام أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا من أنفسنا فلا حاجة لنا إلى الطلب لكن ندعوك لإظهار العبودية إلى آخره ، وقد أشار السهروردي إلى أن ظهور الحال يغني عن السؤال بقوله :
ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني عليل ومن أشكو إليه عليل
ويمنعني الشكوى إلى اللّه أنه عليم بما أشكوه قبل أقول
وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال ، وضمير الجماعة - كما قال بعض المحققين - لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بما يخفى وما يعلن بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه عليه السلام بقوله على وجه الاعتراض : وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ لما أن علمه تعالى ذاتي فلا يتفاوت بالنسبة إليه معلوم دون معلوم ، وقال أبو حيان : لا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم ا ه. ومما نقلنا يعلم وجه إضافة رب هنا إلى ضمير الجمع ، ولا أدري ماذا أراد أبو حيان بكلامه هذا ، وما يرد عليه أظهر من أن يخفى ، وإنما قال عليه السلام : وَما يَخْفى إلى آخره دون أن يقول : ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقا لما عناه بقوله : تَعْلَمُ ما نُخْفِي من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات. وكلمة فِي متعلقة بمحذوف وقع صفة - لشي ء - أي لشيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما ، وجوز أن تتعلق - بيخفى - وهو كما ترى. وتقديم الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القرب والبعد من المستعدين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا. والمراد من السَّماءِ ما يشمل السموات كلها ولو أريد من الْأَرْضِ جهة السفل ومن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 228
السماء جهة العلو كما قيل جاز «1» ، والالتفات من الخطاب إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم والإيذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الأشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدئية الكل ، وعن الجبائي أن هذا من كلام اللّه تعالى شأنه وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه : وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل : 34] والأكثرون على الأول. ومِنْ على الوجهين للاستغراق الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي مع كبر سني ويأسي عن الولد - فعلى - بمعنى مع كما في قوله :
إني على ما ترين من كبري أعرف من أين تؤكل الكتف
والجار والمجرور في موضع الحال ، والتقييد بذلك استعظاما للنعمة وإظهار الشكر لها ، ويصح جعل «على» بمعناها الأصلي والاستعلاء مجازي كما في البحر ، ومعنى استعلائه على الكبر أنه وصل غايته فكأنه تجاوزه وعلا ظهره كما يقال : على رأس السنة ، وفيه من المبالغة ما لا يخفى ، وقال بعضهم : لو كانت للاستعلاء لكان الأنسب جعل الكبر مستعليا عليه كما في قولهم : على دين ، وقوله : وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [الشعراء : 14] بل الكبر أولى بالاستعلاء منهما حيث يظهر أثره في الرأس وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم : 4] نعم يمكن أن تجري على حقيقتها بجعلها متعلقة بالتمكن والاستمرار أي متمكنا مستمرا على الكبر فهو الأنسب كاظهار ما في الهيئة من الآية حيث لم يكن في أول الكبر اه وفيه غفلة عما ذكرنا إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه وهب له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة ، ووهب له إسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة ، وفي رواية أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين ، وإسحق لسبعين ، وعن ابن جبير لم يولد لإبراهيم عليه السلام إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة إِنَّ رَبِّي ومالك أمري لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي لمجيبه فالسمع بمعنى القبول والإجابة مجاز كما في سمع اللّه تعالى لمن حمده ، وقولهم : سمع الملك كلامه إذا اعتد به وقبله ، وهو فعيل من أمثلة المبالغة وأعمله سيبويه وخالف في ذلك جمهور البصريين ، وخالف الكوفيون فيه وفي أعمال سائر أمثلتها ، وهو إذا قلنا بجواز عمله مضاف لمفعوله أن أريد به المستقبل ، وقيل : إنه غير عامل لأنه قصد به الماضي أو الاستمرار ، وجوز الزمخشري أن يكون مضافا لفاعله المجازي فالأصل سميع دعاؤه بجعل الدعاء نفسه سامعا ، والمراد أن المدعو وهو اللّه تعالى سامع.
وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة وهو متعد ولا يجوز ذلك إلا عند الفارسي حيث لا يكون لبس نحو زيد ظالم العبيد إذا علم أن له عبيدا ظالمين ، وهاهنا فيه البأس لظهور أنه من إضافة المثال للمفعول انتهى ، وهو كلام متين.
والقول بأن اللبس منتف لأن المعنى على الإسناد المجازي كلام واه لأن المجاز خلاف الظاهر فاللبس فيه أشد ومثله القول بأن عدم اللبس إنما يشترط في إضافته إلى فاعله على القطع ، وهذا كما قال بعض الأجلة مع كونه من تتمة الحمد والشكر لما فيه من وصفه تعالى بأن قبول الدعاء عادته سبحانه المستمرة تعليل على طريق التذييل للهبة المذكورة وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله : رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات :
100] فاقترنت الهبة بقبول الدعوة ، وذكر بعضهم أن موقع قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ وتذييله موقع الاعتراض بين أدعيته عليه السلام في هذا المكان تأكيدا للطلب بتذكير ما عهد من الإجابة ، يتوسل إليه سبحانه بسابق نعمته تعالى في شأنه كأنه عليه السلام يقول اللهم استجب دعائي في حق ذريتي في هذا المقام فإنك لم تزل سميع الدعاء وقد دعوتك على الكبر أن تهب لي ولدا فأجبت دعائي وهبت لي إسماعيل وإسحاق ولا يخفى أن إسحاق عليه السلام لم يكن
___________
(1) قيل وهو أوفق بافراد السماء اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 229
مولودا عند دعائه عليه السلام السابق فالوجه أن لا يجعل ذلك اعتراضا بل يحمل على أن اللّه تعالى حكى جملا مما قاله إبراهيم عليه السلام في أحايين مختلفة تشترك كلها فيما سيق له الكلام من كونه عليه السلام على الإيمان والعمل الصالح وطلب ذلك لذريته وأن ولده الحقيقي من تبعه على ذلك فترك العناد والكفر ، وقد ذكر هذا صاحب الكشف.
ومما يعضده ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ إلخ : قال هذا بعد ذلك بحين ، ووحد عليه السلام الضمير في رب وإن كان عقيب ذكر الولدين لما أن نعمة الهبة فائضة عليه عليه السلام خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ معدلا لها فهو مجاز من أقمت العود إذا قومته ، وأراد بهذا الدعاء الديمومة على ذلك ، وجوز بعضهم أن يكون المعنى مواظبا عليها ، وبعض عظماء العلماء أخذ الأمرين في تفسير ذلك على أن الثاني قيد للأول مأخوذ من صيغة الاسم والعدول عن الفعل كما أن الأول مأخوذ من موضوعه على ما قيل ، فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين مجازيين ، وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته عليه السلام لذريته أيضا حيث قال : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذريته أتباع له فإن ذكرهم بطريق الاستطراد «ومن» للتبعيض ، والعطف كما قال أبو البقاء على مفعول «اجعل» الأول أي ومن ذريتي مقيم الصلاة.
وفي الحواشي الشهابية أن الجار والمجرور في الحقيقة صفة للمعطوف على ذلك أي وبعضا من ذريتي ولولا هذا التقدير كان ركيكا ، وإنما خص عليه السلام هذا الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهته تعالى أن بعضا منهم لا يكون مقيم الصلاة بأن يكون كافرا أو مؤمنا لا يصلي ، وجوز أن يكون علم من استقرائه عادة اللّه تعالى في الأمم الماضية أن يكون في ذريته من لا يقيمها وهذا كقوله : وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة : 128] رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ظاهره دعائي هذا المتعلق بجعلي وجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ولذلك جيء بضمير الجماعة ، وقيل : الدعاء بمعنى العبادة أي تقبل عبادتي. وتعقب بأن الأنسب أن يقال فيه دعاءنا حينئذ.
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وهبيرة عن حفص «دعائي» بياء ساكنة في الوصل ، وفي رواية البزي عن ابن كثير أنه يصل ويقف بياء.
وقال قنبل : إنه يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف رَبَّنَا اغْفِرْ لِي أي ما فرط مني مما أعده ذنبا وَلِوالِدَيَّ أي لأمي وأبي ، وكانت أمه على ما روي عن الحسن مؤمنة فلا إشكال في الاستغفار لها ، وأما استغفاره لأبيه فقد قيل في الاعتذار عنه إنه كان قبل أن يتبين له أنه عدو للّه سبحانه واللّه تعالى قد حكى ما قاله عليه السلام في أحايين مختلفة ، وقيل : إنه عليه السلام نوى شرطية الإسلام والتوبة وإليه ذهب ابن الخازن ، وقيل : أراد بوالده نوحا عليه السلام ، وقيل : أراد بوالده آدم وبوالدته حواء عليهما السلام وإليه ذهب بعض من قال بكفر أمه والوجه ما تقدم.
وقالت الشيعة : إن والديه عليه السلام كانا مؤمنين ولذا دعا لهما ، وأما الكافر فأبوه والمراد به عمه أو جده لأمه ، واستدلوا على إيمان أبويه بهذه الآية ولم يرضا ما قيل فيها حتى القول الأول بناء على زعمهم أن هذا الدعاء كان بعد الكبر وهبة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام له وقد كان تبين له في ذلك الوقت عداوة أبيه الكافر للّه تعالى.
وقرأ الحسن بن علي رضي اللّه تعالى عنهما. وأبو جعفر محمد. وزيد ابنا علي. وابن يعمر. والزهري. والنخعي «ولولدي» بغير ألف وبفتح اللام تثنية ولد يعني بهما إسماعيل وإسحاق. وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة ونقل أن في مصحف أبي «ولأبوي» وفي بعض المصاحف «ولذريتي» وعن يحيى بن يعمر «ولولدي» بضم الواو وسكون اللام

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 230
فاحتمل أن يكون جمع ولد كأسد في أسد ويكون قد دعا عليه السلام لذريته ، وأن يكون لغة في الولد كما في قول الشاعر :
فليت زيادا كان في بطن أمه وليت زيادا كان ولد حمار
ومثل ذلك العدم والعدم ، وقرأ ابن جبير «ولوالدي» بإسكان الياء على الإفراد كقوله : واغفر لأبي وَلِلْمُؤْمِنِينَ كافة من ذريته وغيرهم ، ومن هنا قال الشعبي فيما رواه عنه ابن أبي حاتم : ما يسرني بنصيبي من دعوة نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين والمؤمنات حمر النعم ، وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي يثبت ويتحقق ، واستعمال القيام فيما ذكر إما مجاز مرسل أو استعارة ، ومن ذلك قامت الحرب والسوق ، وجوز أن يكون قد شبه الحساب برجل قائم على الاستعارة المكنية وأثبت له القيام على التخييل ، وأن يكون المراد يقوم أهل الحساب فحذف المضاف أو أسند إلى الحساب ما لأهله مجازا ، وجعل ذلك العلامة الثاني في شرح التخليص مثل ضربه التأديب مما فيه الإسناد إلى السبب الغائي أي يقوم أهله لأجله ، وذكر السالكوتي أنه إنما قال مثله لأن الحساب ليس ما لأجله القيام حقيقة لكنه شبيه به في ترتبه عليه وفيه بحث.
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ خطاب لكل من توهم غفلته تعالى ، وقيل للنبي صلى اللّه عليه وسلم كما هو المتبادر ، والمراد من النهي تثبيته عليه الصلاة والسلام على ما هم عليه من عدم ظن أن الغفلة تصدر منه عز شأنه كقوله تعالى : وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [القصص : 88] وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص : 87] أي دم على ذلك ، وهو مجاز كقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء : 136] وفيه إيذان بكون ذلك الحسبان واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى عنه من لا يمكن تعاطيه ، وجوز أن يكون المراد من ذلك على طريق الكناية أو المجاز بمرتبتين الوعيد والتهديد ، والمعنى لا تحسبن اللّه تعالى يترك عقابهم للطفه وكرمه بل هو معاقبهم على القليل والكثير ، وأن يكون ذلك استعارة تمثيلية أي لا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب المحاسب على النقير والقطمير ، وإلى هذه الأوجه أشار الزمخشري. وتعقب الوجه الأول بأنه غير مناسب لمقام النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتوهم منه عدم الدوام على ما هو عليه من عدم الحسبان ليثبت ، وفيه نظر.
وفي الكشف الوجه هو الأول لأن في إطلاق الغافل عليه سبحانه وإن كان على المجاز ركة يصان كلام اللّه تعالى عنها ، وفي الكناية النظر إلى المجموع فلم يجسر العاقل عليه تعالى عنه ، ويجوز أن يكون الأول مجازا في المرتبة الثانية بجعل عدم الغفلة مجازا عن العلم ، ثم جعله مجازا عن الوعيد غير سديد لعدم منافاة إرادة الحقيقة.
والأسلم من القيل والقال ما ذكرناه أولا من كون الخطاب لكل من توهم غفلته سبحانه وتعالى لغير معين ، وهو الذي اختاره أبو حيان ، وعن ابن عيينة أن هذا تسلية للمظلوم «1» وتهديد للظالم فقيل له : من قال هذا؟ فغضب وقال :
إنما قاله من علمه ، وقد نقل ذلك في الكشاف فاستظهر صاحب الكشف كونه تأييدا لكون الخطاب لغير معين ، وجوز أن يكون جاريا على الأوجه إذ على تقدير اختصاص الخطاب به عليه الصلاة والسلام أيضا لا يخلو عن التسلية للطائفتين فتأمل ، والمراد بالظالمين أهل مكة الذين عدت مساويهم فيما سبق أو جنس الظالمين وهم داخلون دخولا أوليا ، والآية على ما قال الطيبي مردودة إلى قوله تعالى : قُلْ تَمَتَّعُوا وقُلْ لِعِبادِيَ واختار جعلها تسلية له عليه الصلاة والسلام وتهديدا للظالمين على سبيل العموم.
___________
(1) وروي نحوه عن ميمون بن مهران اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 231
وقرأ طلحة «ولا تحسب» بغير نون التوكيد إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم ، وهو استئناف وقع تعليلا للنهي السابق أي لا تحسبن اللّه تعالى غافلا عن عقوبة أعمالهم لما ترى من التأخير إنما ذلك لأجل هذه الحكمة ، وإيقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر إنما هو عذابهم قيل : لتهويل الخطب وتفظيع الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مرصدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم ، وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عين ولا أثر ، وللإيذان بأن المؤخر ليس من جملة العذاب وعنوانه ، ولو قيل : إنما يؤخر عذابهم لما فهم ذلك.
وقرأ السلمي والحسن والأعرج والمفضل عن عاصم ، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو. وغيرهم «نؤخرهم» بنون العظمة وفيه التفات لِيَوْمٍ هائل تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي ترتفع أبصار أهل الموقف فيدخل في زمرتهم الظالمون المعهودون دخولا أوليا أي تبقى مفتوحة لا تطرف - كما قال الراغب - من هول ما يرونه ، وفي البحر شخص البصر أحد النظر ولم يستقر مكانه ، والظاهر أن اعتبار عدم الاستقرار لجعل الصيغة من شخص الرجل من بلده إذا خرج منها فإنها يلزمه عدم القرار فيها أو من شخص بفلان إذا ورد عليه ما يقلقه كما في الأساس.
وحمل بعضهم الألف واللام على العهد أي أبصارهم لأنه المناسب لما بعده والظاهر مما روي عن قتادة فقد أخرج عبد بن حميد. وغيره عنه أنه قال في الآية : شخصت فيه واللّه أبصارهم فلا ترتد إليهم ، واختار بعضهم حمل «أل» على العموم قال : لأنه أبلغ في التهويل ، ولا يلزم عليه التكرير مع بعض الصفات الآتية ، وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ما قيل فيه مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير. وقتادة ، وقيده في البحر يقول : بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف ، وقال الأخفش : مقبلين للإصغاء وأنشد :
بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
وقال مجاهد : مديمين النظر لا يطرفون ، وقال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذلّ وخشوع لا يقلع بصره ، وروى ابن الأنباري أن الإهطاع التجميح وهو قبض الرجل ما بين عينيه ، وقيل : إن الإهطاع مد العنق والهطع طول العنق ، وذكر بعضهم أن أهطع وهطع بمعنى وإن كل المعاني تدور على الإقبال مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء ، قاله ابن عرفة. والقتيبي.
وأنشد الزجاج قول الشماخ يصف إبلا ترعى أعلى الشجر :
يباكرن العضاه بمقنعات نواجذهن كالحد الوقيع
وأنشده الجوهري لكون الإقناع انعطاف الإنسان إلى داخل الفم يقال : فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر ، وفسر ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضا وأنشد له قول زهير :
هجان وحمر مقنعات رؤوسها وأصفر مشمول من الزهر فاقع
ويقال : أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد ، قال المبرد. وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة اه ، وقيل : ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال : وقد يقال : إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ما عنده ، ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناء على أنه يقال : شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء ، وجوز أن يكون مُهْطِعِينَ منصوبا بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين ومُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ على هذا قيل : حال من المستتر في مُهْطِعِينَ فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالا وقال بعض الأفاضل : إن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 232
في اعتبار الحالية من أصحاب حسبما ذكر أولا ما لا يخفى من البعد والتكلف ، والأولى واللّه تعالى أعلم جعل ذلك حالا مقدرة من مفعول يُؤَخِّرُهُمْ وقوله سبحانه : تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ بيان حال عموم الخلائق. ولذلك أوثر فيه الجملة الفعلية ، فإن المؤمنين المخلصين لا يستمرون على تلك الحال بخلاف الكفار حيث يستمرون عليها ولذلك عبر عن حالهم بما يدل على الدوام والثبات ، فلا يرد على هذا توهم التكرار بين مُهْطِعِينَ وتَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ على بعض التفاسير ، وبنحو ذلك رفع التكرار بين الأول ، وقوله تعالى : لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ بمعنى لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسبما كان يرجع إليهم كل لحظة ، فالطرف باق على أصل معناه وهو تحريك الجفن ، والكلام كناية عن بقاء العين مفتوحة على حالها. وجوز أن يراد بالطرف نفس الجفن مجازا لأنه يكون فيه ذلك أي لا ترجع إليهم أجفانهم التي يكون فيها الطرف ، وقال الجوهري : الطرف العين ولا يجمع أنه في الأصل مصدر فيكون واحدا ويكون جمعا وذكر الآية ، وفسره بذلك أبو حيان أيضا وأنشد قول الشاعر :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وليس ما ذكر متعينا فيه وهو معنى مجازي له وكذا النظر ، وجوز إرادته على معنى لا يرجع إليهم نظرهم لينظروا إلى أنفسهم فضلا عن شيء آخر بل يبقون مبهوتين ، ولا ينبغي كما في الكشف أن يتخيل تعلق إِلَيْهِمْ بما بعده على معنى لا يرجع نظرهم إلى أنفسهم أي لا يكون منهم نظر كذلك لأن صلة المصدر لا تتقدم ، والمسألة في مثل ما نحن فيه خلافية ، ودعوى عدم الجمع ادعاها جمع ، وادعى أبو البقاء أنه قد جاء مجموعا هذا. وأنت خبير بأن لزوم التكرار بين مُهْطِعِينَ ولا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ على بعض التفاسير متحقق ولا يدفعه اعتبار الحالية من مفعول يُؤَخِّرُهُمْ على أن بذلك لا يندفع عرق التكرار رأسا بين تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ وكل من الأمرين المذكورين كما لا يخفى على من صحت عين بصيرته. وفي إرشاد العقل السليم أن جملة لا يَرْتَدُّ إلخ حال أو بدل من مُقْنِعِي إلخ أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الإبصار وتأخيره عما هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى ، وكأنه أراد بذلك دفع التكرار ، وفي انفهام - لا يزول - إلخ من ظاهر التركيب خفاء ، واعتبر بعضهم عدم الاستقرار في الشخوص وعدم الطرف هنا ، فاعتراض عليه بلزوم المنافاة ، وأجيب بأن الثاني بيان حال آخر وان أولئك الظالمين تارة لا تقر أعينهم وتارة يبهتون فلا تطرف أبصارهم ، وقد جعل الحالتان المتنافيتان لعدم الفاصل كأنهما في حال واحد كقول امرئ القيس :
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل
وهذا يحتاج إليه على تقدير اعتبار ما ذكر سواء اعتبر كون الشخوص وما بعده من أحوال الظالمين بخصوصهم أم لا ، والأولى أن لا يعتبر في الآية ما يحوج لهذا الجواب ، وأن يختار من التفاسير ما لا يلزمه صريح التكرار ، وأن يجعل شخوص الأبصار حال عموم الخلائق وما بعده حال الظالمين المؤخرين فتأمل.
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة ، ومنه قيل للجبان ، والأحمق : قلبه هواء أي لا قوة ولا رأي فيه ، ومن ذلك قول زهير :
كأن الرحل منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه هواء
وقول حسان :
ألا بلغ أبا سفيان عني قأنت مجوف نخب هواء
وروي معنى ذلك عن أبي عبيدة. وسفيان ، وقال ابن جريج : صفر من الخير خالية منه ، وتعقب بأنه لا يناسب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 233
المقام. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال : أي تمور في أجوافهم إلى حلوقهم ليس لها مكان تستقر فيه ، والجملة في موضع الحال أيضا والعامل فيها إما يَرْتَدُّ أو ما قبله من العوامل الصالحة للعمل. وجوز أن تكون جملة مستقلة ، وإلى الأول ذهب أبو البقاء وفسر هَواءٌ بفارغة ، وذكر أنه إنما أفرد مع كونه خبرا لجمع لأنه بمعنى فارغة وهو يكون خبرا عن جمع كما يقال : أفئدة فارغة لأن تاء التأنيث فيه يدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم ، ومثل ذلك أحوال صعبة وأفعال فاسدة ، وقال مولانا الشهاب : الهواء مصدر ولذا أفرد ، وتفسيره باسم الفاعل كالخالي بيان للمعنى المراد منه المصحح لحمل فلا ينافي المبالغة في جعل ذلك عين الخلاء ، والمتبادر من كلام غير واحد أن الهواء ليس بمعنى الخلاء بل بالمعنى الذي يهب على الذهن من غير إعمال مروحة الفكر ، ففي البحر بعد سرد أقوال لا يقضي ظاهرها بالمصدرية أن الكلام تشبيه محض لأن الأفئدة ليست بهواء حقيقة. ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة. وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وأنها تجيء وتذهب وتبلغ الحناجر. وهذا في معنى ما روي آنفا عن ابن جبير. وذكر في إرشاد العقل السليم ما هو ظاهر في أن الكلام على التشبيه أيضا حيث قال بعد تفسير ذلك بما ذكرنا أولا : كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل هذا ثم إنهم اختلفوا في وقت حدوث تلك الأحوال فقيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى : يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وقيل : عند إجابة الداعي والقيام من القبور.
وقيل عند ذهاب السعداء إلى الجنة والأشقياء إلى النار فتذكر ولا تغفل وَأَنْذِرِ النَّاسَ خطاب لسيد المخاطبين صلى اللّه عليه وسلم بعد إعلامه أن تأخير عذابهم لما ذا وأمر له بإنذارهم وتخويفهم منه فالمراد بالناس الكفار المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب وإلى ذلك ذهب أبو حيان وغيره.
ونكتة العدول إليه من الإضمار على ما قاله شيخ الإسلام الإشعار بأن المراد بالإنذار هو الزجر عما هم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للإزعاج والإيذاء فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم ، وقال الجبائي : وأبو مسلم :
المراد بالناس ما يشمل أولئك الظالمين وغيرهم من المكلفين ، والإنذار كما يكون للكفار يكون لغيرهم كما في قوله تعالى : إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس : 11] والإتيان يعم الفريقين من كونهما في الموقف وإن كان لحوقه بالكفار خاصة ، وأيا ما كان - فالناس - مفعول أول - لأنذر - وقوله سبحانه : يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ مفعوله الثاني على معنى أنذرهم هوله وما فيه. فالإيقاع عليه مجازي أو هو بتقدير مضاف ، ولا يجوز أن يكون ظرفا للإنذار لأنه في الدنيا ، والمراد بهذا اليوم اليوم المعهود وهو اليوم الذي وصف بما يذهب الألباب وهو يوم القيامة ، وقيل : هو يوم موتهم معذبين بالسكرات ولقاء الملائكة عليهم السلام بلا بشرى. وروي ذلك عن أبي مسلم ، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، وتعقب بأنه يأباه القصر السابق ، وأجيب بما فيه ما فيه. فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي فيقولون ، والعدول عنه إلى ما في النظم الجليل للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعليته لما ينالهم من الشدة المنبئ عنها القول وفي العدول عن الظالمين المتكفل بما ذكر مع اختصاره وسبق الوصف به للإيذان على ما قيل بأن الظلم في الجملة كاف في الإفضاء إلى ما أفضوا إليه من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبئ عنه صيغة اسم الفاعل ، والمعنى - على ما قال الجبائي وأبو مسلم - الذين ظلموا منهم وهم الكفار ، وقيل : يقول كل من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذرين وغيرهم من الأمم الخالية : رَبَّنا أَخِّرْنا أي عن العذاب أو أخر عذابنا ، ففي الكلام تقدير مضاف أو تجوز في النسبة ، قال الضحاك. ومجاهد : إنهم طلبوا الرد إلى الدنيا والإمهال إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أمد وحدّ من الزمان قريب ، وقيل :
إنهم طلبوا رفع العذاب والرجوع إلى حال التكليف مدة يسيرة يعملون فيها ما يرضيه سبحانه.
والمعنى على ما روي عن أبي مسلم أخر آجالنا وابقنا أياما نُجِبْ دَعْوَتَكَ أي الدعوة إليك وإلى توحيدك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 234
أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل عليهم السلام ، ففيه إيماء إلى أنهم صدقوهم في أنهم رسل اللّه سبحانه وتعالى.
وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما جاؤوا به أي نتدارك ما فرطنا به من إجابة الدعوة واتباع الرسل عليهم السلام ، ولا يخلو ذكر الجملتين عن تأكيد والمقام حري به ، وجمع إما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد وكون عصيانهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم عصيانا لهم جميعا عليهم السلام ، وإما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعا والمقصود بيان وعد كل أمة بالتوحيد واتباع رسولها على ما قيل.
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ على تقدير القول معطوفا على «فيقول» والمعطوف عليه هذه الجملة أي فيقال لهم توبيخا وتبكيتا : ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا حلفتم إذ ذاك بألسنتكم بطرا وأشرا وسفها وجهلا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال ودلالة الأفعال حيث بنيتم مشيدا وأملتم بعيدا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال إلى هذه الأحوال والأهوال ، وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال وانتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى : «وأقسما باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه من يموت» وروي هذا عن مجاهد ، وأيّا ما كان «فمالكم» إلخ جواب القسم ، و«من» صلة لتأكيد النفي ، وصيغة الخطاب فيه لمراعاة حال الخطاب في «أقسمتم» كما في حلف باللّه تعالى ليخرجن وهو أدخل في التوبيخ من أن يقال - ما لنا - مراعاة لحال المحكي الواقع في جواب قسمهم ، وقيل هو ابتداء كلام من قبل اللّه تعالى جوابا لقولهم : «ربنا أخرنا» أي ما لكم من زوال عن هذه الحال وجواب القسم لا يبعث اللّه من في القبور محذوفا وهو خلاف المتبادر.
وهذا أحد أجوبة يجاب بها أهل النار على ما في بعض الآثار. فقد ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : لأهل النار خمس دعوات يجيبهم اللّه تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا ، يقولون :
رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر : 11] فيجيبهم اللّه عز وجل ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر : 12] ثم يقولون : رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة : 12] فيجيبهم جل شأنه فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [السجدة : 14] الآية ، ثم يقولون : رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيجيبهم تبارك وتعالى أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ الآية ، ثم يقولون : رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر : 37] فيجيبهم جل جلاله أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر :
37] فيقولون : رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ [المؤمنون : 106] فيجيبهم جل وعلا اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون : 108] فلا يتكلمون بعدها إن هو إلا زفير وشهيق ، وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم ، اللهم إنا نعوذ بك من غضبك ونلوذ بكنفك من عذابك ونسألك التوفيق للعمل الصالح في يومنا لغدنا والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا.
وَسَكَنْتُمْ من السكنى بمعنى التبوء والاستيطان وهو بهذا المعنى مما يتعدى بنفسه تقول سكنت الدار واستوطنتها إلا أنه عدي هنا بفي حيث قيل : فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جريا على أصل معناه فإنه منقول عن سكن بمعنى قر وثبت وحق ذلك التعدية بفي ، وجوز أن يكون المعنى وقررتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر والمعاصي غير محدثين أنفسكم بما لقوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات ، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آئلة إلى صاحبه ، والمراد بهم - كما قال بعض المحققين - إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين ، وإما أوائلهم من قوم

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 235
نوح وهود على تقدير عمومها للكل ، وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم. وَتَبَيَّنَ لَكُمْ أي ظهر لكم على أتم وجه بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد ، وفاعل تَبَيَّنَ مضمر يعود على ما دل عليه الكلام أي فعلنا العجب بهم أو حالهم أو خبرهم أو نحو ذلك ، وكيف في محل نصب - بفعلنا - وجملة الاستفهام ليست معمولة - لتبين - لأنه لا يعلق ، وقيل : الجملة فاعل «تبين» بناء على جواز كونه جملة وهو قول ضعيف للكوفيين.
وذهب أبو حيان إلى ما ذهب إليه الجماعة ثم ذكر أنه لا يجوز أن يكون الفاعل «كيف» لأنه لا يعمل فيها ما قبلها إلا فيما شذ من قولهم : على كيف تبيع الأحمرين وقولهم : انظر إلى كيف تصنع. وقرأ السلمي فيما حكاه عنه أبو عمرو الداني «ونبين» بنون العظمة ورفع الفعل ، وحكى ذلك أيضا صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه ، وذلك على إضمار مبتدأ أي ونحن نبين والجملة حالية ، وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ بنون العظمة إلا أنه جزم الفعل عطفا على تكونوا أي أو لم نبين لكم وَضَرَبْنا لَكُمُ أي في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين.
الْأَمْثالَ أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لتعتبروا وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم وما لكم على ما لهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل إلى العذاب الآجل فتردعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي ، وجوز أن يراد من الأمثال ما هو جمع مثل بمعنى الشبيه أي بينا لكم أنهم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب : وروي هذا عن مجاهد ، والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير أَقْسَمْتُمْ أي أقسمتم أن ليس لكم زوال والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لكم فعلنا العجيب بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال ، وقوله سبحانه : وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ حال من الضمير الأول في فَعَلْنا بِهِمْ أو من الثاني أو منهما جميعا ، وقدم عليه قوله تعالى : وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ لشدة ارتباطه على ما قيل بما قبله أي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم ، والمراد بيان تناهيه في استحقاق ما فعل بهم ، أو وقد مكروا مكرهم المذكور في ترتيب مبادئ البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود إظهار عجزهم واضمحلال قدرتهم وحقارتها عند قدرة اللّه سبحانه قاله شيخ الإسلام ، وهو ظاهر في أن هذا من تتمة ما يقال لأولئك الذين ظلموا ، وهو المروي عن محمد بن كعب القرظي ، فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال : بلغني أن أهل النار ينادون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ إلخ فيرد عليهم بقوله سبحانه : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ إلى قوله تعالى لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ وذكره ابن عطية احتمالا ، وقيل غير ذلك مما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى قريبا. وظاهر كلام غير واحد أن استفادة المبالغة في مَكَرُوا مَكْرَهُمْ من الإضافة.
وفي الحواشي الشهابية أن مَكْرَهُمْ منصوب على أنه مفعول مطلق لأنه لازم فدلالته على المبالغة لقوله تعالى الآتي : وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ إلخ لا لأن إضافة المصدر تفيد العموم أي أظهروا كل مكر لهم أو لأن إضافته وأصله التنكير لإفادة أنهم معروفون بذلك وللبحث فيه مجال وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم على أن الكلام على حذف مضاف ، وجوز أن لا يكون هناك مضاف محذوف ، والمعنى مكتوب عنده تعالى مكرهم ومعلوم له سبحانه وذلك كناية عن مجازاته تعالى لهم عليه ، وأيا ما كان فإضافة مكر إلى الفاعل وهو الظاهر المتبادر ، وقيل :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 236
إنه مضاف إلى مفعوله على معنى عنده تعالى مكرهم الذي يمكرهم به وتعقبه أبو حيان بأن المحفوظ أن مكر لازم ولم يسمع متعديا ، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المكر متجوزا به أو مضمنا معنى الكيد أو الجزاء ، والكلام في نسبة المكر إليه تعالى وأنه إما باعتبار المشاكلة أو الاستعارة مشهور ، وذكر بعض المحققين أن المراد بهذا المكر ما أفاده قوله تعالى : كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ لا أنه وعيد مستأنف. والجملة حال من الضمير في «مكروا» أي مكروا مكرهم وعند اللّه تعالى جزاؤه أو هو ما أعظم منه. والمقصود بيان فساد رأيهم حيث باشروا فعلا مع تحقق ما يوجب تركه وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي وإن كان مكرهم في غاية الشدة والمتانة ، وعبر عن ذلك بكونه معدى لإزالة الجبال عن مقارها لكونه مثلا في ذلك. وَإِنْ شرطية وصلية عند جمع ، والمراد أنه سبحانه مجازيهم على مكرهم ومبطله إن لم يكن في هذه الشدة وإن كان فيها ، ولا بد على هذا الوجه من ملاحظة الإبطال وإلا فالجزاء المجرد عن ذلك لا يكاد يتأتى معه النكتة التي يدور عليها ما في إن الوصلية من التأكيد المعنوي. وجوز أن يكون المعنى أنه تعالى يقابلهم بمكرهم ، ولا يمنع من ذلك كون مكرهم في غاية الشدة فهو سبحانه وتعالى أشد مكرا ، ولا حاجة حينئذ إلى ملاحظة الإبطال فتدبر. وعن الحسن وجماعة أن إِنْ نافية واللام لام الجحود كانَ تامة ، والمراد بالجبال آيات اللّه تعالى وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدي الرسل السالفة عليهم السلام التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات والقصد إلى تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات. وجوز أن تكون كانَ ناقصة وخبرها إما محذوف أو الفعل الذي دخلت عليه اللام على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين.
وأيد هذا الوجه بما روي عن ابن مسعود من أنه قرأ «وما كان» بما النافية ، وتعقب بأن فيه معارضة للقراءة الدالة على عظم مكرهم كقراءة الجمهور ، وأجيب بأن الجبال في تلك القراءة يشار بها إلى ما راموا إبطاله من الحق كما أشرنا إليه وفي هذه على حقيقتها فلا تعارض إذ لم يتواردا على محل واحد نفيا وإثباتا. ورد بأنه إذا جعل الحق شبيها بالجبال في الثبات كان مثلها بل أدون منها في هذا المعنى ، فإذا نفى إزالته إياه انتفى إزالته جبال الدنيا وحينئذ يجيء الإشكال.
وتعقبه الشهاب بأن هذا غير وارد لأن المشبه لا يلزم أن يكون أدون من المشبه به في وجه الشبه بل فقد يكون بخلافه ولو سلم فقد يقدر على إزالة الأقوى دون الآخر لمانع كالشجاع يقدر على قتل أسد ولا يقدر على قتل رجل مشبه به لامتناعه بعدة أو حصن ولا حصن أحصن وأحمى من تأييد اللّه تعالى شأنه للحق بحيث تزول الجبال يوم تنسف نسفا ولا يزول انتهى ، وإلى تفسير الْجِبالُ على هذه القراءة بما ذكرنا شيخ الإسلام ثم قال : وأما كونها عبارة عن أمر النبي للّه وأمر القرآن العظيم - كما قيل - فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين. وإن خص الخطاب بالمنذرين وسيظهر لك قريبا إن شاء اللّه تعالى جواز ذلك على بعض الأقوال في الآية ، والجملة حال من الضمير في مَكَرُوا لا من قوله تعالى وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وجوز أبو البقاء. وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى إن كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات من الآيات والشرائع والمعجزات ، والجملة أيضا حال من الضمير المذكور أي مكروا مكرهم المعهود وأن الشأن كان مكرهم لإزالة الحق من الآيات والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك وكان شأن الحق مانعا من مباشرة المكر لإزالته.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن وثاب والكسائي لِتَزُولَ بفتح اللام الأولى ورفع الفعل - فإن - على ذلك عند البصريين مخففة واللام هي الفارقة ، وعند الكوفيين نافية واللام بمعنى إلا ، والقصد إلى تعظيم مكرهم فالجملة حال من قوله تعالى : وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي عنده تعالى جزاء مكرهم أو المكر بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبال أن في غاية الشدة. وقرئ «لتزول» بالفتح والنصب ، وخرج ذلك على لغة جاءت في فتح لام كي. وقرأ عمر.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 237
وعلي وأبيّ وعبد اللّه وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو إسحاق السبيعي وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهم ورحمهم «وإن كاد» بدال مكان النون و«لتزول» بالفتح والرفع ، وهي رواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، ونقل أبو حاتم عن أبي رضي اللّه تعالى عنه أنه قرأ ولولا كلمة اللّه لزال من مكرهم الجبال وحمل ذلك بعضهم على التفسير لمخالفته لسواد المصحف مخالفة ظاهرة هذا ومن الناس من قال : إن الضمير في مَكَرُوا للمنذرين ، والمراد بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال : 30] وغيره من أنواع مكرهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال شيخ الإسلام : ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى : «وقد مكروا» إلخ حالا من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع ما فعلوا من الأقسام المذكور مع ما ينافيه قد مكروا مكرهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام الذي وبخوا به بل اجترءوا على مثل هذه العظيمة. وقوله سبحانه : وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ حال من ضمير مَكَرُوا حسبما ذكر من قبل. وقوله تعالى : وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ إلى آخره مسوق لبيان عدم تفاوت الحال في تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قويا وضعيفا كما مرت الإشارة إليه ، وعلى تقدير كون إِنْ نافية فهو حال من ضمير مَكَرُوا والجبال عبارة عن أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد مكروا والحال أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التي هي كالجبال في القوة ، وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالا منه أيضا ، على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض ، والقصد إلى أنه لم يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها.
وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى : وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ كما ذكر سابقا اه. ويجوز أن يراد بمكرهم شركهم كما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس ، والجبال على حقيقتها وأمر الجملة على ما قال.
وحاصل المعنى لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام مع ما ينافيه بل اجترءوا على الشرك وقالوا : «اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا» وقد روي عن الضحاك أنه صرح بأن ما نحن فيه كهذه الآية ، ثم إن القول بجعل الضمير للمنذرين قول بعدم دخول هذا الكلام في حيز ما يقال ، وهو الظاهر كما قيل ، وكذا حمل الجبال على معناها الحقيقي. وفي البحر الذي يظهر أن زاول الجبال مجاز ضرب مثلا لمكر قريش وعظمه والجبال لا تزول ، وفيه من المبالغة في ذم مكرهم ما لا يخفى.
وأما ما روي أن جبلا زال بحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذبا مات فحملها للحلف فمكرت بأن رمت نفسها من الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه من الدابة فأركبها زوجها وذلك الرجل وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما فنزلت سالمة وأصبح الجبل قد اندك وكانت المرأة من عدنان.
وما روي من قصة نمروذ بن كوش بن كنعان أو بخت نصر واتخاذ الأنسر وصعودهما إلى قرب السماء في قصة طويلة مشهورة ، وما فعل بعضهم من حمل الجبال على دين الإسلام والقرآن وحمل المكر على اختلافهم فيه من قولهم : هذا سحر ، هذا شعر ، هذا إفك فأقول ينبو عنها ظاهر اللفظ ، وبعيد جدا قصة الأنسر اه.
واستبعد ذلك أيضا - كما نقل الإمام - القاضي وقال : إن الخطر في ذلك عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه ، وما جاء خبر صحيح معتمد ولا حاجة في تأويل الآية إليه ، ونعم ما قال في خبر النسور فإنه وإن جاء عن علي كرم اللّه تعالى وجهه. وعن مجاهد. وابن جبير. وأبي عبيدة. والسدي. وغيرهم إلا أن في الأسانيد ما لا يخفى على من نقر.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 238
وقد شاع ذلك من أخبار القصاص وخبرهم واقع عن درجة القبول ولو طاروا إلى النسر الطائر ، ومثل ذلك فيما أرى خبر المتهمة فافهم واللّه تعالى أعلم فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ تثبيت له صلى اللّه عليه وسلم على ما هو عليه من الثقة باللّه سبحانه والتيقن بإنجاز وعده تعالى بتعذيب الظالمين المقرون بالأمر بانذارهم كما يفصح عنه الفاء ، وقال الطيبي : واستحسنه التلميذ أنه يجوز أن يحمل الوعد على المفاد بقوله تعالى : وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وقد جعله وجها آخر لما ذكره الزمخشري من تفسيره له بقوله تعالى : إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر : 51] وكَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة : 21] وفيه نظر لأنه لا اختصاص لذلك - كما قيل - بالتعذيب لا سيما الأخروي ، وإضافة مُخْلِفَ إلى الوعد عند الجمهور من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم : هذا معطي درهم زيدا ، وهو لما كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل منهما فينصب ما تأخر ، وأنشد بعضهم نظيرا لذلك قوله :
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع
وذكر أبو البقاء أن هذا قريب من قولهم : يا سارق الليلة أهل الدار. وفي الكشاف أن تقديم الوعد ليعلم أنه تعالى لا يخلف الوعد أصلا كقوله سبحانه : لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران : 9 ، الرعد : 31] ثم قال جل شأنه : رُسُلَهُ ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته.
ونظر فيه ابن المنير بأن الفعل إذا تقيد بمفعول انقطع احتمال إطلاقه وهو هنا كذلك فليس تقديم الوعد دالا على إطلاق الوعد بل على العناية والاهتمام به لأن الآية سيقت لتهديد الظالمين بما وعد سبحانه على ألسنة رسله عليهم السلام فالمهم ذكر الوعد وكونه على ألسنة الرسل عليهم السلام لا يتوقف عليه التهديد والتخويف. وقال صاحب الإنصاف : إن هذا النظر قوي إلا أن ما اعترض عليه هو القاعدة عند أهل البيان ، كما قال الشيخ عبد القاهر في قوله تعالى : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام : 100] أنه قدم شُرَكاءَ للإيذان بأنه لا ينبغي أن يتخذ للّه تعالى شركاء مطلقا ثم ذكر «الجن» تحقيرا أي إذا لم يتخذ من غير الجن فالجن أحق بأن لا يتخذوا.
وتعقب بأنه لا يدفع السؤال بل يؤيده ، وكذا ما ذكره الفاضل الطيبي فإنه مع تطويله لم يأت بطائل فالوجه ما في الكشف من أن ذلك الإعلام إنما نشأ من جعل الاهتمام بشأن الوعد فهو ما سيق له الكلام وما عداه تبع ، وإفادة هذا الأسلوب الترقي كإفادة اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه : 25] الإجمال والتفصيل. نعم إن الظاهر من حال صاحب الكشاف أنه أضمر فيما قرره اعتزالا وهذه مسألة أخرى ، وقيل : مُخْلِفَ هنا متعد إلى واحد كقوله تعالى : لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ فاضيف إليه وانتصب رُسُلَهُ بوعده إذ هو مصدر ينحل إلى أن والفعل وقرأت فرقة «مخلف» وعده رسله بنصب «وعده» وإضافة مُخْلِفَ إلى رُسُلَهُ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى وأنه مما يتعدى «مخلف» هنا إلى مفعولين إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يماكر وقادر لا يقادر ذُو انتِقامٍ من أعدائه لأوليائه فالجملة تعليل للنهي المذكور وتذييل له وحيث كان الوعد عبارة عن تعذيبهم خاصة كما مرت إليه الإشارة لم يذيل - كما قال بعض المحققين - بأن يقال : «إن اللّه لا يخلف الميعاد» بل تعرض لوصف العز والانتقام المشعرين بذلك والمراد بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبر عنه بالمكر.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ظرف لمضمر مستأنف ينسحب عليه النهي المذكور أي ينجزه يوم إلى آخره أو معطوف عليه نحو فَارْتَقِبْ يَوْمَ [الدخان : 10] إلى آخره ، وجعله بعض الفضلاء معمولا لا ذكر محذوفا كما قيل في شأن نظائره ، وقيل : ظرف للانتقام وهو يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ بعينه ولكن له أحوال جمة بذكر كل مرة بعنوان

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 239
مخصوص ، والتقييد مع عموم انتقامه سبحانه للأوقات كلها للافصاح عما هو المقصود من تعذيب الكفرة المؤخر إلى ذلك اليوم بموجب الحكمة المقتضية له.
وجوز أبو البقاء تعلقه بلا يخلف الوعد مقدرا بقرينة السابق ، وفيه الوجه قبله من الحاجة إلى الاعتذار.
وقال الحوفي : هو متعلق - بمخلف - وإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ جملة اعتراضية ، وفيه رد لما قيل : لا يجوز تعلقه بذلك لأن ما قبل إنّ لا يعمل فيما بعدها لأن لها الصدارة ، ووجه أنها لكونها وما بعدها اعتراضا لا يبالى بها فاصلا.
وجوز الزمخشري انتصابه على البدلية من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ وهو بدل كل من كل ، وتبعه بعض من منع تعلقه - بمخلف - لمكان ماله الصدر. والعجب أن العامل فيه حينئذ - أنذر - فيلزم عليه ما لزم القائل بتعلقه بما ذكر فكأنه ذهب إلى أن البدل له عامل مقدر وهو ضعيف ، وقوله تعالى : وَالسَّماواتُ عطف على المرفوع أي وتبدل السموات غير السموات ، والتبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم دنانير ومنه قوله تعالى : بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء : 56] وقد يكون في الصفات كما في قولك : بدلت الحلقة خاتما إذا غيرت شكلها ، ومنه قوله سبحانه : يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان : 70] والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين نص ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال تبدل الأرض يزاد فيها وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وما فيها وتمد مد الأديم العكاظي وتصير مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وتبدل السموات بذهاب شمسها وقمرها ونجومها وحاصله يغير كل عما عو عليه في الدنيا. وأنشد :
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعلم
وقال ابن الأنباري : تبدل السموات بطيها وجعلها مرة كالمهل ومرة وردة كالدهان. وأخرج ابن أبي الدنيا. وابن جرير. وغيرهما عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : تبدل الأرض من فضة والسماء من ذهب.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه تكون الأرض كالفضة والسموات كذلك. وصح عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : تبدل الأرض أرضا بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل فيها خطيئة. وروي ذلك مرفوعا أيضا ، والموقوف - على ما قال البيهقي - أصح. وقد يحمل قول الإمام كرم اللّه تعالى وجهه على التشبيه.
وقال الإمام : لا يبعد أن يقال : المراد بتبديل الأرض جعلها جهنم وبتبديل السموات جعلها الجنة ، وتعقب بأنه بعيد لأنه يلزم أن تكون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن والثابت في الكلام والحديث خلافه ، وأجيب بأن الثابت خلقهما مطلقا لا خلق كليهما فيجوز أن يكون الموجود الآن بعضهما ثم تصير السموات والأرض بعضا منهما ، وفيه أن هذا وإن صححه لا يقر به ، والاستدلال على ذلك بقوله تعالى : كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين : 18] وقوله سبحانه : كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين : 7] في غاية الغرابة من الإمام فإن في إشعار ذلك بالمقصود نظرا فضلا عن كونه دالا عليه. نعم جاء في بعض الآثار ما يؤيد ما قاله ، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال في الآية : تصير السموات جنانا ويصير مكان البحر نارا أو تبدل الأرض غيرها.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال : الأرض كلها نار يوم القيامة وجاء في تبديل الأرض روايات أخر. فقد أخرج ابن جرير عن ابن جبير أنه قال : تبدل الأرض خبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه. وأخرج عن محمد بن كعب القرظي مثله. وأخرج البيهقي في البعث عن عكرمة كذلك.
وأخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبي أيوب أن رجلا من يهود سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : ما الذي تبدل به الأرض؟

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 240
فقال : خبزة فقال اليهودي : درمكة بأبي أنت فضحك صلى اللّه عليه وسلم ثم قال : قاتل اللّه تعالى بيهود هل تدرون ما الدرمكة؟ لباب الخبز.
وقد تقدم
خبر أن الأرض تكون يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وهو في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
وحكى بعضهم أن التبديل يقع في الأرض ولكن تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله ، ففريق من المؤمنين يكونون على خبز يأكلون منه وفريق يكونون على فضة وفريق الكفرة يكونون على نار ، وليس تبديلها بأي شيء كان بأعظم من خلقها بعد إن لم تكن.
وذكر بعضهم أنها تبدل أولا صفتها على النحو المروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ، ثم تبدل ذاتها ويكون هذا الأخير بعد أن تحدّث أخبارها ، ولا مانع من أن يكون هنا تبديلات على أنحاء شتى.
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها مرفوعا أن الناس يوم تبدل على الصراط ، وفيه من حديث ثوبان «أن يهوديا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هم في الظلمة دون الجسر»
ولعل المراد من هذا التبديل نحو خاص منه ، واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال. وتقديم تبديل الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظم أمرا بالنسبة إلينا.
وَبَرَزُوا أي الخلائق أو الظالمون المدلول عليهم بمعونة السياق كما قيل ، والمراد بروزهم من أجداثهم التي في بطون الأرض.
وجوز أن يكون المراد ظهورهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرا ويزعمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعم ذلك ، ووجه إسناد البروز إليهم مع أنه على هذا لأعمالهم بأنه للإيذان بتشكلهم بأشكال تناسبها. وأنت تعلم أن الظاهر ظهورهم من أجداثهم ، والعطف على تُبَدَّلُ والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع.
وجوز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة وأن تكون حالا من الْأَرْضُ بتقدير يرقد والرابط الواو.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وَبَرَزُوا بضم الباء وكسر الراء مشددة ، جعله مبنيا للمفعول على سبيل التكثير باعتبار المفعول لكثرة المخرجين لِلَّهِ أي لحكمه سبحانه ومجازاته الْواحِدِ الذي لا شريك له الْقَهَّارِ الغالب على كل شيء ، والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة لأنهم إذا كانوا واقفين عند ملك عظيم قهار لا يشاركه غيره كانوا على خطر إذ لا مقاوم له ولا مغيث سواه وفي ذلك أيضا تحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كون يَوْمَ تُبَدَّلُ بدلا من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ.
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ عطف على بَرَزُوا. والعدول إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار ، وأما البروز فهو دفعي لا استمرار فيه وعلى تقدير حالية بَرَزُوا فهو معطوف على تُبَدَّلُ وجوز عطفه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونه ينجزه مثلا يَوْمَئِذٍ يوم إذ برزوا للّه تعالى أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ ينجز وعده ، والرؤية إذا كانت بصرية فالمجرمين مفعولها وقوله تعالى : مُقَرَّنِينَ حال منه ، وإن كانت علمية فالمجرمين مفعولها الأول مُقَرَّنِينَ مفعولها الثاني.
والمراد قرن بعضهم من بعض وضم كل لمشاركه في كفره وعمله كقوله تعالى : وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير : 7] على قول ، وفي المثل إن الطيور على أشباهها تقع ، أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم كقوله تعالى :
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مريم : 68] إلخ أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملكات الرديئة والأعمال

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 241
السيئة غب تصورها وتشكلها بما يناسبها من الصور الموحشة والأشكال الهائلة ، أو قرنوا مع جزاء ذلك أو كتابه فلا حاجة إلى حديث التصور بالصور ، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم وجاء ذلك في بعض الآثار والظاهر أنه على حقيقة.
ويحتمل - على ما قيل - أن يكون تمثيلا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم ، وأصل المقرن بالتشديد من جمع في قرن بالتحريك وهو الوثاق الذي يربط به فِي الْأَصْفادِ جمع صفد ويقال فيه صفاد وهو القيد الذي يوضع في الرجل أو الغل الذي يكون في اليد والعنق أو ما يضم به اليد والرجل إلى العنق ويسمى هذا جامعة ومن هذا قول سلامة بن جندل :
وزيد الخيل قد لاقى صفادا يعض بساعد وبعظم ساق
وجاء صفد بالتخفيف وصفد بالتشديد للتكثير وتقول : أصفدته إذا أعطيته فتأتي بالهمزة في هذا المعنى ، وقيل :
صفد وأصفد معا في القيد والإعطاء ، ويسمى العطاء صفدا لأنه يقيد. ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا. والجار والمجرور متعلق - بمقرنين - أو بمحذوف وقع حالا من ضميره أي مصفدين ، وجوز أبو حيان كونه في موضع الصفة لمقرنين سَرابِيلُهُمْ أي قمصانهم جمع سربال مِنْ قَطِرانٍ هو ما يحلب من شجر الأبهل فيطبخ وتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بما فيه من الحدة الشديدة وقد تصل حرارته إلى الجوف وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار حتى قيل : إنه أسرع الأشياء اشتعالا. وفي التذكرة أنه نوعان غليظ براق حاد الرائحة ويعرف بالبرقي ، ورقيق كمد ويعرف بالسائل والأول من الشربين خاصة والثاني من الأرز والسدر ونحوهما والأول أجود وهو حار يابس في الثالثة أو الثانية ، وذكر في الزفت أنه من أشجار كالأرز وغيره ، وأنه إن سال بنفسه يقال زفت وإن كان بالصناعة فقطران ، ويقال فيه : قطران بوزن سكران.
وروي عن عمر. وعلي رضي اللّه تعالى عنهما أنهما قرآ به ، وقطران بوزن سرحان ولم نقف على من قرأ بذلك ، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع النصب على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم في مُقَرَّنِينَ أو من مُقَرَّنِينَ نفسه على ما قيل رابطها الضمير فقط كما في كلمته فوه إلى في أو مستأنفة ، وأيّا ما كان ففي سَرابِيلُهُمْ تشبيه بليغ وذلك أن المقصود أنه تطلى جلود أهل النار بالقطران حتى يعود طلاؤه كالسرابيل وكأن ذلك ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب لذعه وحرقه وإسراع النار في جلودهم واللون الموحش والنتن على أن التفاوت بين ذلك القطران وما نشاهده كالتفاوت بين النارين فكان ما نشاهده منهما أسماء مسمياتها في الآخرة فبكرمه العميم نعود وبكنفه الواسع نلوذ ، وجوز أن تكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن تشبه النفس الملتبسة بالملكات الرديئة كالكفر والجهل والعناد والغباوة بشخص لبس ثيابا من زفت وقطران ، ووجه الشبه تحلى كل منهما بأمر قبيح مؤذ لصاحبه يستكره عند مشاهدته ، ويستعار لفظ أحدهما للآخر ، ولا يخفى ما في توجيه الاستعارة التمثيلية بهذا من المساهلة وهو ظاهر ، على أن القول بهذه الاستعارة هنا أقرب ما يكون إلى كلام الصوفية ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون القطران المذكور عين ما لا بسوه في هذه النشأة وجعلوه شعارا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعة لاشتداد العذاب ، عصمنا اللّه تعالى من ذلك بلطفه وكرمه. وأنت تعلم أن التشبيه البليغ على هذا على حاله. وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه. وابن عباس. وأبو هريرة. وعكرمة. وقتادة. وجماعة من «قطران» على أنهما كلمتان منونتان أولاهما «قطر» بفتح القاف وكسر الطاء وهي النحاس مطلقا أو المذاب منه وثانيتهما «آن» بوزن عان بمعنى شديد الحرارة.
قال الحسن : قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تعلوها وتحيط بها

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 242
النار التي تسعر بأجسادهم المسربلة بالقطران ، وتخصيص الوجوه بالحكم المذكور مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى : أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر : 24] ولكونها مجمع الحواس والمشاعر التي لم يستعملوها فيما خلقت له من إدراك الحق وتدبره ، وهذا كما تطلع على أفئدتهم لأنها أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملؤوها بالجهالات أو لخلوها كما قيل : عن القطران المغني عن ذكر غشيان النار ، ووجهه تخليتها عنه بأن ذلك لعله ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزي على رؤوس الأشهاد. وقرئ برفع الوجوه ونصب «النار» كأنه جعل ورود الوجوه على النار غشيانا لها مجازا. وقرئ «تغشى» أي تتغشى بحذف إحدى التاءين ، والجملة كما قال أبو البقاء نصب على الحال كالجملة السابقة.
وفي الكشف وأفاد العلامة الطيبي أن - مقرنين - سرابيلهم من قطران - تغشى - أحوال من مفعول تَرَى جيء بها كذلك للترقي ولهذا جيء بالثانية جملة اسمية لأن سرابيل القطران الجامعة بين الأنواع الأربعة أفظع من الصفد ، وأما تغشى فلتجديد الاستحضار المقصود في قوله تعالى : وَتَرَى لأن الثاني أهول والظاهر أن الثانيين منقطعان من حكم الرؤية لأن الأول في بيان حالهم في الموقف إلى أن يكب بهم في النار ، والأخيرين لبيان حالهم بعد دخولها ، وكأن الأول حرك من السامع أن يقول : وإذا كان هذا شأنهم وهم في الموقف فكيف بهم وهم في جهنم خالدون؟
فأجيب بقوله سبحانه : سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وأوثر الفعل المضارع في الثانية لاستحضار الحال وتجدد الغشيان حالا فحالا ، وأكثر المعربين على عدم الانقطاع لِيَجْزِيَ اللَّهُ متعلق بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزي سبحانه كُلَّ نَفْسٍ أي مجرمة بقرينة المقام ما كَسَبَتْ من أنواع الكفر والمعاصي جزاء أو وفاقا ، وفيه إيذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم ، وجوز على هذا الوجه كون النفس أعم من المجرمة والمطيعة لأنه إذا خص المجرمون بالعقاب علم اختصاص المطيعين بالثواب ، مع أن عقاب المجرمين وهم أعداؤهم جزاء لهم أيضا كما قيل :
من عاش بعد عدوه يوما فقد بلغ المنى
ويجوز على اعتبار العموم تعلق اللام - ببرزوا - على تقدير كونه معطوفا على تُبَدَّلُ والضمير للخلق ويكون ما بينهما اعتراضا فلا اعتراض أي برزوا للحساب ليجزي اللّه تعالى كل نفس مطيعة أو عاصية ما كسبت من خير أو شر إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه لا يشغله سبحانه فيه تأمل وتتبع ولا يمنعه حساب عن حساب حتى يستريح بعضهم عند الاشتغال بمحاسبة الآخرين فيتأخر عنهم العذاب ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد سريع الانتقام ، وذكر المرتضى في درره وجوها أخر في ذلك. هذا بَلاغٌ أي ما ذكر من قوله سبحانه : وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إلى هنا ، وجوز أن يكون الإشارة إلى القرآن وهو المروي عن ابن زيد أو إلى السورة والتذكير باعتبار الخبر وهو بَلاغٌ والكلام على الأول أبلغ فكأنه قيل : هذا المذكور آنفا كفاية في العظة والتذكير من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورة الكريمة أو كل القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع ، وأصل البلاغ بمعنى التبليغ وبهذا فسره الراغب في الآية ، وذكر مجيئه بمعنى الكفاية في آية أخرى لِلنَّاسِ للكفار خاصة على تقدير اختصاص الإنذار بهم في قوله سبحانه : وَأَنْذِرِ النَّاسَ أو لهم وللمؤمنين كافة على تقدير شمولهم أيضا وإن كان ما شرح مختصا بالظالمين على ما قيل : وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عطف على محذوف أي لينصحوا أو لينذروا به أو نحو ذلك فتكون اللام متعلقة بالبلاغ ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف وتقديره ولينذروا به أنزل أو تلي ، وقال الماوردي : الواو زائدة ، وعن المبرد هو عطف مفرد على مفرد أي هذا بلاغ وإنذار ، ولعله تفسير معنى لا إعراب. وقال ابن عطية : أي هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به فجعل ذلك خبرا لهو محذوفا ، وقيل : اللام لام الأمر ، قال بعضهم : وهو حسن لولا قوله سبحانه : وَلِيَذَّكَّرَ فإنه منصوب لا غير ،

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 243
وارتضى ذلك أبو حيان وقال : إن ما ذكر لا يخدشه إذ لا يتعين عطف لِيَذَّكَّرَ على الأمر بل يجوز أن يضمر له فعل يتعلق به ، ولا يخفى أنه تكلف. وقرأ يحيى بن عمارة الذراع عن أبيه. وأحمد بن يزيد السلمي وَلِيُنْذَرُوا بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء إذا علم به فاستعد له قالوا : ولم يعرف لنذر بمعنى علم مصدر فهو كعسى وغيرها من الأفعال التي لا مصادر لها ، وقيل : إنهم استغنوا بأن والفعل عن صريح المصدر ، وفي القاموس نذر بالشيء كفرح علمه فحذره وأنذره بالأمر إنذارا ونذرا ونذيرا أعلمه وحذره.
وقرأ مجاهد وحميد بتاء مضمومة وكسر الذال وَلِيَعْلَمُوا بالنظر والتأمل بما فيه من الدلائل الواضحة التي هي إهلاك الأمم وإسكان آخرين مساكنهم وغيرهما مما تضمنه ما أشار إليه أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له أصلا ، وتقديم الإنذار لأنه داع إلى التأمل المستتبع للعلم المذكور وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي ليتذكروا شؤون اللّه تعالى ومعاملته مع عباده ونحو ذلك فيرتدعوا عما يرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفار ويتدرعوا بما يحظيهم لديه عزّ وجلّ من العقائد الحقة والأعمال الصالحة. وفي تخصيص التذكر بأولي الألباب إعلاء لشأنهم.
وفي إرشاد العقل السليم أن في ذلك تلويحا باختصاص العلم بالكفار ودلالة على أن المشار إليه بهذا القوارع المسوقة لشأنهم لا كل السورة المشتملة عليها وعلى ما سيق للمؤمنين أيضا فإن فيه ما يفيدهم فائدة جديدة ، وللبحث فيه محال ، وفيه أيضا أنه حيث كان ما يفيده البلاغ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمرا حادثا وبالنسبة إلى أولي الألباب الثبات على ذلك عبر عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكر وروعي ترتيب الوجود مع ما فيه من الختم بالحسنى. وذكر القاضي بيض اللّه تعالى غرة أحواله أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب. تكميل الرسل عليهم السلام للناس المشار إليه بالإنذار. واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها ما يتعلق بمعرفة اللّه تعالى المشار إليه بالعلم ، واستصلاح القوة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى المشار إليه بالتذكر ، والظاهر أن المراد بأولي الألباب أصحاب العقول الخالصة من شوائب الوهم مطلقا ، ولا يقدح في ذلك ما قيل : إن الآية نزلت في أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه ، وقد ناسب مختتم هذه السورة مفتتحها وكثيرا ما جاء ذلك في سور القرآن حتى زعم بعضهم أن قوله تعالى : وَلِيُنْذَرُوا بِهِ معطوف على قوله سبحانه : لِتُخْرِجَ النَّاسَ وهو من البعد بمكان ، نسأله سبحانه عزّ وجلّ أن يمن علينا بشآبيب العفو والغفران.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً قال ابن عطاء : أراد عليه السلام أن يجعل سبحانه قلبه آمنا من الفراق والحجاب ، وقيل : اجعل بلد قلبي ذا أمن بك عنك وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ من المرغوبات الدنية والمشتهيات الحسية.
وقال جعفر رضي اللّه تعالى عنه : أراد عليه السلام لا تردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة ، وعنه أنه قال : أصنام الخلة خطرات الغفلة ولحظات المحبة ، وفي رواية أخرى أنه عليه السلام كان آمنا من عبادة الأصنام في كبره وقد كسرها في صغره لكنه علم أن هوى كل إنسان صنمه فاستعاذ من ذلك.
وقال الجنيد قدس سره : أي امنعني وبني أن نرى لأنفسنا وسيلة إليك غير الافتقار ، وقيل : كل ما وقف العارف عليه غير الحق سبحانه فهو صنمه ، وجاء النفس هو الصنم الأكبر رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بالتعلق بها والانجداب إليها والاحتجاب بها عنك سبحانك فَمَنْ تَبِعَنِي في طريق المجاهدة والخلة ببذل الروح بين يديك فَإِنَّهُ مِنِّي طينته من طينتي وقلبه من قلبي وروحه من روحي وسره من سري ومشربه في الخلة من مشربي وَمَنْ عَصانِي وفعل ما يقتضي الحجاب عنك فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلا أدعو عليه وأفوض أمره إليك. قيل : إن هذا منه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 244
عليه السلام دعاء للعاصي بستر ظلمته بنوره تعالى ورحمته جل شأنه إياه بافاضة الكمال عليه بعد المغفرة. ومن كلام نبينا صلى اللّه عليه وسلم «اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون».
وفي أسرار التأويل أنه عليه السلام أشار بقوله : وَمَنْ عَصانِي إلى مقام الجمع ولذا لم يقل : «ومن عصاك» ويجوز أن يقال : إنما أضاف عصيانهم إلى نفسه لأن عصيان الخلق للخالق غير ممكن ، وما من دابة إلا وربي آخذ بناصيتها فهم في كل أحوالهم مجيبون لداعي ألسنة مشيئته سبحانه وإرادته القديمة ، وسئل عبد العزيز المكي لم لم يقل الخليل ومن عصاك؟ فقال لأنه عظم ربه عزّ وجلّ وأجله من أن يثبت أن أحدا يجترئ على معصيته سبحانه وكذا أجله سبحانه من أن يبلغ أحد ما مبلغ ما يليق بشأنه عز شأنه من طاعته حيث قال فَمَنْ تَبِعَنِي رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ قيل : إن من عادة اللّه تعالى أن يبتلي خليله بالعظائم لينزعه عن نفسه وعن جميع الخليقة لئلا يبقى بينه وبينه حجاب من الحدثان ، فلذا أمر جل شأنه هذا الخليل أن يسكن من ذريته في وادي الحرم بلا ماء ولا زاد لينقطع إليه ولا يعتمد إلا عليه عزّ وجلّ ، وناداه باسم الرب طمعا في تربية عياله وأهله بألطافه وإيوائهم إلى جوار كرامته رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ التي يصل العبد بها إليك ويكون مرآة تجليك فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ تميل يوصف الإرادة والمحبة ليسلكوهم إليك ويدلوهم عليك ، قال ابن عطاء من انقطع عن الخلق بالكلية صرف اللّه تعالى إليه وجوه الخلق وجعل مودته في صدورهم ومحبته في قلوبهم ، وذلك من دعاء الخليل عليه السلام لما قطع أهله عن الخلق والأسباب قل : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ قيل : أي ثمرات طاعتك وهي المقامات الرفيعة والدرجات الشريفة.
وقال الواسطي : ثمرات القلوب وهي أنواع الحكمة ورئيس الحكمة رؤية المنة والعجز عن الشكر على النعمة وهو الشكر الحقيقي ولذلك قال : لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي يعلمون أنه لا يتهيأ لأحد أن يقوم بشكرك وثمرة الحكمة تزيل الأمراض عن القلوب كما أن ثمرة الأشجار تزيل أمراض النفوس. وقيل : أي ارزقهم الأولاد الأنبياء والصلحاء ، وفيه إشارة إلى دعوته بسيد المرسلين صلى اللّه عليه وسلم المعنى له بقوله : رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا وأي الثمرات أشهى من أصفى الأصفياء وأتقى الأتقياء وأفضل أهل الأرض والسماء وحبيب ذي العظمة والكبرياء فهو عليه الصلاة والسلام ثمرة الشجرة الإبراهيمية وزهرة رياض الدعوة الخليلية بل هو صلى اللّه عليه وسلم ثمرة شجرة الوجود. ونور حديقة الكرم والجود.
ونور حدقة كل موجود صلى اللّه عليه وسلم عليه إلى اليوم المشهود رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ قال الخواص : ما نخفي من حبك وما نعلن من شكرك.
وقال ابن عطاء : ما نخفي من الأحوال وما نعلن من الآداب ، وقيل : ما نخفي من التضرع في عبوديتك وما نعلن من ظاهر طاعتك في شريعتك ، وأيضا ما نخفي من أسرار معرفتك وما نعلن من وظائف عبادتك ، وأيضا ما نخفي من حقائق الشوق إليك في قلوبنا وما نعلن في غلبة مواجيدنا بإجراء العبرات وتصعيد الزفرات :
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
وإن هم كتموا تحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح
وقال السيد علي البندنيجي قدس سره :
كتمت هوى حبيه خوف إذاعة فلله كم صب أضر به الذيع

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 245
ولكن بدت آثاره من تأوهي إذا فاح مسك كيف يخفى له ضوع
وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فيعلم ما خفي وما علن وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ قيل : الظالم من تجاوز طوره وتبختر على بساط الأنانية زاعما أنه قد تضلع من ماء زمزم المحبة واستغرق في لجى بحر الفناء ، توعده اللّه تعالى بتأخير فضيحته إلى يوم تشخص فيه أبصار سكارى المعرفة والتوحيد وهو يوم الكشف الأكبر حين تبدو أنوار سطوات العزة فيستغرقون في عظمته بحيث لا يقدرون على الالتفات إلى غيره فهناك يتبين الصادق من الكاذب :
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
وقوله سبحانه : مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ شرح لأحوال أصحاب الابصار الشاخصة وهم سكارى المحبة على الحقيقة ، قال ابن عطاء في : وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ كهذه صفة قلوب أهل الحق متعلقة باللّه تعالى لا تقر إلا معه سبحانه ولا تسكن إلا إليه وليس فيها محل لغيره وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ طلبوا تدارك ما فات وذلك بتهذيب الباطن والظاهر والانتظام في سلوك الصادقين وهيهات ثم هيهات ، ثم أجيبوا بما يقصم الظهر ويفصم عرى الصبر وهو قوله سبحانه : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ الآية يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وذلك عند انكشاف أنوار حقيقة الوجود فيظهر هلاك كل شيء إلا وجهه.
وقيل : الإشارة في الآية إلى تبدل أرض قلوب العارفين من صفات البشرية إلى الصفات الروحانية المقدسة بنور شهود جمال الحق وتبدل سموات الأرواح من عجز صفات الحدوث وضعفها عن أنوار العظمة بإفاضة الصفات الحقة ، وقيل : تبدل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول إلى مقام القلب ، وسماء القلب بسماء السر ، وكذا تبدل أرض النفس بأرض القلب ، وسماء السر بسماء الروح ، وكذا كل مقام يعبره السالك يتبدل ما فوقه وما تحته كتبدل سماء التوكل في توحيد الأفعال بسماء الرضا في توحيد الصفات ، ثم سماء الرضا بسماء التوحيد عند كشف الذات وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ بسلاسل الشهوات سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وهو قطران أعمالهم النتنة وَتَغْشى تستر وُجُوهَهُمُ النَّارُ في جهنم الحرمان وسعير الإذلال والاحتجاب عن رب الأرباب. هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وهم علماء الحقيقة وأساطين المعرفة وعشاق الحضرة وأمناء خزائن المملكة ، جعلنا اللّه تعالى وإياكم ممن ذكر فتذكر وتحقق في مقر التوحيد وتقرر بمنه سبحانه وكرمه. «1»
___________
1 - تم والحمد للّه الجزء الثالث عشر ويليه بعونه تعالى الجزء الرابع عشر وأوله سورة الحجر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 246

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 247
الجزء الرابع عشر

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 249

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 249
سورة الحجر
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم أنها نزلت بمكة وروي ذلك عن قتادة.
ومجاهد ، وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر : 87] وقوله سبحانه : كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر : 90 ، 91] ، وذكر الجلال السيوطي في الإتقان عن بعضهم استثناء الآية الأولى فقط ثم قال قلت : وينبغي استثناء قوله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ [الحجر : 24] الآية لما أخرج الترمذي. وغيره في سبب نزولها وإنها في صفوف الصلاة وعلى هذا فقول أبي حيان ومثله في تفسير الخازن أنها مكية بلا خلاف الظاهر في عدم الاستثناء ظاهر في قلة التتبع ، وهي تسع وتسعون آية ، قال الداني : وكذا الطبرسي بالإجماع وتحتوي على ما قيل على خمس آيات نسختها آية السيف.
ووجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتح به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين ، وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك ، وأيضا ذكر في الأول طرف من أحوال المجرمين في الآخرة ، وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا ، وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السموات والأرض ما ذكر ، وأيضا فعل سبحانه نحو ذلك فيما يتعلق بإبراهيم عليه السلام ، وأيضا في كل من تسلية نبينا صلى اللّه عليه وسلم ما فيه إلى غير ذلك مما لا يحصى.
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 إلى 44]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29)
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 250
الر قد تقدم الكلام فيه منزل إذ ذاك وَقُرْآنٍ عظيم الشأن كما يشعر به التنكير مُبِينٍ مظهر في تضاعيفه من الحكم والأحكام أو لسبيل الرشد والغي أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام أو ظاهر معانيه أو أمر إعجازه ، فالمبين إما من المتعدي أو اللازم ، وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها ، وبالثاني إلى كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه خارجا عن دائرة البيان قرآنا غير ذي عوج ونحو هذا فاتحة سورة النمل خلا أنه أخر هاهنا الوصف بالقرآنية عن الوصف بالكتابية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره منها أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 251
غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وعكس هناك نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية قاله بعض المحققين.
وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ وذكر أن تقديمه هنا باعتبار الوجود وتأخيره هناك باعتبار تعلق علمنا لأنا إنما نعلم ثبوت ذلك من القرآن. وتعقب بأن إضافة الآيات إليه تعكر على ذلك إذ لا عهد باشتماله على الآيات.
والزمخشري جعل هنا الإشارة إلى ما تضمنته السورة والكتاب وما عطف عليه عبارة عن السورة. وذكر هناك أن الكتاب إما اللوح وإما السورة. وأما القرآن فآثر هاهنا أحد الأوجه هناك.
قال في الكشف : لأن الكتاب المطلق على غير اللوح أظهر ، والحمل على السورة أوجه مبالغة كما دل عليه أسلوب قوله تعالى : وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد : 1] وليطابق المشار إليه فإنه إشارة إلى آيات السورة ثم قال : وإيثار الحمل على اتحاد المعطوف والمعطوف عليه في الصدق لأن الظاهر من إضافة الآيات ذلك.
ولما كان في التعريف نوع من الفخامة وفي التنكير نوع آخر وكان الغرض الجمع عرف الكتاب ونكر القرآن هاهنا وعكس في النمل وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هنالك قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم للإعجاز ، وتعقب تفسير ذلك بالسورة دون جميع القرآن أو المنزل إذ ذاك بأنه غير متسارع إلى الفهم والمتسارع إليه عند الإطلاق ما ذكر وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغني عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها ، وفيه من التكلف ما لا يخفى. ثم إن الزمخشري بعد أن فسر المتعاطفين بالسورة أشار إلى وجه التغاير بينهما بقوله كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان ورمز إلى أنه لما جعل مستقلا في الكمال والغرابة قصد قصدهما فعطف أحدهما على الآخر فالغرض من ذكر الذات في الموضعين الوصفان ، وهذه فائدة إيثار هذا الأسلوب ، ومن هذا عده من عده من التجريد قاله في الكشف.
وقال الطيبي بعد أن نقل عن البغوي توجيه التغاير بين المتعاطفين بأن الكتاب ما يكتب والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض ، فإن قلت : رجع المآل إلى أن الْكِتابِ - وَقُرْآنٍ وصفان لموصوف واحد أقيما مقامه فما ذلك الموصوف وكيف تقديره؟ فإن قدرته معرفة رفعه وَقُرْآنٍ مُبِينٍ وإن ذهبت إلى أنه نكرة أباه لفظ الْكِتابِ قلت :
أقدره معرفة وَقُرْآنٍ مُبِينٍ في تأويل المعرفة لأن معناه البالغ في الغرابة إلى حد الإعجاز فهو إذا محدود بل محصور إلى آخر ما قال ، وهو كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أربابه ، وقيل : المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وبالقرآن الكتاب المنزل على نبينا صلى اللّه عليه وسلم ، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد ، وقتادة ، وأمر العطف على هذا ظاهر جدا إلا أن ذلك نفسه غير ظاهر ، وفي المراد بالإشارة عليه خفاء أيضا.
وفي البحر أن الإشارة على هذا القول إلى آيات الكتاب وهو كما ترى ثم إنه سبحانه لما بين شأن الآيات لتوجيه المخاطبين إلى حسن تلقي ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع جل شأنه في بيان المتضمن فقال عز قائلا : رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما يجب الإيمان به لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مؤمنين بذلك ، وقيل : المراد كفرهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند اللّه تعالى وودادتهم الانقياد لحكمه والإذعان لأمره ، وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود ، وفيه نظر ، وهذه الودادة يوم القيامة عند رؤيتهم خروج العصاة من النار.
أخرج ابن المبارك ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي. وغيرهم عن ابن عباس. وأنس رضي اللّه تعالى عنهم أنهما تذاكرا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 252
هذه الآية فقال : هذا حيث يجمع اللّه تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار فيقول المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون فيغضب اللّه تعالى لهم فيخرجهم بفضل رحمته.
وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد اللّه قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء اللّه تعالى أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون : ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه اللّه تعالى من النار ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الآية».
وأخرج غير واحد عن علي كرم اللّه تعالى وجهه. وأبي موسى الأشعري. وأبي سعيد الخدري نحو ذلك يرفعه كل إلى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام ،
وروي ذلك عن كثير من السلف الصالح ، فقول الزمخشري : إن القول به باب من الودادة بيت من السفاهة قعيدته عقيدته الشوهاء ، وقال الضحاك : إن ذلك في الدنيا عند الموت وانكشاف وخامة الكفر لهم ، وعن ابن مسعود أن الآية في كفار قريش ودوا ذلك يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين ، وفي رواية عنه وعن أناس من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم أن ذلك حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار.
وذكر ابن الأنباري أن هذه الودادة من الكفار عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المسلم ، «ورب» على كثرة وقوعها في كلام العرب لم تقع في القرآن إلا في هذه الآية ، ويقال فيها رب بضم الراء وتشديد الباء وفتحها ورب بفتح الراء ورب بضمهما وربت بالضم وفتح الباء والتاء وربت بسكون التاء وربت بفتح الثلاثة وربت بفتح الأولين وسكون التاء وتخفيف الباء من هذه السبعة وربتا بالضم وفتح الباء المشددة ورب بالضم والسكون ورب بالفتح والسكون فهذه سبع عشرة لغة حكاها ما عدا ربتا ابن هشام في المغني وحكى أبو حيان إحدى عشر منها - ربتا - وإذا اعتبر ضم الاتصال بما والتجرد منها بلغت اللغات ما لا يخفى ، وزعم ابن فضالة «1» في الهوامل والعوامل أنها ثنائية الوضع كقد وأن فتح الباء مخففة دون التاء ضرورة وأن فتح الراء مطلقا شاذ ، وهي حرف حر خلافا للكوفية. والأخفش في أحد قوليه. وابن الطراوة زعموا أنها اسم مبني ككم واستدلوا على اسميتها بالإخبار عنها في قوله :
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن عارا عليك ورب قتل عار
فرب عندهم مبتدأ وعار خبره ، وتقع عندهم مصدرا كرب ضربة ضربت ، وظرفا كرب يوم سرت ، ومفعولا به كرب رجل ضربت ، واختار الرضي اسميتها إلا أن إعرابها عنده رفع أبدا على أنها مبتدأ لا خبر له كما اختار ذلك في قولهم : أقل رجل يقول ذلك إلا زيدا ، وقال : إنها إن كفت بما فلا محل لها حينئذ لكونها كحرف النفي الداخل على الجملة ومنع ذلك البصريون بأنها لو كانت اسما لجاز أن يتعدى إليها الفعل بحرف الجر فيقال برب رجل عالم مررت ، وأن يعود عليها الضمير ويضاف إليها وجميع علامات الاسم منتفية عنها ، وأجيب عن البيت بأن المعروف - وبعض - بدل رب ، وإن صحت تلك الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف أي هو عار كما صرح به في قوله : يا رب هيجا هي خير من دعة. والجملة صفة المجرور أو خبره إذ هو في موضع مبتدأ ، ويرد قياسها على كم كما قال أبو علي :
إنهم لم يفصلوا بينها وبين المجرور كما فصلوا بين كم وما تعمل فيه وفي مفادها أقوال : أحدها أنها للتقليل دائما وهو قول الأكثرين ، وعد في البسيط منهم الخليل. وسيبويه. والأخفش. والمازني. والفارسي. والمبرد. والكسائي. والفراء.
وهشام. وخلق آخرون. ثانيها أنها للتكثير دائما وعليه صاحب العين. وابن درستويه. وجماعة ، وروي عن الخليل.
___________
(1) هو أبو الحسن علي اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 253
ثالثها واختاره الجلال السيوطي وفاقا للفارابي وطائفة أنها للتقليل غالبا والتكثير نادرا. رابعها عكسه وجزم به في التسهيل واختاره ابن هشام في المغني. وخامسها أنها لهما من غير غلبة لأحدهما نقله أبو حيان عن بعض المتأخرين.
سادسها أنها لم توضع لواحد منهما بل هي حرف إثبات لا يدل على تكثير ولا تقليل وإنما يفهم ذلك من خارج واختاره أبو حيان. سابعها أنها للتكثير في المباهاة وللتقليل فيما عداه وهو قول الأعلم. وابن السيد. ثامنها أنها لمبهم العدد وهو قول ابن الباذش وابن طاهر وتصدر وجوبا غالبا ، ونحو قوله :
تيقنت أن رب امرئ خيل خائنا أمين وخوان بخال أمينا
وقوله :
ولو علم الأقوام كيف خلفتهم لرب مفد في القبور وحامد
يحتمل أن يكون كما قال الشمني ضرورة ، وقال أبو حيان : المراد تصدرها على ما تتعلق به فلا يقال : لقيت رب رجل عالم ، وذكروا أنها قد تسبق بألا كقوله :
ألا رب مأخوذ بإجرام غيره فلا تسأمن هجران من كان أجرما
وبيا صدر جواب شرط غالبا كقوله : فإن أمس مكروبا فيا رب فتية. ومن غير الغالب يا رب كاسية الحديث ولا تجر غير نكرة وأجاز بعضهم جرها المعرف بأل احتجاجا بقوله :
ربما الجامل المؤبل فيهم وعناجيج بينهن المهار
وأجاب الجمهور بأن الرواية بالرفع وإن صح الجر فأل زائدة ، وفي وجوب نعت مجرورها خلف فقال المبرد.
وابن السراج. والفارسي. وأكثر المتأخرين وعزى للبصريين يجب لإجرائها مجرى حرف النفي حيث لا تقع إلا صدرا ولا يقدم عليها ما يعمل في الاسم بعدها ، وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة فالأقيس في مجرورها أن يوصف بجملة لذلك ، وقد يوصف بما يجري مجراها من ظرف أو مجرور أو اسم فاعل أو مفعول وجزم به ابن هشام في المعنى وارتضاه الرضي ، وقال الأخفش. والفراء. والزجاج. وابن طاهر. وابن خروف. وغيرهم لا يجب وتضمنها القلة أو الكثرة يقوم مقام الوصف واختاره ابن مالك وتبعه أبو حيان ونظر في الاستدلال المذكور بما لا يخفى ، وتجر مضافا إلى ضمير مجرورها معطوفا بالواو كرب رجل وأخيه ولا يقاس على ذلك عند سيبويه ، وما حكاه الأصمعي من مباشرة للمضاف إلى الضمير حيث قال لأعرابية ألفلان أب أو أخ؟ فقالت : رب أبيه رب أخيه تريد رب أب له رب أخ له تقديرا للانفصال لكون أب وأخ من الأسماء التي يجوز الوصف بها فلا يقاس عليه اتفاقا ، وتجر ضميرا مفردا مذكرا يفسره نكرة منصوبة مطابقة للمعنى الذي يقصده المتكلم غير مفصولة عنه وسمع جره في قوله :
وربه عطب أنقذت من عطبه على نية من وهو شاذ ، وجوز الكوفية مطابقة الضمير للنكرة المفسرة تثنية وجمعا وتأنيثا كما في قوله :
ربها فتية دعوت إلى ما يورث الحمد دائما فأجابوا
والأصح أن هذا الضمير معرفة جرى مجرى النكرة ، واختار ابن عصفور تبعا لجماعة أنه نكرة وأن جرها إياها ليس قليلا ولا شاذا خلافا لابن مالك ، وأنها زائدة في الإعراب لا المعنى ، وإن محل مجرورها على حسب العامل لا لازم النصب بالفعل الذي بعد أو بعامل محذوف خلافا للزجاج ومتابعيه في قولهم : بذلك لما يلزم عليه من تعدي الفعل المتعدي بنفسه إلى مفعوله بالواسطة وهو لا يحتاج إليها فيعطف على محله كما يعطف على لفظه كقوله :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 254
وسن «1» كسنيق سناء وسنما ذعرت بمدلاح الهجير نهوض
وأنها تتعلق كسائر حروف الجر وقال الرماني وابن طاهر لا تتعلق كالحرف الزائدة وإن التعلق بالعامل الذي يكون خبرا لمجرورها أو عاملا في موضعه أو مفسرا له قاله أبو حيان ، وقال ابن هشام : قول الجمهور أنها معدية للعامل إن أرادوا المذكور فخطأ إنه يتعدى بنفسه أو محذوفا يقدر بحصل ونحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير ما معنى الكلام مستغنى عنه ولم يلفظ به في وقت ، ثم على التعليق قال لكذة : حذفه لحن ، والخليل وسيبويه نادر كقوله :
ودوية قفر تمشى نعامها كمشي النصارى في خفاف اليرندج «2»
أي قطعتها ويرد لكذة هذا وقولهم : رب رجل قائم ورب ابنة خير من ابن ، وقوله :
الا رب من تغتشه لك ناصح ومؤتمن بالغيب غير أمين
والفارسي والجزولي كثير وبه جزم ابن الحاجب. ورابعها واجب كما نقله صاحب البسيط عن بعضهم وخامسها ، ونقل عن ابن أبي الربيع يجب حذفه إن قامت الصفة مقامه وإلا جاز الأمران سواء كان دليل أم لا؟ ويجب عند المبرد. والفارسي. وابن عصفور ، وهو المشهور كما قال أبو حيان : ورأى الأكثرين كونه ماضيا معنى ، وقال ابن السراج : يأتي حالا ، وابن مالك يأتي مستقبلا واختاره في البحر إلا أنه قال بقلته وكثرة وقوع الماضي ، وأنشد له قول سليم القشيري :
ومعتصم بالجبن من خشية الردى سيردى وغاز مشفق سيؤوب
وقول هند :
يا رب قائلة غدا يا لهف أم معاويه
وجعل كابن مالك الآية من ذلك وتأولها الأكثرون بأنه وضع فيها المضارع موضع الماضي على حد ونفخ في الصور وتعقبه ابن هشام بأن فيه تكلفا لاقتضائه أن الفعل المستقبل عبر به عن ماض متجوز به عن المستقبل ، وأجاب الشمني بأنه لا تكلف فيه لأنهم قالوا : إن هذه الحالة المستقبلة جعلت بمنزلة الماضي المتحقق فاستعمل معها ربما المختصة بالماضي وعدل إلى لفظ المضارع لأنه كلام من لا خلف في أخباره فالمضارع عنده بمنزلة الماضي فهو مستقبل في التحقيق ماض بحسب التأويل وهو كما ترى ، وعن أبي حيان أنه أجاب عن بيت هند بأنه من باب الوصف بالمستقبل لا من باب تعلق رب بما بعدها وهو نظير قولك ، رب مسيء اليوم يحسن غدا أي رب رجل يوصف بهذا الوصف وتأول الكوفيون كما في المطول الآية بأنها بتقدير كان أي ربما كان يود الذين كفروا فحذف لكثرة استعمال كان بعد ربما ، وضعف ذلك أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع إضمار كان ، وفي جمع الجوامع وشرحه أن - ما - تزاد بعد رب فالغالب الكلف وإيلائها حينئذ الفعل الماضي لأن التكثير أو التقليل إنما يكون فيما عرف حده والمستقبل مجهول كقوله :
ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات
وقد يليها المضارع ك رُبَما يَوَدُّ الآية وقد يليها الجملة الاسمية نحو : ربما الجامل المؤبل فيهم. وقد لا تكف نحو :
___________
(1) قوله وسن هو الثور الوحشي ، وسنيق كقبيط بيت مجصص كما في القاموس والسنم بضم السين المهملة وفتح النون المشددة بقرة الوحش اه همع ، وقوله بمدلاح إلخ وصف للفرس اه منه والمدلاح بالحاء المهملة كثير العرق كما في الدسوقي على المغني اه. [.....]
(2) اليرندج السواد يسود به الخف أو هو الزاج اه قاموس.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 255
ربما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء
وقيل : يتعين بعدها الفعلية إذا كفت وإليه ذهب الفارسي وأول البيت على أن ما نكرة موصوفة بجملة حذف مبتدأها أي رب شيء هو الجامل ، وقد يحذف الفعل بعدها كقوله :
فذلك إن يلق الكريهة يلقها حميدا وإن يستغن يوما فربما
وقد تلحق بها ما ولا تكف كقوله :
ماويّ يا ربتما غارة شعواء كالكية بالميسم
انتهى. وبنحو تأويل الفارسي البيت أول بعضهم الآية فقال : إن ما نكرة موصوفة بجملة يَوَدُّ إلى آخره والعائد محذوف ، والفعل المتعلق به رب محذوف أي رب شيء يوده الذين كفروا تحقق وثبت ونحوه قول ابن أبي الصلت :
ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال
والتزم كون المتعلق محذوفا لأنها حينئذ لا يجوز تعلقها بيود ولا بد لها من فعل تتعلق به على ما صححه جمع ، وأما على ما اختاره الرضي من كونها مبتدأ لا خبر له والمعنى قليل أو كثير وداد الذين كفروا فلا حاجة إليه ، وهذا التأويل على ما قال السمرقندي أحد قولي البصريين ، وتعقبه العلامة التفتازاني بأنه لا يخفى ما فيه من التعسف وبتر النظم الكريم أي قطع لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ عما قبله ، ووجه التعسف أن المعنى على تقليل أو تكثير ودادهم لا على تقليل أو تكثير شيء إلا أن يراد رب شيء يودونه من حيث إنهم يودونه ، والمختار عندي ما اختاره أبو حيان وكذا صاحب اللب من أن رب تدخل على الماضي والمضارع إلا أن دخولها على الماضي أكثر ، ومن تتبع أشعار العرب رأى فيها مما دخلت فيه على المضارع ما يبعد ارتكاب التأويل معه كما لا يخفى على المنصف المتتبع واختلفوا في مفادها هنا فذهب جمع كثير إلى أنه التقليل وهو ظاهر أكثر الآثار حيث دلت على أن ودادهم ذلك عند خروج عصاه المسلمين من جهنم وبقائهم فيها. نعم زعم بعضهم أن الحق أن ما فيها محمول على شدة ودادهم إذ ذاك وأن نفس الوداد ليس مختصا بوقت دون وقت بل هو متقرر مستمر في كل آن يمر عليهم.
ووجه الزمخشري الإتيان بأداة التقليل على هذا بأنه وارد على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك وربما ندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون كما يتحرزون من التعرض للغم المتيقن ومن القليل منه كما من الكثير ، وكذلك المعنى في الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة فبالحري أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودونه في كل ساعة اه.
والكلام عليه على ما قيل من الكناية الإيمائية وفي ذلك من المبالغة ما لا يخفى ، قال ابن المنير : لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده كثيرا ، ومنه واللّه تعالى أعلم قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف : 5] المقصود منه توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته لهم ، وقوله :
قد أترك القرن مصفرا أنامله. فإنه إنما يتمدح بالإكثار من ذلك وقد عبر بقد المفيدة للتقليل ، وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك فمنهم من وجهه بما ذكر عن الزمخشري من التنبيه بالأدنى على الأعلى ، ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد وذلك شأن كل ما بلغ نهايته أن يعود إلى عكسه ، وقد أفصح المتنبي عن ذلك بقوله :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 256
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا للمنتهى ومن السرور بكاء
وكلا الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها ، والعمدة في ذلك على سياق الكلام لأنه إذا اقتضى مثلا تكثيرا فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع لأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين المذكورتين ، وقال في الكشف : الأصل في هذا الباب أن استعارة أحد الضدين للآخر تفيد المبالغة للتعكيس ولا تختص بالتهكم والتمليح على ما يوهمه ظاهر لفظ صاحب المفتاح في موضع فهو الذي عد المفازة من هذا القبيل لقصد التفاؤل ثم قد يختصر موقعها بفائدة زائدة كما ذكره الزمخشري في هذا المقام ، وليس في ذلك كناية إيمائية وإنما ذلك من فوائد هذه الاستعارة وسيجيء إن شاء اللّه تعالى فيه كلام أتم بسطا في سورة التكوير اه.
والحق أنه لا مانع من القول بالكناية الإيمائية كما لا يخفى ، وقيل : إن التقليل بالنسبة إلى زمان ذهاب عقلهم من الدهشة بمعنى أنه تدهشهم أهوال القيامة فيبهتون فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنوا ذلك ، وظاهر صنيع العلامة التفتازاني في المطول اختياره ، وجوز أن تكون مستعارة للتكثير والقول بالاستعارة له لا يحتاج إليه على القول المحكي عن صاحب العين ومن معه حسبما سمعت ، وذكر ابن الحاجب أنها نقلت من التقليل إلى التحقيق كما تنقل قد إذا دخلت على المضارع منه إليه. ومفعول يَوَدُّ محذوف أي الإسلام بدلالة لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ بناء على أن لَوْ للتمني والجملة في موقع الحال أي قائلين لو كانوا مسلمين ، وتقدير المفعول ما ذكرنا هو الذي ذهب إليه غير واحد ، وقال الشهاب : تقديره النجاة ولا ينبغي تقدير الإسلام لأنه يصير تقديره يودوا الإسلام لو كانوا مسلمين وهو حشو وفيه نظر.
وقال صاحب الفرائد : أن لَوْ كانُوا إلى آخره منزل منزلة المفعول. وتعقب بأنه غير ظاهر إذ ليس ذلك مما يعمل في الجمل إلا أن يكون بمعنى ذكروا التمني ويجري مجرى القول على مذهب بعض النحاة. والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك : حلف باللّه تعالى ليفعلن ولو قلت لأفلن لجاز ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ [النمل : 49] بالنون والياء وإيثار الغيبة أكثر لئلا يلبس والتعليل بقلة التقدير ليس بشيء كما كشف ذلك في الكشف ، وأنكر قوم ورود لَوْ للتمني ، وقالوا ليست قسما برأسها وإنما هي الشرطية أشربت معنى التمني وعلى الأول الأصح لا جواب لها على الأصح. وقد نص على ذلك ابن الضائع وابن هشام الخضراوي ، ونقل أنهما قالا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط سهو وذكر أبو حيان أن الذي يظهر أنها لا بد لها من جواب لكنه التزم حذفه لإشرابها معنى التمني لأنه متى أمكن تقليل القواعد وجعل الشيء من باب المجاز كان أولى من تكثير القواعد وادعاء الاشتراك لأنه يحتاج إلى وضعين والمجاز ليس فيه إلا وضع واحد وهو الحقيقة ، وقيل : إنها هنا امتناعية شرطية والجواب محذوف تقديره لفازوا ومفعول يَوَدُّ ما علمت ، وزعم بعضهم مصدريتها فيما إذا وقعت بعد ما يدل على التمني فالمصدر حينئذ هو المفعول وهو على القول بأن ما نكرة موصوفة بدل منها كما في البحر. وقرأ عاصم. ونافع «ربما» بتخفيف الباء وعن أبي عمرو التخفيف والتشديد ، وقرأ طلحة بن مصرف وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما ربتما بزيادة تاء هذا ، وإنما أطنبت الكلام في هذه الآية لا سيما فيما يتعلق - برب - لما أنه قد جرى لي بحث في ذلك مع بعض العظاميين فأبان عن جهل عظيم وحمق جسيم ، ورأيته ورب الكعبة أجهل من رأيت من صغار الطلبة - برب - نعم له من العظاميين أمثال أصمهم اللّه تعالى وأعمى بالهم وقللهم ولا أكثر أمثالهم.
ذَرْهُمْ أي اتركهم وقد استغنى غالبا عن ماضيه بماضيه وجاء قليلا وذر ، وفي الحديث «ذروا الحبشة ما وذروكم»
والمراد من الأمر التخلية بينهم وبين شهواتهم إذ لم تنفعهم النصيحة والانذار كأنه قيل : خلهم وشأنهم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم ، وفي تقديم الأكل

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 257
إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب ، والفعل وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر ، وأشار في الكشاف أن المراد المبالغة في تخليتهم حتى كأنه عليه السلام أمر أن يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما ، ووجهه المدقق صاحب الكشف فقال : أريد الأمر من حيث المعنى لأنه جعل أكلهم وتمتعهم الغاية المطلوبة من الأمر بالتخلية ، والغايات المطلوبة إن صح الأمر بها كانت مأمورا بها بنفس الأمر وأبلغ من صريحه فإذا قلت : لازم سدة العالم تعلم منه ما ينجيك في الآخرة كان أبلغ من قولك : لازم وتعلم لأنك جعلت الأمر وسيلة الثاني فهو أشد مطلوبية وإن لم يصح جعلت مأمورا بها مجازا كقولك : اسلم تدخل الجنة ، وما نحن فيه لما جعل غاية الأمر على التجوز صار مأمورا به على ما أرشدت إليه اه ، وهو من النفاسة بمكان ، وظن أن انفهام الأمر من تقدير لامه ، قبل الفعل من بعض الأمر ، وما في البحر من أنه إذا جعل ذَرْهُمْ أمرا بترك نصيحتهم وشغل باله صلى اللّه عليه وسلم بهم لا يترتب عليه الجواب لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم أم لا وقوف في ساحل التحقيق كما لا يخفى على من غاص في لجة المعاني فاستخرج درر الأسرار واستظهر أنه أمر بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وموادعتهم ثم قال : ولذلك صح أن يكون المذكور جوابا لأنه عليه الصلاة والسلام لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحروب ما هنأهم أكل ولا تمتع ويدل على ذلك أن السورة مكية وهو كما ترى.
ثم المراد على ما قيل دوامهم على ما هم عليه لا إحداث ما ذكر أو تمتعهم بلا استمتاع ما ينغص عيشهم والتمتع كذلك أمر حادث يصلح أن يكون مرتبا على تخليتهم وشأنهم فتأمل وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ويشغلهم التوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يلقوا إلا خيرا في العاقبة والمآل عن الإيمان والطاعة أو عن التفكر فيما يصيرون إليه فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه ووخامة عاقبته أو حقيقة الحال التي ألجأتهم إلى التمني.
وظاهر كلام الأكثرين أن المراد علم ذلك في الآخرة ، وقيل : المراد سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدنيا من الذل والقتل والسبي وفي الآخرة من العذاب السرمدي ، وهذا كما قيل مع كونه وعيدا أيما وعيد وتهديد غب تهديد تعليل للأمر بالترك ، وفيه إلزام الحجة ومبالغة في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد حسبما علمت إلا بعد تكرر الإنذار وتقرر الجحود والإنكار ومن أنذر فقد أعذر ، وكذلك ما ترتب عليه من الأكل وما بعده ، وفي الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها ليس من أخلاق من يطلب النجاة ، وجاء عن الحسن : ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
وأخرج أحمد في الزهد. والطبراني في الأوسط. والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا أعلمه إلا رفعه قال : صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل.
وفي بعض الآثار عن علي كرم اللّه تعالى وجهه : إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق.
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها الكافرين كما فعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها بعد إهلاكهم كما فعل بآخرين إِلَّا وَلَها في ذلك الشأن كِتابٌ أجل مقدر مكتوب في اللوح مَعْلُومٌ لا ينسى ولا يغفل عنه حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر ، وهذا شرع في بيان سر تأخير عذابهم. وكِتابٌ مبتدأ خبره الظرف والجملة حال من قَرْيَةٍ ولا يلزم تقدمها لكون صاحبها نكرة لأنها واقعة بعد النفي وهو مسوغ لمجيء الحال لأنه في معنى الوصف لا سيما وقد تأكد بكلمة مِنْ والمعنى ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتاب معلوم لا نهلكها قبل بلوغه ولا نغفل عنه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 258
ليمكن مخالفته ، أو مرتفع بالظرف والجملة كما هي حال أيضا أي ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق إهلاكها أجل مقدر لا يغفل عنه.
وقال الزمخشري الجملة صفة - لقرية - والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى : وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء : 208] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب ، ووافقه على ذلك أبو البقاء ، وتعقبه في البحر بأنا لا نعلم أحدا قاله من النحاة ، وهو مبني على أن ما بعد ألا يجوز أن يكون صفة ، وقد صرح الأخفش. والفارسي بمنع ذلك ، وقال ابن مالك : أن جعل ما بعد إلا صفة لما قبلها مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي فلا يلتفت إليه وأبطل القول بأن الواو توسطت لتأكيد اللصوق.
ونقل عن منذر بن سعيد أن هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو ، ومنه قوله تعالى : حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر : 71 ، 73] واعتذر السكاكي بأن ذلك سهو ولا عيب فيه ، ولم يرض بذلك صاحب الكشف وانتصر للزمخشري فقال : قد تكرر هذا المعنى منهم في هذا الكتاب فلا سهو كما اعتذر صاحب المفتاح ، وإذا ثبت اقحام الواو كما عليه الكوفيون والقياس لا يدفعه لثبوته في الحال وفيما أضمر بعده الجار في نحو بعت الشاء شاة ودرهما وكم وكم ، وهذه تدل على أن الاستعارة شائعة في الواو نوعية بل جنسية فلا نعتبر النقل الخصوصي ولا يكون من إثبات اللغة بالقياس لثبوت النقل عن نحارير الكوفة واعتضاده بالقياس ، والمعنى ولا يبعد من صاحب المعاني ترجيح المذهب الكوفي إذا اقتضاه المقام كما رجحوا المذهب التميم على الحجازي «1» في باب الاستثناء عنده ، ولا خفاء أن المعنى على الوصف أبلغ وأن هذا الوصف ألصق بالموصوف منه في قوله تعالى : إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء : 208] لأنه لازم عقلي وذلك عادي جرى عليه سنة اللّه تعالى اه. وفي الدر المصون أنه قد سبق الزمخشري إلى ما قاله ابن جني وناهيك به من مقتدى.
قال بعض المحققين : إن الموصوف ليس القرية المذكورة وإنما هو قرية مقدرة وقعت بدلا من المذكورة على المختار فيكون ذلك بمنزلة كون الصفة لها أي ما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم كما في قوله تعالى :
ْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
[الغاشية : 6 ، 7] فإن لا يُسْمِنُ إلخ صفة لكن لا للطعام المذكور لأنه إنما يدل على انحصار طعامهم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في الضريع ، وليس المراد ذلك بل للطعام المقدر بعد إِلَّا أي ليس لهم طعام من شيء من الأشياء إلا طعام لا يسمن إلخ فليس هناك الفصل بين الموصوف والصفة بإلا ، وأما توسيط الواو وإن كان القياس عدمه فللإيذان بكمال الاتصال انتهى. ولا يخفى أنه لم يأت في أمر التوسيط بما يدفع عنه القال والقيل ، وما ذكره من تقدير الموصوف بعد - إلا - يدفع حديث الفصل لكن نقل أبو حيان عن الأخفش أنه قال بعد منع الفصل بين الصفة والموصوف بالا : ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره إلا رجل راكب ، وفيه قبح لجعلك الصفة كالاسم ، ولعل الجواب عن هذا سهل. وقرأ ابن أبي عبلة إِلَّا لَها بإسقاط الواو ، وهو على ما قيل يؤيد القول بزيادتها ، ولما بين سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم ومن غيرهم لهم كتاب لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقال عز قائلا : ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من الأمم المهلكة وغيرهم - فمن - مزيدة
___________
(1) وذلك أن بني تميم يجوزون الرفع في الاستثناء المنقطع وقد قال تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ والمعنى الصحيح فيه على الانقطاع وعلى الاتصال يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى فافهم اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 259
للاستغراق ، وقيل : إنها للتبعيض وليس بذاك أَجَلَها المكتوب في كتابها أي لا يجيء هلاكها قبل مجيء كتابها أولا تمضي أمة قبل مضي أجلها ، فإن السبق كما نقل الإمام عن الخليل إذا كان واقعا على زماني فمعناه المجاوزة والتخليف فإذا قلت : سبق زيد عمرا فمعناه أنه جاوزه وخلفه وراءه وأن عمرا قصرا عنه ولم يبلغه وإذا كان واقعا على زمانه كان على عكس ذلك فإذا قلت سبق فلان عام كذا كان معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه والسر في ذلك على ما في إرشاد العقل السليم أن الزمان يعتبر فيه الحركة والتوجه فما سبقه يتحقق قبل تحققه وأما الزماني فإنما يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابق ما تقدم إلى المقصد ، وإيراده بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما ان إيراده بعنوان الكتاب باعتبار ما يوجبه من الإهلاك وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي وما يتأخرون.
وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له ، وإيثار صيغة المضارع في الفعلين بعد ما ذكر نفي الإهلاك بصيغة الماضي لأن المقصود بيان دوامهما فيما بين الأمم الماضية والباقية ، وله نظائر في كتاب الكريم وإسنادهما إلى الأمة بعد إسناد الإهلاك إلى القرية لما أن السبق والاستئخار حال الأمة بدون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرهم ممن أخرت عقوباتهم إلى الآخرة ، وتأخير عدم سبقهم مع كون المقام مقام المبالغة في بيان تحقق عذابهم إما باعتبار تقدم السبق في الوجود وإما باعتبار أن المراد بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم لذلك ، وأورد الفعل على صيغة جمع المذكر رعاية لمعنى أُمَّةٍ مع التغليب كما روعي لفظها أولا مع رعاية الفواصل ولهذا حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما سبق ولذا فصلت ، والمعنى أن تأخير عذابهم إلى يوم الودادة حسبما أشير إليه إنما هو لتأخير أجلهم المقدر لما يقتضيه من الحكم ومن جملة ذلك ما علم اللّه تعالى من إيمان بعض من يخرج منهم قاله شيخ الإسلام واستدل بالآية على أن كل من مات أو قتل فإنما هو ميت بأجله وقد بين ذلك الإمام.
وَقالُوا شروع في بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب المتضمن للكفر به وبيان ما يؤول إليه حالهم ، والقائل أهل مكة قال مقاتل : نزلت الآية في عبد اللّه بن أمية. والنضر بن الحرث. ونوفل بن خويلد. والوليد بن المغيرة وهم الذين قالوا له صلى اللّه عليه وسلم : يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن ، وخاطبوه عليه الصلاة والسلام بذلك مع أنهم الكفرة الذين لا يعتقدون نزول شيء استهزاء وتهكما وإشعارا بعلة الباطل في قولهم : إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ يعنون يا من يدعي مثل هذا الأمر العظيم الخارق للعادة إنك بسبب تلك الدعوى متحقق جنونك على أتم وجه ، وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده : أنت مجنون ، وقيل : حكمهم هذا لما يظهر عليه الصلاة والسلام من شبه الغشي حين ينزل عليه الوحي بالقرآن ، والأول على ما قيل هو الأنسب بالمقام ، وذهب بعضهم إلى أن المقول الجملة المؤكدة دون النداء أما هو فمن كلام اللّه تعالى تبرئة له عليه الصلاة والسلام عما نسبوه إليه من أول الأمر. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى :
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ إلخ فإنه كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى رد لإنكارهم واستهزائهم ، وقد يجاب بأن ذلك على هذا رد لما عنوه في ضمن قولهم المذكور لكن الظاهر كون الكل كلامهم. وقد سبقهم إلى نظيره فرعون عليه اللعنة بقوله في حق موسى عليه السلام : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء : 27] وتقديم الجار والمجرور على نائب الفاعل كما قيل لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكرا من اللّه تعالى لا إلى كون المنزل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد تسليم كون النازل منه تعالى كما في قوله سبحانه : لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : 31] فإن الإنكار هناك متوجه إلى كون المنزل عليه رسول اللّه عليه الصلاة والسلام.
وإيراد الفعل على صيغة المجهول لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعل أو لتوجيه الإنكار إلى كون التنزيل عليه لا إلى إسناده إلى الفاعل. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما نزل عليه الذكر بتخفيف نُزِّلَ مبنيا للفاعل ورفع

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 260
الذِّكْرُ على الفاعلية ، وقرئ «يا أيها الذي ألقي عليه الذكر». قال أبو حيان : وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف لَوْ ما تَأْتِينا كلمة لَوْ ما كلولا تستعمل في أحد معنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتخفيض وعند إرادة الثاني منها لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر وعند إرادة الأول لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدر عند البصريين ، ومنه قول ابن مقبل :
لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وعن بعضهم أن الميم في لَوْ ما بدل من اللام في لولا ، ومثله استولى واستومى وخاللته وخالمته فهو خلي وخلمي أي صديقي. وذكر الزمخشري أن لو تركب مع لاوما لمعنيين وهل لا تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض ، واختار أبو حيان فيهما البساطة وأن الميم ليست بدلا من اللام ، وقال المالقي : إن لَوْ ما لا ترد إلا للتحضيض وهو محجوج بالبيت السابق ، وأيّا ما كان فالمراد هنا التحضيض أي هلا تأتينا بِالْمَلائِكَةِ يشهدون لك ويعضدونك في الانذار كقوله تعالى حكاية عنهم : لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان : 7] أو يعاقبون على تكذيبك كما كانت تأتي الأمم المكذبة لرسلهم إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك إن قدرة اللّه تعالى على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك إذ لا نصدقك في ذلك الأمر الخطير بدونه أو إن كنت من جملة تلك الرسل الصادقين الذين عذبت أممهم المكذبة لهم ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل ، وهي قراءة حفص. والأخوين وابن مصرف وقرأ أبو بكر عن عاصم. ويحيى بن وثاب «تنزّل الملائكة» بضم التاء وفتح النون والزاي مبنيا للمفعول ورفع «الملائكة» على النيابة عن الفاعل وقرأ الحرميان وباقي السبعة «تنزل الملائكة» بفتح التاء والزاي على أن الأصل «تتنزل» بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا ورفع الملائكة على الفاعلية وإبقاء الفعل على ظاهره أولى من جعله بمعنى تنزل الثلاثي. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «ما نزل» ماضيا مخففا مبنيا للفاعل ورفع الملائكة على الفاعلية.
والبيضاوي بنى تفسيره على أن الفعل ينزل بالياء التحتية مبنيا للفاعل وهو ضمير اللّه تعالى والْمَلائِكَةَ بالنصب على أنه مفعوله ، واعترض عليه أنه لم يقرأ بذلك أحد من العشرة بل لم توجد هذه القراءة في الشواذ وهو خلاف ما سلكه في تفسيره ، ولعله رحمه اللّه تعالى قدسها. وهذا الكلام مسوق منه سبحانه إلى نبيه صلى اللّه عليه وسلم جوابا لهم عن مقالتهم المحكية وردا لاقتراحهم الباطل الصادر عن محض التعصب والعناد ، ولشدة استدعاء ذلك للجواب قدم رده على ما هو جواب عن أولها أعني قوله سبحانه : إِنَّا نَحْنُ إلخ والعدول عن تطبيقه لظاهر كلامهم بصدد الاقتراح بأن يقال مثلا ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد اخطؤوا في الاقتراح وأن الملائكة لعلو رتبتهم أعلى من أن ينسب إليهم مطلق الإتيان الشامل للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصد حركاتهم أولئك الكفرة وأن يدخلوا تحت ملكوت أحد من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزول من مقامهم العالي وكون ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل قاله شيخ الإسلام.
وقيل : لعل هذا جواب لما عسى أن يخطر بخاطره الشريف عليه الصلاة والسلام حين طلبوا منه الإتيان بالملائكة من سؤال التنزيل رغبة في إسلامهم فيكون وجه ذكر التنزيل ظاهرا وهو غير ظاهر كما لا يخفى. إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا تنزيلا ملتبسا بالوجه الذي اقتضته الحكمة فالباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الصفة للمصدر المحذوف مستثنى استثناء مفرغا ، وجوز فيه الحالية من الفاعل والمفعول. وجوز أبو البقاء أن تكون الباء للسببية متعلقة بننزل وإليه يشير كلام ابن عطية الآتي إن شاء اللّه تعالى والأول أولى ومقتضى الحكمة التشريعية والتكوينية على ما قيل أن تكون الملائكة المنزلون بصور البشر وتنزيلهم كذلك يوجب اللبس كما قال اللّه تعالى وَلَوْ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 261
جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ
[الأنعام : 9] وهذا إشارة إلى نفي ترتب الغرض وعدم النفع في ذلك ، وقوله تعالى : وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إشارة إلى حصول الضرر وترتب نقيض المطلوب وكأنه عطف على مقدر يقتضيه الكلام السابق كأنه قيل : ما ننزل الملائكة عليهم إلا بصور الرجال لأنه الذي تقتضيه الحكمة فيحصل اللبس فلا ينفعون وما كانوا إذا أنزلناهم منظرين أي ويتضررون بتنزيلهم لأنا نهلكهم لا محالة ولا نؤخرهم لأنه قد جرت عادتنا في الأمم قبلهم أنا لم نأتهم بآية اقترحوها إلا والعذاب في أثرها إن لم يؤمنوا وقد علمنا منهم ذلك والمقصود نفي أن يكون لاقتراحهم الإتيان بهم وجه على أتم وجه بالإشارة إلى عدم نفعه أولا والتصريح بضرره ثانيا ، وقيل : يقدر المعطوف عليه لا يؤمنون كأنه قيل : ما ننزل الملائكة إلا بصور البشر لاقتضاء الحكمة ذلك فلا يؤمنون وما كانوا إذا منظرين ، وفي النفس من هذا ومما قبله شيء.
وقال بعض المحققين : إن المعنى ما ننزل الملائكة إلا ملتبسا بالوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه الحكمة وتجري به السنة الإلهية ، والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم - هم - ومنزلتهم في الحقائق منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة والحكمة أصلا فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام من أفراد كل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام ، وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة وما كانوا إذا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة ، ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل في الآيات قبل ، وحال حائل الحكمة يأباه تماديهم في الكفر والعناد - فما كانوا - إلخ جواب لشرط مقدر أي ولو أنزلناهم ما كانوا إلخ.
واعترض بأن الأوفق بقوله تعالى : وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام : 9] أن يكون الوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به لمثل غرضهم كونهم بصور الرجال وذلك ليس من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يكون لهم أصلا فلا يتم كلامه ، وفيه بحث كما لا يخفى ، وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد تفسير الحق هنا بالرسالة والعذاب ، ووجهت الآية على ذلك نحو هذا التوجيه فقيل : المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالرسالة والعذاب ولو نزلناهم عليهم ما كانوا منظرين لأن التنزيل عليهم بالرسالة مما لا يكاد فتعين أن يكون التنزيل بالعذاب ، وذكر الماوردي الاقتصار على الرسالة ، وروي عن الحسن الاقتصار على العذاب ، وفي معنى ذلك ما روي عن ابن عباس من أن المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالحق الذي هو الموت الذي لا يقع فيه تقديم ولا تأخير.
وقال ابن عطية : الحق ما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها اللّه تعالى لعباده ، والمعنى ما ننزل الملائكة إلا بحق واجب من وحي ومنفعة لا باقتراحكم ، وأيضا لو نزلنا لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب لأن عادتنا إهلاك الأمم المقترحة إذا آتيناهم ما اقترحوه ، وفيه ما فيه ، وقال الزمخشري : المعنى ألا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار ، وهو مبني على أن الإنزال بصورهم الحقيقة ، ومنه أخذ صاحب القيل المذكور أولا قيله. والبيضاوي جعل المنافي للحكمة إنزالهم بصور البشر حيث قال : لا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا.
وقال بعضهم : أريد أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم اللّه تعالى من حال هؤلاء الكفرة أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا ، وتعقب الأقوال الثلاثة البعض من المحققين بأنه مع إخلال كل من ذلك بفظيعة الآتي لا يلزم من فرض وقوع شيء من ذلك

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 262
تعجيل العذاب الذي يفيده قوله سبحانه : وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ومن الناس من تكلف لتوجيه اللزوم على بعض هذه الأقوال بما تكلف ، واختار بعضهم كون المراد من الحق الهلاك والجملة بعد جواب سؤال مقدر فكأنه لما قيل :
ما ننزل الملائكة إلا بالهلاك إذ هو الذي يحق لأمثالهم من المعاندين قيل : فليكن ذلك فأجيب بأنه لو فعلنا ما كانوا منظرين أي وهم قد كانوا منظرين كما أجمل فيما قبل من قوله سبحانه : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر : 3] وحاصل الجواب حينئذ على ما قيل أن ما طلبوه من الإتيان بالملائكة ليشهدوا بصدق النبي صلى اللّه عليه وسلم مما لا يكون لهم لأن ما اقتضته حكمتنا وجرت به عادتنا مع أمثالهم ليس إلا التنزيل بالهلاك دون الشهادة فإن الحكمة لا تقتضيه والعادة لم تجر فيه لأنه إن كان والملائكة بصورهم الحقيقية لم يحصل الإيمان بالغيب ولم يتحقق الاختيار الذي هو مدار التكليف وإن كان وهم بصور البشر حصل اللبس فكان وجوده كعدمه ولزم التسلسل ، ويمنع من التنزيل بالهلاك كما فعل مع أضرابهم من المعاندين أنا جعلناهم منظرين فلو نزلنا الملائكة وأهلكناهم عاد ذلك بالنقض لما أبرمناه حسبما نعلم فيه من الحكم ، وقيل : في توجيه الآية على تقدير كون اقتراحهم لإتيان الملائكة لتعذيبهم : إن المعنى إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب إلا تنزيلا ملتبسا بما تقتضيه الحكمة ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك ملتبسا بما تقتضيه لأنها اقتضت تأخير عذابهم إلى يوم القيامة ، وحيث كان في نسبة تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقة الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل : لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة ، فتدبر جميع ذاك واللّه تعالى يتولى هداك ، هذا ولفظة إِذاً قال في الكشاف : جواب وجزاء لأن الكلام جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا ، وصرح بإفادتها هذا المعنى سيبويه إلا أن الشلوبيين حمل ذلك على الدوام وتكلف له ، وأبو علي على الغالب ، وقد تتمحض للجواب عنده ، وهي حرف بسيط عند الجمهور ، وذهب قوم إلى أنها اسم ظرف
وأصلها إذا الظرفية لحقها التنوين عوضا من الجملة المضاف إليها ونقلت إلى الجزائية فبقي فيها معنى الربط والسبب وذهب الخليل إلى أنها حرف تركب من إذ وإن وغلب عليها حكم الحرفية ونقلت حركة الهمزة إلى الذال ثم حذفت والتزم هذا النقل فكان المعنى إذا قال القائل أزورك فقلت إذا أزورك قلت حينئذ زيارتي واقعة ولا يتكلم بهذا.
وذهب أبو علي عمر بن عبد المجيد الزيدي إلى أنها مركبة من إذا وإن وكلاهما يعطي ما يعطي كل واحدة منهما فيعطي الربط كإذا والنصب كان ثم حذفت همزة إن ثم ألف إذا لالتقاء الساكنين ، والظاهر أنه لو قدر في الكلام شرط كانت لمجرد التأكيد ، وجعلوا من ذلك قوله تعالى : وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً [البقرة : 145] إلخ ، ونقل عن الكافيجي أنه قال في مثل ذلك : ليست إذا هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ ، وله سلف في ذلك فقد قال الزركشي في البرهان بعد ذكره : لإذا معنيين وذكر لها بعض المتأخرين معنى ثالثا وهو أن تكون مركبة من إذا التي هي ظرف زمان ماض ومن جملة بعدها تحقيقا أو تقديرا لكنها حذفت تخفيفا وأبدل منها التنوين كما في قولهم حينئذ ، وليست هذه الناصبة للمضارع لأن تلك تختص به وهذه لا بل تدخل على الماضي نحو إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ [الإسراء : 10] وعلى الاسم نحو وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء : 42] ثم قال : وهذا المعنى لم يذكره النحويون لكنه قياس ما قالوه في إذ ، وفي التذكرة لأبي حيان ذكر لي علم الدين أن القاضي تقي الدين بن رزين كان يذهب إلى أن تنوين إذا عوض من الجملة المحذوفة وليس قول نحوي ، وقال الجوني : وأنا أظن أنه يجوز أن تقول لمن قال : أنا آتيك إذا أكرمك بالرفع على معنى إذا أتيتني أكرمك فحذفت أتيتني وعوضت التنوين فسقطت الألف لالتقاء الساكنين والنصب الذي اتفق عليه النحاة لحملها على غير هذا المعنى وهو لا ينفي الرفع إذا أريد بها ما ذكر.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 263
وذكر الجلال السيوطي أن الإجماع في القرآن على كتابتها بالألف والوقف عليه دليل على أنها اسم منون لا حرف آخره نون خصوصا إذا لم تقع ناصبة للمضارع ، فالصواب إثبات هذا المعنى لها كما جنح إليه شيخنا الكافيجي ومن سبق النقل عنه ، وعلى هذا فالأولى حملها في الآية على ما ذكر ، وقد ذكرنا فيما مضى بعضا من هذا الكلام فتذكر ، ثم إنه تعالى رد انكارهم التنزيل واستهزاءهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسلاه عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أي نحن بعظم شأننا وعلو جانبنا نزلنا الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك وقالوا فيك لا دعائه ما قالوا وعملوا منزله حيث بنوا الفعل للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من كل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى إن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول له من كان : الصواب كذا ويدخل في ذلك استهزاء أولئك المستهزئين وتكذيبهم إياه دخولا أوليا ، ومعنى حفظه من ذلك عدم تأثيره فيه وذبه عنه ، وقال الحسن : حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة ، وجوز غير واحد أن يراد حفظه بالإعجاز في كل وقت كما يدل عليه الجملة الاسمية من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل ، ولم يحفظ سبحانه كتابا من الكتب كذلك بل استحفظها جلّ وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظا أولا وآخرا ، وإلى هذا أشار في الكشاف ثم سأل بما حاصله أن الكلام لما كان مسوقا لردهم وقد تم الجواب بالأول فما فائدة التذييل بالثاني؟ وإنما يحسن إذا كان الكلام مسوقا لإثبات محفوظية الذكر أولا وآخرا ، وأجاب بأنه جيء به لغرض صحيح وأدمج فيه المعنى المذكور إماما هو أن يكون دليلا على أنه منزل من عند اللّه تعالى آية ، فالأول وإن كان ردا كان كمجرد دعوى فقيل ولولا أن
الذكر من عندنا لما بقي محفوظا عن الزيادة والنقصان كما سواه من الكلام ، وذلك لأن نظمه لما كان معجزا لم يمكن زيادة عليه ولا نقص للإخلال بالاعجاز كذا في الكشف وفيه إشارة إلى وجه العطف وهو ظاهر.
وأنت تعلم أن الإعجاز لا يكون سببا لحفظه عن إسقاط بعض السور لأن ذلك لا يخل بالإعجاز كما لا يخفى ، فالمختار أن حفظ القرآن وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر اللّه تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء اللّه عزّ وجلّ ، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم لجمعه حسبما علمته أول الكاتب. واحتج القاضي بالآية على فساد قول بعض من الإمامية لا يعبأ بهم إن القرآن قد دخله الزيادة والنقصان ، وضعفه الإمام بأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه لأن للقائلين بذلك أن يقولوا : إن هذه الآية من جملة الزوائد ودعوى الإعجاز في هذا المقدار لا بد لها من دليل.
واحتج بها القائلون بحدوث الكلام اللفظي وهي ظاهرة فيه ومن العجب ما نقله عن أصحابه حيث قال : قال أصحابنا في هذه الآية دلالة على كون البسملة آية من كل سورة لأن اللّه تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصونا عن التغيير ولما كان محفوظا عن الزيادة ، ولو جاز إن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أن يظن بهم أنهم نقصوا وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة اه ، ولعمري إن تسمية مثل هذا بالخبال أولى من تسميته بالاستدلال ، ولا يخفى ما في سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل ، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد ونَحْنُ ليس فصلا لأنه لم يقع بين اسمين وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن ، ويعلم ما قررنا أن ضمير لَهُ للذكر وإليه ذهب مجاهد وقتادة والأكثرون وهو الظاهر ، وجوز الفراء وذهب إليه النزر أن يكون راجعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم أي وإنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين كقوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة : 67] والمعول عليه الأول ، وأخر هذا الجواب مع أنه رد لأول كلامهم الباطل لما أشرنا إليه فيما مر ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 264
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا أي رسلا كما روي عن ابن عباس وإنما لم يذكر لظهور الدلالة عليه مِنْ قَبْلِكَ متعلق بأرسلنا أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف أي رسلا كائنة من قبلك فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ أي فرقهم كما قال الحسن والكلبي ، وإليه ذهب الزجاج ، وهو وكذا أشياع جمع شيعة وهي والفرقة الجماعة المتفقة على طريقة ومذهب مأخوذ من شاع المتعدي بمعنى تبع لأن بعضهم يشايع بعضا ويتابعه ، وتطلق الشيعة على الأعوان والأنصار ، وأصل ذلك على ما قيل من الشياع بالكسر والفتح صغار الحطب يوقد به الكبار والمناسبة في ذلك نظرا للإطلاق الثاني ظاهرة وللإطلاق الأول أن التابع من حيث إنه تابع أصغر ممن يتبعه ، وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيع الأمم الأولين ، والجار والمجرور متعلق بأرسلنا.
ومعنى إرسال الرسل في الشيع جعل كل منهم رسولا فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين وكأنه لو قيل - إلى - بدل فِي لم يظهر إرادة هذا المعنى ، وقيل : إنما عدل عن إلى إليها للإعلام بمزيد التمكين ، وزعم بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول المقدر أو حال ولا يخفى بعده. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ حكاية حال ماضية كما قال الزمخشري لأن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال وهو قول الأكثرين ، وقال بعضهم : إن الأكثر دخول ما على المضارع مرادا به الحال وقد تدخل عليه مرادا به الاستقبال ، وأنشد قول أبي ذؤيب :
أودى بنيّ وأودعوني حسرة عند الرقاد وعبرة ما تقلع
وقول الأعشى يمدح النبي صلى اللّه عليه وسلم :
له نافلات ما يغبّ نوالها وليس عطاء اليوم مانعه غدا
وقال تعالى : ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي [يونس : 15] ولعله المختار وإن كان ما هنا على الحكاية ، والمراد نفي إتيان كل رسول لشيعته الخاصة به لا نفي إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعا أو على سبيل البدل أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما يفعله هؤلاء الكفرة ، والجملة - كما قال أبو البقاء - في محل النصب على أنها حال من ضمير المفعول في يأتيهم إن كان المراد بالإتيان حدوثه أو في محل الرفع أو الجر على أنها صفة رسول على لفظه أو موضعه لأنه فاعل ، وتعقب جعلها صفة باعتبار لفظه بأنه يفضي إلى زيادة من الاستغراقية في الإثبات لمكان إِلَّا وتقدير العمل في النعت بعدها.
وجوز أن تكون نصبا على الاستثناء وإن كان المختار الرفع على البدلية ، وهذا كما ترى تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن هذه شنشنة جهال الأمم مع المرسلين عليهم السلام قبل ، وحيث كان الرسول مصحوبا بكتاب من عند اللّه تعالى تضمن ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب ولذلك قال سبحانه : كَذلِكَ أي مثل السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاؤوا به نَسْلُكُهُ أي ندخله يقال : سلكت الخيط في الإبرة والسنان في المطعون أي أدخلت : وقرئ نَسْلُكُهُ و«سلك» و«أسلك» كما ذكر أبو عبيدة بمعنى واحد ، والضمير عند جمع ومنهم الحسن على ما ذكره الغزنوي للذكر فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولا أوليا ، ومعنى المثلية كونه مقرونا بالاستهزاء غير مقبول لما تقتضيه الحكمة ، وحاصله إنه تعالى يلقي القرآن في قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لأنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق كما ألقى سبحانه كتب الرسل عليهم السلام في قلوب شيعهم مستهزأ بها غير مقبولة لذلك ، وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدما في الوجود وهو السلك الواقع في شيع الأولين.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 265
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ الضمير للذكر أيضا ، والجملة في موضع الحال من مفعول نَسْلُكُهُ أي غير مؤمن به ، وهي إما مقدرة وإما مقارنة على معنى أن الإلقاء وقع بعده الكفر من غير توقف فهما في زمان واحد عرفا ، ويجوز أن تكون بيانا للجملة السابقة فلا محل لها من الإعراب ، قال في الكشف : وهو الأوجه لأن في طريقة الإبهام والتفسير لا سيما في هذا المقام ما يجل موقع الكلام. وفي إرشاد العقل السليم أنه قد جعل ضمير نَسْلُكُهُ للاستهزاء المفهوم من يَسْتَهْزِؤُنَ فتتعين البيانية إلا أن يجعل ضمير بِهِ له أيضا على أن الباء للملابسة أي يسلك الاستهزاء في قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسة الاستهزاء ، وقد ذهب إلى جواز إرجاع الضميرين إلى الاستهزاء ابن عطية إلا أنه جعل الباء للسببية ، وكذا الفاضل الجلبي ، ولا يخفى أن بعد ذلك يغني عن رده. وذهب البيضاوي إلى كون الضمير الأول للاستهزاء وضمير بِهِ للذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة إذ دل الدليل عليه ليس ببدع في القرآن ، وجوز على هذا كون الجملة حالا من الْمُجْرِمِينَ ولا يتعين كونها حالا من الضمير ليتعين رجوعه للذكر ، وذكر أن عوده على الاستهزاء لا ينافي كونها مفسرة بل يقويه إذ عدم الإيمان بالذكر أنسب بتمكن الاستهزاء في قلوبهم ، وجعل الآية دليلا على أنه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم ففيها رد على المعتزلة في قولهم : إنه قبيح فلا يصدر منه سبحانه ، وكأنه رحمه اللّه تعالى ظن أن ما فعله الزمخشري من جعل الضميرين للذكر كان رعاية لمذهبه ففعل ما فعل ، ولا يخفى أنه لم يصب المحز وغفل عن قولهم : الدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
وفي الكشف بعد كلام أن رجع الضمر إلى الاستهزاء أو الكفر مع ما فيه من تنافر النظم لا ينكره أهل الاعتزال إلا كإنكار سلك الذكر بصفة التكذيب والتأويل كالتأويل ، وكأنهم غفلوا عما ذكره جار اللّه في الشعراء حيث أجاب عن سؤال إسناد سلك الذكر بتلك الصفة إلى نفسه جل وعلا بأن المراد تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن كشيء جبلوا عليه ولخص المعنى هاهنا بأنه تعالى يلقيه في قلوبهم مكذبا لا أن التكذيب فعله سبحانه.
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أنس. والحسن تفسير ضمير نَسْلُكُهُ إلى الشرك ، وأخرج هو وابن جرير عن ابن زيد أنه قال في الآية : هم كما قال اللّه تعالى هو أضلهم ومنعهم الإيمان لكن هذا أمر وما نحن فيه آخر ، واعترض بعضهم رجوع الضمير إلى الذِّكْرَ بأن نون العظمة لا تناسب ذلك فإنها إنما تحسن إذا كان فعل المعظم نفسه فعلا يظهر له أثر قوي وليس كذلك هنا فإنه تدافع وتنازع فيه. وأجاب بأن المقام إذا كان للتوبيخ يحسن ذلك ، ولا يلزم أن تكون العظمة باعتبار القهر والغلبة فقد تكون باعتبار اللطف والإحسان.
وتعقب ذلك الشهاب بقوله : لا يخفى أنه باعتبار القهر والغلبة يقتضي أن يؤثر ذلك في قلوبهم وليس كذلك لعدم إيمانهم به ، وكذا باعتبار اللطف والإحسان يقتضي أن يكون سلكه في قلوبهم إنعاما عليهم فأي إنعام عليهم بما يقتضي الغضب فلا وجه لما ذكر ، وأنت تعلم أنه إذا كان المراد سلك ذلك وتمكينه في قلوبهم مكذبا به غير مقبول فكون الإسناد باعتبار القهر والغلبة مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ، والأثر الظاهر القوي لذلك بقاؤهم على الكفر والإصرار على الضلال ولو جاءتهم كل آية ، ولا يخفى ما في كَذلِكَ مما يناسب نون العظمة أيضا وقد مر التنبيه عليه غير مرة وَقَدْ خَلَتْ مضت سُنَّةُ طريقة الْأَوَّلِينَ والمراد عادة اللّه تعالى فيهم على أن الإضافة لأدنى ملابسة لا على أن الإضافة بمعنى في ، والمراد بتلك العادة على تقدير أن يكون ضمير نَسْلُكُهُ للاستهزاء الخذلان وسلك الكفر في قلوبهم أن قد مضت عادته سبحانه وتعالى في الأولين ممن بعث إليهم الرسل عليهم السلام أن يخذلهم ويسلك الكفر والاستهزاء في قلوبهم ، وعلى تقدير أن يكون للذكر الإهلاك ، وعلى هذا قول الزمخشري أي مضت طريقتهم التي سنها اللّه تعالى في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم والمنزل عليهم ، وذكر أنه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم ، وإلى الأول ذهب الزجاج ، وادعى الإمام أنه الأليق

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 266
بظاهر اللفظ وبين ذلك الطيبي قائلا : إن التعريف في الْمُجْرِمِينَ للعهد ، والمراد بهم المكذبون من قوم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنهم المذكورون بعد أن مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين المكذبين للرسل الماضين نسلكه في قلوب هؤلاء المجرمين فلك أسوة بالرسل الماضية مع أممهم المكذبة ، ولست بأوحدي في ذلك وقد خلت سنة الأولين ، والمقام يقتضي التقرير والتأكيد فيكون في هذا مزيد تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ، والوعيد بعيد لأنه لم يسبق لإهلاك الأمم ذكر ، وإيثار ذلك لأنه أقرب إلى مذهب الاعتزال اه. وفيه غفلة عن مغزى الزمخشري ، وقد تفطن لذلك صاحب الكشف وللّه تعالى دره حيث قال : أراد أن موقع قَدْ خَلَتْ إلى آخره موقع الغاية في الشعراء أعني قوله تعالى هنالك : حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس : 88 ، 97 ، الشعراء : 201]. فإنهم لما شبهوا بهم قيل : لا يؤمنون وقد هلك من قبلهم ولم يؤمنوا فكذلك هؤلاء ، ومنه يظهر أن الكلام على هذا الوجه شديد الملاءمة ، وأما أن الوعيد بعيد لعدم سبق ذكر لإهلاك الأمم ففيه أن لفظ السنة مضافا إلى ما أضيف إليه ينبئ عن ذلك أشد الإنباء ، ثم إنه ليس المقصود منه الوعيد على ما قررناه ، وقد صرح أيضا بعض الأجلة أن الجملة استئنافية جيء بها تكملة للتسلية وتصريحا بالوعيد والتهديد ، ثم ما ذهب إليه الزمخشري من المراد بالسنة مروي عن قتادة. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه أنه قال في الآية : قد خلت وقائع اللّه تعالى فيمن خلا من الأمم. وعن ابن عباس أن المراد سنتهم في التكذيب ، ولعل الإضافة على هذا على ظاهرها.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المقترحين المعاندين باباً مِنَ السَّماءِ ظاهره بابا ما لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل : فَظَلُّوا فِيهِ أي في ذلك الباب يَعْرُجُونَ يصعدون حسبما نيسره لهم فيرون ما فيها من الملائكة والعجائب طول نهارهم مستوضحين لما يرونه كما يفيده - ظلوا - لأنه يقال ظل يعمل كذا وإذا فعله في النهار حيث يكون للشخص ظل ، وجوز في البحر كون ظل بمعنى صار وهو مع كونه خلاف الأصل مما لا داعي إليه ، وأيّا ما كان فضمير الجمع للمقترحين ، وهو الظاهر المروي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي وأبو مسلم ، وأخرج ابن جريج عن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه للملائكة وروي ذلك عن قتادة أيضا أي فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونهم على أتم وجه. وقرأ الأعمش. وأبو حيوة «يعرجون» بكسر الراء وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود لَقالُوا لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي سدت ومنعت من الإبصار حقيقة وما نراه تخيل لا حقيقة له ، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد ، وروي أيضا عن ابن عباس. وقتادة فهو من السكر بالفتح ، وقال أبو حيان : بالكسر السد والحبس ، وقال ابن السيد : السكر بالفتح سد الباب والنهر وبالكسر السد نفسه ويجمع على سكور ، قال الرفاء :
غناؤنا فيه ألحان السكور إذا قل الغناء ورنات النواعير
ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن كثير والحسن ومجاهد «سكرت أبصارنا» بتخفيف الكاف مبنيا للمفعول لأن سكر المخفف المتعدي اشتهر في معنى السد ، وعن عمرو بن العلاء أن المراد حيرت فهو من السكر بالضم ضد الصحو ، وفسروه بأنه حالة تعرض بين المرء وعقله ، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق ، ولذا قال الشاعر :
سكران سكر هوى وسكر مدامة أنّى يفيق فتى به سكران
والتشديد في ذلك للتعدية لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكى تعديه فيكون للتكثير والمبالغة ، وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعتراها خلل في إحساسها كما يعتري عقل السكران ذلك فيختل إدراكه ففي الكلام على

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 267
هذا استعارة وكذا على الأول عند بعض ويشهد لهذا المعنى قراءة الزهري «سكرة» بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيا للفاعل لأن الثلاثي اللازم مشهور فيه ولأن سكر بمعنى سد المعروف فيه فتح الكاف.
واختار الزجاج أن المعنى سكنت عن أبصار الحقائق من سكرت الريح تسكر سكرا إذا ركدت ويقال : ليلة ساكرة لا ريح فيها والتضعيف للتعدية ولهم أقوال أخر متقاربة في المعنى. وقرأ أبان بن تغلب وحملت لمخالفتها سواد المصحف على التفسير سحرت أبصارنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ قد سحرنا محمد صلى اللّه عليه وسلم كما قالوا ذلك عند ظهور سائر الآيات الباهرة ، والظاهر على ما قال القطب إنهم أرادوا أولا سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وإن تخيلنا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا أن الحال بخلاف ثم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا : بل تجاوز ذلك إلى عقولنا ، وفسر الزمخشري الحصر بأن ذلك ليس إلا تسكيرا فأورد عليه بأن إِنَّما تفيد الحصر في المذكور آخرا وحينئذ يكون المعنى ما تقدم وهو مبني على أن تقديم المقصود على المقصور عليه لازم وخلافه ممتنع ، وقد قال المحقق في شرح التخليص إنه يجوز إذا كان نفس التقديم يفيد الحصر كما في قولنا : إنما زيدا ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد ، وقال أبو الطيب :
صفاته لم تزده معرفة لكنها لذة ذكرناها
أي ما ذكرناها إلا لذة إلا أن هذا لا ينفع فيما نحن فيه. نعم نقل عن عروس الأفراح أن حكم أهل المعاني غير مسلم فإن قولك : إنما قمت معناه لم يقع إلا القيام فهو لحصر الفعل وليس بآخر ولو قصد حصر الفاعل لا نفصل ، ثم أورد عدة أمثلة من كلام المفسرين تدل على ما ذكروه في المسألة ، فالظاهر أن الزمخشري لا يرى ما قالوه مطردا وهم قد غفلوا عن مراده هنا قاله الشهاب ، وما نقله عن عروس الأفراح في إنما قمت من أنه لحصر الفعل ولو كان لحصر الفاعل لا نفصل يخالفه ما في شرح المفتاح الشريفي من أنه إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر فإن ذكر بعد الفعل شيء من متعلقاته وجب انفصال الفاعل وتأخيره كما في قولك : إنما ضرب اليوم أنا ، وكما في قول الفرزدق :
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
وإن لم يذكر احتمل الوجوب طردا للباب وعدمه بأن يجوز الانفصال نظرا إلى المعنى والاتصال نظرا إلى اللفظ إذ لا فاصل لفظيا اه فإنه صريح في أن إنما قمت لحصر الفاعل وإن لم يجب الانفصال لكن اختار السعد في شرحه وجوب الانفصال مطلقا وحكم بأن الظاهر أن معنى إنما أقول ما أنا إلا أقوم كما نقله السمرقندي. وأبو حيان مع طائفة يسيرة من النحاة أنكروا إفادة إنما للحصر أصلا وليس بالمعول عليه عند المحققين لكنهم قالوا : إنها قد تأتي لمجرد التأكيد وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. ووجه الشهاب الإضراب بعد أن قال هو جعل الأول في حكم المسكوت عنه دون النفي ويحتمل الثاني بأنه إضراب لأن هذا ليس بواقع في نفس الأمر بل بطريق السحر أو هو باعتبار ما تفيده الجملة من الاستمرار الذي دلت عليه الاسمية أي مسحوريتنا لا تختص بهذه الحالة بل نحن مستمرون عليها في كل ما يرينا من الآيات ، هذا وفي هذه الآية من وصفهم بالعناد وتواطئهم على ما هم فيه من التكذيب والفساد ما لا يخفى ، وفي ذلك تأكيد لما يفهم من الآية الأولى ، وقد ذكر ابن المنير في المراد منها وجها بعيدا جدا فيما أرى فقال : المراد واللّه تعالى أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن اللّه تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على اللّه تعالى حجة بأنهم ما فهموا وجه الإعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم اللّه تعالى - وهم في مهلة وإمكان - أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 268
معذورين ولذلك عقبه سبحانه بقوله تعالى : وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ إلخ أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسمتهم اللداد حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها إلى الإيمان لقالوا بعد الإيضاح العظيم : إنما سكرت أبصارنا وسحرنا وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها فأسجل سبحانه عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم بالتكذيب من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كان حاصلا لهم وليس بهم إلا العناد والإصرار لا غير اه فليتأمل واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل ، ثم إنه تعالى لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد ذكر دلائله السماوية والأرضية فقال عز قائلا : وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً إلخ وإلى هذا ذهب الإمام وغيره في وجه الربط.
وقال ابن عطية : أنه سبحانه لما ذكر أنهم لو رأوا الآية المطلوبة في السماء لعاندوا وبقوا على ما هم فيه من الضلال عقب ذلك بهذه الآية كأنه جل شأنه قال : وإن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه المذكورة وكفرهم بها وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو ا ه والظاهر أن الجعل بمعنى الخلق والإبداع فالجار والمجرور متعلق به ، وجوز أن يكون بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان له وبروجا مفعوله الأول ، والبروج جمع برج وهو لغة القصر والحصن وبذلك فسره هنا عطية ، فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال : جعلنا قصورا في السماء فيها الحرس ، وأخرج عن أبي صالح أن المراد بالبروج الكواكب العظام.
وفي البحر عنه الكواكب السيارة وروى غير واحد عن مجاهد وقتادة أنها الكواكب من غير قيد. وروي عن ابن عباس تفسير ذلك بالبروج الاثني عشر المشهورة وهي ستة شمالية ثلاثة ربيعية وثلاثة صيفية وأولها الحمل وستة جنوبية ثلاثة خريفية وثلاثة شتائية وأولها الميزان وطول كل برج عندهم ل درجة وعرضه قف درجة ص منها في جهة الشمال ومثلها في جهة الجنوب وكأنها إنما سميت بذلك لأنها كالحصن أو القصر للكوكب الحال فيها وهي في الحقيقة أجزاء الفلك الأعظم وهو المحدد المسمى بلسانهم الفلك الأطلس وفلك الأفلاك وبلسان الشرع بعكسه ولهذا يسمى الشيخ الأكبر قدس سره الفلك الأطلس بفلك البروج والمشهور تسمية الفلك الثامن وهو فلك الثوابت به لاعتبارهم الانقسام فيه وكأن ذلك لظهور ما تتعين به الأجزاء من الصور فيه وإن كان كل منها منتقلا عما عينه إلى آخر منها لثبوت الحركة الذاتية للثوابت على خلاف التوالي وإن لم يثبتها لها لعدم الإحساس بها قدماء الفلاسفة كما لم يثبت الأكثرون حركتها على نفسها وأثبتها الشيخ أبو علي ومن تبعه من المحققين ، وقد صرحوا بأن هذه الصور المسماة بالأسماء المعلومة توهمت على المنطقة وما يقرب منها من الجانبين من كواكب ثابتة تنظمها خطوط موهومة وقعت وقت القسمة في تلك الأقسام ونقل ذلك في الكفاية عن عامة المنجمين وأنهم إنما توهموا لكل قسم صورة ليحصل التفهيم والتعليم بأن يقال : الدبران مثلا عين الأسد.
وتعقب ذلك بقوله : وهذا ليس بسديد عندي لأن تلك الصور لو كانت وهمية لم يكن لها أثر في أمثالها من العالم السفلي مع أن الأمر ليس كذلك فقد قال بطليموس في الثمرة. الصور التي في عالم التركيب مطيعة للصور الفلكية إذ هي في ذواتها على تلك الصور فأدركتها الأوهام على ما هي عليه وفيه بحث ثم هذه البروج مختلفة الآثار والخواص بل لكل جزء من كل منها وإن كان أقل من عاشرة بل أقل الأقل آثار تخالف آثار الجزء الآخر وكل ذلك آثار حكمة اللّه تعالى وقدرته عز وجل. وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في بعض كتبه أن آثار النجوم وأحكامها مفاضة عليها من تلك البروج المعتبرة في المحدد.
وفي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلاثمائة من فتوحاته ما منه أن اللّه تعالى قسم الفلك الأطلس

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 269
اثني عشر قسما سماها بروجا وأسكن كل برج منها ملكا وهؤلاء الملائكة أئمة العالم وجعل لكل منهم ثلاثين خزانة تحتوي كل منها على علوم شتى يهبون منها للنازل بهم قدر ما تعطيه رتبته وهي الخزائن التي قال اللّه تعالى فيها :
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر : 21] وتسمى عند أهل التعاليم بدرجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من تلك الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عام الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض إلى آخر ما قال ، وقد أطال قدس سره الكلام في هذا الباب وهو بمعزل عن اعتقاد المحدثين نقلة الدين عليهم الرحمة ، ثم إن في اختلاف خواص البروج حسبما تشهد به التجربة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء أدل دليل على وجود الصانع المختار جل جلاله.
وَزَيَّنَّاها أي السماء بما فيها من الكواكب السيارات وغيرها وهي كثيرة لا يعلم عددها إلا اللّه تعالى. نعم المرصود منها ألف ونيف وعشرون رتبوها على ستر مراتب وسموها اقدارا متزايدة سدسا حتى كان قطر ما في القدر الأول ستة أمثال ما في القدر السادس وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب وما دون السادس لم يثبتوه في المراتب بل إن كان كقطعة السحاب يسمونه سحابيا وإلا فمظلما ، وذكر في الكفاية أن ما كان منها في القدر الأول فجرمه مائة وستة وخمسون مرة ونصف عشر الأرض. وجاء في بعض الآثار أن أصغر النجوم كالجبل العظيم واستظهر أبو حيان عود الضمير للبروج لأنها المحدث عنها والأقرب في اللفظ والجمهور على ما ذكرنا حذرا من انتشار الضمير لِلنَّاظِرِينَ أي بأبصارهم إليها كما قاله بعضهم لأنه المناسب للتزيين ، وجوز أن يراد بالتزيين ترتيبها على نظام بديع مستتبعا للآثار الحسنة فيراد بالناظرين المتفكرون المستدلون بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها جل شأنه وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ مطرود عن الخيرات ، ويطلق الرجم على الرمي بالرجام وهي الحجارة ، فالمراد بالرجيم المرمي بالنجوم ، ويطلق أيضا على الإهلاك والقتل الشنيع ، والمراد بحفظها من الشيطان إما منعه عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة فالاستثناء في قوله تعالى : إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ متصل ، وإما المنع عن دخولها والاختلاط مع أهلها على نحو الاختلاط مع أهل الأرض فهو حينئذ منقطع ، وعلى التقديرين محل مَنِ النصب على الاستثناء ، وجوز أبو البقاء. والحوفي كونه في محل جر على أنه بدل مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ بدل بعض من كل واستغنى عن الضمير الرابط بإلا. واعترض بأنه يشترط في البدلية أن تكون في كلام غير موجب وهذا الكلام مثبت.
ودفع بأنه في تأويل المنفي أي لم نمكن منها كل شيطان أو نحوه وأورد أن تأويل المثبت في غير أبي ومتصرفاته غير مقيس ولا حسن فلا يقال مات القوم إلا زيد بمعنى لم يعيشوا ، ولعل القائل بالبدلية لا يسم ذلك ، وقد أولوا بالمنفي قوله تعالى : فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة : 249] وقوله عليه الصلاة والسلام : «العالم هلكى إلا العالمون» الخبر
وغير ذلك مما ليس فيه أبى ولا شيء من متصرفاته لكن الإنصاف ضعف هذه البدلية كما لا يخفى.
وجوز أبو البقاء أيضا أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر جملة قوله تعالى : فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ وذكر أن الفاء من أجل أن مَنِ موصول أو شرط والاستراق افتعال من السرقة وهو أخذ الشيء بخفية شبه به خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى وهو المذكور في قوله تعالى : إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ [الصافات : 10] والمراد بالسمع المسموع ، والشهاب - على ما قال الراغب - الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن العارض في الجو ويطلق على الكوكب لبريقه كشعلة النار.
وأصله من الشهبة وهي بياض مختلط بسواد وليست البياض الصافي كما يغلط فيه العامة فيقولون فرس أشهب للقرطاسي ، والمراد - بمبين - ظاهر أمره للمبصرين ومعنى اتبعه تبعه عند الأخفش نحو ردفته وأردفته فليست الهمزة فيه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 270
للتعدية ، وقيل : أتبعه أخص من تبعه لما قال الجوهري تبعت القوم تبعا وتباعة بالفتح إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم وأتبعت القوم على أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم واستحسن الفرق بينهما الشهاب ، ولما كان الاتباع محتملا للإهلاك وغيره اختلف العلماء في ذلك فحكى القرطبي عن ابن عباس أن الشهاب يجرح ويحرق ولا يقتل ، وعن الحسن وطائفة أنه يقتل ، وادعى أن الأول أصح ، ونقل غير واحد عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : إن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة عليهم السلام فيرمون بالكواكب فلا تخطئ أبدا فمنهم من تقتله ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء اللّه تعالى ومنهم من تخبله فيصير غولا فيضل الناس في البراري ، ومما لا يعول عليه ما يروى من أن منهم من يقع في البحر فيكون تمساحا ومن الناس من طعن كما قال الإمام في أمر هذا الاستراق والرمي من وجوه. أحدها أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة وذكروا فيه أن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس فإذا بلغ كرة النار التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشهاب. وقد يبقى زمانا مشتعلا إذا كان كثيفا وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب فانضغطت مشتعلة ، وجاء أيضا في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي حازم :
والعير يلحقها الغبار وجحشها ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر :
وانقض كالدريّ يتبعه نقع يثور تخاله طنبا
إلى غير ذلك. وثانيها أن هؤلاء الشياطين كيف يجوز فيهم أن يشاهدوا ألوفا من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ثم إنهم مع ذلك يعودون لصنيعهم فإن من له أدنى عقل إذا رأى هلاك أبناء جنسه من تعاطي شيء مرارا امتنع منه. وثالثها أن يقال : إن ثخن السماء خمسمائة عام فهؤلاء الشياطين إن نفذوا في جرمها وخرقوها فهو باطل لنفي أن يكون لها فطور على ما قال سبحانه : فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك : 3] وإن كانوا لا ينفذون فكيف يمكنهم سماع أسرار الملائكة عليهم السلام مع هذا البعد العظيم. ورابعها أن الملائكة عليهم السلام إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها بالوحي ، وعلى التقديرين لم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا تتمكن الشياطين من الوقوف عليها؟. وخامسها أن الشياطين مخلوقون من النار والنار لا تحرق النار بل تقويها فكيف يعقل زجرهم بهذه الشهب؟. وسادسها أنكم قلتم : إن هذا القذف لأجل النبوة فلما دام بعد وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم؟. وسابعها أن هذه الشهب إنما تحدث بقرب الأرض بدليل أنا نشاهد حركاتها ولو كانت قريبة من الفلك لما شاهدناها كما لم نشاهد حركات الأفلاك والكواكب ، وإذا ثبت أنها تحدث بالقرب من الأرض فكيف يقال : إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك؟. وثامنها أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة عليهم السلام عن المغيبات إلى الكهنة فلم لم ينقلوا أسرار المؤمنين إلى الكفار حتى يتوصلوا بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضرر بهم؟. وتاسعها لم لم يمنعهم اللّه تعالى من الصعود ابتداء حتى لا يحتاج في دفعهم إلى هذه الشهب؟
وقال بعضهم : أيضا : إن السماع إنما يفيدهم إذا عرفوا لغة الملائكة فلم لم يجعلهم اللّه سبحانه جاهلين بلغتهم لئلا يفيدهم السماع شيئا ، وأيضا ان انقطع الهواء دون مقعر فلك القمر لم يحدث هناك صوت إذ هو من تموج الهواء والمفروض عدمه وإن لم ينقطع كان دون ذلك أصوات هائلة من تموج الهواء بحركة الأجرام العظيمة وهي تمنع من سماع أصوات الملائكة عليهم السلام في محاوراتهم ولا يكاد يظن أن أصواتهم في المحاورات تغلب هاتيك الأصوات لتسمع معها ، وأيضا ليس في السماء الدنيا إلا القمر ولا نراه يرمي به وسائر السيارات فوق كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء : 33] والثوابت في الفلك الثامن والرمي بشيء من ذلك يستدعي خرق السماء وتشققها ليصل

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 271
الشهاب إلى الشيطان وهو مما لا يكاد يقال. وأجاب الإمام عن الأول. أولا بأن الشهب لم تكن موجودة قبل البعثة وهذا قول ابن عباس ،
فقد روي عنه أنه قال : «كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أشياء من عند أنفسهم فلما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم منعوا مقاعدهم ولم يكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس : ما هذا إلا لأمر حدث» الخبر.
وروي عن أبي بن كعب أنه قال : «لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه السلام حتى بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرمى بها فرأت قريش «1» ما لم تر قبل فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك كبيرهم فقال : لم تفعلون؟ فقالوا : رمي بالنجوم فقال : اعتبروا فإن تكن نجوم معروفة فهو وقت فناء الناس وإلا فهو أمر حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال : في الأمر مهلة وهذا عند ظهور نبي» الخبر ،
وكتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعنا في هذه المعجزة ، وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم. وثانيا وهو الحق بأنها كانت موجودة قبل البعثة لأسباب أخر ولا ننكر ذلك إلا أنه لا ينافي أنها بعد البعثة قد توجد بسبب دفع الشياطين وزجرهم. يروى أنه قيل للزهري : أكان يرمى في الجاهلية؟ قال : نعم قيل : أفرأيت قوله تعالى : وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن : 9] قال : غلظ وشدد أمرها حيث بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى نحو هذا يخرج ما روي عن ابن عباس. وأبي رضي اللّه تعالى عنهم إن صح. وعن الثاني بأنه إذا جاء القدر عمي البصر فإذا قضى اللّه تعالى على طائفة منهم الحرق لطغيانهم وضلالهم قيض لهم من الدواعي ما تقدم معه على الفعل المفضي إلى الهلاك. وعن الثالث بأن البعد بين الأرض والسماء خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما. وعن الرابع بأنه
روي عن الزهري «2» عن علي بن الحسين بن علي كرم اللّه تعالى وجهه عن ابن عباس قال : بينا النبي صلى اللّه عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال عليه الصلاة والسلام : «ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا؟» قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قال عليه الصلاة والسلام : «فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخير أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي الخبر إلى هذه السماء فيتخطفه الجن فيرمون فما جاؤوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه».
وعن الخامس بأن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فالأقوى تبطل ما دونها. وعن السادس بأنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة فلو لم يدم هذا القذف لعادت الكهانة وذلك يقدح في خبر الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن بطلانها. وعن السابع بأن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع فلعله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة عليهم السلام. وعن الثامن بأنه لعل اللّه تعالى أقدرهم على استماع الغيوب من الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكفار. وعن التاسع بأنه عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وبهذا يجاب عن الأول فيما قيل.
وأجيب عن الثاني بأنا نختار انقطاع الهواء والسماع عندنا بخلق اللّه تعالى ولا يتوقف على وجود الهواء وتموجه ، وقد يختار عدم الانقطاع ويقال : إنه تعالى شأنه قادر على منع الهواء من التموج بحركة هاتيك الأجرام ، وكذا هو سبحانه قادر على إسماعهم مع هاتيك الأصوات الهائلة السر وأخفى. وعن الثالث بأن كون الثوابت في الفلك الثامن هو الذي
___________
(1) يروي أنه أول من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف وأنهم جاؤا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب فقال لهم نحو ما ذكر في هذا الخبر اه منه.
(2) وقد روى هذا الخبر مسلم اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 272
ذهب إليه الفلاسفة واحتجوا عليه بأن بعضها فيه فيجب أن يكون كلها كذلك ، أما الأول فلأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بالسيارات فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة ، وأما الثاني فلأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة كل مائة سنة أو أقل على الخلاف درجة فلا بد أن تكون مركوزة في كرة واحدة ، وهو احتجاج ضعيف لأنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هنا لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة ، وعلى هذا لا يمتنع أن تكون هذه النجوم في السماء الدنيا ، وقد ذكر الجلال السيوطي وغيره أنه جاء في بعض الآثار أن الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة في السماء الدنيا يسيرونها حيث شاء اللّه تعالى وكيف شاء إلا أن في صحة ذلك ما فيه ، على أن ما ذكر في السؤال من أن ذلك يستلزم الخرق وهو مما لا يكاد يقال إما أن يكون مبنيا على القول بامتناع الخرق والالتئام على الفلك المحدد وغيره فقد تقرر فساد ذلك وحقق إمكان الخرق والالتئام بما لا مزيد عليه في غير كتاب من كتب الكلام ، وإما أن يكون مبنيا على مجرد الاستبعاد فهو مما لا يفيد شيئا لأن أكثر الممكنات مستبعدة وهي واقعة ولا أظنك في مرية من ذلك بل قد يقال : نحن لا نلتزم أن الكوكب نفسه يتبع الشيطان فيحرقه ، والشهاب ليس نصا في الكوكب لما علمت ما قيل في معناه وإن قيل : إنه بنفسه ينقض ويرمي الشيطان ثم يعود إلى مكان لظاهر إطلاق الرجوم على النجوم وقولهم رمي بالنجم مثلا.
وكذا لا نلتزم القول بأنه ينفصل عن الكوكب شعلة كالقبس الذي يؤخذ من النار فيرمى بها كما قاله غير واحد لنحتاج في الجواب عن السؤال بما تقدم إذ يجوز أن يقال : إنه يؤثر حين كان بإذن اللّه تعالى هذه الشعلة المسماة بالشهاب ويحرق بها من شاء اللّه تعالى من الشياطين ، وإطلاق الرجوم على النجوم وقولهم : رمي بالنجم يحتمل أن يكون مبينا على الظاهر للرائي كما في قوله تعالى في الشمس : تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف : 86] وقال الإمام :
إن هذه الشهب ليست هي الثوابت المركوزة في الفلك والإظهار نقصان كثير في أعدادها مع أنه لم يوجد نقصان أصلا. وأيضا إن في جعلها رجوما ما يوجب النقصان في زينة السماء بل هي جنس آخر غيرها يحدثها اللّه تعالى ويجعلها رجوما للشياطين ، ولا يأباه قوله تعالى : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك :
5] حيث أفاد أن تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها لأنا نقول : كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن المصابيح منها باقية على وجه الدهر أمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك والشهاب من هذا القسم وحينئذ يزول الاشكال انتهى. والجرح والتعديل بين القولين مفوضان إلى شهاب ذهنك الثقاب ، وفي أجوبته السابقة رحمه اللّه تعالى ما لا يخفى ضعفه ، وكذا شاهدة عليه بقلة الاطلاع على الأخبار الصحيح المشهورة ، ألا ترى قوله في الجواب عن ثالث الأسئلة التسعة : إن البعد بين السماء والأرض خمسمائة عام وأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما فإنه مخالف لما نطقت به الشريعة وهذت به الفلسفة ، أما مخالفته للأول فلأنه قد صح أن سمك كل سماء خمسائة عام كما صح أن بين السماء والأرض كذلك ، وأما مخلفته للثاني فلأنه لم يقل أحد من الفلاسفة : أن بين السماء والأرض هذه المسافة التي ذكرها ، والافلاك عندهم مخالفتة في الثخن ، وقد بينوا ثخن كل بالفراسخ حسبما ذكر في كتب الأجرام والابعاد ، وذكروا في ثخن المحدد ما يشهد بمزيد عظمة اللّه جل جلاله لكن لا مستند لهم قطعي في ذلك بل إن قولهم : لا فضل في الفلكيات مع كونه أشبه شيء بالخطابيات يعكر عليه. وقوله في الجواب عن السادس : إنه إنما دام لئلا يقدح انقطاعه في خبر الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن بطلان الكهانة فإنه مستلزم للدور إذ الظاهر أنه عليه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 273
الصلاة والسلام إنما أخبر بذلك لعلمه بدوام القذف المانع من تحقق ما تتوقف عليه الكهانة. وقوله في الجواب عن الخامس : إن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فتبطلها ظاهر في أن الشياطين نار صرفة وليس كذلك بل الحق أنهم يغلب عليهم العنصر الناري وقد حصل لهم بالتركيب ولو مع غلبة هذا العنصر ما ليس للنار الصرفة وهو ظاهر.
هذا ثم اعلم أنه يجوز أن يكون استراق السمع من الملائكة الذين عند السماء لا من الملائكة الذين بين كل سماء وسماء ليجيء حديث الثخن واستبعاد السماع معه ، ويشهد لهذا ما
رواه البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي اللّه تعالى عنهم قالت : «سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون مع الكلمة مائة كذبة من عند أنفسهم»
ولا ينافيه ما
رواه أيضا عن عكرمة أنه قال : «سمعت أبا هريرة يقول : إن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : إذا أقضي اللّه تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله سبحانه كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع» الخبر ،
إذ ليس فيه أكثر من سماع المسترق الكلمة بعد قول الملائكة عليهم السلام بعضهم لبعض ، وعدم منافاة هذا لذاك ظاهر عند من ألقي السمع وهو شهيد ، وأنه ليس في الآيات ما هو نص في أن ما نراه من الشهب لا يكون إلا لرمي شيطان يسترق بل غاية ما فيها أنه إذا استرق شيطان أتبعه شهاب ورمي بنجم وأين هذا من ذاك؟ نعم في خبر الزهري ما يحتاج معه إلى تأمل ، وعلى هذا فيجوز أن يكون حدوث بعض ما نراه من الشهب لتصاعد البخار حسبما تقدم عن الفلاسفة ، وكذا يجوز أن يكون صعود الشياطين للاستراق في كل سنة مثلا مرة ، ولا يخفى نفع هذا في الجواب عن السؤال الثاني.
ومن الناس من أجاب عنه بأنه لا يبعد أن يكون المسترقون صنفا من الشياطين تقتضي ذواتهم التصاعد نظير تصاعد الأبخرة ، بل يجوز أن يكون أولئك الشياطين أبخرة تعلقت بها أنفس خبيثة على نحو ما ذكر الفلاسفة من أنه قد يتعلق بذوات الأذناب نفس فتغيب وتطلع بنفسها وفيه بحث. ونقل الإمام عن الجبائي أنه قال في الجواب عن ذلك :
إن الحالة التي تعتريهم ليس لها موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضعهم فتصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا يصيبهم شيء فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعضها جاز أن يصيروا إلى موضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم فيه كما يجوز فيمن يسلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة فيه.
وتعقبه بقوله : ولقائل أن يقول : إنهم إن صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة أو إلى غيرها فإن وصلوا إلى الأول احترقوا وإن إلى الثاني لم يظفروا بمقصود أصلا ، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل فإذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محقق وجب أن يمتنعوا ، وهذا بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب على المسافرين فيه الفوز بالمقصود ، ثم قال : فالأقرب في الجواب أن نقول : هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة فيما بين الشياطين اه.
وأنت تعلم أن هذا لا يكاد يتم إلا مع القول بأنه ليس كل ما نراه من الشهب يحرق به الشياطين والأمر مع هذا القول سهل كما لا يخفى. وذكر البيضاوي أن استراق السمع خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر. أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها ، وذكر عند قوله تعالى : إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء : 212] أن السمع مشروط بمشاركتهم في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصورة الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك ، ولا يخفى ما فيه ، فإنه ظاهر في أن الاستراق يقتضي

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 274
مناسبة الجوهر والسمع التام يقتضي المشاركة المذكورة وهو لا يتمشى على أصول الشرع ، وفي أن تلقيهم يكون من الأوضاع الفلكية وهو مخالف لصريح النظم والأحاديث مع أنه يقتضي أن يكون قطان السماء بمعنى الكواكب وشمول مَنِ شياطين الانس من المنجمين وهو كما ترى. وذكر هو وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد النبي صلى اللّه عليه وسلم منعوا من السموات كلها اه.
ومن الناس من ذهب أخذا ببعض الظواهر إلى أن المنع عند البعثة واللّه تعالى أعلم «بقي هاهنا إشكال» ذكره الإمام مع جوابه فقال : ولقائل أن يقول : إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السماء ويسمع أخبار الغيوب من الملائكة عليهم السلام ثم يلقيها إلى الكهنة وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزا دالا على الصدق لأن كل غيب يخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم فيه هذا الاحتمال ، ولا يقال : إن اللّه تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولده صلى اللّه عليه وسلم لأنا نقول : هذا المعجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكونه عليه الصلاة والسلام رسولا وبكون القرآن حقا والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز ، وكون الإخبار عن الغيوب معجزا لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو محال. ويمكن أن يجلب عنه بأنا نثبت كونه صلى اللّه عليه وسلم رسولا بسائر المعجزات ثم بعد العلم بثبوت ذلك نقطع بأن اللّه تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجزا ولا يلزم الدور اه فتدبر واللّه سبحانه ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها ، قال الحسن : أخذ اللّه تعالى طينة فقال لها : انبسطي فانبسطت ، وعن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن أم القرى مكة ومنها دحيت الأرض وبسطت ، وعن ابن عباس أنه قال : بسطناها على وجه الماء ، وقيل :
يحتمل أن يكون المراد جعلناها ممتدة في الجهات الثلاث الطول والعرض والعمق ، والظاهر أن المراد بسطها وتوسعتها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها لما أن الكرة العظيمة لعظمها ترى كالسطح المستوي ، ونسب الْأَرْضَ على الحذف على شريطة التفسير وهو في مثل ذلك أرجح من الرفع على الابتداء للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى : وَلَقَدْ جَعَلْنا إلخ وليوافق ما بعده أعني قوله سبحانه : وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت جمع راسية جمع رأس على ما قيل ، وقد بين حكمة إلقاء ذلك فيها في قوله سبحانه : وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل : 15 ، لقمان : 10].
قال ابن عباس : إن اللّه تعالى لما بسط الأرض على الماء مالت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها ، وقد تقدم الكلام في ذلك. وزعم بعضهم «1» أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعالى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تميد الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال ، ثم قال : وهذا الوجه ظاهر الاحتمال. وأنت تعلم أنه لا يسوغ الذهاب إليه مع وجود أخبار تأباه كالجبال وَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض ، وهي إما شاملة للجبال لأنها تعد منها أو خاصة بغيرها لأن أكثر النبات وأحسنه في ذلك. وجوز أن يكون الضمير للجبال والأرض بتأويل المذكورات مثلا أو للأرض بمعنى ما يقابل السماء بطريق الاستخدام ، وعوده على الرواسي لقربها وحمل الإنبات على إخراج المعادن بعيد مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة فهو مجاز مستعمل في لازم معناه أو كناية أو من كل شيء مستحسن متناسب من قولهم : كلام موزون ، وأنشد المرتضى في
___________
(1) هو الإمام الرازي اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 275
درره لهذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة :
وحديث ألذه وهو مما تشتهيه النفوس يوزن وزنا
وقد شاع استعمال ذلك في كلام العجم والمولدين فيقولون : قوام موزون أي متناسب معتدل ، أو ما له قدر واعتبار عند الناس في أبواب النعمة والمنفعة ، وقال ابن زيد : المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة وغيرهما ، ومِنْ كما في البحر للتبعيض ، وقال الأخفش : هي زائدة أي كل شيء وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها مما يتعلق به البقاء وهي بياء صريحة. وقرأ الأعرج وخارجة عن نافع بالهمز ، قال ابن عطية : والوجه تركه لأن الياء في ذلك عين الكلمة ، والقياس في مثله أن لا يبدل همزة وإنما يبدل إذا كان زائدا كياء شمائل وخبائث. لكن لما كان الياء هنا مشابها للياء هناك في وقوعه بعد مدة زائدة في الجمع عومل معاملته على خلاف القياس وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب كما قال الفراء وغيره ، وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبان بعض الجهلة أنهم يرتزقون منهم أو لتحقيق أن اللّه تعالى يرزقهم وإياهم مع ما في ذلك من عظيم الامتنان ، ويجوز عطفه على محل لَكُمْ وجوز الكوفيون ويونس والأخفش. وصححه أبو حيان العطف على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار ، والمعنى على التقديرين سواء أي وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين ، وقال الزجاج : إن مَنْ في محل نصب بفعل محذوف والتقدير وأعشنا من لستم إلخ أي أمما غيركم لأن المعنى أعشناكم ، وقيل : إنه في محل رفع على الابتداء وخبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهو خلاف الظاهر ، وقال أبو حيان : لا بأس به فقد أجازوا ضربت زيدا وعمرو بالرفع على الابتداء أي وعمرو ضربته فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن المراد ب مَنْ لَسْتُمْ إلخ الدواب والأنعام ، وعن منصور الوحش ، وعن بعضهم ذاك والطير - فمن - على هذه الأقوال لما لا يعقل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ نافية ومِنْ مزيدة للتأكيد وشَيْءٍ في محل الرفع على الابتداء أي ما شيء من الأشياء الممكنة فيدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا والاقتصار عليه قصور. وزعم ابن جريج وغيره أن الشيء هنا المطر خاصة.
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ الظرف خبر للمبتدأ وخَزائِنُهُ مرتفع به على أنه فاعله لاعتماده أو مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول ، والخزائن جمع خزانة ولا تفتح وهي اسم للمكان الذي يحفظ فيه نفائس الأموال لا غير غلبت - على ما قيل - في العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس ، شبهت مقدوراته تعالى الغائبة للحصر المندرجة تحت قدرته الشاملة في كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة عن وصول أيديهم مع وفور رغبتهم فيها وكونها متهيئة متأتية لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخر بنفائس الأموال المخزونة في الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على طريقة الاستعارة التخييلية قاله غير واحد ، وجوز أن يكون قد شبه اقتداره تعالى على كل شيء وإيجاده لما يشاء بالخزائن المودعة فيها الأشياء المعدة لأن يخرج منها ما شاء فذكر ذلك على سبيل الاستعارة التمثيلية ، والمراد ما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه ، وقيل : الأنسب أنه مثل لعلمه تعالى بكل معلوم ، ووجهه - على ما قيل - أنه يبقى شَيْءٍ على عمومه لشموله الواجب والممكن بخلاف القدرة ولأن عند أنسب بالعلم لأن المقدور ليس عنده إلا بعد الوجود. وتعقب بأن كون المقدورات في خزان القدرة ليس باعتبار الوجود الخارجي بل الوجود العلمي ، وقال قوم : الخزائن على حقيقتها وهي الأماكن التي تحفظ

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 276
فيها الأشياء وإن للريح مكانا وللمطر مكانا ولكل مكان حفظة من الملائكة عليهم السلام ، ولا يخفى أنه لا يمكن مع تعميم الشيء وَما نُنَزِّلُهُ أي نوجد ما نكون شيئا من تلك الأشياء ملتبسا بشيء من الأشياء إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها من بين المقدورات الغير المتناهية فإن تخصيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكل في الأشكال وصحة تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به.
وهذا لبيان سر عدم تكون الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في الخزائن ، وهو إما عطف على مقدر أي ننزله وما ننزله إلا بقدر إلى آخره أو حال مما سبق أي عندنا خزائن كل شيء والحال أنا ما ننزله إلا بقدر إلى آخره ، فالأول لبيان سعة القدرة ، والثاني لبيان بالغ الحكمة قاله. مولانا شيخ الإسلام. وقرأ الأعمش «وما نرسله إلا» إلى آخره ، وهي على ما في البحر قراءة تفسير لمخالفتها لسواد المصحف ، والأولى في التفسير ما ذكرنا ، وإنما عبر عن إيجاد ذلك وإنشائه بالتنزيل لما أنه بطريق التفضل من العالم العلوي إلى العالم السفلي وقيل : لما أن فيه إخراج الشيء مما تميل إليه ذاته من العدم إلى ما لا تميل إليه ذاته من الوجود ، وهذا كما في قوله تعالى : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر : 6] وقوله سبحانه : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد : 25] وكأن من حمل الشيء على المطر غره ظاهر التنزيل فارتكب خلاف ظاهره وجدا ، وكأنه لما كان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل ، وجيء بصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار. واستدل بعض القائلين يشيئية المعدوم على ذلك بهذه الآية ، وقد بين وجهه والجواب عنه الإمام ونحن مع القائلين بالشيئية وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ عطف على جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح ما لحق ، واللواقح جمع لاقح بمعنى حامل يقال : ناقة لاقح أي حامل ، ووصف الرياح بذلك على التشبيه البليغ ، شبهت الريح التي بالسحاب الماطر بالناقة الحامل لأنها حاملة لذلك السحاب أو للماء الذي فيه ، وقال الفراء : إنها جمع لاقح على النسب كلابن وتامر أي ذات لقاح وحمل ، وذهب إليه الراغب ، ويقال لضدها ريح عقيم ، وقال أبو عبيدة : لَواقِحَ أي ملاقح جمع ملقحة كالطوائح في قوله :
لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
أي المطاوح جمع مطيحة ، وهو من ألقح الفحل الناقة إذا ألقى ماءه فيها لتحمل ، والمراد ملقحات للسحاب أو الشجر فيكون قد استعير اللقح لصب المطر في السحاب أو الشجر ، وإسناده إليها على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز إذ الملقى في الشجر السحاب لا الريح والرياح اللواقح هي ريح الجنوب كما
رواه ابن أبي الدنيا عن قتادة مرفوعا ، وروى الديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة نحوه ، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبيد بن عمير قال : يبعث اللّه تعالى المبشرة فتقم الأرض قما ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر.
وقرأ حمزة «وأرسلنا الريح» بالإفراد على تأويل الجنس فتكون في معنى الجمع فلذا صح جعل لَواقِحَ حالا منها وذلك كقولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، ولا تخالف هذه القراءة ما قالوه
في حديث «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
من أن الرياح تستعمل للخير والريح للشر لما قال الشهاب من أن ذلك ليس من الوضع وإنما هو من الاستعمال وهو أمر أغلبي لا كلي فقد استعملت الريح في الخير أيضا نحو قوله تعالى : وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس : 22] أو هو محمول على الإطلاق بأن لا يكون معه قرينة كالصفة والحال ، وأما كون المراد بالخير الدعاء بطول العمر ليرى رياحا كثيرة فلا وجه له.
فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ بعد ما أنشأنا بتلك الرياح سحابا ماطرا ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ جعلناه لكم سقيا تسقون به

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 277
مزارعكم ومواشيكم وهو على ما قيل أبلغ من سقيناكم لما فيه من الدلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاؤوا ، وقد فرق بين أسقى وسقى غير واحد فقد قال الأزهري : العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام أو من السماء أو من نهر جار أسقيته أي جعلت شربا له وجعلت له منه مسقى فإذا كان للشفة قالوا سقى ولم يقولوا أسقى ، وقال أبو علي : يقال سقيته حتى روي وأسقيته نهرا جعلته شربا له ، وربما استعملوا سقى بلا همزة كأسقى كما في قول لبيد يصف سحابا :
أقول وصوته مني بعيد يحط اللث «1» من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
فإنه لا يريد بسقى قومي ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يخصبون بها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروي ولغيرهم ما يخصبون به ، ولا يرد على قول الأزهري أنه لا يقال أسقي في سقيا الشفة قول ذي الرمة :
وأسقيه حتى كاد مما أبثه يكلمني أحجاره وملاعبه
قال الإمام : لأنه أراد بأسقيه أدعو له بالسقيا ولا يقال في ذلك كما قال أبو عبيد سوى أسقي ، هذا وقد جاء الضمير هنا متصلا بعد ضمير منصوب متصل أعرف منه ومذهب سيبويه في مثل ذلك وجوب الاتصال.
وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ نفى سبحانه عنهم ما أثبته لجنابه بقوله جل جلاله : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ كأنه قيل : نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله ، وما أنتم على ذلك بقادرين ، وقيل : المراد نفي حفظه أي وما أنتم له بحافظين في مجاريه عن أن يغور فلا تنتفعون به وعن سفيان أن المعنى وما أنتم له بمانعين لإنزاله من السماء وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها وَنُمِيتُ بإزالتها عنها فالحياة صفة وجودية وهي كما قيل صفة تقتضي الحس والحركة الإرادية والموت زوال تلك الصفة ، وقال بعضهم : إنه صفة وجودية تضاد الحياة لظاهر قوله تعالى : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك : 2] وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق ذلك ، وقد يعمم الإحياء والإماتة بحيث يشمل الحيوان والنبات مثل أن يقال : المراد إعطاء قوة النماء وسلبها ، وتقديم الضمير للحصر ، وهو إما توكيد للأول أو مبتدأ خبره الجملة بعده والمجموع خبر لإنا ، وجوز كونه ضمير فصل ورده أبو البقاء بوجهين أحدهما أنه لا يدخل على الخبر الفعلي والثاني أن اللام لا تدخل عليه ، وتعقب ذلك في الدر المصون بأن الثاني غلط فإنه ورد دخول اللام عليه في قوله تعالى : إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران : 62] ودخوله على المضارع مما ذهب إليه الجرجاني وبعض النحاة ، وجعلوا من ذلك قوله تعالى : إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج : 13] ولعل ذلك المجوز ممن يرى هذا الرأي والعجب من أبي البقاء فإنه رد ذلك هنا وجوزه في قوله تعالى : وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر :
10] كما نقله في المغني.
وَنَحْنُ الْوارِثُونَ أي الباقون بعد فناء الخلق قاطبة المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي ، الحاكمون في الكل أولا وآخرا أو ليس لأحد إلا التصرف الصوري والملك المجازي وفي هذا تنبيه على أن المتأخر ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال ، وتفسير الوارث بالباقي مروي عن سفيان وغيره ، وفسر بذلك في
قوله عليه الصلاة والسلام : «اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا»
وهو من باب الاستعارة وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ من مات وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ من هو حي لم يمت بعد أخرجه ابن أبي
___________
(1) يقال ألث المطر إذا أقام أياما لا يقلع ولعل المراد باللث هنا المطر الدائم اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 278
حاتم وغيره عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى عنه المستقدمين آدم عليه السلام ومن مضى من ذريته والمستأخرين من في أصلاب الرجال ، وروي مثله عن قتادة ، وعن مجاهد المستقدمين من مضى من الأمم والْمُسْتَأْخِرِينَ أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل : من تقدم ولادة وموتا ومن تأخر كذلك مطلقا وهو من المناسبة بمكان وروي عن الحسن أنه قال :
من سبق إلى الطاعة ومن تأخر فيها ، وروي عن معتمر أنه قال : بلغنا أن الآية في القتال فحدثت أبي فقال : لقد نزلت قبل أن يفرض القتال ، فعلى هذا أخذ الجهاد في عموم الطاعة ليس بشيء ، على أنه ليس في تفسير ذلك بالمستقدمين والمستأخرين فيها كمال مناسبة ، والمراد من علمه تعالى بهؤلاء علمه سبحانه بأحوالهم ، والآية لبيان كمال علمه جل وعلا بعد الاحتجاج على كمال قدرته تعالى فإن ما يدل عليها دليل عليه ضرورة أن القادر على كل شيء لا بد من علمه بما يصنعه وفي تكرير قوله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمْنَا ما لا يخفى من الدلالة على التأكيد. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وجماعة من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : كانت امرأة تصلي خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل اللّه تعالى الآية ، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن أبي الجوزاء أنه قال في الآية ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ولم يذكر من حديث المرأة شيئا ، قال الترمذي : هذا أشبه أن يكون أصح ، وقال الربيع بن أنس : حرض النبي صلى اللّه عليه وسلم على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد فقالوا : نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد فأنزل اللّه تعالى الآية ، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومن هنا قال بعضهم :
الأولى الحمل على العموم أي علمنا من اتصف بالتقدم والتأخر في الولادة والموت والإسلام وصفوف الصلاة وغير ذلك وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ للجزاء ، وتوسيط الضمير قيل للحصر أي هو سبحانه يحشرهم لا غير ، وقيل عليه : إنه في مثل ذلك يكون الفعل مسلم الثبوت والنزاع في الفاعل وهاهنا ليس كذلك فالوجه جعله لإفادة التقوى. وتعقب بأن هذا في القصر الحقيقي غير مسلم وتصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على ما سبق يدل على صحة الحكم ، وفي الالتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعار بعلته ، وفي الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم دلالة على اللطف به عليه الصلاة والسلام.
وقرأ الأعمش «يحشرهم» بكسر الشين إِنَّهُ حَكِيمٌ بالغ الحكمة متقن في أفعاله. والحكمة عندهم عبارة عن العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي عَلِيمٌ وسع علمه كل شيء ، ولعل تقديم وصف الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء ، وقد نص بعضهم على أن الجملة مستأنفة للتعليل وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقا بديعا منطويا على خلق سائر أفراده انطواء إجماليا.
مِنْ صَلْصالٍ أي طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة ونقله في الدر المصون عن أبي عبيدة ونقل عنه أبو حيان أنه قال : هو الطين المخلوط بالرمل وهو رواية عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى عنه أنه الطين المرقق الذي يصنع منه الفخار ، وفي أخرى نحو الأول ، وقيل : هو من صلصال إذ أنتن تضعيف صل يقال : صل اللحم وأصل إذا أنتن وهذا النوع من المضعف مصدر يفتح أوله ويكسر كالزلزال ووزنه عند جمهور البصريين فعلال ، وقال الفراء : وكثير من النحويين فعفع كررت الفاء والعين ولا لام ، وغلطهم في الدر المصون لأن أقل الأصول ثلاثة فاء وعين ولام ، وقال بعض البصريين والكوفيين : فعفل ونسب أيضا إلى الفراء بل قيل هو المشهور عنه ، وعن بعض آخر من الكوفيين أن وزنه فعل بتشديد العين والأصل صلل مثلا فلما اجتمع ثلاثة أمثال أبدل الثاني من جنس

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 279
إلقاء ، وخص بعضهم هذا الخلاف بما إذا لم يختل المعنى بسقوط الثالث كلملم وكبكب فإنك تقول لم وكب فلو لم يصح المعنى بسقوطه نحو سمسم فلا خلاف في أصالة الجميع ، وقال اليمني : ليس معنى قولهم : إن الأصل صلل أنه زيد فيه صاد بل هو رباعي كزلزل والاشتراك في أصل المعنى لا يقتضي أن يكون منه إذ الدليل دال على أن الفاء لا تزاد لكن زيادة الحرف تدل على زيادة المعنى ، وذكر في البحر أن صلصال بمعنى مصلصل كالقضاض بمعنى المقضقض فهو مصدر بمعنى الوصف ومثله كثير. مِنْ حَمَإٍ من طين تغير واسود من مجاورة الماء ويقال للواحدة حمأة ، قال الليث : بتحريك الميم ووهم في ذلك وقالوا : لا نعرف الحمأة في كلام العرب إلا ساكنة الميم وعلى هذا أبو عبيدة والأكثرون ، والجار والمجرور في موضع الصفة لصلصال كما هو السنة الشائعة في الجار والمجرور بعد النكرة أي من صلصال كائن من حمإ ، وقال الحوفي : هو بدل مما قبله بإعادة الجار فكأنه قيل خلقناه من حمإ مَسْنُونٍ أي مصور من سنة الوجه وهي صورته ، وأنشد لذلك ابن عباس قول عمه حمزة يمدح النبي صلى اللّه عليه وسلم :
أغر كأن البدر سنة وجهه جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا
وأنشد غيره قول ذي الرمة :
تريك سنة وجه غير مقرفة «1» ملساء ليس بها خال ولا ندب «2»
أو مصبوب من سن الماء صبه ويقال شن بالشين أيضا أي مفرغ على هيئة الإنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب ، وقال قتادة ومعمر : المسنون المنتن ، قيل : وهو من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتنا ، وقيل : هو من سننت الحديدة على المسن إذا غيرتها بالتحديد ، وأصله الاستمرار في جهة من قولهم : هو على سنن واحد وهو صفة الحمإ ، ويجوز أن يكون صفة لصلصال ولا ضير في تقدم الصفة الغير الصريحة على الصريحة ، فقد قال الرضي : إذا وصفت النكرة بمفرد أو ظرف أو جملة قدم المفرد في الأغلب وليس بواجب خلافا لبعضهم ، والدليل عليه قوله تعالى : وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الأنبياء : 50] لكنه يحتاج إلى نكتة لا سيما في كلام اللّه تعالى لأنه لا يعدل عن الأصل لغير مقتض ، ولعل النكتة هاهنا مناسبة المقدم لما قبله في أن كلا منهما من جنس المادة ، وقيل : إنما أخرت الصفة الصريحة تنبيها على أن ابتداء مسنونيته ليس في حال كونه صلصالا بل في حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوت ثم غيره طورا بعد طور حتى نفخ فيه من روحه فتبارك اللّه أحسن الخالقين ، وقيل : المسنون المنسوب أي نسب إليه ذريته وهو كما ترى. وَالْجَانَّ هو أبو الجن كما روي عن ابن عباس ويجمع على جنان كحائط وحيطان وراع ورعيان قاله الطبرسي ، وقيل : هو إبليس وروي عن الحسن وقتادة لكن في الدر المصون أنه هو أبو الجن ، وقال ابن بحر : هو اسم لجنس الجن وتشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس مخلوقا منها.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد «والجأن» بالهمز وانتصابه بفعل يفسره خَلَقْناهُ وهو هنا أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية مِنْ قَبْلُ أي من قبل خلق الإنسان ، قيل : ومن هنا يظهر جواز كون الرماد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله تعالى : مِنْكُمْ للكل وهو بعيد غاية البعد.
مِنْ نارِ السَّمُومِ أي الريح الحارة التي تقتل. وروي ذلك عن ابن عباس ، وأكثر ما تهب في النهار وقد تهب
___________
(1) من قرفت الجرح قشرته اه منه.
(2) بالتحريك أثر الجرح اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 280
ليلا. وسميت سموما لأنها بلطفها تنفذ في مسام البدن ومنه السم القاتل ، ويقال : سم يومنا يسم إذا هبت فيه تلك الريح ، وقيل : السموم نار لا دخان لها ومنها تكون الصواعق ، وروى ذلك أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس فالإضافة من إضافة العام إلى الخاص ، وقيل : السموم إفراط الحر والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة ، والمراد من النار المفرطة الحرارة ، وقد جاء في بعض الآثار ما يدل على أن النار التي خلق منها الجان أشد حرارة من النار المعروفة.
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «رؤيا المسلم جزء من سبعين جزءا من النبوة وهذه النار جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان وتلا عليه الصلاة والسلام الآية»
واستشكل الخلق من النار بأنه كيف تخلق الحياة فيها وهي بسيطة ليست متركبة من أجزاء مختلفة الطبع والحياة كالمزاج لا تكون إلا في المركبات وقد اشترط الحكماء فيها البنية المركبة.
وأجيب بمنع ذلك لأنها إذا خلقت في المجردات كالملائكة على قول والعقول التي أثبتها الفلاسفة فبالطريق الأولى البسائط بل لا مانع أيضا أن تخلق في الأجزاء الفردة خلافا للمعتزلة حيث اشترطوا البنية المركبة من الجواهر وليس لهم سوى شبه أوهن من بين العنكبوت على أن ذلك غير وارد رأسا لأن معنى كون الجن مخلوقة من نار أنها الجزء الأعظم الغالب عليها كالتراب في الإنسان فليست بسيطة ، وقال بعضهم : إن الجن أجسام هوائية أو نارية بمعنى أنهم يغلب عليهم ذلك وهم مركبون من العناصر الأربعة كالملائكة عليهم السلام على قول.
ثم إن النقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكار الجن وليس ذلك مذهب جميعهم فقد ذهب جمع عظيم من قدمائهم إلى وجودهم وهو مذهب جمهور أرباب الملل وأصحاب الروحانيات ويسمونهم بالأرواح السفلية وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنها أضعف. نعم اختلف المثبتون فمنهم من زعم أنهم ليسوا أجساما ولا حالين فيها بل هم جواهر قائمة بأنفسها لكنها أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها كريمة حرة محبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور ولا يعلم عدد أنواعهم إلا اللّه تعالى ولا يبعد أن يكون من أنواعها من يقدر على أفعال شاقة يعجز عنها قدرة البشر وكذا لا يبعد لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم. ومن الناس من زعم أن هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن مشابه للبدن الذي فارقته فبسبب تلك المشابهة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما بهذا البدن وتصير معاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما ، وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة ، ومنهم من قال : إنهم أجسام لكن اختلفوا فقال بعضهم : هي مختلفة الماهية وإن اشتركت في صفة ، وقال آخرون : إنها متساوية في تمام الماهية ، وقد أطال الكلام في ذلك الإمام في تفسير سورة الجن ، وذكر في تفسير هذه الآية أنهم اختلفوا في الجن فقال بعضهم :
إنهم جنس غير الشياطين ، والأصح أن الشياطين قسم من الجن ، فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان ، وكل من كان منهم كافرا سمي بهذا الاسم ، والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاستتار فكل من كان كذلك كان من الجن اه ، وما ذكره من الأصح هو الذي ذهب إليه المعظم لكن ما ذكره من الدليل ضعيف.
وقال وهب : إن من الجن من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ، ومنهم من هو بمنزلة الريح لا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين. وذكر ابن عربي أن تناسل الجن بإلقاء الهواء في رحم الأنثى كما أن التناسل في البشر بإلقاء الماء في الرحم ، وأنهم محصورون في اثنتي عشرة قبيلة أصولا ثم يتفرعون إلى أفخاذ ، ويقع بينهم حروب

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 281
وبعض الزوابع يكون عند حربهم ، فإن الزوبعة تقابل ريحين تمنع كل صاحبتها أن تخترقها فيؤدي ذلك إلى الدور وما كل زوبعة حرب.
وأخرج البيهقي في الأسماء وأبو نعيم والديلمي وغيرهم بإسناد صحيح - كما قال العراقي - عن أبي ثعلبة مرفوعا الجن ثلاثة أصناف فصنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء. وصنف حيات وكلاب. وصنف يحلون ويظعنون ،
وفي هذه القسمة عندي إشكال يظهر بالتدبر ، ولعل حاصلها أن صنفا منهم يغلب عليهم الطيران في الهواء ، وصنف يغلب عليهم الحل والارتحال ، وصنف يغلب عليهم المكث والتوطن ببعض المواطن ، وعبر عنهم بالحيات والكلاب لكثرة تشكلهم بذلك دون الصنفين الآخرين ، فإنهم وإن جاز عليهم التشكل بالأشكال المختلفة لأنهم من الجن ، وقد قالوا : إنهم قادرون على ذلك وإن نوزع فيه بأنه يستلزم أن لا تبقى ثقة بشيء. ورد بأن اللّه تعالى قد تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور - إلا أنهم لا يكثر تشكلهم بذلك ، وربما يقال : إن القدرة على التشكل إنما هي لصنف المتوطنين ، وإثباتها في كلامهم للجن يكفي فيه صحتها باعتبار بعض الأصناف لكنه بعيد جدا فليتدبر حقه ، وقد قال الهيتمي : إن رجال هذا الحديث وثقوا وفي بعضهم ضعف ، فإن كان الحديث لذلك ضعيفا فلا قيل ولا قال واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى استيفاء الكلام في هذا المقام بعون اللّه تعالى الملك العلام ، ثم إن مساق الآية الكريمة - على ما قيل - كما هو للدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على مقدمة يتوقف عليها إمكان الحشر وهي قبول المواد للجمع والإحياء فتدبر.
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ نصب بإضمار أذكر ، وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه ، وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعار بعلة الحكم وتشريف له صلى اللّه عليه وسلم أي أذكر وقت قوله تعالى : لِلْمَلائِكَةِ الظاهر أن المراد بهم ملائكة السماء والأرض ، وزعم بعض الصوفية أن المراد بهم ملائكة الأرض ولا دليل له عليه إِنِّي خالِقٌ فيما سيأتي وفيه ما ليس في صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل لذلك البتة من غير صارف ولا عاطف بَشَراً أي إنسانا ، وعبر به عنه اعتبارا بظهور بشرته وهي ظاهر الجلد عكس الأدمة خلافا لأبي زيد حيث عكس وغلطه في ذلك أبو العباس. وغيره من الصوف والوبر ونحوهما ، ولبعض أكابر الصوفية وجه آخر في التسمية سنذكره إن شاء اللّه تعالى في باب الإشارة ، ويستوي فيه الواحد والجمع.
وذكر الراغب أنه جاء جمع البشرة بشرا وأبشارا ، وقيل : أريد جسما كثيفا يلاقي ويباشر أو جسما بادي البشرة ولم يرد إنسانا وإن كان هو إياه في الواقع ، وبعض من قال إنه المراد قال : ليس هذا صيغة عين الحادثة وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم : 7 ني خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم مِنْ صَلْصالٍ متعلق - بخالق - أو بمحذوف وقع صفة بَشَراً مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ تقدم تفسيره وإعرابه فتذكر فما في العهد من قدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ فعلت فيه ما يصير به مستويا معتدلا مستعدا لفيضان الروح وقيل : صورته بالصور الإنسانية والخلقة البشرية وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي النفح في العرف إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها ، والمراد هنا تمثيل إفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها وليس هناك نفخ حقيقة.
وقال حجة الإسلام : عبر بالنفخ الذي يكون سببا لاشتعال فتيلة القابل من الطين الذي تعاقبت عليه الأطوار حتى اعتدل واستوى واستعد استعدادا تاما بنور الروح كما يكون سببا لاشتعال الحطب القابل مثلا بالنار عن نتيجته ومسببه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 282
وهو ذلك الاشتعال. وقد يكنى بالسبب عن الفعل المستفاد الذي يحصل منه على سبيل المجاز وإن لم يكن الفعل المستفاد على صورة الفعل المستفاد منه. ثم هذا الروح عنده وكذا عند جماعة من المحققين ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في الإناء مثلا ، ولا هو عرض يحل القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم بل هو جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ، ولهم على ذلك عدة أدلة.
الدليل الأول : أن الإنسان يمكنه إدراك الأمور الكلية وذلك بارتسام صور المدركات في المدرك فمحل تلك الصور إن كان جسما فإما أن يحل غير منقسم أو منقسما ، والأول محال لأن الذي لا ينقسم من الجسم طرف نقطي والنقطة تمتنع أن تكون محلا للصور العقلية لأنها مما لا يعقل حصول المزاج لها حتى يختلف حال استعدادها في القابلية وعدمها بل إن كانت قابلة للصور المذكورة وجب أن يكون ذلك القبول حاصلا أبدا ولو كان كذلك لكان المقبول حاصلا أبدا لما أن المبادي الفعالة المفارقة عامة الفيض فلا يتخصص إلا لاختلاف أحوال القوابل فلو كان القابل تام الاستعداد لكان المقبول واجب الحصول وحينئذ يكون جميع الأجسام ذوات النقط عاقلة ، ويجب أيضا أن يبقى البدن بعد الموت عاقلا لبقاء محل الصور على استعداده وليس كذلك ، والثاني أيضا محال لأن الحال في المنقسم منقسم فيلزم أن تكون تلك الصورة منقسمة أبدا وذلك محال لوجوه مقررة فيما بينهم.
الدليل الثاني : ما عول عليه الشيخ وزعم أنه أجل ما عنده في هذا الباب وهو أنه يمكننا أن نعقل ذواتنا وكل من عقل ذاتا فله ماهية ذلك الذات فإذا لنا ماهية ذاتنا فلا يخلو إما أن يكون تعقلنا لذاتنا لأجل صورة أخرى مساوية لها تحصل فيها وإما أن لا يكون بل لأجل أن نفسها حاضرة لها ، والأول محال لأنه يفضي إلى الجمع بين المثلين فتعين الثاني ، وكل ما ذاته حاصل لذاته كان قائما بذاته ، فإذن القوة العاقلة وهي الروح والنفس الناطقة قائمة بنفسها ، وكل جسم أو جسماني فإنه غير قائم بنفسه ، وأكثر تلامذته من الاعتراضات وأجاب عنها.
الدليل الثالث : ما عول عليه أفلاطون وهو أنا نتخيل صورا لا وجود لها في الخارج ونميز بينها وبين غيرها فهذه الصور أمور وجودية ومحلها يمتنع أن يكون جسمانيا فإن جملة بدننا بالنسبة إلى الأمور المتخيلة لنا قليل من كثير فكيف ينطبق الصور العظيمة على المقادير الصغيرة؟ وليس يمكن أن يقال : إن بعض تلك الصور منطبعة في أبداننا وبعضها في الهواء المحيط بنا إذ الهواء ليس من جملة أبداننا ولا آلة لنفوسنا في أفعالها أيضا وهو ظاهر ، فإذن محل هذه الصور شيء غير جسماني وذلك هو النفس الناطقة.
الدليل الرابع : لو كان محل الإدراكات شيئا جسمانيا لصح أن يقوم ببعض ذلك الجسم علم وبالبعض الآخر جهل فيكون الشيء الواحد عالما جاهلا بشيء واحد في حالة واحدة.
الدليل الخامس : أن الروح لو كان منطبعا في جسم مثل قلب أو دماغ لكان إما أن يعقل دائما ذلك الجسم أو لا يعقله كذلك أو يعقله في وقت دون وقت والأقسام باطلة فالقول بانطباعه باطل ، وبيان ذلك أن تعقل الروح لذلك الجسم إما أن يكون لأجل أن الآلة حاضرة عنده أو لأن صورة أخرى من تلك الآلة تحصل له فإن كان الأول فالروح إن أمكنه إدراك تلك الآلة وإدراك نفس مقارنتها له فما دامت الآلة مقارنة وجب أن يعقلها الروح فيكون دائم الإدراك لتلك الآلة وإن امتنع على الروح إدراك الآلة وجب أن لا يدركها أبدا فظاهر أنه لو كان تعقل الروح لتلك الآلة لأجل المقارنة لوجب أن يعقلها دائما أو لا يعقلها كذلك وكلا القسمين باطلا ، وأما إن كان تعقله لها لأجل حصول صورة أخرى منها فالروح إن كانت في تلك الآلة والصورة الثانية حاصلة فيه يكون الصورة الثانية للآلة حالة أيضا في الآلة لأن الحال

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 283
في الحال في الشيء حال في ذلك الشيء فيلزم الجمع بين المثلين وإن لم يكن الروح في تلك الحالة بل مجردة فذلك المطلوب واستدل بغير ذلك أيضا.
وقد ذكر الإمام في المباحث من الأدلة اثني عشر دليلا منها ما ذكر وأطال الكلام في ذلك جرحا وتعديلا وعول في إثبات هذا المطلب على غير ذلك فقال : والذي نعول عليه أن نقول : إن كل عاقل يجد من نفسه أنه الذي كان قبل فهويته إما أن تكون جسما وإما أن تكون قائمة بالجسم وإما أن لا تكون شيئا من الأمرين والأول بالباطل ، أما أولا فلأن الإنسان قد يكون عالما بهويته عند ذهوله عن جملة أعضائه الظاهرة والباطنة ، وأما ثانيا فلأن الأبعاض الجسمانية دائمة التحلل والتبدل لأن الأسباب المحالة من الحرارة الخارجية والداخلية والحركات النفسانية والبدنية مما لا تختص بجز دون جزء والبدن مركب من الأعضاء المركبة وهي مركبة من الأعضاء البسيطة مثل اللحم والعظم فيكون كل جزء من اللحم مثل الآخر في الاستعداد للتحلل فإذا كانت الأجزاء كلها متساوية في ذلك كانت نسبة المحللات إلى كل واحد من الأجزاء كنسبته إلى الجزاء الآخر فلم يكن عروض التحلل لبعض أولى من عروضه للبعض الآخر فثبت أن هوية الإنسان ليست جسما وليست أيضا قائمة بالجسم لأن القائم به يجب أن يتبدل عند تبدله لاستحالة انتقال الأعراض فكان يلزم أن لا يجد الإنسان من نفسه أنه الذي كان موجودا قبل ، ولما كان هذا العلم من العلوم البديهية علمنا أن هوية الإنسان ليست جسما ولا محتاجة إليه فهو جوهر مجرد وهو المطلوب.
ولا يلزم أن يكون لسائر الحيوانات هذا الجوهر لأنا وإن عرفنا أنها تعلم هويات أنفسها لكن لا نعرف أنها تعلم من أنفسها أنها هي التي كانت موجودة قبل ويمكن أن يحتج أيضا على هذا المطلب بأنا قد دللنا على أن المدرك بجميع أصناف الإدراكات لجميع المدركات شيء واحد في الإنسان فنقول ذلك المدرك إما أن يكون جسما أو قائما به ولا ، والأول ظاهر الفساد لأن الجسم من حيث هو جسم لا يمكن أن يكون مدركا ، والثاني أيضا باطل لأن تلك الصفة إما أن تكون قائمة بجميع أجزاء البدن أو ببعض دون بعض والأول باطل وإلا لكان كل جزء من أجزاء البدن مبصرا سامعا متخيلا متفكرا عاقلا وليس كذلك ، وبطل أيضا أن يقال : إن بعض الأعضاء قامت به القوة المدركة لجميع هذه المدركات لأنه يلزم أن يكون في البدن عضو واحد سامع مبصر متخيل متفكر عاقل ولسنا نجد ذلك فينا ، وبهذا ظهر أيضا فساد ما قيل : لعل القوة المدركة لجميع المدركات قائمة بجسم لطيف محصور في بعض الأعضاء لظهور أنا لا نجد من أبداننا موضعا مشتملا على هذا الجسم اللطيف السامع المبصر المتخيل المتفكر العاقل ، وليس لأحد أن يقول : هب أنكم لا تعرفون هذا الموضع لكن ذلك لا يدل على عدمه لأنا نقول إنا قد دللنا على أنا السامعون المبصرون المتخيلون العاقلون فلو كان بعض الأجسام سواء كان جزءأ من البدن أو محصورا في جزء منه موصوفا بالقوة المتعلقة بجميع هذه المدركات لم يكن حقيقتنا وهويتنا إلا ذلك الجسم فلو لم نعرفه لكنا لا نعرف حقيقة أنفسنا وذلك باطل فثبت أن الموصوف بالقوة المدركة لجميع المدركات ليس جسما أصلا ولا قائما به فهو جوهر مجرد وهو المطلوب ، وذكر هؤلاء الذاهبون إلى التجرد أنه متعلق بالبدن كتعلق العاشق عشقا جبليا إلهاميا بالمعشوق حتى أنه لا ينقطع ذلك التعلق ما دام البدن مستعدا لأن يتعلق به بل تعلق الروح أقوى من هذا التعلق بكثير وهو تعلق التدبير والتصريف وإضافته إلى ضميره تعالى
في الآية لأنه سبحانه وتعالى خلقه من غير واسطة تجري مجرى الأصل والمادة أو للتشريف ، وسئل حجة الإسلام عن ذلك فقال : لو نطقت الشمس وقالت : أفضت على الأرض من نوري يكون ذلك صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل للأرض من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه. وإن كان في غاية من الضعف بالنسبة إليه وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي وقوته العلم بجميع الأشياء وذلك مضاهاة ومناسبة ولذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلا ، وليس لأحد أن يقول : إن في تنزيه الروح عن المكان وصفا له بصفة اللّه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 284
تعالى شأنه وتقدست صفاته بل بأخص صفاته سبحانه ويلزم من ذلك عدم التميز فقد قالوا : كما يستحيل اجتماع جسمين في مكان واحد يستحيل أن يجتمع اثنان لا في مكان لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان لأنه لو اجتمعا لم يتميز
أحدهما عن الآخر فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان لم يحصل التميز والفرق بينهما ولذا قالوا : لا يجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلان كالضدين لأنا نقول : التميز غير منحصر بالمكان بل يكون به لجسمين في مكانين وبالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين وبالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل الطعم واللوم والبرودة والرطوبة في جسم واحد فإن تميز كل منها عن الآخر بذاته لا بمكان ولا زمان ومثل ذلك العلم والإرادة والقدرة فإن تميز كل أيضا بذاته وإن كان الجميع لشيء واحد فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائق في محل واحد فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى ، وكون الوجود لا في مكان أخص صفاته سبحانه في حيز المنع بل الأخص أنه جل شأنه قيوم أي قائم بذاته وكل ما سواه قائم به وأنه تبارك وتعالى موجود بذاته وكل ما سواه تعالى موجود لا بذاته بل ليس للأشياء من ذواتها إلا العدم وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية والوجود له سبحانه ذاتي غير مستعار فالقيومية ليس إلا للّه عزّ وجلّ انتهى.
وهذا الذي قالوه من تجرد الروح خلاف ما عليه جمهور أهل السنة. قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي : قد خاض سائر الفرق غمرة الكلام في الروح فما ظفروا بطائل ولا رجعوا بنائل وفيها أكثر من ألف قول وليس فيها - على ما قال ابن جماعة - قول صحيح بل كلها قياسات وتجليات عقلية ، وجمهور أهل السنة على أنها جسم لطيف يخالف الأجسام بالماهية والصفة متصرف في البدن حال فيه حلول الزيت في الزيتون والنار في الفحم يعبر عنه بأنا وأنت.
وإلى ذلك ذهب إمام الحرمين ، وقال اللقاني : جمهور المتكلمين على أنها جسم مخالف بالماهية للجسم الذي تتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته نافذ في جوهر الأعضاء سار فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال بقاؤه في الأعضاء حياة وانفصاله عنها إلى عالم الأرواح موت.
وزعم بعضهم أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس وروحه عرض قائم به وعزاه بعض المتأخرين من المعاصرين إلى جمهور المتكلمين وجعله وامتناع اتحاد القابل والفاعل دليلا على إبطال كون العبد خالقا لأفعاله ، وقد رد الإمام في التفسير ذلك الزعم وارتضى ما نقلناه عن الجمهور فقال : إنهم قالوا لا يجوز أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الهيكل المحسوس «1» لأن أجزاءه أبدا في الذبول والنمو والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو - هو - أمر باق من أول عمره إلى آخره وغير الباقي غير الباقي فالمشار إليه عند كل أحد بقوله أنا وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل.
ثم اختلفوا عند ذلك في أن المشار إليه بأنا أي شيء هو؟ والأقوال فيه كثيرة إلى أن أسدها تحصيلا وتلخيصا أنها أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان الماء في الورد والدهن في السمسم ثم إن المحققين منهم قالوا إن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخره مخالفة بالماهية لما تركب منه الهيكل وهي حية لذاتها مدركة لذاتها نورانية لذاتها فإذا خالطت ذلك وصارت سارية فيه صار مستنيرا بنورها متحركا بتحريكها ثم إنه أبدا في الذوبان والتحلل والتبدل وتلك الأجزاء لمخالفتها له بالماهية باقية بحالها وإذا فسد انفصلت عنه إلى عالم القدس إن كانت سعيدة أو عالم الآفات إن كانت شقية اه ، ومنه يعلم بطلان الاستدلال على تجرد الروح بإبطال كون الإنسان عبارة
___________
(1) وبه يرد على بعض المعاصرين أيضا تدبر اه منه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 285
عن الهيكل المحسوس كما يقتضيه كلام صاحب الهياكل حسبما يدل عليه كلام شارحه الجلال حيث قال في الهيكل الثاني : أنت لا تغفل عن ذاتك أبدا وما جزء من أجزاء بدنك إلا تنساه أحيانا ولا يدرك الكل إلا بأجزائه فلو كنت أنت هذه الجملة ما كان يستمر شعورك بذاتك مع نسيانها فأنت وراء هذا البدن وقال الجلال : فلا تكون النفس جسما أصلا لأن غاية ذلك إثبات النفس وراء هذا البدن لا إثبات أنها مع ذلك مجردة لجواز أن تكون جسما لطيفا كما علمت. وزعم القاضي أن مذهب أكثر المتكلمين أن الروح عرض وأنها هي الحياة واختاره الأستاذ أبو إسحاق ولم يبال بلزوم قيام العرض بالعرض.
واعترض هذا الزاعم القول بالجسمية بأنها لو كانت جسما لجاز عليها الحركة والسكون كسائر الأجسام فيلزم أن تكون كلها أرواحا ولوجب أن يكون للروح روح أخرى لا إلى نهاية ، وفيه أنه إنما يلزم ما ذكر أن لو كان الجسم إنما كان روحا لكونه جسما وليس فليس فإنه إنما كان روحا لمعنى خصه اللّه تعالى به وقد علمت أن القائل بالجسمية يقول : إنه حي لذاته فلا يلزم التسلسل وبينه وبين الجسم عنده علاقة بحسب بخار لطيف يعبر عنه بالروح الحيواني ، وعرفه في الهياكل بأنه جسم لطيف بخاري يتولد من لطائف الأخلاط وينبعث من التجويف الأيسر من القلب وينبث في البدن بعد أن يكتسب السلطان النوري من النفس الناطقة ولولا لطفه لما سرى وهو مطية تصرفات النفس ومتى انقطع انقطع تصرفها ، وقال بعضهم : إنه اعتدال مزاج دم القلب والأمر في ذلك سهل ، وذهب بعض المحققين إلى أن الروح تطلق على الروح التي ذكر أنها جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو غير الروح الحيواني وعلى أمر رباني شريف له إشراق على ذلك الجسم اللطيف ولعل ذلك هو سبب حياة الروح بالمعنى الأول وإدراكها ونورانيتها ويعبر عنه بالروح الأمري وهو المراد من الروح في قوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء : 85] الآية ، ويطلقون كثيرا على الروح بالمعنى الأول النفس الإنسانية وعليها بالمعنى الثاني النفس الناطقة والذي يقال فيه : إنه جوهر مجرد ليس جسما ولا جسمانيا ولا متصلا ولا منفصلا ولا داخل العالم ولا خارجه وأنه نور من أنوار اللّه تعالى القائمة لا في أين من اللّه عزّ وجلّ مشرقه وإليه سبحانه مغربه هو الروح بهذا الإطلاق ، واختلفوا في أن حدوثها هل هو قبل الأبدان أو بعدها فقال حجة الإسلام : الحق أن الأرواح حدثت عند استعداد الجسد للقبول كما حدثت الصورة في المرآة بحدوث الصقالة وإن كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقيل ، وقد قال بذلك من الفلاسفة
أرسطو ومتبعوه ، واستدلوا عليه بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان فإما أن تكون واحدة أو كثيرة وعلى الأول إما أن تتكثر عند التعلق بالبدن أو لا فإن لم تتكثر كانت الروح الواحدة روحا لكل بدن ولو كان كذلك لكان ما علمه إنسان علمه الكل وما جهله جهله وذلك محال ، وإن تكثرت لزم انقسام ما ليس له حجم وهو أيضا محال ، وعلى الثاني لا بد أن يمتاز كل واحدة منها عن صاحبتها إما بالماهية أو لوازمها أو عوارضها ، والأولان محالان لأن الأرواح متحدة بالنوع والواحد بالنوع يتساوى جميع أفراده بالذاتيات ولوازمها ، وأما العوارض فحدوثها إنما هو بسبب المادة وهي هنا البدن فقبله لا مادة فلا يمكن أن يكون هناك عوارض مختلفة وبعد أن ساق حجة الإسلام الدليل على هذا الطرز قيل له : ما تقول
في خبر «إن اللّه تعالى خلق الأرواح قبل الأجسام بألفي عام»؟
وقوله صلى اللّه عليه وسلم : «أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين»
فقال رحمه اللّه تعالى : نعم هذا يدل بظاهره على تقدم وجود الروح على الجسد ولكن أمر الظواهر هين لسعة باب التأويل ، وقد قالوا : إن البرهان القاطع لا يدرأ بالظاهر بل يؤول له الظاهر كما في ظواهر الكتاب والسنة في حق اللّه تعالى المنافية لما يدل عليه البرهان القطعي ، وحينئذ يقال : لعل المراد من الأرواح في الخبر الأول الملائكة عليهم السلام وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسموات ونحوها ، وإذا تفكرت في عظم هذه الأجساد لم تكد تستحضر أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد ، ونسبة أرواح البشر إلى أرواح الملائكة عليهم السلام كنسبة أجسادهم إلى أجساد العالم ولو انفتح عليك باب معرفة أرواح الملائكة

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 286
لرأيت الأرواح البشرية كسراج اقتبس من نار عظيمة طبقت العالم وتلك النار هي الروح الأخيرة من أرواح الملائكة.
وأما
قوله عليه الصلاة والسلام : «أنا أول الأنبياء خلقا»
فالخلق فيه بمعنى التقدير دون الإيجاد فإنه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يولد لم يكن مخلوقا موجودا ولكن الغايات سابقة في التقدير ولا حقة في الوجود ، وهو معنى قوله الحكيم : أول الفكر آخر العمل ، فالدار الكاملة أول الأشياء في حق المهندس مثلا تقديرا وآخرها وجودا وما يتقدم على وجودها من ضرب اللبن ونحوه وسيلة إليها ومقصود لأجلها ، ولما كان المقصود من فطرة الآدميين إدراكهم لسعادة القرب من الحضرة الإلهية ولم يمكنهم ذلك إلا بتعريف الأنبياء عليهم السلام كانت النبوة مقصودة والمقصود كمالها وغايتها لا أولها وتمهيد أولها وسيلة إلى ذلك وكمالها به صلى اللّه عليه وسلم فلذلك كان أولا في التقدير وآخرا في الوجود ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» إشارة إلى هذا أيضا وإنه لم يشأ سبحانه خلق آدم إلا لينتزع الصافي من ذريته ولم يزل يستصفي تدريجا إلى أن بلغ كمال الصفاء ، ولا يفهم هذا إلا بأن يعلم أن للدار مثلا وجودين وجودا في ذهن المهندس حتى كأنه ينظر إلى صورتها ووجودا خارج الذهن مسببا عن الوجود الأول فهو سابق عليه لا محالة.
وحينئذ يقال : إن اللّه تعالى يقدر أولا ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا والتقدير يرسم في اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أولا في لوح أو قرطاس فتصير الدار موجودة بكمال صورتها نوعا من الوجود يكون سببا للوجود الحقيقي ، وكما أن هذه الصورة ترتسم في لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجري على وفق العلم بل العلم يجريه كذلك تقرير صورة الأمور الإلهية ترتسم أولا في اللوح المحفوظ بواسطة القلم الإلهي والقلم يجري على وفق العلم السابق الأزلي ، واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصور ، والقلم عبارة عن موجود منه تفيض الصور على اللوح وليس من شرطهما أن يكونا جسمين ولا يبعد أن يكون قلم اللّه تعالى ولوحه لائقين لأصبعه ويده وكل ذلك على ما يليق بذاته الإلهية ويقدس عن حقيقة الجسمية ، وقد يقال : إنهما جوهران روحانيان أحدهما متعلم وهو اللوح والآخر معلم وهو القلم ، وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه : عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق : 4] فإذا فهمت معنيي الوجود فقد كان نبينا صلى اللّه عليه وسلم قبل بالمعنى الأول منهما دون المعنى الثاني اه.
واعترض على الاستدلال من وجوه منها ما هو جار على رأي الفلاسفة المستدلين بذلك أيضا ومنها ما لا اختصاص له برأيهم. الأول لم لا يجوز أن يقال : إنها كانت قبل الأبدان واحدة ثم تكثرت ولا يقال : الكل لو كان واحدا وكان قابلا للانقسام يلزم أن تكون وحدته اتصالية فيكون جسما لأنا نقول : مسلم أن كل ما وحدته اتصالية فإنه واحد قابل للانقسام ولا نسلم أن كل واحد قابل للانقسام فوحدته اتصالية لأن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها.
الثاني سلمنا أنها كانت متكثرة لكن لم قلتم لا بد أن يختص كل بصفة مميزة لأنه لو كان التميز للاختصاص بأمر ما لكان ذلك الأمر أيضا متميزا عن غيره فإما أن يكون تميزه بما به تميزه فيلزم الدور أو بثالث فيلزم التسلسل ولأن التميز لا يختص بشيء بعينه إلا بعد تميزه فلو كان تميز الشيء عن غيره باختصاصه بشيء لزم الدور. الثالث سلمنا أنه لا بد من مميز فلم لا يجوز أن يكون بذاتي ، وبيانه ما بينوه من اختلاف النفوس بالنوع. الرابع سلمنا أنها لا تتميز بشيء من الذاتيات فلم لا يجوز أن تتميز بالعوارض قولكم : إن حدوثها بسبب المادة وهي هنا البدن ولا بدن فنقول لم لا يجوز أن يكون هناك بدن تتعلق به وقبله آخر وهكذا ولا مخلص من هذا إلا بإبطال التناسخ فتوقف حجة إثبات حدوث الأرواح على ذلك الإبطال مع أن الحكماء بنوا ذلك على الحدوث حيث قالوا بعد الفراغ من دليله : إذا ثبت حدوث النفس فلا بد وأن يكون لحدوثها سبب وذلك هو حدوث البدن فإذا حدث البدن وتعلقت به نفس على سبيل التناسخ وثبت أن حدوث النفس سبب لأن يحدث عن المبادئ المفارقة نفس أخرى فحينئذ يلزم اجتماع نفسين في بدن

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 287
فيجيء الدور. الخامس سلمنا عدم تعلقها ببدن قبل لكن لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض باعتباره كانت متميزة ثم يكون كل عارض بسبب عارض آخر لا إلى أول.
السادس : المعارضة وهي أن الأرواح عند الفريقين باقية بعد المفارقة ولا يكون تمايزها بالماهية ولوازمها بل بالعوارض لكن الأرواح الهيولانية التي لم تكتسب شيئا من العوارض إذا فارقت لا يكون فيها شيء من العوارض سوى أنها كانت متعلقة بأبدان فإن كفى هذا القدر في وقوع التمايز فليكف أيضا كونها بحيث يحدث لها بعد التعلق بأبدان متمايزة ، قولهم : لم لا يجوز أن تكون قبل واحدة فتكسرت ، قلنا : لا يجوز لأن كل ما انقسم وجوب أن يكون جزؤه مخالفا لكله ضرورة أن الشيء مع غيره ليس هو لا مع غيره فتلك المخالفة إن كانت بالماهية أو لوازمها وجب أن يكون كل واحد من الأجزاء مخالفا للآخر بالماهية فتكون تلك الأجزاء قد كانت متميزة أبدا وكانت موجودة قبل التعلق.
فهذه الأمور المتعلقة الآن بالأبدان كانت متميزة قبل التعلق بها وإن كانت المخالفة لا بالماهية ولا بلوازمها فلا بد أن يكون الجزء أصغر مقدارا من الكل وإلا لم يكن أحدهما أولى بأن يكون جزء الآخر من العكس ، فثبت أن كل واحد قابل للانقسام فلا بد أن يكون ذا مقدار. سلمنا أن المجرد لا يمكن أن ينقسم بعد وحدته لكن تعينات تلك الأجزاء إنما تحدث بعد الانقسام الحاصل بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحد من تلك الأجزاء بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحدة من تلك النفوس من حيث هي حادثا وهو المطلوب.
وقولهم : لم قلتم إن الامتياز لا يوجد إلا عند عند الاختصاص بوصف ، قلنا : يجاب بنحو ما ذكروه في تشخص التشخص ، وقولهم لم قلتم : إن النفوس لا يجوز أن تتمايز بالصفات المقومة؟ قلنا : هب أن الأمر كما قلتموه إلا أنا لا نعرف بالبديهة أن كل نوع من أنواعها فإنها مقولة على أشخاص عدة بالضرورة فإنا نعلم أنه ليس يجب أن يكون كل إنسان مخالفا لجميع الناس في الماهية ، وإذا وجد في كل نوع من أنواعها شخص فقد تمت الحجة.
وقولهم : إن هذه الحجة مبنية على إبطال التناسخ. قلنا : ليس كذلك. لأنا إذا وجدنا من النوع الواحد شخصين علمنا أن تلك الشخصية ليست معلولة لتلك الماهية لأن كل ما كان كذلك كان نوعه في شخصه ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن شخصيته ليست من لوازم ماهيته فهي إذن لعلة خارجية ، وقد عرفت أن العلة هي المادة ومادة النفس هي البدن فإذن تعينها لا بد وأن يكون للتعلق ببدن معين فتكون لا محالة غير متعينة قبل ذلك البدن فهي معدومة قبله.
وبهذا يظهر أن كل ما نوعه مقول على كثيرين بالفعل فهو محدث ، فاتضح من هذا أنه متى سلم كون النفوس متحدة في النوع يلزم حدوثها وأنه لا يحتاج في ذلك إلى إبطال التناسخ ليجيء الدور السابق. قولهم : لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض إلخ؟ قلنا : لا يجوز أن يكون امتيازها بذلك لأن النفس المعينة عن غيرها حكم معين لا بد له من علة معينة ، وتلك العلة لا يمكن أن تكون حالة فيها لأن ذلك متوقف على امتيازها عن غيرها فلو توقف ذلك الامتياز على حلول ذلك الحال لزم الدور ، فإذن تلك العلة أمر عائد إلى القابل وقبل البدن لا قابل فلا تميز. والمتكلمون يبطلون مثل ما ذكر بلزوم التسلسل الذي يبطله برهان التطبيق.
وأما المعارضة فالجواب عنها بأن النفوس الهيولانية يتميز بعضها عن البعض أولا بسبب تعلقها بالقابل المعين ثم إنه يلزم من تعين كل واحد منها شعورها بذاتها الخاصة وقد بين أن شعور الشيء بذاته حالة زائدة على ذاته ثم إن ذلك الشعور يستمر فلا جرم يبقى الامتياز.
والحاصل أن الامتياز لا بد وأن يحصل أولا بسبب آخر حتى يحصل لكل من النفوس شعور بذاته الخاص

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 288
وذلك السبب في النفوس الهيولانية تعلقها بالأبدان ، وأما التي قبل الأبدان فلو تميزت لكان المميز سوى الشعور حتى يترتب هو عليه ، وقد بين أنه ليس هناك مميز فلا جرم استحال حصول التميز وظهر الفرق واللّه تعالى الموفق.
وقد استدل صاحب المعتبر على حدوثها بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان لكانت إما متعلقة بأبدان أخر أو لا والأول باطل لأنه قول بالتناسخ وهو باطل لأن أنفسنا لو كانت من قبل في بدن آخر لكنا نعلم الآن شيئا من الأحوال الماضية ونتذكر ذلك البدن وليس فليس ، والثاني كذلك لأنها تكون حينئذ معطلة ولا معطل في الطبيعة وهو دليل بجميع مقدماته ضعيف جدا فلا تعتبره ، وزعم قوم من قدماء الفلاسفة قدمها وأوردوا لذلك أمورا.
الأول : أن كل ما يحدث فلا بد أن يكون له مادة تكون سببا لأن يصير أولى بالوجود بعد أن كان أولى بالعدم فلو كانت النفوس حادثة لكانت مادية وليس فليس. الثاني أنها لو كانت حادثة لكان حدوثها لحدوث الأبدان لكن الأبدان الماضية غير متناهية فالنفوس الآن غير متناهية لكن ذلك محال لكونها قابلة للزيادة والنقصان والقابل لهما متناه فهي الآن متناهية ، فإذن ليس حدوث الأبدان علة لحدوثها فلا يتوقف صدورها عن عللها على حدوث أمر فتكون قديمة.
الثالث : أنها لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية لما ثبت أن كل كائن فاسد لكنها أبدية إجماعا فهي أزلية ، ويرد عليهم أنه إن أريد بكونها مادية أن حدوثها يكون متوقفا على حدوث البدن فالأمر كذلك ، وإن أريد به أنها تكون منطبعة في البدن فلم قلتم : إنه لو توقف حدوثها على حدوث البدن وجب أن تكون منطبعة فيه ، وأيضا للمانع أن يمنع فساد لزوم كون النفوس الآن غير متناهية ، والمقدمة القائلة إن كل قابل للزيادة والنقصان متناه ليست من الأوليات قطعا كما هو ظاهر فإذن لا تصح إلا ببرهان وهو لا يتقرر إلا فيما يحتمل الانطباق على ما بين في محله ، وقولهم : لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية قضية لا حجة لهم على تصحيحها فلا تقبل ، ثم إن كون النفوس متحدة بالنوع مما قد صرح به جماعة من المتكلمين كالغزالي وغيره ، وإليه ذهب الشيخ من الفلاسفة إلا أنه لم يأت لذلك بشبهة فضلا عن حجة واستدل غيره بأمور :
الأول : أن النفوس مشتركة في أنها نفوس بشرية فلو انفصل بعضها عن بعض بمقوم ذاتي مع هذا الاشتراك لزم التركيب فكانت جسمانية.
الثاني : أنا نرى الناس مشتركين في صحة العلم بالمعلومات ، وفي صحة التخلق بالأخلاق فالنفوس متساوية في صحة اتصافها بالأفعال الإدراكية والتحريكية ، وذلك يوجب أن تكون متساوية مطلقا لأنا لا نعقل من صفاتها إلا كونها مدركة ومتحركة بالإرادة وهي متساوية فيهما فهي إذن متساوية في جميع صفاتها المعقولة فلو اختلفت بعد ذلك لكان اختلافها في صفات غير معقولة ، ولو فتحنا هذا الباب لزم تعذر الحكم بتماثل شيئين لجواز اختلافهما في غير معقول عندنا وذلك يؤدي إلى القدح في تماثل المتماثلات.
الثالث : أنه بين في محله أن كل ماهية مجردة لا بد وأن تكون عاقلة لحقيقة ذاتها لكن نفس زيد مثلا مجردة فهي عاقلة لذلك ثم إنها لا تعقل إلا ماهية قوية على الإدراك والتحريك فإذن ماهيته هذا القدر وهو مشترك بينه وبين سائر النفوس بالأدلة التي ذكروها في بيان أن الوجود مشترك فيكون حينئذ تمام ماهيته مقولا على سائر النفوس ، ويمتنع أن يكون هذا المشترك فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره «1» فلا يحتاج في
___________
(1) قوله فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره هكذا بخطه اه.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 289
غيره أيضا إلى فصل فإن الطبيعة الواحدة لا تكون محتاجة غنية معا ، فثبت الاتفاق في النوع وهي أدلة واهية.
أما الأول فلقائل أن يقول : لم لا يجوز أن هذه النفوس وإن كانت مختلفة بالنوع فهي غير متشاركة في الجنس فلا يلزم من ذلك الاختلاف كونها مركبة؟ والاشتراك في كونها نفوسا بشرية ونحوه يجوز أن يكون اشتراكا في أمور لازمة لجوهرها ولا تكون مقومة لها فتكون مختلفة في تمام ماهياتها ، ومشتركة في اللوازم الخارجية مثل اشتراك الفصول المقومة لأنواع جنس واحد في ذلك الجنس فلا يلزم التركيب ، ولو سلمنا أن هذه الأوصاف ذاتية فلم لا يجوز أن تكون النفوس مركبة في ماهياتها مع عدم كونها جسمانية فالسواد والبياض مثلا مندرجان تحت جنس وهو اللون فيكون كل منهما مركبا لا تركيبا جسمانيا ، ومثل هذا يقال هنا كيف لا وقد قالوا : الجوهر مقول على النفس والجسم.
وأما الثاني فمداره الاستقراء ، ويضعف ذلك لوجهين : أحدهما : أنه لا يمكننا أن نحكم على كل إنسان بكونه قابلا لجميع المدركات. وثانيهما أنه لا يمكننا أن نحكم على النفس التي علمنا قبولها لصفة أنها قابلة لجميع الصفات كيف وضبط الصفات غير ممكن.
وأما الثالث : فهو يقتضي أن يكون جميع المفارقات نوعا واحدا وهو مما لا سبيل إليه ، وذهب شرذمة إلى اختلافها بالنوع ، وهذا المعتبر عند صاحب المعتبر وطول الكلام في ذلك ، وأحسن ما عول عليه في الاستدلال له اختلاف الناس في العلم والجهل والقوة والضعف والغضب والتحمل وغير ذلك فقال : ليس ذلك لاختلاف المزاج لما أنا نجد متساويين مزاجا مختلفين أخلاقا وبالعكس ، وأيضا أن نفس النبي عليه الصلاة والسلام تبلغ قوتها إلى حيث تكون قوية على التصرف في هيولى هذا العالم ومعلوم أن ذلك ليس لقوة مزاجه فليس ذلك الاختلاف إلا لاختلاف الجواهر ، وأنت تعلم أن هذا ليس في الحقيقة من البراهين بل هو من الإقناعات الضعيفة فتدبر جميع ما ذكرناه وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تتمة للكلام في هذا المقام وهو لعمر اللّه تعالى طويل الذيل ، وبالجملة أن الوقوف على حقيقة الروح أمر عسر والطريق إليه وعر ، وقد جعل اللّه سبحانه ذلك من أعظم آياته الدالة على جلال ذاته وكمال صفاته فسبحانه من إله ما أجله ومن رب ما أكمله.
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمر للملائكة عليهم السلام بالسجود لآدم عليه السلام على وجه التحية والتعظيم أو للّه تعالى وهو عليه السلام بمنزلة القبلة حيث ظهرت فيه تعاجيب آثار قدرته عزّ وجلّ كقول حسان :
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وفي أمرهم بالوقوع أي السقوط دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل بل السجود بالمعنى المتبادر.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ أي فخلقه فسواه فنفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة كُلُّهُمْ بحيث لم يشذ منهم أحد أَجْمَعُونَ بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد بل أوقعوا الفعل مجتمعين في وقت واحد ، هذا على ما ذهب إليه الفراء والمبرد من دلالة أجمعين على الاجتماع في وقت الفعل ، وقال البصريون : إنها ككل لإفادة العموم مطلقا.
ومن هنا منع تعاطفهما فلا يقال جاء القوم كلهم وأجمعون وردوا على ذلك بقوله تعالى حكاية عن إبليس :
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص : 82] لظهور أن لا اجتماع هناك. ورده في الكشف بأن الاشتقاق من الجمع يقتضيه لأنه ينصرف إلى أكمل الأحوال فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر وهو كل لم يكن بد من كونه في وقت واحد وإلا كان لغوا ، والرد بالآية منشؤه عدم تصور وجه الدلالة ، ومنه يعلم وجه فساد النظر بأنه لو كان الأمر كذلك لكان حالا لا

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 290
تأكيدا ، فالحق في المسألة مع الفراء والمبرد وذلك هو الموافق لبلاغة التنزيل ، وزعم البصريون أنه إنما أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص.
وزعم غير واحد أنه لا يؤكد بأجمع دون كل اختيارا والمختار وفاقا لأبي حيان جوازه لكثرة وروده في الفصيح ففي القرآن عدة آيات من ذلك وفي الصحيح «فله سلبه أجمع. فصلوا جلوسا أجمعون»
ولعل منشأ الزعم وجوب تقديم كل عند الاجتماع ، ويرده أن النفس يجب تقديمها على العين إذا اجتمعا مع جواز التأكيد بالعين على الانفراد ، وما ذكروه من وجوب تقديم كل إنما هو بناء على ما علمت من الحق لرعاية البساطة والتركيب هذا. ثم إنه قد تقدم الكلام في تحقيق أن سجدوهم هذا هل ترتب على ما حكي من الأمر التعليقي كما يقتضيه هذه الآية الكريمة أو على الأمر التنجيزي كما يستدعيه بعض الآيات فتذكر.
إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل إما لأنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة فعد منهم تغليبا وإما لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم جن وهو منهم وإما لأنه ملك لا جني ، وقوله تعالى : كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف :
50] مؤول كما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى ، وقوله سبحانه : أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء بناء على أنه من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وهو الذي تميل إليه النفس فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الإباء والاستكبار ، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فجملة أَبى إلخ متصلة بما قبلها ، ووجه ذلك بأن إلا بمعنى لكن وإبليس اسمها ، والجملة خبرها كذا قيل : وفي الهمع أن البصريين يقدرون المنقطع بلكن المشددة ويقولون : إنما يقدر بذلك لأنه في حكم جملة منفصلة عن الأولى فقولك : ما في الدار أحد إلا حمارا في تقدير لكن فيها حمارا على أنه استدراك يخالف ما بعد لكن فيها ما قبلها غير أنهم اتسعوا فأجروا إلا مجرى لكن لكن لما كانت لا يقع بعدها إلا المفرد بخلاف لكن فإنه لا يقع بعدها إلا كلام تام لقبوه بالاستثناء تشبيها بها إذا كانت استثناء حقيقة وتفريقا بينها وبين لكن ، والكوفيون يقدرونه بسوى ، وقال قوم منهم ابن يسعون : إلا مع الاسم الواقع بعدها في المنقطع يكون كلاما مستأنفا ، وقال في قوله : وما بالربع من أحد إلا الاواري - إلا فيه بمعنى لكن الاواري اسم لها منصوب بها والخبر محذوف كأنه قال : لكن الأواري بالربع وحذف خبر إلا كما حذف خبر لكن في قوله ولكن زنجيا عظيم المشافر. اه.
والظاهر منه أن البصريين وإن قدروه بلكن لا يعربونه هذا الإعراب فهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، ولعل التوجيه السابق مبني على مذهب ابن يسعون إلا أنه لم يصرح فيه بورود الخبر مصرحا به ، نعم صرح بعضهم بذلك وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تتمة لهذا المبحث في هذه السورة فافهم ، ووجه الانقطاع ظاهر لأن المشهور أنه ليس من جنس الملائكة عليهم السلام ، والانقطاع - على ما قال غير واحد - يتحقق بعدم دخوله في المستثنى منه أو في حكمه ، وما قيل : إنه حينئذ لا يكون مأمورا بالسجود فلا يلزم والاعتذار عنه بأن الجن كانوا مأمورين أيضا واستغني بذكر الملائكة عليهم السلام عنهم وأنه معنى الانقطاع وتوجه اللوم من ضيق العطن. قالَ استئناف مبني على سؤال من قال : فماذا قال الرب تعالى عند إبائه؟ فقيل قال سبحانه : يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أي أي سبب لك كما يقتضيه الجواب ، وقوله تعالى : ما منعك أَلَّا تَكُونَ أي في أن لا تكون مَعَ السَّاجِدِينَ لما خلقت مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم ، وكأن في صيغة الاستقبال إيماء إلى مزيد قبح حاله ، ولعل التوبيخ ليس لمجرد تخلفه عن أولئك الكرام بل لأمور حكيت متفرقة إشعارا بأن كلّا منها كاف في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وشناعته ، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في غير سورة اكتفاء بحكايتها في موضع آخر ، والظاهر أن قول اللّه تعالى له ذلك لم يكن بواسطة وهو

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 291
منصب عال إذا كان على سبيل الإعظام والإجلال دون الإهانة والإذلال كما لا يخفى. قالَ استئناف على نحو ما تقدم لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني أن أسجد لِبَشَرٍ جسماني كثيف خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ إشارة إجمالية إلى ادعاء خيريته وشرف مادته ، وقد نقل عنه لعنه اللّه تعالى التصريح بذلك في آية أخرى ، وقد عنى اللعين بهذا الوصف بيان مزيد خسة أصل من لم يسجد له وحاشاه وقد اكتفى في غير موضع بحكاية بعض ما زعمه موجبا للخسة ، وفي عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصي عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قيل : لم أمتنع عن الانتظام في سلك الساجدين بل عما لا يليق بشأني من السجود للمفضول ، وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل وباعتبار الصورة وباعتبار الغاية بل إن ملاك الفضل والكمال هو التخلي عن الملكات الردية والتحلي بالمعارف الربانية :
فشمال والكأس فيها يمين ويمين لا كاس فيها شمال
وللّه تعالى در من قال :
كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك مضمونه عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
على أن فيما زعمه من فضل النار على التراب منعا ظاهرا وقد تقدم الكلام في ذلك. قالَ استئناف كما تقدم أيضا فَاخْرُجْ مِنْها قيل : الظاهر أن الضمير للسماء وإن لم يجر لها ذكر ، وأيد بظاهر قوله تعالى : فَاهْبِطْ مِنْها [الأعراف : 13] وقيل لزمرة الملائكة عليهم السلام ويلزم خروجه من السماء إذ كونه بانزوائه عنهم في جانب لا يعد خروجا في المتبادر وكفى به قرينة ، وقيل : للجنة لقوله تعالى : اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة : 35 ، الأعراف : 19] ولوقوع الوسوسة فيها ورد بأن وقوعها كان بعد الأمر بالخروج فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة فالكلام من باب الكناية ، وقيل : أي شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد بالرجم بها ، وقد تضمن هذا الكلام الجواب عن شبهته حيث تضمن سوء حاله ، فكأنه قيل : إن المانع لك عن السجود شقاوتك وسوء خاتمتك وبعدك عن الخير لا شرف عنصرك الذي تزعمه ، وقيل : تضمنه ذلك لأنه علم منه أن الشرف بتشريف اللّه تعالى وتكريمه فبطل ما زعمه من رجحانه إذ أبعده اللّه تعالى وأهانه وقرب آدم عليه الصلاة والسلام وكرمه ، وقيل :
تضمنه للجواب بالسكوت كما قيل : جواب ما لا يرتضي السكوت ، وفي تفسير الرجيم بالمرجوم بالشهب إشارة لطيفة إلى أن اللعين لما افتخر بالنار عذب بها في الدنيا فهو كعابد النار يهواها وتحرقه. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ الإبعاد على سبيل السخط وذلك من اللّه تعالى في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول فيضه تعالى وتوفيقه سبحانه ، ومن الإنسان دعاء بذلك والظاهر أن المراد لعنة اللّه تعالى لقوله سبحانه : وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي [ص : 78] إِلى يَوْمِ الدِّينِ إلى يوم الجزاء ، وفيه إشعار بتأخير جزائه إليه وإن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ ، وفيه من التهويل ما فيه ، وجعل ذلك غاية أمد اللعنة قيل ليس لأنها تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذب بما ينسى به اللعنة من أفانين العذاب فتصير هي كالزائل ، وقيل : إنما غيا بذلك لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم فهو نظير قوله تعالى : خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود : 107 ، 108] على قول.
وقال بعضهم : إن المراد باللعنة لعن الخلائق له لعنة اللّه تعالى عليه وذلك منقطع إذا نفخ في الصور وجاء يوم الدين دون لعن اللّه تعالى له وإبعاده إياه فإنه متصل إلى الأبد. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي امهلني وأخرني ولا تمتني والفاء متعلقة بمحذوف مفهوم من الكلام أي إذ جعلتني رجيما فامهلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي آدم عليه السلام وذريته

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 292
للجزاء وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره ، قيل : ولينجو من الموت إذ لا موت بعد البعث وهو المروي عن ابن عباس والسدي ، وكأنه عليه اللعنة طلب تأخير موته لذلك ولم يكتف بما أشار إليه سبحانه في التغيي من التأخير لما أنه يمكن كون تأخير العقوبة كسائر من أخرت عقوباتهم إلى الآخرة من الكفرة.
قالَ الرب سبحانه فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من جملتهم ومنتظم في سلكهم قال بعض الأجلة : إن في ورود الجواب جملة اسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم في ذلك دليلا على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم لا لإنشاء إنظار خاص به وقع إجابة لدعائه أي أنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين ، فالفاء لربط الإخبار بالإنظار بالاستنظار كما في قوله :
فإن ترحم فأنت لذاك أهل وإن تطرد فمن يرحم سواكا
لا لربط نفس الإنظار به وأن استنظاره لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ، ونظمه في سلك من أخرت عقوبتهم إلى الآخرة في علم اللّه تعالى ممن سبق من الجن ولحق من الثقلين لا يلائم مقام الاستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخير معلوم من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث انتهى ، وقيل :
إن الفاء متعلقة كالفاء الأولى بمحذوف والكلام إجابة له في الجملة أي إذ دعوتني فإنك من المنظرين إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وقت النفخة الأولى كما روي عن ابن عباس ، وعليه الجمهور.
ووصفه بالمعلوم إما على معنى أن اللّه تعالى استأثر بعلمه أو على معنى معلوم حاله وأنه يصعق فيه من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء اللّه تعالى ، وقال آخرون : إنه عليه اللعنة أعطي مسؤوله كملا وليس إلا البقاء إلى وقت النفخة الأولى وهو آخر أيام التكليف والوقت المشارف للشيء المتصل به محدود منه فأول يوم الدين وأول يوم البعث كأنه من ذلك الوقت ، واستظهر ذلك بأن الملعون عالم فلا يسأل ما يعلم أنه لا يجاب إليه وبأن ما في الأعراف لعدم ذكر الغاية فيه يدل على الإجابة واعترض على الأول بأنه غير بين ولا مبين وكونه على غالب الظن لا يجدي في مثله ، وعلى الثاني بأن ترك الغاية في سورة الأعراف يحتمل أن يكون كترك الفاء في الاستنظار والانظار تعويلا على ما ذكر هاهنا وفي سورة ص فإن إيراد كلام واحد على أساليب متعددة غير عزيز في الكتاب العزيز.
ومن الناس القائلين بالمغايرة من قال : إن المراد باليوم المعلوم اليوم الذي علم اللّه تعالى فيه انقضاء أجله وهو يوم خروج الدابة فإنها هي التي تقتله ، وقد قدمنا نقل هذا القول عن بعض السلف وهو من الغرابة بمكان ، وأغرب منه ما قيل : إنه هلك في بعض غزواته صلى اللّه عليه وسلم ، وقد ذكرنا قبل أن هذا مما لا يكاد يقبل بظاهره أصلا ، والمشهور المعول عليه عند الجمهور هو ما ذكرناه من أنه يموت عند النفخة الأولى وبينها وبين النفخة الثانية التي يقوم فيها الخلق لرب العالمين أربعون سنة ، ونقل عن الأحنف ابن قيس عليه الرحمة أنه قال : قدمت المدينة أريد أمير المؤمنين كرم اللّه تعالى وجهه فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها يحدث وهو يقول : لما حضر آدم عليه السلام الوفاة قال : يا رب سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا وهو منتظر إلى يوم القيامة فأجيب أن يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين ، ثم قال لملك الموت : صف لي كيف تذيقه الموت؟ فلما وصفه قال : يا رب حسبي فضج الناس وقالوا : يا أبا إسحاق كيف ذلك؟ فأبى وألحوا فقال : يقول اللّه سبحانه لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السموات وأهل الأرضين السبع وإني اليوم ألبستك أثواب السخط والغضب كلها فابرز بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس فأذقه الموت واحمل عليه فيه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين أضعافا مضاعفة وليكن معك من الزبانية سبعون ألفا قد امتلؤوا غيظا وغضبا وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 293
وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكا ليفتح أبواب النيران فينزل الملك بصورة لو نظر إليها أهل السموات والأرضين لماتوا بغتة من هولها فينتهي إلى إبليس فيقول : قف لي يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرن أضللت وهذا هو الوقت المعلوم قال : فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو به بين عينيه فيغوص البحار فيثير منها البخار فلا تقبله فلا يزال يهرب في الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم عليه السلام ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه السلام وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب فيبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء اللّه تعالى ، ويقال : آدم وحواء عليهما السلام اطلعا اليوم على عدوكما يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك ، وجاء في بعض الأخبار أنه حين لا يجد مفرا يأتي قبر آدم عليه السلام فيحثو التراب على رأسه وينادي يا آدم أنت أصل بليتي فيقال له : يا إبليس اسجد الآن لآدم عليه السلام فيرتفع عنك ما ترى فيقول : كلا لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا ، وهذا إن صح يدل على أن اللعين من العناد بمكان لا تصل إلى غايته الأذهان.
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي بسبب إغوائك إياي لَأُزَيِّنَنَّ أي أقسم لأزينن لَهُمْ أي لذريته وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر له ذكر ، وقد جاء مصرحا به في قوله تعالى حكاية عن اللعين أيضا : لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الإسراء :
62] ومفعول لَأُزَيِّنَنَّ محذوف أي المعاصي فِي الْأَرْضِ أي هذا الجرم المدحو وكأن اللعين أشار بذلك إلى أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة في السماء فأنا على التزيين لذريته في الأرض أقدر ، ويجوز أنه أراد بالأرض الدنيا لأنها محل متاعها ودارها ، وذكر أن هذا المعنى عرفي للأرض وأنها إنما ذكرت بهذا اللفظ تحقيرا لها ، ولعل التقييد على ما قيل للإشارة إلى أن للتزيين محلّا يقوي قبوله أي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور ، وجوز أن يكون يراد بها هذا المعنى وينزل الفعل منزلة اللازم ثم يعدى بفي ، وفي ذلك دلالة على أنها مستقر التزيين وأنه تمكن المظروف في ظرفه ، ونحوه قول ذي الرمة :
فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
والمعنى لأحسنن الدنيا وأزيننها لهم حتى يشتغلوا بها عن الآخرة ، وجوز جعل الباء للقسم و«ما» مصدرية أيضا أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن ، وإقسامه بعزة اللّه تعالى المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بهذا وأخرى بذاك ، وزعم بعضهم أن السببية أولى لأنه وقع في مكان آخر فَبِعِزَّتِكَ [ص : 82] والقصة واحدة والحمل على محاورتين لا موجب له ولأن القسم بالإغواء غير متعارف انتهى ، وفيه نظر ظاهر فإن قوله : فَبِعِزَّتِكَ يحتمل القسمية أيضا ، وقد صرح الطيبي بأن مذهب الشافعية أن القسم بالعزة والجلال يمين شرعا فالآية على الزاعم لا له. نعم إن دعواه عدم تعارف القسم بالإغواء مسلمة وهو عندي يكفي لأولوية السببية ولعدم التعارف مع عدم الإشعار بالتعظيم لا يعد القسم بها يمينا شرعا فإن القائلين بانعقاد القسم بصفة له تعالى يشترطون أن تشعر بتعظيم ويتعارف مثلها ، وفي نسبة الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه سبحانه قول بأن الشر كالخير من اللّه عزّ وجلّ ، وأول المعتزلة ذلك وقالوا : المراد النسبة إلى الغي كفسقته نسبته إلى الفسق لا فعلته أو أن المراد فعل به فعلا حسنا أفضى به لخبثه إلى الغي حيث أمره سبحانه بالسجود فأبى واستكبر أو أضله عن طريق الجنة وترك هدايته واللطف به واعتذروا عن إنظار اللّه تعالى إياه مع أنه مفض إلى الإغواء القبيح بأنه تعالى قد علم منه

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 294
وممن اتبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أنظر أم لم ينظر وأن في إنظاره تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب.
وأنت تعلم أن في إنظار إبليس عليه اللعنة وتمكينه من الإغواء وتسليطه على أكثر بني آدم ما يأبى القول وجوب رعاية الأصلح المشهور عن المعتزلة ، وأيضا من زعم أن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق أو اللسع فقد خرج عن الفطرة البشرية.
فحينئذ الذي تحكم به الفطرة أن اللّه تعالى أراد بالإنظار إضلال بعض الناس فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وتمسك بعض المعتزلة في تأويل ما تقدم بقوله : وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ حيث أفاد أن الإغواء فعله فلا ينبغي أن ينسب إلى اللّه تعالى ، وأجيب بأن المراد به هنا الحمل على الغواية لا إيجادها وتأويل اللاحق للسابق أولى من العكس ، وبالجملة ضعف الاستدلال ظاهر فلا يصلح ذلك متمسكا لهم أَجْمَعِينَ أي كلهم فهو لمجرد الإحاطة هنا.
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ بفتح اللام وهو قراءة الكوفيين ونافع والحسن والأعرج أي الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من كل ما ينافي ذلك ، وكان الظاهر وإن منهم من لا أغويه مثلا ، وعدل عنه إلى ما ذكر لكون الإخلاص والتمحض للّه تعالى يستلزم ذلك فيكون من ذكر السبب وإرادة مسببه ولازمه على طريق الكناية وفيه إثبات الشيء بدليله فهو من التصريح به ، وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي الذين أخلصوا العمل لك ولم يشركوا معك فيه أحدا.
قالَ اللّه سبحانه وتعالى : هذا صِراطٌ عَلَيَّ أي حق لا بد أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره ، والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه وكلمة عَلَيَّ تستعمل للوجوب والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الإصلاح عليه تعالى ، وقال أهل السنة : إن ذلك وإن كان تفضلا منه سبحانه إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه بمقتضى وعده جل وعلا فجي ء - بعلي - لذلك أو إلى ما تضمنه الْمُخْلَصِينَ بالكسر من الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدي إلى الوصول إلي من غير اعوجاج وضلال وهو على نحو طريقك علي إذا انتهى المرور عليه ، وإيثار حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء لتأكيد الاستقامة والشهادة باستعلاء من ثبت عليه فهو أدل على التمكن من الوصول ، وهو تمثيل فلا استعلاء لشيء عليه سبحانه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، وليست عَلَيَّ فيه بمعنى إلي. نعم أخرج ابن جرير عن الحسن أنه فسرها بها ، وأخرج عن زياد بن أبي مريم وعبد اللّه بن كثير أنهما قرآ «هذا صراط مستقيم» وقالا : «علي» هي إلي وبمنزلتها والأمر في ذلك سهل ، وهي متعلقة بيمر مقدرا وصِراطٌ متضمن له فيتعلق به.
وقال بعضهم : الإشارة إلى انقسامهم إلى قسمين أي ذلك الانقسام إلى غاو وغيره أمر مصيره إلي وليس ذلك لك ، والعرب تقول : طريقك في هذا الأمر على فلان على معنى إليه يصير النظر في أمرك ، وعن مجاهد وقتادة أن هذا تهديد للعين كما تقول لغيرك افعل ما شئت فطريقك علي أي لا تفوتني ، ومثله على ما قال الطبرسي قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر : 14] والمشار على هذا إليه ما أقسم مع التأكيد عليه ، وأظهر هذه الأوجه على ما قيل هو الأول ، واختار في البحر كونها إلى الإخلاص ، وقيل : الأظهر أن الإشارة لما وقع في عبارة إبليس عليه اللعنة حيث قال :
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الأعراف : 16] إلخ ، ولا أدري ما وجه كونه أظهر.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 295
وقرأ الضحاك وإبراهيم وأبو رجاء وابن سيرين ومجاهد وقتادة وحميد وأبو شرف مولى كندة ويعقوب ، وخلق كثير «عليّ مستقيم» برفع «عليّ» وتنوينه أي عال لارتفاع شأنه إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي تسلط وتصرف بالإغواء والمراد بالعباد المشار إليهم بالمخلصين فالإضافة للعهد ، والاستثناء على هذا في قوله تعالى : إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ منقطع واختار ذلك غير واحد ، واستدل عليه بسقوط الاستثناء في الإسراء ، وجوز أن يكون المراد بالعباد العموم والاستثناء متصل والكلام كالتقرير لقوله : إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ولذا لم يعطف على ما قبله ، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء.
وفي الآية دليل لمن جوز استثناء الأكثر وإلى ذلك ذهب أبو عبيد والسيرافي وأكثر الكوفية ، واختاره ابن خروف والشلوبين وابن مالك وأجاز هؤلاء أيضا استثناء النصف ، وذهب بعض البصرية إلى أنه لا يجوز كون المستثنى قدر نصف المستثنى منه أو أكثر ويتعين كونه أقل من النصف واختاره ابن عصفور والآمدي وإليه ذهب أبو بكر الباقلاني من الأصوليين ، وذهب البعض الآخر من علماء البلدين إلى أنه يجوز أن يكون المخرج النصف فما دونه ولا يجوز أن يكون أكثر وإليه ذهب الحنابلة ، واتفق النحويون كما قال أبو حيان وكذا الأصوليون عند الإمام والآمدي خلافا لما اقتضاه نقل القرافي عن المدخل لابن طلحة على أنه لا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقا للمستثنى منه ، ومن الغريب نقل ابن مالك عن الفراء جواز له على ألف إلا ألفين ، وقيل : إن كان المستثنى منه عددا صريحا يمتنع فيه استثناء النصف والأكثر وإن كان غير صريح لا يمتنعان ، وتحقيق هذه المسألة في الأصول ، والمذكور في بعض كتب العربية عن أبي حيان أنه قال : المستقرأ من كلام العرب إنما هو استثناء الأقل وجميع ما استدل به على خلافه محتمل التأويل وأنت تعلم أن الآية تدفع مع ما تقدم قول من شرط الأقل لما يلزم عليه من الفساد لأن استثناء الغاوين هنا يستلزم على ذلك أن يكونوا أقل من المخلصين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من جنس العباد ، واستثناء المخلصين هناك يستلزم أن يكونوا أقل من الغاوين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من ذلك فيكون كل من المخلصين والغاوين أقل من نفسه وهو كما ترى.
وأجاب بعضهم بأن المستثنى منه هنا جنس العباد الشامل للمكلفين وغيرهم ممن مات قبل أن يكلف ولا شك أن الغاوين أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء وهم المخلصون ومن مات غير مكلف والمستثنى منه هناك المكلفون إذ هم الذين يعقل حملهم على الغواية والضلال إذ غير المكلف لا يوصف فعله بذلك والمخلصون أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء أيضا ولا محذور في ذلك ، وذكر بعضهم أن الكثرة والقلة الادعائيتين تكفيان لصحة الشرط فقد ذكر السكاكي في آخر قسم الاستدلال وكذا لا تقول لفلان علي ألف إلا تسعمائة وتسعين إلا وأنت تنزل ذلك الواحد منزلة الألف بجهة من الجهات الخطابية مع أنه ممن يشترط كون المستثنى أقل من الباقي اه ، وظاهر كلام الأصوليين ينافيه ، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا على تقدير إرادة الجنس أيضا ويكون الكلام تكذيبا للملعون فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده سبحانه فإن منتهى قدرته أن يغرهم ولا يقدر على جبرهم على اتباعه كما قال :
وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم : 22].
فحاصل المعنى أن من اتبعك ليس لك عليهم سلطان وقهر بل أطاعوك في الإغواء واتبعوك لسوء اختيارهم ولا يضر في الانقطاع دخول الغاوين في العباد بناء على ما قالوا من أن المعتبر في الاتصال والانقطاع الحكم ، ويفهم كلام البعض أنه يجوز أن تكون الآية تصديقا له عليه اللعنة في صريح الاستثناء وتكذيبا في جعل الإخلاص علة للخلاص حسبما يشير إليه كلامه فإن الصبيان والمجانين خلصوا من إغوائه مع فقد هذه العلة.
ومَنِ على جميع الأوجه المذكورة لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون. واستدل الجبائي بنفي أن يكون له

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 296
سلطان على العباد على رد قول من يقول : إن الشيطان يمكنه صرع الناس وإزالة عقولهم ، وقد تقدم الكلام في إنكار المعتزلة تخبط الشيطان والرد عليهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الضمير لمن اتبع أو للغاوين ورجح الثاني بالقرب وظهور ملاءمته للضمير ، والأول بأن اعتباره أدخل في الزجر عن اتباعه مع أن الثاني جيء به لبيانه وأَجْمَعِينَ توكيد للضمير ، وجوز أن يكون حالا منه ويجعل على هذا الموعد مصدرا ميميا ليتحقق شرط مجيء الحال من المضاف إليه وهو كون المضاف مما يعمل عمل الفعل فإنهم اشترطوا ذلك أو كون المضاف جزء المضاف إليه أو كجزئه على ما ذكره ابن مالك وغيره ليتحد عامل الحال وصاحبها حقيقة أو حكما لكن يقدر حينئذ مضاف قبله لأن جهنم ليست عين الموعد بل محله فيقدر محل وعدهم أو مكانه ، وليس بتأويل اسم المفعول كما وهم ، وجوز أن يكون الموعد اسم مكان ، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير المضاف إلا أن في جواز الحالية بحثا لأن اسم المكان لا يعمل عمل فعله كما حقق في النحو ، وكون العامل معنى الإضافة وهو الاختصاص على القول بأنه الجار للمضاف إليه غير مقبول عند المحققين لأن ذلك من المعاني التي لا تنصب الحال ، ولا يخفى ما في جعل جهنم موعدا لهم من التهكم والاستعارة فكأنهم كانوا على ميعاد ، وفيه أيضا إشارة إلى أن ما أعد لهم فيها مما لا يوصف في الفظاعة لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ أي سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والمتابعة روي ذلك عن عكرمة وقتادة ، وأخرج أحمد في الزهد والبيهقي في البعث وغيرهما من طرق عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : «أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلها ، وجاء في ترتيبها عن الأعمش وابن جريج وغيرهما غير ذلك ، وذكر السهيلي في كتاب الاعلام أنه وقع في كتب الرقائق أسماء هذه الأبواب ولم ترد في أثر صحيح وظاهر القرآن والحديث يدل على أن منها ما هو من أوصاف النار نحو السعير والجحيم والحطمة والهاوية ومنها ما هو علم للنار كلها نحو جهنم وسقر ولظى فلذا أضربنا عن ذكرها اه ، وأقرب الآثار التي وقفنا عليها إلى الصحة فيما أظن ما روي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه لكثرة مخرجيه ، وتحتاج جميع الآثار إلى التزام أن يقال : إن جهنم تطلق على طبقة مخصوصة كما تطلق على النار كلها ، وقيل : الأبواب على بابها والمراد أن لها سبعة أبواب يدخلونها لكثرتهم والإسراع بتعذيبهم.
والجملة - كما قال أبو البقاء - يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون مستأنفة ولا يجوز أن تكون حالا من جهنم لأن إن لا تعمل في الحال لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الاتباع والغواة جُزْءٌ مَقْسُومٌ فريق معين مفروز من غيره حسبما يقتضيه استعداده ، فباب للموحدين العصاة وباب لليهود وباب للنصارى وباب للصابئين وباب للمجوس وباب للمشركين وباب للمنافقين ، وروي هذا الترتيب في بعض الآثار ، وعن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين العاصين ، وروي غير ذلك ، وبالجملة في تعيين أهلها كترتيبها اختلاف في الروايات.
ولعل حكمة تخصيص هذا العدد انحصار مجامع المهلكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوانية الغضبية أو أن أصول الفرق الداخلين فيها سبعة ، وقرأ ابن القعقاع «جزّ» بتشديد الزاي من غير همز ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ثم وقف بالتشديد ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقرأ ابن وثاب «جزء» بضم الزاي والهمز «ومنهم» حال من «جزء» وجاء من النكرة لتقدمه ووصفها أو حال من ضميره في الجار والمجرور الواقع خبرا له ، ورجح أن فيه سلامة مما في وقوع الحال من المبتدأ ، والتزم بعضهم لذلك كون المرفوع

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 297
فاعلا بالظرف ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في مَقْسُومٌ لأنه صفة جُزْءٌ فلا يصح عمله فيما قبل الموصوف ، وكذا لا يجوز أن يكون صفة بابٍ لأنه يقتضي أن يقال منها ، وتنزيل الأبواب منزلة العقلاء لا وجه له هنا كما لا يخفى واللّه تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه إشارة إلى ذم من كان همه بطنه وتنفيذ شهواته ، قال أبو عثمان : أسوأ الناس حالا من كان همه ذلك فإنه محروم عن الوصول إلى حرم القرب وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ رموه وحاشاه صلى اللّه عليه وسلم بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة والسلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم.
والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من اللّه سبحانه به على أوليائه من الأسرار أن يبادروهم بالإنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات ، ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قال ابن عطاء : أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبيانا للهدى فينتفع به من كان موسوما بالسعادة منورا بتقديس السر عن دنس المخالفة وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ أشار سبحانه إلى سماء الذات وبروج الصفات والجلال فيسير في ذلك القلب والسر والعقل والروح فيحصل للروح التوحيد والتجريد والتفريد وللعقل المعارف والكواشف وللقلب العشق والمحبة والخوف والرجاء والقبض والبسط والعلم والخشية والأنس والانبساط وللسر الفناء والبقاء والسكر والصحو وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إشارة إلى منع كشف جمال صفاته سبحانه وجلال ذاته عزّ وجلّ عن أبصار البطالين والمدعين والمبطلين الزائغين عن الحق إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ اختلس شيئا من سكان هاتيك الحضائر القدسية من الكاملين فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ نار التحير فهلك في بوادي التيه أو صار غولا يضل السائرين السالكين لتحصيل ما ينفعهم ، وقيل الإشارة في ذلك : إنا جعلنا في سماء العقل
بروج المقامات ومراتب العقول من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد وزيناها بالعلوم والمعارف للناظرين المتفكرين وحفظناها من شياطين الأوهام الباطلة إلا من اختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل فأتبعه شهاب البرهان الواضح فطرده وأبطل حكمه اه ولا يخفى ما في تزيين كل مرتبة من مراتب العقول المذكورة بالعلوم والمعارف للمتفكرين من النظر على من تفكر ، وقيل : الإشارة إلى أنه تعالى جعل في سماء القلوب بروج المعارف تسير فيها سيارات الهمم ، وجعلها زينة للناظرين إليها المطلعين عليها من الملائكة والروحانيين وحفظها من الشياطين فلو دنا إبليس أو جنوده من قلب عارف احترق بنور معرفته ورد خاسئا. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلي جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أوليائه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير ، وفي الخبر «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن»
ثم إنه تعالى لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته.

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 298
وقال بعضهم : نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة ، والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة ، والازدهار الأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك ، وقيل : أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكات الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ بالتدابير الجزئية وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم ، قال بعضهم : إن سبب العيش مختلف فعيش المريدين بيمن إقباله تعالى وعيش العارفين بلطف جماله سبحانه وعيش الموحدين بكشف جلاله جل جلاله.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي ما من شيء إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء وَما نُنَزِّلُهُ في عالم الشهادة إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل حسبما يقتضيه استعداده ، قيل : إن الإشارة في ذلك إلى دعوة العباد إلى حقائق التوكل وقطع الأسباب والإعراض عن الأغيار ، ومن هنا قال حمدون : إنه سبحانه قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم ، وكان الجنيد قدس سره إذا قرأ هذه الآية يقول : فأين تذهبون؟ ويقال : خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار ، ومنهم من قال :
النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك وَأَرْسَلْنَا على القلوب الرِّياحَ النفحات الإلهية لَواقِحَ بالحكم والمعارف ، قال ابن عطاء : رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكرم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة باللّه تعالى والاعتماد عليه ، وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقي من حرمها فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي سماء الروح ماءً من العلوم الحقيقية فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وأحييناكم به وَما أَنْتُمْ لَهُ أي لذلك الماء بِخازِنِينَ لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي القلوب بماء العلم والمشاهدة وَنُمِيتُ النفوس بالجد والمجاهدة ، وقيل :
نحيي بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة ، وقيل : نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات ، وقال الواسطي : نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا ، وقال الوراق : نحيي القلوب بنور الإيمان ونميت النفوس باتباع الشيطان وقيل وقيل : وَنَحْنُ الْوارِثُونَ للوجود والباقون بعد الفناء وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وهم المشتاقون الطالبون للتقدم وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الأنس ، ومن هنا قال ابن عطاء : من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناس والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين ، وقيل : المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرين أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والأعراض ، وقيل : الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعو إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة ، وقيل : الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص ، وقيل : غير ذلك وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه ، وسماه بشرا لأنه جل شأنه باشر خلقه بيديه ، ولم يثن سبحانه اليد لأحد إلا له ، وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أضاف سبحانه الروح إلى نفسه تشريفا لها وتعظيما لقدرها لما أنها سر خفي من أسراره جل وعلا ، ولذا قيل : من عرف نفسه عرف ربه ، وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما

روح المعاني ، ج 7 ، ص : 299
تظهر إذ ذاك ، ولذا لما تم الأمر وجلدت «1» النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ لما أعمى اللّه تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه السلام ولم يخطر في باله أيضا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان ، ومن هنا قيل :
لو قال تيها قف على جمر الغضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
وقال بعض أهل الوحدة : إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى ، وقد أخطأ أيضا لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الاثنينية. وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقا فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية ، ومن هنا قال قائلهم :
ما آدم في الكون ما إبليس ما ملك سليمان وما بلقيس
الكل عبارة وأنت المعنى يا من هو للقلوب مغناطيس
وقال الحسين بن منصور :
جحودي لك تقديس وعقلي فيك منهوس «2»
فمن آدم إلاك ومن في البين إبليس
وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الراقع وتفاقم الأمر وما له سوى اللّه تعالى من دافع قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الامتثال وكلما ازداد العبد قربا من ربه ازداد خضوعا وخشوعا وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ لم يرد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافا لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناه.
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي لأزينن لهم الشهوات في الجهة السفلية وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لك واصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون لأحد سواك ، وفيه من مدح الإخلاص ما فيه ، و
في الخبر «العالم هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر»
أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته.
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ أي الذين يناسبونك في الغواية والبعد وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار.
أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال : كانت للأنبياء عليهم السلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم أن يستنبئ ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب اللّه تعالى ثم سأل ما بدا
___________
(1) هي كلمة مستعملة عند العامة يقولون جلدت الكتاب أي وضعت له جلدا وبهذا المعنى استعملت هنا جريا على المتعارف عندهم وإلا فقد قال بعض الأفاضل : جلدت الكتاب بمعنى أزلت جلده فليحفظ اه منه.
(2) أصله القليل اللحم من الرجال اه منه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...