الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج21.وج22.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

21. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع  شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 131
والظاهر ما أشرنا إليه ، وكذا جعل الجملة حالا من نساء أو صفة لها كأنه قيل فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس ثم يرجعن إلى بيوتهن ، وقيل كان ذلك في يوم غيم ، ويبعده كان فإنها شائعة الاستعمال فيما كان يداوم عليه عليه الصلاة والسلام ، وقيل هو منسوخ كما يدل عليه اجتماع الصحابة على التنوير ، ويبعد ذلك أن النسخ يقتضي سابقية وجود المنسوخ ، وقول ابن مسعود : ما رأيت إلخ يفيد أن لا سابقية له. وقال بعضهم : ترجح في الأخبار المتعارضة هنا رواية الرجال خصوصا مثل ابن مسعود فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة فتأمل.
وذكر الطحاوي أن الذي ينبغي الدخول في الفجر وقت التغليس والخروج وقت الأسفار ، وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه وهو خلاف ما يذكره الأصحاب عنهم من البدء والختم في الأسفار وهو الذي يفيده حديث الترمذي وغيره واللّه تعالى أعلم ، ثم إن صلاة الفجر وإن كانت إحدى الصلوات الخمس التي فرضت ليلة الإسراء عليه صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى أمته ودلت هذه الآية على وجوب إقامتها كذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها صبح تلك الليلة لعدم العلم بكيفيتها حينئذ وإنما علم الكيفية بعد.
وقد قدمنا قريبا أن البداءة وقعت في صلاة الظهر إشارة إلى أن دينه عليه الصلاة والسلام سيظهر على الأديان ظهورها على بقية الصلوات ، ونوه سبحانه هنا بشأن صلاة الفجر بقوله عز وجل :
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ حيث لم يقل سبحانه إنه كانَ مَشْهُوداً
أخرج أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه وجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في تفسير ذلك : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ،
وفي الصحيحين عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : «قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر
ثم قال أبو هريرة : «اقرؤوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً».
والمراد بهؤلاء الملائكة الكتبة والحفظة فتنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل وتلتقي الطائفتان في ذلك الوقت ، وكذا تلتقي الطائفتان وأمر النزول والصعود على العكس وقت العصر كما جاء في الآثار ، وهذا مما يعكر على الإمام في زعمه أن هذا أيضا دليل قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع في الصلاة من أول الصبح يكون ملائكة الليل حاضرين لبقاء الظلمة فإذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضر ملائكة النهار فإنه يلزمه على هذا البيان الذي لا يروج إلا على الصبيان القول بأن تأخير صلاة العصر إلى أن يزول الضوء وتظهر الظلمة وهو لا يقول به بل لا يقول به أحد.
وهل الطائفة التي تشهد اليوم مثلا تشهد غدا أو كل يوم تشهد طائفة أخرى لم تشهد قبل ولا تشهد بعد فيه خلاف ، وسيأتي الكلام إن شاء اللّه تعالى فيما يتعلق بذلك.
وقيل يشهد الكثير من المصلين في العادة ، وقيل من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة ، وقيل تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت ، وهو احتمال أبداه الإمام وبسط الكلام فيه ، ثم قال : وهذا المراد من قوله تعالى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ثم ذكر احتمال كون المراد مشهودا بالجماعة الكثيرة وبسط الكلام أيضا في تحقيقه ، وأنت تعلم أنه لا وجه للحصر المدلول عليه بقوله : وهذا هو المراد ، ثم إبداء ذلك الاحتمال على أنه بعد ما صح تفسير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم له بما سمعت لا ينبغي أن يقال في غيره هذا هو المراد ، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراما ومتلقى كراما فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل ويرتاح له النازل.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 132
وَمِنَ اللَّيْلِ قيل أي وعليك بعض الليل ، وظاهره أنه من باب الإغراء كما نقل عن الزجاج وأبي البقاء في قوله تعالى : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وتعقبه أبو حيان بأن المغرى به لا يكون حرفا ، ولا يجدي نفعا كون من للتبعيض لأن ذلك لا يجعلها اسما ألا ترى إجماع النحاة على أن واو مع حرف وإن قدرت بمع ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون القائل بذلك قائلا باسمية مِنَ في مثل ذلك كما قالوا باسمية الكاف في نحو فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل : 5] وعن في نحو من عن يمين تارة وشمالي وعلى نحو من عليه ، وكذا القائل بأن ذلك نصب على الظرفية بمقدر أي وقم بعض الليل ، واختار الحوفي أن من متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام أي وأسهر من الليل فالفاء في قوله تعالى :
فَتَهَجَّدْ بِهِ إما عاطفة على ذلك المقدر أو مفسرة بناء على أنه من أسلوب وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة : 40] وفي الكشف أن الإغراء هو الظاهر هاهنا بخلافه فيما تقدم لأن النصب على التفسير والصلات مختلفة لا يتضح كل الاتضاح ، ومعنى الإغراء من السابق واللاحق تتعاضد الأدلة عليه ، وفيه منع ظاهر ، والتهجد على ما نقل عن الليث الاستيقاظ من النوم للصلاة ويطلق على نفس الصلاة بعد القيام من النوم ليلا يقال : تهجد أي صلى في الليل بعد الاستيقاظ وكذا هجد وهذا يقتضي سابقية النوم في تحقق التهجد فلو لم ينم وصلى ما شاء لا يقال له تهجد ، وهو المروي عن مجاهد والأسود وعلقمة وغيرهم ، وقال المبرد : هو السهر للصلاة أو لذكر اللّه تعالى ، وقيل : السهر للطاعة وظاهره عدم اشتراط سابقية النوم في تحققه ، والمشهور أن ذلك يسمى قياما وما بعد النوم يسمى تهجدا ، وأغرب الحجاج بن عمرو المازني فإنه روي عنه أنه قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا أقول : إن تخلل النوم بين الصلوات جاء في صحيح مسلم من رواية حصين عن حبيب بن أبي ثابت ، وهي مما استدركها الدار قطني على مسلم لاضطرابها فقد قال وروي عنه على سبعة أوجه وخالف فيه الجمهور يعني الخبر الذي فيه تخلل النوم ، والكثير من الروايات ليس فيه ذلك فليحفظ. واشترط أن لا تكون الصلاة إحدى الخمس فلو نام عن العشاء ثم قام فصلاها لا يسمى متهجدا ولا ضرر في كونها واجبة كأن نام عن الوتر ثم قام إليها ، وفي القاموس الهجود النوم كالتهجد وتهجد استيقظ كهجد ضد ، وقال ابن الأعرابي : هجد الرجل صلى من الليل وهجد نام بالليل ، وقال أبو عبيدة : الهاجد النائم والمصلي ، وفي مجمع البيان أنه يقال هجدته إذا أنمته ، وعليه قول لبيد :
قلت هجدنا فقال طال السرى ونقل عن ابن برزخ أنه يقال : هجدته إذا أيقظته ومصدر هذا التهجيد ، وصرح في القاموس بأنه من الأضداد أيضا.
وذكر بعضهم أن المعروف في كلام العرب كون الهجود بمعنى النوم وفسر التهجد بترك الهجود أي النوم على أن التفعل للسلب كالتأثم والتحنث وهو مأخذ من فسره بالاستيقاظ ، ويجوز أن يقال : إن التفعل للتكلف أي تكلف الهجود بمعنى اليقظة ، ورجح هذا بأن مجيء التفعل للتكلف أكثر من مجيئه للسلب.
وعورض بأن استعمال الهجود في اليقظة مختلف في ثبوته وإن ثبت فهو أقل من استعماله في النوم ، والضمير المجرور في بِهِ للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافته إلى الفجر ، واستدل بذلك على تطويل القراءة في صلاة التهجد ، وقد صرح العلماء بندب ذلك ، وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة «صليت وراء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية تسبيح سبح» الخبر
ويجوز أن يكون للبعض المفهوم من قوله تعالى :
وَمِنَ اللَّيْلِ والباء للظرفية أي فتهجد في ذلك البعض.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 133
وقال ابن عطية : هو عائد على الوقت المقدر في النظم الكريم أي قم وقتا من الليل فتهجد فيه نافِلَةً لَكَ فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة ، ولعله الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر مع تقدم وقتها على وقتها ، واستدل به على أن ما أمر به صلّى اللّه عليه وسلّم فأمته مأمورون به أيضا إلا أن يدل دليل على الاختصاص كما هنا ويدل على أن المراد ما ذكر ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في ذلك يعني خاصة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بقيام الليل وكتب عليه لكن صحح النون أنه نسخ عنه عليه الصلاة والسلام فرضية التهجد ونقله أبو حامد من الشافعية وقالوا إنه الصحيح.
وقيل الخطاب في لَكَ له صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد هو وأمته على حد الخطاب في أَقِمِ الصَّلاةَ فيما سبق أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس لنفعكم ففيه دليل على فرضية التهجد عليه عليه الصلاة والسلام وعلى أمته لكن نسخ ذلك في حق الأمة وبقي في حقه عليه الصلاة والسلام بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : نسخ قيام الليل إلا عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو ونسخ في حقه صلّى اللّه عليه وسلّم أيضا بناء على الصحيح ، وهو خلاف الظاهر جدا ، ويجوز أن يراد بالنافلة الفضيلة إما لأنه عليه الصلاة والسلام فضل على أمته بوجوبها وأن نسخ بعد أو لأنها فضيلة له صلّى اللّه عليه وسلّم وزيادة في درجاته وليست بالنسبة إليه مكفرة للذنوب وسادّة للخلل الواقع في الفرائض كما أنها وسائر النوافل بالنسبة إلى الأمة كذلك لكونه عليه الصلاة والسلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وفرائضه وسائر تعبداته واقعة على الوجه الأكمل.
وقد أخرج هذا الأخير البيهقي في الدلائل وابن جرير وغيرهما عن مجاهد ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، وابن المنذر عن الحسن ، واستحسنه الإمام ، وضعفه الطبري ، وجوز ابن عطية عموم الخطاب كما سمعت آنفا إلا أنه حمل نافلة على تطوعا وليس بشيء أيضا ، وربما يختلج في بعض الأذهان بناء على ما تقدم عن أبي البقاء في قوله تعالى :
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا من أنه بتقدير اتبع سنة كما قال سبحانه : فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام : 90] احتمال أن يكون قوله تعالى : أَقِمِ الصَّلاةَ إلخ بيانا للاتباع المأمور به ، وهو متضمن للأمر بالصلوات الخمس ، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يصلونها على ما يدل قول جبريل عليه السلام في خبر تعليمه عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة بعد صلاته الخمس : هذا وقت الأنبياء من قبلك فإنه ظاهر في أنهم عليهم السلام كانوا يصلونها ، غاية ما في الباب أنه على القول بأنها لم تجتمع لغير نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وهو الصحيح يحتمل أن المراد أنه وقتهم على الإجمال وإن اختص من اختص منهم بوقت ، حيث ورد أن الصبح لآدم ، والظهر لداود ، وفي رواية لإبراهيم ، والعصر لسليمان ، وفي رواية ليونس ، والمغرب ليعقوب ، وفي رواية لعيسى ، والعشاء ليونس ، وفي رواية لموسى عليهم السلام إلا أن ذلك لا يضر بل هو أنسب بالأمر باتباع سنة جميعهم ، وقد استدل الإمام على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى : «فبهداهم اقتده» من جهة أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالاقتداء بهدي جميعهم وامتثل ذلك فكان عنده من الهدى ما عند الجميع فيكون أفضل من كل واحد منهم ، وحينئذ يقال معنى كون ذلك نافلة له عليه الصلاة والسلام أنه زائد على الصلوات الخمس خاص به صلّى اللّه عليه وسلّم دون سائر الأنبياء عليهم السلام المأمور باتباع سنتهم ، وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ويعول عليه بل اللائق به أن يجعل من قبيل حديث النفس وتخيلها بحرا من مسك موجه الذهب فإن فساده تأصيلا وتفريعا مما لا يخفى على من له أدنى مسكة وأقل اطلاع ، واللّه تعالى العاصم من الزلل والحافظ من الخطأ والخطل ، وانتصاب نافِلَةً إما على المصدرية بتقدير تنفل وقدر الحوفي نفلناك أو بجعل تهجد بمعنى تنفل أو بجعل نافلة
بمعنى تهجدا ، فإن ذلك عبادة زائدة ، وإما على الحال من الضمير الراجع إلى القرآن أي حال كونه صلاة نافلة كما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 134
قال أبو البقاء ، وإما على المفعول لتهجد كما جوزه الحوفي إذا كان بمعنى صل ، وجعل الضمير المجرور للبعض المفهوم ، أو للوقت المقدر أي فصل فيه نافلة لك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ الذي يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد الموت الأكبر لما انبعثت من الموت الأصغر بالصلاة والعبادة ، فالمعنى على التعليل والتهوين لمشقة قيام الليل حتى زعم بعضهم أن عسى بمعنى كي ، وهو وهم بل هي كما قال أهل المعاني للأطماع ، ولما كان إطماع الكريم إنسانا بشيء ثم حرمانه منه غرورا واللّه عز وجل أجل وأكرم من أن يغر أحدا فيطمعه في شيء ثم لا يعطيه قالوا هي للوجوب منه تعالى مجده على معنى أن المطمع به يكون ولا بد للوعد ، وقيل هي على بابها للترجي لكن يصرف إلى المخاطب أي لتكن على رجاء من أن يبعثك ربك مَقاماً مَحْمُوداً وهي تامة وأَنْ يَبْعَثَكَ فاعلها ورَبُّكَ فاعله ومَقاماً كما قال جمع منصوب على الظرفية إما على إضمار فعل الإقامة أو على تضمين الفعل المذكور ذلك أي عسى أن يبعثك فيقيمك مقاما أي في مقام ، أو يقيمك في مقام محمود باعثا إذ لا يصح أن يعمل في مثل هذا الظرف إلا فعل فيه معنى الاستقرار خلافا للكسائي ، واستظهر في البحر كونه معمولا ليبعثك ، وهو مصدر من غير لفظ الفعل لأن نبعث بمعنى نقيم تقول أقيم من قبره ، وبعث من قبره.
وجوز أبو البقاء وغيره كونه حالا بتقدير مضاف أي نبعثك ذا مقام ، وقيل يجوز أن يكون مفعولا به ليبعثك على تضمينه معنى نعطيك ، وجوز أبو حيان أن تكون عسى ناقصة ورَبُّكَ الفاعل على تقدير أن ينتصب مَقاماً بمحذوف لا يبعث لئلا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي ، وتنكير مَقاماً للتعظيم ، والمراد بذلك المقام مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلّى اللّه عليه وسلّم
فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال :
«سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك ثم موسى فيقول كذلك ثم محمد فيشفع فيقضي اللّه تعالى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه اللّه تعالى مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم».
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ويبدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول ائتوا موسى «1» فيقول إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى فيقول إني عبدت من دون اللّه تعالى ولكن ائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا فأقول محمد فيفتحون لي ويقولون مرحبا فأخر ساجدا فيلهمني اللّه تعالى من الثناء والحمد والمجد فيقال ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك فهو المقام المحمود الذي قال اللّه تعالى : عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام يسجد أربع سجدات
أي كسجود الصلاة كما هو الظاهر تحت العرش فيجاب لما فزعوا إليه ، وذكر الغزالي في الدرة الفاخرة أن بين إتيانهم نبيا وإتيانهم ما بعده ألف سنة ولا أصل له كما قال الحافظ ابن حجر ، وقيل هو مقام الشفاعة لأمته صلّى اللّه عليه وسلّم لما
أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في الدلائل
___________
(1) قوله فيقول ائتوا موسى إلخ كذا في نسخة المؤلف وعبارة صحيح الترمذي فيقول إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين اللّه ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول إلخ
.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 135
عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه سئل عن المقام المحمود في الآية فقال : «هو المقام الذي شفع فيه لأمتي»
وأجاب من ذهب إلى الأول بأنه يحتمل أن يكون المراد المقام الذي أشفع فيه أولا لأمتي
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضا من حديث طويل في الشفاعة فيه فزع الناس إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام واعتذار كل منهم ما عدا عيسى عليه السلام بذنب أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «فيأتوني - يعني الناس - بعد من علمت من الأنبياء عليهم السلام فيقولون يا محمد أنت رسول اللّه وخاتم الأنبياء وقد غفر اللّه تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح اللّه تعالى علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب»
ومن الناس من فسره بمقام الشفاعة في موقف الحشر حيث يعترف الجميع بالعجز أعم من أن تكون عامة كالشفاعة لفصل القضاء أو خاصة كالشفاعة لبعض عصاة أمته صلّى اللّه عليه وسلّم في العفو عنهم ، والاقتصار على أحد الأمرين في بعض الأخبار لنكتة اقتضاها الحال ولكل مقام مقال ، وحمل هذا الشفاعة للأمة في خبر أبي هريرة المتقدم على الشفاعة لبعض عصاتهم في الموقف قبل دخولهم النار وإلا فلو أريد الشفاعة لهم بعد الحساب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار كما روي عن أبي سعيد لم يتيسر الجمع بين الروايات إلا بأن يقال : المقام المحمود هو مقام الشفاعة أعم من أن تكون في الموقف عامة وخاصة وأن تكون بعد ذلك ويكون الاقتصار لنكتة ، وقد جاء تفسيره بمقام الشفاعة مطلقا ،
فقد أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن المقام المحمود فقال : هو الشفاعة
، وأخرج ابن جرير عن وهب عن أبي هريرة «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : المقام المحمود الشفاعة».
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه فسره بذلك ، ثم الشفاعة من حيث هي وإن شاركه فيها صلّى اللّه عليه وسلّم غيره من الملائكة والأنبياء عليهم السلام وبعض المؤمنين إلا أن الشفاعة الكاملة والأنواع الفاضلة لا تثبت لغيره عليه الصلاة والسلام ، وقد أوصل بعضهم الشفاعة المختصة به صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عشر وذكره بعض شراح البخاري فليراجع ، ووصف المقام بأنه محمود على ما ذكر باعتبار أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يحمد فيه على أنعامه الواصل إلى الخاص والعام من أصناف الأنام.
وأخرج النسائي والحاكم وصححه وجماعة عن حذيفة رضي اللّه تعالى عنه قال : «يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادي يا محمد فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت»
فهذا المقام المحمود وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال في الآية : يجلسه فيما بينه وبين جبريل عليه السلام ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قال : المقام المحمود أن يجلسه معه على عرشه ، وأنت تعلم أن الحمد على أكثر ما في هذه الروايات مجاز عند من يقول : إنه مختص بالثناء على الأنعام ، وأما عند من يقول بعدم الاختصاص فلا مجاز ، وتعقب الواحدي القول بأن المقام المحمود إجلاسه صلّى اللّه عليه وسلّم عز وجل على العرش بعد ذكر روايته عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بأنه قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس ، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه ، الأول أن البعث ضد الإجلاس يقال بعث اللّه تعالى الميت إذا أقامه من قبره وبعثت البارك والقاعد فانبعث فتفسيره به تفسير الضد بالضد ، الثاني لو كان جالسا سبحانه وتعالى على العرش لكان محدودا متناهيا فيكون محدثا تعالى عن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 136
ذلك علوا كبيرا ، الثالث أنه سبحانه قال مَقاماً ولم يقل مقعدا والمقام موضع القيام لا القعود ، الرابع أن الحمقى والجهال يقولون : إن أهل الجنة كلهم يجلسون معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنياوية فلا مزية له صلّى اللّه عليه وسلّم بإجلاسه معه عز وجل الخامس أنه إذا قيل : بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه انتهى. وأبو عمر لم يطلع إلا على رواية ذلك عن مجاهد فقال : إن مجاهدا وإن كان أحد الأئمة بتأويل القرآن حتى قيل : إذا جاءك التأويل عن مجاهد فحسبك إلا أن له قولين مهجورين عند أهل العلم ، أحدهما تأويل المقام المحمود بهذا الإجلاس ، والثاني تأويل إلى ربها ناظرة بانتظار الثواب.
وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم فما زال أهل العلم يحدثون به ، قال ابن عطية : أراد من أنكره على تأويله فهو متهم وقد يؤول قوله صلّى اللّه عليه وسلّم يجلسني معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف : 206] وقوله سبحانه : حكاية ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً [التحريم : 11] وقوله تعالى : وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت : 69] إلى غير ذلك مما هو كناية عن المكانة لا عن المكان.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي لمجاهد ولا لغيره أن يفسر المقام المحمود بالإجلاس على العرش حسبما سمعت من غير أن يثبت عنده ذلك الإجلاس
في خبر كخبر الديلمي عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله سبحانه : عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ إلخ يجلسني معه على السرير»
فإن تمسك المفسر بهذا أو نحوه لم يناظر إلا بالطعن في صحته وبعد إثبات الصحة لا مجال للمؤن إلا التسليم ، وما ذكره الواحدي لا يستلزم عدم الصحة فكم وكم من حديث نصوا على صحته ويلزم من ظاهره المحال كحديث أبي سعيد الخدري المشتمل على رؤية المؤمنين اللّه عز وجل ثم إتيانه إياهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، وقوله تعالى لهم : أَنَا رَبُّكُمْ [الأنبياء : 92] وقولهم نعوذ باللّه تعالى منك حتى يكشف لهم عن ساق فيسجدون ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة وهو في الصحيحين ، وحديث لقيط بن عامر المشتمل على قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة - لعمر إلهك - لا تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد» الحديث
،
وقد رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد إلى ما لا يحصى من هذا القبيل ، ومذاهب المحدثين وأهل الفكر من العلماء في الكلام على ذلك مما لا تخفى ، ومتى أجريت هناك فلتجر هنا فالكل قريب من قريب. والصوفية يقولون : إن للّه عز وجل الظهور فيما يشاء على ما يشاء وهو سبحانه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق فإنه العزيز الحكيم ومتى ظهر جل وعلا في صورة أجريت عليه سبحانه أحكامها من حيث الظهور فيوصف عز مجده عندهم بالجلوس ونحوه من تلك الحيثية وينحل بذلك أمور كثيرة إلا أنه مبني على ما دون إثباته خرط القتاد ويرد على ما ذكره الواحدي في الوجه الثالث أن المقام وإن كان في الأصل بمعنى محل القيام إلا أنه شاع في مطلق المحل ويطلق على الرتبة والشرف ، وعلى ما ذكره في الوجه الأول أنه ليس هناك إلا تفسير المقام المحمود بالإجلاس لا تفسير البعث بالإجلاس نعم فيه مسامحة ، والمراد أن إحلاله في المحل المحمود هو إجلاسه على العرش ، وهذا المعنى يتأتى بإبقاء البعث على معناه وتقدير فيقيمك بمعنى فيحلك وبتفسيره بالإقامة بمعنى الإحلال ، وقد يقال : لا مسامحة والمراد من المقام الرتبة ، والبعث متضمن معنى الإعطاء أي عسى يعطيك ربك رتبة محمودة وهي إجلاسه إياك على عرشه باعثا ، وما ذكره في الوجه الثاني حق لو أريد من الجلوس على العرش ظاهره أن أريد معنى آخر فلا نسلم اللازم وباب التأويل واسع ، وقد أول

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 137
الإجلاس معه على رفع المحل والتشريف وهو مقول بالتشكيك فمتى صح أن أهل الجنة كلهم يجلسون معه آمنا به مع إثبات المزية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فاندفع ما ذكره في الوجه الرابع ، ويرد على ما في الوجه الخامس أن الإجلاس معه لم يفهم من مجرد البعث وما ادعى أحد ذلك فكون بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه لا يضرنا كما لا يخفى على منصف.
وبالجملة كل ما قيل أو يقال لا يصغى إليه إن صح التفسير عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لكن يبقى حينئذ أنه يلزم التعارض بين ظواهر الروايات ، ومن هنا قال بعضهم : المراد بالمقام المحمود ما ينتظم كل مقام يتضمن كرامة له صلّى اللّه عليه وسلّم ، والاقتصار في بعض الروايات على بعض لنكتة نحو ما مر ، ووصفه بكونه محمودا إما باعتبار أنه صلّى اللّه عليه وسلّم يحمد للّه تعالى عليه أبلغ الحمد أو باعتبار أن كل من يشاهده يحمده ولم يشترط أن يكون الحمد في مقابلة النعمة ويدخل في هذا كل مقام له صلّى اللّه عليه وسلّم محمود في الجنة.
وكذا يدخل فيه ما جوز مفتي الصوفية سيدي شهاب الدين السهروردي أن يكون المقام المحمود وهو إعطاؤه عليه الصلاة والسلام مرتبة من العلم لم تعط لغيره من الخلق أصلا فإنه ذكر في رسالة له في العقائد أن علم عوام المؤمنين يكون يوم القيامة كعلم علمائهم في الدنيا ويكون علم العلماء إذ ذاك كعلم الأنبياء عليهم السلام ويكون علم الأنبياء كعلم نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ويعطى نبينا عليه الصلاة والسلام من العلم ما لم يعط أحد من العالمين ولعله المقام المحمود ولم أر ذلك لغيره عليه الرحمة واللّه تعالى أعلم.
ثم هذا الاختلاف في المقام المحمود هنا لم يقع فيه في دعاء الأذان بل ادعى العلامة ابن حجر الهيتمي أنه فيه مقام الشفاعة العظمى لفصل القضاء اتفاقا فتأمل في هذا المقام واللّه تعالى ولي الإنعام والإفهام.
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي إدخالا مرضيا جيدا لا يرى فيه ما يكره ، والإضافة للمبالغة.
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ نظير الأول واختلف في تعيين المراد من ذلك فأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم أن المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة ويدل عليه ما قيل قوله تعالى : وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ إلخ.
وأيد بما أخرجه أحمد والطبراني والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس قال : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل اللّه تعالى عليه وَقُلْ رَبِّ الآية ، وبدأ بالإدخال لأنه الأهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه الإدخال في القبر والإخراج منه وأيد بذكره بعد البعث ، وقيل إدخال مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه صلّى اللّه عليه وسلّم منها آمنا من المشركين ، وقيل إخراجه من المدينة وإدخال مكة بالفتح ، وقال محمد بن المنكدر : إدخاله الغار وإخراجه منه ، وقيل الإدخال في الجنة والإخراج من مكة ، وقيل الإدخال في الصلاة والإخراج منها ، وقيل الإدخال في المأمورات والإخراج عن المنهيات وقيل الإدخال فيما حمله صلّى اللّه عليه وسلّم من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط ، وقيل الإدخال في بحار التوحيد والتنزيه والإخراج من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في الآثار إلى الاستغراق في معرفة الواحد القهار. وقيل وقيل والأظهر أن المراد إدخاله عليه الصلاة والسلام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه فيكون عاما في جميع الموارد والمصادر واستظهر ذلك أبو حيان وفي الكشف أنه الوجه الموافق لظاهر اللفظ والمطابق لمقتضى النظم فسابقه ولا حقه لا يختصان بمكان دون آخر ، وكفاك قوله تعالى وَاجْعَلْ لِي إلخ شاهد صدق على إيثاره.
وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة «مدخل» و«مخرج» بفتح الميم فيهما ، قال صاحب اللوامح :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 138
وهما مصدران من دخل وخرج لكنهما جاءا من معنى أدخلني وأخرجني السابقين دون لفظهما ومثل ذلك أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما على الظرفية ، وقال غيره من المحققين : هما مصدران منصوبان على تقدير فعلين ثلاثيين إذ مصدر المزيدين مضموم الميم كما في القراءة المتواترة أي أدخلني فادخل مدخل صدق وأخرجني فاخرج مخرج صدق.
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي حجة تنصرني على من خالفني وهو مراد مجاهد بقوله حجة بينة ، وفي رواية أخرى عنه أنه كتاب يحوي الحدود والأحكام وعن الحسن أنه أريد التسلط على الكافرين بالسيف وعلى المنافقين بإقامة الحدود ، وقريب ما قيل إن المراد قهرا وعزا تنصر به الإسلام على غيره.
وزعم بعضهم أنه فتح مكة ، وقيل السلطان أحد السلاطين الملوك فكأن المراد الدعاء بأن يكون في كل عصر ملك ينصر دين اللّه تعالى ، قيل وهو ظاهر ما أخرجه البيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عن قتادة قال : أخرجه اللّه تعالى من مكة مخرج صدق وأدخله المدينة مدخل صدق وعلم نبي اللّه أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا لكتاب اللّه تعالى وحدوده وفرائضه فإن السلطان عزة من اللّه عز وجل جعلها بين أظهر عباده لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم وفيه نظر ، وفعيل على سائر الأوجه مبالغ في فاعل.
وجوز أن يكون في بعضها بمعنى مفعول ، والحق أن المراد من السلطان كل ما يفيده الغلبة على أعداء اللّه تعالى وظهور دينه جل شأنه ووصفه بنصيرا للمبالغة وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ الإسلام والدين الثابت الراسخ.
والجملة عطف على جملة قُلْ أولا واحتمال أنها من مقول القول الأول لما فيها من الدلالة على الاستجابة في غاية البعد.
وَزَهَقَ الْباطِلُ أي زال واضمحل ولم يثبت الشرك والكفر وتسويلات الشيطان من زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف ، وعن قتادة أن الحق القرآن والباطل الشيطان ، وعن ابن جريج أن الأول الجهاد والثاني الشرك وعن مقاتل الحق عبادة اللّه تعالى والباطل عبادة الشيطان وهذا قريب مما ذكرنا.
إِنَّ الْباطِلَ كائنا ما كان كانَ زَهُوقاً مضمحلا غير ثابت الآن أو فيما بعد أو مطلقا لكونه كان لم يكن ، وصيغة فعول للمبالغة.
أخرج الشيخان وجماعة عن ابن مسعود قال : دخل النبي صلى اللّه عليه وسلّم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده وقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد ،
وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلى اللّه عليه وسلّم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً حتى مر عليها كلها.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ما هو في تقديم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى ، ومِنَ للبيان وقدم اهتماما بشأنه ، وأنكر أبو حيان جواز التقديم واختار هنا كون من لابتداء الغاية وهو إنكار غير مسموع فيفيد أن كل القرآن كذلك. وفي الخبر من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه اللّه تعالى
أو للتبعيض ومعناه على ما في الكشف وننزل ما هو شفاء أي تدرج في نزوله شفاء فشفاء وليس معناه أنه منقسم إلى ما هو شفاء وليس بشفاء والمنزل الأول كما وهم الحوفي فأنكر جواز إرادة التبعيض وإنما المعنى أن ما لم ينزل بعد ليس بشفاء للمؤمنين لعدم الاطلاع وأن كل ما ينزل فهو شفاء لداء خاص يتجدد نزول الشفاء كفاء تجدد الداء.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 139
وفيه أيضا أن هذا الوجه أوفق لمقتضى المقام ولا يخفى عليك بعده ولذا اختير في توجيه التبعيض أنه باعتبار الشفاء الجسماني وهو من خواص بعض دون بعض ومن البعض الأول الفاتحة وفيها آثار مشهورة ، وآيات الشفاء وهي ست وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة : 14] شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يونس : 57] ، فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل : 69] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء : 80] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصلت : 44].
قال السبكي : وقد جربت كثيرا ، وعن القشيري أنه مرض له ولد أيس من حياته فرأى اللّه تعالى في منامه فشكى له سبحانه ذلك فقال له : اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه اللّه تعالى ، والأطباء معترفون بأن من الأمور والرقى ما يشفي بخاصية روحانية كما فصله الأندلسي في مفرداته ، وكذا داود في الجلد الثاني من تذكرته ، ومن ينكر لا يعبأ به ، نعم اختلف العلماء في جواز نحو ما صنعه القشيري عن الرؤيا وهو نوع من النشرة وعرفوها بأنها أن يكتب شيء من أسماء اللّه تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه فمنع ذلك الحسن والنخعي ومجاهد ، وروى أبو داود من حديث جابر أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم سئل عن النشرة فقال : هي من عمل الشيطان
،
وأجاز ذلك ابن المسيب ، والنشرة التي قال فيها صلى اللّه عليه وسلّم ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية وهي أنواع ، منها ما يفعله أهل التعزيم في غالب الإعصار من قراءة أشياء غير معلومة المعنى ولم تثبت في السنة أو كتابتها وتعليقها أو سقيها ، وقال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء اللّه تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين ، وعنى بذلك أنه لا بأس بالتعليق بعد نزول البلاء رجاء الفرج والبر.
كالرقي التي وردت السنة بها من العين ، وأما قبل النزول ففيه بأس وهو غريب ، وعند ابن المسيب يجوز تعليق العوذة من كتاب اللّه تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع ، وعند الغائط ولم يقيد بقبل أو بعد ، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان مطلقا ، وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان كبيرا أو صغيرا مطلقا ، وهو الذي عليه الناس قديما وحديثا في سائر الأمصار لكن توجيه التبعيض بما ذكر لا يساعده قوله سبحانه :
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في غير موضعها مع كونه في نفسه شفاء لما في الصدور من أدواء الريب وأسقام الأوهام إلا خسارا أي هلاكا بكفرهم وتكذيبهم وزيادتهم من حيث إنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآية النازلة تدريجا ازدادوا بذلك هلاكا ، وفسر بعضهم الخسار بالنقصان ، ورجح أبو السعود الأول بأن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام فيهم ، وفيه كما قال إيماء إلا أن ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض ، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك ، وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم المزدادون في ذلك لسوء صنيعهم باعتبار كونه سببا لذلك ، وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مدارا للشفاء والهلاك :
كماء صار في الأصداف درا وفي ثغر الأفاعي صار سما
هذا وربما يقال : إن انقسام القرآن إلى ما هو شفاء من أدواء الريب وإسقام الوهم وإلى ما ليس كذلك مما لا ينبغي أن يكون فيه ريب لأن الشافي من أدواء الريب إنما هو الأدلة كالآيات الدالة على بطلان الشرك وثبوت الوحدانية له تعالى وكالآيات الدالة على إمكان الحشر الجسماني وليس كل آيات القرآن كذلك فإن منه ما هو أمر بصلاة وصوم وزكاة ومنه ما هو نهي عن قتل وزنى وسرقة ونحو ذلك وهو لا يشفي به أدواء الريب وإسقام الوهم وكذا آيات

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 140
القصص ، نعم فيما ذكر نفع غير الشفاء من تلك الأدواء فهو رحمة وحينئذ يقال في الآية حذف أي ننزل من القرآن ما هو شفاء وما هو رحمة على معنى ننزل من القرآن آيات هي شفاء وآيات هي رحمة.
وفيه أن الريب غير مختص فيما يتعلق باللّه عز وجل وبإمكان الحشر بل يكون أيضا في الرسالة وصدقه صلى اللّه عليه وسلّم في دعواها ، وما من آية في القرآن إلا وهي مستقلة أو لها دخل في الشفاء من ذلك الداء لما فيها من الإعجاز وكذا ما من آية إلا وفيها نفع من جهة أخرى فكل آية رحمة كما أن كلها شفاء لكن كونه رحمة بالنسبة إلى كل واحد واحد من المؤمنين إذ كل مؤمن ينتفع به نوعا من الانتفاع وكونه شفاء بالفعل بالنسبة إلى من عرض له شيء من أدواء الريب وأسقام الوهم وليس كل المؤمنين كذلك ، والقول بأن كلا كذلك في أول الإيمان غير مسلم ولا يحتاج إليه كما لا يخفى.
والإمام عمم شفائيته وقد أحسن فقال : هو شفاء للأمراض الروحانية وهي نوعان : اعتقادات باطلة وأخلاق مذمومة فلاشتماله على الدلائل الحقة الكاشفة عن المذاهب الباطلة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر المبينة لبطلانها يشفي عن النوع الأول من الأمراض ولاشتماله على تفاصيل الأخلاق المذمومة وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة يشفي عن النوع الآخر ، والشفاء إشارة إلى التخلية والرحمة إشارة إلى التحلية ولأن الأولى أهم من الثانية قدم الشفاء على الرحمة فتأمل واللّه تعالى الموفق.
وقرأ البصريان «ننزل» بالنون والتخفيف ، وقرأ مجاهد بالياء والتخفيف ورواها المروزي عن حفص.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «شفاء ورحمة» بنصبهما ، قال أبو حيان : ويتخرج ذلك على أنهما حالان والخبر للمؤمنين والعامل في الحال ما في الجار والمجرور من الفعل ، ونظير ذلك وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر : 67] في قراءة نصب «مطويات» وقول الشاعر :
رهط ابن كوز محقبى أدراعهم فيهم ورهط ربيعة بن حذار
ثم قال : وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف لا يجوز إلا عند الأخفش ، ومن منع جعله منصوبا على إضمار أعني ، وأنت تعلم أن من يجوز مجيء الحال من المبتدأ لا يحتاج إلى ذلك وَإِذا أَنْعَمْنا بالصحة والسعة ونحوهما عَلَى الْإِنْسانِ أي جنسه فيكفي في صحة الحكم وجوده في بعض الأفراد ولا يضر وجود نقيضه في البعض الآخر ، وقيل المراد به الوليد بن المغيرة أَعْرَضَ عن ذكرنا كأنه مستغن عنا فضلا عن القيام بمواجب شكرنا وَنَأى بِجانِبِهِ لوى عطفه عن طاعتنا وولاها ظهره ، وأصل معنى النأي البعد وهو تأكيد للإعراض بتصوير صورته فهو أوفى بتأدية المراد منه ، ومثله يجوز عطفه لإيهام المغايرة بينهما وهو أبلغ من ترك العطف على ما بين في محله ، على أن ما ذكره أهل المعاني من أن التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم ، والجانب على ظاهره والمراد ترك ذلك ، ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار فإن ثنى العطف من أفعال المستكبرين ولا يبعد أن يراد بالجانب النفس كما يقال جاء من جانب فلان كذا أي منه وهو كناية أيضا كما يعبر بالمقام والمجلس عن صاحبه ، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان «وناء» هنا وفي [فصلت : 51] فقيل ذلك من باب القلب ووضع العين محل اللام كراء ووراء ، وقيل لا قلب وناء بمعنى نهض كما في قوله :
حتى إذا ما التأمت مفاصله وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوكئا على شماله ، وفسر نهض هنا بأسرع والكلام على تقدير مضاف أي أسرع بصرف جانبه ، وقيل : معناه تثاقل عن أداء الشكر فعل المعرض وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر أو نازلة من النوازل كانَ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 141
يَؤُساً
شديد اليأس من رحمتنا لأنه لم يحسن معاملتنا في الرخاء حتى يرجو فضلنا في الشدة ، وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الأنعام إلى ضميره تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة وإلى ذلك الإشارة
بقوله صلى اللّه عليه وسلّم «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك»
وللفلاسفة ومن يحذو حذوهم في ذلك بحث طويل لا بأس بالاطلاع عليه ليؤخذ منه ما صفا ويترك منه ما كدر قالوا : إن الأول تعالى تام القدرة والحكمة والعلم كامل في جميع أفاعيله لا يتصور بخله بإفاضة الخيرات وليس الداعي له لذلك إلا علمه بوجوه الخير ومصالح الغير الذي هو عين ذاته كسائر صفاته وأما النقائص والشرور الواقعة في ضرب من الممكنات وعدم وصولها إلى كمالها المتصور في حقها فهي لقصور قابلياتها ونقص استعداداتها لا من بخل الحق تعالى مجده عن ذلك.
وقصور القابلية ينتهي في الآخرة إلى لوازم الماهيات الإمكانية ومنبعها الإمكان وتحقيق ذلك أن الشر يطلق عرفا على معنيين : أحدهما ما هو عدم كالفقر والجهل البسيط وهذا على ضربين : الأول عدم محض ليس بإزاء الوجود الذي يطلبه طباع الشيء ولا مما يمكن حصوله له من الكمالات والخيرات كقصور الممكن عن الوجود الواجبي والوجوب الذاتي وقصور بعض الممكنات عن بعض كقصور الأجسام عن النفوس فالخير الذي يقابل هذا منحصر في الواجب تعالى إذ له الكمال المطلق والوجود الحق بلا جهة إمكانية بوجه من الوجوه وما عداه من المهيئات المعروضة للوجود لا يخلو من شوب شرية ما وظلمة ما على تفاوت إمكاناتهم حسب تفاوت طبقاتهم في البعد عن ينبوع الوجود ومطلع نور الخير والجود ، وهذا الشر منبعه الإمكان الذاتي ، والثاني ما يكون عدم ما يطلبه الشيء أو ما يمكن حصوله له من الكمالات ولا يتصور هذا في غير الماديات إذ الإبداعيات يكون وجودها على أكمل ما يتصور في حقها فلا يكون لها شرية بهذا المعنى وما عداها من المتعلقة بالمادة لا تخلو من شرية على تفاوت إمكاناتها الاستعدادية بحسب تفاوت مراتبها في التعلق بالهيولى وهذا الشر منبعه الهيولى ومنبعها الإمكان إذ لولاه ما صدرت من مصدرها فآل الشر إلى الإمكان كما سمعت أولا.
وثانيهما ما يمنع الشيء عن الوصول إلى الخير الممكن في حقه من الوجود أو كمال الوجود كالبرد والحر المفسدين للثمار والمطر المانع للقصار عن تبييض الثياب والأخلاق الذميمة المانعة للنفس عن وصولها إلى كمالها العقلي كالبخل والإسراف والجهل المركب والسفاهة والأفعال الذميمة كالزنا والسرقة والنميمة وأشباه ذلك من الآلام والغموم وغير ذلك من الأشياء الوجودية لكن يتبعها إعدام ، وإطلاق الشر عندهم على المعنى الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز لأن الشر الحقيقي لا ذات له بل هو إما عدم ذات أو عدم كمال لذات ، والبرهان عليه أنه لو كان أمرا وجوديا فلا يخلو إما أن يكون شرا لنفسه أو لغيره والأول باطل وإلا لما وجد إذ الشيء لا يقتضي لذاته عدمه أو عدم كماله كيف وجميع الأشياء طالبة لكمالاتها لا مقتضية لعدمها مع أنه لو اقتضى كان الشر ذلك العدم لا نفسه وكذا الثاني لأن كونه لغيره إما لأنه لعدم ذلك الغير أو لأنه لعدم بعض كمالاته فإنه لو لم يكن معدما لشيء أصلا لا لوجوده ولا لكمال وجوده لم يكن شرا لذلك الشيء ضرورة أن كل ما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كمال له لا يكون شرا له فإذا ليس الشر إلا عدم ذلك الشيء أو عدم كماله لا نفس الأمر الوجودي المعدم بل هو في ذاته من الكمالات النفسانية أو الجسمانية كالظلم فإنه وإن كان شرا بالقياس إلى المظلوم وإلى النفس الناطقة التي كمالها في تسخير قواها وكسرها لكنه خير بالقياس إلى القوة الغضبية التي كمالها بالانتقام ، وكذا الإحراق كمال للنار وشر لمن يتضرر به فعلم أن الشر إما عدم ذات أو عدم كمال لها فالوجود من حيث إنه وجود خير محض والعدم من حيث إنه عدم شر محض ، ثم إنك

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 142
قد علمت أن الشر الذي هو بمعنى العدم منه ما هو من لوازم الماهيات التي لا علة لها ومنه ما لا يكون من هذا القبيل بل قد يلحق الماهيات لا من ذاتها فلا بد له من علة والكلام ليس في الأول الذي لا لمية له إذ قد تقرر أنه ليس للماهيات في كونها ممكنة ولا في حاجتها إلى علة لوجودها علة ولا لقصور الممكن عن الواجب بذاته ولا لتفاوت مراتب هذا النقصان في الماهيات علة بل إنما ذلك لاختلاف الماهيات في حدود ذاتها لا لأمر خارج عنها كيف ولو كان النقص في جميعها متشابها لكانت الماهيات ماهية واحدة بل الكلام في الثاني وهو عدم ما هو من الأمور الزائدة على مقتضى النوع كالجهل بالفلسفة للإنسان مثلا فإن ذلك ليس شرا له لأجل كونه إنسانا بل لأجل أنه فقد لما اقتضاه شخص مستعد له مشتاق إليه من حيث إنه وجد فيه هذا الاستحقاق والاشتياق الذي لا صلاح في أن يعم.
وهذا الشر إنما يوجد في الأشياء على سبيل الندرة فكل ما وجد فهو خير محض أو خيره أكثر من شره ، وأما ما يكون شرا محضا أو مستولي الشرية أو متساوي الطرفين فمما لا وجود له أصلا حتى يحتاج فيه إلى منشأ سوى الواجب تعالى الذي هو خير محض لا يوجد منه شر أصلا كما توهمه كفرة المجوس ، ثم كل ما كان خيرا محضا أو كان خيره أكثر يصدر من الواجب بمقتضى أن من شأنه إفاضة الخير لأن ترك الأول شر محض وترك الثاني شر غالب ، وعالم العناصر من القسم الثاني فإن إيجابه للشرور على الوجه النادر ولا تسوغ عناية المبدع ورحمة الجواد إهماله وإلا لزم خير كثير لشر قليل وهو شر كثير على أنها إنما تكون للنفع في أشياء لو لم تخلق لخلق سربال الوجود وقصر رداء الجود وبقي في كتم العدم عوالم كثيرة ونفائس جمة غفيرة فمن هذه الحيثية يكون ذلك الشر القليل مقتضيا بالذات وهي مع ذلك إنما توجد تحت كرة القمر في بعض جوانب الأرض التي هي حقيرة بل لا شيء بالنسبة إلى ما عند ربك سبحانه وتكون لبعض الأشخاص في بعض الأوقات وليست أيضا شرورا بالنسبة إلى نظام الكل فإذا تصورت ذرة الشر في أبحر أشعة شمس الخير لا يضرها بل يزيدها بهاء وجمالا وضياء وكمالا كالشامة السوداء على الصورة المليحة البيضاء يزيدها حسنا وملاحة وإشراقا وصباحة.
ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء ومقابله بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الأشاعرة وإلا فقد يقال : إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الإسلام قالوا : إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط وأمور العالم منوطة بقوانين كلية وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية.
وقول الإمام : إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب والجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها ناشىء من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار وليس صدور الأفعال من اللّه تعالى عندهم صدور الإحراق من النار ، وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون صدور الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادىء النظر إثبات ما افترته الثنوية من مبدأين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك بذلك البحث فهو فضل لا فضول ، وبالجملة ما يصدر عنه تعالى إما ما هو بريء بالكلية عن الشر وإما ما يلزمه شر قليل وفي تركه شر كثير ولا يصدر عنه تعالى ذلك أيضا في حق شخص إلا بعد طلب ماهيته له في نفسها كما يشير إليه قوله تعالى : أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه : 50] إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الإشارات وشروحها كلام طويل يتعلق بهذا المقام ولعل فيما ذكرنا كفاية لذوي الأفهام.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 143
هذا ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر حال القرآن بالنسبة إلى المؤمنين وإلى الكافرين وبين حال الكافر في حالي الإنعام ومقابله ذكر ما يصلح جوابا لم يقول : لم كان الأمر كذلك؟ فقال عز قائلا : قُلْ كُلٌّ أي واحد من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي والقانط يَعْمَلُ عمله عَلى شاكِلَتِهِ أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله وما هو عليه في نفس الأمر وتشابهه في الحسن والقبح من قولهم طريق ذو شواكل أي طرق تتشعب منه وهو مأخوذ من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير ويقال لست من شكلي ولا شاكلتي وأما الشكل بكسر الشين فالهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة ، وظاهر عبارة القاموس أن كلا من الشكل والشكل يطلق على المثل والهيئة.
وهذا التفسير مروي عن الفراء والزجاج واختاره الزمخشري وغيره لقوله تعالى : فَرَبُّكُمْ الذي برأكم متخالفين أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أسد طريقا وأبين منهاجا وفسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة على أنها من شكلت الدابة إذا قيدتها أي على طبيعته التي قيدته لأن سلطان الطبيعة على الإنسان ظاهر وهو ضابط له وقاهر. وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ومثل ذلك في المأخذ تفسير بعضهم بالعادة ومن مشهور كلامهم العادات قاهرات ، وكذا تفسير ابن زيد لها بالدين وكلا التفسيرين دون الأولين. ولعل الدين هنا بمعنى الحال وهو أحد معانيه.
وجوز الإمام وغيره أن يكون المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسا مشرقة حرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف : 58] وإن كانت نفسا كدرة نذلة خبيثة ظلمانية سفلية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف : 58] واختار أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة الماهية ولذا اختلفت آثارها ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللّه تعالى قريبا ، ولا يرد أن خسة الأفعال وشرافتها إذا كانتا تابعتين لخسة النفس وشرافتها وهما أمران خلقيان لا مدخل لاختيار فيهما فعلام المدح والذم والثواب والعقاب لأنهم قالوا : إن ذلك لأمر ذاتي وهو حسن استعداد النفس في نفسها وسوء استعدادها أيضا في نفسها ولا تثاب النفس ولا تعاقب إلا لاستعدادها في الأزل وطلبها لذلك بلسان حالها والمشهور إطلاق القول بأن ذلك غير مجعول وإنما المجعول وجوده وإبرازه على طبق ما هو عليه في نفسه فاعملوا فكل ميسر لما خلق له ومن وجد خيرا فليحمد اللّه تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وقال بعض :
إنه مجعول بالجعل البسيط على معنى أنه أثر الفيض الأقدس الذي هو مقتضى ذاته عز وجل بطريق الإيجاب ويجري نحو هذا في الوجهين الأولين.
وقال بعض المتأخرين «1» من فلاسفة الإسلام المتصدين للجمع برأيهم بين الشريعة والفلسفة إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة واقتضاؤها للمعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجرى المرض والخروج عن الحالة الطبيعية فيكون ميلها للمعصية مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين ، وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب كما أن الصحة منها ، وفي الحديث القدسي «إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم»
، وفي الأثر «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»
أي بواسطة الشياطين أو المراد بهم ما يعم شياطين الإنس والجن أو الشياطين كناية عن العوارض الغريبة فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصو أو لبقوا على فطرتهم لكن مسهم الشيطان ففسدت عليهم فطرتهم الأصلية
___________
(1) هو الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 144
فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه :
ولو لا المزعجات من الليالي ما ترك القطا طيب المنام
ولذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات اللّه تعالى ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية ومقتضى ذاتهم البهية ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم ، ولذا قيل :
الأنبياء أطباء وهم أعرف بالداء والدواء ، ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا لعروضهما لهم ورخصة في حلوقهما بهم لم يكونا يعرضان ولا يلحقان فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة لجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها ، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية لهم فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمرا آخر ، وانظر إلى طبيعة «2» التي تقتضي يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من وجه فالإنسان عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم سعيد شقي ملتذ ولكن لذته ألمه سعيد ولكن سعادته شقاوته وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب ، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا ملخص لكثير من الشبهات في هذا الفصل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي وأن لكل شيء حالة في نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتبارات لا يفاض عليه إلا هي لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإثابة والتعذيب تابعان لذلك فسبحان الحكيم المالك فتثبت فكم قد زلت في هذا المقام أقدام أعلام كالأعلام نسأل اللّه تعالى أن ينور أفهامنا ويثبت أقدامنا ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
ثم اعلم أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : لم أر في القرآن أرجى من هذه الآية لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران قال ذلك حين تذاكروا القرآن. فقال عمر : لم أر آية أرجى من التي فيها غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ [غافر : 3] قدم الغفران قبل قبول التوبة ، وقال عثمان : لم أر آية أرجى من نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر : 49].
وقال علي كرم اللّه تعالى وجهه : لم أر أرجى من يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر : 53] الآية ،
وقيل في الأرجى غير ذلك وسيمر عليك إن شاء اللّه تعالى لكن ما قاله الصديق لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد كل أحد مطلقا يعمل على شاكلته فافهم.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الظاهر عند المنصف أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الإنساني ومبدأ حياته لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحدا إنكارها ويشرئب كل إلى معرفتها وتتوفر دواعي العقلاء إليها وتكل الأذهان عنها ولا تكاد تعلم إلا بوحي ، وزعم ابن القيم أن المسئول عنه الروح الذي أخبر اللّه تعالى عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة عليهم السلام قال لأنهم إنما يسألونه عليه الصلاة والسلام عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند اللّه تعالى لا يعلمه الناس ، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب إلى آخر ما قال وقد أطال ، وفي البحور الزاخرة أن هذا هو الذي عليه أكثر السلف بل كلهم ، والحق ما ذكرنا وهو الذي عليه الجمهور كما نص
___________
(2) قوله : إلى طبيعة التي تقتضي إلخ كذا في نسخة المؤلف وفيه حذف الموصوف والأصل إلى طبيعة الأرض التي تقتضي إلخ وانظر.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 145
عليه في البحر. وغيره ، نعم ما زعمه ابن القيم مروي عن بعض السلف فقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : الروح خلق من خلق اللّه تعالى وصورهم على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح ثم تلا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ [النبأ : 38].
وأخرج أبو الشيخ وغيره من طريق عطاء عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال في الروح المسئول عنه : هو ملك واحد له عشرة آلاف جناح جناحان منها ما بين المشرق والمغرب له ألف وجه لكل وجه لسان وعينان وشفتان يسبح اللّه تعالى بذلك إلى يوم القيامة. وأخرج هو وغيره أيضا عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال فيه : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح اللّه تعالى بتلك اللغات كلها يخلق اللّه تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة
. وتعقب هذا بأنه لا يصح عن علي كرم اللّه تعالى وجهه وطعن الإمام في ذلك بما طعن.
وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن مجاهد أنه قال : الروح خلق من الملائكة عليهم السلام لا يراهم الملائكة كما لا ترون أنتم الملائكة.
وأخرج أبو الشيخ عن سلمان أنه قال : الإنس والجن عشرة أجزاء فالإنس جزء والجن تسعة أجزاء والملائكة والجن عشرة أجزاء فالجن من ذلك جزء والملائكة تسعة والملائكة والروح عشرة أجزاء فالملائكة من ذلك جزء والروح تسعة أجزاء والروح والكروبيون عشرة أجزاء فالروح من ذلك جزء والكروبيون تسعة أجزاء ، وقال الحسن وقتادة :
الروح هو جبرائيل عليه السلام وقد سمي روحا في قوله تعالى : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء : 193 ، 194] والسؤال عن كيفية نزوله وإلقائه الوحي إليه عليه الصلاة والسلام ، وقال بعضهم هو القرآن وقد سمي روحا في قوله تعالى : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى : 52] وقيل غير ذلك.
وزعم بعضهم أن السؤال عن حدوث الروح بالمعنى الأول وقدمه وليس بشيء كما ستسمع إن شاء اللّه تعالى.
وضمير يسألون لليهود
فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال : كنت أمشي مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح وقال بعضهم : لا تسألوه فسألوه فقالوا : يا محمد ما الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب فظننت أنه يوحى إليه فلما نزل الوحي قال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية
، وقال بعضهم : لقريش لما أخرج أحمد. والنسائي والترمذي. والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ إلخ.
وفي السير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن قريشا بعثت النضر بن الحارث. وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهم سلوهم محمدا فإنهم أهل كتاب عندهم من العلم ما ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم فقالوا سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فجاؤوا وسألوه فبين لهم صلّى اللّه عليه وسلّم قضيتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة ، والآية على هذا وما قبله مكية وعلى خبر الصحيحين مدنية وجمع بعضهم بين ذلك بأن الآية نزلت مرتين فتدبر ، وأيا ما كان فوجه تعقيب ما تقدم بها إن فسر الروح بالقرآن ظاهر ملائم لقوله تعالى : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ ولما بعده من الامتنان عليه وعلى متبعيه بحفظه في الصدور والبقاء وكذلك إن فسر بجبرائيل عليه السلام ، وأما على قول الجمهور فقد ورد معترضا دلالة على خسار الظالمين وضلالهم وأنهم مشتغلون عن تدبر الكتاب

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 146
والانتفاع به إلى التعنت بسؤال ما اقتضت الحكمة سد طريق معرفته ، ويقال نحو هذا على القول المروي عن بعض السلف قُلِ الرُّوحُ أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء مِنْ أَمْرِ رَبِّي كلمة مِنْ تبعيضية ، وقيل :
بيانية والأمر واحد الأمور بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي إذ ما من شيء إلا وهو مضاف إليه عز وجل بهذا المعنى ، فيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هي من جنس ما استأثر اللّه تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تدركها عيون عقول البشر.
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك ، وهذا على ما قيل ترك للبيان ونهي لهم عن السؤال.
أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآية بمكة فلما هاجر صلى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أفعنيتنا أم قومك قال : كلا قد عنيت قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : هي في علم اللّه تعالى قليل وقد آتاكم اللّه تعالى ما إن عملتم به انتفعتم فأنزل اللّه تعالى وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ - إلى قوله سبحانه - إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
[لقمان : 27 - 28] وكأنه صلّى اللّه عليه وسلّم أشار إلى أن المراد في الآية - تبيانا لكل شي ء - من الأمور الدينية ولا شك أنها أقل قليل بالنسبة إلى معلومات اللّه تعالى التي لا نهاية لها ، وبهذا يرد على القائل بالعموم الحقيقي.
وفي رواية النسائي وابن حبان والترمذي والحاكم وصححاها أن اليهود قالوا حين نزلت الآية : أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل اللّه تعالى : قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ [الكهف : 109] الآية
، ولا يخفى أن هذا أيضا لا يلزم منه التناقض لأن الكثرة والقلة من الأمور الإضافية فالشيء يكون قليلا بالنسبة إلى ما فوقه وكثيرا بالنسبة إلى ما تحته فما في التوراة قليل بالنسبة إلى ما في علم اللّه تعالى شأنه كثير بالنسبة إلى أمر آخر ، وفي رواية أخرجها ابن مردويه عن عكرمة أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما قال ذلك قال اليهود : نحن مختصون بهذا الخطاب فقال : بل نحن وأنتم فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول : وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة : 269] وساعة تقول :
هذا فنزل وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
إلخ ، ولا يلزم منه التناقض أيضا على نحو ما تقدم بأن يقال :
الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وهو قليل بالنسبة إلى معلوماته تعالى كثير بالنسبة إلى غيرها ، وإلى تعميم الخطاب بحيث يشمل الناس أجمعين ذهب ابن جريج كما أخرجه عنه ابن جرير. وابن المنذر لكن يعكر على القول بالعموم ظاهر قراءة ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا» فإنه يقتضي الاختصاص بالسائلين ، والحديث الأخير الذي هو نص فيه قال العراقي : إنه غير صحيح ، والحديث الأول اللّه تعالى أعلم بحاله ، وقال غير واحد : معنى كون الروح من أمره تعالى أنه من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني فالمراد من الأمر واحد الأوامر أعني كن والسؤال عن الحقيقة والجواب إجمالي ، ومآله أنا لروح من عالم الأرض مبدعة من غير مادة لا من عالم الخلق وهو من الأسلوب الحكيم كجواب موسى عليه السلام سؤال فرعون إياه ما رب العالمين إشارة إلى أن كنه حقيقته مما لا يحيط به دائرة إدراك البشر وإنما الذي يعلم هذا المقدار الإجمالي المندرج تحت ما استثني بقوله تعالى : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات ولذلك قيل : من فقد حسا فقد فقد علما ، ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس لكونه غير محسوس أو محسوسا منع من إحساسه مانع كالغيبة مثلا وكذا لا يدرك شيئا من عرضياته ليرسمه بها فضلا عن أن ينتقل منها الفكر إلى الذاتيات

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 147
ليقف على الحقيقة ، وظاهر كلام بعضهم أن الوقوف على كنه الروح غير ممكن فلا فرق عنده بين الجوابين.
وفرق الخفاجي بأن بيان كنه الروح ممكن بخلاف كنه الذات الأقدس ، وفي الكشف أن سبيل معرفة الروح إزالة الغشاء عن أبصار القلوب باجتلاء كحل الجواهر من كلام علام الغيوب فهو عند المكتحلين أجلى جلي وعند المشتغلين أخفى خفي ، ويشكل على هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن بريدة قال : لقد قبض النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وما يعلم الروح ، ولعل عبد اللّه هذا يزعم أنها يمتنع العلم بها وإلا فلم يقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى علم كل شيء يمكن العلم به كما يدل عليه ما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال : حديث صحيح وسبيل البخاري عنه فقال : حديث حسن صحيح عن معاذ رضي اللّه تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أدري رب قال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري رب قلت لا أدري رب فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري وتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث «1»
و«رأيت» يعلم في الخبر السابق في بعض الكتب مضبوطا بالبناء للمفعول والروح مضبوطا بالرفع والإشكال على ذلك أوهن إلا أنه خلاف الظاهر.
ويفهم من كلام بعض متأخري الصوفية أنه يمتنع الوقوف على حقيقة الروح بل ذكر هذا البعض أن حقيقة جميع الأشياء لا يوقف عليها وهو مبني على ما لا يخفى عليك ورده أو قبوله مفوض إليك. ثم إن لي في هذا الوجه وقفة فإن الظاهر أن إطلاق عالم الأمر على الكائن من غير تحصل من مادة وتولد من أصل وإطلاق عالم الخلق على خلافه محض اصطلاح لا يعرف للعرب ولا يعرفونه ، وفي الاستدلال عليه بقوله تعالى : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف :
54] ما لا يخفى على منصف ، هذا وذكر الإمام أن السؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة وليس في قوله تعالى :
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ما يدل على وجه منها إلا أن الجواب المذكور لا يليق إلا بوجهين منها الأول كونه سؤالا عن الماهية : والثاني كونه سؤالا عن القدم والحدوث ، وحاصل الجواب على الأول أنها جوهر بسيط مجرد محدث بأمر اللّه تعالى وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم «2» من عدم العلم بحقيقته المخصوصة فإن أكثر حقائق الأشياء ماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها ويشير إليه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ومبنى هذا أيضا الفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق وقد سمعت ما فيه ، وحاصل الجواب على الثاني أنه حادث حصل بفعل اللّه تعالى وتكوينه وإيجاده ، وجعل قوله تعالى : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا احتجاجا على الحدوث بمعنى أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها ذلك فلا تزال في تغير من حال إلى حال وهو من أمارات الحدوث ، وأنت تعلم أن حمل السؤال على ما ذكر وجعل الجواب إخبارا بالحدوث مع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذ وقد أخبر عنه وجعل ذلك احتجاجا على الحدوث من أعجب الحوادث كما لا يخفى على ذي روح واللّه تعالى أعلم.
وهاهنا أبحاث لا بأس بإيرادها : البحث الأول في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان ، وظاهر كلام الإمام أن الاختلاف في حقيقته عين الاختلاف في حقيقة الروح ، وفي القلب من ذلك ما فيه فذهب جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه الإنسان بقوله أنا وأبطل ذلك
___________
(1) وشرح هذا الحديث الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة وطبعناها والحمد للّه.
(2) قوله ولا يلزم إلخ كذا بخط مؤلفه وانظر.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 148
الإمام يسبع عشرة حجة نقلية وعقلية لكن للبحث في بعضها مجال ، منها ما تقدم من أن أجزاء البنية متغيرة زيادة ونقصانا وذبولا ونموا والعلم الضروري قاض بأن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول العمر إلى آخره وغير الباقي غير الباقي ، ومنها أن الإنسان قد يعتريه ما يشغله عن الالتفات إلى أجزاء بنيته كلا وبعضا ولا يغفل عن نفسه المعينة بدليل أنه يقول مع ذلك الشاغل فعلت وتركت مثلا وغير المعلوم غير المعلوم.
ومنها أنه قد توجد البنية المخصوصة وحقيقة الإنسان غير حاصلة فإن جبريل عليه السلام كثيرا ما رؤي في صورة دحية الكلبي وإبليس عليه اللعنة رؤي في صورة شيخ نجدي وقد تنتفي البنية مع بقاء حقيقة الإنسان فإن الممسوخ مثلا قردا باقية حقيقته مع انتفاء البنية المخصوصة وإلا لم يتحقق مسخ بل إماتة لذلك الإنسان وخلق قرد ، ومنها أنه جاء في الخبر أن الميت إذا حمل على النعش رفرف روحه فوق النعش ويقول : يا أهلي.
ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله ومن غير حله ثم تركته لغيري فالهناء له والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي فصرح صلّى اللّه عليه وسلّم بأن هناك شيئا ينادي غير المحمول كان الأهل أهلا له وكان الجامع للمال من الحلال والحرام وليس ذلك إلا الإنسان إلى غير ذلك مما ذكره في تفسيره ، وقيل : إن الإنسان هو الروح الذي في القلب ، وقيل : إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ ، وقيل : إنه أجزاء نارية مختلطة بالأرواح القلبية والدماغية وهي المسماة بالحرارة الغريزية ، وقيل : هو الدم الحال في البدن ، وقيل وقيل إلى نحو ألف قول والمعول عليه عند المحققين قولان ، الأول أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس سار فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا لقبول الفيض لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان والروح عبارة عن ذلك الجسم واستحسن هذا الإمام فقال هو مذهب قوي وقول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت ، وقال ابن القيم في كتابه - الروح : إنه الصواب ولا يصح غيره وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع.
الثاني أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة. وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين منهم الشيخ أبو القاسم الراغب الأصفهاني وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ومن المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم وقد قدمنا لك الأدلة على ذلك ، ومن أراد الإحاطة بذلك فليرجع إلى كتب الشيخين أبي علي وشهاب الدين المقتول وإلى كتب الإمام الرازي كالمباحث المشرقية وغيره ، وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج الغر أحكمها وأتقنها ما يبتني على تعقل النفس لذاتها وابن القيم زيف حججه في كتابه وهو كتاب مفيد جدا يهب للروح روحا ويورث للصدر شرحا ، واستدل الإمام على ذلك في تفسيره بالآية المذكورة فقال : إن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنه وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك وقال. هو من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن اللّه تعالى قال له كن فيكون دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد ، ولا يخفى أن ذلك من الإقناعيات الخطابية وهي كثيرة في هذا الباب ، منها قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 149
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر : 29 ، ص : 72] وقوله سبحانه : وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء : 171] فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الإنسي وكونه عريا عن الملابس الحسية ، ومنها
قوله عليه الصلاة والسلام : «أنا النذير العريان»
ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الأجرام ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن اللّه تعالى خلق آدم على صورة الرحمن
وفي رواية «على صورته»
، وقوله عليه الصلاة والسلام : «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»
ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قربا بالذات والصفات مجردا عن علائق الأجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال ، وكان ثابت بن قرة يقول : إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبرا للبدن وإذا انفصلت عنه انقطع التعلق ، وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده.
«البحث الثاني في اختلاف الناس في حدوث الروح وقدمه» أجمع المسلمون على أنه حادث حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم إلا أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده فذهب طائفة إلى الحدوث قيل منهم محمد بن نصر المروزي. وأبو محمد بن حزم الظاهري وحكاه إجماعا وقد افترى ، واستدل لذلك بما
في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»
قال ابن الجوزي في تبصرته : قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا الحديث الأخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد ، وزعم ابن حزم أنها في برزخ وهو منقطع العناصر فإذا استعد جسد لشيء منها هبط إليه وأنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة ولا دليل لهذا من كتاب أو سنة.
وبعضهم استدل على ذلك بخبر خلق اللّه تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، وتعقبه ابن القيم بأنه لا يصح إسناده ، وذهب آخرون منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد ، ومن أدلة ذلك كما
قال ابن القيم الحديث الصحيح «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما دما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح»
ووجه الاستدلال أن الروح لو كان مخلوقا قبل لقيل ، ثم يرسل إليه الملك بالروح فيدخله فيه ، وصرح في روضة المحبين ونزهة المشتاقين باختيار هذا القول فقال إن القول بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد قول فاسد وخطأ صريح ، والقول الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أنها مخلوقة مع الأجساد وأن الملك ينفخ الروح أي يحدثه بالنفخ في الجسد إذا مضى على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس ، ومن قال إنها مخلوقة قبل فقد غلط ، وأقبح منه قول من قال إنها قديمة انتهى ، وفيه تأمل ، ويوافق مذهب الحدوث قوله تعالى : ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون : 14] فليفهم.
وذهب أفلاطون ومن تقدمه من الفلاسفة إلى قدم الروح وذهب المعلم الأول إلى حدوثها مع حدوث البدن المستعد له كما ذهب إليه بعض الإسلاميين ، وقد تقدم الكلام في استدلال كل جرحا وتعديلا ، ويقال هنا : إن المعلم الأول قائل كغيره من الفلاسفة بتجرد الروح المسماة بالنفس الناطقة عندهم عن المادة فكيف يسعه القول بحدوثها مع قولهم كل حادث زماني يحتاج إلى مادة ، وأجيب بأن المادة هاهنا أعم من المحل والمتعلق به والبدن مادة للنفس بهذا المعنى ، وأنت تعلم أن استعداد الشيء للشيء لا يكون إلا فيما إذا كان ذلك مقترنا به لا مباينا عنه فالأولى أن يقال : إن البدن الإنساني لما استدعي لمزاجه الخاص صورة مدبرة له متصرفة فيه أي أمرا موصوفا بهذه الصفة من حيث هو كذلك وجب على مقتضى جود الواهب الفياض وجود أمر يكون مبدأ للتدابير الإنسية والأفاعيل البشرية ومثل هذا الأمر لا يمكن إلا أن يكون ذاتا مدركة للكليات مجردة في ذاتها فلا محالة قد فاض عليه حقيقة النفس لا من

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 150
حيث إن البدن استدعاها بل من حيث عدم انفكاكها عما استدعاه فالبدن استدعى باستعداده الخاص أمرا ماديا وجود المبدأ الفياض أفاد جوهرا قدسيا وكما أن الشيء الواحد قد يكون على ما قرروه جوهرا وعرضا باعتبارين كذلك يكون أمر واحد مجردا وماديا باعتبارين فالنفس الإنسانية مجردة ذاتا مادية فعلا فهي من حيث الفعل من التدبير والتحريك مسبوقة باستعداد البدن مقترنة به وأما من حيث الذات والحقيقة فمنشأ وجودها وجود المبدأ الواهب لا غير فلا يسبقها من تلك الحيثية استعداد البدن ولا يلزمها الاقتران في وجودها به ولا يلحقها شيء من مثالب الماديات إلا بالعرض.
ويمكن تأويل ما نقل عن أفلاطون في باب قدم النفس إلى هذا بوجه لطيف كذا قاله بعض صدور المتأخرين فتأمله.
«البحث الثالث» اختلف الناس في الروح والنفس هل هما شيء واحد أم شيئان فحكى ابن زيد عن أكثر العلماء أنهما شيء واحد فقد صح في الأخبار إطلاق كل منهما على الآخر وما
أخرجه البزار بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه «أن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يود لو خرجت نفسه واللّه تعالى يحب لقاءه وأن المؤمن تصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا» الحديث
ظاهر في ذلك.
وقال ابن حبيب : هما شيئان فالروح هو النفس المتردد في الإنسان والنفس أمر غير ذلك لها يدان ورجلان ورأس وعينان وهي التي تلتذ وتتألم وتفرح وتحزن وإنها هي التي تتوفى في المنام وتخرج وتسرح وترى الرؤيا وييقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود ، واحتج بقوله تعالى : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر : 42] الآية ، وحكى ابن منده عن بعضهم أن النفس طينية نارية والروح نورية روحانية ، وعن آخر أن النفس ناسوتية والروح لاهوتية ، وذكر أن أهل الأثر على المغايرة وأن قوام النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لا بن آدم من نفسه لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها ، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها ، وظاهر كلام بعض محققي الصوفية القول بالمغايرة ففي منتهى المدارك للمحقق الفرغاني أن النفس المضافة إلى الإنسان عبارة عن بخار ضبابي منبعث من باطن القلب الصنوبري حامل لقوة الحياة متجنس بأثر الروح الروحانية المرادة بقوله تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر : 29 ، ص : 72] الثابت تعينها في عالم الأروح وأثرها واصل إلى هذا البخار الحامل للحياة فالنفس إذن أمر مجتمع من البخار ووصف الحياة وأثر الروح الروحانية وهذه النفس يحكم تجنسها بأثر الروح الروحانية متعينة لتدبير البدن الإنساني قابلة لمعالي الأمور وسفاسفها كما قال سبحانه وتعالى : فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس : 8] والروح الروحانية أمر لا يكتنه والحق أنهما قد يتحدان إطلاقا وقد يتغايران ، وابن القيم اعتمد ما عليه الأكثرون من الاتحاد ذاتا ، وذكر غير واحد أنه هو الذي عليه الصوفية بيد أنهم قالوا : إن النفس هي الأصل في الإنسان فإذا صقلت بالرياضة وأنواع الذكر والفكر صارت روحا ثم قد تترقى إلى أن تصير سرا من أسرار اللّه تعالى.
وتفصيل الكلام حينئذ في هذا المقام أن للنفس مراتب تترقى فيها ، الأولى تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهية من القيام والصيام وغيرهما ، الثانية تهذيب الباطن عن الملكات الردية والأخلاق الدنية ، الثالثة تحلي النفس بالصور القدسية ، الرابعة فناؤها عن ذاتها وملاحظتها جلال رب العالمين جل جلاله ، ويقال في كيفية الترقي في هذه المراتب أن الإنسان أول ما يولد فهو كباقي الحيوانات لا يعرف إلا الأكل والشرب ثم بالتدريج يظهر له باقي صفات النفس من الشهوة والغضب والحرص والحسد وغير ذلك من الهيآت التي هي نتائج الاحتجاب والبعد من معدن الجود والصفات الكمالية ثم إذا تيقظ من سنة الغفلة وقام من نوم الجهل وبان له أن وراء هذه اللذات البهيمية لذات أخر وفوق هذه المراتب مراتب أخر كمالية يتوب عن اشتغاله بالمنهيات الشرعية وينيب إلى اللّه تعالى بالتوجه إليه فيشرع في ترك

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 151
الفضول الدنيوية طلبا للكمالات الأخروية ويعزم عزما تاما ويتوجه إلى السلوك إلى ملك الملوك من مقام نفسه فيهاجر منه ويقع في الغربة ويا طوبى للغرباء وإن قيل : إنما الغربة للأحرار ذبح ثم إذا دخل في الطريق يزهد عن كل ما يعوقه عن مقصوده ويصده عن معبوده فيتصف بالورع والتقوى والزهد الحقيقي ثم يحاسب نفسه دائما في أقواله وأفعاله ويتهمها في كل ما تأمر به وإن كان عبادة فإنها مجبولة على حب الشهوات ومطبوعة على الدسائس الخفيات فلا ينبغي أن يأمنها ويكون على ثقة منها.
يحكى عن بعض الأكابر أن نفسه لم تزل تأمره بالجهاد وتحثه عليه فاستغرب ذلك ثم فطن أنها تريد أن تستريح من نصب القيام والصيام بالموت فلم يجبها إلى ذلك فإذا خلص منها وصفا وقته وطاب عيشه بما يجده في طريق المحبوب يتنور باطنه ويظهر له لوامع أنوار الغيب وينفتح له باب الملكوت وتلوح منه لوائح مرة بعد أخرى فيشاهد أمورا غيبية في صور مثالية فإذا ذاق شيئا منها يرغب في العزلة والخلوة والذكر والمواظبة على الطهارة والعبادة والمراقبة والمحاسبة ويعرض عن الملاذ الحسية كلها ويفرغ القلب عن محبتها فيتوجه باطنه إلى الحق تعالى بالكلية فيظهر له الوجد والسكر والشوق والعشق والهيمان ويجعله فانيا عن نفسه غافلا عنها فيشاهد الحقائق السرية والأنوار الغيبية فيتحقق بالمشاهدة والمعاينة والمكاشفة ويظهر له أنوار حقيقية تارة وتختفي أخرى حتى يتمكن ويتخلص من التلوين وينزل عليه السكينة الروحية والطمأنينة الإلهية ويصير ورود هذه البوارق والأحوال له ملكة فيدخل في عوالم الجبروت ويشاهد العقول المجردة والأنوار القاهرة من الملائكة المقربين والمهيمين ويتحقق بأنوارهم فيظهر له أنوار سلطان الأحدية وسواطع العظمة والكبرياء الإلهية فتجعله هباء منثورا ويندك حيئنذ جبال إنيته فيخر للّه تعالى خرورا ويتلاشى في التعين الذاتي ويضمحل وجوده في الوجود الإلهي وهذا مقام الفناء والمحو وهو غاية السفر الأول للسالكين فإن بقي في الفناء والمحو ولم يجىء إلى البقاء والصحو صار مستغرقا في عين الجمع محجوبا بالحق عن الخلق لا يزيغ بصره عن مشاهدة جماله عز شأنه وأنوار ذاته وجلاله فاضمحلت الكثرة في شهوده واحتجب التفصيل عن وجوده وذلك هو الفوز العظيم ، وفوق ذلك مرتبة يرجع فيها إلى الصحو بعد المحو وينظر إلى التفصيل في عين الجمع ويسع صدره الحق والخلق فيشاهد الحق في كل شيء ويرى كل شيء بالحق على وجه لا يوجب
التكثر والتجسم وهو طور وراء طور العقل ، ووقع في عبارة بعضهم أنه قد يصير العارف متخلقا بأخلاق اللّه تعالى بالحقيقة لا بمعنى صيرورة صفاته تعالى عرضا قائما بالنفس فإن هذا مما لا يتصور أبدا ، والقول به خروج عن الشريعة والطريقة والحقيقة بل بمعنى علاقة أخرى أتم من علاقتها مع الصفات الكونية البدنية وغيرها لا تعلم حقيقتها ، ولعل مرادهم بالمرتبة التي تترقى إليها النفس فتكون سرا من أسرار اللّه تعالى هي هذه المرتبة والاطلاع عليها يحتاج إلى سلوك طريقة الأبرار ولا يتم بمجرد الأنظار والأفكار واللّه تعالى الموفق للسلوك والمتفضل بالغنى على الصعلوك.
«البحث الرابع» اختلف الناس في الروح هل تموت أم لا؟ فذهبت طائفة إلى أنها تموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت وقد دل الكتاب على أنه لا يبقى إلا اللّه تعالى وحده وهو يستدعي هلاك الأرواح كغيرها من المخلوقات وإذا كانت الملائكة عليهم السلام يموتون فالأرواح البشرية أولى ، وأيضا أخبر سبحانه عن أهل النار أنهم يقولون أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر : 11] ولا تحقق الإماتتان إلا بإماتة البدن مرة وإماتة الروح أخرى.
وقالت طائفة : إنها تموت للأحاديث الدالة على نعيمها وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها اللّه تعالى إلى الجسد ، وإن قلنا بموتها لزم انقطاع النعيم والعذاب ، والصواب أن يقال : موت الروح هو مفارقتها الجسد فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت وإن أريد أنها تعدم وتضمحل فهي لا تموت بل تبقى مفارقة ما شاء اللّه تعالى ثم تعود إلى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 152
الجسد وتبقى معه في نعيم أو عذاب أبد الآبدين ودهر الداهرين وهي مستثناة ممن يصعق عند النفخ في الصور على أن الصعق لا يلزم منه الموت والهلاك ليس مختصا بالعدم بل يتحقق بخروج الشيء عن حد الانتفاع به ونحو ذلك ، وما ذكر في تفسير الإماتتين غير مسلم ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام فيه.
وإلى أنها لا تموت بموت البدن ذهبت الفلاسفة أيضا ، واحتج الشيخ عليه بأن قال : قد ثبت أن النفس يجب حدوثها عند حدوث البدن فلا يخلو إما أن يكونا معا في الوجود أو لأحدهما تقدم على الآخر فإن كانا معا فلا يخلو إما أن يكونا معا في الماهية أولا في الماهية والأول باطل وإلا لكانت النفس والبدن متضايفين لكنهما جوهران هذا خلف وإن كانت المعية في الوجود فقط من غير أن يكون لأحدهما حاجة في ذلك الوجود إلى الآخر فعدم كل واحد منهما يوجب عدم تلك المعية إما لا يوجب عدم الآخر وإما إن كان لأحدهما حاجة في الوجود إلى الآخر فلا يخلو إما أن يكون المقدم هو النفس أو البدن فإن كان المقدم في الوجود هو النفس فذلك التقدم إما أن يكون زمانيا أو ذاتيا والأول باطل لما ثبت أن النفس ليست موجودة قبل البدن ، وأما الثاني فباطل أيضا لأن كل موجود يكون وجوده معلول شيء كان عدمه معلول عدم ذلك الشيء إذ لو انعدم ذلك المعلول مع بقاء العلة لم تكن تلك العلة كافية في إيجابها فلا تكون العلة علة بل جزء من العلة هذا خلف فإذا لو كان البدن معلولا لا متنع عدم البدن إلا لعدم النفس ، والتالي بطلان البدن قد ينعدم لأسباب أخر مثل سوء المزاج أو سوء التركيب أو تفرق الاتصال فبطل أن تكون النفس علة للبدن ، وباطل أيضا أن يكون البدن علة للنفس لأن العلل كما عرف أربع ومحال أن يكون البدن علة فاعلية للنفس فإنه لا يخلو إما أن يكون علة فاعلية لوجود النفس بمجرد جسميته أو لأمر زائد على جسميته والأول باطل وإلا لكان كل جسم كذلك ، والثاني باطل أما أولا فلما ثبت أن الصور المادية إنما تفعل بواسطة الوضع وكل ما لا يفعل إلا بواسطة الوضع استحال أن يفعل أفعالا مجردة عن الحيز والوضع وأما ثانيا فلأن الصور المادية أضعف من المجرد القائم بنفسه والأضعف لا يكون سببا للأقوى ومحال أن يكون البدن علة قابلية لما ثبت أن النفس مجردة مستغنية عن المادة ، ومحال
أن يكون علة صورية للنفس أو تمامية فإن الأمر أولى أن يكون بالعكس فإذا ليس بين البدن والنفس علاقة واجبة الثبوت أصلا فلا يكون عدم أحدهما علة لعدم الآخر.
فإن قيل : ألستم جعلتم البدن علة لحدوث النفس؟ فنقول : قد بين أن الفاعل إذا كان منزها عن التغير ثم صدر عنه الفعل بعد أن كان غير صادر فلا بد وأن يكون لأجل أن شرط الحدوث قد حصل في ذلك الوقت دون ما قبله ثم إن ذلك الشرط لما كان شرطا للحدوث فقط وكان غنيا في وجوده عن ذلك الشيء استحال أن يكون عدم ذلك الشرط مؤثرا في عدم ذلك الشيء ، ثم لما اتفق أن كان ذلك الشرط مستعدا لأن يكون آلة للنفس في تحصيل الكمالات والنفس لذاتها مشتاقة إلى الكمال لا جرم حصل للنفس شوق طبيعي إلى التصرف في ذلك البدن والتدبير فيه على الوجه الأصلح ومثل ذلك لا يمكن أن يكون عدمه علة لعدم ذلك الحادث بل ذهب الفلاسفة إلى استحالة انعدام النفس وبرهنوا على ذلك بما برهنوا وعندنا لا استحالة في ذلك.
«البحث الخامس في تمايز الأرواح بعد مفارقتها الأبدان» نص ابن القيم على أن كل روح تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها وأن تمايز الأرواح أعظم من تمايز الأبدان إلا أنه زعم أنه لا يمكن التمايز بينها على القول بأنها جوهر مجرد عن المادة وفيه نظر فإن القائلين بذلك قائلون بالتمايز أيضا باعتبار ما يحصل لها من التعلق بالبدن أو بنحو آخر من التمايز ، وذكر الشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله أن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها وإلى ذلك الإشارة بالطير الخضر
في حديث الشهداء ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 153
أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ،
وأخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر في الجنة
أي إنها تكون في أبدان على تلك الصور ، ويؤيد ذلك
رواية ابن ماجة عن ابن مسعود أرواح الشهداء عند اللّه تعالى كطير خضر
، وفي لفظ عن كعب أرواح الشهداء طير خضر
، ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض
، وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول أن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة ،
وعلى هذا يكون إنكار قوم من المتكلمين خبر في أجواف طير وكذا خبر في عصافير لما في ذلك من تعلق روحين في بدن واحد وقد قالوا باستحالته ناشئا من عدم التأمل والتثبت لأنه على ما قررنا لا يكون للطائر روح غير روح الشهيد على أنه لو بقي الخبر على ظاهره لم يلزم محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه فتدبر.
«البحث السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان» الذي دلت عليه الأخبار أن مستقر الأرواح بعد المفارقة مختلف فمستقر أرواح الأنبياء عليهم السلام في أعلى عليين وصح أن آخر كلمة تكلم بها صلّى اللّه عليه وسلّم اللهم الرفيق الأعلى وهو يؤيد ما ذكر ، ومستقر أرواح الشهداء في الجنة ترد من أنهارها وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ، وروي في أرواح أطفال المؤمنين ما هو قريب من ذلك ، وروى ابن المبارك عن كعب قال : جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا ،
ولعل هذا كما قال ابن رجب في عوام الشهداء وما تقدم في خواصهم أو لعل هذا في شهداء الآخرة كالغريق والمبطون إلى غير ذلك ، وأما مستقر أرواح سائر المؤمنين فقيل في الجنة أيضا وهو نص الإمام الشافعي ، وقد أخرج الإمام مالك عن كعب بن مالك مرفوعا «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه اللّه تعالى في جسده حين يبعثه» ورواه الإمام أحمد في مسنده وخرجه النسائي من طريق مالك وخرجه ابن ماجة ورواه خلق كثير
، وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء
، وقال وهب بن منبه : إن للّه تعالى في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء يجتمع فيها أرواح المؤمنين ومستقر أرواح الكفار في سجين ، وفي حديث أم بشر أن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى جحر في النار يقولون ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا
، وقيل : مستقر أرواح الموتى أفنية قبورهم ، وحكى هذا ابن حزم عن عامة أهل الحديث ، واستدل له بعضهم
بحديث ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه تعالى»
وبأنه صلّى اللّه عليه وسلّم حين زار الموتى
قال «السلام عليكم دار قوم مؤمنين»
ورجح ابن عبد البر أن مستقر أرواح ما عدا الشهداء بأفنية القبور ، وفيه أنه إن أريد أن الأرواح لا تفارق الأفنية فهو خطأ يرده نصوص الكتاب والسنة وإن أريد أنها تكون هناك وقتا من الأوقات كما روي عن مجاهد الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت أولها إشراق على قبورها وهي في مقرها فهو حق لكن لا يقال مستقرها أقنية القبور ، وعول بعض المحققين على أن الأرواح حيث كانت لها اتصال لا يعلم حقيقته إلا اللّه تعالى وبذلك ترد السلام وتعرف المسلم ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار ، وقال بعضهم : لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودها إليه في أسرع وقت حيث يشاء اللّه تعالى ذلك ، نعم جاء في حديث البراء بن عازب ما يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها حيث
قال فيه في صفة قبض روح المؤمن فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب تعالى شأنه : ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى
، وفي لفظ ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 154
وعدتهم أن أردهم فيها ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه : 55]
الآية لكن قال الحافظ ابن رجب : إن حديث البراء وحده لا يعارض الأحاديث الكثيرة المصرحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء ، وقوله تعالى : مِنْها خَلَقْناكُمْ إلخ باعتبار الأبدان ، وقالت طائفة : مستقر الأرواح مطلقا في السماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام وعن شماله ويدل عليه ما
في الصحيحين عن أبي ذر من حديث المعراج ففيه لما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت لجبريل من هذا قال آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه وأهل اليمين ثم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار.
ويجاب بأن المراد أنه عليه السلام يرى هذين الصنفين من جهة يمينه وجهة شماله وهو يجامع كون أرواح كل فريق في مستقرها من الجنة والنار فقد رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الجنة والنار في صلاة الكسوف وهو في الأرض والجنة ليست فيها ورآهما وهو في السماء والنار ليست فيها ، وفي حديث لأبي هريرة في الإسراء ما يؤيد ما قلنا. والنسفي في بحر الكلام جعل الأرواح على أربعة أقسام أرواح الأنبياء عليهم السلام تخرج من جسدها ويصير مثل صورتها مثل المسك والكافور وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش ، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي إلى قناديل كأرواح الأنبياء. عليهم السلام ، وأرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة ، وأرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء ، وأما أرواح الكفار ففي سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة وهي متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح وتتألم من ذلك الأجساد اه. وما ذكره في أرواح المطيعين مخالف لما صح من أنها تتمتع في الجنة. وفي الإفصاح أن المنعم من الأرواح على جهات مختلفة منها ما هو طائر في شجر الجنة ومنها ما هو في حواصل طير خضر ومنها ما يأوي إلى قناديل تحت العرش ومنها ما هو في حواصل طير بيض ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير ، ومنها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة ومنها ما هو في صورة تخلق من ثواب أعمالهم ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها وتزورها ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل عليه السلام ومنها ما هو في كفالة آدم عليه السلام ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام اه ، قال القرطبي : وهذا قول حسن يجمع الأخبار حتى لا تتدافع وارتضاه الجلال السيوطي.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك قال : بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وهو إن صح ليس على إطلاقه.
وقيل في مستقر الأرواح غير ذلك حتى زعم بعضهم أن مستقرها لعدم المحض وهو مبني على أنها من الإعراض وهي الحياة وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد يرده الكتاب والسنة والإجماع والعقل السليم ، ويعجبني في هذا الفصل ما ذكره الإمام العارف ابن برجان في شرح أسماء اللّه تعالى الحسنى حيث قال : والنفس مبراة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وأوجد تبارك وتعالى الروح من باطن ما برأ منه النفس وهو للنفس بمنزلة النفس للجسم والنفس حجابه والروح يوصف بالحياة بإحياء اللّه تعالى شأنه له وموته خمود إلا ما شاء اللّه تعالى يوم خمود الأرواح والجسم يوصف بالموت حتى يحيى بالروح وموته مفارقة الروح إياه وإذا فارق هذا العبد الروحاني الجسم صعد به فإن كان مؤمنا فتحت له أبواب السماء حتى يصعد إلى ربه عز وجل فيؤمر بالسجود فيسجد ثم يجعل حقيقته النفسانية تعمر السفل من قبره إلى حيث شاء اللّه تعالى من الجو وحقيقته الروحانية تعمر العلو من السماء الدنيا إلى السابعة في سرور ونعيم ولذلك لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم موسى عليه السلام قائما في قبره يصلي وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده إلى السماء الدنيا ولقيهما في السموات العلى فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 155
في قبورهما ، وإن كان شقيا لم يفتح له فرمي من علو إلى الأرض اه ، وفيه القول بالمغايرة بين الروح والنفس ، وبهذا التحقيق تندفع معارضات كثيرة واعتراضات وفيرة ، ويعلم أن حديث ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ليس نصا في أن الروح على القبر إذ يفهم منه أن الذي في القبر حقيقته النفسانية المتصلة بالروح اتصالا لا يعلم كنهه إلا اللّه تعالى. وللروح مع ذلك أحوالا وأطوارا لا يعلمها إلا اللّه تعالى فقد تكون مستغرقة بمشاهدة جمال اللّه تعالى وجلاله سبحانه ونحو ذلك وقد تصحو عن ذلك الاستغراق وهو المراد برد الروح
في خبر «ما من أحد يسلم علي إلا رد اللّه تعالى روحي فأرد عليه السلام»
والذي ينبغي أن يعول عليه مع ما ذكر أن الأرواح وإن اختلف مستقرها بمعنى محلها الذي أعطيته بفضل اللّه تعالى جزاء عملها لكن لها جولانا في ملك اللّه تعالى حيث شاء جل جلاله ولا يكون إلا بعد الأذن وهي متفاوتة في ذلك حسب تفاوتها في القرب والزلفى من اللّه تعالى حتى إن بعض الأرواح الطاهرة لتظهر فيراها من شاء اللّه تعالى من الأحياء يقظة وأن أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر وقد تتلاقى أرواح الأموات والأحياء مناما ولا ينكر ذلك إلا من يجعل الرؤيا خيالات لا أصل لها وذلك لا يلتفت إليه لكن لا ينبغي أن يبنى على ذلك حكم شرعي لاحتمال عدم الصحة وإن قامت قرينة عليها ، وما صح من أن ثابت بن قيس بن شماس خرج مع خالد بن الوليد إلى حرب مسيلمة فاستشهد رضي اللّه تعالى عنه وكان عليه درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينا رجل من الجند نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له : أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالدا فمره أن يبعث إلي درعي فيأخذها وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقل له : إن علي من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق فأتى الرجل خالدا فأخبره فبعث إلى الدرع وأتى بها وحدث أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه برؤياه فأجاز وصيته ، وقد ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره مجاب عنه بأن ذلك كان بإجازة الوارث وهي بنته لغلبة ظن صدق الرؤيا بما قام من القرينة ولو لم تجز لم يسغ لأبي بكر رضي اللّه تعالى عنه ذلك بمجرد الرؤيا ، وقيل : إن أبا بكر لم ير الرد ففعل ذلك من حصة بيت المال ، ومثل هذه القصة قصة مصعب بن جثامة وعوف بن مالك وقد ذكرها ابن القيم في كتاب الروح وهي أغرب مما ذكر بكثير ، وربما
يؤذن لأرواح بعض الناس في زيارة أهليهم كما ورد في بعض الآثار وبعض الأرواح تحبس في قبرها أو حيث شاء اللّه تعالى عن مقامها كروح من يموت وعليه دين استدانه في محرم
لا مطلقا كما هو المشهور ، وتحقيقه في شرح الشمائل للعلامة ابن حجر ثم اعلم أن اتصال الروح بالبدن لا يختص بجزء دون جزء بل هي متصلة مشرقة على سائر أجزائه وإن تفرقت وكان جزء بالمشرق وجزء بالمغرب ، ولعل هذا الإشراق على الأجزاء الأصلية لأنها التي يقوم بها الإنسان من قبره يوم القيامة على ما اختاره جمع ، واعلم أيضا أن الروح على القول بتجردها لا مستقر لها بل لا يقال إنها داخل العالم أو خارجه كما سمعت وإنما المستقر حينئذ للبدن الذي تتعلق به ، وقد نص بعض الصوفية على أنه لا مانع من أن تتعلق نفس ببدنين فأكثر بل هو واقع عندهم ، وذكر بعضهم أن أحد البدنين هو البدن الأصلي والآخر مثالي يظهر للعيان على وجه خرق العادة ، وقال آخر : إن الآخر من باب تطور الروح وظهورها بصورة على نحو ظهور جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي وظهور القرآن لحافظه بصورة الرجل الشاحب يوم القيامة ، والفلاسفة قالوا لا يجوز أن تتعلق نفس واحدة بأبدان كثيرة لأنه يلزم أن يكون معلوم أحدها معلوم الآخر ومجهول أحدها مجهول الآخر ومعلوم أن الأمر ليس كذلك ، ولا يخفى أن هذا الدليل يدل على أن كل إنسانين يعلم أحدهما ما لا يعلم الآخر فإن نفسهما متغايرتان فلم لا يجوز وجود إنسانين يتعلق ببدنهما نفس واحدة ويكون كل ما علمه أحدهما علمه الآخر لا محالة وما يجهله أحدهما يكون مجهولا للآخر لا بد لعدم الجواز من دليل ، وعلى ما ذكره

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 156
هؤلاء الصوفية يجوز أن تتعلق الروح ببدن في الجنة وببدن آخر حيث شاء اللّه تعالى بل يجوز أن تظهر في صور شتى في أماكن متعددة على حد ما قالوه في جبريل عليه السلام أنه في حال ظهوره في صورة دحية أو أعرابي غيره بين يدي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يفارق سدرة المنتهى ، وأنت تعلم ما يقولون في تجلي اللّه تعالى في الصور وسمعت
خبر «إن اللّه تعالى خلق آدم على صورته»
ومن هنا قالوا : من عرف نفسه فقد عرف ربه فافهم الإشارة ولعمري هي عبارة ، ثم إن أرواح سائر الحيوانات من البهائم ونحوها قيل : تكون بعد المفارقة في الهواء ولا اتصال لها بالأبدان ، وقيل : تعدم ولا يعجز اللّه تعالى شيء ، ومن الناس من قال : إن كان للحيوانات حشر يوم القيامة كما هو المشهور الذي تقتضيه ظواهر الآيات والأخبار فالأولى أن يقال ببقاء أرواحها في الهواء أو حيث شاء اللّه تعالى وإن لم يكن لها حشر كما ذهب إليه الغزالي وأول الظواهر فالأولى أن يقال بانعدامها ، هذا وبقيت أبحاث كثيرة تركناها لضيق القفص واتساع دائرة الغصص ، ولعل فيما ذكرناه هنا مع ما ذكرناه فيما قبل كفاية لأهل البداية وهداية لمن ساعدته العناية واللّه عز وجل ولي الكرم والجود ، ومنه سبحانه بدء كل شيء وإليه جل وعلا يعود.
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين والذي ثبتناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه إلى غير ذلك من أوصافه التي يشعر بها السياق ، وإنما عبر عنه بالموصول تفخيما لشأنه ووصفا له بما في حيز الصلة ابتداء إعلاما بحاله من أول الأمر وبأنه ليس من قبيل كلام المخلوق ، واللام الأولى موطئة للقسم «ولنذهبن» جوابه النائب مناب جزاء الشرط فهو مغن عن تقديره وليس جزاء لدخول اللام عليه وهو ظاهر وبذلك حسن حذف مفعول المشيئة ، والمراد بالذهاب به محوه عن المصاحف والصدور وهو أبلغ من الأفعال ، ويراد على هذا من القرآن على ما قيل صورته من أن تكون في نقوش الكتابة أو في الصور التي في القوة الحافظة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ أي القرآن عَلَيْنا وَكِيلًا أي متعهدا وملتزما استرداده بعد الذهاب به كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه حال كونه متوقعا أن يكون محفوظا في السطور والصدور كما كان قبل فالوكيل مجاز عما ذكر.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء منقطع على ما اختاره ابن الأنباري وابن عطية وغيرهما وهو مفسر بلكن في المشهور ، والاستدراك على ما صرح به الطيبي وغيره ، واقتضاه ظاهر كلام جمع عن قوله تعالى : وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ وقال في الكشف : إنه ليس استدراكا عن ذلك فإن المستثنى منه وَكِيلًا وهذا من المنقطع الممتنع إيقاعه موقع الاسم الأول الواجب فيه النصب في لغتي الحجاز وتميم كما في قوله تعالى : لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود :
43] إلا من رحم في رأي ، وقولهم : لا تكونن من فلان إلا سلاما بسلام فقد صرح الرضي وغيره بأن الفريقين يوجبون النصب ولا يجوزون الإبدال في المنقطع فيما لا يكون قبله اسم يصح حذفه ، وكون ما نحن فيه من ذلك ظاهر لمن له ذوق ، والمعنى ثم بعد الإذهاب لا تجد من يتوكل علينا بالاسترداد ولكن رحمة من ربك تركته غير منصوب فلم تحتج إلى من يتوكل للاسترداد مأيوس عنه بالفقدان المدلول عليه بلا تجد ، والتغاير المعنوي بين الكلامين من دلالة الأول على الإذهاب ضمنا والثاني على خلافه حاصل وهو كاف فافهم ، ويفهم صنيع البعض اختيار أنه استثناء متصل من وَكِيلًا أي لا تجد وكيلا باسترداده إلا الرحمة فإنك تجدها مستردة ، وأنت تعلم أن شمول الوكيل للرحمة يحتاج إلى نوع تكلف.
وقال أبو البقاء : إن رَحْمَةً نصب على أنه مفعول له والتقدير حفظناه عليك للرحمة ، ويجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق أي ولكن رحمناك رحمة اه وهو كما ترى ، والآية على تقدير الانقطاع امتنان بإبقاء القرآن بعد الامتنان بتنزيله ، وذكروا أنها على التقدير الآخر دالة على عدم الإبقاء فالمنة حينئذ إنما هي في تنزيله ، ولا يخفى ما فيه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 157
من الخفاء وما يذكر في بيانه لا يروي الغليل ، والآية ظاهرة في أن مشيئة الذهاب به غير متحققة وأن فقدان المسترد إلا الرحمة إنما هو على فرض تحقق المشيئة لكن جاء في الأخبار أن القرآن يذهب به قبل يوم القيامة ،
فقد أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجة بسند قوي عن حذيفة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك ويسري على كتاب اللّه تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا اللّه فنحن نقولها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا : خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : «يا أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب اللّه تعالى يوشك أن يغضب اللّه تعالى لكتابه فيسري عليه ليلا لا يترك في قلب ولا ورق منه حرف إلا ذهب به فقيل : يا رسول اللّه فكيف بالمؤمنين والمؤمنات؟ قال : من أراد اللّه تعالى به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا اللّه»
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : يسري على كتاب اللّه تعالى فيرفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة والإنجيل والزبور فينزع من قلوب الرجال فيصبحون في الضلالة لا يدرون ما هم فيه.
وأخرج الديلمي عن ابن عمر مرفوعا لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول اللّه عز وجل : ما لك؟ فيقول منك خرجت وإليك أعود أتلى ولا يعمل بي وأخرج محمد بن نصر نتحوه موقوفا على عبد اللّه بن عمرو بن العاص
، وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال : سيرفع القرآن من المصاحف والصدور ، ثم قرأ وَلَئِنْ شِئْنا الآية
، وفي البهجة أنه يرفع أولا من المصاحف ثم يرفع لأعجل زمن من الصدور والذاهب به هو جبريل عليه السلام كما
أخرجه ابن أبي حاتم من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده فيا لها من مصيبة ما أعظمها وبلية ما أوخمها
فإن دلت الآية على الذهاب به فلا منافاة بينها وبين هذه الأخبار وإذا دلت على إبقائه فالمنافاة ظاهرة إلا أن يقال : إن الإبقاء لا يستلزم الاستمرار ويكفي فيه إبقاؤه إلى قرب قيام الساعة فتدبر ، ومما يرشد إلى أن سوق الآية للامتنان قوله تعالى : إِنَّ فَضْلَهُ كانَ لم يزل ولا يزال عَلَيْكَ كَبِيراً ومنه إنزال القرآن واصطفاؤه على جميع الخلق وختم الأنبياء عليهم السلام به وإعطاؤه المقام المحمود إلى غير ذلك وقال أبو سهل : «1» إلى أنها سيقت لتهديد غيره صلّى اللّه عليه وسلّم بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة.
وقال صاحب التحرير : يحتمل أن يقال : إنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما سئل عن الروح وذي القرنين وأهل الكهف وأبطأ عليه الوحي شق عليه ذلك وبلغ منه الغاية فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تسكينا له صلّى اللّه عليه وسلّم والتقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا إن شئنا ذهبنا بما أوحينا إليك جميعه فسكن ما كان يجده صلّى اللّه عليه وسلّم وطاب قلبه انتهى ، وكلا القولين كما ترى.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ أي اتفقوا عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة الشأن من البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى ، وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند اللّه تعالى منهما لا من غيرهما والتحدي إنما كان معهما وإن كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مبعوثا إلى الملك كما هو مبعوث إليهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة فإن الملائكة عليهم السلام على فرض تصديهم لها وحاشاهم إذ هم معصومون لا يفعلون إلا ما يؤمرون عاجزون كغيرهم لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي هذا القرآن وأوثر الإظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل المذكور احترازا عن أن يتوهم أن له مثلا معينا وإيذانا بأن المراد نفي الإتيان بمثل ما أي لا يأتون
___________
(1) قوله وقال أبو سهل إلى أنها كذا في نسخة المؤلف والأولى وذهب أبو سهل إلخ كما هو ظاهر اه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 158
بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات الجليلة الشأن وفيهم العرب العرباء أرباب البراعة والبيان ، وقيل : المراد تعجيز الإنس وذكر الجن مبالغة في تعجيزهم لأنهم إذا عجزوا عن الإتيان بمثله ومعهم الجن القادرون على الأفعال المستغربة فهم عن الإتيان بمثله وحدهم أعجز وليس بذاك ، وقيل : يجوز أن يراد من الجن ما يشمل الملائكة عليهم السلام وقد جاء إطلاق الجن على الملائكة كما في قوله تعالى : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات : 158] نعم الأكثر استعماله في غير الملائكة عليهم السلام ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ، وزعم بعضهم أن الملائكة عليهم السلام حيث كانوا وسائط في إتيانه لا ينبغي إدراجهم إذ لا يلائمه حينئذ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وفيه أنه ليس المراد نفي الإتيان بمثله من عند اللّه تعالى في شيء ممن أسند إليهم الفعل ، وجملة «لا يأتون» جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان لا يَأْتُونَ جزاء الشرط وإن كان مرفوعا بناء على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضيا يجوز الرفع في الجواب كما في قول زهير :
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهرا مع قربه جاز أن لا تؤثر في الجواب مع بعده ، وهذا القول خلاف مذهب سيبويه ومذهب الكوفيين والمبرد كما فصل في موضعه ، ولا يجوز عند البصريين مع وجود هذه اللام جعل المذكور جواب الشرط خلافا للفراء ، وأما قول الأعشى :
لئن منيت بنا عن غب معركة لا تلفنا عن دماء الخلق ننتفل
فاللام ليست الموطئة بل هي زائدة على ما قيل فافهم ، وحيث كان المراد بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآن مطلق الاتفاق على ذلك سواء كان التصدي للمعارضة من كل واحد منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الأنظار قال سبحانه : وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معينا في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله ، والجملة عطف على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم لبعض ظهيرا ولو كان إلخ وهي في موضع الحال كالجملة المحذوفة ، والمعنى لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في مثل هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلا عن غيرها وفيه رد لليهود أو قريش في زعمهم الإتيان بمثله ،
فقد روي أن طائفة من الأولين قالوا : أخبرنا يا محمد بهذا الحق الذي جئت به أحق من عند اللّه تعالى فإنا لا نراه متناسقا كتناسق التوراة فقال صلّى اللّه عليه وسلّم لهم : أما واللّه إنكم لتعرفونه أنه من عند اللّه تعالى قالوا : إنا نجيئك بمثل ما تأتي به فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وفي رواية أن جماعة من قريش قالوا له صلّى اللّه عليه وسلّم : جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنا نحن نقدر على المجيء بمثله فنزلت
، ولعل مرادهم بهذه الآية الغريبة ما تضمنه الآيات بعد وهي قوله تعالى : وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ وحينئذ قيل يمكن أن تكون هذه الآية مع الآيات الأخر رد لجميع ما عنوه بهذا الكلام إلا أنه ابتدأ برد قولهم : نحن نقدر إلخ اهتماما به فإن قولهم ذلك منشا طلبهم الآية الغريبة.
وفي إرشاد العقل السليم أن في هذه الآية حسم أطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكونها تقريرا لما قبلها من قوله تعالى : ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا كما قيل لكن لا لما قيل من أن الإتيان بمثله أصعب من استرداد عينه ونفي الشيء إنما يقرره نفي ما دونه دون نفي ما فوقه لأن أصعبية الاسترداد بغير أمره تعالى من الإتيان المذكور مما لا شبهة فيه بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بل إلى المكابرين من قبله عليه الصلاة والسلام انتهى ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم في وجه التقرير : أن عدم قدرة الثقلين على رده بعد إذهابه مساو لعدم قدرتهم على مثله لأن رده بعينه غير ممكن لعدم وصولهم إلى اللّه تعالى شأنه فلم يبق إلا رده بمثله فصرح بنفيه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 159
تقريرا له من النظر وعدم الجدوى ، هذا واستدل صاحب الكشاف بإعجاز القرآن على حدوثه إذ لو كان قديما لم يكن مقدورا فلا يكون معجزا كالمحال ، وتعقبه في الكشف بأنه لا نزاع في حدوث النظم وإن تحاشى أهل السنة من إطلاق المخلوق عليه للإيهام وهو المعجز إنما النزاع في المعبر بهذه العبارة المعجزة وهو المسمى بالكلام النفسي فهو استدلال لا ينفعه وذكر نحوه ابن المنير.
وقال صاحب التقريب : الجواب منع الملازمة إذ مصحح المقدورية الإمكان وهو حاصل لا الحدوث وأيضا المعجز لفظه ولا يقال بقدمه والقديم كلام النفس ولا يقال بإعجازه وأيضا سلمنا أن القديم لا يقدر البشر على عينه لكن لم لا يقدر على مثله ، واختار العلامة الطيبي هذا الأخير في الجواب ، وقد ذكرنا في المقدمات من الكلام ما ينفعك في هذا المقام فتدبر واللّه تعالى ولي الأنعام ومسدد الأفهام.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا كررنا ورددنا على أساليب مختلفة توجب زيادة تقرير ورسوخ لِلنَّاسِ أهل مكة وغيرهم كما هو الظاهر فِي هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى بديع هو في الحسن والغرابة واستجلاب النفوس كالمثل ومفعول صَرَّفْنا على ما استظهره أبو حيان محذوف أي البيان وقدره البينات والعبر ومن لابتداء الغاية وجوز ابن عطية أن تكون سيف خطيب فكل هو المفعول وهذا مبني على مذهب الكوفيين والأخفش لأنهم يجوزون زيادة من في الإيجاب دون جمهور البصريين.
وقرأ الحسن «صرفنا» بتخفيف الراء وقراءة الجمهور أبلغ ، وأيّا ما كان فالمراد فعلنا ذلك للناس ليذعنوا ويتلقوه بالقبول فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا وفسر به لثبوت الصدق بأصل الإعجاز ، والمراد بالناس المذكورون أولا وأوثر الإظهار على الإضمار تأكيدا وتوضيحا ، والمراد بالأكثر قيل : من كان في عهده صلّى اللّه عليه وسلّم من المشركين وأهل الكتاب.
واستظهر في البحر أنهم أهل مكة بدليل أن الضمائر الآتية لهم ونصب كُفُوراً على أنه مفعول أبى والاستثناء مفرغ وصح ذلك هنا مع أنه مشروط بتقدم النفي فلا يصح ضربت إلا زيدا لأن أبى قريب من معنى النفي فهو مؤول به فكأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا وفيه من المبالغة ما ليس في أبوا الإيمان لأن فيه زيادة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفر من الإيمان والتوقف في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء ، وإنما لم يجز ذلك في الإثبات لفساد المعنى إذ لا قرينة على تقدير أمر خاص والعموم لا يصح إذ لا يمكن في المثال أن تضرب كل أحد إلا زيدا فإن صح العموم في مثال جاز التفريغ في غير تأويل بنفي فيجوز صليت إلا يوم كذا إذ يجوز أن تصلي كل يوم غيره ، وجوز أن تكون الآية من هذا القبيل بأن يكون المراد أبوا كل شيء فيما اقترحوه إلا كفورا وَقالُوا عند ظهور عجزهم ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي وغيره من المعجزات الباهرة متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه من الأمور ولا توقف لثبوت المدعى عليه وبعضه من المحالات العقلية لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ بالتخفيف من باب نصر المتعدي وبذلك قرأ الكوفيون أي تفتح ، وقرأ باقي السبعة «تفجر» من فجر مشددا والتضعيف للتكثير لا للتعدية.
وقرأ الأعمش وعبد اللّه بن مسلم بن يسار «تفجر» من أفجر رباعيا وهي لغة في فجر لَنا مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مكة لقلة مياهها فالتعريف عهدي يَنْبُوعاً مفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر وكثر موجه فالياء زائدة للمبالغة ، والمراد عينا لا ينضب ماؤها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن الينبوع هو النهر الذي يجري من العين ، والأول مروي عن مجاهد وكفى به أَوْ تَكُونَ لَكَ خاصة جَنَّةٌ بستان تستر أشجارها ما تحتها من العرصة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 160
مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ خصوهما بالذكر لأنهما كانا الغالب في هاتيك النواحي مع جلالة قدرهما فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي تجريها خِلالَها نصب على الظرفية أي وسط تلك الجنة وأثنائها تَفْجِيراً كثيرا والمراد إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبىء الفاء أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ الجرم المعلوم كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً جمع كسفة كقطعة وقطع لفظا ومعنى وهو حال من السماء والكاف في كَما في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي إسقاطا مماثلا لما زعمت يعنون بذلك قوله تعالى : أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ : 9] وزعم بعضهم أنهم يعنون ما في هذه السورة من قوله تعالى : أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وليس بشيء ، وقيل : إن المعنى كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وسيأتي ذلك إن شاء اللّه تعالى في خبر ابن عباس ، وقرأ مجاهد «يسقط السماء» بياء الغيبة ورفع «السماء» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «كشفا» بسكون السين في جميع القرآن إلا في الروم وابن عامر إلا في هذه السورة ونافع وأبو بكر في غيرهما ، وحفص فيما عدا الطور في قوله.
وفي النشر أنهم اتفقوا على إسكان السين في الطور وهو إما مخفف من المفتوح لأن السكون من الحركة مطلقا كسدر وسدر أو هو فعل صفة بمعنى مفعول كالطحن بمعنى المطحون أي شيئا مكسوفا أي مقطوعا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي مقابلا كالعشير والمعاشر وأرادوا كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس عيانا وهذا كقولهم «لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا» وفي رواية أخرى عن الحبر والضحاك تفسير القبيل بالكفيل أي كفيلا بما تدعيه يعنون شاهدا يشهد لك بصحة ما قلته وضامنا يضمن ما يترتب عليه وهو على الوجهين حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالة الحال المذكورة عليها أي قبلاء كما حذف الخبر في قوله :
ومن يك أمسى في المدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وذكر الطبرسي عن الزجاج أنه فسر قبيلا بمقابلة ومعاينة ، وقال إن العرب تجريه في هذا المعنى مجرى المصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث فلا تغفل ، وعن مجاهد القبيل الجماعة كالقبيلة فيكون حالا من الملائكة ، وفي الكشف جعله حالا من الملائكة لقرب اللفظ وسداد المعنى لأن المعنى تأتي باللّه تعالى وجماعة من الملائكة لا تأتي بهما جماعة ليكون حالا على الجمع إذ لا يراد معنى المعية معه تعالى ألا ترى إلى قوله سبحانه حكاية عنهم «أو نرى ربنا» والقرآن يفسر بعضه بعضا انتهى ، وقرأ الأعرج «قبلا» من المقابلة وهذا يؤيد التفسير الأول.
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وأصله الزينة وإطلاقه على الذهب لأن الزينة به أرغب وأعجب ، وقرأ عبد اللّه «من ذهب» وجعل ذلك في البحر تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي تصعد في معارجها فحذف المضاف يقال رقي في السلم والدرجة والظاهر أن السماء هنا المظلة ، وقيل : المراد المكان العالي وكل ما ارتفع وعلا يسمى سماء قال الشاعر :
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لأجل رقيك فيها وحده أو لن نصدق رقيك فيها حَتَّى تُنَزِّلَ منها عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ بلغتنا على أسلوب كلامنا وفيه تصديقك قُلْ تعجبا من شدة شكيمتهم وفرط حماقتهم سُبْحانَ رَبِّي أو قل ذلك تنزيها لساحة الجلال عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحات التي تضمنت ما هو من أعظم المستحيلات كإتيان اللّه تعالى على الوجه الذي اقترحوه أو عن طلب ذلك ، وفيه تنبيه على بطلان ما قالوه.
وقرأ ابن كثير وابن عامر «قال سبحان ربي» أي قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا كسائر الرسل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 161
عليهم السلام وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره اللّه تعالى على أيديهم حسبما تقتضيه الحكمة من غير تفويض إليهم فيه ولا تحكم منهم عليه سبحانه ، وبَشَراً خبر كان ورَسُولًا صفته وهو معتمد الكلام وكونه بشرا توطئة لذلك ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا ودلالة على أن الرسل عليهم السلام من قبل كانوا كذلك ولهذا قال الزمخشري هل كنت إلا رسولا كسائر الرسل بشرا مثلهم ، وزعم بعض أن ذكر بَشَراً ليس للتوطئة فإن طلب القوم منه عليه الصلاة والسلام ما طلبوه يحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقدرة نفسه صلّى اللّه عليه وسلّم ويحتمل أن يكون طلب أن يأتيبه بقدرة اللّه تعالى فذكر بَشَراً لنفي أن يأتي بذلك بقدرة نفسه كأنه قال : هل كنت إلا بشرا والبشر لا قدرة له على الإتيان بذلك ، وذكر رسولا لنفي أن يأتي به بقدرة اللّه تعالى كأنه قيل هل كنت إلا رسولا والرسول لا يتحكم على ربه سبحانه.
وتعقب بأن هذا مع ما فيه من مخالفة لآثار كما ستعلمه قريبا إن شاء اللّه تعالى ظاهر في جعل الاسمين خبرين وهو مما يأباه الذوق السليم ، وقال الخفاجي : إن كون الاسمين خبرين غير متوجه لأنه يقتضي استقلالها وأنهم أنكروا كلا منهما حتى رد عليهم بذلك ولم ينكر أحد بشريته صلّى اللّه عليه وسلّم ، وتعقب بأنهم لما طلبوا منه عليه الصلاة والسلام ما لا يتأتى من البشر كالرقي في السماء كانوا بمنزلة من أنكر بشريته وهو كما ترى. وجوز بعضهم كون بشرا حالا من النكرة وسوغ ذلك تقدمه عليها وهو ركيك لأنه يقتضي أن له صلّى اللّه عليه وسلّم حالا آخر غير البشرية ولا يقول بذلك أحد اللهم إلا أن يكون من الوجودية. هذا والظاهر اتحاد القائل لجميع ما تقدم ويحتمل عدم الاتحاد بأن يكون بعض اقترح شيئا وبعض آخر اقترح آخر لكن نسب القول إلى الجميع لرضا كل بما اقترح الآخر.
وأخرج سعيد بن منصور ، وغيره عن ابن جبير أن قوله تعالى : وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ نزل في عبد اللّه ابن أبي أمية وهو ظاهر في أنه القائل ولا يعكر عليه ضمير الجمع لما أشرنا إليه ، وأخرج ابن إسحاق. وجماعة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد اللّه بن أبي أمية وأمية بن خلف وناسا آخرين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه فجاءهم صلّى اللّه عليه وسلّم سريعا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا واللّه ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جثته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جثتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن اللّه تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر اللّه تعالى حتى يحكم اللّه تعالى بيني وبينكم فقالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من قد مضى من آياتنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل فإن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 162
صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند اللّه تعالى وأنه بعثك رسولا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند اللّه تعالى بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر اللّه تعالى حتى يحكم اللّه تعالى بيني وبينكم قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول فيراجعنا عنك وتسأله أن يجعل لك جنانا كنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنك عما نراك تبتغي فإنك تقول بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن اللّه تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر اللّه تعالى حتى يحكم اللّه تعالى بيني وبينكم قالوا : فتسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ذلك إلى اللّه تعالى إن شاء فعل بكم ذلك فقالوا : يا محمد فاعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك مما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا واللّه لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما واللّه لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائلهم : لن نؤمن لكن حتى تأتي باللّه والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنهم وقام معه عبد اللّه بن أبي
أمية فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم
أمورا يتعرفوا بها منزلتك من اللّه تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما يخوفهم به من العذاب فو اللّه لا نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم نرقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وايم اللّه لو فعلت ذلك لظننت أني لأصدقك ثم انصرف وانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعديهم فأنزل عليه هذه الآيات وقوله تعالى : كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ [الرعد : 30] الآية وقوله سبحانه : وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد : 31]
الآية اه واللّه تعالى أعلم.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي الذين حكيت أباطيلهم أَنْ يُؤْمِنُوا مفعول منع وقوله تعالى : إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ظرف منع أو يؤمنوا أي ما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن يؤمنوا وقت مجيء ما ذكر إِلَّا أَنْ قالُوا فاعل منع أي إلا قولهم : أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا منكرين أن يكون رسول اللّه عليه الصلاة والسلام من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعض فمنع آخرين بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم.
وإنما عبر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق ، وحصر المانع فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعني عند سماع الجواب بقوله تعالى : هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية ، وفيه على هذا إيذان بكمال عنادهم حيث يشير إلى أن الجواب المذكور مع كونه حاسما لمواد شبههم مقتضيا للإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعا قاله بعض المحققين ، وظاهر ذلك أن القوم لا يقولون برسالة أحد من الرسل المشهورين كإبراهيم وموسى عليهما السلام أصلا ، وصرح بعضهم بأنهم لم ينكروا إرسال غيره صلّى اللّه عليه وسلّم منهم وبأن قولهم هذا كان تعنتا وهذا خلاف الظاهر هنا ، ولعل القوم كانوا في ريب وتردد لا يستقيمون على حال فتدبر.
والظاهر أن الآية إخبار منه عز مجده عن الأمر المانع إياهم عن الإيمان ، ويظهر من كلام ابن عطية أن هذا الكلام

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 163
منه عليه الصلاة والسلام قاله على معنى التوبيخ والتلهف وحاشا من له أدنى ذوق من أن يذهب إلى ذلك قُلْ لهم أولا من قبلنا تبيينا للحكمة وتحقيقا للحق المزيح للريب لَوْ كانَ أي لو وجد فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي البشر ولا يطيرون إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه مُطْمَئِنِّينَ ساكنين مقيمين فيها ، وقال الجبائي أي مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها غير خائفين ولا متعبدين بشرع لأن المطمئن من زال الخوف عنه لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يعلمهم ما لا تستقل قدرهم بعلمه ليسهل عليهم الاجتماع به والتلقي منه وأما عامة البشر فلا يسهل عليهم ذلك لبعد ما بين الملك وبينهم فلا يبعث إليهم وإنما يبعث إلى خواصهم لأن اللّه تعالى قد وهبهم نفوسا زكية وأيدهم بقوى قدسية وجعل لهم جهتين جهة ملكية بها من الملك يستفيضون وجهة بشرية بها على البشر يفيضون ، وجعل كل البشر كذلك مخل بالحكمة ، وأنزل الملك عليهم على وجه يسهل التلقي منه بأن يظهر لهم بصورة بشر كما ظهر جبريل عليه السلام مرارا في صورة دحية الكلبي.
وقد صح أن أعرابيا جاء وعليه أثر السفر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وغيرها فأجابه عليه الصلاة والسلام بما أجابه ثم انصرف ولم يعرفه أحد من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم فقال صلّى اللّه عليه وسلّم هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم مما لا يجدي نفعا لأولئك الكفرة كما قال تعالى جده وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام : 9]
وقيل علة تنزيل الملك عليهم أن الجنس إلى الجنس إلى الجنس أميل وهو به آنس ، ولعل الأول أولى وإن زعم خلافه.
وحكى الطبرسي عن بعضهم أنه قال في الآية : إن العرب قالوا كنا ساكنين مطمئنين فجاء محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فأزعجنا وشوش علينا أمرنا فبين سبحانه أنه لو كان ملائكة مطمئنين لأوجبت الحكمة إرسال الرسل إليهم ولم يمنع اطمئنانهم الإرسال فكذلك الناس لا يمنع كونهم مطمئنين إرسال الرسل إليهم ، وأنت تعلم أن هذا بمراحل عن السياق ولا يصح فيه أثر كما لا يخفى على المتتبع.
ونصب مَلَكاً يحتمل أن يكون على الحالية من رسولا الواقع مفعولا لنزلنا وسوغ ذلك التقدم ، ويحتمل أن يكون على المفعولية لنزلنا ورسولا صفة له ، وكذا الكلام في قوله تعالى أبعث اللّه بشرا رسولا ، ورجع غير واحد الأول بأنه أكثر موافقة للمقام وأنسب ، ووجه ذلك القطب وصاحب التقريب بأنه على الحالية يفيد المقصود بمنطوقه وعلى الوصفية يفيد خلاف المقصود بمفهومه ، أما الأول فلأن منطوقه ابعث اللّه تعالى رسولا حال كونه بشرا لا ملكا ولنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا وهو المقصود ، وأما الثاني فلأن التقييد بالصفة يفيد أبعث اللّه تعالى بشرا مرسلا لا بشرا غير مرسل ولنزلنا عليهم ملكا مرسلا لا ملكا غير مرسل وهو خلاف المقصود بل غير مستقيم ، وقال صاحب الكشف تبعا لشيخه العلامة الطيبي في ذلك : لأن التقديم إزالة عن موضعه الأصلي دلالة على أنه مصب الإنكار في الأول أعني أبعث اللّه بشرا رسولا فيدل على أن البشرية منافية لهذا الثابت - أعني الرسالة - كما تقول أضربت قائما زيدا ولو قلت أضربت زيادا قائما أو القائم لم يفد تلك الفائدة لأن الأول يفيد أن المنكر ضربه قائما لا الضرب مطلقا ، والثاني يفيد أن المنكر ضرب زيد لاتصافه بهذه الصفة المانعة ولا يفيد أن أصل الضرب حسن ومسلم والجهة منكرة هذا إن جعل التقديم للحصر وإن جعل للاهتمام دل على كونه مصب الإنكار وإن لم يدل على ثبوت مقابله ، وعلى التقديرين فائدة التقديم لائحة اه ، وهو أكثر تحقيقا. واستشكل بعضهم هذه الآية بأنها ظاهرة في أنه إنما يرسل إلى كل قبيل ما يناسبه ويجانسه كالبشر للبشر والملك للملك ولا يرسل إلى قبيل مالا يناسبه ولا يجانسه وهو ينافي كونه صلّى اللّه عليه وسلّم مرسلا إلى الجن كالإنس إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر منكره ومن نازع في ذلك وهم وأجيب بمنع كونها

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 164
ظاهرة في ذلك بل قصارى ما تدل عليه أن القول أنكروا أن يبعث اللّه تعالى إلى البشر بشرا وزعموا أنه يجب أن يكون المبعوث إليهم ملكا ومرامهم نفي أن يكون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مبعوثا إليهم فأجيبوا بما حاصله أن الحكمة تقتضي بعث الملك إلى الملائكة لوجود المناسبة المصححة للتلقي لا إلى عامة البشر لانتفاء تلك المناسبة فأمر الوجوب الذي يزعمونه بالعكس وليس في هذا أكثر من الدلالة على أن أمر البعث منوط بوجود المناسبة فمتى وجدت صح البعث ومتى لم توجد لا يصح البعث وأنها موجودة بين الملك والملك لا بينه وبين عامة البشر كالمنكرين المذكورين وهذا لا ينافي بعثته صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الجن لأنه عليه الصلاة والسلام متى صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الجن والإلقاء إليهم كيف لا وهو عليه الصلاة والسلام نسخة اللّه تعالى الجامعة وآيته الكبرى الساطعة وإذا قلنا إن اجتماعه عليه الصلاة والسلام بالجن وإلقاءه عليهم بعد تشكلهم له فأمر المناسبة أظهر وليس تشكل الملك لو أرسل إلى البشر بمجد لما سمعت آنفا ، ويقال نحو هذا في إرساله صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الملائكة لما فيه عليه الصلاة والسلام من قوة الإلقاء إليهم كالتلقي منهم ، وإلى كونه عليه الصلاة والسلام مرسلا إليهم ذهب من الشافعية تقي الدين السبكي والبارزي والجلال المحلي في خصائصه ، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن مفلح في كتاب الفروع ، ومن المالكية عبد الحق وقال ابن تيمية : لا نزاع بين العلماء في جنس تكليفهم بالأمر والنهي.
وقال إبراهيم اللقاني : لا شك في ثبوت أصل التكليف بالطاعات العملية في حقهم وأما نحو الإيمان فهو فيهم ضروري فيستحيل تكليفهم به ، وقال السبكي في فتاويه : الجن مكلفون بكل شيء من هذه الشريعة لأنه إذا ثبت أنه عليه الصلاة والسلام مرسل إليهم كما هو مرسل إلى الإنس وأن الدعوة عامة والشريعة كذلك لزمتهم جميع التكاليف التي توجد فيهم أسبابها لا أن يقوم دليل على تخصيص بعضها فنقول : إنه يجب عليهم الصلاة والزكاة إن ملكوا نصابا بشرطه والحج وصوم رمضان وغيرها من الواجبات ويحرم عليهم كل حرام في الشريعة بخلاف الملائكة فإنا لا نلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قلنا بعموم الرسالة إليهم بل يحتمل ذلك ويحتمل الرسالة في شيء خاص اه.
ولا مانع من أن يكلفهم كلهم بما جاءه من ربه جل جلاله بواسطة بعضهم على أنه ليس كل ما جاء به عليه الصلاة والسلام حاصلا بوساطة الملك فيمكن أن يكون ما كلفوا به لم يكن بوساطة أحد منهم ، وأنكر بعضهم إرساله صلّى اللّه عليه وسلّم إليهم وبعدم الإرسال إليهم جزم الحليمي والبيهقي من الشافعية ومحمود بن حمزة الكرمائي في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وجزم به من المتأخرين زين الدين العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع وصريح آية لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان : 1] إذ العالم ما سوى اللّه تعالى وصفاته ، وخبر مسلم أرسلت إلى الخلق كافة يؤيد المذهب الأول ، نعم استدل أهل هذا المذهب بما استدلوا به وفيه ما فيه ، وقد ادعى بعض الناس أن الآية تؤيد مذهبهم لأنه تعالى خص فيها الملك بالإرسال إلى الملائكة فيتعين أن يكون هو الرسول إليهم لا البشر سواء كان بينه وبينهم مناسبة أم لا وقد سمعت ما نقل عن العلامة القطب وصاحب التقريب من أن المراد لنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا ، وأجيب بأنه بعد إرخاء العنان لا تدل الآية إلا على تعيين إرسال الملك إلى الملائكة إذا كانوا في الأرض يمشون مطمئنين بدل البشر ولا يلزم منه أن لا يصح إرسال البشر إليهم إذا لم يكونوا كذلك لجواز أن يكون حكمة التعيين في الصورة الأولى سوى المناسبة المترتب عليها سهولة الاجتماع والتلقي شيء آخر لا يوجد في الصورة الثانية وذلك أنه إذا كان أهل الأرض ملائكة وأرسل إليهم بشر له قوة الإلقاء إليهم والإفاضة عليهم ، نحو إرسال رسل البشر عليهم السلام إليهم صعب بحسب الطبع على ذلك الرسول بقاؤه معهم زمنا يعتد بهم كما يبقى رسل البشر مع البشر كذلك إلا أن يجعل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 165
مشاركا لهم فيما جبلوا عليه ويلحق بهم وهو أشبه شيء بإخراجه عن الطبيعة البشرية بالمرة فيكون العدول عن إرسال ملك إلى إرساله أشبه شيء بالعبث المنافي للحكمة اه فتدبر.
فلعل اللّه سبحانه يمن عليك بما يروي الغليل وتأمل في جميع ما تقدم فلعلك توفق بعون اللّه تعالى إلى الجرح والتعديل قُلْ لهم ثانيا من جهتك بعد ما قلت لهم من قبلنا ما قلت وبينت لهم ما تقتضيه الحكمة في البعثة ولم يرفعوا إليه رأسا كَفى بِاللَّهِ عز وجل وحده شَهِيداً على أني قد أديت ما علي من مواجب الرسالة أكمل أداء وإنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد ، وقيل شهيدا على أني رسول اللّه تعالى إليكم بإظهار المعجزة على وفق دعواي ، ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى : بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وكذا بقوله سبحانه تعليلا للكفاية إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ أي الرسل والمرسل إليهم خَبِيراً بَصِيراً أي محيطا بظواهرهم وبواطنهم فيجازيهم على ذلك ، وزعم الخفاجي أن الثاني أوفق بالسباق منه إذ يكون الكلام عليه كالسابق ردا لإنكارهم أن يكون الرسول بشرا وإلى ذلك ذهب الإمام وأن كون الأول أوفق بقوله تعالى إِنَّهُ كانَ إلخ لا وجه له لأن معناه التهديد والوعيد بأنه سبحانه يعلم ظواهرهم وبواطنهم وأنهم إنما ذكروا هذه الشبهة للحسد وحب الرياسة والاستنكاف عن الحق وفيه من التسلية لحبيبه صلّى اللّه عليه وسلّم ما فيه ، وأنت تعلم أن إنكار كون الأول أوفق بذلك مما لا وجه له لظهور خلافه ، ولا ينافيه تضمن الجملة الوعيد والتسلية ، وأيضا يبقى أمر أوفقيته بيني وبينكم في البين ومع ذلك في تصدير الكلام بقل نوع تأييد لإرادة الأول كما لا يخفى على الذكي ، هذا وإنما لم يقل سبحانه بيننا تحقيقا للمفارقة وإبانة للمباينة ، ونصب شَهِيداً أما على الحال أو على التمييز وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ كلام مبتدأ غير داخل في حيز قُلْ يفصل ما أشار إليه الكلام السابق من
مجازاة العباد لما أن علمه تعالى في مثل هذا الموضع مستعمل بمعنى المجازاة أي من يهد اللّه تعالى إلى الحق فَهُوَ الْمُهْتَدِ إليه وإلى ما يؤدي إليه من الثواب أو المهتدي إلى كل مطلوب والأكثرون حذفوا ياء المهتدي وَمَنْ يُضْلِلْ يخلق فيه الضلال لسوء اختياره وقبح استعداده كهؤلاء المعاندين فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا مِنْ دُونِهِ عز وجل يهدونهم إلى طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالهم على معنى لن تجد لأحد منهم وليا على ما يقتضيه قضية مقابلة الجمع بالجمع من انقسام الآحاد على الآحاد على ما هو المشهور وقيل قال سبحانه : أَوْلِياءَ مبالغة لأن الأولياء إذا لم تنفعهم فكيف الولي الواحد ، وضمير لَهُمْ عائد على من باعتبار معناه كما أن (هو) عائد عليه باعتبار لفظه فلذا أفرد الضمير تارة وجمع أخرى.
وفي إيثار الإفراد والجمع فيما أوثرا فيه تلويح بوحدة طريق الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال ، وذكر أبو حيان وتبعه بعضهم أن الجملة الثانية من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداء من غير أن يتقدمه الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن. وتعقب ذلك الخفاجي بأنه لا وجه له فإنه حمل فيها الضمير على اللفظ أولا إذ في قوله تعالى يُضْلِلْ ضمير محذوف مفردا ذو تقديره يضلله على الأصل وهو راجع إلى لفظ من فلا يقال إنه لم يتقدمه حمل على اللفظ ثم قال : وأغرب من ذلك ما قيل إنه قد يقال إن الحمل على اللفظ قد تقدمه في قوله سبحانه مَنْ يَهْدِ اللَّهُ وإن كان في جملة أخرى اه. وفيه أن وجهه جعل أبي حيان من مفعول يُضْلِلْ كما نص عليه في البحر وكذا نص على أنها في الجملة الأولى مفعول «يهد» وحينئذ ليس هناك ضمير مفرد محذوف كما لا يخفى فتفطن ، وجوز كون الجملتين داخلتين في حيز قُلْ لمجيء ومن بالواو ، وقوله تعالى : وَنَحْشُرُهُمْ أوفق بالأول وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم للإيذان لكمال الاعتناء بأمر الحشر ، وعلى الاحتمال الثاني يجعل حكاية

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 166
لما قاله اللّه تعالى عليه الصلاة والسلام يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يقومون من قبورهم عَلى وُجُوهِهِمْ في موضع الحال من الضمير المنصوب أي كائنين عليها إما مشيا بأن يزحفون منكبين عليها ويشهد له ما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال قيل يا رسول اللّه كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم
، والمراد كيف يحشر هذا الجنس على الوجه لأن ذلك خاص بالكفار وغيرهم يحشر على وجه آخر.
فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف مشاة أي على العادة وصنف ركبان وصنف على وجوههم قيل يا رسول اللّه وكيف يمشون على وجوههم قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك ، وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها كقوله تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر : 48]
ويشهد له ما
أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه عن أبي ذر أنه تلا هذه الآية وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ إلخ فقال : حدثني الصادق المصدوق صلّى اللّه عليه وسلّم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم
، وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وحسنه عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم»
وليطلب وجه الجمع فإن لم يوجد فالمعول عليه ما شهد له حديث الشيخين ، ولا تعين الآية أعني قوله تعالى : يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ الثاني لأن القرآن يفسر بعضهم بعضا لأنها في حالهم بعد دخول النار وما هنا في حالهم قبل فتغايرا ، وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز وذلك كما يقال للمنصرف خائبا عن أمر مهموما انصرف على وجهه فالمراد ونحرهم يوم القيامة مهمومين خائبين ، وكأن الداعي لهذا الارتكاب أنه قد روي عن ابن عباس حمل الأحوال الآنية على المجاز وحينئذ تكون جميع الأحوال على طراز واحد ولا يخفى عليك فإياك أن تلتفت إلى تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أحوال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع حالا أولا وفي إرشاد العقل السليم أنها أحوال من الضمير المجرور في الحال السابقة ، والأول أبعد عن القيل والقال ، وجوز أبو البقاء كون ذلك بدلا من تلك الحال وهو كما ترى.
واستظهر أبو حيان كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد اللّه تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى اللّه تعالى عنهم في غير موضع.
نعم قد يختم على أفواههم في البين ، وقيل هو على المجاز على معنى أنهم لفرط الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات أو على معنى أنهم لا يرون شيئا يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضا عن الحسن فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به ، ولا يعكر عليه أن بعض الآيات يدل على سلب بعض القوى عنهم لاختلاف الأوقات ، وقيل عميا عن النظر إلى ما جعل اللّه تعالى لأوليائه بكما عن الكلام معه سبحانه صما عما مدح اللّه تعالى به أولياءه ، وقيل يحصل لهم ذلك حقيقة بعد قوله تعالى لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون : 108] وعلى هذا تكون الأحوال مقدرة كقوله تعالى مَأْواهُمْ أي مستقرهم جَهَنَّمُ على تقدير جعله حالا ويحتمل أن يكون استئنافا ، وقوله سبحانه كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً يحتمل أيضا الاستئناف ويحتمل أن يكون حالا من جهنم كما قال أبو البقاء ، وجعل العامل في الحال معنى المأوى ، وقال الطبرسي : هو حال

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 167
منها لأنها توضع «1» متلظ ومتسعر ولولا ذلك ما جعل حالا منها.
وجوز جعله حالا مما جعلت الجملة الأولى منه لكن بعد اعتبارها في النظم والرابط الضمير المنصوب في زِدْناهُمْ وهو كما ترى والاستئناف أقل مؤنة ، والخبو وكذا الخبو بضمتين وتشديد وهما مصدرا خبت النار سكون اللهب قال في البحر : يقال خبت النار تخبو إذا سكن لهبها وخمدت إذا سكن جمرها وضعف وهمدت إذا طفئت جملة ، وقال الراغب : خبت النار سكن لهبها وصار عليها خباء من رماد أي غشاء ، وفي القاموس تفسير خبت بسكنت وطفئت وتفسير طفئت بذهب لهبها وفيه مخالفة لما في البحر والأكثرون على ما فيه ، ومن الغريب ما أخرجه ابن الأنباري عن أبي صالح من تفسير خَبَتْ في الآية بحميت وهو خلاف المشهور والمأثور ، والسعير اللهب ، والمعنى كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به النار وتحرقه زدناهم لهبا وتوقدا بأن أعدناهم على ما كانوا فاستعرت النار بهم وتوقدت ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية إن الكفرة وقود النار فإذا أحرقتهم فلم يبق شيء صارت جمرا تتوهج فذلك خبوها فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم ، ولعل ذلك على ما قاله بعض الأجلة عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء بتكررها مرة بعد الأخرى ليروها عيانا حيث لم يروها برهانا كما يفصح عنه ما بعد.
واستشكل ما ذكر بأن قوله تعالى : كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء : 56] يدل على أن النار لا تتجاوز عن إنضاجهم إلى إحراقهم وإفنائهم فيعارض ذلك ، وأجاب بعضهم بأن تبديلهم جلودا غيرها بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها فكأنه قيل كلما نضجت جلودهم أحرقناها وأفنيناها وخلقنا لهم غيرها ، وبعض بأن المراد كلما نضجت جلودهم كمال النضج بأن يبلغ شيها إلى حد لو بقيت عليه لا يحس صاحبها بالعذاب وهو مرتبة الاحتراق بدلناهم إلخ ويدل على ذلك قوله تعالى : لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء : 56] ، وقال الخفاجي : أجيب بأنه يجوز أن يحصل لجلودهم تارة النضج وتارة الإفناء أو كل منهما في حق قوم على أنه لا سد لباب المجاز بأن يجعل النضج عبارة عن مطلق تأثير النار إذ لا يحصل في ابتداء الدخول غير الإحراق دون النضج اه. ولا يخفى ما في قوله بأن يجعل النضج : عبارة عن مطلق تأثير النار من المساهلة ، وفي قوله :
إذ لا يحصل إلخ منع ظاهر ، وذكر أنه أورد على الجواب الأول أن كلمة كلما تنافيه وفيه بحث فتأمل ، وربما يتوهم أن بين هذه الآية وقوله تعالى : لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة : 162 ، آل عمران : 88] تعارضا لأن الخبو يستلزم التخفيف وهو مدفوع بأن الخبو سكون اللهب كما سمعت ، واستلزامه تخفيف عذاب النار ممنوع ، على أنا لو سلمنا الاستلزام ، فالعذاب الذي لا يخفف ليس منحصرا بالعذاب بالنار والإيلام بحراراتها وحينئذ فيمكن أن يعوض ما فات منه بسكون اللهب بنوع آخر من العذاب مما لا يعلمه إلا اللّه تعالى. وذكر الإمام أن قوله سبحانه زِدْناهُمْ سَعِيراً يقتضي ظاهره أن الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى فتكون الحالة الأولى تخفيفا بالنسبة إلى الحالة الثانية ، وأجاب بأنه حصل في الحالة الأولى خوف حصول الثانية فكان العذاب شديدا ، ويحتمل أن يقال : لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أثنائه غير مشعور به نعوذ باللّه تعالى منه اه ، وقد يقال : ليس في الآية أكثر من ازدياد توقدهم ولعله لا يستلزم ازدياد عذابهم ، والمراد من الآية كلما أحرقوا أعيدوا إلا أنه عبر بما عبر للمبالغة ، ويشير إلى كون المراد ذلك قوله تعالى : زِدْناهُمْ دون زدناها فتدبر ذلِكَ أي العذاب المفهوم من قوله سبحانه كلما خبت زدناهم سعيرا أو إلى جميع ما ذكر من حشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما إلخ ، والمفهوم مما ذكرنا مندرج فيه
___________
(1) قوله توضع متلظ كذا بخط مؤلفه ولعل لفظ موضع سقط من العبارة كما هو ظاهر.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 168
جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَفَرُوا بِآياتِنا القرآنية والآفاقية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة أو على صحة ما أرسلناك به مطلقا فيشمل ما ذكر ، وذلِكَ مبتدأ وجزاؤهم خبره والظرف متعلق به ، وحوز أن يكون جَزاؤُهُمْ مبتدأ ثانيا والظرف خبره والجملة خبر لذلك ، وأن يكون جَزاؤُهُمْ بدلا من ذلك أو بيانا والخبر هو الظرف ، وقيل ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر ، وليس بشيء وَقالُوا منكرين أشد الإنكار أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً هو في الأصل كما قال الراغب كالفتات ما تكسر وتفرق من التبن والمراد هنا بالين متفرقين أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً إما مصدر مؤكد من غير لفظه أي لمبعوثون بعثا جديدا وإما حال أي مخلوقين مستأنفين.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن اللّه تعالى الذي قدر على خلق هذه الأجرام والأجسام الشديدة العظيمة التي بعض ما تحويه البشر قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ من الأنس أي ومن هو قادر على ذلك كيف لا يقدر على إعادتهم وهي أهون عليه جل وعلا ، وقال بعض المحققين : مثل هنا مثلها في - مثلك لا يبخل - أي قادر على أن يخلقهم ، والمراد بالخلق الإعادة كما عبر عنها أو لا بذلك حيث قيل خَلْقاً جَدِيداً ولا يخلو عن بعد ، وزعم بعضهم أن المراد قادر على أن يخلق عبيدا آخرين يوحدونه تعالى ، ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة كقوله تعالى : وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر : 16] وقوله سبحانه :
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [التوبة : 39] وفيه أنه لا يلائم السياق كما لا يخفى على ذوي الأذواق ، ثم اعلم أن ظاهر الآية أن الكفرة أنكروا إعادتهم يوم القيامة على معنى جمع أجزائهم المتفرقة وعظامهم المتفتتة وتاليفها وإفاضة الحياة عليها كما كانت في الدنيا فهو الذي عنوه بقولهم أإنا لمبعوثون خلقا جديدا بعد قولهم أئذا كنا عظاما ورفاتا فرد عليهم بإثبات ذلك بطريق برهاني ، وعلى هذا تكون الآية أحد أدلة من يقول : إن الحشر بإعادة أجزاء الأبدان التي تتفرق كأبدان ما عدا الأنبياء عليهم السلام ومن لم يعمل خطيئة قط والمؤذنين احتسابا ونحوهم ممن حرمت أجسادهم على الأرض كما جاء في الأخبار وجمعها بعد تفرقها وعنوا بذلك الأجزاء الأصلية وهي الحاصلة في أول الفطرة حال نفخ الروح وهي عندهم محفوظة من أن تصير جزءا لبدن آخر فضلا عن أن تصير جزءا أصليا له ، والذاهبون إلى هذا هم الأقل وحكاه الآمدي بصيغة قيل لكن رجحه الفخر الرازي وذكر أن الأكثر على أن اللّه سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وقال : إنه الصحيح ، وكذا قال البدر الزركشي ، وذكر اللقاني أنه قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء والعدم على الأجسام بل بوقوعه وإن اختلفوا في أن ذلك هل هو بحدوث ضد أو بانتفاء شرط أو بلا ولا فذهب إلى الأخير القاضي من أهل السنة وأبو الهذيل من المعتزلة قالا : إن اللّه تعالى يعدم ما يريد إعدامه على نحو إيجاده إياه فيقول له عند أبي الهذيل افن فيفنى كما يقول له كن فيكون.
وذهب جمهور المعتزلة إلى الأول فقالوا : إن فناء الجوهر بحدوث ضد له وهو الفناء ثم اختلفوا فذهب ابن الأخشيد إلى أن اللّه تعالى يخلق الفناء في جهة من جهات الجواهر فتعدم الجواهر بأسرها ، وقال ابن شبيب : أنه تعالى يحدث في كل جوهر بعينه فناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني وذهب أبو علي وأبو هاشم واتباعهما إلى أن اللّه تعالى يعدم الجوهر بخلق فناء لا في محل معين منه ثم اختلفا فقال أبو علي وأتباعه : إن اللّه سبحانه يخلق فناء واحدا لا في محل فيفني به الجواهر بأسرها وقال أبو هاشم وأتباعه إنه تعالى يخلق لكل جوهر فناء لا في محل.
وذهب إمام الحرمين وأكثر أهل السنة وبشر المريسي والكعبي من المعتزلة إلى الثاني ثم اختلفوا في تعيين الشرط فقال بشر : إنه بقاء يخلقه سبحانه لا في محل فإن لم يخلقه عدم الجوهر. وقال الأكثر والكعبي : إنه بقاء قائم بالجوهر يخلقه جل وعلا فيه حالا فحالا فإذا لم يخلقه تعالى فيه انتفى الجوهر. وقال إمام الحرمين : إنه الأعراض التي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 169
يجب اتصاف الجسم بها فإن اللّه تعالى شأنه يخلقها في الجسم حالا فحالا فمتى لم يخلقها سبحانه فيه انعدم. وقال النظام : إنه خلق اللّه تعالى الجوهر حالا فحالا فإن الجواهر عنده لا بقاء لها بل هي متجددة بتجدد الأعراض فإذا لم يوالي عز مجده على الجوهر خلقه فني ، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأقاويل من قبيل الأباطيل سيما القول بأن الفناء أمر محقق في الخارج ضد للبقاء قائم بنفسه أو بالجوهر وكون البقاء موجودا لا في محل ، ولعل وجه البطلان غني عن البيان. واحتجوا لهذا المذهب بقوله سبحانه كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص : 88] وقوله تعالى : كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن : 26] وأجابوا عن الآية بأن الكفار اكتفوا بأقل اللازم وأرادوا المبالغة في الإنكار لأنه إذا لم يمكن بزعمهم الحشر بعد كونهم عظاما ورفاتا فعدم إمكانه بعد فنائهم بالمرة أظهر وأظهر ، وفيه أن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه والتفرق كذلك فيقال له هلاك ويسمى أيضا فناء عرفا فالاحتجاج بالآيتين غير تام وإن ما قالوه في الجواب عن الآية خلاف الظاهر. ولا يرد عليهم أن إعادة المعدوم محال لما ذكره الفلاسفة من الأدلة لما ذكره المسلمون في إبطالها ، ومن الناس من قال : إن عجب الذنب لا يفنى وإن فني ما عداه من أجزاء البدن
لحديث الصحيحين «ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه خلق الخلق يوم القيامة».
وفي رواية مسلم «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب»
وصحح المزني أنه يفنى أيضا وتأول الحديث بأن المراد منه أن كل الإنسان يبلى بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن اللّه تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت ، والخلق منه والتركيب يمكن أن يكون بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في بقائه ، ووافقه على ذلك ابن قتيبة ، وأنت تعلم أن ظواهر الأخبار تدل على عدم فنائه مطلقا ، وتوقف بعض العلماء عن الجزم بأحد المذهبين السابقين في كيفية الحشر.
وقال السعد : إنه الحق وهو اختيار إمام الحرمين وفي المواقف وشرحه للسيد السند هل يعدم اللّه تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء فلا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب الاقتصاد : فإن قيل ما تقولون هل تعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر ثم تعاد الأعراض فقط؟ قلنا كل ذلك ممكن ، والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد الأمرين الممكنين.
وقال بعضهم : الحق وقوع الأمرين جميعا إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بإعراضه وهو حسن ، والكلام في هذا المقام طويل جدا ولعل اللّه سبحانه وتعالى يمن علينا باستيفائه ولو في مواضع متعددة.
وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا وهو ميقات إعادتهم وحشرهم أو موتهم وهو على هذا اسم جنس لأن لكل أحد أجلا للموت يخصه ، وقد جاء إطلاق الأجل على الموت ووجهه أنه يطلق على مدة الحياة وعلى آخرها والموت مجاور لذلك لا رَيْبَ فِيهِ أي لا ينبغي الريب فيه والإنكار لمن تدبره أو النفي على ظاهره ، والجملة معطوفة على أَوَلَمْ يَرَوْا وهي وإن كانت إنشائية وفي عطف الإخبارية عليها مقال مؤولة بخبرية والعطف على الصلة فيما مر متعذر للفصل بخبر أن.
وكذا على ما بعد أن المصدرية لفظا ومعنى والمعنى كما في الكشف وغيره قد علموا بدليل العقل أن اللّه تعالى قادر على إعادتهم وقد جعل أجلا لها لا ريب فيه فلا بد منها أي إذا كان ذلك ممكنا في نفسه واجب الوقوع بخبر الصادق لا يبقى للإنكار معنى فإن كان الأجل بمعنى ميقات إعادتهم أي يوم القيامة لقولهم أَإِذا كُنَّا عِظاماً

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 170
وَرُفاتاً
وهو الظاهر فهو واضح ، وإن كان بمعنى الموت فوجهه أنهم قد علموا إمكانه وأنهم ميتون لا محالة منسلخون من هذه الحياة وأنه لا بد لهم من جزاء فلم يخلقوا عبثا ولم يتركوا سدى ففيم الإنكار ، وكأنه قد اكتفى بالموت عما بعده لأنه أول القيامة ومن مات فقد قامت قيامته فالعطف في التقدير على قد علموا ، ويعلم من هذا التقرير أن الجامع بين الجملتين لصحة العطف في غاية القوة.
وزعم القطب أن الأولى العطف على ما بعد أن المصدرية أما أولا فلأنه أقرب ، وأما ثانيا فلأن جعل الأجل يدخل حينئذ تحت قدرته تعالى وتحت علمهم بخلاف ما إذا عطف على قوله سبحانه «أو لم يروا» إلخ ولا يخفى ما فيه على من استدارت كرة فكره على محور التحقيق فَأَبَى الظَّالِمُونَ الذين كفروا بالآيات وقالوا ما قالوا ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد بالمرة إِلَّا كُفُوراً أي جحودا.
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ أي خزائن نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات فالرحمة مجاز عن النعم والخزائن استعارة تحقيقية أو تخييلية ، وأَنْتُمْ على ما ذهب إليه الحوفي. والزمخشري.
وأبو البقاء. وابن عطية وغيرهم فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور لأن لو يمتنع أن يليها الاسم والأصل لو تملكون تملكون فلما حذف الفعل انفصل الضمير ، ومثل ذلك قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية لو ذات سوار لطمتني ، وقول الملتمس :
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وفائدة الحذف والتفسير على ما قيل الإيجاز فإنه بعد قصد التوكيد لو قيل تملكون تملكون لكان إطنابا وتكرارا بحسب الظاهر ، والمبالغة لتكرير الإسناد أو لتكرير الشرط فإنه يقتضي تكرر ترتب الجزاء عليه والدلالة على الاختصاص وذلك بناء على أن أَنْتُمْ بعينه ضمير تَمْلِكُونَ المؤخر فهو في المعنى فاعل مقدم وتقديم الفاعل المعنوي يفيد الاختصاص إذا ناسب المقام فيفيد الكلام حينئذ ترتب الإمساك ، وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى المراد منه على تفردهم بملك الخزائن ويعلم منه ترتبه على ملكها بالاشتراك بالطريق الأولى ، وإلى تخريج مثل هذا التركيب على هذا الطرز ذهب البصريون بيد أن أبا الحسن بن الصائغ وغيره صرحوا بأنهم يمنعون إيلاء لو فعلا مضمرا في الفصيح ويجيزونه في الضرورة وفي نادر كلام ، ولعل شعر المتلمس ومثل حاتم عندهم من ذلك والحق خلاف ذلك.
وقال أبو الحسن علي بن فضالة المجاشعي : إن التقدير لو كنتم أنتم تملكون ، وظاهره أن أنتم عنده توكيد للضمير المحذوف مع الفعل وليس بشيء ، وقال أبو الحسن بن الصائغ : إن الأصل لو كنتم تملكون فحذفت كان وحدها وانفصل الضمير فهو عنده اسم لكان محذوفة وجملة تَمْلِكُونَ خبرها وعلى هذا تخرج نظائره.
قال أبو حيان بعد نقل ما تقدم : وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد لو معهود في لسان العرب ، ولا يخفى أن الكلام على ما سمعت أولا أفيد وإن كان الظاهر أن الإمساك على هذا يكون على استمرار الملك ، والمراد من الإمساك البخل وذلك لأن البخل إمساك خاص فلما حذف المفعول ووجه إلى نفس الفعل بمعنى لفعلتم الإمساك جعل كناية عن أبلغ أنواعه وأقبحها ، وإلى كونه كناية عما ذكر ذهب صاحب الفرائد وغيره.
وجوز أن يكون مضمنا معنى البخل وتعقب بأنه ليس بشيء لفظا ومعنى ، وعلى ما ذكرنا يتخرج قولهم للبخيل ممسك خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي مخافة الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وروي نحوه عن قتادة وإليه ذهب الراغب قال : يقال أنفق فلان إذا افتقر ، وأبو عبيدة قال : أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد ، وقال بعضهم :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 171
الإنفاق بمعناه المعروف وهو صرف المال ، وفي الكلام مقدر أي خشية عاقبة الإنفاق.
وجوز أن يكون مجازا عن لازمه وهو النفاد ، ونصب خَشْيَةَ على أنه مفعول له ، وجعله مصدرا في موضع الحال كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر ، وقد بلغت هذه الآية في الوصف بالشح الغاية القصوى التي لا يبلغها الوهم حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة اللّه تعالى التي لا تتناهى وانفردوا بملكها من غير مزاحم أمسكوها من غير مقتض إلا خشية الفقر ، وإن شئت فوازن بقول الشاعر :
ولو أن دارك أنبتت لك أرضها إبرا يضيق بها فناء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك ابرة ليخيط قد قميصه لم تفعل
مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة ترى التفاوت الذي لا يحصر ، وجعل غير واحد الخطاب فيها عاما فيقتضي أن يكون كل واحد من الناس بخيلا كما هو ظاهر ما بعد مع أنه أثبت لبعضهم الإيثار مع الحاجة.
وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الجواد الحقيقي والفياض المطلق عز مجده فإن الإنسان إما ممسك أو منفق والإنفاق لا يكون إلا لغرض للعاقل كعوض مالي أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع كما في النفقة على الأهل أو نحو ذلك وما كان لعوض كان مبادلة لا مبادلة أو هو بالنظر إلى الأغلب وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل :
عدنا في زماننا عن حديث المكارم
من كفى الناس شره فهو في جود حاتم
وهذا الجواب عندي أولى من الأول وعلى ذلك يحمل قوله تعالى : وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً مبالغا في البخل ، وجاء القتر بمعنى تقليل النفقة وهو بإزاء الإسراف وكلاهما مذموم ويقال قترت الشيء واقترته وقترته أي قللته وفلان مقتر فقير ، وأصل ذلك كما قال الراغب من القتار والقتر وهو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما فكأن المقتر والمقتر هو الذي يتناول من الشيء قتاره ، وقيل الخطاب لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها ، والمراد من الإنسان كما في القول الأول الجنس ولا شك في أن جنس الإنسان مجبول على البخل لأن مبنى أمره الحاجة ، وقيل الإنسان وعليه الإمام ، ووجه ارتباط الآية بما قبلها على تخصيص الخطاب أن أهل مكة طلبوا ما طلبوا من الينبوع والأنهار لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم فبيّن سبحانة أنهم لو ملكوا خزائن رحمة اللّه تعالى لبخلوا وشحوا ولما قدموا على إيصال النفع لأحد ، والمراد التشنيع عليهم بأنهم في غاية الشح ويقترحون ما يقترحون أو المراد أن صفتهم هذه فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا كذا قال العسكري وغيره فالآية عندهم مرتبطة بقوله تعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء : 90] ويكفي على العموم اندراج أهل مكة فيه.
وقال أبو حيان : المناسب في وجه الارتباط أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام قد منحه اللّه تعالى ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن فهو صلّى اللّه عليه وسلّم أحرص الناس على إيصال الخير إليهم وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى اللّه تعالى ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحا بذلك لا يطلب منهم أجرا وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه فلا يصل منهم إلا الأذى فنبه تعالى شأنه بهذه الآية على سماحته عليه الصلاة والسلام وبذل ما آتاه اللّه تعالى وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه صلّى اللّه عليه وسلّم فهي قد جاءت مبينة للباين ما بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم من حرصه على نفعهم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 172
وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه اه. فالارتباط بين الآية وبين مجموع الآيات السابقة من حيث إنها تشعر بحرصه صلّى اللّه عليه وسلّم على هدايتهم ولعمري إن هذا مما يأباه الذوق السليم والذهن المستقيم.
ويحتمل أن يكون وجه الارتباط اشتمالها على ذمهم بالشح المفرط كما أن ما قبلها مشتمل على ذمهم بالكفر كذلك وهما صفتان سيئتان ضرر أحداهما قاصر وضرر الأخرى متعد فتأمل فلمسلك الذهن اتساع واللّه تعالى أعلم بمراده ، ولما حكى سبحانه عن قريش ما حكى من العنت والعناد مع رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم سلاه تعالى جده بما جرى لموسى عليه السلام مع فرعون وما صنع سبحانه بفرعون وقومه فقال عز قائلا :
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ظاهر السياق والنظائر يقتضيان كون المعنى تسع أدلة وواضحات الدلالة على نبوة موسى عليه السلام وصحة ما جاء به من عند اللّه تعالى ولا ينافيه أنه قد أوتي من ذلك ما هو أكثر مما ذكر لأن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد كما حقق في الأصول وإلى هذا ذهب غير واحد إلا أنه اختلف في تعيين هذه التسع ففي بعض التفاسير هي كما في التوراة العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان ثم جراد ثم ظلمة ثم موت عم كبار الآدميين وجميع الحيوانات. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين ونقص من الثمرات ، وروي ذلك عن مجاهد والشعبي وقتادة وعكرمة.
وتعقب هذا بأن السنين والنقص من الثمرات آية واحدة كما روي عن الحسن.
ورد بأنه ليس بالحسن إذ ظاهر قوله تعالى : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ [الأعراف :
130] يقتضي المغايرة فيحمل الأول على الجدب في بواديهم والثاني على النقصان في مزارعهم أو على نحو ذلك وقد تقدم الكلام فيه فلا ضير في عدهما آيتين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في رواية أخرى عن الحبر أنها يده عليه السلام ولسانه وعصاه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفي الكشاف عنه رضي اللّه تعالى عنه أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه اللّه تعالى على بني إسرائيل. وتعقبه في الكشف بقوله فيه : إن الحجر والطور ليسا من الآيات المذهوب بها إلى فرعون وقال تعالى : فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النمل : 12] وذكر سبحانه في هذه السورة لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ والإشارة إلى الآيات ثم قال : والجواب جاز أن يكون التسع البينات بعضا منها غير البعض من تلك التسع وليس في هذه الآية أن الكل لفرعون وقومه وأما الإشارة فإلى البعض بالضرورة لأن الكل إنما حصلت على التدريج وفلق البحر لم يكن في معرض التحدي بل عند ما حق الهلاك اه ، ولا يخلو عن ارتكاب خلاف الظاهر ، وما روي عن ابن عباس أولا لائح الوجه ما فيه أشكال ونسبه في الكشاف إلى الحسن وهو خلاف ما وجدناه في الكتب التي يعول عليها في أمثال ذلك ، وروي أن عمر بن عبد العزيز عليه الرحمة سأل محمد بن كعب عن هذه الآيات فعد ما عد وذكر فيه الطمس فقال عمر : كيف يكون الفقيه إلا هكذا ثم قال : يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة هذا وظاهر بعض الأخبار يقتضي خلاف ذلك.
فقد أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 173
لا نعرف له علة وخلق آخرون عن صفوان بن عسال «أن يهوديين قال. أحدهما لصاحبه : انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله فأتياه صلّى اللّه عليه وسلّم فسألاه عن قول اللّه تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال عليه الصلاة والسلام : لا تشركوا باللّه شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه تعالى إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف».
وفي رواية «أو قال لا تفروا من الزحف - شك شعبة - وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك نبي» الخبر
،
ومن هنا قيل المراد بالآيات الأحكام ، وقال الشهاب الخفاجي : إنه التفسير الصحيح ، ووجه إطلاقها عليها بأنها علامات على السعادة لمن امتثلها والشقاوة لغيره ، وقيل أطلقت عليها لأنها نزلت في ضمن آيات بمعنى عبارات دالة على المعاني نحو آيات الكتاب فيكون من قبيل إطلاق الدال وإرادة المدلول ، وقيل لا ضير أن يراد على ذلك بالآيات العبارات الإلهية الدالة على تلك الأحكام من حيث إنها دالة عليها ، وفيه وكذا في سابقة القول بإطلاق الآيات على ما أنزل على غير نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم من العبارات الإلهية كإطلاقها على ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام منها. واستشكل بأن الآيات في الرواية التي لا شك فيها عشرة وما في الآية المسئول عنها تسع ، وأجيب بأن الأخير فيها أعني لا تعتدوا في السبت ليس من الآيات لأن المراد بها أحكام عامة ثابتة في الشرائع كلها وهو ليس كذلك ولذا غير الأسلوب فيه فهو تذييل للكلام وتتميم له بالزيادة على ما سألوه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفي الكشف أنه من الأسلوب الحكيم لأنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر التسع العامة في كل شريعة ذكر خاصا بهم ليدل على إحاطة علمه صلّى اللّه عليه وسلّم بالكل وهو حسن وليس الأسلوب الحكيم فيه بالمعنى المشهور فإطلاق القول بأنه ليس من الأسلوب الحكيم كما فعل الخفاجي ليس في محله.
وقال بعض الأجلة : إن هذه الأشياء لا تعلق لها بفرعون وإنما أوتيها بنو إسرائيل ولعل جوابه صلّى اللّه عليه وسلّم بما ذكر لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان في التوراة مسطورا وقد علم أنه ما علمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلا من جهة الوحي اه.
وتعقب بأنا لا نسلم أنه يجب في الآيات المذكورة في الآية أن تكون مما له تعلق بفرعون وما بعد ليس نصا في ذلك نعم هو كالظاهر فيه لكن كثيرا ما تترك الظواهر للأخبار الصحيحة سلمنا أنه يجب أن يكون لها تعلق لكن لا نسلم أن تلك الأحكام لا تعلق لها لجواز أن يكون كلها أو بعضها مما خوطب به فرعون وبنو إسرائيل جميعا لا بد لنفي ذلك من دليل ، وكأن حاصل ما أراد من قوله لعل جوابه صلّى اللّه عليه وسلّم إلخ أن ذلك الجواب من الأسلوب الحكيم بأن يكون موسى عليه السلام قد أوتي تسع آيات بينات بمعنى المعجزات الواضحات وهي المرادة في الآية وأوتي تسعا أخرى بمعنى الأحكام وهي غير مرادة إلا أن الجواب وقع عنها لما ذكر وهو كما ترى فتأمل.
فمؤيدات كل من التفسيرين أعني تفسير الآيات بالأدلة والمعجزات وتفسيرها بالأحكام متعارضة وأقوى ما يؤيد الثاني الخبر فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وقرأ جمع «فسل» والظاهر أنه خطاب لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم والسؤال بمعناه المشهور إلا أن الجمهور على أنه خطاب لموسى عليه السلام ، والسؤال إما بمعنى الطلب أو بمعناه المشهور لقراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخرجها أحمد في الزهد وابن المنذر وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس فسأل على صيغة الماضي بغير همز كقال وهي لغة قريش فإنهم يبدلون الهمزة المتحركة وذلك لأن هذه القراءة دلت على أن السائل موسى عليه السلام وأنه مستعقب عن الإيتاء فلا يجوز أن يكون فاسأل خطابا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لئلا تتخالف القراءتان ولا بد إذ ذاك من إضمار لئلا يختلفا خبرا وطلبا أي فقلنا له اطلبهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل أو اطلب منهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 174
معك أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم واستفهم منهم هل هم ثابتون عليه أو اتبعوا فرعون ويتعلق بالقول بالمضمر قوله تعالى : إِذْ جاءَهُمْ وهو متعلق بسأل على قراءته صلّى اللّه عليه وسلّم والدليل على ذلك المضمر في اللفظ قوله تعالى : فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ لأنه لو كان فاسأل خطابا لنبينا عليه الصلاة والسلام لانفك النظم وأيضا لا يظهر استعقابه ولا تسببه عن إيتاء موسى عليه السلام نعم جعل الذاهبون إلى الأول فاسأل اعتراضا من باب زيد فاعلم فقيه والفاء تكون للاعتراض كالواو وعلى ذلك قوله :
واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا
وهذا الوجه مستغن عن الإضمار وإِذْ جاءَهُمْ متعلق عليه بآتينا ظرفا ولا يصح تعلقه بسل إذ ليس سؤاله صلّى اللّه عليه وسلّم في وقت مجيء موسى عليه السلام ، قال في الكشف : والمعنى فاسأل يا محمد مؤمني أهل الكتاب عن ذلك إما لأن تظاهر الأدلة أقوى ، وإما من باب التهييج والإلهاب ، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم ثابت في كتابهم وليس المقصود حقيقة السؤال بل كونهم أعني المسئولين من أهل علمه ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم وهذا هو الوجه الذي يحمل به موقع الاعتراض ، وجوز أن يكون منصوبا باذكر مضمرا على أنه مفعول به وجاز على هذا أن لا يجعل فَسْئَلْ اعتراضا ويجعل اذكر بدلا عن اسأل لما سمعت من أن السؤال ليس على حقيقته وكذا جوز أن يكون منصوبا كذلك بيخبروك مضمرا وقع جواب الأمر أي سلهم يخبروك إذ جاءهم.
ولا يجوز على هذا الاعتراض ، نعم يجوز الاعتراض على هذا بأن أخبر يتعدى بالباء أو عن لا بنفسه فيجب أن يقدر بدل الإخبار الذكر ونحوه مما يتعدى بنفسه وإما جعله ظرفا له غير صحيح إذ الإخبار غير واقع في وقت المجيء ، واعترض أيضا بأن السؤال عن الآيات والجواب بالإخبار عن وقت المجيء أو ذكره لا يلائمه.
ويمكن الجواب بأن المراد يخبروك بذلك الواقع وقت مجيئه لهم أو يذكروا ذلك لك وهو كما ترى ، وبعضهم جوز تعلقه بيخبروك على أن إذ للتعليل ، وعلى هذا يجوز تعلقه باذكر ، والمعنى على سائر احتمالات كون الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام إذ جاء آباءهم إذ بنو إسرائيل حينئذ هم الموجودون في زمانه صلّى اللّه عليه وسلّم وموسى عليه السلام ما جاءهم فالكلام إما على حذف مضاف أو على ارتكاب نوع من الاستخدام ، والاحتمالات على تقدير جعل الخطاب لمن يسمع هي الاحتمالات التي سمعت على تقدير جعله لسيد السامعين عليه الصلاة والسلام.
والفاء في فَقالَ على سائر الاحتمالات والأوجه فصيحة والمعنى إذ جاءهم فذهب إلى فرعون وادعى النبوة وأظهر المعجزة وكيت وكيت فقال : إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً سحرت فاختل عقلك ولذلك اختل كلامك وادعيت ما ادعيت وهو كقوله : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء : 27].
وقال الفراء والطبري : مسحورا بمعنى ساحرا على النسب أو حقيقة وهو يناسب قلب العصا ونحوه على تفسير الآيات بالمعجزات قالَ موسى عليه السلام ردا لقوله المذكور لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ أي الآيات التسع أو بعضها والإشارة إلى ذلك بما ذكر على حد قوله على إحدى الروايتين والعيش بعد أولئك الأيام. وقد مر إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومدبرهما ، وحاصل الرد أن علمك بأن هاتيك الآيات من اللّه تعالى إذ لا يقدر عليها سواه تعالى يقتضي أني لست بمسحور ولا ساحر وأن كلامي غير مختل لكن حب الرياسة حملك على العناد في التعرض لعنوان الربوبية إيماء إلى ان إنزالها من آثار ذلك ، وفي البحر ما أحسن إسناد إنزالها إلى رب السموات والأرض إذ هو عليه السلام لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له : وما رب العالمين؟ قال : رب السموات والأرض تنبيها على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى مستحيل فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 175
ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله تعالى : وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل : 14] وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذه أو هي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه أو العلم بعلمه ليكون إفادة لازم الخبر كقولك لمن حفظ التوراة حفظت التوراة.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجه وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما والكسائي «لقد علمت» بضم التاء
فيكون موسى عليه السلام قد أخبر عن نفسه أنه ليس بمسحور كما زعم عدو اللّه تعالى وعدوه بل هو يعلم أن ما أنزل تلك الآيات إلا خالق السموات والأرض ومدبرهما ، وروي عن الأمير كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : واللّه ما علم عدو اللّه تعالى ولكن موسى عليه السلام هو الذي علم ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول وكيف يقول ذلك باب مدينة العلم كرم اللّه تعالى وجهه ، ووجه نسبة العلم إليه ظاهر.
وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور أن سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم أخرجوا عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه كان يقرأ بالضم ويقول ذلك
ولم يتعقبه بشيء ، ولعل هذا المجهول الذي ذكره أبو حيان في أسانيدهم واللّه تعالى أعلم.
وجملة ما أَنْزَلَ إلخ معلق عنها سادة «1» مسد عَلِمْتَ وقوله تعالى : بَصائِرَ حال من هؤلاء والعامل فيه أنزل المذكور عند الحوفي وأبي البقاء وابن عطية وما قبل إلا يعمل فيما بعدها إذا كان مستثنى منه أو تابعا له وقد نص الأخفش والكسائي على جواز ما ضرب هندا إلا زيد ضاحكة ومذهب الجمهور عدم الجواز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول عندهم على إضمار فعل يدل عليه ما قبل والتقدير هنا أنزلها بصائر أي بينات مكشوفات تبصرك صدقي على أنه جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بينة وتطلق البصائر على الحجج بجعلها كأنها بصائر العقول أي ما أنزلها إلا حججا وأدلة على صدقي وتكون بمعنى العبرة كما ذكره الراغب ، هذا ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد من الآيات التسع ما اقتضاه خبر صفوان السابق يجوز أن تكون هؤُلاءِ إشارة إلى ما أظهره عليه السلام من المعجزات ويعتبر إظهار ذلك فيما يفصح عنه الفاء الفصيحة وإن أبيت إلا جعلها إشارة إلى الآيات المذكورة بذلك المعنى لتحقق جميعها من أول الأمر وثبوتها وقت المحاورة وشدة ملاءمة الإنزال لها احتجت إلى ارتكاب نوع تكلف فيما لا يخفى عليك وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي هالكا كما روي عن الحسن ومجاهد على أنه من ثبر اللازم بمعنى هلك ، ومفعول فيه للنسب بناء على أنه يأتي له من اللازم والمتعدي ، وفسره بعضهم بمهلكا وهو ظاهر ، وعن الفراء أنه قال : أي مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم : ما ثبرك عن هذا أي ما منعك وإليه يرجع ما أخرجه الطستي عن ابن عباس من تفسيره بملعونا محبوسا عن الخير.
وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي اللّه تعالى عنه تفسيره بناقص العقل ، وفي معناه تفسير الضحاك بمسحور قال : رد موسى عليه السلام بمثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ ، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن مَثْبُوراً في الآية فقال : مخالفا ثم قال : الأنبياء عليهم السلام «2» من أن يلعنوا أو يسبوا ، وأنت تعلم أن هذا معنى مجازي له وكذا ناقص العقل ولا داعي إلى ارتكابه ، وما
___________
(1) قوله مسد علمت كذا بخط مؤلفه وسقط منه مضاف والأصل مسد مفعولي علمت.
(2) قوله الأنبياء عليهم السلام من أن يلعنوا إلخ كذا بخطه ولعل فيه سقطا من قلمه والأصل الأنبياء عليهم السلام مبرؤون من أن يلعنوا إلخ أو نحو ذلك وفي الدر المنثور الأنبياء أكرم من أن تلعن أو تسب. [.....]

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 176
ذكره الإمام مالك فيه ما فيه ، نعم قيل : إن تفسيره بهالكا ونحوه مما فيه خشونة ينافي قوله تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه : 44] وأشار أبو حيان إلى جوابه بأن موسى عليه السلام كان أولا يتوقع من فرعون المكروه كما قال : إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى [طه : 45] فأمر أن يقول له قولا لينا فلما قال سبحانه له : لا تَخَفْ [طه : 21 ، 68 وغيرها] وثق بحماية اللّه تعالى فصال عليه صولة المحمي وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك ، وفيه كلام ستطلع عليه إن شاء اللّه تعالى في محله ، وبالجملة التفسير الأول أظهر التفاسير ولا ضير فيه لا سيما مع تعبير موسى عليه السلام بالظن ثم إنه عليه السلام قد قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون إفك مبين وظن موسى عليه السلام يحوم حول اليقين.
وقرأ أبي ، وابن كعب «وإن أخالك يا فرعون لمثبورا» على إن المخففة واللام الفارقة ، وأخال بمعنى أظن بكسر الهمزة في الفصيح وقد تفتح في لغة كما في القاموس.
فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي موسى وقومه ، وأصل الاستفزاز الإزعاج وكنى به عن إخراجهم مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مصر التي هم فيها أو من جميع الأرض ويلزم إخراجهم من ذلك قتلهم واستئصالهم وهو المراد فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي فعكسنا عليه مكره حيث أراد ذلك لهم دونه فكان له دونهم فاستفز بالإغراق هو وقومه وهذا التعكيس أظهر من الشمس على الثاني وظاهر على الأول لأنه أراد إخراجهم من مصر فأخرج هو أشد الإخراج بالإهلاك والزيادة لا تضر في التعكيس بل تؤيده.
وَقُلْنا على لسان موسى عليه السلام مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد فرعون على معنى من بعد إغراقه أو الضمير للإغراق المفهوم من الفعل السابق أي من بعد إغراقه وإغراق من معه لِبَنِي إِسْرائِيلَ الذين أراد فرعون استفزازهم اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم منها وهي أرض مصر ، وهذا ظاهر أن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها واتبعهم فرعون وجنوده وأغرقوا وإن لم يثبت فالمراد من بني إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم ، واختار غير واحد أن المراد من الأرض الأرض المقدسة وهي أرض الشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة ، والمراد على جميع ذلك قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي مختلطين أنتم وهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداء كم من أشقيائكم وأصل اللفيف الجماعة من قبائل شتى فهو اسم جمع كالجميع ولا واحد له أو هو مصدر شامل للقليل والكثير لأنه يقال لف لفا ولفيفا ، والمراد منه ما أشير إليه ، وفسره ابن عباس بجميعا وكيفما كان فهو حال من الضمير المجرور في بكم ، ونص بعضهم على أن في بِكُمْ تغليب المخاطبين على الغائبين ، والمراد بهم وبكم وما ألطفه مع لَفِيفاً وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ عود إلى شرح حال القرآن الكريم فهو مرتبط بقوله تعالى لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء : 88] الآية وهكذا طريقة العرب في كلامها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا والحديث شجون فضمير الغائب للقرآن وأبعد من ذهب إلى أنه لموسى عليه السلام ، والآية مرتبطة بما عندها ، والإنزال فيها كما في قوله تعالى : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد :
25] وقد حمله بعضهم على هذا المعنى فيما قبل أو للآيات التسع وذكر على المعنى أو للوعد المذكور آنفا ، والظاهر أن الباء في الموضعين للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير القرآن واحتمال أن يكون أولا حالا من ضميره تعالى خلاف الظاهر ، والمراد بالحق الأول على ما قيل الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله وبالثاني ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها أي ما أنزلناه إلا ملتبسا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه ، وقيل الباء الأولى للسببية متعلقة بالفعل بعد والثانية للملابسة ، وقيل هما للسببية فيتعلقان بالفعل وقال أبو سليمان

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 177
الدمشقي : الحق الأول التوحيد والثاني الوعد والوعيد والأمر والنهي ، وقيل الحق في الموضعين الأمر المحفوظ الثابت ، والمعنى ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين ، وحاصله أنه محفوظ حال الإنزال وحال النزول وما بعده لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأبعد من جوز كون المراد بالحق الثاني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومعنى نزوله به نزوله عليه وحلوله عنده من قولهم نزل بفلان ضيف ، وعلى سائر الأوجه لا تخفى فائدة ذكر الجملة الثانية بعد الأولى ، وما يتوهم من التكرار مندفع ونحا الطبري إلى أن الجملة الثانية توكيد للأولى من حيث المعنى لأنه يقال أنزلته فنزل وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من النزول فجاءت الجملة الثانية مزيلة لهذا الاحتمال وتحاشى بعضهم من إطلاق التوكيد لما بين الإنزال والنزول من المغايرة وادعى أنه لو كانت الثانية توكيدا للأولى لما جاز العطف لكمال الاتصال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيع بالثواب وَنَذِيراً للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا هداية الكفرة المقترحين وإكراههم على الدين ولعل الجملة لتحقيق حقية بعثته صلّى اللّه عليه وسلّم إثر تحقيق حقيقة القرآن ونصب ما بعد إلا على الحال.
وَقُرْآناً نصب بفعل مضمر يفسره قوله تعالى فَرَقْناهُ فهو من باب الاشتغال ورجع النصب على الرفع العطف على الجملة الفعلية ولو رفع على الابتداء في غير القرآن جاز إلا أنه لا بد له من ملاحظة مسوغ عند من لا يكتفي في صحة الابتداء بالنكرة بحصول الفائدة وعلى هذا أخرجه الحوفي.
وقال ابن عطية : هو مذهب سيبويه ، وقال الفراء : هو منصوب بأرسلناك أي ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وقرآنا كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة ، ولا يخفى أنه إعراب متكلف لا يكاد يقوله فاضل ، ومما يقضي منه العجب ما جوزه ابن عطية من نصبه بالعطف على الكاف في أَرْسَلْناكَ.
وقال أبو البقاء : وهو دون الأول وفوق ما عداه إنه منصوب بفعل مضمر دل عليه آتَيْنا السابق أو أَرْسَلْناكَ وجملة فَرَقْناهُ في موضع الصفة له أي آتيناك قرآنا فرقناه أي أنزلناه منجما مفرقا أو فرقنا فيه بين الحق والباطل فحذف الجار وانتصب مجروره على أنه مفعول به على التوسع كما في قوله : ويوما شهدناه سليما وعامرا وروي ذلك عن الحسن ، وعن ابن عباس بينّا حلاله وحرامه ، وقال الفراء : أحكمناه وفصلناه كما في قوله تعالى : فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان : 4] وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس وأبي وعبد اللّه وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمر بن قائد وزيد بن علي وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه «فرقّناه» بشد الراء ومعناه كالمخفف أي أنزلناه مفرقا منجما بيد أن التضعيف للتكثير في الفعل وهو التفريق ، وقيل فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب وبالتشديد على فصل متباعد والأول أظهر ، ولما كان قوله تعالى الآتي عَلى مُكْثٍ يدل على كثرة نجومه كانت القراءتان بمعنى ، وقيل معناه فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي والجمهور على الأول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن الأنباري وغيرهما عن ابن عباس قال : نزل القرآن جملة واحدة من عند اللّه تعالى من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين ليلة ونجمه جبريل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عشرين سنة
، وفي رواية أنه أنزل ليلة القدر في رمضان ووضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل نجوما في عشرين
، وفي رواية في ثلاث وعشرين سنة
وفي أخرى في خمس وعشرين
، وهذا الاختلاف على ما في البحر مبني على الاختلاف في سنة صلّى اللّه عليه وسلّم.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 178
وأخرج ابن الضريس من طريق قتادة عن الحسن كان يقول : أنزل اللّه القرآن على نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ثماني عشرة سنة ثمان سنين بمكة وعشر بعد ما هاجر.
وتعقبه ابن عطية بأنه قول مختل لا يصح عن الحسن ، واعتمد جمع أن بين أوله وآخره ثلاثا وعشرين سنة وكان ينزل به جبريل عليه السلام على ما قيل خمس آيات خمس آيات ، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا. وأخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال : كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي ويخبر أن جبريل عليه السلام نزل به خمس آيات خمس آيات ، وكان المراد في الغالب فإنه قد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه.
وقرأ أبي وعبد اللّه «فرقناه عليك» لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي تؤدة وتأنّ فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقيل أي تطاول في المدة وتقضيها شيئا فشيئا ، والظاهر تعلق لتقرأه بفرقناه وعلى الناس بتقرأه وعلى مكث به أيضا إلا أن فيه تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد. وأجيب بأن تعلق الثاني بعد اعتبار تعلق الأول به فيختلف المتعلق ، وفي البحر لا يبالى بتعلق هذين الحرفين بما ذكر لاختلاف معناهما لأن الأول في موضع المفعول به والثاني في موضع الحال أي متمهلا مترسلا ، ولما في ذلك من القيل والقال اختار بعضهم تعلقه بفرقناه ، وجوز الخفاجي تعلقه بمحذوف أي تفريقا أو فرقا على مكث أو قراءة على مكث منك كمكث تنزيله ، وجعله أبو البقاء في موضع الحال من الضمير المنصوب في فرقناه أي متمكثا ، ومن العجيب قول الحوفي أنه بدل من عَلَى النَّاسِ وقد تعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأن عَلى مُكْثٍ من صفات القارئ أو من صفات المقروء وليس من صفات الناس ليكون بدلا منهم ، والمكث مثلث الميم وقرىء بالضم والفتح ولم يقرأ بالكسر وهو لغة قليلة ، وزعم ابن عطية إجماع القراء على الضم.
وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب الحوادث والمصالح فذكر هذا بعد قوله تعالى : فَرَقْناهُ إلخ مفيد وذلك لأن الأول دال على تدريج نزوله ليسهل حفظه وفهمه من غير نظر إلى مقتض لذلك وهذا أخص منه فإنه دال على تدريجه بحسب الاقتضاء قُلْ للذين كفروا آمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا أي به على معنى أن إيمانكم به وعدم إيمانكم به سواء لأن إيمانكم لا يزيده كمالا وعدم إيمانكم لا يورثه نقصا.
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي العلماء الذين قرؤوا الكتب السالفة من قبل تنزل القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من تمييز الحق والباطل والمحق والمبطل أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليك إِذا يُتْلى أي القرآن عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ الخرور السقوط بسرعة ، والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ويطلق على ما ينبت عليه من الشعر مجازا وكذا يطلق على الوجه تعبيرا بالجزء عن الكل قيل وهو المراد وروي عن ابن عباس فكأنه قيل يسقطون بسرعة على وجوههم سُجَّداً تعظيما لأمر اللّه تعالى أو شكرا لإنجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك والظاهر أن هنا خروا وسجودا على الحقيقة ، وقيل : لا شيء من ذلك وإنما المقصود أنهم ينقادون لما سمعوا ويخضعون له كمال الانقياد والخضوع فأخرج الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية ، وفسر الخرور للأذقان بالسقوط على الوجوه الزمخشري ثم قال : وإنما ذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الساجد به الأرض من وجهه ، وقيل : فيه نظر لأن الأول هو الجبهة والأنف ثم وجه بأنه إذا ابتدأ الخرور فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض هو الذقن ، وكأنه أريد أول ما يقرب من اللقاء ، وجوز أن تبقى الأذقان على حقيقتها والمراد المبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحى على التراب أو

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 179
أنه ربما خروا على الذقن كالمغشى عليهم لخشية اللّه تعالى ، وقيل : لعل سجودهم كان هكذا غير ما عرفناه وهو كما ترى.
وقال صاحب الفرائد المراد المبالغة في التحامل على الجبهة والأنف حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض وهو وجه حسن جدا واللام على ما نص عليه الزمخشري للاختصاص وذكر أن المعنى جعلوا أذقانهم للخرور واختصوها به.
ومعنى هذا الاختصاص على ما في الكشف أن الخرور لا يتعدى الأذقان إلى غيرها من الأعضاء المقابلة وحقق ذلك بما لا مزيد عليه واعترض القول بالاختصاص بأنه مخالف لما سبق من قوله : إن الذقن أول ما يلقي الساجد به الأرض وأجيب بما أجيب وتعقبه الخفاجي بأنه مبني على أن الاختصاص الذي تدل عليه اللام بمعنى الحصر وليس كذلك وإنما هو بمعنى تعلق خاص ولو سلّم فمعنى الاختصاص بالذقن الاختصاص بجهته ومحاذيه وهي جهة السفل ولا شك في اختصاصه به إذ هو لا يكون لغيره يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يقعون على الأرض عند التحقيق ، والمراد تصوير تلك الحالة كما في قوله : فخر صريعا لليدين وللفم فتأمل.
واختار بعضهم كون اللام بمعنى على ، وزعم بعض عود ضميري بِهِ وقَبْلِهِ على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويأباه السباق واللحاق ، وأخرج ابن المنذر وابن جرير أن ضمير يُتْلى لكتابهم ولا يخفى حاله والظاهر أن الجملة الاسمية داخلة في حيز قُلْ وهي تعليل لما يفهم من قوله تعالى : آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم ، ويجوز أن لا تكون داخلة في حيز قل بل هي تعليل له على سبيل التسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وأغراضهم وقد ذكر كلا الوجهين الكشاف قال في الكشف والحاصل أن المقصود التسلي والازدراء وعدم المبالاة المفيد للتوبيخ والتقريع مفرع عليه مدمج أو بالعكس والصيغة في الثاني أظهر والتعليل بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في الأول.
وقال ابن عطية يتوجه في الآية معنى آخر وهو أن قوله سبحانه : قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنما جاء للوعيد والمعنى افعلوا أي الأمرين شئتم فسترون ما تجازون به ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة إذا يتلى عليهم ما أنزل عليهم خشعوا وآمنوا اه ، وهو بعيد جدا ولا يخلو عن ارتكاب مجاز.
وربما يكون في الكلام عليه استخدام وَيَقُولُونَ أي في سجودهم أو مطلقا سُبْحانَ رَبِّنا عن خلف وعده أو عما يفعل الكفرة من التكذيب إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا إن مخففة من المثقلة واسمها ضمير شأن واللام فارقة أي إن الشأن هذا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ كرر الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر اللّه تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن ، والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا مما قبل أو مما بعد أي ساجدين ، وجملة يَبْكُونَ حال أيضا أي باكين من خشية اللّه تعالى ، ولما كان البكاء ناشئا من الخشية الناشئة من التفكر الذي يتجدد جيء بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد ، وقد جاء في مدح البكاء من خشيته تعالى أخبار كثيرة
فقد أخرج الحكيم الترمذي عن النضر بن سعد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «لو أن عبدا بكى في أمة لأنجى اللّه تعالى تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد وما من عمل إلا له وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورا من النار وما اغرورقت عين بمائها من خشية اللّه تعالى إلا حرم اللّه تعالى جسدها على النار فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة»
وأخرج أيضا عن ابن عباس قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية اللّه تعالى وعين باتت تحرس في سبيل اللّه تعالى»
وأخرج هو والنسائي ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 180
صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يلج النار رجل بكى من خشية اللّه تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل اللّه تعالى ودخان جهنم» زاد النسائي في منخريه ومسلم أبدا
، وينبغي أن يكون ذلك حال العلماء فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التيمي أنه قال : إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه لأن اللّه تعالى نعت أهل العلم فقال وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن بسماعهم خُشُوعاً لما يزيدهم علما ويقينا بأمر اللّه تعالى على ما حصل عندهم من الأدلة.
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ
أخرج ابن جرير وابن مروديه عن ابن عباس قال : صلى صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة ذات يوم فدعا اللّه تعالى فقال في دعائه : يا اللّه يا رحمن فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت ،
وعن الضحاك أنه قال : قال أهل الكتاب للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر اللّه تعالى في التوراة هذا الاسم فنزلت
،
والمراد على الأول التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحد وإن اختلف الاعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود وهو يلائم قوله تعالى فيما بعد وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وعلى الثاني التسوية في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود فإن أهل الكتاب فهموا أحسنية الرحمن لكونه أحب إليه تعالى إذ أكثر ذكره في كتابهم وكأن حكمة ذلك أن موسى عليه السلام كان غضوبا كما دلت عليه الآثار فأكثر له من ذكر الرحمن ليعامل أمته بمزيد الرحمة لأن الأنبياء عليهم السلام يتخلقون بأخلاق اللّه تعالى ، قال القاضي البيضاوي : وهذا أجوب لقوله تبارك اسمه أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأن توصيف الأسماء بالحسنى يفهم منه أن المقول لهم ذلك يظنون أحسنية اسم من اسم لا التغاير ، وقال صاحب الكشف : الغرض على الوجهين التسوية بين اللفظين في الحسن والاختلاف إنما هو بأن الاستواء في الحسن رد لمن قال : إنك لتقل إلخ بأن الإتيان بأحد الحسنين كاف أو لمن قال : ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو بأن الاختلاف بين اللفظين الدالين على كماله تعالى لا بين كاملين فالأجوبية ممنوعة انتهى.
وتعقب بأن أنسبية التوصيف بالحسنى للثاني ظاهرة مما لا تكاد تنكر ، ووجه الطيبي الأجوبية بأن اعتراض اليهود كان تعبيرا للمسلمين على ترجيح أحد الاسمين على الآخر واعتراض المشركين كان تعبيرا على الجمع بين اللفظين ، وقوله تعالى : «أيّا ما تدعوا» يطابق الرد على اليهود لأن المعنى أي اسم من الاسمين دعوتموه فهو حسن وهو لا ينطبق على اعتراض المشركين ثم قال : هذا مسلم إذا كان أو للتخيير ويجوز أن تكون للإباحة والانطباق حينئذ ظاهر فإن المشركين حظروا الجمع بين الاسمين فيكون ردهم بإباحة الجمع بين الأسماء المتكاثرة فضلا عن الجمع بين الاسمين على أن الجواب بالتخيير في الرد على أهل الكتاب غير مطابق لأنهم اعترضوا بالترجيح. وأجيب بالتسوية لأن أو تقتضيها ، وكان الجواب العتيد أن يقال : إنما رجحنا اللّه على الرحمن في الذكر لأنه جامع لجميع صفات الكمال بخلاف الرحمن ، وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهذا.
ومنع الأجوبية أيضا الجلبي بأن تقديم الخبر في قوله تعالى : فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يقتضي أجوبية الأول إذ معناه هذه الأسماء للّه تعالى لا لغيره كما زعم المشركون إلا أن يقال أو للتخيير وهو غير مسلم بل يتعين كونها للإباحة لأنها كما قال الرضي وغيره يجوز الجمع فيها بين المتعاطفين والاقتصار على أحدهما وفي التخيير لا يجوز الجمع وهو هنا جائز. ودفع بأن المعنى للّه تعالى أسماء متفقة في الحسن لأنها لا تختلف مدلولاتها بالذات بخلاف غيره سبحانه فإن أسماءه تختلف فالقصر إذا كان بأن لم يكن التقديم لمجرد التشويق ناظر إلى الوصف لا للأسماء وهذا لا يتوقف على تسليم التخيير ، ثم إنه لا مانع من إرادته بل أي تقتضيه لأنها لأحد الشيئين فإذا قلت لأحد : أي الأمرين

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 181
تفعل فافعل لم تأمره بفعلهما بل بفعل أحدهما وأما الدلالة على جواز الجمع فمن خارج النظم ودلالة العقل لأنهم إذا لم يتنافيا جاز الجمع بينهما ، ومن هنا تعلم أنه لا حاجة إلى حمل التخيير في كلام من عبر به على غير الاصطلاح المشهور الذي هو اصطلاح النحاة فيه إذا قوبل بالإباحة بأن يقال : مراده به التسوية بين الاسمين في الدلالة على ذات واحدة وسواء فيه الإفراد والجمع ، قال في التلويح : وفي التخيير قد يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة اه.
والظاهر أن الحق مع مانع الأجوبية والقائل بالإباحة فتدبر ، والدعاء على ما اختاره أبو حيان وجماعة بمعنى النداء ، وقال الزمخشري : هو بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدى إلى مفعولين تقول دعوته زيدا ثم يترك أحدهما استغناء عنه فتقول دعوت زيدا ، والأصل على ما قيل أن يتعدى إلى الثاني بالباء لكنه يتسع فيحذف الباء والمفعول الآخر هنا محذوف أي سموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم وكذا يقال في الدعاء الثاني ، وعلل ذلك بأنه لو حمل على الحقيقة المشهورة يلزم إما الاشتراك إن تغاير مدلولا الاسمين أو عطف الشيء على نفسه بأو وهو إنما يجوز بالواو إن اتحدا ، وبحث فيه بأنا نختار الثاني ولا يلزم ما ذكر لأنه قصد اللفظ كما تقول نادي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بمحمد أو بأحمد مع أن اختلاف مفهوميهما يكفي لصحته ، وما روي في سبب النزول أو لا ينادي على ما قيل على إرادة النداء ، وقيل إن كانت الآية ردا على المشركين فهو بمعنى التسمية وإن كانت ردا على اليهود فهو بمعنى النداء وجعل الطيبي لذلك تفسير الزمخشري إياه بالتسمية مؤذنا بميله إلى أنها رد على المشركين وفي ذلك تأمل ، وأَيًّا اسم شرط جازم منصوب بتدعوا وجازم له فهو عامل ومعمول من جهتين والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف والتقدير أي هذين الاسمين وما حرف مزيد للتأكيد ، وقيل إنها اسم شرط مؤكد به.
وقرأ طلحة بن مصرف من بدل ما وخرج على زيادتها على مذهب الكسائي أو جعلها أداة شرط والجمع بين أداتي الشرط كالجمع بين حرفي الجر في قوله : فاصبحن لا يسألنني عن بما به شاذ ، وجملة فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى واقعة موقع جواب الشرط وهي في الحقيقة تعليل له ، وكأن أصل الكلام أيّا ما تدعوه به فهو حسن لأن له سبحانه الأسماء الحسنى اللاتي منها هذان ، وفي العدول عن حق الجواب إقامة الشيء بدليله وفيه مبالغة لا تخفى ، وهذا التقدير ظاهر على القول الثاني في سبب النزول ويقدر على القول الأول فيه فمدلوله واحد ونحوه ، ولا حاجة إلى ذلك بل يقدر على القولين فهو حسن على ما سمعت عن صاحب الكشف.
وقال الطيبي وقد حمل أو على الإباحة وجعل الخطاب للمشركين : التقدير قل سموا ذاته المقدسة باللّه وبالرحمن فهما سيان في استصواب التسمية بهما فبأيهما سميته فأنت مصيب وإن سميته بهما جميعا فأنت أصوب لأن له الأسماء الحسنى وقد أمرنا سبحانه بأن ندعوه بها في قوله تعالى : وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها فجواب الشرط الأول قولنا فأنت مصيب ودل على الشرط الثاني وجوابه قوله تعالى : فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى والآية على هذا فن من فنون الإيجاز الذي هو من حلية التنزيل ، وعلى تقدير فهو حسن حسبما سمعت أولا من باب الإطناب اه وهو كما ترى.
ونقل في البحر أن منهم من وقف على أَيًّا على معنى أي اللفظين تدعوه به جاز ثم استأنف فقال ما تدعو فله الأسماء الحسنى. وتعقبه بأن هذا لا يصح لأن ما لا يطلق على آحاد ذوي العلم ولأن الشرط يقتضي عموما وهو لا يصح هنا ، وضمير فَلَهُ عائد على المسمى أو المنادى المفهوم من الكلام والقرينة عقلية وهي أن الأسماء تكون للمسمى وللمنادى لا للاسم واللفظ المنادى به ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى عن محيي الدين قدس سره غير ذلك في باب الإشارة ، ووصف الأسماء بالحسنى لدلالتها على ما هو جامع لجميع صفات الكمال بحيث لا يشذ منها شيء وما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 182
هو من صفات الجلال والجمال والإكرام ، هذا واعلم أن الظاهر مما روي عن اليهود أنهم لا ينكرون حسن سائر أسمائه تعالى وإنما يزعمون أن الرحمن منها أحب أسمائه تعالى إليه وأعظمها وأشرفها لكثرة ذكره تعالى إياه في التوراة واختلاف أسمائه عزت أسماؤه في الشرف والعظم مما ذهب إليه المسلمون أيضا.
ويدل عليه تخصيصه صلّى اللّه عليه وسلّم بعض الأسماء بأنه الاسم الأعظم
فقد روي «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سمع رجلا يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت اللّه لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لقد سأل اللّه تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : اسم اللّه تعالى في هاتين الآيتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [البقرة : 163] وفاتحة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
ونص حجة الإسلام الغزالي في أوائل كتابه المقصد الأسنى على أن اللّه أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره عز وجل كالقادر والعليم والرحيم وغيرها ، واسمه تعالى الرحمن لا يسمى به غيره تعالى أيضا وهو من هذا الوجه قريب من اسم اللّه سبحانه وإن كان مشتقا من الرحمة قطعا ولذا جمع عز وجل بينهما في قوله سبحانه قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ اه.
وقال في أواخره : فإن قيل ما بال تسعة وتسعين من أسمائه تعالى اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة مع أن الكل أسماء اللّه تعالى فنقول : الأسامي يجوز أن تتفاوت فضيلتها لتفاوت معانيها في الجلالة والشرف فتكون تسعة وتسعون منها تجمع أنواعا من المعاني المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها مختص بزيادة شرف انتهى ، وقال الإمام الرازي في هذه الآية : تخصيص هذين الاسمين يعني اللّه والرحمن بالذكر يدل على أنهما أشرف من سائر الأسماء ، وتقديم اسم اللّه على اسم الرحمن يدل على قولنا : اللّه أعظم الأسماء إلى غير ذلك مما ذكره غير واحد من الأجلة ، والآية إنما تصلح بحسب الظاهر ردا لما فهمه اليهود إذا كان المراد منها نفي التفاوت الذي زعموه وحينئذ يقع التعارض بينها وبين ما يدل على التفاوت من الأخبار ، وقد يجعل هذا وجها لاختيار كون سبب النزول قول المشركين ولعل أثره أصح ، وما نقلناه فيما سبق عن العلامة الطيبي مؤيد لما قلناه ، واحتج الجبائي بالآية على أنه تعالى ليس خالق الظلم وإلا لصح اشتقاق اسم له سبحانه منه وحينئذ يبطل ما دلت عليه الآية من كون أسمائه تعالى بأسرها حسنى.
وأجيب بمنع الملازمة لأن الظلم ليس صفته عز وجل وكونه خالقا له لا يصح الاشتقاق منه وإلا لصح الاشتقاق من الطول والقصر والسواد والبياض لأنه تعالى خالق لذلك بالإتفاق ، نعم لا ينبغي أن يقال للّه تبارك وتعالى خالق القبيح للزوم الأدب معه سبحانه ويقال خالق كل شيء. وما هو من أسمائه جلت أسماؤه الخالق لا خالق كذا فافهم سلك اللّه تعالى بنا وبك الطريق الأقوم.
وهذه الآية على ما قيل من آيات الحفظ بناء على ما
أخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال في قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ إلى آخر الآية هو أمان من السرق
وأن رجلا من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجده مردودا فوضع الكارة وفعل ذلك ثلاث مرات فضحك صاحب الدار ثم قال : إني أحصنت بيتي وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس قال : نزلت ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مختف بمكة فكان إذا صلى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 183
بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به
فقال اللّه تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلا يقول بين الجهر والمخافتة ، وظاهره أن المراد بالصلاة القراءة التي هي أحد أجزائها مجازا ، ويجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي بقراءة صلاتك ، والظاهر أن المراد بالقراءة ما يعم البسملة وغيرها وبعض الأخبار يفيد ظاهره تخصيصها بالبسملة ،
فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد قال : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يرفع صوته ببسم اللّه الرحمن الرحيم وكان مسيلمة قد تسمى بالرحمان فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام قالوا : قد ذكر مسيلمة إله اليمامة ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير فأنزل اللّه تعالى هذه الآية
، ولا يخفى على هذه الرواية أشدية مناسبة الآية لما قبلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال : كان أبو بكر إذا صلى من الليل خفض صوته جدا وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جدا فقال عمر : يا أبا بكر لو رفعت من صوتك شيئا وقال أبو بكر : يا عمر لو خفضت من صوتك شيئا فأتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فاخبراه بأمرهما فأنزل اللّه تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهما فقال : يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا وقال لعمر اخفض من صوتك شيئا
، وفي رواية أنه قيل لأبي بكر : لم تصنع هذا؟ فقال : أناجي ربي وقد عرف حاجتي ، وقيل لعمر : لم تصنع هذا؟ قال : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، وأمر التجوز أو حذف المضاف على هذا مثله على الأول وكذا على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بالجهر في بعض كالمغرب والعشاء والمخافتة في بعض كما فيما عدا ذلك.
وقيل الصلاة بمعنى الدعاء لما أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : إنما نزلت هذه الآية وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها في الدعاء ، وأخرج نحوه ابن أبي شيبة عن مجاهد ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ابن جرير وابن المنذر وجماعة وكانوا يجهرون بأللهم ارحمني ، وأخرجوا عن عبد اللّه بن شداد أن أعرابا من بني تميم كانوا إذا سلم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا : أي جهرا اللهم ارزقنا إبلا وولدا فنزلت
،
وفي رواية أخرى عن عائشة أن الصلاة هنا التشهد وكان الأعراب كما نقل عن ابن سيرين يجهرون بتشهدهم فنزلت ، وقيل الصلاة على حقيقتها الشرعية فقد أخرج ابن عساكر عن الحسن أنه قال : المعنى لا تصل الصلاة رياء ولا تدعها حياء ، وروى نحوه ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس أيضا ، والأكثرون على التفسير المروي عنه أولا ، والمخافتة إسرار الكلام بحيث لا يسمعه المتكلم ، ومن هنا قال ابن مسعود كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير : لم يخافت من اسمع أذنيه ، وخفت وهو من باب ضرب وخافت بمعنى يقال خفت يخفت خفتا وخفوتا وخافت مخافتة إذا أسر وأخفى ، والتعبير عن الأمر الوسط بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب ، وقد جاء عن عبد اللّه بن الشخير وأبي قلابة خير الأمور أوساطها ، والآية على ما يقتضيه كلام الأكثرين محكمة ، وقيل منسوخة بناء على ما
أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس من أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بمكة بالتوسط بأن لا يجهر جهرا شديدا ولا يخفض حتى لا يسمع أذنيه فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك ،
وقيل هي منسوخة بقوله تعالى : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف : 55] وهو كما ترى ، ولا يخفى عليك حكم رفع الصوت بالقراءة فوق الحاجة وحكم المخافتة بالمعنى الذي سمعته المسطوران في كتب الفقه فراجعها إن لم يكن ذلك على ذبر منك ، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي رزين قال قرأ عبد اللّه «ولا تخافت بصوتك ولا تعال به» وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً رد على اليهود والنصارى وبني مليح حيث قالوا : عزيز ابن اللّه والمسيح ابن اللّه تعالى والملائكة بنات اللّه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، ونفي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 184
اتخاذ الولد ظاهر في نفي التبني ويعلم منه نفي أن يكون له سبحانه ولد الصلب من باب أولي ، وقد نفي ذلك صريحا في قوله تعالى لَمْ يَلِدْ [الإخلاص : 3] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ظاهره أنه رد على الثنوية وهم المشركون في الربوبية ، ويجوز أن يكون كناية عن نفي الشركة في الألوهية فيكون ردا على الوثنية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي ناصر ومانع له سبحانه من الذل لا عتزازه تعالى بنفسه فمن صلة لولي وضمن معنى المنع والنصر أو لم يوال تعالى أحدا من أجل مذلة فالولاية بمعنى المحبة على أصلها ومن تعليلية ، وليس المعنى على الوجهين نفي الذل والنصر في الأول والموالاة والذل في الثاني على أسلوب - لا يهتدي بمناره - بل المراد أنه تعالى إذا اتخذ عبدا له وليا فذلك محض الاصطناع في شأن العبد لا أن هناك حاجة ، وكذلك نصر اللّه تعالى كمال للناصر لا أن ثمة حاجة ألا ترى إلى قوله سبحانه : إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد : 7] وإلى هذا ذهب صاحب الكشف وهو حسن ، وجعل ذلك على الوجهين الفاضل الطيبي من ذاك الأسلوب ، وفي الحواشي الشهابية في بيان ثاني الوجهين أن المراد نفي أن يكون له تعالى مولى يلتجىء هو سبحانه إليه ، وأما الولي الذي يوصف به المؤمن فليس الولاية فيه بهذا المعنى بل بمعنى من يتولى أمره لمحبته له تفضلا منه عز وجل ورحمة فغاير بين الولايتين ، ولعل الحق مع صاحب الكشف ، ومن عجيب ما قيل إن مِنَ الذُّلِّ في موضع الصفة لولي ومن فيه للتبعيض وأن الكلام على حذف مضاف أي لم يكن له ولي من أهل الذل والمراد بهم اليهود والنصارى ، ولعمري إنه لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وربما يتوهم أن المقام مقام التنزيه لا مقام الحمد لأنه يكون على الفعل الاختياري وبه وما ذكر من الصفات العدمية ويدفع بأنه لاق وصفه تعالى بما ذكر بكلمة التحميد لأنه يدل على نفي الإمكان المقتضي للاحتياج وإثبات أنه تعالى الواجب الوجود لذاته الغني عما سواه المحتاج إليه ما عداه فهو الجواد المعطي لكل قابل ما يستحق فهو تعالى المستحق للحمد دون غيره عز وجل ، وهذا الذي عناه الزمخشري وقال في الكشف : لك أن تتخذ نفي هذه الصفات وهي ذرائع منع المعروف أما الولد فلأنه مبخلة ، وأما الشريك فلأنه مانع من التصرف كيف يشاء ، وأما الاحتياج إلى من يعتز به أو يذب عنه فاظهر رديفا لإثبات أضدادها على سبيل الكناية وهو وجه حسن ولو حمل الكلام على ظاهره أيضا لكان له وجه وذلك لأن قول القائل الحمد للّه فيه ما ينبىء أن الإلهية تقتضي الحمد فإذا قلت الحمد للّه المنزه عن النقائص مثلا يكون قد قويت معنى الإلهية المفهومة من اللفظ فيكون وصفا لائقا مؤيدا لا ستحقاقه تعالى الحمد من غير نظر إلى مدخلية الوصف في الحمد بالاستقلال وهذا بين مكشوف إلا أن الزمخشري حاول أن ينبه على مكان الفائدة الزائدة اه.
وتعقب بأن ما ذكره من أن في الحمد للّه ما ينبىء أن الإلهية تقتضي الحمد لا يتم على مذهب مانعي الاشتقاق في الاسم الكريم وفيه تأمل. والآية على ما قال العلامة الطيبي من التقسيم الحاصر لأن المانع من إيتاء النعم إما فوقه سبحانه وتعالى أو دونه أو مثله عز وجل فبنى الكلام على الترقي وبدىء من الأدون وختم بالأعلى فنفى الكل فمنه ولد الكثرة وله القل والدق والجل تعالى كبرياؤه وعظمت نعماؤه ، ولدلالة ما تقدم على أنه تعالى هو الكامل وما عداه ناقص استحق التكبير ولذا عطف عليه قوله سبحانه وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً والتكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال ، وفي الأمر بذلك بعد ما تقدم مؤكدا بالمصدر المنكر من غير تعيين لما يعظم به تعالى إشارة إلى أنه مما لا تسعه العبارة ولا تفي به القوة البشرية وإن بالغ العبد في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد فلم يبق إلا الوقوف بإقدام المذلة في حضيض القصور والاعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا وإن طالت القصور ، وروى غير واحد أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح الحمد للّه إلى آخر الآية سبع مرات وسماها عليه الصلاة والسلام

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 185
كما أخرج أحمد والطبراني عن معاذ آية العز
، وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال : خرجت أنا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويدي في يده فأتى على رجل رث الهيئة فقال : أي فلان ما بلغ بك ما أرى قال : السقم والضر قال صلّى اللّه عليه وسلّم : ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر توكلت على الحي الذي لا يموت الحمد للّه الذي لم يتخذ ولدا الآية فأتى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد حسنت حالته فقال : مهيم. فقال : لم أزل أقول الكلمات التي علمتني.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام فقال : يا محمد قل : توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد للّه الذي لم يتخذ ولدا»
إلى آخر الآية ، وأخرج ابن السني والديلمي عن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعليها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي : «الحمد للّه الكافي سبحان اللّه الأعلى حسبي اللّه وكفى ما شاء اللّه قضى سمع اللّه لمن دعا ليس من اللّه ملجأ ولا وراء اللّه ملتجى توكلت على ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ، الحمد للّه الذي لم يتخذ ولدا - إلى وكبره تكبيرا ثم قال - صلّى اللّه عليه وسلّم : ما من مسلم يقرأها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فتضره»
هذا وما ألطف المناسبة بين ابتداء هذه السورة ، وهذا الختام وليس ذلك بدعا في كلام اللطيف العلام «ومن باب الإشارة في الآيات» وإن كادوا ليفتنونك إلى آخره تنبيه لحبيبه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الوقوع فيما يخل بحفظ شرائط المحبة وفيه إشارة إلى إيصاله إلى مقام التمكين أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ الآية ، ذكر أن الصلاة على خمسة أقسام صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفي وصلاة المشاهدة في مقام الروح وصلاة المناجاة في مقام السر وصلاة الحضور في مقام القلب وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس ، فدلوك الشمس إشارة إلى زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد بالفناء المحض فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ لا وجود للعبد حينئذ ولا شعور له بنفسه ، وإنما تجب بالزوال وحدوث ظل وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق وهو حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء وهو حالة الفرق بعد الجمع ، وغسق الليل إشارة إلى غسق ليل النفس وقرآن الفجر إشارة إلى قرآن فجر القلب ، وأدل الصلوات وألطفها صلاة المواصلة وأفضلها صلاة الشهود المشار إليها بصلاة العصر وأخفها صلاة السر المشار إليها بصلاة المغرب وأشدها تثبيتا للنفس صلاة النفس المشار إليها بصلاة العشاء وأزجرها للشيطان صلاة الحضور المشار إليها بالفجر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي تشهده ملائكة الليل والنهار وهذا إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ أي زيادة على الفرائض الخمس خاصة بك قيل لكونه علامة مقام النفس فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات ، وقيل إنما خص صلّى اللّه عليه وسلّم بالتهجد لأن الليل وقت خلوة المحب بالحبيب وهو عليه الصلاة والسلام الحبيب الأعظم ، والخليل المكرم
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وهو مقام إلحاق الناقص بالكامل والكامل بالأكمل وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي حضرة الوحدة في عين الجمع مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيا بلا آفة زيغ البصر إلى الالتفات إلى الغير أصلا وَأَخْرِجْنِي إلى فضاء الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب الحقاني مُخْرَجَ صِدْقٍ سالما من آفة التلوين والانحراف عن جادة الاستقامة وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً حجة ناصرة بالتثبيت والتمكين وَقُلْ إذا زالت نقطة الغين عن العين جاءَ الْحَقُّ أي ظهر الوجود الثابت وهو الوجود الواجبي وَزَهَقَ الْباطِلُ وهو الوجود الإمكاني ،
ففي الحديث الصحيح أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 186
ويقال الحق العلم والباطل الجهل والحق ما بدا من الإلهام والباطل هواجس النفس ووساوس الشيطان. وقال فارس : كل ما يحملك على سلوك سبيل الحقيقة فهو حق وكل ما يحجبك ويفرق عليك وقتك فهو باطل وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من أمراض الصفات الذميمة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بالغيب يفيدهم الكمالات والفضائل العظيمة فالأول إشارة إلى التخلية والثاني إلى التحلية ، ويقال هو شفاء من داء الشك الضعفاء المؤمنين ومن داء النكرة للعارفين ومن وجع الاشتياق للمحبين ومن داء القنوط للمريدين والقاصدين ، وأنشدوا :
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي وفيها شفاء للذي أنا كاتم
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ الباخسين حظوظهم من الكمال بالميل إلى الشهوات النفسانية إِلَّا خَساراً بزيادة ظهور أنفسهم بصفاتها من إنكار ونحوه وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ فاحتجب بالنعمة عن المنعم ولم يشكر وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً لجهله بعظيم قدرة اللّه تعالى ولم يصبر قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ على طريقته التي تشاكل استعداده وكل إناء بالذي فيه يرشح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من عالم الإبداع وهو عالم الذوات المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين فلا يمكن إدراك المحجوبين لها وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وهو علم المحسوسات مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بنوره بمقتضى العناية الأزلية فَهُوَ الْمُهْتَدِ دون غيره وَمَنْ يُضْلِلْ بمنع ذلك النور عنه فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ من دونه تعالى يهدونه أو يحفظونه من قهره عز وجل وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ لا نجذابهم إلى الجهة السفلية عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا لأنها أحوال تناسب أحوالهم في الدنيا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً لعلمهم بحقيته ، ووقوفهم على ما أودع فيه من الأسرار وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ لعظمته أو شوقا لمنزله وحبا للقائه ، قال أبو يعقوب السوسي : البكاء على أنواع : بكاء من اللّه تعالى وهو أن يبكي خوفا مما جرى به القلم في الفاتحة ويظهر في الخاتمة وبكاء على اللّه عز وجل وهو أن يبكي تحسرا على ما يفوته من الحق تعالى ، وبكاء للّه تبارك وتعالى وهو أن يبكي عند ذكره سبحانه وذكر وعده ووعيده وبكاء باللّه تعالى وهو أن يبكي بلا حظ منه في بكائه ، وقال القاسم : البكاء على وجوه بكاء الجهال على ما جهلوا وبكاء
العلماء على ما قصروا وبكاء الصالحين مخافة الفوت وبكاء الأئمة مخافة السبق وبكاء الفرسان من أرباب القلوب للهيبة والخشية ولا بكاء للموحدين ، وفي الآية إشارة ما إلى السماع ولا أشرف من سماع القرآن فهو الروح والريحان قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ قيل دعاء اللّه بالفناء في الذات ودعاء الرحمن بالفناء في الصفة وصفة الرحمانية هي أم الصفات وبها استوى سبحانه على عرشه ، ومن ذلك يعلم أنه ليس المراد من الإيجاد إلا رحمة الموجودين أَيًّا ما تَدْعُوا أي أيّا ما طلبت من هذين المقامين فَلَهُ تعالى في هذين المقامين الْأَسْماءُ الْحُسْنى لا لك إذ لست هناك بموجود أما في الفناء في الذات فظاهر وأما في الفناء في الصفة المذكورة فلأن الرحمن لا يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة لغيرها ، ولا يخفى عليك أن ضمير له على هذا التأويل عائد على ما عاد إليه على التفسير. وفي الفتوحات المكية أنه تعالى جعل الأسماء الحسنى للّه كما هي للرحمن غير أن الاسم له معنى وصورة فيدعى اللّه بمعنى الاسم ويدعى الرحمن بصورته لأن الرحمن هو المنعوت بالنفس وبالنفس ظهرت الكلمات الإلهية في مراتب الخلاء الذي ظهر فيه العالم فلا ندعوه إلا بصورة الاسم وله صورتان صورة عندنا من أنفاسنا وتركيب حروفنا وهي التي ندعوه بها وهي أسماء الأسماء الإلهية وهي كالخلع عليها ونحن بصورة هذه الأسماء مترجمون عن الأسماء الإلهية ولها صور من نفس الرحمن من كونه قائلا ومنعوتا بالكلام وخلف تلك الصور المعاني التي هي كالأرواح للأسماء الإلهية التي يذكر الحق بها نفسه وهي من نفس الرحمن فله الأسماء الحسنى وأرواح تلك الصور هي التي لاسم اللّه خارجة عن حكم النفس لا تنعت بالكيفية

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 187
وهي لصور الأسماء النفسية الرحمانية كالمعاني للحروف ، ولما علمنا هذا وأمرنا بأن ندعوه سبحانه وخيرنا بين الاسمين الجليلين فإن شئنا دعوناه بصور الأسماء النفسية الرحمانية وهي الهمم الكونية التي في أرواحنا وإن شئنا دعوناه بالأسماء التي من أنفاسنا بحكم الترجمة فإذا تلفظنا بها أحضرنا في نفوسنا أما اللّه فننظر المعنى وأما الرحمن فننظر صورة الاسم الإلهي النفسي الرحماني كيفما شئنا فعلنا فإن دلالة الصورتين منا ومن الرحمن على المعنى واحد سواء علمنا ذلك أو لم نعلمه اه ، وهو كلام يعسر فهمه إلا على من شاء اللّه تعالى بيد أنه ليس فيه حمل الدعاء على ما سمعت وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فضلا عن أن
يكون له سبحانه ولد بطريق التولد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ فلا مدخل لغيره تعالى في ملكية شيء على الحقيقة وما يوجد بسبب ليس السبب إلا آلة له ولا تملك الآلة شيئا بل لا شيء إلا وهو صنعه تعالى على الحقيقة والسرير مثلا وإن أضيف إلى النجار من حيث الصنعة إلا أنه في الحقيقة آلة كالقدوم ولا يضاف العمل إلى الآلة على الحقيقة كذا قيل ، وللشيخ قدس سره كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن والتسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر ، وكذا له كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن التسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر ، وكذا له كلام في قوله سبحانه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ لكن يغني عنه ما قدمناه وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً قال بعضهم : تكبيره تعالى أن تعلم أنك لا تطيق أن تكبره إلا به ، وقال ابن عطاء تكبيره عز وجل بتعظيم منته وإحسانه في القلب بالعلم بالتقصير في الشكر وكيف يوفي أحد شكره تعالى ونعمه جل وعلا لا تحصى وآلاؤه لا تستقصى ، هذا وقد تم بفضل اللّه تعالى تفسير هذه السورة الكريمة.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 188

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 189
سورة الكهف
: ويقال سورة أصحاب الكهف كما في حديث أخرجه ابن مردويه ، وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا أنها تدعى في التوراة الحائلة تحول بين قارئها وبين النار
إلا أنه قال : إنه منكر وهي مكية كلها في المشهور واختاره الدابي ، وروي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهما ، وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة لما
أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة ،
وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مكية إلا قوله تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف : 28] الآية فمدني ، وروي ذلك عن قتادة ، وقال مقاتل : هي مكية إلا أولها إلى جُرُزاً [الكهف : 8] وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الكهف : 107] إلى آخرها فمدني ، وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ومائة وعشرة عند الكوفيين ومائة وست عند الشاميين ومائة وخمس عند الحجازيين ، ووجه مناسبة وضعها بعد الإسراء على ما قيل افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد وهما مقترنان في الميزان وسائر الكلام نحو فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر : 98 ، النصر : 3] فسبحان اللّه وبحمده وأيضا تشابه اختتام تلك وافتتاح هذه فإن في كل منهما حمدا ، نعم فرق بينهما بأن الحمد الأول ظاهر في الحمد الذاتي والحمد المفتتح به في هذه يدل على الاستحقاق الغير الذاتي ، وقال الجلال السيوطي في ذلك : أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن ثلاثة أشياء عن الروح وعن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين ، وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر السورة الأولى وجواب السؤالين الآخرين في هذه فناسب اتصالهما ، ولم تجمع الأجوبة الثلاثة في سورة لأنه لم يقع الجواب عن الأول بالبيان فناسب أن يذكر وحده في سورة ، واختيرت سورة الإسراء لما بين الروح وبين الإسراء من المشاركة بأن كلا منهما مما لا يكاد تصل إلى حقيقته العقول ، وقيل : إنما ذكر هناك لما أن الإسراء متضمن العروج إلى المحل الأرفع والروح متصفة بالهبوط من ذلك المحل ولذا قال ابن سينا فيها :
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع
ثم قال : ظهر لي وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال في تلك وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : 85] والخطاب لليهود استظهر على ذلك بقصة موسى نبي بني إسرائيل مع الخضر عليهما السلام التي كان سببها ذكر العلم والأعلم وما دلت عليه من كثرة معلومات اللّه تعالى التي لا تحصى فكانت هذه السورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم في تلك السورة. وقد ورد في الحديث أنه لما نزل وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالت اليهود : قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فنزل قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي
[الكهف : 109] الآية فتكون هذه السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم فيما قرر في تلك ، وأيضا لما قال سبحانه هناك فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء : 104] شرح ذلك هنا وبسطه بقوله سبحانه فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الكهف : 98] إلى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 190
قوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [الكهف : 99 ، 100] اه ، وللمناسبة أوجه أخر تظهر بأدنى تأمل ، وأما فضلها فمشهور.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين.
وروى غير واحد عن أبي سعيد الخدري من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق ،
وكان الحسن بن علي رضي اللّه تعالى عنهما كما أخرج أبو عبيد والبيهقي عن أم موسى يقرأها كل ليلة.
وأخرج ابن مردويه عن عبد اللّه بن مغفل مرفوعا البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة وإلى سنية قراءتها يوم الجمعة وكذا ليلتها
ذهب غير واحد من الأئمة وقالوا بندب تكرار قراءتها.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال»
، وفي رواية أخرى عنه رواها أحمد. ومسلم والنسائي وابن حبان أيضا قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال».
وأخرج الترمذي وصححه عنه مرفوعا «أن من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم»
إلخ ، وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها مرفوعا «أن من قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه اللّه تعالى أي الليل شاء»
وقد جربت ذلك مرارا فليحفظ واللّه تعالى الموفق.
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 إلى 27]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 191
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى اللّه عليه وسلّم الْكِتابَ الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين سائر الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به ، وهو إما عبارة عن جميع القرآن ففيه تغليب الموجود على المترقب وإما عبارة عن الجميع المنزل حينئذ فالأمر ظاهر. وفي وصفه تعالى بالموصول إشعار بعلية ما في حيز الصلة لاستحقاق الحمد الدال عليه اللام على ما صرح به ابن هشام وغيره وإيذان بعظم شأن التنزيل الجليل كيف لا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 192
وهو الهادي إلى الكمال الممكن في جانبي العلم والعمل وفي التعبير عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بالعبد مضافا إلى ضميره تعالى من الإشارة إلى تعظيمه عليه الصلاة والسلام ، وكذا تعظيم المنزل عليه ما فيه ، وفيه أيضا إشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديم عليه ليتصل به قوله تعالى :
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي للكتاب عِوَجاً أي شيئا من العوج باختلال اللفظ من جهة الإعراب ومخالفة الفصاحة وتناقض المعنى وكونه مشتملا على ما ليس بحق أو داعيا لغير اللّه تعالى والعوج وكذا العوج الانحراف والميل عن الاستقامة إلا أنه قيل هو بكسر العين ما يدرك بفتح العين وبفتح العين ما يدرك بفتح العين «1» فالأول الانحراف عن الاستقامة المعنوية التي تدرك بالبصيرة كعوج الدين والكلام ، والثاني الانحراف عن الاستقامة الحسية التي تدرك بالبصر كعوج الحائط. والعود أورد عليه قوله تعالى في شأن الأرض لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه : 107] فإن الأرض محسوسة واعوجاجها وكذا استقامتها مما يدرك بالبصر فكان ينبغي على ما ذكر فتح العين ، وأجيب بأنه لما أريد به هنا ما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المقاييس الهندسية المحتاجة إلى إعمال البصيرة الحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وتعقب بأن لا ترى ظاهر في أن المنفي ما يدرك بالبصر فيحتاج إلى أن يراد به الإدراك ، وعن ابن السكيت أن المكسور أعم من المفتوح.
واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما قَيِّماً أي مستقيما كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وروي أيضا عن ابن عباس ، والمراد مما قيل إنه لا خلل في لفظه ولا في معناه ، والمراد من هذا أنه معتدل لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه حتى يحتاج إلى كتاب آخر كما قال سبحانه ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام : 38] ولذا كان آخر الكتب المنزل على خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام ، وقيل المراد منه ما أريد مما قبله وذكره للتأكيد.
وقال الفراء : المراد قيما على سائر الكتب السماوية شاهدا بصحتها. وقال أبو مسلم : المراد قيما بمصالح العباد متكفلا بها وببيانها لهم لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد وهو على هذين القولين تأسيس أيضا لا تأكيد فكأنه قيل كتابا صادقا في نفسه مصدقا لغيره أو كتابا خاليا عن النقائص حاليا بالفضائل وقيل المراد على الأخير أنه كامل في نفسه ومكمل لغيره ، ونصبه بمضمر أي جعله قيما على أن الجملة مستأنفة أو جعله قيما على أنها معطوفة على ما قبل إلا أنه قيل إن حذف حرف العطف مع المعطوف تكلف وكان حفص يسكت على عِوَجاً سكتة خفيفة ثم يقول قَيِّماً.
واختار غير واحد أنه على الحال من الضمير في لَهُ أي لم يجعل له عوجا حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه خاليا عن الإفراط والتفريط ، وكذا على القولين الأخيرين ، نعم قيل : إن جعله حالا من الضمير مع تفسير المستقيم بالخالي عن العوج ركيك.
وتعقبه بعضهم بأنه تندفع الركاكة بالحمل على الحال المؤكدة كما في قوله تعالى : ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ
___________
(1) ما الأولى نافية وما الثانية موصولة اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 193
[التوبة : 25] وفيه بحث ، وجوز أن يكون حالا من الكتاب ، واعترض بأنه يلزم حينئذ العطف قبل تمام الصلة لأن الحال بمنزلة جزء منها ، وأجيب بأنه يجوز أن يجعل وَلَمْ يَجْعَلْ إلخ من تتمة الصلة الأولى على أنه عطف بياني حيث قال تعالى أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ الكامل في بابه عقبه بقوله سبحانه وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فحينئذ لا يكون الفصل قبل تمام الصلة ، وهو نظير قوله تعالى وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة : 217] على قول. وأيضا يجوز أن يكون الواو في وَلَمْ يَجْعَلْ للحال والجملة بعده حال من الْكِتابَ كقيما واختاره الأصبهاني.
وقال أبو حيان : إن ذاك على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف وكثير من أصحابنا على منعه ، وقال آخر : إن قياس قول الفارسي في الخبر أنه لا يتعدد مختلفا بالإفراد والجملية أن يكون الحال كذلك.
وأجيب بأنه غير وارد إذ ما ذكره الفارسي خلاف مذهب الجمهور مع أنه قياس مع الفارق فلا يسمع ، وكذا ما ذكره أبو حيان عن الكثير خلاف المعول عليه عند الأكثر ، نعم فرارا من القيل والقال جعل بعضهم الواو للاعتراض والجملة اعتراضية ، وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ، وروي القول بالتقديم والتأخير عن ابن عباس ومجاهد ، وذكر السمين أن ابن عباس حيث وقعت جملة معترضة في النظم يجعلها مقدمة من تأخير ، ووجه ذلك بأنها وقعت بين لفظين مرتبطين فهي في قوة الخروج من بينهما ، ولما كان قَيِّماً يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة ، وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ذكر قوله تعالى : وَلَمْ يَجْعَلْ إلخ للاحتراس ، وقدم للاهتمام كما في قوله :
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر
ومن هنا يعلم أن تفسير القيم بالمستقيم بالمعنى المتبادر ، وأن قول الزمخشري فائدة الجمع بينه وبين نفي العوج التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح غير ذي عوج عند السبر والتصفح ، وأنه لا يرد قول الإمام إن قوله تعالى : لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يدل على كونه مكملا في ذاته ، وقوله سبحانه :
قَيِّماً يدل على كونه مكملا لغيره ، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح كما ذكره اللّه تعالى وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه انتهى.
ولعمري أن هذا الكلام لا ينبغي من الإمام إن صح عنده أن القول المذكور مروي عن ابن عباس ومجاهد ، فإن الأول ترجمان القرآن وناهيك به جلالة ومعرفة بدقائق اللسان ، وقد قيل في الثاني إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك ، وقال صاحب حل العقد : يمكن أن يكون قيما بدلا من قوله تعالى : وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قال أبو حيان :
ويكون حينئذ بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيدا أبو من هو إنه بدل جملة من مفرد ، وفي جواز ذلك خلاف ، هذا وزعم بعضهم أن ضمير لَهُ عائد على عَبْدِهِ وحينئذ لا يتأتى جميع التخاريج الإعرابية السابقة ، وقرأ أبان بن ثعلب «قيما» بكسر القاف وفتح الياء المخففة ، وفي بعض مصاحف الصحابة «ولم يجعل له عوجا لكنه قيما» وحمل ذلك على أنه تفسير لا قراءة لِيُنْذِرَ متعلق بانزل واللام للتعليل ، واستدل به من قال بتعليل أفعال اللّه تعالى بالأغراض كالسلف والماتريدية ، ومن يأبى ذلك يجعلها لام العاقبة ، وزعم الحوفي أنه متعلق بقيما وليس بقيم ، والفاعل ضمير الجلالة ، وكذا في الفعلين المعطوفين عليه ، وجوز أن يكون الفاعل في الكل ضمير الكتاب أو ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأنذر يتعدى لمفعولين قال تعالى : نْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النبأ : 40] وحذف هنا المفعول الأول واقتصر على الثاني ، وهو قوله تعالى : بَأْساً شَدِيداً إيذانا بأن ما سيق له الكلام هو المفعول الثاني ، وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 194
ذكره وهو الذين كفروا بقرينة ما بعد ، والمراد الذين كفروا بالكتاب ، والظاهر أن المراد من البأس الشديد عذاب الآخرة لا غير ، وقيل يحتمل أن يندرج فيه عذاب الدنيا مِنْ لَدُنْهُ أي صادرا من عنده تعالى نازلا من قبله بمقابلة كفرهم فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة ثانية للبأس ، ولدن هنا بمعنى عند كما روي عن قتادة ، وذكر الراغب أنه أخص منه لأنه يدل على ابتداء نهاية نحو أقمت عنده من لدن طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يوضع موضع عند.
وقال بعضهم : إن «لدن» أبلغ من عند وأخص وفيه لغات ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بإشمام الدال بمعنى تضعيف الصوت بالحركة الفاصلة بين الحرفين فيكون إخفاء لها وبكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع ، ويفهم من كلام بعضهم أنه قرأ بالإسكان مع الإشمام بمعنى الإشارة إلى الحركة بضم الشفتين مع انفراج بينهما فاستشكل في الدر المصون. وغيره بأن هذا الإشمام إنما يتحقق في الوقف على الآخر وكونه في الوسط كما هنا لا يتصور ، ولذا قيل : إنه يؤتى به هنا بعد الوقف على الهاء. ودفع الاعتراض بأنه لا يدل حينئذ على حركة الدال وقد علل به بأنه متعين إذ ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته غيرها ، ولا يخفى ما فيه ، وما قدمناه حاسم لمادة الإشكال ، وقرأ الجمهور بضم الدال والهاء وسكون النون إلا أن ابن كثير يصل الهاء بواو وغيره لا يصل وَيُبَشِّرَ بالنصب عطف على ينذر وقرىء شاذا بالرفع.
وقرأ حمزة والكسائي «ويبشر» بالتخفيف الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين بالكتاب كما يشعر به وكذا بما تقدم ذكر ذلك بعد الامتنان بإنزال الكتاب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه ، وإيثار صيغة الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد العمل واستمراره ، وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول العمل الإيمان أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وعملهم المذكور أَجْراً حَسَناً هو كما قال السدي وغيره الجنة وفيها من النعيم المقيم والثواب العظيم ما فيها ، ويؤيد كون المراد به الجنة ظاهر قوله تعالى ماكِثِينَ فِيهِ أي مقيمين في الأجر أَبَداً من غير انتهاء لزمان مكثهم.
ونصب ماكِثِينَ على الحال من الضمير المجرور في لَهُمْ والظرفان متعلقان به ، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية ، وتكرير الإنذار بقوله تعالى وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً متعلقا بفرقة خاصة ممن عمه الإنذار السابق من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم لغاية شناعة كفرهم وضلالهم كما ينبىء عنه ما بعد أي وينذر من بين هؤلاء الكفرة المتفوهين بمثل هاتيك العظيمة خاصة وهم العرب القائلون الملائكة بنات اللّه تعالى واليهود القائلون عزير ابن اللّه سبحانه والنصارى القائلون المسيح ابن اللّه عز وجل ، وترك إجراء الموصول على الموصوف كما في قوله تعالى : وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ إلخ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه وإيثار صيغة الماضي في الصلة للدلالة على تحقق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سبق ، وجعل بعضهم المفعول المحذوف فيما سلف عبارة عن هذه الطائفة ، وفي الآية صنعة الاحتباك حيث حذف من الأول ما ذكر فيما بعد وهو المنذر وحذف مما بعد ما ذكر في الأول وهو المنذر به. وتعقب بأنه يؤدي إلى خروج سائر أصناف الكفرة عن الإنذار والوعيد.
وأجيب بأنه يعلم إنذار سائر الأصناف ودخولهم في الوعيد من باب الأولى لأن القول بالتبني وإن كبر كلمة دون الإشراك وفيه نظر ، وقدر ابن عطية العالم وأبو البقاء العباد فيعم المؤمنين أيضا ، وتعقب بأن التعميم يقتضي حمل الإنذار على معنى مجرد الأخبار بالأمر الضار من غير اعتبار حلول المنذر به على المنذر كما في قوله تعالى : أَنْ أَنْذِرِ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 195
النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا
[يونس : 2] وهو يفضي إلى خلو النظم الكريم عن الدلالة على حلول البأس الشديد على من عدا هذه الفرقة فتأمل.
ما لَهُمْ بِهِ أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا مِنْ عِلْمٍ مرفوع المحل على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرف ، ومن مزيدة لتأكيد النفي والجملة حالية أو مستأنفة لبيان حالهم في مقالهم أي ما لهم بذلك شيء من العلم أصلا لا لإخلالهم بطريق العلم مع تحقق المعلوم أو إمكانه بل لا ستحالته في نفسه ومعها لا يستقيم تعلق العلم ، واستظهر كون ضمير بِهِ عائدا على الولد وعدم العلم وكذا خال الجملة على ما سمعت ، وزعم المهدوي أن الجملة على هذا صفة لولدا وليس بشيء ، وجوز أن يعود على القول المفهوم من قالُوا أي ليس قولهم ذلك ناشئا عن علم وتذكر ونظر فيما يجوز عليه تعالى وما يمتنع ، وقال الطبري : هو عائد على اللّه تعالى على معنى ليس لهم علم بما يجوز عليه تعالى وما يمتنع وَلا لِآبائِهِمْ الذين قالوا مثل ذلك ناسبين التبني إليه عز وجل ، والتعرض لنفي العلم عنهم لأنهم قدورة هؤلاء كَبُرَتْ كَلِمَةً أي عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته تعالى إلى ما لا يكاد يليق بكبريائه جل وعلا ، وكبر وكذا كل ما كان على وزن فعل موضوعا على الضم كظرف أو محولا إليه من فعل أو فعل ذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب فالفاعل هنا ضمير يرجع إلى قوله تعالى : اتَّخَذَ إلخ بتأويل المقالة ، وكَلِمَةً نصب على التمييز وكأنه قيل ما أكبرها كلمة وقوله تعالى تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة كَلِمَةً تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيرا مما يوسوس به الشيطان وتحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر فكيف بمثل هذا المنكر.
وذهب الفارسي وأكثر النحاة إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فيثبت له جميع أحكامه ككون فاعله معرفا بأل أو مضافا إلى معرف بها أو ضميرا مفسرا بالتمييز ، ومن هنا جوز أن يكون الفاعل هنا ضمير كَلِمَةً وهي أيضا تمييز والجملة صفتها ولا ضير في وصف التمييز في باب نعم وبئس ، وجوز أبو حيان وغيره أن تكون صفة لمحذوف هو المخصوص بالذم أي كبرت كلمة كلمة خارجة من أفواههم ، وظاهر كلام الأخفش تغاير المذهبين. وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب. والمراد به هنا تعظيم الأمر في قلوب السامعين وهذا ظاهر في أنه لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام بعض الأئمة. وقيل نصبت على الحال ولا يخفى حاله. وتسمية ذلك كلمة على حد تسمية القصيدة بها. وقرىء «كبرت» بسكون الباء وهي لغة تميم ، وجاء في نحو هذا الفعل ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء. وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير كلمة بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ وأوكد. واستدل النظام على أن الكلام جسم بهذه الآية لوصفه فيها بالخروج الذي هو من خواص الأجسام وأجيب بأن الخارج حقيقة هو الهواء الحامل له وإسناده إلى الكلام الذي هو كيفية مجاز وتعقب بأن النظام القائل بجسمية الكلام يقول هو الهواء المكيف لا الكيفية واستدلاله على ذلك مبني على الأصل هو الحقيقة إلا أن الخلاف لفظي لا ثمرة فيه إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا والضمير أن لهم ولآبائهم فَلَعَلَّكَ باخِعٌ أي قاتل نَفْسَكَ وفي معناه ما في صحيح البخاري مهلك. والأول مروي عن مجاهد. والسدي وابن جبير وابن عباس وأنشد لابن الأزرق إذ سأله قول لبيد بن ربيعة :
لعلك يوما إن فقدت مزارها على بعده يوما لنفسك باخع
وفي البحر عن الليث بخع الرجل نفسه بخعا وبخوعا قتلها من شدة الوجد وأنشد قول الفرزدق :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 196
ألا أيهذا الباخع الوجد «1» نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
وهو من بخع الأرض بالزراعة أي جعلها ضعيفة بسبب متابعة الزراعة كما قال الكسائي ، وذكر الزمخشري أن البخع أن يبلغ الذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن القفا ، وقد رده ابن الأثير وغيره بأنه لم يوجد في كتب اللغة والتشريح لكن الزمخشري ثقة في هذا الباب واسع الاطلاع ، وقرىء «باخع نفسك» بالإضافة وهي خلاف الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل عند الزمخشري ، وأشار إليه سيبويه في الكتاب.
وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء ، وزعم أبو حيان أن الإضافة أحسن من العمل عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم. يعني من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والنضر بن الحارث. وأمية بن خلف والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البختري في نفر من قريش اجتمعوا وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزنا شديدا فأنزل اللّه تعالى : فَلَعَلَّكَ باخِعٌ إلخ ، ومنه يعلم أن ما ذكرنا أوفق بسبب النزول من كون المراد من بعد موتهم على الكفر.
إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ الجليل الشأن ، وهو القرآن المعبر عنه في صدر السورة بالكتاب ، ووصفه بذلك لو سلم دلالته على الحدوث لا يضر الأشاعرة وأضرابهم القائلين : بأن الألفاظ حادثة ، وإن شرطية ، والجملة بعدها فعل الشرط ، والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه عند الجمهور ، وقيل الجواب فلعلك إلخ المذكور ، وهو مقدم لفظا مؤخر معنى ، والفاء فيه فاء الجواب ، وقرىء «أن لم يؤمنوا» بفتح همزة أن على تقدير الجار أي لأن ، وهو متعلق بباخع على أنه علة له. وزعم غير واحد أنه لا يجوز إعماله على هذا إذ هو اسم فاعل وعمله مشروط بكونه للحال أو الاستقبال ، ولا يعمل وهو للمضي ، وإن الشرطية تقلب الماضي بواسطة لَمْ إلى الاستقبال بخلاف أن المصدرية فإنها تدخل على الماضي الباقي على مضيه إلا إذا حمل على حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة للغرابة.
وتعقبه بعض الأجلة بأنه لا يلزم من مضي ما كان علة لشيء مضيه ، فكم من حزن مستقبل على أمر ماض سواء استمر أو لا فإذا استمر فهو أولى لأنه أشد نكاية فلا حاجة إلى الحمل على حكاية الحال. ووجه ذلك في الكشف بأنه إذا كانت علة البخع عدم الإيمان فإن كانت العلة قد تمت فالمعلول كذلك ضرورة تحقق المعلول عند العلة التامة ، وإن كانت بعد فكمثل ضرورة أنه لا يتحقق بدون تمامها ، وتعقب بأنه غير مسلم ، لأن هذه ليست علة تامة حقيقية حتى يلزم ما ذكر ، وإنما هي منشأ وباعث فلا يضر تقدمها ، وقيل إنه تفوت المبالغة حينئذ في وجده صلّى اللّه عليه وسلّم على توليهم لعدم كون البخع عقبه بل بعده بمدة بخلاف ما إذا كان للحكاية ، وتعقب أيضا بأنه لا وجه له بل المبالغة في هذا أقوى لأنه إذا صدر منه لأمر مضى فكيف لو استمر أو تجدد؟ ولعل في الآية ما يترجح له البقاء على الاستقبال فتدبر ، وانتصاب قوله تعالى : أَسَفاً بباخع على أنه مفعول من أجله.
وجوز أن يكون حالا من الضمير فيه بتأويل متأسفا لأن الأصل في الحال الاشتقاق وأن ينتصب على أنه مصدر
___________
(1) قال أبو عبيدة كان ذو الرمة ينشد الوجد بالرفع وقال الأصمعي إنما هو الوجد بالفتح اه فيكون نصبه على أنه مفعول لأجله ونحته مخفف نحته اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 197
فعل مقدر أي تأسف أسفا ، والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب.
وقال الراغب : الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد ، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزنا ، ولذلك سئل ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما عن الحزن والغضب فقال : مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا ، وبهذا النظر قال الشاعر :
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الأسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى : فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف : 55] وإذا استعمل الأسف مع الغضب يراد به الحزن على ما قيل في قوله تعالى : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً [الأعراف : 150] وجعل كل منهما فيه بالنسبة إلى بعض من القوم ، وعن قتادة تفسير الأسف هنا بالغضب ، وفي رواية أخرى بالحزن ، وفي صحيح البخاري تفسيره بالندم. وعن مجاهد تفسيره بالجزع ، وأهل الحزن أكثر ، ولعل للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه ، وهي هنا استعارة أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم.
وقال العسكري : هي هنا موضوعة موضع النهي كأنه قيل لا تبخع نفسك ، وقيل موضع الاستفهام ، وجعله ابن عطية إنكاريا على معنى لا تكن كذلك ، والقول بمجيء لعل للاستفهام قول كوفي ، والذي يظهر أنها هنا للإشفاق الذي يقصد به التسلي والحث على ترك التحزن والتأسف ، ويمكن أن يكون مراد العسكري ذلك ، وفي الآية عند غير واحد استعارة تمثيلية وذلك أنه مثل حاله صلّى اللّه عليه وسلّم في شدة الوجد على إعراض القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال الحزن عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفا على مفارقتهم وتلهفا على مهاجرتهم ثم قيل ما قيل ، وهو أولى من اعتبار الاستعارة المفردة التبعية في الأطراف.
وجوز أن تكون من باب التشبيه لذكر طرفيه وهما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وباخع بأن يشبه عليه الصلاة والسلام لشدة حرصه على الأمر بمن يريد قتل نفسه لفوات أمر وهو كما ترى.
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ الظاهر عموم ما جميع ما لا يعقل أي سواء كان حيوانا أو نباتا أو معدنا أي جعلنا جميع ما عليها من غير ذوي العقول زِينَةً لَها تتزين به وتتحلى وهو شامل لزينة أهلها أيضا وزينة كل شيء يحسبه بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها ، وقيل لا يدخل في ذلك ما فيه إيذاء من حيوان ونبات ، ومن قال بالعموم قال : لا شيء مما على الأرض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على الصانع ووحدته ، وخص بعضهم ما بالأشجار والأنهار ، وآخر بالنبات لما فيه من الأزهار المختلفة الألوان والمنافع ، وآخر بالحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال ، وآخر بالذهب والفضة والرصاص والنحاس والياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان والألماس وما يجري مجرى ذلك من نفائس الأحجار.
وقالت فرقة : أريد بها الخضرة والمياه والنعم والملابس والثمار ، ولعمري إنه تخصيص لا يقبله الخواص على العموم وقيل إن ما هنا لمن يعقل والمراد بذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير والحسن وجاء في رواية عن ابن عباس الرجال ، وعلى ما أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس العلماء وعلى ما روي عكرمة الخلفاء والعلماء والأمراء ، وأنت تعلم أن جعل ما لمن يعقل مع إرادة ما ذكر بعيد جدا ، ولعل أولئك الأجلة أرادوا من ما العقلاء

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 198
وغيرهم تغليبا للأكثر على غيره وما على الأرض بهذا المعنى ليس إلا بعض العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وأشرف ذلك المواليد وأشرفها نوع الإنسان وهو متفاوت الشرف بحسب الأصناف فيمكن أن يكون ما ذكروه من باب الاقتصار على بعض أصناف هذا الأشرف لداع لذلك أصناف وقد يقال : المراد بما عموم ما لا يعقل ومن يعقل فيدخل من توجه إليه التكليف وغيره ولا ضير في ذلك فإن للمكلف جهتين جهة يدخل بها تحت الزينة وجهة يدخل بها تحت الابتلاء المشار إليه بقوله تعالى لِنَبْلُوَهُمْ وقد نص سبحانه على بعض المكلفين بأنهم زينة في قوله تعالى :
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف : 46] ومن هنا يعلم ما في قول القاضي الأولى أن لا يدخل المكلف لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها لغرض الابتلاء فالذي له الزينة يكون خارجا عن الزينة ، ونصب زِينَةً على أنه مفعول ثان للجعل إن حمل على معنى التصيير أو على أنه حال أو مفعول له كما قال أبو البقاء وأبو حيان إن حمل على معنى الإبداع ، واللام الأولى إما متعلقة به أو متعلقة بمحذوف وقع صفة له أي زينة كائنة لها واللام الثانية متعلقة بجعلنا والكلام على هذا وجعل زينة مفعولا له نحو قمت إجلالا لك لتقابلني بمثل ذلك ، وضمير الجمع عائد على سكان الأرض من المكلفين المفهوم من السياق.
وجوز أن يعود على ما على تقدير أن تكون للعقلاء ، والابتلاء في الأصل الاختبار ، وجوز ذلك على اللّه سبحانه هشام بن الحكم بناء على جهله وزعمه أنه عز وجل لا يعلم الحوادث إلا بعد وجودها لئلا يلزم نفي قدرته تعالى على الفعل أو الترك ، ورده أهل السنة في محله وقالوا : إنه تعالى يعلم الكليات والجزئيات في الأزل ، وأولوا هذه الآية أن المراد ليعاملهم معاملة من يختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فنجازي كلا بما يليق به وتقتضيه الحكمة وحسن العمل الزهد في زينة الدنيا وعدم الاغترار بها وصرفها على ما ينبغي والتأمل في شأنها وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن الشرع وأداء حقوقها والشكر على ما أوتي منها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما تفعله الكفرة وأصحاب الأهواء ، ومراتب الحسن متفاوتة وكلما قوي الزهد مثلا كان أحسن ، وسأل ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الأحسن عملا كما
أخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ فقال عليه الصلاة والسلام «أحسنكم عقلا «1» وأورع عن محارم اللّه تعالى وأسرعكم في طاعته سبحانه».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال : أحسنهم عملا أشدهم للدنيا تركا ، وأخرج نحوه عن سفيان الثوري وذكر بعضهم أن الأحسن من زهد وقنع من الدنيا بزاد المسافر ووراءه حسن وهو من استكثر من حلالها وصرفه في وجوهه وقبيح من احتطب حلالها وحرامها وأنفقه في شهواته ، وكلام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في بيان الأحسن أحسن وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر : 7] وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين ، وأي أما استفهامية فهي مرفوعة بالابتداء وأحسن خبرها ، والجملة في محل نصب بفعل الابتلاء ولما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالسؤال والنظر ومكان الاستفهام علق عن العمل ، وإما موصولة بمعنى الذي فهي مبنية على الضم محلها النصب على أنها بدل من ضمير النصب في لِنَبْلُوَهُمْ وأحسن خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لها والتقدير لنبلو الذي هو أحسن عملا. ويفهم من البحر أن مذهب سيبويه في أي إذا أضيفت وحذف صدر صلتها كما هنا جواز البناء لا وجوبه ، وتحقيق الكلام في مذهبه لا يخلو عن إشكال ، وأفعل التفضيل باق على الصحيح
___________
(1) قوله في الحديث وأورع كذا بخط مؤلفه وما في الدر المنثور «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم اللّه» إلخ.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 199
على حقيقته كما أشرنا إليه والمفضل عليه محذوف والتقدير كما قال أبو حيان لنبلوهم أيهم أحسن عملا ممن ليس أحسن عملا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا ما عَلَيْها مما جعلناه زينة ، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير ، وجوز غير واحد أن يكون هذا أعم مما جعل زينة ولذا لم يؤت بالضمير ، والجعل هنا بمعنى التصيير أي مصيرون ذلك صَعِيداً أي ترابا جُرُزاً أي لا نبات فيه قاله قتادة ، وقال الراغب : الصعيد وجه الأرض ، وقال أبو عبيدة هو المستوي من الأرض وروي ذلك عن السدي وقال الزجاج : هو الطريق الذي لا نبات فيه ، وأخرج ابن أبي حاتم أن الجرز الخراب ، والظاهر أنه ليس معنى حقيقيا والمعنى الحقيقي ما ذكرناه ، وقد ذكره غير واحد من أئمة اللغة ، وفي البحر يقال جرزت الأرض فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد وأرضون أجراز لا نبات فيها ويقال سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها وجرز الأرض الجراد والشاة والإبل إذا أكلت ما عليها ورجل جروز أكول أو سريع الأكل وكذا الأنثى قال الشاعر :
إن العجوز خبة جروزا تأكل كل ليلة قفيزا
وفي القاموس أرض جرز «1» وجرز وجرز وجرز لا تنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر وفي المثل لا ترضى شانئة إلا بجرزة أي بالاستئصال ، والمراد تصيير ما على الأرض ترابا ساذجا بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار وتستلذ بمشاهدته الأبصار ، وظاهر الآية تصيير ما عليها بجميع أجزائه كذلك وذلك إنما يكون بقلب سائر عناصر المواليد إلى عنصر التراب ولا استحالة فيه لوقوع انقلاب بعض العناصر إلى بعض اليوم ، وقد يقال إن هذا جار على العرف فإن الناس يقولون صار فلان ترابا إذا اضمحل جسده ولم ييق منه أثر إلا التراب.
وحديث انقلاب العناصر مما لا يكاد يخطر لهم ببال وكذا زعم محققي الفلاسفة بقاء صور العناصر في المواليد ويوشك أن يكون تركب المواليد من العناصر أيضا كذلك وهذا الحديث لا تكاد تسمعه عن السلف الصالح واللّه تعالى أعلم ، ووجه ربط هاتين الآيتين بما قبلهما على ما قاله بعض المحققين إن قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنا إلخ تعليل لما في لعل من معنى الإشفاق وقوله سبحانه : وَإِنَّا لَجاعِلُونَ إلخ تكميل للتعليل ، وحاصل المعنى لا تحزن بما عاينت من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياء زينة لها لنختبر أعمالهم فنجازيهم بحسبها وإنا لمفنون ذلك عن قريب ومجازون بحسب الأعمال وفي معنى ذلك ما قيل إنه تسكين له عليه الصلاة والسلام كأنه قيل : لا تحزن فإنا ننتقم لك منهم وظاهر كلام بعضهم جعل ما يفهم من أول السورة تعليلا للإشفاق حيث قال المعنى لا يعظم حزنك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرا ومبشرا وأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه قيل ولا يضر جعل ما ذكر تعليلا لذلك أيضا لأن العلل غير حقيقية ، وقيل : في وجه الربط إن ما تقدم تضمن نهيه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الحزن وهذا تضمن إرشاده إلى التخلق ببعض أخلاقه تعالى كأنه قيل إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك لا أقطع عنهم نعمي فأنت أيضا يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم ، والجملة الثانية لمجرد التزهيد في الميل إلى زينة الأرض ولا يخفى عليك بعد هذا الربط بل لا يكاد ينساق الذهن إليه فتألم أَمْ حَسِبْتَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم والمقصود غيره كما ذهب إليه غير واحد ، وأَمْ منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من كلام إلى آخر لا للإبطال وهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند بعض ، وقيل : هي هنا بمعنى الهمزة والحق الأول أي بل
أحسبت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا في بقائهم
___________
(1) قوله أرض جرز إلخ الأول على وزن كتب جمع كتاب ، والثاني كقفل ، والثالث كسهم ، والرابع كسبب اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 200
على الحياة ونومهم مدة طويلة من الدهر مِنْ آياتِنا أي من بين دلائلنا الدالة على القدرة والألوهية عَجَباً أي آية ذات عجب وضعا له موضع المضاف أو وصفا لذلك بالمصدر مبالغة. وهو خبر لكانوا ومِنْ آياتِنا حال منه كما هو قاعدة نعت النكرة إذا تقدم عليها ، وجوز أبو البقاء أن يكون عَجَباً ومِنْ آياتِنا خبرين وإن يكون عَجَباً حالا من الضمير في الجار والمجرور وليس بذاك ، والمعنى أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادة ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات التي من جملتها ما تقدم ، ومن هنا يعلم وجه الربط ، وفي الكشف أنه تعالى ذكر من الآيات الكلية وإن كان لتسليته صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه لا ينبغي أن تبخع نفسه على آثارهم فالمسترشد يكفيه أدنى إشارة والزائغ لا تجدي فيه آيات النذارة والبشارة ما يشتمل على أمهات العجائب وعقبه سبحانه بقوله أَمْ حَسِبْتَ إلخ يعني أن ذلك أعظم من هذا فمن لا يتعجب من ذلك لا ينبغي أن يتعجب من هذا وأريد من الخطاب غيره صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه كان يعرف من قدرته تعالى ما لا يتعاظمه لا الأول ولا الثاني فأنكر اختلافهم في حالهم تعجبا وإضرابهم عن مثل تلك الآيات البينات والاعتراض عليه بأن الإضراب عن الكلام الأول إنما يحسن إذا كان الثاني أغرب ليحصل الترقي ، وإيثار أن الهمزة للتقرير وهو قول آخر في الآية لذلك غير قادح لأن تعجبهم عن هذا دون الأول هو المنكر وهو الأغرب فافهم ، وبأن المنكر ينبغي أن يكون مقررا عند السامع معلوما عنده ، وهذا ابتداء إعلام منه تعالى على ما يعرف من سبب النزول.
كذلك لأن الإنكار من تعجبهم ويكفي في ذلك معرفتها إجمالا وكانت حاصلة كيف وقد علمت أنه راجع إلى الغير أعني أصحاب الكتاب الذين أمروا قريشا بالسؤال وكانوا عالمين ، ثم إنه مشترك الإلزام لأن التقرير أيضا يقتضي العلم بل أولى انتهى ، وقال الطبري : المراد إنكار ذلك الحسبان عليه عليه الصلاة والسلام على معنى لا يعظم ذلك عندك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة فإن سائر آيات اللّه تعالى أعظم من قصتهم وزعم أن هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق وفي القلب منه شيء ، وقيل : المراد من الاستفهام إثبات أنهم عجب كأنه قيل أعلم أنهم عجب كما تقول أعلمت أن فلانا فعل كذا أي قد فعل فاعله.
والمقصود بالخطاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أيضا وليس بشيء ، وزعم الطيبي أن الوجه أن يجري الكلام على التسلي والاستفهام على التنبيه ويقال : إنه عليه الصلاة والسلام لما أخذه من الكآبة والأسف من إباء القوم عن الإيمان ما أخذه قيل له ما قيل وعلل بقوله تعالى : إِنَّا جَعَلْنا إلى آخره على معنى أنا جعلنا ذلك لنختبرهم وحين لم تتعلق إرادتنا بإيمانهم تشاغلوا به عن آياتنا وشغلوا عن الشكر وبدلوا الإيمان بالكفران فلم نبال بهم وإنا لجاعلون أبدانهم جرزا لأسيافكم كما إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ألا ترى إلى أولئك الفتيان كيف اهتدوا وفروا إلى اللّه تعالى وتركوا زينة الدنيا وزخرفها فأووا إلى الكهف قائلين رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً وكما تعلقت الإرادة بإرشادهم فاهتدوا تتعلق بإرشاد قوم من أمتك يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين اه ، ويكاد يكون أعجب من قصة أهل الكهف فتأمل ، والحسبان إما بمعنى الظن أو بمعنى العلم وقد استعمل بالمعنيين ، والكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يكن واسعا فهو غار ، وأخرج ابن أبي حاتم أنه غار الوادي ، وعن مجاهد أنه فرجة بين الجبلين ، وعن أنس هو الجبل وهو غير مشهور في اللغة ، والرقيم اسم كلبهم على ما روي عن أنس»
والشعبي وجاء في رواية عن ابن جبير ويدل عليه قول أمية بن أبي الصلت :
وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهمو والقوم في الكهف هجدا
___________
(1) رواه عنه ابن أبي حاتم اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 201
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف وأمرهم ثم وضع على باب الكهف ، وقيل لوح من حجارة كتب فيه أسماؤهم وجعل في سور المدينة وروي ذلك عن السدي.
وقيل لوح من رصاص كتب فيه شأنهم ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف وقيل لوح من ذهب كتب فيه ذلك وكان تحت الجدار الذي أقامه الخضر عليه السلام ، وروي عن ابن عباس أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام ، وقيل من دين قبل عيسى عليه السلام فهو لفظ عربي وفعيل بمعنى مفعول.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه واد دون فلسطين قريب من أيلة والكهف على ما قيل في ذلك الوادي فهو من رقمة الوادي أي جانبه ، وأخرجاهما وجماعة من طريق أخر عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : لا أدري ما الرقيم وسألت كعبا فقال : اسم القرية التي خرجوا منها ، وعلى جميع هذه الأقوال يكون أصحاب الكهف والرقيم عبارة عن طائفة واحدة ، وقيل إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم في الصحيحين وغيرهما.
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض : إنه واللّه يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحد منهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل على فرق من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي : إنما لي عندك فرق من أرز فقلت : اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكينا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت : اتق اللّه تعالى ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج اللّه تعالى عنهم فخرجوا» وروي نحو ذلك عن بن عباس وأنس والنعمان بن بشير كل يرفعه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
،
والرقيم على هذا بمعنى محل في الجبل ، وقيل بمعنى الصخرة ، وقيل بمعنى الجبل ، ويكون ذكر ذلك تلميحا إلى قصتهم وإشارة إلى أنه تعالى لا يضيع عمل أحد خيرا أو شرا فهو غير مقصود بالذات ، ولا يخفى أن ذلك بعيد عن السياق ، وليس في الأخبار الصحيحة ما يضطرنا إلى ارتكابه فتأمل إِذْ أَوَى معمول عَجَباً أو كانُوا أو اذكر مقدرا ، ولا يجوز أن يكون ظرفا لحسبت لأن حسبانه لم يكن في ذلك الوقت أي حين التجأ الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ واتخذوه مأوى ومكانا لهم ، والفتية جمع قلة لفتى ، وهو كما قال الراغب وغيره الطري من الشبان ويجمع أيضا على فتيان ، وقال ابن السراج : إنه اسم جمع وقال غير واحد انه جمع فتى كصبي وصبية ، ورجح بكثرة مثله ، والمراد بهم أصحاب الكهف ، وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوة ،
فقد روي أنهم كانوا شبانا من أبناء أشراف الروم وعظمائهم مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب
، وقيل لأن صاحبية الكهف من فروع التجائهم إلى الكهف ، فلا يناسب اعتبارها معهم قبل بيانه ، والظاهر مع

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 202
الضمير اعتبارها ، وليس الأمر كذلك مع هذا الظاهر وإن كانت أل فيه للعهد فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك رَحْمَةً عظيمة أو نوعا من الرحمة فالتنوين للتعظيم أو للنوع ، و«من» للابتداء متعلق بآتنا ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رحمة قدم عليها لكونها نكرة ولو تأخر لكان صفة لها ، وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره ، وفي ذكر مِنْ لَدُنْكَ إيماء إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك ، وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري «وهيي» بياءين من غير همز يعني أنهم أبدلوا الهمزة الساكنة ياء ، وفي كتاب ابن خالويه قرأ الأعشى عن أبي بكر عن عاصم «وهيّ» بلا همز انتهى.
وهو يحتمل أن يكون قد أبدل الهمزة ياء وأن يكون حذفها ، والأول إبدال قياسي ، والثاني مختلف فيه أينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر والمضارع المجزومين أم لا ، وأصل التهيئة إحداث الهيئة وهي الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسه أو معقوله ثم استعمل في إحضار الشيء وتيسيره أي يسر لنا من أمرنا رَشَداً إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداء إليه ، وقرأ أبو رجاء «رشدا» بضم الراء وإسكان الشين والمعنى واحد إلا أن الأوفق بفواصل الآيات قراءة الجمهور ، وإلى اتحاد المعنى ذهب الراغب قال : الرشد بفتحتين خلاف الغي ويستعمل استعمال الهداية وكذا الرشد بضم فسكون.
وقال بعضهم : الرشد أي بفتحتين كما في بعض النسخ المضبوطة أخص من الرشد لأن الرشد بالضم يقال في الأمور الدنيوية والأخروية والرشد يقال في الأمور الأخروية لا غير اه ، وفيه مخالفة لما ذكره ابن عطية فإنه قال : إن هذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه لهذه الآية فإنها كافية.
ويحتمل أن يراد بالرحمة رحمة الآخرة اه ، نعم فيما قاله نظر ، والأولى جعل الدعاء عاما في أمر الدنيا والآخرة وإن كان تعقيبه بما بعد ظاهرا في كونه خاصا في أمر الأولى واللام ومن متعلقان بهيء فإن اختلف معناهما بأن كانت الأولى للأجل والثانية ابتدائية فلا كلام ، وإن كانتا للأجل احتاجت صحة التعلق إلى الجواب المشهور.
وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر وكذا الكلام في تقديم مِنْ لَدُنْكَ على رحمة على تقدير تعلقه بآتنا ، وتقديم المجرور الأول على الثاني للإيذان من أول الأمر بكون المسئول مرغوبا فيه لديهم ، وقيل الكلام على التجريد وهو إن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة كأنه بلغ إلى مرتبة من الكمال بحيث يمكن أن يؤخذ منه آخر كرأيت منك أسدا أي اجعل أمرنا كله رشدا. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي ضربنا عليها حجابا يمنع السماع فالمفعول محذوف كما في قولهم : بنى على امرأته والمراد أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات بأن يجعل الضرب على الآذان كناية عن الإنامة الثقيلة وإنما صلح كناية لأن الصوت والتنبيه طريق من طرق إزالة النوم فسد طريقه يدل على استحكامه وأما الضرب على العين وإن كان تعلقه بها أشد فلا يصلح كناية إذ ليس المبصرات من طرق إزالته حتى يكون سد الأبصار كناية ولو صلح كناية فعن ابتداء النوم لا النومة الثقيلة.
واعترض القطب جعله كناية عما ذكر بما لا يخفى رده وخرج الآية على الاستعارة المكنية بأن يقال شبه الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان ثم ذكر ضربنا وأريد أنمنا وهو وجه فيها ، وجوز أن تكون من باب الاستعارة التمثيلية واختاره بعض المحققين.
ومن الناس من حمل الضرب على الآذان على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأمير على يد الرعية أي منعهم عن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 203
التصرف. وتعقب بأنه مع عدم ملاءمته لما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من البعث لا يدل على إرادة النوم مع أنه المراد قطعا. وأجيب بأنه يمكن أن يكون مراد الحامل التوصل بذلك إلى إرادة الإنامة فافهم.
والضرب إما من ضربت القفل على الباب أو من ضربت الخباء على ساكنه ، والفاء هنا مثلها في قوله تعالى :
فَاسْتَجَبْنا لَهُ [الأنبياء : 76] بعد قوله سبحانه إِذْ نادى [الأنبياء : 76] فإن الضرب المذكور وما يترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال والبعث وغير ذلك من آثار استجابة دعائهم السابق فِي الْكَهْفِ ظرف لضربنا وكذا قوله عز وجل : سِنِينَ ولا مانع من ذلك لا سيما وقد تغايرا بالمكانية والزمانية عَدَداً أي ذوات عدد على أنه مصدر وصف بالتأويل الشائع ، وقيل إنه صفة بمعنى معدودة ، وقيل إنه مصدر لفعل مقدر أي تعد عددا ، والعدد على ما قال الراغب وغيره قد يراد به التكثير لأن القليل لا يحتاج إلى العد غالبا وقد يذكر للتقليل في مقابلة ما لا يحصى كثرة كما يقال بغير حساب وهو هنا يحتمل الوجهين والأول هو الأنسب بإظهار كمال القدرة والثاني هو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبا من بين سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم وإن كثرت في نفسها فهي كبعض يوم عند اللّه عز وجل.
وفي الكشف أن الكثرة تناسب نظرا إلى المخاطبين والقلة تناسب نظرا إلى المخاطب اه ، وقد خفي على العز ابن عبد السلام أمر هذا الوصف وظن أنه لا يكون للتكثير وأن التقليل لا يمكن هاهنا وهو غريب من جلالة قدره وله في أماليه أمثال ذلك. وللعلامة ابن حجر في ذلك كلام ذكره في الفتاوي الحديثية لا أظنه شيئا.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي منهم وهم القائلون لبثنا يوما أو بعض يوم والقائلون : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ [الكهف : 19] وقيل أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم ، والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم ، وزعم ابن عطية أن هذا قول جمهور المفسرين وعن ابن عباس أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا ملك المدينة واحدا بعد واحد وعن مجاهد : الحزبان قوم أهل الكهف حزب منهم مؤمنون وحزب كافرون ، وقال الفراء : الحزبان مؤمنان كانوا في زمنهم ، واختلفوا في مدة لبثهم ، وقال السدي : الحزبان كافران ، والمراد بهما اليهود والنصارى الذي علموا قريشا سؤال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أهل الكهف وقال ابن حرب : الحزبان اللّه سبحانه وتعالى ، والخلق كقوله تعالى : أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة : 140] والظاهر هو الأول لأن اللام للعهد ولا عهد لغير من سمعت أَحْصى أي ضبط فهو فعل ماض وفاعله ضمير أَيُّ واختار ذلك الفارسي والزمخشري ، وابن عطية ، وما في قوله تعالى : لِما لَبِثُوا مصدرية ، والجار والمجرور حال مقدم عن قوله تعالى : أَمَداً وهو مفعول أَحْصى والأمد على ما قال الراغب : مدة لها حد ، والفرق بينه وبين الزمان أن الأمد يقال : باعتبار الغاية بخلاف الزمان فإنه عام في المبدأ والغاية ، ولذلك قال بعضهم :
المدى والأمد يتقاربان ، وليس اسما للغاية حتى يكون إطلاقه على المدة مجازا كما أطلقت الغاية ، عليها في قولهم :
ابتداء الغاية وانتهاؤها ، أي ليعلم أيهم أحصى مدة كائنة للبثهم ، والمراد من إحصائها ضبطها من حيث كميتها المنفصلة العارضة لها باعتبار قسمتها إلى السنين وبلوغها من تلك الحيثية إلى مراتب الأعداد كما يرشدك إليه كون المدة عبارة عما سبق من السنين ، وليس المراد ضبطها من حيث كميتها المتصلة الذاتية فإنه لا يسمى إحصاء ، وقيل إطلاق الأمد على المدة مجاز وحقيقته غاية المدة.
ويجوز إرادة ذلك بتقدير المضاف أي لنعلم أيهم ضبط غاية لزمان لبثهم وبدونه أيضا فإن اللبث عبارة عن الكون المستمر المنطبق على الزمان المذكور فباعتبار الامتداد العارض له بسببه يكون له أمد وغاية لا محالة لكن ليس المراد

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 204
ما يقع غاية ومنتهى لذلك الكون المستمر باعتبار كميته المتصلة العارضة له بسبب انطباقه على الزمان الممتد بالذات ، وهو آن انبعاثهم من نومهم فإن معرفته من تلك الحيثية لا تخفى على أحد ولا تسمى إحصاء أيضا ، بل باعتبار كميته المنفصلة العارضة له بسبب عروضها لزمانه المنطبق هو عليه باعتبار انقسامه إلى السنين ووصوله إلى مرتبة معينة من مراتب العدد ، والفرق بين هذا وما سبق أن ما تعلق به الإحصاء في الصورة السابقة نفس المدة المنقسمة إلى السنين فهو مجموع ثلاثمائة وتسع سنين وفي الصورة الأخيرة منتهى تلك المدة المنقسمة إليها أعني التاسعة بعد الثلاثمائة وتعلق الإحصاء بالأمد بالمعنى الأول ظاهر ، وأما تعلقه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامه لما تحته من مراتب العدد ، واشتماله عليها انتهى.
وأنت تعلم أن ظاهر كلام الراغب وهو - هو - في اللغة يقتضي أن الأمد حقيقة في المدة وأنه في الغاية مجاز وأن توجيه إرادة الغاية هنا بما ذكر تكلف لا يحتاج إليه على تقدير كون ما مصدرية. نعم يحتاج إليه على تقدير جعلها موصولة حذف عائدها من الصلة أي لنعلم أيهم أحصى أمدا كائنا للذي لبثوه أي لبثوا فيه من الزمان. وقيل ما لبثوا في موضع المفعول له وجيء بلام التعليل لكونه غير مصدر صريح وغير مقارن أيضا وليس بذاك. وقيل اللام مزيدة وما موصولة وهي المفعول به وعائدها محذوف أي أَحْصى الذي لبثوه والمراد الزمان الذي لبثوا فيه ، وأَمَداً على هذا تمييز للنسبة مفسر لما في نسبة المفعول من الإبهام محول عن المفعول وأصله أحصى أمد الزمان الذي لبثوا فيه.
وزعم أنه لا يصح أن يكون تمييزا للنسبة لأنه لا بد أن يكون محولا عن الفاعل ولا يمكن ذلك هنا ليس بشيء لأن اللابدية في حيز المنع. والذي تحقق في المعتبرات كشروح التسهيل وغيرها أنه يكون محولا عن المفعول ك فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر : 12] كما يكون محولا عن الفاعل كتصبب زيد عرقا ولو جعل تمييزا لما كان تمييزا لمفرد. ولم يقل أحد باشتراط التحويل فيه أصلا.
وجوز في ما على هذا التقدير أن تكون مصدرية وهو بعيد ، وضعف القول بزيادة اللام هنا بأنها لا تزاد في مثل ذلك.
واختار الزجاج والتبريزي كون أَحْصى أفعل تفضيل لأنه الموافق لما وقع في سائر الآيات الكريمة نحو أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونه فعلا ماضيا يشعر بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم على البعث لا بالإحصاء المتأخر عنه وليس كذلك ، واعترض أولا بأن بناء أفعل التفضيل من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس وما جاء منه شاذ كأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق ، وأجيب بأن في بناء أفعل من ذلك ثلاثة مذاهب الجواز مطلقا وهو ظاهر كلام سيبويه والمنع مطلقا وما ورد شاذ لا يقاس عليه وهو مذهب أبي علي ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز أو لغيره كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز وهو اختيار ابن عصفور فلعلهما يريان الجواز مطلقا كسيبويه أو التفصيل كابن عصفور ، والهمزة في أَحْصى ليست للنقل ، وثانيا بأن أَمَداً حينئذ إن نصب على أنه مفعول به فإن كان بمضمر كما في قول العباس بن مرداس :
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ولا مثلنا لما التقينا فوارسا
أكر وأحمى للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا
لزم الوقوع فيما فرا منه حيث لم يجعلا المذكور فعلا ثم قدرا وإن كان به فليس صالحا لذلك ، وإن نصب يلبثوا لا يكون المعنى سديدا لأن الضبط لمدة اللبث وأمده لا للبث في الأمد ، ولا يقال : فليكن نظير قولكم أيكم أضبط لصومه في الشهر أي لأيام صومه والمعنى أيهم أضبط لأيام اللبث أو ساعاته في الأمد ويراد به جميع المدة لما قيل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 205
يعضل حينئذ تنكير أَمَداً والاعتذار بأنهم ما كانوا عارفين بتحديده يوما أو شهرا أو سنة فنكر على أنه سؤال أما عن الساعات والأيام أو الأشهر غير سديد لأنه معلوم أنه أمد زمان اللبث فليعرف إضافة أو عهدا ويكون الاحتمال على حاله ، ووجه أبو حيان نصبه بأنه على إسقاط حرف الجر وهو بمعنى المدة والأصل لما لبثوا من أمد ويكون من أمد تفسيرا لما أبهم في لفظ ما كقوله تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة : 106] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر :
2] ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل وهو كما ترى ، وتعقب منع صلاحية أفعل لنصب المفعول به بأنه قول البصريين دون الكوفيين فلعل الإمامين سلكا مذهب الكوفيين فجعلا أَحْصى أفعل تفضيل وأَمَداً مفعولا له ، والحق أن الذاهب إلى كون أحصى أفعل تفضيل جعل أمدا تمييزا وهو يعمل في التمييز على الصحيح والقول بأن التمييز يجب كونه محولا عن الفاعل قد ميزت حاله ، وثالثا بأن توهم الأشعار بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم عليه مردود بأن صيغة الماضي باعتبار حال الحكاية ولا يكاد يتوهم من ذلك الإشعار المذكور ، ورابعا بأنه يلزم حينئذ أن يكون أصل الإحصاء متحققا في الحزبين إلا أن بعضهم أفضل والبعض الآخر أدنى مع أنه ليس كذلك ، وفي الكشف أن قول الزجاج ليس بذلك المردود إلا أن ما آثره الزمخشري أحق بالإيثار لفظا ومعنى أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأنه تعالى حكى تساؤلهم فيما بينهم وأنه عن العارف لا عن الأعرف وغيرهم أولى به انتهى فافهم ، وأي استفهامية مبتدأ وما بعدها خبرها وقد علقت نعلم عن العمل كما هو شأن أدوات الاستفهام في مثل هذا الوضع وهذا جار على احتمالي كون أَحْصى فعلا ماضيا وكونه أفعل تفضيل ، وجوز جعل أي موصولة ففي البحر إذا قلنا بأن أَحْصى أفعل تفضيل جاز أن تكون أي موصولا مبنيا على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه وهو كون أي مضافة حذف صدر صلتها والتقدير لنعلم الفريق الذي هو أحصى لما لبثوا أمدا من الذين لم يحصوا وإذا كان فعلا ماضيا امتنع ذلك لأنه حينئذ لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل مع فاعله صلة فلا يجوز بناؤها لفوات تمام الشرط وهو حذف صدر الصلة انتهى.
وقرأ الزهري «ليعلم» بالياء على إسناد الفعل إليه تعالى بطريق الالتفات ، وأيّا ما كان فالعلم غاية للبعث وليس ذلك على ظاهره وإلا تكن الآية دليلا لهشام على ما يزعمه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا فقيل هو غاية بجعله مجازا عن الإظهار والتمييز ، وقيل : المراد ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا استقباليا كما في قوله تعالى :
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة : 143] واعترضه بعض الأجلة بأن بعث هؤلاء الفئة لم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره حتى يتعلق بهما العلم تعلقا حاليا أو الإظهار والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية كما ترتب على تحويل القبلة انقسام الناس إلى متبع ومنقلب فصح تعلق العلم الحالي والإظهار بكل من القسمين وإنما الذي ترتب على ذلك تفرقهم إلى مقدر تقديرا غير مصيب ومفوض العلم إلى اللّه عز وجل وليس في شيء منهما إحصاء أصلا ، ثم قال : إن جعل ذلك غاية بحمل النظم الكريم على التمثيل المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازا بإطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعا بل قد يكون لإظهاره عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى : فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة :
258] وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم أيهم أحصى لما لبثوا أمدا فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالهم وما صنع اللّه تعالى بهم من حفظ أبدانهم فيزدادوا يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم ، وقد اقتصرها هنا من تلك الغايات الجليلة على مبدئها الصادر عنه سبحانه وفيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 206
إليها وهذا أولى من تصوير التمثيل بأن يقال بعثناهم بعث من يريد أن يعلم إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر انتهى.
وتعقبه الخفاجي بأن ما ذكره مع تكلفه وقلة جدواه غير مستقيم لأن الاختيار الحقيقي لا يتصور ممن أحاط بكل شيء علما فحيث وقع جعلوه مجازا عن العلم أو ما يترتب عليه فلزمه بالآخرة الرجوع إلى ما أنكره واختار جعل العلم كناية عن ظهور أمرهم ليطمئن بازدياد الإيمان قلوب المؤمنين وتنقطع حجة المنكرين وعلم اللّه تعالى حيث تعذر إرادة حقيقته في كتابه تعالى جعل كناية عن بعض لوازمه المناسبة لموقعه والمناسب هنا ما ذكر ، ثم قال : وإنما علق العلم بالاختلاف في أمده أي المفهوم من أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا لأنه ادعى لإظهاره وأقوى لانتشاره. وفي الكشف توجيها لما في الكشاف أراد أن العلم مجاز عن التمييز والإظهار كأنه قيل لنظهره ونميز لهم العارف بأمد ما لبثوا ولينظر من هذا العارف فإنه لا يجوز أن يكون أحدا منهم لأنهم بين مفوض ومقدر غير مصيب ، والفرق بين ما في الكشف وما ذكره الخفاجي لا ينفى على بصير وما في الكشف أقل مؤنة منه.
وتصوير التمثيل بأن يقال : بعثناهم بعث من يريد أن يعلم أحسن عندي من التصوير الأول ، والتوهم المذكور مما لا يكاد يلتفت إليه فتدبر جدا. وقرىء «ليعلم» مبنيا للفاعل من الإعلام وخرج ذلك على أن الفاعل ضميره تعالى والمفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه وأَيُّ الْحِزْبَيْنِ إلخ من المبتدأ والخبر في موضع مفعولي نعلم الثاني والثالث ، والتقدير ليعلم اللّه الناس أي الحزبين إلخ ، وإذا جعل العلم عرفانيا كانت الجملة في موضع مفعولي نعلم الثاني فقط وهو ظاهر. وقرىء «ليعلم» بالبناء للمفعول وخرج على أن نائب الفاعل محذوف أي ليعلم الناس.
والجملة بعد أما في موضع المفعولين أو المفعول حسبما سمعت ، وقال بعضهم : إن الجملة هي النائب عن الفاعل وهو مذهب كوفي ففي البحر البصريون لا يجوز كون الجملة فاعلا ولا نائبا عنه وللكوفيين مذهبان ، أحدهما أنه يجوز الإسناد إلى الجملة مطلقا ، والثاني أنه لا يجوز إلا إذا كان المسند مما يصح تعليقه وتحقيق ذلك في محله.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ شروع في تفصيل ما أجمل فيما سلف أي نحن نخبرك بتفصيل خبرهم الذي له شأن وخطر بِالْحَقِّ أما صفة لمصدر محذوف أو حال من ضمير نَقُصُّ أو من نَبَأَهُمْ أو صفة له على رأي من يرى جواز حذف الموصول مع بعض الصلة أي نقص قصصا ملتبسا بالحق أو نقصه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبسا به أو نبأهم الملتبس به ، ولعل في التقييد بِالْحَقِّ إشارة إلى أن في عهده صلّى اللّه عليه وسلّم من يقص نبأهم لكن لا بالحق.
وفي الكشف بعد نقل شعر أمية بن أبي الصلت السابق ما نصه وهذا يدل على أن قصة أصحاب الكهف كانت من علم العرب وإن لم يكونوا عالميها على وجهها ، ونبؤهم حسبما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح عليه السلام متمسكين بعبادة اللّه تعالى وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم وعتا عتوا كبيرا دفيانوس وفي رواية دقيوس فإنه غلا غلوا شديدا فجلس خلال الديار والبلاد وأكثر فيها الفساد وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه السلام وكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فمن رغب في الحياة الدنيا انقاد لأمره وامتثله ومن آثر عليها الحياة الأبدية لم يبال بأي قتلة قتله فكان يقتل أهل الإيمان ويقطع أجسادهم ويجعلها على سور المدينة وأبوابها فلما رأى الفتية ذلك وكانوا عظماء مدينتهم واسمها على ما في بعض الروايات أفسوس وفي بعضها طرسوس ، وقيل كانوا من خواص الملك قاموا فتضرعوا إلى اللّه عز وجل واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك دخل عليهم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 207
الشرط فاخذوهم وأعينهم تفيض من الدمع ووجوههم معفرة بالتراب وأحضروهم بين يدي الجبار فقالوا لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا وخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فقالوا : إن لنا إلها ملأ السموات والأرض عظمته وجبروته لن ندعو من دونه أحدا ولن نقر بما تدعونا إليه أبدا فاقض ما أنت قاض وأول من قال ذلك أكبرهم مكسلمينا فأمر الجبار فنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة أخرى قيل هي نينوى لبعض شأنه وأمهلهم إلى رجوعه وقال : ما يمنعني أن أعجل عقوبتكم إلا أني أراكم شبانا فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تتأملون فيه وترجعون إلى عقولكم فإن فعلتم فيها وإلا أهلكتكم فلما رأوا خروجه اشتوروا فيما بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدق ببعضها ويتزود بالباقي وينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة يقال له بنجلوس ففعلوا ما فعلوا وأووا إلى الكهف فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد وفوضوا أمر نفقتهم إلى فتى منهم اسمه يمليخا فكان إذا أصبح يتنكر ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ويتجسس ما فيها من الأخبار ويعود إليهم فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار مدينتهم فتطلبهم وأحضر آباءهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم وبذروها في الأسواق وفروا إلى الجبل وكان يمليخا إذ ذاك في المدينة فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليل طعام فأخبرهم بما شاهد من الهول ففزعوا إلى اللّه تعالى وخروا له سجدا ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فبينما هم كذلك إذ ضرب اللّه عز وجل على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رؤوسهم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فأصابه ما أصابهم فخرج الجبار في طلبهم بخيله ورجله فوجدوهم قد دخلوا الكهف فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعا قال قائل منهم : أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى قال : فابن
عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا وليكن كهفهم قبرا لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص اللّه تعالى عز وجل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم اللّه تعالى على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض : أين تريدون أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا ولا يدري هذا علام خرج هذا فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شيء وإلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ - إلى - مِرفَقاً
ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب اللّه تعالى على آذانهم فناموا وفقدوا في أهلهم فجعلوا يطليونهم فلم يظفروا بهم فرفع أمرهم إلى الملك فقال : ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية ولا شيء يعرف فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته ثم كان من شأنهم ما قصه اللّه سبحانه وتعالى.
وكانوا على ما
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر صيارفة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه قال : جاء رجل من حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل على بابها صنم لا يدخل أحد إلا سجد له فكره أن يدخل فأتى حماما قريبا من المدينة وأجر نفسه من صاحبه فكان يعمل فيه ورأى صاحب الحمام البركة والرزق وجعل يسترسل إليه وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم عن خبر السماء وخبر الآخرة حتى آمنوا وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي ولا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت حتى جاء ابن الملك بامرأة يدخل بها الحمام فعيره الحواري فقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه الامرأة التي صفتها كذا وكذا فاستحيا فذهب فرجع مرة أخرى فسبه وانتهره فلم يلتفت حتى دخل ودخلت معه فباتا في الحمام جميعا فماتا فيه فأتى الملك فقيل له : قتل ابنك صاحب الحمام فالتمس فلم يقدر عليه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 208
وهرب من كان يصحبه والتمس الفتية فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع له وهو على مثل أمرهم فذكروا له أنهم التمسوا فانطلق معهم حتى أواهم الليل إلى كهف فدخلوا فيه فقالوا نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح إن شاء تعالى فنرى رأينا فضرب على آذانهم فخرج الملك بأصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فكلما أراد الرجل منهم أن يدخله أرعب فلم يطق أن يدخل فقال للملك قائل : ألست لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى قال : فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا عطشا وجوعا ففعل ثم كان ما كان ، وروي غير ذلك والأخبار في تفصيل شأنهم مختلفة.
وفي البحر لم يأت في الحديث الصحيح كيفية اجتماعهم وخروجهم ولا معول إلا على ما قص اللّه تعالى من نبئهم إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ استئناف مبني على السؤال من قبل المخاطب وتقدم الكلام آنفا في الفتية آمَنُوا بِرَبِّهِمْ أي بسيدهم والناظر في مصالحهم ، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة ، وأوثر للإشعار بعلية وصف الربوبية لإيمانهم ولما صدر عنهم من المقالة حسبما سيحكي عنهم.
وَزِدْناهُمْ هُدىً بالتثبيت على الإيمان والتوفيق للعمل الصالح والانقطاع إلى اللّه تعالى والزهد في الدنيا.
وفي التحرير المراد زدناهم ثمرات هدى أو يقينا قولان وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي أو إنطاق الكلب لهم بأنه على ما هم عليه من الإيمان أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون به الدين كله للّه تعالى فآمنوا به صلّى اللّه عليه وسلّم قبل بعثه اه. ولا يلزم من القول بإنزال ملك عليهم بذلك القول بنبوتهم كما لا يخفى. وفي زِدْناهُمْ التفات من الغيبة إلى التكلم الذي عليه سبك النظم الكريم سباقا وسياقا ، وفيه من تعظيم أمر الزيادة ما فيه وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قويناها بالصبر فلم تزحزحها عواصف فراق الأوطان وترك الأهل والنعيم والأخوان ولم يزعجها الخوف من ملكهم الجبار ولم يرعها كثرة الكفار ، وأصل الربط الشد المعروف واستعماله فيما ذكر مجاز كما قال غير واحد. وفي الأساس ربطت الدابة شددتها برباط والمربط الحبل ، ومن المجاز ربط اللّه تعالى على قلبه صبره ورابط الجأش.
وفي الكشف لما كان الخوف والتعلق يزعج القلوب عن مقارها ألا ترى إلى قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب : 10] قيل في مقابله ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل.
وجوز بعضهم أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية ، وعدي الفعل بعلى وهو متعد بنفسه لتنزيله منزلة اللازم كقوله : يجرح في عراقيبها نصلي إِذْ قامُوا متعلق بربطنا ، والمراد بقيامهم انبعاثهم بالعزم على التوجه إلى اللّه تعالى ومنابذة الناس كما في قولهم : قام فلان إلى كذا إذا عزم عليه بغاية الجد ، وقريب منه ما قيل المراد به انتصابهم لإظهار الدين.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أنهم خرجوا من المدينة فاجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم : هو أشبههم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده قالوا : ما تجد؟ قال : أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض فقالوا أيضا : نحن كذلك فقاموا جميعا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقد تقدم آنفا عن ابن عباس القول باجتماعهم على غير ميعاد أيضا إلا أنه قال : إن بعضهم أخفى حاله عن بعض حتى تعاهدوا فاجتمعوا على كلمة فقالوا ذلك.
وقال صاحب الغنيان المراد به وقوفهم بين يدي الجبار دقيانوس ، وذلك أنهم قاموا بين يديه حين دغاهم إلى عبادة الأوثان فهددهم بما هددهم فبينما هم بين يديه تحركت هرة وقيل فأرة ففزع الجبار منها فنظر بعضهم إلى بعض

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 209
فلم يتمالكوا أن قالوا ذلك غير مكترثين به ، وقيل المراد قيامهم لدعوة الناس سرا إلى الإيمان. وقال عطاء : المراد قيامهم من النوم وليس بشيء ، ومثله ما قيل إن المراد قيامهم على الإيمان ، وما أحسن ما قالوا فإن ربوبيته تعالى للسموات والأرض تقتضي ربوبيته لما فيهما وهم من جملته أي اقتضاء ، وأردفوا دعواهم تلك بالبراءة من إله غيره عز وجل فقالوا :
لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً وجاؤوا بلن لأن النفي بها أبلغ من النفي بغيرها حتى قيل إنه يفيد استغراق الزمان فيكون المعنى لا نعبد أبدا من دونه إلها أي معبودا آخر لا استقلالا ولا اشتراكا قيل وعدلوا عن قولهم ربا إلى قولهم «إلها» للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة ، وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الألوهية ، وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الألوهية لا بطريق المالكية المجازية.
وقد يقال : إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية ، وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية وهما أمران متغايران وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ويقولون بالأول وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان :
25 ، الزمر : 38] وحكى سبحانه عنهم أنهم يقولون : ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر : 3] وصح أنهم يقولون أيضا : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وجاؤوا بالجملة الأولى مع أن ظاهر القصة كونهم بصدد ما تشير إليه الجملة الثانية من توحيد الألوهية لأن الظاهر أن قومهم إنما أشركوا فيها وهم إنما دعوا لذلك الإشراك دلالة على كمال الإيمان ، وابتدؤوا بما يشير إلى توحيد الربوبية لأنه أول مراتب التوحيد ، والتوحيد الذي أقرت به الأرواح في عالم الذر يوم قال لها سبحانه : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف : 172] وفي ذكر ذلك أولا وذكر الآخر بعده تدرج في المخالفة فإن توحيد الربوبية يشير إلى توحيد الألوهية بناء على أن اختصاص الربوبية به عز وجل علة لاختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى ، وقد ألزم جل وعلا الوثنية القائلين باختصاص الربوبية بذلك في غير موضع ، ولكون الجملة الأولى لكونها مشيرة إلى توحيد الربوبية مشيرة إلى توحيد الألوهية قيل إن في الجملة الثانية تأكيدا لها فتأمل ، ولا تعجل بالاعتراض.
والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من النكرة بعده ، ولو أخر لكان صفة أي لن ندعو إلها كائنا من دونه تعالى لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي قولا ذا شطط أي بعد عن الحق مفرط أو قولا هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة ، وجوز أبو البقاء كون «شططا» مفعولا به لقلنا ، وفسره قتادة بالكذب ، وابن زيد بالخطا ، والسدي بالجور ، والكل تفسير باللازم ، وأصل معناه ما أشرنا إليه لأنه من شط إذا أفرط في البعد ، وأنشدوا :
شط المراد بحزوى وانتهى الأمل وفي الكلام قسم مقدر واللام واقعة في جوابه ، «وإذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر أي لو دعونا وعبدنا من دونه إلها واللّه لقد قلنا إلخ ، واستلزام العبادة القول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود ، والتضرع إليه ، وفي هذا القول دلالة على أن الفتية دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها ، وهذا أوفق بكون قيامهم بين يدي الملك هؤُلاءِ هو مبتدأ وفي اسم الإشارة تحقير لهم قَوْمُنَا عطف بيان له لا خبر لعدم إفادته ولا صفة لعدم شرطها والخبر قوله تعالى اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ تعالى شأنه آلِهَةً أي عملوها ونحتوها لهم.
قال الخفاجي : فيفيد أنهم عبدوها ولا حاجة إلى تقديره كما قيل بناء على أن مجرد العمل غير كاف في المقصود ، وتفسير الاتخاذ بالعمل أحد احتمالين ذكرهما أبو حيان ، والآخر تفسيره بالتصيير فيتعدى إلى مفعولين أحدهما «آلهة» والثاني مقدر ، وجوز أن يكون «آلهة» هو الأول و«من دونه» هو الثاني وهو كما ترى ، وأيّا ما كان

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 210
فالكلام إخبار فيه معنى الإنكار لا إخبار محض بقرينة ما بعده ولأن فائدة الخبر معلومة لَوْلا يَأْتُونَ تحضيض على وجه الإنكار والتعجيز إذ يستحيل أن يأتوا عَلَيْهِمْ بتقدير مضاف أي على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذهم لها آلهة بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم فإن الدين لا يؤخذ إلا به ، واستدل به على أن ما لا دليل عليه من أمثال ما ذكر مردود فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وقد مر تحقيق المراد من هذا التركيب ، وهذه المقالة يحتمل أن يكونوا قالوها بين يدي الجبار تبكيتا له وتعجيزا وتأكيدا للتبرّي من عبادة ما يدعوهم إليه بأسلوب حسن ويحتمل أن يكونوا قالوها فيما بينهم لما عزموا عليه وخبر ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما السابق نص في أن هذه المقالة وما قبلها وما بعدها إلى مِرفَقاً مقولة فيما بينهم ، ودعوى أنه إذا كان المراد من القيام فيما مر قيامهم بين يدي الجبار يتعين كون هذه المقالة صادرة عنهم بعد خروجهم من عنده غير مسلمة كما لا يخفى ، نعم ينبغي أن يكون قوله تعالى : وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ مقولا فيما بينهم مطلقا خاطب به بعضهم بعضا. وفي مجمع البيان عن ابن عباس أن قائله يمليخا ، والاعتزال تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب وكلا الأمرين محتمل هنا ، والتعزل بمعناه ومن ذلك قوله :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل
و«ما» يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية ، والعطف في الاحتمالين على الضمير المنصوب ، والظاهر أن الاستثناء فيهما متصل ، ويقدر على الاحتمال الثاني مضاف في جانب المستثنى ليتأتى الاتصال أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم الذين يعبدونهم إلا اللّه تعالى أو إذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة اللّه عز وجل ، وتقدير مستثنى منه على ذلك الاحتمال لذلك نحو عبادتهم لمعبوديهم تكلف ، ويحتمل أن يكون منقطعا ، وعلى الأول يكون القوم عابدين اللّه تعالى وعابدين غيره كما جاء ذلك في بعض الآثار.
أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن عطاء الخراساني أنه قال : كان قوم الفتية يعبدون اللّه تعالى ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة اللّه تعالى.
وعلى الثاني يكونون عابدين غيره تعالى فقط ، قيل وهذا هو الأوفق بقوله تعالى أولا : هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فتأمل.
وجوز أن تكون ما نافية والاستثناء مفرغ والجملة إخبار من اللّه تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضة بين إذ وجوابه أعني قوله تعالى : فَأْوُوا أي التجثوا إِلَى الْكَهْفِ ووجه الاعتراض على ما في الكشف أن قوله تعالى : وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ فأووا معناه وإذا اجتنبتم عنهم وعما يعبدون فأخلصوا له العبادة في موضع تتمكنون منه فدل الاعتراض على أنهم كانوا صادقين وأنهم أقاموا بما وصى به بعضهم بعضا فهو يؤكد مضمون الجملة. وإلى كون فَأْوُوا جواب إذ ذهب الفراء ، وقيل : إنه دليل الجواب أي وإذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا أو إذا أردتم الاعتزال الجسماني فافعلوا ذلك. واعترض كلا القولين بأن إذ بدون ما لا تكون للشرط ، وفي همع الهوامع أن القول بأنها تكون له قول ضعيف لبعض النحاة أو تسامح لأنها بمعناه فهي هنا تعليلية أو ظرفية وتعلقها قيل بأووا محذوفا دل عليه المذكور لا به لمكان الفاء أو بالمذكور والظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره ، وقال أبو البقاء : إذ ظرف لفعل محذوف أي وقال بعضهم لبعض ، وظاهره أنه عنى بالفعل المحذوف قال وأقول : هو من أعجب العجائب. وفي مصحف ابن مسعود كما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة «وما يعبدون من دون اللّه» وقال

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 211
هارون : في بعض المصاحف «وما يعبدون من دوننا» وهذا يؤيد الاعتراض ، وفي البحر أن ما في المصحفين تفسير لا قراءة لمخالفته سواد الإمام. وزعم أن المتواتر عن ابن مسعود ما فيه يَنْشُرْ لَكُمْ يبسط لكم ويوسع عليكم رَبُّكُمْ مالك أمركم الذي هداكم للإيمان مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين وَيُهَيِّئْ يسهل لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين والتوجه التام إلى اللّه تعالى مِرفَقاً ما ترتفقون وتنتفعون به ، وهو مفعول يُهَيِّئْ ومفعول يَنْشُرْ محذوف أي الخير ونحوه مِنْ أَمْرِكُمْ على ما في بعض الحواشي متعلق بيهيىء ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض ، وقال ابن الأنباري : للبدل والمعنى يهيىء لكم بدلا عن أمركم الصعب مرفقا كما في قوله تعالى : أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة : 38] وقوله :
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
وجوز أن يكون حالا من مِرفَقاً فيتعلق بمحذوف ، وتقديم لَكُمْ لما مر مرارا من الإيذان من أول الأمر بكون المؤخر من منافعهم والتشويق إلى وروده ، والظاهر أنهم قالوا هذا ثقة بفضل اللّه تعالى وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه سبحانه ونصوع يقينهم فقد كانوا علماء باللّه تعالى.
فقد أخرج الطبراني وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس قال : ما بعث اللّه تعالى نبيا إلا وهو شاب ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وقرأ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء : 60] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف :
60] وإِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وجوز أن يكونوا قالوه عن أخبار نبي في عصرهم به وأن يكون بعضهم نبيا أوحى إليه ذلك فقاله ، ولا يخفى أن ما ذكر مجرد احتمال من غير داع.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه وأبو عمرو في رواية هارون «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء ولا فرق بينه وبين ما هو بكسر الميم وفتح الفاء معنى على ما حكاه الزجاج وثعلب فإن كلا منهما يقال في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة ، ونقل مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء وخالفه أبو حاتم وقال : المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد ، وقال أبو زيد : هو مصدر جاء على مفعل كالمرجع ، وقيل : هما لغتان فيما يرتفق به وأما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير ، وعن الفراء أن أهل الحجاز يقولون : «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان ، وأما العرب فقد يكسرون الميم منهما جميعا اه. وأجاز معاذ فتح الميم والفاء ، هذا واستدل بالآية على حسن الهجرة لسلامة الدين وقبح المقام في دار الكفر إذا لم يمكن المقام فيها إلا بإظهار كلمة الكفر وباللّه تعالى التوفيق.
وَتَرَى الشَّمْسَ بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف ولم يصرح سبحانه به تعويلا على ما سبق من قوله تعالى :
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ وما لحق من إضافة الكهف إليهم وكونهم في فجوة منه ، وجوز أن يكون إيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح لظهور جريانهم على موجب الأمر لكونه صادرا عن رأي صائب وقد حذف سبحانه وتعالى أيضا جملا أخرى لا تخفى ، والخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يصلح له وهو للمبالغة في الظهور وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية بل الإنباء بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس إِذا طَلَعَتْ تزاور أي تتنحى وأصله تتزاور بتاءين فحذف أحدهما تخفيفا وهي قراءة الكوفيين الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وأبي عبيدة وأحمد بن جبير الأنطاكي ومحمد بن عيسى الأصبهاني ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو «تزّاور» بفتح التاء وتشديد الزاي ، وأصله أيضا تتزاور إلا أنه أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا ، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن عامر وقتادة وحميد ويعقوب عن العمري

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 212
«تزور» كتحمر وهو من بناء الأفعال من غير العيوب والألوان ، وقد جاء ذلك نادرا وقرأ جابر والجحدري وأبو رجاء والسختياني وابن أبي عبلة ووردان عن أبي أيوب «تزوار» كتحمار وهو في البناء كسابقه ، وقرأ ابن مسعود. وأبو المتوكل «تزوئّر» بهمزة قبل الراء المشددة كتطمئن ، ولعله إنما جيء بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان جائزا في مثل ذلك مما كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله وكلها من الزور بفتحتين مع التخفيف وهو الميل ، وقيده بعضهم بالخلقي ، والأكثرون على الإطلاق ومنه الأزور المائل بعينه إلى ناحية ويكون في غير العين قال ابن أبي ربيعة :
وجنبي خيفة القرم أزور وقال عنتزه :
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلى بعبرة وتحمحم
وقال بشر بن أبي حازم :
تؤم بها الحداة مياه نخل وفيها عن أبانين ازورار
ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور أي الكذب لميله عن الواقع وعدم مطابقته ، وكذا الزور بمعنى الصنم في قوله :
جاؤوا بزوريهم وجئنا بالأصم وقال الراغب : إن الزور بتحريك الواو ميل في الزور بتسكينها وهو أعلى الصدر ، والأزور المائل الزور أي الصدر وزرت فلانا تلقيته بزوري أو قصدت زوره نحو وجهته أي قصدت وجهه ، والمشهور ما قدمناه ، وحكي عن أبي الحسن أنه قال : لا معنى لتزور في الآية لأن الازورار الانقباض ، وهو طعن في قراءة ابن عامر ومن معه بما يوجب تغيير الكنية ، وبالجملة المراد إذا طلعت تروغ وتميل عَنْ كَهْفِهِمْ الذي آووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة ذاتَ الْيَمِينِ أي جهة ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرب أو جهة ذات يمين الفتية ومآله كسابقه ، وهو نصب على الظرفية. قال المبرد : في المقتضب ذات اليمين وذات الشمال من الظروف المتصرفة كيمينا وشمالا.
وَإِذا غَرَبَتْ أي تراها عند غروبها تَقْرِضُهُمْ أي تعدل عنهم ، قال الكسائي : يقال قرضت المكان إذا عدلت عنه ولم تقر به ذاتَ الشِّمالِ أي جهة ذات شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرق ، وقال غير واحد :
هو من القرض بمعنى القطع تقول العرب : قرضت موضع كذا أي قطعته. قال ذو الرمة :
إلى طعن يقرضن أقواز «1» مشرف شمالا وعن إيمانهن الفوارس
والمراد تتجاوزهم وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي في متسع من الكهف ، وهي على ما قيل من الفجا وهو تباعد ما بين الفخذين يقال رجل أفجى وامرأة فجواء ، وتجمع على فجاء وفجا وفجوات. وحاصل الجملتين أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس أصلا فتؤذيهم وهم في وسط الكهف بحيث ينالهم روح الهواء ، ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس ، وذلك لأن باب الكهف كما قال عبد اللّه بن مسلم وابن عطية كان في مقابلة بنات نعش وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن ، وهو الذي يلي المغرب ، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جنبه ، وتحلل عفونته وتعدل هواه ولا تقع عليهم فتؤذي أجسادهم وتبلي ثيابهم ، ولعل ميل الباب إلى جانب المغرب كان أكثر ولذلك وقع التزاور على كهفهم والقرض على أنفسهم وقال الزجاج : ليس ذلك لما ذكر بل لمحض صرف اللّه تعالى الشمس بيد قدرته عن
___________
(1) القوز بالقاف والزاي المعجمة الكثيب الصغير ، ويروى أجواز ، والمشرف اسم رملة معروفة ، والفوارس رمال معروفة بالدهناء اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 213
أن تصيبهم على منهاج خرق العادة كرامة لهم وجيء بقوله تعالى : وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ حالا مبينة لكون ما ذكر أمرا بديعا كأنه قيل ترى الشمس تميل عنهم يمينا وشمالا ولا تحوم حولهم مع كونهم في متسع من الكهف معرض لإصابتها لولا أن كفها عنهم كف التقدير ، واحتج عليه بقوله تعالى ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ حيث جعل ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من التزاور والقرض في الطلوع والغروب يمينا وشمالا ، ولا يظهر كونه آية على القول السابق ظهوره على قوله فإن كونه آية دالة على كمال قدرة اللّه تعالى وحقية التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه على هذا أظهر من الشمس في رابعة النهار. وكان ذلك قبل سد باب الكهف على ما قيل ، وقال أبو علي : معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئا ثم تزول سريعا وتسترد ضوءها فهو كالقرض يسترده صاحبه ، وحاصل الجملتين عنده أن الشمس تميل بالغدوة عن كهفهم وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة ، ورد بأنه لم يسمع للقرض بهذا المعنى فعل ثلاثي ليفتح حرف المضارعة ، واختار بعضهم كون المراد ما ذكر إلا أنه جعل تقرضهم من القرض لهم وأن المعنى وإذا غربت تقطع لهم من ضوئها شيئا ، والسبب لاختياره ذلك توهمه أن الشمس لو لم تصب مكانهم أصلا لفسد هواؤه وتعفن ما فيه فيصير ذلك سببا لهلاكهم وفيه ما فيه ، وأكثر المفسرين على أنهم لم تصبهم الشمس أصلا وإن اختلفوا في منشأ ذلك.
واختار جمع أنه لمحض حجب اللّه تعالى الشمس على خلاف ما جرت به العادة قالوا : والإشارة تؤيد ذلك أتم تأييد والاستبعاد مما لا يلتفت إليه لا سيما فيما نحن فيه فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة.
وبعض من ذهب إلى أن المنشأ كون باب الكهف في مقابلة بنات نعش جعل ذلك إشارة إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنه وبعض آخر جعله إشارة إلى حفظ اللّه تعالى إياهم في ذلك الكهف المدة الطويلة وآخر جعله إشارة إلى اطلاعه سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم على أخبارهم. واعترض على الأخيرين بأنه لا يساعدهما إيراد ذلك في تضاعيف القصة ، وجعله بعضهم إشارة إلى هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم وإيوائهم إلى كهف شأنه ذلك ولا يخلو عن حسن وإليه أميل واللّه تعالى أعلم.
وقرئ «يقرضهم» بالياء آخر الحروف ولعل الضمير عائد على غروب الشمس.
وقال أبو حيان : أي يقرضهم الكهف مَنْ يَهْدِ اللَّهُ من يدله سبحانه دلالة موصولة إلى الحق ويوفقه لما يحبه ويرضاه فَهُوَ الْمُهْتَدِ الفائز بالحظ الأوفر في الدارين ، والمراد إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب والاخبار بتحقق ما أملوه من نشر الرحمة وتهيئة المرفق أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المشفع بها من وفقه اللّه تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها فالمراد بمن إما الفتية أو ما يعمهم وغيرهم وفيه ثناء عليهم أيضا وهو كما ترى.
وجعله بعضهم ثناء على اللّه تعالى لمناسبة قوله سبحانه وَزِدْناهُمْ هُدىً وربطنا وملاءمة قوله عز وجل وَمَنْ يُضْلِلْ يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أبدا وإن بالغت في التتبع والاستقصاء وَلِيًّا ناصرا مُرْشِداً يهديه إلى الحق ويخلصه من الضلال لاستحالة وجوده في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه إذ لو أريد مدحهم لا كتفى بقوله تعالى «فهو المهتد» وفيه أنه لا يطابق المقام والمقابلة لا تنافي المدح بل تؤكده ففيه تعريض بأنهم أهل الولاية والرشاد لأن لهم الولي المرشد ، ولعل في الآية صنعة الاحتباك.
وَتَحْسَبُهُمْ بفتح السين.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسرها أي تظنهم ، والخطاب فيه كما فيما سبق. والظاهر أن هذا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 214
إخبار مستأنف وليس على تقدير شيء ، وقيل في الكلام حذف والتقدير ولو رأيتهم تحسبهم أَيْقاظاً جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد ونكد كما في الكشاف وبضمها كأعضاد وعضد كما في الدر المصون.
وفي القاموس رجل يقظ كندس وكتف فحكى اللغتين ضم العين وكسرها وهو اليقظان ومدار الحسبان انفتاح عيونهم على هيئة الناظر كما قال غير واحد. وقال ابن عطية : يحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير وذلك لأن الغالب على النيام استرخاء وهيئات يقتضيها النوم فإذا لم تكن لنائم يحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في هذا الحسبان.
وقال الزجاج : مداره كثرة تقلبهم ، واستدل عليه بذكر ذلك بعد ، وفيه أنه لا يلائمه وَهُمْ رُقُودٌ جمع راقد أي نائم ، وما قيل إنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود لأن فاعلا لا يجمع على فعول مردود لأنه نص على جمعه كذلك النحاة كما صرح به في المفصل والتسهيل ، وهذا تقرير لما لم يذكر فيما سلف اعتمادا على ذكره السابق من الضرب على آذانهم وَنُقَلِّبُهُمْ في رقدتهم كثيرا ذاتَ الْيَمِينِ أي جهة تلي أيمانهم وَذاتَ الشِّمالِ أي جهة تلي شمائلهم كيلا تأكل الأرض ما عليها من أبدانهم كما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن جبير ، واستبعد ذلك وقال الإمام : إنه عجيب فإن اللّه تعالى الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو عز وجل قادر على حفظ أبدانهم أيضا من غير تقليب ، وأجيب بأنه اقتضت حكمته تعالى أن يكون حفظ أبدانهم بما جرت به العادة وإن لم نعلم وجه تلك الحكمة ، ويجري نحو هذا فيما قيل في التزاور وأخيه ، وقيل يمكن أن يكون تقليبهم حفظا لما هو عادتهم في نومهم من التقلب يمينا وشمالا اعتناء بشأنهم.
وقيل يحتمل أن يكون ذلك إظهارا لعظيم قدرته تعالى في شأنهم حيث جمع تعالى شأنه فيهم الإنامة الثقيلة المدلول عليها بقوله تعالى : فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ [الكهف : 11] والتقليب الكثير ، ومما جرت به العادة أن النوم الثقيل لا يكون فيه تقلب كثير ، ولا يخفى بعده. واختلف في أوقات تقليبهم فأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهم كانوا يقلبون في كل ستة أشهر مرة ، وأخرج غير واحد عن أبي عياض نحوه ، وقيل يقلبون في كل سنة مرة ، وذلك يوم عاشوراء ، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن التقليب في التسع سنين الضميمة ليس فيما سواها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن هذا التقليب في رقدتهم الأولى يعني الثلاثمائة سنة ، وكانوا يقلبون في كل عام مرة ولم يكن في مدة الرقدة الثانية يعني التسع.
وتعقب الإمام ذلك بأن هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيها خبر صحيح انتهى. فظاهر الآية يدل على الكثرة لمكان المضارع الدال على الاستمرار التجددي مع ما فيه من التثقيل ، والظاهر أن وَنُقَلِّبُهُمْ إخبار مستأنف ، وجوز الطيبي بناء على ما سمعت عن الزجاج كون الجملة في موضع الحال وهو كما ترى ، وقرىء «ويقلبهم» بالياء آخر الحروف مع التشديد والضمير للّه تعالى ، وقيل للملك.
وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في الإقناع «ويقلبهم» بياء مفتوحة وقاف ساكنة ولام مخففة ، وقرأ فيما حكى ابن جني «وتقلبهم» على المصدر منصوبا ، ووجهه أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه «وتحسبهم» أي وترى أو تشاهد تقلبهم ، وروي عنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه رفع ، وهو على الابتداء كما قال أبو حاتم والخبر ما بعد أو محذوف أي آية عظيمة أو من آيات اللّه تعالى ، وحكى ابن خالويه هذه القراءة عن اليماني وذكر أن عكرمة قرأ «وتقلبهم» بالتاء ثالثة الحروف مضارع قلب مخففا ، ووجه بأنه على تقدير وأنت تقلبهم وجعل الجملة حالا من فاعل تَحْسَبُهُمْ وفي إشارة إلى قوة اشتباههم بالإيقاظ بحيث إنهم يحسبون إيقاظا في حال سبر أحوالهم وقلبهم ذات اليمين وذات الشمال

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 215
وَكَلْبُهُمْ الظاهر أنه الحيوان المعروف النباح ، وله أسماء كثيرة أفرد لها الجلال السيوطي رسالة ،
قال كعب الأحبار : هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا. فقال لهم : ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحياء اللّه تعالى فناموا وأنا أحرسكم
،
وروي عن ابن عباس أنه كلب راع مروا به فتبع دينهم وذهب معهم وتبعهم الكلب ، وقال عبيد بن عمير : هو كلب صيد أحدهم ، وقيل : كلب غنمه ولا بأس في شريعتنا باقتناء الكلب لذلك وأما فيما عداه وما عدا ما ألحق به فمنهي عنه ، ففي البخاري عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية نقص كل يوم من عمله قيراطان ، وفي رواية قيراط ، واختلف في لونه فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان قال : قال لي رجل بالكوفة يقال له عبيد وكان لا يتهم بكذب رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء أنبجاني ، وأخرج عن كثير النواء قال : كان الكلب أصفر ، وقيل كان أنمر «1» وروي ذلك عن ابن عباس ، وقيل غير ذلك ، وفي اسمه فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قطمير ، وأخرج عن مجاهد أنه قطمورا ، وقيل ريان ، وقيل ثور ، وقيل غير ذلك ، وهو في الكبر على ما روي عن ابن عباس فوق القلطي ودون الكردي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيد أنه قال رأيته صغيرا زينينا. قال الجلال السيوطي : يعني صينيا ، وفي التفسير الخازني تفسير القلطي بذلك ، وزعم بعضهم أن المراد بالكلب هنا الأسد وهو على ما في القاموس أحد معانيه.
وقد جاء أنه صلّى اللّه عليه وسلّم دعا على كافر بقوله : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه أسد
وهو خلاف الظاهر ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : قلت لرجل من أهل العلم زعموا أن كلبهم كان أسدا فقال : لعمر اللّه ما كان أسدا ولكنه كان كلبا أحمر خرجوا به من بيوتهم يقال : له قطمورا وأبعد من هذا زعم من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم ، نعم حكى أبو عمرو الزاهدي غلام ثعلب أنه قرىء «وكالبهم» بهمزة مضمومة بدل الباء وألف بعد الكاف من كلأ إذا حفظ. ولا يبعد فيه أن يراد الرجل الربيئة لكن ظاهر القراءة المتواترة يقتضي إرادة الكلب المعروف منه أيضا وإطلاق ذلك عليه لحفظه ما استحفظ عليه وحراسته إياه. وقيل في هذه القراءة إنها تفسير أو تحريف ، وقرأ جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه «وكالبهم» بباء موحدة وزنة اسم الفاعل
والمراد صاحب كلبهم كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر وجاء في شأن كلبهم أنه يدخل الجنة يوم القيامة. فعن خالد ابن معدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم ، ورأيت في بعض الكتب أن ناقة صالح وكبش إسماعيل أيضا في الجنة ورأيت أيضا أن سائر الحيوانات المستحسنة في الدنيا كالظباء والطواويس وما ينتفع به المؤمن كالغنم تدخل الجنة على كيفية تليق بذلك المكان وتلك النشأة وليس فيما ذكر خبر يعول عليه فيما أعلم نعم في الجنة حيوانات مخلوقة فيها ، وفي خبر يفهم من كلام الترمذي صحته التصريح بالخيل منها واللّه تعالى أعلم.
وقد اشتهر القول بدخول هذا الكلب الجنة حتى إن بعض الشيعة يسمون أبناءهم بكلب علي ويؤمل من سمي بذلك النجاة بالقياس الأولوي على ما ذكر وينشد :
فتية الكهف نجا كلبهم كيف لا ينجو غدا كلب علي
ولعمري إن قبله علي كرم اللّه تعالى وجهه كلبا له نجا ولكن لا أظن يقبله لأنه عقور باسِطٌ ذِراعَيْهِ مادهما ، والذراع من المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى ونصب ذِراعَيْهِ على أنه مفعول باسِطٌ وعمل مع أنه بمعنى الماضي واسم الفاعل لا يعمل إذا كان كذلك لأن المراد حكاية الحال الماضية. وذهب الكسائي وهشام وأبو جعفر
___________
(1) أي فيه نمرة بيضاء ونمرة سوداء اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 216
ابن مضاء إلى جواز عمل اسم الفاعل كيفما كان فلا سؤال ولا جواب بِالْوَصِيدِ بموضع الباب ومحل العبور من الكهف وأنشدوا :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
وهو المراد بالفناء في التفسير المروي عن ابن عباس ومجاهد وعطية ، وقيل بالعتبة والمراد بها ما يحاذي ذلك من الأرض لا المتعارف ، فلا يقال إن الكهف لا باب له ولا عتبة على أنه لا مانع من ذلك.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أن الوصيد الصعيد وليس بذاك وذكروا في حكمة كونه بالوصيد غيرنا ومعهم أن الملائكة عليهم السلام لا تدخل بيتا فيه كلب وقد يقال : إن ذلك لكونه حارسا كما يشير إليه ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال : باسط ذراعيه بالوصيد يمسك عليهم باب الكهف وكان فيما قيل يكسر أذنه اليمنى وينام عليها إذا قلبوا ذات اليمين ، ويكسر أذنه اليسرى وينام عليها إذا قلبوا ذات الشمال ، والظاهر أنه نام كما ناموا لكن أخرج ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن حميد المكي أنه جعل رزقه في لحس ذراعيه فإنه كالظاهر أنه لم يستغرق نومه كما استغرق نومهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لو عاينتهم وشاهدتهم وأصل الاطلاع الوقوف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة ، وقرأ ابن وثاب والأعمش «لو اطلعت» بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير فإنها قد تضم إذا لقيها ساكن نحو رموا السهام وروي أن ذلك عن شيبة وأبي جعفر.
لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً أي لأعرضت بوجهك عنهم وأوليتهم كشحك ، ونصب فِراراً إما على المصدر لوليت إذ التولية ، والفرار من واد واحد فهو كجلست قعودا أو لفررت محذوفا ، وإما على الحالية بتأويله باسم الفاعل أو بجعله من باب فإنما هي إقبال وإدبار ، وإما على أنه مفعول لأجله أي لرجعت لأجل الفرار وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي خوفا يملا الصدر ، ونصب على أنه مفعول ثان ، ويجوز أن يكون تمييزا وهو محول عن الفاعل ، وكون الخوف يملأ مجاز في عظمه مشهور كما يقال في الحسن إنه يملأ العيون.
وفي البحر أبعد من ذهب إلى أنه تمييز محول عن المفعول كما في قوله تعالى شأنه : وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر : 12] لأن الفعل لو سلط عليه ما تعدى إليه تعدي المفعول به بخلاف ما في الآية ، وسبب ما ذكر أن اللّه عز وجل ألقى عليهم من الهيبة والجلال ما ألقى ، وقيل سببه طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغير أطمارهم وقيل : إظلام المكان وإيحاشه.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن القولين ليسا بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلا المعالم والبناء لا حال نفسه ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الإيقاظ وهم في فجوة موصوفة بما مر فكيف يكون مكانهم موحشا اه.
وأجيب بأنهم لا يبعد عدم تيقظهم لحالهم فإن القائم من النوم قد يذهل عن كثير من أموره ويدعى استمرار الغفلة في الرسول وإنكاره للمعالم لا ينافي إنكار الناس لحاله وكونه على حالة منكرة لم يتنبه لها ، وأيضا يجوز أنهم لم يطلعوا على حالهم ابتداء فقالوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ثم تنبهوا له فقالوا : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ، وأيضا يجوز أن يكون هذا الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وذلك الحال إنما حدث بعد انتباههم الذي بعثوا فيه رسولهم إلى المدينة ، وعلى هذا لا يضر عدم إنكار الرسول حال نفسه لأنه لم يحدث له ما ينكر بعد ، وإيحاش المكان يجوز أن يكون حدث بعد على هذا أيضا ، وذلك بتغيره بمرور الزمان اه ، ولا يخفى على منصف ما في هذه الأجوبة فالذي ينبغي أن يعول عليه أن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 217
السبب في ذلك ما ألقى اللّه تعالى عليهم من الهيبة وهم في كهفهم وأن شعورهم وأظفارهم إن كانت قد طالت فهي لم تطل إلى حد ينكره من يراه ، واختار بعض المفسرين أن اللّه تعالى لم يغير حالهم وهيئتهم أصلا ليكون ذلك آية بينة ، والخطاب هنا كالخطاب فيما سبق ، وعلى احتمال أن يكون له صلّى اللّه عليه وسلّم يلزم أن يكونوا باقين على تلك الحالة التي توجب فرار المطلع عليهم ومزيد رعبه إلى ما بعد نزول الآية فمن لا يقول به لا يقول به.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذين ذكر اللّه تعالى في القرآن فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس : ليس ذلك لك قد منع اللّه تعالى ذلك من هو خير منك فقال : لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا وقال : اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا فذهبوا فلما دخلوه بعث اللّه تعالى عليهم ريحا فأخرجتهم ، قيل وكأن معاوية إنما لم يجر على مقتضى كلام ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ظنا منه تغير حالهم عما كانوا عليه أو طلبا لعلمهم مهما أمكن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : كان لي صاحب ماض شديد النفس فمر بجانب الكهف فقال :
لا أنتهي حتى أنظر إليهم فقيل له : لا تفعل أما تقرأ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ إلخ فأبى إلا أن ينظر فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره وكان يخبر الناس بأن عدتهم سبعة ، وربما يستأنس بمثل هذه الأخبار لوجودهم اليوم بل لبقائهم على تلك الحالة التي لا يستطاع معها الوقوف على أحوالهم وفي ذلك خلاف.
فحكى السهيلي عن قوم القول به ، وعن ابن عباس إنكاره فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة ، ولا يخفى ما بين هذا الخبر والخبر السابق عنه بل والآخر أيضا من المخالفة ، والذي يميل القلب إليه عدم وجودهم اليوم وإنهم إن كانوا موجودين فليسوا على تلك الحالة التي أشار اللّه تعالى إليها وأن الخطاب الذي في الآية لغير معين وأن المراد منها الأخبار عن أنهم بتلك الحالة في ذلك الوقت ، وما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أصحاب الكهف أعوان المهدي»
على تقدير صحته لا يدل على وجودهم اليوم على تلك الحالة وأنه عليه الصلاة والسلام على القول بعموم الخطاب ليس من الأفراد المعينة به لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم اطلع على ما هو أعظم منهم من ملكوت السموات والأرض ، ومن جعله صلّى اللّه عليه وسلّم معينا قال : المراد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا بحكم جري العادة والطبيعة البشرية وعدم ترتب الجزاء على اطلاعه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما هو أعظم منهم أمر خارق للعادة ومنوط بقوة ملكية بل بما هو فوقها أو المراد لو اطلعت عليهم بنفسك من غير أن نطلعك عليهم لوليت منهم فرارا إلخ واطلاعه عليه الصلاة والسلام على ما اطلع عليه كان باطلاع اللّه عز وجل إياه وفرق بين الإطلاعين.
يحكى أن موسى عليه السلام وجعه بطنه فشكى إلى ربه سبحانه فقال له : اذهب إلى نبات كذا في موضع كذا فكل منه فذهب وأكل فذهب ما كان يجد ثم عاوده ذلك بعد سنوات فذهب إلى ذلك النبات فأكل منه فلم ينتفع به فقال يا رب أنت أعلم وجعني بطني في سنة كذا فأمرتني أن أذهب إلى نبات كذا فذهبت فأكلت فانتفعت ثم عاودني ما كنت أجد فذهبت إلى ذلك وأكلت فلم أنتفع فقال سبحانه : أتدري يا موسى ما سبب ذلك؟ قال : لا يا رب قال :
السبب أنك في المرة الأولى ذهبت منا إلى النبات وفي المرة الثانية ذهبت من نفسك إليه
.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 218
ومما يستهجن من القول ما يحكى عن بعض المتصوفة أنه سمع قارئا يقرأ هذه الآية فقال : لو اطلعت أنا ما وليت منهم فرارا وما ملئت منهم رعبا.
وما نقل عن بعضهم من الجواب بأن مراد قائله إثبات مرتبة الطفولية لنفسه فإن الطفل لا يهاب الحية مثلا إذا رآها ولا يفرق بينها وبين الحبل على تقدير تسليم أن مراده ذلك لا يدفع الاستهجان ، وذلك نظير قول من قال سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب على معنى أنه لا غيب بالنسبة إليه عز وجل ليتعلق به علمه ، ولنعم ما قال عمر رضي اللّه تعالى عنه : كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم.
هذا وقرأ ابن عباس والحرميان وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولملئت» بتشديد اللام والهمزة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وقلب الهمزة ياء وقرأ الزهري بالتخفيف والقلب وقرأ أبو جعفر وعيسى «رعبا» بضم العين وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي كما أنمناهم هذه الإنامة الطويلة وهي المفهومة مما مر أيقظناهم فالمشبه الإيقاظ والمشبه به الإنامة المشار إليها ووجه الشبه كون كل منهما آية دالة على كمال قدرته الباهرة عز وجل.
لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة وجعل علة للبعث المعلل بما سبق فيما سبق قيل من حيث إنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر آثاره ، وجعل غير واحد اللام للعاقبة ، واستظهره الخفاجي وادعى أن من فعل ذلك لاحظ أن الغرض من فعله تعالى شأنه إظهار كمال قدرته لا ما ذكر من التساؤل فتأمل.
قالَ استئناف لبيان تساؤلهم قائِلٌ مِنْهُمْ قيل هو كبيرهم مكسلمينا ، وقيل صاحب نفقتهم يمليخا كَمْ لَبِثْتُمْ أي كم يوما أقمتم نائمين ، وكأنه قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة ، وقيل راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك : قالُوا أي قال بعضهم : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أو للشك كما قاله غير واحد ، والمراد لم نتحقق مقدار لبثنا أي لا ندري أن مدة ذلك هل هي مقدار مدة يوم أو مقدار مدة بعض يوم منه ، والظاهر أنهم قالوا ذلك لأن لوثة النوم لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم فلم ينظروا إلى الأمارات ، وهذا مما لا غبار عليه سواء كان نومهم وانتباههم جميعا أو أحدهما في النهار أم لا ، والمشهور أن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار ، وقيل فلم يدروا أن انتباههم في اليوم الذي ناموا فيه أم في اليوم الذي بعده فقالوا ما قالوا ، واعترض بأن ذلك يقتضي أن يكون التردد في بعض يوم ويوم وبعض ، ومن هنا قيل إن أو للإضراب ، وذلك أنهم لما انتبهوا آخر النهار وكانوا في جوف الغار ولوثة النوم لم تفارقهم بعد قالوا قبل النظر لَبِثْنا يَوْماً ثم لما حققوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا : أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأنت تعلم أن الظاهر أنها لك والاعتراض مندفع بإرادة ما سمعت منه ، نعم هو في ذلك مجاز ، وحكى أبو حيان أنها للتفصيل على معنى قال بعضهم : لبثنا يوما ، وقال آخرون : لبثنا بعض يوم وقول كل مبنى على غالب الظن على ما قيل فلا يكون كذبا ولا يخفى أن القول بأنها للتفصيل مما لا يكاد يذهب إليه الذهن ، ولا حاجة إلى بناء الأمر على غالب الظن لنفي أن يكون كذبا بناء على ما ذكرنا من أن المراد لم نتحقق مقداره كما ذكره أهل المعاني في قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقد سلم سهوا من صلاة رباعية فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللّه؟ قال : كل ذلك لم يكن قالُوا أي قال بعض آخر منهم استدلالا أو
إلهاما رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم ، وإنما يعلمها اللّه سبحانه ، وهذا رد منهم على الأولين على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق ، وقيل قائل القولين متحد لكن الحالة مختلفة.
وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 219
على منهاج المحاورة والمجاوبة وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ أي واحدا منكم ولم يقل واحدكم لإيهامه إرادة سيدكم فكثيرا ما يقال جاء واحد القوم ويراد سيدهم بِوَرِقِكُمْ أي بدراهمكم المضروبة كما هو مشهور بين اللغويين ، وقيل الورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة ، واستدل عليه بما وقع في حديث عرفجة أنه لما قطع أنفه اتخذ أنفا من ورق فانتن فاتخذ أنفا من ذهب فإن الظاهر أنه أطلق فيه الورق على غير المضروب من الفضة ، وقول الأصمعي كما حكى عنه القتيبي الورق في الحديث بفتح الراء ، والمراد به الورق الذي يكتب فيه لأن الفضة لا تنتن لا يعول عليه والمنتن الذي ذكره لا صحة له ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية ، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان «بورقكم» بإسكان الراء ، وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف ، وكذا إسماعيل عن ابن محيصن ، وعنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه كسر الراء لئلا يلزم التقاء الساكنين على غير حده كما في الرواية الأخرى ، وبهذا اعترض عليها ، وأجيب بأن ذلك جائز وواقع في كلام العرب لكن على شذوذ ، وقد قرىء «نعما» بسكون العين والإدغام ، وما قيل إنه لا يمكن التلفظ به قيل عليه إنه سهو ، وحكى الزجاج أنه قرىء بكسر الواو وسكون الراء من غير إدغام. وقرأ على كرم اللّه تعالى وجهه «بوارقكم» على وزن فاعل
جعله اسم جمع كباقر وحامل ، ووصف الورق بقوله تعالى : هذِهِ يشعر بأن القائل أحضرها ليناولها بعض أصحابه وإشعاره بأنه ناولها إياه بعيد ، وفي حملهم لها دليل على أن التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله بحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على اللّه تعالى كما
في الحديث «اعقلها وتوكل»
نعم قال بعض الأجلة : إن توكل أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر ودخول تميم في الغار التي خرجت منه نار الحرة ليردها بأمر عمر رضي اللّه تعالى عنه.
وقد نص الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة على جواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبب لمن قوي يقينه وتوكله ، وفسر الإمام أحمد التوكل بقطع الاستشراف باليأس من المخلوقين ، واستدل عليه
بقول إبراهيم عليه السلام حين عرض له جبريل عليه السلام يوم ألقي في النار وقال له : ألك حاجة؟ أما إليك فلا
، وليس طرح الأسباب سبيل توكل الخواص عند الصوفية فقط كما يشعر به كلام بعض الفضلاء بل جاء عن غيرهم أيضا إِلَى الْمَدِينَةِ المعهودة وهي المدينة التي خرجوا منها قيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها يوم خرجوا منها أفسوس ، وبهذا يجمع بين الروايتين السابقتين ، وكان هذا القول صدر منهم إعراضا عن التعمق في البحث وإقبالا على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبىء عنه الفاء ، وذكر بعضهم أن ذلك من باب الأسلوب الحكيم كقوله :
أتت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي
فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أي أحل فإن أهل المدينة كانوا في عهدهم يذبحون للطواغيت كما روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى أنهم كانوا يذبحون الخنازير ، وقال الضحاك : إن أكثر أموالهم كانت مغصوبة فأزكى من الزكاة وأصلها النمو والزيادة وهي تكون معنوية أخروية وحسية دنيوية وأريد بها الأولى لما في توخي الحلال من الثواب وحسن العاقبة ، وقال ابن السائب. ومقاتل : أي أطيب فإن كان بمعنى أحل لأنه يطلق عليه رجع إلى الأول وإن كان بمعناه المتبادر فالزيادة قيل حسية دنيوية ، وقال عكرمة : أي أكثر.
وقال يمان بن ريان : أي أرخص ، وقال قتادة : أي أجود وهو أجود ، وعليه وكذا على سابقيه على ما قيل تكون الزيادة حسية دنيوية أيضا زعم بعضهم أنهم عنوا بالأزكى الأرز وقيل التمر وقيل الزبيب ، وحسن الظن بالفتية يقتضي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 220
أنهم تحروا الحلال ، والنظر يحتمل أن يكون من نظر القلب وأن يكون من نظر العين ، وأي استفهام مبتدأ وأَزْكى خبره والجملة معلق عنها الفعل للاستفهام.
وجوز أن يكون أي موصولا مبنيا مفعولا لينظر وأَزْكى خبر مبتدأ محذوف هو صدر الصلة وضمير أيها إما للمدينة والكلام على تقدير مضاف أي أي أهلها وإما للمدينة مرادا بها أهلها مجازا ، وفي الكلام استخدام ولا حذف ، وإما لما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل فلينظر أي الأطعمة أو المأكل أزكى طعاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي من ذلك الأزكى طعاما فمن لابتداء الغاية أو التبعيض ، وقيل الضمير للورق فيكون من للبدل ، ثم إن الفتية إن لم يكن تحروا الحلال سابقا فليكن مرادهم بالرزق هنا الحلال وإن لم يكن مختصا به عندنا.
واستدل بالآية وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يعلم منه ما فيه على صحة الوكالة والنيابة. قال ابن العربي : وهي أقوى آية في ذلك وفيها كما قال الكيا دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن تفاوتوا في الأكل نعم لا بأس للأكول أن يزيد حصته من الدراهم وَلْيَتَلَطَّفْ أي وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا تقع خصومة تجر إلى معرفته أو ليتكلف اللطف في الاستخفاء دخولا وخروجا ، وقيل ليتكلف ذلك كي لا يغبن فيكون قوله تعالى : وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم تأسيسا على هذا وهو على الأولين تأكيد للأمر بالتلطف وتفسيره بما ذكر من باب الكناية نحو لا أرينك هاهنا وفسره الإمام بلا يخبرن بكم أحدا فهو على ظاهره ، وقرأ الحسن «وليتلطّف» بكسر لام الأمر ، وعن قتيبة الميال «وليتلطف» بضم الياء مبنيا للمفعول. وقرأ هو وأبو صالح ويزيد بن القعقاع «ولا يشعرن بكم أحد» ببناء الفعل للفاعل ورفع أحد على أنه الفاعل إِنَّهُمْ تعليل لما سبق من الأمر والنهي والضمير للأهل المقدر في أيها أو للكفار الذي دل عليه المعنى على ما اختاره أبو حيان ، وجوز أن يعود على (أحد) لأنه عام فيجوز أن يجمع ضميره كما في قوله تعالى :
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة : 47].
إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم أو يظفروا بكم ، وأصل معنى ظهر صار على ظهر الأرض ، ولما كان ما عليها يشاهد ويتمكن منه استعمل تارة في الإطلاع ، وتارة في الظفر والغلبة وعدي بعلى ، وقرأ زيد بن علي «يظهروا» بضم الياء مبنيا للمفعول يَرْجُمُوكُمْ إن لم تفعلوا ما يريدونه منكم وثبتم على ما أنتم عليه ، والظاهر أن المراد القتل بالرجم بالحجارة ، وكان ذلك عادة فيما سلف فيمن خالف في أمر عظيم إذ هو أشفى للقلوب وللناس فيه مشاركة. وقال الحجاج : المراد الرجم بالقول أي السب ، وهو للنفوس الأبية أعظم من القتل أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها مكرهين ، والعود في الشيء بهذا المعنى لا يقتضي التلبس به قبل وروي هذا عن ابن جبير ، وقيل العود على ظاهره ، وهو رجوع الشخص إلى ما كان عليه ، وقد كان الفتية على ملة قومهم أولا ، وإيثار كلمة في على كلمة إلى ، قال بعض المحققين للدلالة على الاستقرار الذي هو أشد كراهة ، وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادة لأن الظاهر من حالهم هو الثبات على الدين المؤدي إليه ، وضمير الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في حمل المبعوث على ما أريد منه والباقين على الاهتمام بالتوصية فإن إمحاض النصح أدخل في القبول واهتمام الإنسان بشأن نفسه أكثر وأوفر.
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي إن دخلتم فيها حقيقة ولو بالكره والإلجاء لن تفوزوا بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ووجه الارتباط على هذا أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لا ستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه ، وبما ذكر سقط ما قيل إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفو في جميع الأزمان فكيف رتب عليه عدم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 221
الفلاح أبدا ، ولا حاجة إلى القول بأن إظهار الكفر مطلقا كان غير جائز عندهم ، ولا إلى حمل يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ على يميلوكم إليها بالإكراه وغيره فتدبر ، ثم إن الفتية بعثوا أحدهما وكان على ما قال غير واحد يمليخا فكان ما أشار اللّه تعالى إليه بقوله سبحانه وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما أنمناهم وبعثناهم فالإشارة إلى الإنامة والبعث والإفراد باعتبار ما ذكر ونحوه.
وقال العز بن عبد السلام في أماليه : الإشارة إلى البعث المخصوص وهو البعث بعد تلك الإنامة الطويلة ، وأصل العثور كما قال الراغب السقوط للوجه يقال عثر عثورا وعثارا إذا سقط لوجهه ، وعلى ذلك قولهم في المثل الجواد لا يكاد يعثر ، وقولهم من سلك الجدد أمن العثار ثم تجوز به في الاطلاع على أمر من غير طلبه.
وقال الإمام المطرزي : لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثرته ورد العثور بمعنى الاطلاع والعرفان فهو في ذلك مجاز مشهور بعلاقة السببية وإن أوهم ذكر اللغويين له أنه حقيقة في ذلك ، وجعله الغوري حقيقة في الاطلاع على أمر كان خفيا وأمر التجوز على حاله ، ومفعول أَعْثَرْنا الأول محذوف لقصد العموم أي وكذلك أطلعنا الناس عليهم.
وقال أبو حيان : أهل مدينتهم لِيَعْلَمُوا أي الذين أطلعناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي وعده سبحانه وتعالى بالبعث على أن الوعد بمعناه المصدري ومتعلقه مقدر أو موعوده تعالى شأنه الذي هو البعث على أن المصدر مؤول باسم المفعول المراد موعوده المعهود ، ويجوز أن يراد كل وعده تعالى أو كل موعوده سبحانه ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا حَقٌّ صادق لا خلف فيه أو ثابت متقحق سيقع ولا بد قيل لأن نومهم الطويل المخالف للمعتاد وانتباههم كالموت والبعث.
وَأَنَّ السَّاعَةَ أي القيامة التي هي في لسان الشرع عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء.
لا رَيْبَ فِيها أي ينبغي أن لا يرتاب الآن في إمكان وقوعها لأنه لا يبقى بيد المرتابين في ذلك بعد النظر والبحث سوى الاستناد إلى الاستبعاد وعلمهم بوقوع ذلك الأمر الغريب والحال العجيب الذي لو سمعوه ولم يتحققوا وقوعه لاستبعدوه وارتابوا فيه ارتيابهم في ذلك يكسر شوكة ذلك الاستبعاد ويهدم ذلك الاستناد فينبغي حينئذ أن لا يرتابوا.
وقال بعض المحققين في توجيه ترتب العلم بما ذكر على الاطلاع : إن من شاهد أنه جل وعلا توفي نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر حافظا أبدانها من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها لا يبقى معه شائبة شك في أن وعده تعالى حق وأنه تعالى يبعث من في القبور فيرد عليهم أرواحهم فيحاسبهم ويجازيهم بحسب أعمالهم اه.
وأنت تعلم أن في استفادة العلم بالمحاسبة والمجازاة من الإطلاع على حال القوم نظرا. واعترض بأن المطلوب في البعث إعادة الأبدان بعد تفرق أجزائها وما في القصة طول حفظ الأبدان وأين هذا من ذلك؟ والقول بأنه متى صح طول حفظ الأبدان المحتاجة إلى الطعام والشراب صح قدرته سبحانه على إعادتها بعد تفرق أجزائها بطريق الأولى غير مسلم. وأجيب بأن طول الحفظ المذكور يدل على قدرته تعالى على ما ذكر بطريق الحدس فليتدبر.
ولعل الأظهر توجيه الترتب بما ذكره أولا ، وتوضيحه أن حال الفتية حيث ناموا في تلك المدة المديدة والسنين العديدة وحبست عن التصرف نفوسهم وتعطلت مشاعرهم وحواسهم من غير تصاعد أبخرة شراب وطعام أو نزول علل وأسقام وحفظت أبدانهم عن التحلل والتفتت وأبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب في سالف الأعوام حتى رجعت الحواس والمشاعر إلى حالها وأطلقت النفوس من عقالها وأرسلت إلى تدبير أبدانها والتصرف في خدامها

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 222
وأعوانها فرأت الأمر كما كان والأعوان هم الأعوان ولم تنكر شيئا عهدته في مدينتها ولم تتذكر طول حبسها عن التصرف في سرير سلطنتها ، وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم ثم لما أطلقت وجدت ربوعا عامرة ومنازل كأنها لم تكن دائرة قائلين قبل أن يكشر عن أنيابه العنا من بعثنا من مرقدنا في الغرابة من صقع واحد ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند ، ووقوع الأول يزيل الارتياب في إمكان وقوع الثاني حيث كان مستندا إلى الاستبعاد في الحقيقة كما سمعت فيما قبل لبطلان أدلة النافين للحشر الجسماني ، نعم في ترتب العلم بأن البعث سيقع لا محالة على نفس الإطلاع على حال الفتية خفاء فإن الظاهر أن العلم المذكور إنما يترتب على إخبار الصادق بوقوعه وعلى إمكانه في نفسه لكن لما كان الاطلاع المذكور سببا للعلم بالإمكان وكان كالجزء الأخير من العلة بالنسبة للكفار الذين بلغهم خبر الصادق قيل بترتب العلم بذلك عليه ، وكذا في ترتب العلم بأن كل ما وعده اللّه تعالى حق على نفس الاطلاع خفاء ولم أر من تعرض لتوجيهه من الفضلاء فتأمل ، ثم لا يخفى أن ذكر قوله تعالى : وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها بعد قوله سبحانه أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ على التفسير الذي سمعت مما لا غبار عليه وليس ذلك من ذكر الإمكان بعد الوقوع ليلغو كما زعمه من زعمه.
وقال بعضهم : إن الظاهر أن يفسر قوله تعالى أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بأن كل ما وعده سبحانه متحقق ويجعل قوله تعالى وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها تخصيصا بعد تعميم على معنى لا ريب في تحققها وهو وجه في الآية إلا أن في دعوى الظهور مقالا فلا تغفل إِذْ يَتَنازَعُونَ ظرف لأعثرنا عليهم قدم عليه الغاية إظهارا لكمال العناية بذكرها. وجوز أبو جيان وأبو البقاء وغيرهما كونه ظرفا لِيَعْلَمُوا وتعقب بأنه يدل على أن التنازع يحدث بعد الإعثار مع أنه ليس كذلك ، وبأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته ، وللمناقشة في ذلك مجال.
وجوز أن يكون ظرفا لحق أو لوعد وهو كما ترى. وأصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم ، وهو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى : فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ [النساء : 59] وضمير يَتَنازَعُونَ لما عاد عليه ضمير لِيَعْلَمُوا أي وكذلك أعثرنا على أصحاب الكهف الناس أو أهل مدينتهم حين يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ويتخاصمون فيه ليرتفع الخلاف ويتبين الحق ، وضمير أَمْرَهُمْ قيل عائد أيضا على مفعول أَعْثَرْنا والمراد بالأمر البعث ، ومعنى إضافته إليهم اهتمامهم بشأنه والوقوف على حقيقة حاله.
وقد اختلفوا فيه فمن مقربه وجاحد وقائل يقول تبعث الأرواح دون الأجساد وآخر يقول ببعثهما معا كما هو المذهب الحق عند المسلمين.
روي أنه بعد أن ضرب اللّه تعالى على آذان الفتية ومضى دهر طويل لم يبق أحد من أمتهم الذين اعتزلوهم وجاء غيرهم وكان ملكهم مسلما فاختلف أهل مملكته في أمر البعث حسبما فصل فشق ذلك على الملك فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد ثم دعا اللّه عز وجل فقال : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم فقيض اللّه تعالى راعي غنم أدركه المطر فلم يزل يعالج ما سد به دقيانوس باب الكهف حتى فتحه وأدخل غنمه فلما كان الغد بعثوا من نومهم فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعاما فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق ورأى الإيمان ظاهرا بالمدينة فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما فلما نظر الورق أنكرها حيث كانت من ضرب دقيانوس كأنها إخفاف الربع فاتهمه بكنز وقال : لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الملك فقال : هي من ضرب الملك أليس ملككم فلانا؟ فقال الرجل : لا بل ملكنا فلان وكان اسمه يندوسيس فاجتمع الناس وذهبوا به إلى الملك وهو خائف فسأله عن شأنه فقص عليه القصة وكان قد سمع أن فتية خرجوا على عهد دقيانوس فدعا مشيخة أهل مدينته وكان رجل منهم عنده أسماؤهم وأنسابهم فسأله فأخبره بذلك وسأل الفتى فقال : صدق ثم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 223
قال الملك : أيها الناس هذه آية بعثها اللّه تعالى لكم ثم خرج هو وأهل المدينة ومعهم الفتى فلما رأى الملك الفتية اعتنقهم وفرح بهم ورآهم جلوسا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فتكلموا معه وأخبروه بما لقوا من دقيانوس فبينما هم بين يديه قالوا له : نستودعك اللّه تعالى والسلام عليك ورحمة اللّه تعالى حفظك اللّه تعالى وحفظ ملكك ونعيذك باللّه تعالى من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم فتوفاهم اللّه تعالى فقام الملك إليهم وجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل كل منهم في تابوت من ذهب فلما كان الليل ونام أتوه في المنام فقالوا : أردت أن تجعل كلا منا في تابوت من ذهب فلا تفعل ودعنا في كهفنا فمن التراب خلقنا وإليه نعود فجعلهم في توابيت من ساج وبنى على باب الكهف مسجدا.
ويروى أن الفتى لما أتي به إلى الملك قال : من أنت؟ قال : أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وأن أسماءهم مكتوبة على لوح في الخزانة فدعا باللوح ونظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم فقال الفتى : وهؤلاء أصحابي فركب القوم ومن معه فلما أتوا باب الكهف قال الفتى : دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إذا رأوكم معي رعبوا فدخل فبشرهم وقبض اللّه تعالى أرواحهم وعمي على الملك ومن معه أثرهم فلم يهتدوا إليهم فبنوا عليهم مسجدا وكان وقوفهم على حالهم بأخبار الفتى وقد اعتمدوا صدقه
وهذا هو المراد بالإعثار عليهم ، وروي غير ذلك ، وقيل : ضمير أَمْرَهُمْ للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان قبل الإعثار أي وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تذاكرهم بينهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار من الأحوال والأهوال ، ولعلهم قد تلقوا ذلك من الأساطير وأفواه الرجال لكنهم لم يعرفوا هل بقوا أحياء أم حل بهم الفناء ، والفاء في قوله تعالى : فَقالُوا ابْنُوا بناء على القول الأول فصيحة بلا ريب على دأب اختصارات القرآن كأنه قيل : وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تنازعهم في أمر البعث فتحققوا ذلك وعلموا أن هؤلاء آية من آياتنا فتوفاهم اللّه تعالى بعد أن حصل الغرض من الإعثار فقالوا ابْنُوا إلى آخره ، وكذلك على القول الثاني كأنه قيل وكذلك أعثرنا الناس على.
أصحاب الكهف حين تذاكرهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار ولم يكونوا عارفين بما هم عليه فوقفوا من أحوالهم على ما وقفوا واتضح لهم ما كانوا قد جهلوا فتوفاهم اللّه تعالى بعد أن حصل الغرض من الإعثار فقالوا ابْنُوا إلى آخره أي قال بعضهم ابنوا عَلَيْهِمْ أي على باب كهفهم بُنْياناً نصب على أنه مفعول به ، وهو كما قال الراغب واحد لا جمع له ، وقال أبو البقاء : هو جمع بنيانة كشعير وشعيرة ، وقيل : هو نصب على المصدرية ، وهذا القول من البعض عند بعض كان عن اعتناء بالفتية وذلك أنهم ضنوا بتربتهم فطلبوا البناء على باب كهفهم لئلا يتطرق الناس إليهم.
وجوزوا في قوله تعالى : رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ بعد القول بأنه اعتراض أن يكون من كلام المتنازعين المعثرين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك فوضوا العلم إلى اللّه تعالى علام الغيوب ، وأن يكون من كلامه سبحانه ردا للخائضين في أمرهم إما من المعثرين أو ممن كان في عهده صلّى اللّه عليه وسلّم من أهل الكتاب وحينئذ يكون فيه التفات على أحد المذهبين ، وقيل : ضمير «أمرهم» للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان بعد الإعثار على أن المعنى إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم وحالهم حين توفوا كيف يفعلون بهم وبماذا يجلون قدرهم أو إذ يتنازعون بينهم أمرهم من الموت والحياة حيث خفي عليهم ذلك بعد الإعثار فلم يدروا هل ماتوا أو ناموا كما في أول مرة ، وعلى هذا تكون إِذْ معمولا لاذكر مضمرا أو ظرفا لقوله تعالى : قالَ الَّذِينَ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 224
غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً
ويكون قوله تعالى : فَقالُوا معطوفا على يَتَنازَعُونَ وإيثار صيغة الماضي للدلالة على أن هذا القول ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازع. وصرح بعض الأجلة أن الفاء على أول المعنيين للتعقيب وعلى ثانيهما فصيحة كأنه قيل : اذكر حين يتنازعون في أنهم ماتوا أو ناموا ثم فرغوا من التنازع في ذلك واهتموا بإجلال قدرهم وتشهير أمرهم فقالوا ابْنُوا إلى آخره ، وذكر الزمخشري احتمال كون ضمير أَمْرَهُمْ للمعثرين وأن المراد من أمرهم أمر دينهم وهو البعث واحتمال كون الضمير للفتية ، والمعنى حينئذ إذ يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم وما أظهر اللّه تعالى من الآية فيهم أو إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم ، وجعل إذ في الأوجه ظرفا لأعثرنا. وذكر صاحب الكشف أن الفاء على الأول فصيحة لا محالة وعلى الأخيرين للتعقيب ، أما على الثاني منهما فظاهر ، وأما على الأول فلأنهم لما تذاكروا قصتهم وحالهم وما أظهر اللّه تعالى من الآية فيهم قالوا : دعوا ذلك وابنوا عليهم بنيانا أي خذوا فيما هو أهم إلى آخر ما قال ، واحتمال جعل الفاء فصيحة على هذا الأول غير بعيد ، وتعلق الظرف بأعثرنا على الوجهين الأخيرين وكذا على ما نقلناه آنفا ليس بشيء لأن إعثارهم ليس في وقت التنازع فيما ذكر بل قبله.
وجعل وقت التنازع ممتدا يقع في بعضه الإعثار وفي بعضه التنازع تعسف لا يخفى مع أنه لا مخصص لإضافته إلى التنازع وهو مؤخر في الوقوع. وحكي في البحر أن ضمير لِيَعْلَمُوا عائد على أصحاب الكهف ، والمراد أعثرنا عليهم ليزدادوا علما بأن وعد اللّه حق إلى آخره ، وجعل ذلك غاية للإعثار بواسطة وقوفهم بسببه على مدة لبثهم بما تحققوه من تبدل القرون ، وجعل إِذْ يَتَنازَعُونَ على هذا ابتداء أخبار عن القوم الذين بعثوا في عهدهم ، وخص الأمر المتنازع فيه بأمر البناء والمسجد ، ويختار حينئذ تعلق الظرف باذكر ، ولا يخفى أن جعل ذلك الضمير للفتية وإن دعا لتأويل يعلموا بما سمعت ليس ببعيد الإرادة من النظم الكريم إذا قطع النظر عن الأمور الخارجية كالآثار ، ولم يذهب أحد فيما أعلم إلى احتمال كون الضمائر في قوله تعالى : إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ عائدة على الفتية كضمير يعلموا ، وإِذْ ظرف أَعْثَرْنا والمراد بالأمر المتنازع مقدار زمن لبثهم وتنازعهم فيه قول بعضهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقول الآخر ردا عليه رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وحيث لم يتضح الحال ولم يحصل الإجماع على مقدار معلوم كان التنازع في حكم الباقي فكان زمانه ممتدا فصح أن يكون ظرفا للإعثار وضمير فَقالُوا للمعثرين والفاء فصيحة أي وكذلك أعثرنا الناس على الفتية وقت تنازعهم في مدة لبثهم ليزدادوا علما بالبعث فكان ما كان وصار لهم بين الناس شأن أي شأن فقالوا ابْنُوا إلى آخره.
وكأن ذلك لما فيه من التكلف مع عدم مساعدة الآثار إياه ، ثم ما ذكر من احتمال كون رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ من كلامه سبحانه جيء به لرد المتنازعين من المعثرين لا يخلو عن بعد ، وأما الاحتمال الأخير فبعيد جدا ، والظاهر أنه حكاية عن المعثرين وهو شديد الملاءمة جدا لكون التنازع في أمرهم من الموت والحياة ، والذي يقتضيه كلام كثير من المفسرين أن غرض الطائفتين القائلين ابْنُوا إلى آخره والقائلين لَنَتَّخِذَنَّ إلى آخره تعظيمهم وإجلالهم ، والمراد من الذين غلبوا على أمرهم كما أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة الولاة ، ويلائمه لَنَتَّخِذَنَّ دون اتخذوا بصيغة الطلب المعبر بها الطائفة الأولى فإن مثل هذا الفعل تنسبه الولاة إلى أنفسها ، وضمير أَمْرَهُمْ هنا قيل للموصول المراد به الولاة ، ومعنى غلبتهم على أمرهم أنهم إذا أرادوا أمرا لم يتعسر عليهم ولم يحل بينه وبينهم أحد كما قيل في قوله تعالى : وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يوسف : 21].
وذكر بعض الأفاضل أن الضمير لأصحاب الكهف ، والمراد بالذين غلبوا قيل الملك المسلم ، وقيل أولياء

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 225
أصحاب الكهف وقيل رؤساء البلد لأن من له الغلبة في هذا النزاع لا بد أن يكون أحد هؤلاء ، والمذكور في القصة أن الملك جعل على باب الكهف مسجدا وجعل له في كل سنة عيدا عظيما. وعن الزجاج أن هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث لأن المساجد إنما تكون للمؤمنين به انتهى.
ويبعد الأول التعبير بما يدل على الجمع ، والثاني إن أريد من الأولياء الأولياء من حيث النسب كما في قولهم أولياء المقتول أنه لم يوجد في أثر أن لأصحاب الكهف حين بعثوا أولياء كذلك. وفسر غير واحد الموصول بالملك والمسلمين ولا بعد في إطلاق الأولياء عليهم كما في قوله تعالى : الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة : 71] ويدل هذا على أن الطائفة الأولى لم تكن كذلك ، وقد روي أنها كانت كافرة وأنها أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجدا. وظاهر هذا الخبر أن المسجد مقابل البيعة ، وما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من أن الملك بنى عليهم بيعة فكتب في أعلاها أبناء الأراكنة أبناء الدهاقين ظاهر في عدم المقابلة ، ولعله الحق لأنه لا يصح أن يراد بالمسجد هنا ما يطلق عليه اليوم من مصلى المحمديين بل المراد به معبد المؤمنين من تلك الأمة وكانوا على ما سمعت أولا نصارى وإن كان في المسألة قول آخر ستسمعه إن شاء اللّه تعالى قريبا ومعبدهم يقال له بيعة ، وظاهر ما تقدم أن المسجد اتخذ لأن يعبد اللّه تعالى فيه من شاء.
وأخرج أبو حاتم عن السدي أن الملك قال : لأتخذن عند هؤلاء القوم الصالحين مسجدا فلأعبدن اللّه تعالى فيه حتى أموت ، وعن الحسن أنه اتخذ ليصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا ، وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولا وإليه ذهب بعضهم بل قيل إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شيء بالخرافات. ثم لا يخفى أنه على القول بأن الطائفة الأولى الطالبة لبناء البنيان عليهم إذا كانت كافرة لم تكن غاية الإعثار متحققة في جميع المعثرين ، ولا يتعين كون رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ مساقا لتنظيم أمر أصحاب الكهف ، ولعل تلك الطائفة لم تتحقق حالهم وأنهم ناموا تلك المدة ثم بعثوا فطلبت انطماس الكهف عليهم وأحالت أمرهم إلى ربهم سبحانه واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي غلبوا بضم الغين وكسر اللام على أن الفعل مبني للمفعول ، ووجه بذلك بأن طائفة من المؤمنين المعثرين أرادت أن لا يبني عليهم شيء ولا يتعرض لموضعهم وطائفة أخرى منهم أرادت البناء وأن لا يطمس الكهف فلم يمكن للطائفة الأولى منعها ووجدت نفسها مغلوبة فقالت : إن كان بنيان ولا بد فلنتخذن عليهم مسجدا.
هذا واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك ، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاي وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد ،
فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «لعن اللّه تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»
ومسلم «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك»
وأحمد عن أسامة وهو والشيخان والنسائي عن عائشة ، ومسلم عن أبي هريرة «لعن اللّه تعالى اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
وأحمد والشيخان والنسائي «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة»
وأحمد والطبراني «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد»
وعبد الرزاق «من شرار أمتي من يتخذ القبور مساجد» وأيضا «كانت بنو إسرائيل اتخذوا القبور مساجد فلعنهم اللّه تعالى»
إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة.
وذكر ابن حجر في الزواجر أنه وقع في كلام بعض الشافعية عد اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 226
والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر ، وكأنه أخذ ذلك مما ذكر من الأحاديث ، ووجه اتخاذ القبر مسجدا واضح لأنه عليه الصلاة والسلام لعن من فعل ذلك في قبور الأنبياء عليهم السلام وجعل من فعل ذلك بقبور الصلحاء شرار الخلق عند اللّه تعالى يوم القيامة ففيه تحذير لنا ، واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه وحينئذ يكون قوله والصلاة إليها مكررا إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط ، نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه
رواية «إذا كان فيهم الرجل الصالح»
ومن ثم قال أصحابنا : تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم وأن يقصد الصلاة إليها ، ومثل الصلاة عليه التبرك والإعظام ، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث ، وكأنه قاس عليه كل تعظيم للقبر كإيقاد السرج عليه تعظيما له وتبركا به والطواف به كذلك وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرح في بعض الأحاديث المذكورة بلعن من اتخذ على القبر سراجا فيحمل قول الأصحاب بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيما وتبركا بذي القبر.
وقال بعض الحنابلة : قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا به عين المحادة للّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وإبداع دين لم يأذن به اللّه عز وجل للنهي عنها ثم إجماعا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها ، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام نهي عن ذلك وأمر بهدم القبور المشرفة ، وتجب إزالة كل قنديل وسراج على قبر ولا يصح وقفه ولا نذره اه.
وفي المنهاج وشرحه للعلامة المذكور ويكره تجصيص القبر والبناء عليه في حريمه وخارجه في غير المسبلة إلا إن خشي نبش أو حفر سبع أو هدم سيل ويحرم البناء في المسبلة ، وكذا تكره الكتابة عليه للنهي الصحيح عن الثلاثة سواء كتابة اسمه وغيره في لوح عند رأسه أو في غيره ، نعم بحث الأذرعي حرمة كتابة القرآن لتعريضه للامتهان بالدوس والتنجيس بصديد الموتى عند تكرر الدفن ووقوع المطر ، وندب كتابة اسمه لمجرد التعريف به على طول السنين لا سيما قبور الأنبياء والصالحين لأنه طريق للإعلام المستحب. ولما روي الحاكم النهي قال : ليس العمل عليه الآن فإن أئمة المسلمين من المشرق والمغرب مكتوب على قبورهم فهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. ويرد بمنع هذه الكلية وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبلة كما هو مشاهد لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي ، فإن قلت : هو إجماع فعلي فهو حجة كما صرحوا به قلت : ممنوع بل هو أكثري فقط إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه ، وبفرض كونه إجماعا فعليا فمحل حجيته كما هو ظاهر إنما هو عند صلاح الأزمنة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تعطل ذلك منذ أزمنة.
ولو بني نفس القبر لغير حاجة مما مر كما هو ظاهر أو نحو تحويط أو قبة عليه في مقبرة مسبلة كأرض موات اعتادوا الدفن فيها أو موقوفة لذلك بل هي أولى هدم وجوبا لحرمته كما في المجموع لما فيه من التضييق مع أن البناء يتأبد بعد انمحاق الميت فيحرم الناس تلك البقعة ، وهل من البناء ما اعتيد من جعل أربعة أحجار مربعة محيطة بالقبر مع لصق كل رأس منها برأس الآخر بجص محكم أولا لأنه لا يسمى بناء عرفا؟ والذي يتجه الأول لأن العلة من التأبيد موجودة هنا ، وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك ، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة فيتعين الرفع للإمام أخذا من كلام ابن الرفعة في الصلح انتهى.
وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي كرم اللّه تعالى وجهه أبعثك على ما بعثني عليه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 227
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته ،
قال ابن الهمام في فتح القدير : وهو محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء الحسن العالي ، والأحاديث وكلام العلماء المنصفين المتبعين لما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وجاء عن السلف الصالح أكثر من أن يحصى ، لا يقال : إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا وقد استدل بها
فقد روي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من نام عن صلاة أو نسيها» الحديث ثم تلا قوله تعالى : أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
[طه : 14] وهو مقول لموسى عليه السلام وسياقه الاستدلال.
واحتج محمد على جواز قسمة الماء بطريق المهيأة بقوله تعالى لَها شِرْبٌ [الشعراء : 155] الآية وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر : 28] وأبو يوسف على جري القود بين الذكر والأنثى بآية وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ [المائدة :
45] والكرخي على جريه بين الحر والعبد والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل إلى غير ذلك لأنا نقول :
مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان إنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقا بل إن قصه اللّه تعالى علينا بلا إنكار وإنكار رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم كإنكاره عز وجل ، وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور ، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع ، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفا احتجاج الأئمة بها وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم فمتى لم يثبت أن فيهم معصوما لا يدل فعلهم فضلا عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده ، ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين كما روي عن قتادة.
وعلى هذا لقائل أن يقول : إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده وكف كف التعرض عن أصحابه فلم يقبل الأمراء منهم وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد ، وكان الأولين إنما لم يشيروا بالدفن مع أن الظاهر أنه هو المشروع إذ ذاك في الموتى كما أنه هو المشروع عندنا فيهم لعدم تحققهم موتهم ، ومنعهم من تحقيقه أنهم لم يقدروا كما أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه على الدخول عليهم لما أفيض عليهم من الهيبة ولهذا قالوا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول : إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طرز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه الملعون فاعله وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريبا من كهفهم ، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب ، ومثل هذا الاتخاذ ليس محظورا إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه كنسبة المسجد النبوي إلى المرقد المعظم صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويكون قولهم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ على هذا لمشاكلة قول الطائفة ابْنُوا عَلَيْهِمْ وإن شئت قلت : إن ذلك الاتخاذ كان على الكهف فوق الجبل الذي هو فيه ، وفي خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى على كهفهم مسجدا وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى ، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولا فلا يحتاج إليه على ما قيل ، وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة معولا على الاستدلال بهذه الآية فإن ذلك في الغواية غاية وفي قلة النهي نهاية ، ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من أشرافها وبنائها بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها والصلاة إليها والطواف بها واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك محتجا بهذه الآية الكريمة وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيدا وجعله إياهم في توابيت من ساج ومقيسا البعض على البعض وكل ذلك

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 228
محادة للّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وإبداع دين لم يأذن به اللّه عز وجل.
ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قبره عليه الصلاة والسلام وهو أفضل قبر على وجه الأرض بل أفضل من العرش ، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه عليه الصلاة والسلام فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك واللّه سبحانه وتعالى يتولى هداك.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في تعيين موضع المسجد والكهف وقد مرت عليك بعض الأقوال. وفي البحر أن في الشام كهفا فيه موتى ويزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة ، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف قال ابن عطية. دخلت عليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حصن غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب انتهى ، وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم وأن معهم كلبا ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم ، وأما ما ذكره من المدينة القديمة فقد مررت عليها مرارا لا تحصى وشاهدت فيها حجارة كبارا ، ويترجح كون ذلك بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ولأن الإخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرف إلا بوحي من اللّه تعالى انتهى.
وما تقدم من خبر ابن عباس ومعاوية يضعف ما ادعي ترجحه لأن معاوية لم يدخل الأندلس ، وتسمية الأندلسيين نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم كما في البحر أيضا لا يجدي نفعا ، وقد عول الكثير على أن ذلك في طرسوس واللّه تعالى أعلم.
سَيَقُولُونَ الضمير فيه وفي الفعلين بعد كما اختاره ابن عطية وبعض المحققين لليهود المعاصرين له صلّى اللّه عليه وسلّم الخائضين في قصة أصحاب الكهف ، وأيد بذلك قول الحسن وغيره : إنهم كانوا قبل بعث موسى عليه السلام لدلالته أن لهم علما في الجملة بأحوالهم وهو يستلزم أن يكون لهم ذكر في التوراة وفيه ما فيه.
والظاهر أن هذا إخبار بما لم يكن واقعا بعد كأنه قيل سيقولون إذا قصصت قصة أصحاب الكهف أو إذا سئلوا عن عدتهم هم ثَلاثَةٌ أي ثلاثة أشخاص رابِعُهُمْ أي جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم كَلْبُهُمْ فثلاثة خبر مبتدأ محذوف ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ مبتدأ وخبر ولا عمل لاسم الفاعل لأنه ماض والجملة مي موضع النعت لثلاثة والضميران لها لا للمبتدأ ومن ثم استغنى عنه بالحذف وإلا كان الظاهر أن يقال : هم ثلاثة وكلب لكن بما أريد اختصاصها بحكم بديع الشأن عدل إلى ما ذكر لينبه بالنعت الدال على التفضلة والتمييز على أن أولئك الفتية ليسوا مثل كل ثلاثة اصطحبوا ، ومن ثم قرن اللّه تعالى في كتابه العزيز أخس الحيوانات ببركة صحبتهم مع زمرة المتبتلين إليه المعتكفين في جواره سبحانه وكذا يقال فيما بعد ، وإلى هذا الإعراب ذهب أبو البقاء واختاره العلامة الطيبي وهو الذي أشار إلى ما أشير إليه من النكتة ونظم في سلكها مع الآية
حديث «ما ظنك باثنين اللّه تعالى ثالثهما»
فأوجب ذلك أن شنع بعض أجلة الأفاضل عليه حتى أوصله إلى الكفر ونسبه إليه ، ولعمري لقد ظلمه وخفي عليه مراده فلم يفهمه ، ولم يجوز ابن الحاجب كون الجملة في موضع النعت كما لم يجوز هو ولا غيره كأبي البقاء جعلها حالا وجعلها خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في ذلك.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 229
وتقدير تمييز العدد أشخاص أولى من تقديره رجال لأنه لا تصير الثلاثة الرجال أربعة بكلبهم لاختلاف الجنسين ، وعدم اشتراط اتحاد الجنس في مثل ذلك يأباه الاستعمال الشائع مع كونه خلاف ما ذكره النحاة. والقول بأن الكلب بشرف صحبتهم ألحق بالعقلاء تخيل شعري. وقرأ ابن محيصن «ثلاثة» بإدغام الثاء في التاء تقول أبعث تلك وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ عطف على سَيَقُولُونَ والمضارع وإن كان مشتركا بين الحال والاستقبال إلا أن المراد منه هنا الثاني بقرينة ما قبله فلذا اكتفي عن السين فيه وإذا عطفته على مدخول السين دخل معه في حكمها واختص بالاستقبال بواسطتها لكن قيل إن العطف على ذلك تكلف. وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير «خمسة» بفتح الميم وهو كالسكون لغة فيها نظير الفتح والسكون في العشرة. وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين وعنه أيضا إدغام التنوين في السين بغير غنة رَجْماً بِالْغَيْبِ أي رميا بالخبر الغائب الخفي عنهم الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانا به أو ظنا بذلك ، وعلى الأول استعير الرجم وهو الرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضا ومرمى للمتكلم من غير علم وملاحظة بعد تشبيهه به. وفي الكشف أنه جعل الكلام الغائب عنهم علمه بمنزلة الرجام المرمي به لا يقصد به مخاطب معين ولو قصد لأخطأ لعدم بنائه على اليقين كما أن الرجام قلما يصيب المرجوم على السداد بخلاف السهم ونحوه ولهذا قالوا : قذفا بالغيب ورجما به ولم يقولوا رميا به ، وأما الرمي في السب ونحوه فالنظر إلى تأثيره في عرض المرمي تأثير السهم في الرمية انتهى.
وعلى الثاني شبه ذكر أمر من غير علم يقيني واطمئنان قلب بقذف الحجر الذي لا فائدة في قذفه ولا يصيب مرماه ثم استعير له وضع الرجم موضع الظن حتى صار حقيقة عرفية فيه. وفي الكشف أيضا أنه لما كثر استعمال قولهم : رجما بالظن فهموا من المصدر معناه دون النظر إلى المتعلق فقالوا رجما بالغيب أي ظنا به وعلى ذلك جاء قول زهير :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
حيث أراد المظنون ، وانتصاب رَجْماً هنا على الوجهين إما على الحالية من الضمير في الفعلين أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجم والقول واحد.
وفي البحر أنه ضمن القول معنى الرجم أو من محذوف مستأنف أو واقع موقع الحال من ضمير الفعلين معا أي يرجمون رجما ، وجوز أبو حيان كونه منصوبا على أنه مفعول من أجله أي يقولون ذلك لرميهم بالغيب أو لظنهم بذلك أي الحامل لهم على القول هو الرجم بالغيب وهو كما ترى.
وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ المراد الاستقبال أيضا ، والكلام في عطفه كالكلام في عطف سابقه ، والجملة الواقعة بعد العدد في موضع الصفة له كالجملتين السابقتين على ما نص عليه الزمخشري ، ولم يجعل الواو مانعة عن ذلك بل ذكر أنها الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في قولك : جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله عز وجل وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر : 4] وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي التي أذنت هنا بأن قائلي ما ذكر قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم فهو الحق دون القولين الأولين ، والدليل على ذلك أنه سبحانه وتعالى أتبعهما قوله تبارك اسمه رَجْماً بِالْغَيْبِ واتبع هذا قوله عز وجل قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أي أقوى وأقدم في العلم بها ما يَعْلَمُهُمْ أي ما يعلم عدتهم على ما ينساق إلى الذهن نظرا إلى المقام إِلَّا قَلِيلٌ وعلى إيذان الواو بما ذكر يدل كلام ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، فقد روي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 230
أنه قال : حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها ، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات.
وقد نص عطاء على أن هذا القليل من أهل الكتاب ، وقيل من البشر مطلقا وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال : أنا من أولئك القليل ، وأخرجه عنه غير واحد من طرق شتى ، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود.
وزعم بعضهم أن المراد إلا قليل من الملائكة عليهم السلام لا يرتضيه أحد من البشر ، والمثبت في هذا الاستثناء هو العالمية وذلك لا يضر في كون الأعلمية له عز وجل ، هذا وإلى كون الواو كما ذكر الزمخشري ذهب ابن المنير وقال بعد نقله : وهو الصواب لا كالقول بأنها واو الثمانية فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم ورد ما ذكروه من ذلك ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في موضعه التنبيه عليه.
وقال أبو البقاء : الجملة إذا وقعت صفة للنكرة جاز أن يدخلها الواو وهذا هو الصحيح في إدخال الواو في ثامنهم واعترض على ذلك غير واحد فقال أبو حيان : كون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة ، وأما إذا لم تختلف فلا يجوز العطف ، هذا في الأسماء المفردة ، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها.
وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه : وأما ما جاء بالمعنى وليس باسم ولا فعل إلى أن وليس باسم إلخ صفة لمعنى وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب وليس من كلامهم مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة ، وأما قوله تعالى إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ فالجملة فيه حالية ويكفي ردا لقول الزمخشري أنا لا نعلم أحدا من علماء النحو ذهب إليه اه.
وقال صاحب الفرائد : دخول الواو بين الصفة والموصوف غير مستقيم لاتحاد الصفة والموصوف ذاتا وحكما وتأكيدا للصوق يقتضي الاثنينية مع أنا نقول : لا نسلم أن الواو تفيد التأكيد وشدة اللصوق غاية ما في الباب أنها تفيد الجمع والجمع ينبىء عن الاثنينية واجتماع الصفة والموصوف ينبىء عن الاتحاد بالنظر إلى الذات. وقد ذكر صاحب المفتاح أن قول من قال : إن الواو في قوله تعالى وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ داخلة بين الصفة والموصوف سهو منه «1» وإنما هي واو الحال وذو الحال قَرْيَةٍ وهي موصوفة أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا ولها إلخ ، وأما جاءني رجل ومعه آخر ففيه وجهان ، أحدهما أن يكون جملتين متعاطفتين وثانيهما أن يكون آخر معطوفا على رجل أي جاءني رجل ورجل آخر معه ، وعدل عن جاءني رجلان ليفهم أنهما جاءا مصاحبين ، وأما الواو في مررت بزيد وفي مررت بزيد وفي يده سيف فإنما جاز دخولها بين الحال وذيها لكون الحال في حكم جملة بخلاف الصفة بالنسبة إلى الموصوف فإن جاء زيد راكبا في حكم جاء وهو راكب بخلاف جاء زيد الراكب فافهمه.
سلمنا أنها داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق لكن الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر غير مسلم وأين الدليل عليه؟ وكون الواو هي التي آذنت بأن القول المذكور عن ثبات علم وطمأنينة نفس في غاية البعد ، والقول بأن الاتباع يدل على ذلك إن أريد منه أنه يدل على إيذان الواو بما ذكر فبطلانه ظاهر وإن أريد منه أنه يدل على
___________
(1) الحكم بأنه سهو سهو فقد تكرر من الزمخشري مع بسط وتفصيل فتدبر ما قلنا ولا تعجل اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 231
صدق قائلي القول الأخير وعدم صدق قائلي القولين الأولين فمسلم أن اتباع القولين الأولين برجما بالغيب يدل على عدم الصدق دلالة لا شبهة فيها لكن لا نسلم أن عدم اتباع القول الأخير به واتباعه بما اتبع يدل على ذلك وإن سلمنا فهو يدل دلالة ضعيفة ، ولا نسلم أيضا دلالة كلام ابن عباس على ما ذكر والظاهر أنه علم أن القول الأخير صادق من الصادق المصدوق صلّى اللّه عليه وسلّم وأن مراده من قوله حين وقعت الواو انقطعت العدة أن الذي هو صدق ما وقعت الواو فيه وانقطعت العدة به ، فالحق أن الواو واو عطف والجملة بعده معطوفة على الجملة قبله. وانتصر العلامة الطيبي للزمخشري وأجاب عما اعترض به عليه فقال : اعلم أنه لا بد قبل الشروع في الجواب من تبيين المقصود تحريرا للبحث فالواو هنا ليست على الحقيقة ولا يعتبر في المجاز النقل الخصوصي بل المعتبر فيه اعتبار نوع العلاقة ، وذكروا أن المجاز في عرف البلاغة أولى من الحقيقة وأبلغ وأن مدار علم البيان الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم ولا يتوقف على التوقيف وليس ذلك كعلم النحو ، والمجاز لا يختص بالاسم والفعل بل قد يقع في الحروف.
وقد نقل شارح اللباب عن سيبويه أن الواو في قولهم : بعت الشاة ودرهما بمعنى الباء ، وتحقيقه أن الواو للجمع والباء للإلصاق وهما من واد واحد فسلك به طريق الاستعارة وكم وكم ، وإذا علم ذلك فليعلم أن معنى قوله : فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف أن للصفة نوع اتصال بالموصوف فإذا أريد توكيد اللصوق وسط بينهما الواو ليؤذن أن هذه الصفة غير منفكة عن الموصوف وإليه الإشارة فيما بعد من كلامه ، وأن الحال في الحقيقة صفة لا فرق إلا بالاعتبار ألا ترى أن صفة النكرة إذا تقدمت عليها وهي بعينها تصير حالا ولو لم يكونا متحدين لم يصح ذلك ، ثم إن قولك : جاءني رجل ومعه آخر وقولك : مررت بزيد ومعه آخر لما كانا سواء في الصورة اللهم إلا في اعتبار المعرفة والنكرة كان حكمهما سواء في الواو وهو مراد الزمخشري من إيراد المثالين لا كما فهم بعضهم ، وأما قول الفراهيدي في تعليل امتناع دخول الواو بين الصفة والموصوف لاتحادهما ذاتا وحكما وهو مناف لما يقتضيه دخول الواو من المغايرة فمبني على أن الواو عاطفة لأنها هي التي تقتضي المغايرة كما قال السكاكي وقد بين وجه مجازه لمجرد الربط.
وأما قوله في جاءني رجل ومعه آخر إنه جملتان فهو كما تراه ، وأما قوله : إن جاء زيد راكبا في حكم جاء زيد وهو راكب فمن المعكوس فإن الأصل في الحال الافراد كما يدل عليه كلام ابن الحاجب وغيره من الأعيان ، وأما تسليمه الدخول لتأكيد اللصوق ومنه الدلالة على أن الاتصاف أمر ثابت مستقر فمن العجائب فكيف يسلم التأكيد ولا يسلم فائدته ، ويدفع الاعتراضات الباقية أن ما استند إليه الزمخشري ليس من باب الأدلة اليقينية بل هي من باب الأمارات وتكفي في هذه المقامات ، وقال ابن الحاجب : لا يجوز أن يكون رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وسادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ صفة لما قبل ولا حالا لعدم العامل مع عدم الواو ، ويجوز أن يكون كل منهما خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف والأخبار إذا تعددت جاز في الثاني منها الاقتران بالواو وعدمه ، وهذا إن سلم أن المعنى في الجمل واحد أما إذا قيل إن قوله تعالى : وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ استئناف منه سبحانه لا حكاية عنهم فيفهم أن القائلين سبعة أصابوا ولا يلزم أن يكون خبرا بعد خبر ، ويقويه ذكر رَجْماً بِالْغَيْبِ قبل الثالثة فدل على أنها مخالفة لما قبلها في الرجم بالغيب فتكون صدقا البتة إلا أن هذا الوجه يضعف من حيث إن اللّه تعالى قال ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فلو جعل وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ تصديقا منه تعالى لمن قال سبعة لوجب أن يكون العالم بذلك كثيرا فإن أخبار اللّه تعالى صدق فدل على أنه لم يصدق منهم أحد ، وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة كلها متساوية في المعنى ، وقد تعذر أن تكون الأخيرة وصفا فوجب أن يكون الجميع كذلك انتهى ويفهم أن الواو هي المانعة من الوصفية والداء هو الداء فالدواء هو الدواء.
وقوله : وإذا كان كذلك وجب إلخ كلام بمراحل عن مقتضى البلاغة لأن في كل اختلاف فوائد والبليغ من ينظر

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 232
إلى تلك الفوائد لا من يرده إلى التطويل والحشو في الكلام ، وأيضا لا بد من قول صادق من الأقوال الثلاثة لينطبق قوله تعالى : ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مع قوله سبحانه : رَجْماً بِالْغَيْبِ لأنه قد اندفع به القولان الأولان فيكون الصادق هذا.
وتعقيبه به أمارة على صدقه وذلك مفقود على ما ذهب إليه السائل ، ومع هذا أين طلاوة الكلام وأين اللطف الذي تستلذه الأفهام. وما ذكره من لزوم كون العالم بذلك كثيرا على تقدير كون وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ استئنافا منه تعالى لأن اخبار اللّه تعالى صدق لا يخلو عن بحث لأن المصدق حينئذ هم المسلمون وهم قليل بالنسبة إلى غيرهم ، ولا اختصاص للقليل بما دون العشرة وإن أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال : كل قليل في القرآن فهو دون العشرة فإن ذلك في حيز المنع ودون إثباته التعب الكثير ، على أنه يمكن أن يقال : المراد قلة العالمين بذلك قبل تصديقه تعالى ، ولا يبعد أن يكونوا قليلين في حد أنفسهم من المسلمين كانوا أو من أهل الكتاب أو منهما ، نعم القول بالاستئناف مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وإن ذهب إليه بعض المفسرين. هذا ووافق في الانتصار جماعة منهم سيد المحققين وسند المدققين فقال :
الظاهر أن قوله تعالى : وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ صفة لسبعة كما يشهد به أخواه ، وأيضا ليس سبعة في حكم الموصوفة كما قيل في قرية في قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر : 4] حتى يصح الحمل على الحال اتفاقا ، ولا شك أن معنى الجمع يناسب معنى اللصوق وباب المجاز مفتوح فلتحمل هذه الواو عليه تأكيدا للصوق الصفة بالموصوف فتكون هذه أيضا فرعا للعاطفة كالتي بمعنى مع والحالية والاعتراضية.
وأيد ذلك أيضا بما روي عن ابن عباس وأورد على تعليل منعه للحالية بعدم كون النكرة في حكم الموصوفة أنه لا ينحصر مسوغ مجيء الحال من النكرة في كونها موصوفة أو في حكم الموصوفة كما في الآية التي ذكرها فقد ذكر في المغني أن من المسوغات اقتران الجملة الحالية بالواو فليحفظ.
وقد وافق ابن مالك الرادين له فقال في شرح التسهيل : ما ذهب إليه صاحب الكشاف من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد من خمسة أوجه ، أحدها : أنه قاس في ذلك الصفة على الحال وبينهما فروق كثيرة لجواز تقدم الحال على صاحبها وجواز تخالفهما في الإعراب والتعريف والتنكير وجواز إغناء الواو عن الضمير في الجملة الحالية وامتناع ذلك في الواقعة نعتا فكما ثبت مخالفة الحال الصفة في هذه الأشياء ثبتت مخالفتها إياها بمقارنة الواو الجملة الحالية وامتناع ذلك في الجملة النعتية ، الثاني أن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف بين البصريين والكوفيين فوجب أن لا يلتفت إليه ، الثالث أنه معلل بما لا يناسب وذلك أن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها وذلك مستلزم لتغايرهما وهو ضد لما يراد من التوكيد فلا يصح أن يقال لعاطف مؤكد ، الرابع أن الواو فصلت الأول من الثاني ولولاها لتلاصقا فكيف يقال إنها أكدت لصوقها ، الخامس أن الواو لو صلحت لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعا لا يصلح للحال بخلاف جملة تصلح في موضعها الحال اه ، ويعلم ما فيه بالتأمل الصادق فيما تقدم.
والعجب مما ذكره في الوجه الرابع فهو توهم يستغرب من الأطفال فضلا عن فحول الرجال فتأمل ذاك واللّه تعالى يتولى هداك.
وقال بعضهم : إن ضمائر الأفعال الثلاثة للخائضين في قصة أصحاب الكهف في عهد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من أهل الكتاب والمسلمين لا على وجه إسناد كل من الأفعال إلى كلهم بل إلى بعضهم فالقول الأول لليهود على ما أخرجه ابن أبي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 233
حاتم عن السدي ، وقيل لسيد من سادات نصارى العرب النجرانيين وكان يعقوبيا وكان قد وفد مع جماعة منهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف فذكر من عدتهم ما قصه اللّه تعالى شأنه ، ولعل التعبير بضمير الجمع لموافقة من معه إياه في ذلك ، والقول الثاني على ما روي عن السدي أيضا النصارى ولم يقيدهم وقيل العاقب ومن معه من نصارى نجران وكانوا وافدين أيضا وكان نسطوريا «1» والقول الثالث لبعض المسلمين ، وكأنه عز اسمه لما حكى الأقوال قبل أن تقال على ذلك لقنهم الحق وأرشدهم إليه بعدم نظم ذلك القول في سلك الرجم بالغيب كما فعل بأخويه وتغيير سبكه بإقحام الواو وتعقيبه بما عقبه به على ما سمعت من كون ذلك أمارة على الحقية ، والمراد بالقليل على هذا من وقفه اللّه تعالى للاسترشاد بهذه الأمارات كابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقد مر غير بعيد أنه عد من ذلك وذكر ما ظاهره الاستشهاد بالواو.
وقيل إنهم علموا تلك العدة من وحي غير ما ذكر بأن يكون قد أخبرهم صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك عن إعلام اللّه تعالى إياه به.
وتعقبه بأنه لو كان كذلك لما خفي على الحبر ولما احتاج إلى الاستشهاد ولكان المسلمون أسوة له في العلم بذلك.
وأجيب بأنه لا مانع من وقوف الحبر على الخبر مع جماعة قليلة من المسلمين ، ولا يلزم من إخباره صلّى اللّه عليه وسلّم بشيء وقوف جميع الصحابة عليه فكم من خبر تضمن حكما شرعيا تفرد بروايته عنه عليه الصلاة والسلام واحد منهم رضي اللّه تعالى عنهم فما ظنك بما هو من باب القصص التي لم تتضمن ذلك ، واستشهاده رضي اللّه تعالى عنه نصا لا ينافي الوقوف بل قد يجامعه بناء على ما وقفت عليه آنفا فهو ليس نصا في عدم الوقوف.
وقد أورد على القول بأن منشأ العلم التلقن من هذا الوحي لما تضمن من الإمارات أنه يلزم من ذلك كون الصحابة السامعين للآية أسوة لابن عباس في العلم نحو ما ذكره المتعقب بل لأنهم العرب الذين أرضعوا ثدي البلاغة في مهد الفصاحة وأشرقت على آفاق قلوبهم وصفحات أذهانهم من مطالع إيمانهم الاستوائية أنوار النبوة المفاضة من شمس الحضرة الأحدية وقلما تنزل آية ولا تلقي عصاها في رباع أسماعهم لوفور رغبتهم في الاستماع ومزيد حرصه صلّى اللّه عليه وسلّم على إسماعهم ، ومتى فهم الزمخشري واضرابه من هذه الآية ما فهموا فلم لم يفهم أصحابه عليه الصلاة والسلام ذلك وهم هم أيخطر ببال من له أدنى عقل أن الإعجام شعروا وأكثر أولئك العرب لم يشعروا؟ أم كيف يتصور تجلي أسرار بلاغة القرآن لمن لا يعرف إعجازه إلا بعد المشقة وتحجب عمن يعرف ذلك بمجرد السليقة؟ ولا يكاد يدفع هذا الإيراد إلا بالتزام أن السامعين لهذه الآية قليلون لأنها نزلت في مكة وفي المسلمين هناك قلة مع عدم تيسر الاجتماع لهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكذا اجتماع بعضهم مع بعض نحو تيسر ذلك في المدينة أو بالتزام القول بأن الملتفتين إلى ما فيها من الشواهد كانوا قليلين وهذا كما ترى.
وقيل إن الضمائر لنصارى نجران تناظروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في عدد أصحاب الكهف فقالت الملكانية الجملة الأولى واليعقوبية الجملة الثانية والنسطورية الجملة الثالثة ، ويروى هذا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وهو أولى من القول السابق المحكي عن بعضهم.
وقال الماوردي واستظهره أبو حيان : إن الضمائر للمتنازعين في حديثهم قبل ظهورهم عليهم فيكون قد أخبر سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بما كان من اختلاف قومهم في عددهم ، ولا يخفى أنه يبعد هذا القول من حكاية تلك الأقوال بصيغة
___________
(1) نسبة إلى نسطور كان زمن الفترة كما في الكامل وليس هو الذي في زمن المأمون كما توهم ليحتاج إلى التكلف في الجواب كما فعل في الكشف اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 234
الاستقبال مع تعقيبها بقوله تعالى قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وقد تقدم رواية أن القوم حين أتوا باب الكهف مع المبعوث لاشتراء الطعام قال : دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم فدخل وعمي على القوم أثرهم ، وفي رواية أنهم كلما أراد أن يدخل عليهم أحد منهم رعبوا فتركوا وبني عليهم مسجد ، فلو قيل على هذا : إن الضمائر للمعثرين اختلفوا في عددهم لعدم تمكنهم من رؤيتهم والاجتماع معهم فقالت كل طائفة منهم ما قالت ، ولعل الطائفة الأخيرة استخبرت الفتى فأخبرها بتلك العدة فصدقته وأخذت كلامه بالقبول وتأيد بما عندهم من أخبار أسلافهم فقالت ذلك عن يقين ورجمت الطائفتان المتقدمتان لعدم ثبوت ما يفيد العلم عندهما ولعلهما كانتا كافرتين لم يبعد بعد ما نقل عن الماوردي فتدبر. ومن غريب ما قيل : إن الضمير في يَقُولُونَ سَبْعَةٌ للّه عز وجل والجمع للتعظيم. وأسماؤهم على ما صح عن ابن عباس مكسلمينا ويمليخا ومرطولس وثبيونس ودردونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب اسمه قطمير ، وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أن أسماءهم يمليخا ومكشيلينيا ومثلينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش وهؤلاء أصحاب يساره وكان يستشير الستة والسابع الراعي ، ولم يذكر في هذه الرواية اسمه ، وذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير
، وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم اللّه تعالى وجهه مقال ، وذكر العلامة السيوطي في حواشي البيضاوي أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط بإسناد صحيح.
والذي في الدر المنثور رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس واللّه تعالى أعلم.
وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء ، وذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا ولا يقع الوثوق من ضبطها. وفي البحر أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط والسند في معرفتها ضعيف ، وذكروا لها خواصا فقال النيسابوري عن ابن عباس : إن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد وللحرث تكتب على القرطاس ويرفع على خشب منصوب في وسط الزرع وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ولعسر الولادة تشد على الفخذ الأيسر ولحفظ المال والركوب في البحر والنجاة من القتل انتهى ، ولا يصح ذلك عن ابن عباس ولا عن غيره من السلف الصالح ، ولعله شيء افتراه المتزيون بزي المشايخ لأخذ الدراهم من النساء وسخفة العقول ، وأنا أعد هذا من خواص أسمائهم فإنه صحيح مجرب. وقرىء «وثامنهم كالبهم» أي صاحب كلبهم.
واستدل بعضهم بهذه القراءة على أنهم ثمانية رجال وأول القراءة المواترة بأنها على حذف مضاف أي وصاحب كلبهم وهو كما ترى فَلا تُمارِ الفاء لتفريع النهي على ما قبله ، والمماراة على ما قال الراغب المحاجة فيما فيه مرية أي تردد ، وأصل ذلك من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب ، وفسرها غير واحد بالمجادلة وهي المحاجة مطلقا أي إذا قد وقفت على أن في الخائضين مخطئا ومصيبا فلا تجادلهم فِيهِمْ أي في شأن الفتية إِلَّا مِراءً ظاهِراً غير متعمق فيه وذلك بالاقتصار على ما تعرض له الوحي المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مصيبا وإن قل ولا تفضيح وتعنيف للجاهل منهم فإن ذلك مما يخل بمكارم الأخلاق التي بعثت لإتمامها.
وقال ابن زيد : المراد الظاهر القول لهم ليس كما تعلمون.
وحكى الماوردي أن المراء الظاهر ما كان بحجة ظاهرة ، وقال ابن الأنباري : هو جدال العالم المتيقن بحقيقة الخبر ، وقال ابن بحر : هو ما يشهده الناس ، وقال التبريزي : المراد من الظاهر الذاهب بحجة الخصم يقال ظهر إذا ذهب ، وأنشد : وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. أي ذاهب وَلا تَسْتَفْتِ ولا تطلب الفتيا فِيهِمْ في شأنهم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 235
مِنْهُمْ من الخائضين أَحَداً فإن فيما أفتيناك غنى عن الاستفتاء فيحمل على التفتي المنافي لمكارم الأخلاق إذ الحال لا تقتضي تطيب الخواطر أو نحو ذلك ، وقيل : المعنى لا ترجع إليهم في شأن الفتية ولا تصدق القول الثالث من حيث صدوره منهم بل من حيث التلقي من الوحي ، وقيل : المعنى إذ قد عرفت جهل أصحاب القولين فلا تجادلهم في شأنهم إلا جدالا ظاهرا قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم بالرجم بالغيب ولا تستفت فيهم من أولئك الطائفتين أحدا لاستغنائك بما أوتيت مع أنهم لا علم لهم بذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ أي لأجل شيء تعزم عليه إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً أي فيما يستقبل من الزمان مطلقا وهو تأكيد لما يدل عليه اسم الفاعل بناء على أنه حقيقة في الاستقبال ويدخل فيه الغد بمعنى اليوم الذي يلي يومك وهو المتبادر دخولا أوليا ،
فإن الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام : غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه صلّى اللّه عليه وسلّم الوحي خمسة عشر يوما على ما روي عن ابن إسحاق
، وقيل : ثلاثة أيام ، وقيل :
أربعين يوما فشق ذلك عليه الصلاة والسلام وكذبته قريش وحاشاه.
وجوز غير واحد أن يبقى على المعنى المتبادر وما بعده بذلك المعنى يعلم بطريق دلالة النص.
وتعقب بأن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي وهو احتمال المانع فإن الزمان إذا اتسع قد ترتفع فيه الموانع أو تخف وليس بشيء لأن المانع شامل للموت واحتمال في الزمان الواسع أقوى.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء متعلق بالنهي على ما اختاره جمع من المحققين ، وقول ابن عطية اغترارا برد الطبري إنه من الفساد بحيث كان الواجب أن لا يحكى خروج عن الإنصاف ، وهو مفرغ من أعم الأحوال.
وفي الكلام تقدير باء للملابسة داخلة على أن والجار والمجرور في موضع الحال أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئة اللّه عز وجل بأن تذكر ، قال في الكشف : إن التباس القول بحقيقة المشيئة محال فبقي أن يكون بذكرها وهو إن شاء اللّه تعالى ونحوه مما يدل على تعليقه الأمور بمشيئة اللّه تعالى.
ورد بما يصلح أن يكون تأييدا لا ردا ، وجوز أن يكون المستثنى منه أعم الأوقات أي لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة اللّه تعالى ذلك القول منك ، وفسرت المشيئة على هذا بالإذن لأن وقت المشيئة لا يعلم إلا بإعلامه تعالى به وإذنه فيه فيكون مآل المعنى لا تقولن إلا بعد أن يؤذن لك بالقول.
وجوز أيضا أن يكون الاستثناء منقطعا ، والمقصود منه التأبيد أي ولا تقولن ذلك أبدا ، ووجه ذلك في الكشف بأنه نهي عن القول إلا وقت مشيئة اللّه تعالى وهي مجهولة فيجب الانتهاء أبدا ، وأشار إلى أنه هو مراد الزمخشري لا ما يتوهم من جعله مثل قوله تعالى : وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأعراف : 89] من أن التأبيد لعدم مشيئته تعالى فعل ذلك غدا لقبحه كالعود في ملة الكفر لأن القبح فيما نحن فيه على إطلاقه غير مسلم ، والتخصيص بما يتعلق بالوحي على معنى لا تقولن فيما يتعلق بالوحي إني أخبركم به إلا أن يشاء اللّه تعالى واللّه تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك فإذا لا تقولنه أبدا يأباه النكرة في سياق النهي المتضمن للنفي والتقييد بالمستقبل ، وأن قوله : فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أي مخبر عن أمر يتعلق بالوحي غدا غير مؤذن بأن قوله في الغد يكون من عنده لا عن وحي فالتشبيه في أن الاستثناء بالمشيئة استعمل في معرض التأبيد وإن كان وجه الدلالة مختلفا أخذا من متعلق المشيئة تارة ومن الجهل بها أخرى ، ولا يخفى أن الظاهر في الآية الوجه الأول وأن أمته صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في الخطاب الذي تضمنته سواء مخصوصا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولا يجوز أن يكون الاستثناء متعلقا بقوله تعالى : إِنِّي فاعِلٌ بأن يكون استثناء مفرغا مما في حيزه من أعم الأحوال أو الأوقات لأنه حينئذ إما أن تعتبر تعلق المشيئة بالفعل فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 236
مشيئة اللّه تعالى الفعل وهو غير سديد أو يعتبر تعلقها بعدمه فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة اللّه مشيئة اللّه تعالى عدم الفعل ، ولا شبهة في عدم مناسبته للنهي بل هو أمر مطلوب.
وقال الخفاجي : إذا كان الاستثناء متعلقا بأني فاعل والمشيئة متعلقة بالعدم صار المعنى إني فاعل في كل حال إلا إذا شاء اللّه تعالى عدم فعلي وهذا لا يصح النهي عنه ، أما على مذهب أهل السنة فظاهر ، وأما على مذهب المعتزلة فلأنهم لا يشكون في أن مشيئة اللّه تعالى لعدم فعل العبد الاختياري إذا عرضت دونه بإيجاد ما يعوق عنه من الموت ونحوه منعت عنه وإن لم تتعلق عندهم بإيجاده وإعدامه ، وكذا لا يصح النهي إذا كانت المشيئة متعلقة بالفعل في المذهبين ، فما قيل : إن تعلق الاستثناء بما ذكر صحيح والمعنى عليه النهي عن أن يذهب مذهب الاعتزال في خلق الأعمال فيضيفها لنفسه قائلا إن لم تقترن مشيئة اللّه تعالى بالفعل فأنا فاعله استقلالا فإن اقترنت فلا يخفى ما فيه على نبيه فتأمل. وقد شاع الاعتراض على المعتزلة في زعمهم أن المعاصي واقعة من غير إرادة اللّه تعالى ومشيئته وأنه تعالى لا يشاء إلا الطاعات بأنه لو كان كذلك لوجب فيما إذا قال : الذي عليه دين لغيره قد طالبه به واللّه لأعطينك حقك غدا إن شاء اللّه تعالى أن يكون حانثا إذا لم يفعل لأن اللّه تعالى قد شاء ذلك لكونه طاعة وإن لم يقع فتلزمه الكفارة عن يمينه ولم ينفعه الاستثناء كما لو قال : واللّه لأعطينك إن قام زيد فقام ولم يفعل ، وفي التزام الحنث في ذلك خروج عن الإجماع.
وقد أجاب عنه المرتضى بأن للاستثناء الداخل في الكلام وجوها مختلفة فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار وهذا يقتضي التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ويصير له الكلام كأنه لا حكم له ، ويصح في هذا الوجه الاستثناء في الماضي فيقال : قد دخلت الدار إن شاء اللّه تعالى ليخرج بذلك من أن يكون خبرا قاطعا أو يلزم به حكم ، ولا يصح في المعاصي لأن فيه إظهار الانقطاع إلى اللّه تعالى والمعاصي لا يصلح ذلك فيها قال : وهذا الوجه أحد محتملات الآية ، وقد يدخل في الكلام ويراد به التسهيل والاقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهو ممكن في الآية ، وقد يدخل لمجرد غرض الانقطاع إلى اللّه تعالى ويكون على هذا غير معتد به في كون الكلام صادقا أو كاذبا وهو أيضا ممكن في الآية ، وقد يدخل ويراد به اللطف والتسهيل وهذا يختص بالطاعات ولا يصح أن تحمل الآية عليه لأنها تتناول كل ما لم يكن قبيحا.
وقول المديون السابق إن قصد به هذا المعنى لا يلزم منه الحنث إذا لم يفعل ، ويدين المديون. وغيره إن ادعى قصد ما لا يلزمه فيه شيء فلا ورود لما اعترضوا به ، والإنصاف أن الاعتراض ليس بشيء والرد عليهم غني عن مثل ذلك ، هذا ثم اعلم أن إطلاق الاستثناء على التقييد بإن شاء اللّه تعالى بل على التقييد بالشرط مطلقا ثابت في اللغة والاستعمال كما نص عليه السيرافي في شرح الكتاب.
وقال الراغب : الاستثناء دفع ما يوجبه عموم سابق كما في قوله تعالى : قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام : 145] إلخ أو دفع ما يوجبه اللفظ كقوله : امرأته طالق إن شاء اللّه تعالى انتهى.
وفي الحديث «من حلف على شيء فقال : إن شاء اللّه تعالى فقد استثنى»
فما قيل : إن كلمة إن شاء اللّه تعالى تسمى استثناء لأنه عبر عنها هنا بقوله سبحانه : إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ليس بسديد فكذا ما قيل : إنها أشبهت الاستثناء في التخصيص فأطلق عليها اسمه كذا قال الخفاجي ، ولا يخفى أن في الحديث نوع إباء لدعوى أن إطلاق الاستثناء على

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 237
التقييد بإن شاء اللّه تعالى لغوي لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يبعث لإفادة المدلولات اللغوية بل لتبليغ الأحكام الشرعية فتذكر.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ تعالى أي مشيئة ربك فالكلام على حذف مضاف ، وذكر مشيئة تعالى على ما يدل عليه ما قبل أن يقال إن شاء اللّه تعالى ، وقد قال ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين نزلت إِذا نَسِيتَ أي إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته فإنه ما دام ناسيا لا يؤمر بالذكر وهو أمر بالتدارك عند التذكر سواء قصر الفصل أم طال. وقد أخرج ابن جرير والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ الآية ، وروي ذلك عن أئمة أهل البيت رضي اللّه تعالى عنهم وهو رواية عن الإمام أحمد عليه الرحمة ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني قال : له ثنياه إلى شهر ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء أنه قال : من حلف على يمين فإن الثنيا حلب ناقة قال : وكان طاوس يقول ما دام في مجلسه ، وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن إبراهيم قال : يستثني ما دام في كلامه ، وعامة الفقهاء على اشتراط اتصال الاستثناء في عدم الحنث ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام لا سيما إلى الغاية المروية عن ابن عباس لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب.
ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رضي اللّه تعالى عنه خالف ابن عباس في هذه المسألة فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة : هذا يرجع إليك أنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه.
ومن غريب ما يحكى أن رجلا من علماء المغرب أحب أن يرى علماء بغداد ويتحقق مبلغ علمهم فشد الرحل للاجتماع معهم فدخل بغداد من باب الكرخ فصادف رجلين يمشيان أمامه يبيعان البقل في أطباق على رؤوسهما فسمع أحدهما يقول لصاحبه : يا فلان إني لأعجب من ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كيف جوز فصل الاستثناء ، وقال بعدم تأثيره في الأحكام ولو كان الأمر كما يقول لأمر اللّه تعالى نبيه أيوب عليه السلام بالاستثناء لئلا يحنث فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص : 44] وليس بين حلفه وأمره بما ذكره أكثر من سنة فرجع ذلك الرجل إلى بلده واكتفى بما سمع ورأى فسئل كيف وجدت علماء بغداد؟ فقال :
رأيت من يبيع البقل على رأسه في الطرقات من أهلها بلغ مبلغا من العلم يعترض به على ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فما ظنك بأهل المدارس المنقطعين لخدمة العلم والإنصاف أن هذا الاعتراض على علامة يستكثر ممن يبيع البقل واللّه تعالى أعلم بصحة النقل ، لا يقال : إن ظاهر الآية على ما سمعت يطابق ما ذهب إليه الحبر وإلا لم يكن للتدارك معنى وكذا ما جاء في الخبر لما قالوا : إن التدارك فيما يرجع إلى تفويض العبد يحصل بذكره بعد التنبه أما في التأثير في الحكم حتى يخرجه عن الجزم فليست الآية مسوقة له ولا دالة عليه بوجه.
وقال بعضهم : إن ذلك من خصائصه صلّى اللّه عليه وسلّم فله عليه الصلاة والسلام أن يستثني ولو بعد حين بخلاف غيره.
فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني في الكبير بسند متصل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية : إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ثم قال : هي خاصة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمين ، وقيل ليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك من القول السابق بل من مقدر مدلول به عليه والتقدير في الآية كلما نسيت ذكر اللّه تعالى اذكره حين التذكر إن شاء اللّه تعالى ، وفي الحديث لا أنسى المشيئة بعد اليوم ولا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 238
أتركها إن شاء اللّه تعالى أو أقول إن شاء اللّه تعالى إذا قلت إني فاعل أمرا فيما بعد
، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا.
وجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء ، والمراد من ذلك المبالغة في الحث عليه بإيهام أن تركه من الذنوب التي يجب لها التوبة والاستغفار ، وقيل المعنى واذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك ، وحمل النسيان على الترك مجاز لعلاقة السببية والمسببية أو اذكر ربك إذا عرض لك نسيان ليذكرك المنسي ، ونَسِيتَ على هذا منزل منزلة اللازم ، ولا يخفى بعد ارتباط الآية على هذين المعنيين بما سبق.
وحمل قتادة الآية على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها فإذا أراد أن المراد من الآية واقض الصلاة المنسية إذ ذكرتها فهو كما ترى وأمر الارتباط كما في سابقه ، وإن أراد أنها تدل على الأمر بقضاء الصلاة المنسية عند ذكرها لما أنها دلت على الأمر بذكر الاستثناء المنسي ، وأمر الصلاة أشد والاهتمام بها أعظم فالأمر أسهل ولكن ظاهر كلامهم أنه أراد الأول.
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عكرمة أنه قال في الآية : أي اذكر ربك إذا غضبت ، ووجه تفسير النسيان بالغضب أنه سبب للنسيان ، وأمر هذا القول نظير ما مر.
وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي أي يوفقني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا أي لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي رَشَداً إرشادا للناس ودلالة على ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج ، وقد فعل ذلك عز وجل حيث آتاه من الآيات البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء عليهم السلام المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة ، وكأنه تهوين منه عز وجل لأمر قصة أصحاب الكهف كما هونه جل وعلا أولا بقوله سبحانه «أم حسبت» إلخ ، وهو متعلق بمجموع القصة ، وعطفه بعض الأفاضل على العامل في قوله تعالى : «إذ أوى الفتية إلى الكهف» كأنه قيل اذكر إذ أوى الفتية إلخ وقل عسى أن يهديني ربي لما هو أظهر من ذلك دلالة على نبوتي.
وقال الجبائي : هو متعلق بقوله تعالى : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إلى آخره والمعنى عنده ادع ربك سبحانه وتعالى إذا نسيت شيئا أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك سبحانه عسى أن يهديني لشيء أقرب من المنسي خيرا ومنفعة «فهذا» إشارة إلى المنسي والرشد الخير والمنفعة و(أقرب) على معناه الحقيقي ، ولا يخفى أن هذا أقرب من جهة المتعلق وأبعد من جهات ، وقيل : إنه متعلق بالمتعاطفات قبله وهذا إشارة إلى ما تضمنته من الخير أمرا ونهيا كأنه قيل افعل كذا ولا تفعل كذا وأطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدت إليه في ضمن ما سمعت من الأمر والنهي خيرا ومنفعة ، وقد هدى صلّى اللّه عليه وسلّم في ضمن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك من الأوامر والنواهي إلى ما هو أقرب من ذلك منفعة ولا يكاد يحصى وهو كما ترى ، ولعله على علاته أقرب مما نقل عن الجبائي ، وقال ابن الأنباري : معنى الآية عسى أن يعرفني ربي جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد ، ولا يكاد يستفاد هذا المعنى من الآية ، وعلى فرض الاستفادة تكون نظير استفادة المعاني المرادة من المعميات ويجل كتاب اللّه تعالى الكريم عن ذلك. وأخرج البيهقي من طريق المعتمر بن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن رجل من أهل الكوفة أنه كان يقول : إذا نسي الإنسان الاستثناء فتوبته أن يقول عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً وحكاه أبو حيان عن محمد الكوفي المفسر ، والظاهر أنه الرجل الذي ذكره المعتمر ، وهو قول لا دليل عليه وَلَبِثُوا فِي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 239
كَهْفِهِمْ
أحياء مضروبا على آذانهم ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً وهي جملة مستأنفة مبينة كما قال مجاهد لما أجمل في قوله تعالى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف : 11] واختار ذلك غير واحد ، قال في الكشف : فعلى هذا قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا تقرير لكون المدة المضروب فيها على آذانهم هي هذه المدة كأنه قيل قل اللّه أعلم بما لبثوا وقد أعلم فهو الحق الصحيح الذي لا يحوم حوله شك قط ، وفائدة تأخير البيان التنبيه على أنهم تنازعوا في ذلك أيضا لذكره عقيب اختلافهم في عدة أشخاصهم وليكون التذييل بقل اللّه أعلم محاكيا للتذييل بقوله سبحانه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وللدلالة على أنه من الغيب الذي أخبر به عليه الصلاة والسلام ليكون معجزا له ، ولو قيل : فضربنا على آذانهم سنين عددا وأتى به مبينا أولا لم يكن فيه هذه الدلالة البتة ، فهذه عدة فوائد والأصل الأخيرة انتهى ، ويحتاج على هذا إلى بيان وجه العدول عن المتبادر وهو ثلاثمائة وتسع سنين مع أنه أخصر وأظهر فقيل هو الإشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب واعتبار السنة الشمسية وثلاثمائة وتسع بحساب العرب واعتبار السنة القمرية
فالتسع مقدار التفاوت ، وقد نقله بعضهم عن علي كرم اللّه تعالى وجهه.
واعترض بأن دلالة اللفظ على ما ذكر غير ظاهرة مع أنه لا يوافق ما عليه الحساب والمنجمون كما قاله الإمام لأن السنة الشمسية ثلاثمائة وخمس وستون يوما وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة على مقتضى الرصد الإيلخاني والسنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وثمان ساعات وثمان وأربعون دقيقة فيكون التفاوت بينهما عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة ودقيقة واحدة وإذا كان هذا تفاوت سنة كان تفاوت مائة ألف يوم وسبعة وثمانين يوما وثلاث عشرة ساعة وأربع دقائق وهي ثلاثة سنين وأربعة وعشرون يوما وإحدى عشرة ساعة وست عشرة دقيقة فيكون تفاوت ثلاثمائة سنة تسع سنين وثلاثا وسبعين يوما وتسع ساعات وثمانيا وأربعين دقيقة «1» ولذا قيل إن روايته عن علي كرم اللّه تعالى وجهه لم تثبت. وبحث فيه الخفاجي بأن وجه الدلالة فيه ظاهر لأن المعنى لبثوا ثلاثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علموا قومك السؤال عن شأنهم وتسعا زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك ، والعدول عن الظاهر يشعر به ، ودعوى أن التفاوت تسع سنين مبنية على التقريب لأن الزائد لم يبلغ نصف سنة بل ولا فصلا من فصولها فلم يعبأ به ، وكون التفاوت تسعا تقريبا جار على سائر الأقوال في مقدار السنة الشمسية والسنة القمرية إذ التفاوت في سائرها لا يكاد يبلغ ربعا فضلا عن نصف ، وقال الطيبي في توجيه العدول : إنه يمكن أن يقال : لعلهم لما استكملوا ثلاثمائة سنة قربوا من الانتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم نائمين تسع سنين. وتعقب بأن هذا يقتضي أن يكون المراد وازدادوا نوما أي قوي نومهم في تسع سنين ولا يخفى ما فيه.
وقال أيضا : يجوز أن يكون أهل الكتاب قد اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فجاء قوله تعالى :
وَلَبِثُوا إلخ رافعا للاختلاف مبينا للحق ويكون وَازْدَادُوا تِسْعاً تقريرا ودفعا للاحتمال نظير الاستثناء في قوله تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وسيجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى ولا يخلو عن حسن.
وقيل إنهم انتبهوا قليلا ثم ردوا إلى حالتهم الأولى فلذا ذكر الازدياد وهو الذي يقتضية ما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة المار في قوله تعالى وَنُقَلِّبُهُمْ إلخ وهو فيما أرى أقرب مما تقدم من حديث السنين الشمسية والقمرية.
وقال جمع : إن الجملة من كلام أهل الكتاب فهي من مقول سَيَقُولُونَ السابق وما بينهما اعتراض ونسب ذلك إلى ابن عباس ، فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : إن الرجل ليفسر الآية يرى
___________
(1) وإذا اعتبر هذا سنين شمسية كان تسع سنين إلا أربعة وعشرين يوما وإحدى عشرة ساعة وإحدى وعشرين دقيقة اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 240
أنها كذلك فيهوي أبعد ما بين السماء والأرض ثم تلا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الآية ثم قال : كم لبث القوم؟ قالوا :
ثلاثمائة وتسع سنين فقال : لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل اللّه تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ولكنه سبحانه حكى مقالة القوم فقال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ إلى قوله تعالى رَجْماً بِالْغَيْبِ فأخبر أنهم لا يعلمون وقال : سيقولون لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ولعل هذا لا يصح عن الحبر رضي اللّه تعالى عنه فقد صح عنه القول بأن عدة أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم مع أنه تعالى عقب القول بذلك بقوله سبحانه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ولا فرق بينه وبين قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فلم دل هذا على الرد ولم يدل ذاك.
نعم قرأ ابن مسعود «قالوا لبثوا كهفهم» وهو يقتضي أن يكون من كلام الخائضين في شأنهم إلا أن التعقيب بقوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا كتعقيب القول الثالث في العدة بما سمعت في عدم الدلالة على الرد.
والظاهر أن ضمير وَازْدَادُوا على هذا القول لأصحاب الكهف كما أنه كذلك على القول السابق ، وقال الخفاجي : إن الضمير عليه لأهل الكتاب بخلافه على الأول ، ويظهر فيه وجه العدول عن ثلاثمائة وتسع سنين لأن بعضهم قال : لبثوا ثلاثمائة وبعضهم قال : إنه أزيد بتسعة اه. ولا يخفى ما فيه ، وعلى القولين الظاهر أن بِما لَبِثُوا إشارة إلى المدة السابق ذكرها ، وزعم بعضهم أنه إشارة إلى المدة التي بعد الاطلاع عليهم إلى زمن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وهو كما ترى ، وقيل إنه تعالى لما قال وَازْدَادُوا تِسْعاً كانت التسع مبهمة لا يدري أنها سنون أم شهور أم أيام أم ساعات واختلف في ذلك بنو إسرائيل فأمر صلّى اللّه عليه وسلّم برد العلم إليه عز وجل في التسع فقط اه وليس بشيء فإنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق فعندي مائة درهم وعشرة ظاهر في وعشرة دراهم وليس بمجمل كما لا يخفى.
هذا ونصب تِسْعاً على أنه مفعول ازْدَادُوا وهو مما يتعدى إلى واحد ، وقال أبو البقاء : إن زاد يتعدى إلى اثنين وإذا بني على افتعل تعدى إلى واحد ، وظاهر كلام الراغب وغيره أن زاد قد تتعدى إلى واحد يقال : زدته كذا فزاد هو وازداد كذا ، ووجه ذلك ظاهر فلا تغفل ، والجمهور على أن سِنِينَ في القراءة بتنوين «مائة» منصوب لكن اختلفوا في توجيه ذلك فقال أبو البقاء وابن الحاجب : هو منصوب على البدلية من ثَلاثَ مِائَةٍ.
وقال الزمخشري : على أنه عطف بيان لثلاثمائة ، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز على مذهب البصريين.
وادعى بعضهم أنه أولى من البدلية لأنها تستلزم أن لا يكون العدد مقصودا ، ويؤيده ما
أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : لما نزلت هذه الآية وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ قيل : يا رسول اللّه أياما أم أشهرا أم سنين؟ فأنزل اللّه تعالى سنين.
وجوز ابن عطية الوجهين ، وقيل : على التمييز ، وتعقب بأنه يلزم عليه الشذوذ من وجهين ، وستعلم وجهه قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وبما نقل في المفصل عن الزجاج أنه يلزم أن يكونوا لبثوا تسعمائة سنة ، قال ابن الحاجب : ووجهه أنه فهم من لغتهم أن مميز المائة واحد من مائة كما إذا قلت مائة رجل فرجل واحد من المائة فلو كان سنين تمييزا لكان واحدا من ثلاثمائة وأقل السنين ثلاثة فكان كأنه قيل ثلاثمائة ثلاث سنين فيكون تسعمائة سنة. ويرد بأن ما ذكر مخصوص بما إذا كان التمييز مفردا وأما إذا كان جمعا فالقصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعا في نحو ثلاثة أثواب مع أن الأصل في الجميع الجمع ، وإنما عدلوا إلى المفرد لعلة كما بين في محله فإذا استعمل التمييز جمعا استعمل على الأصل ، وما قال إنما يلزم لو كان ما استعمل جمعا استعمل كما استعمل المفرد فأما إذا استعمل الجمع على أصله في ما وضع له العدد فلا انتهى.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 241
وقد صرح الخفاجي أن ذلك كتقابل الجمع بالجمع ، وجوز الزجاج كون سِنِينَ مجرورا على أنه نعت مِائَةٍ وهو راجع في المعنى إلى جملة العدد كما في قول عنترة :
فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم
حيث جعل سودا نعتا لحلوبة وهي في المعنى نعت لجملة العدد ، وقال أبو علي : لا يمتنع أن يكون الشاعر اعتبر حلوبة جمعا وجعل سودا وصفا لها وإذا كان المراد به الجمع فلا يمتنع أن يقع تفسيرا لهذا الضرب من العدد من حيث كان على لفظ الآحاد كما يقال عشرون نفرا وثلاثون قبيلا. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي «ثلاثمائة سنين» بإضافة مائة إلى سنين وما نقل عن الزجاج يرد هنا أيضا ويرد بما رد به هناك ، ولا وجه لتخصيص الإيراد بنصب سنين على التمييز فإن منشأ اللزوم على فرض تسليمه كونه تمييزا وهو متحقق إذا جر أيضا وجر تمييز المائة بالإضافة أحد الأمرين المشهورين فيه استعمالا ، وثانيهما كونه مفردا ولكون الإفراد مشهورا في الاستعمال أطلق عليه الأصل فهو أصل بحسب الاستعمال ، ولا ينافي هذا قول ابن الحاجب : إن الأصل في التمييز مطلقا الجمع كما سمعت آنفا لأنه أراد أنه الأصل المرفوض قياسا نظرا إلى أن المائة جمع كثلاثة وأربعة ونحوهما كذا في الكشف ، وقد يخرج عن الاستعمال المشهور فيأتي مفردا منصوبا كما في قوله :
إذا عاش الفتى مائتين عاما فقد ذهب اللذاذة والفتاء
وقد يأتي جمعا مجرورا بالإضافة كما في الآية على قراءة الكسائي وحمزة ومن معهما لكن قالوا : إن الجمع المذكور فيها قد أجري مجرى العاري عن علامة الجمع لما أن العلامة فيه ليست متمحضة للجمعية لأنها كالعوض عن لام مفرده المحذوفة حتى أن قوما لا يعربونه بالحروف بل يجرونه مجرى حين ، ولم أجد فيما عندي من كتب العربية شاهدا من كلام العرب لإضافة المائة إلى جمع ، وأكثر النحويين يوردون الآية على قراءة حمزة والكسائي شاهدا لذلك وكفى بكلام اللّه تعالى شاهدا. وقرأ أبي «ثلاثمائة سنة» بالإضافة والإفراد كما هو الاستعمال الشائع وكذا في مصحف ابن مسعود ، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون» بالتنوين ورفع سنون على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي سنون ، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه «تسعا» بفتح التاء وهو لغة فيه فاعلم واللّه تعالى أعلم لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جميع ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب مصدر بمعنى الغائب والخفي جعل عينه للمبالغة واللام للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علما ويلزم منه ثبوت علمه سبحانه بسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بالطريق الأولى.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صيغتا تعجب والهاء ضميره تعالى ، والكلام مندرج تحت القول فليس التعجب منه سبحانه ليقال ليس المراد منه حقيقته لاستحالته عليه تعالى بل المراد أن ذلك أمر عظيم من شأنه أن يتعجب منه كما قيل ولا يمتنع صدور التعجب من بعض صفاته سبحانه وأفعاله عز وجل حقيقة من غيره تعالى.
وفي الحديث ما أحلمك عمن عصاك وأقربك ممن دعاك وأعطفك على من سألك ،
ولهم في هذه المسألة كلام طويل فليرجع إليه من أراده ، ولابن هشام رسالة في ذلك ، وأيّا ما كان ففيه إشارة إلى أن شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل وهما صفتان غير راجعتين إلى صفة العلم خارج عما عليه بصر المبصرين وسمع السامعين فإن اللطيف والكثيف والصغير والكبير والجلي والخفي والسر والعلن على حد سواء في عدم الاحتجاب عن بصره وسمعه تبارك وتعالى بل من الناس من قال : إن المعدوم والموجود في ذلك سواء وهو مبني على شيئية المعدوم والخلاف في ذلك

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 242
معلوم ولعل تقديم ما يدل على عظم شأن بصره عز وجل لما أن ما نحن بصدده من قبيل المبصرات والأصل أبصر وأسمع والهمزة للصيرورة لا للتعدية أي صار ذا بصر وصار ذا سمع ولا يقتضي ذلك عدم تحققهما له تعالى تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وفيهما ضمير مستتر عائد عليه سبحانه ثم حولا إلى صيغة الأمر وبرز الضمير الفاعل لعدم لياقة صيغة الأمر لتحمل ضمير الغائب وجر بالباء الزائدة فكان له محلان الجر لمكان الباء والرفع لمكان كونه فاعلا ، ولكونه صار فضلة صورة أعطي حكمها فصح حذفه من الجملة الثانية مع كونه فاعلا والفاعل لا يجوز حذفه عندهم ، ولا تكاد تحذف هذه الباء في هذا الموضع إلا إذا كان المتعجب منه أن وصلتها نحو أحسن أن تقول ، وهذا الفعل لكونه ماضيا معنى قيل إنه مبني على فتح مقدر منع من ظهوره مجيئه على صورة الأمر وهذا مذهب س في هذا التركيب ، قال الرضي : وضعف ذلك بأن الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد بل جاء الماضي بمعنى الأمر كما
في حديث اتقى اللّه امرؤ فعل خيرا يثب عليه
، وبأن صار ذا كذا قليل ولو كان ما ذكر منه لجاز ألحم بزيد وأشحم بزيد ، وبان زيادة الباء في الفاعل قليل والمطرد زيادتها في المفعول.
وتعقب بأن كون الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد غير مسلم ألا ترى أن كفى به بمعنى اكتف به عند الزجاج وقصد بهذا النقل الدلالة على أنه قصد به معنى إنشائي وهو التعجب ، ولم يقصد ذلك من الماضي لأن الإنشاء أنسب بصيغة الأمر منه لأنه خبر في الأكثر ، وبأن كثرة أفعل بمعنى صار ذا كذا لا تخفى على المتتبع ، وجواز ألحم بزيد على معنى التعجب لازم ولا محذور فيه وعلى معنى آخر غير لازم ، نعم ما ذكر من قلة زيادة الباء في الفاعل مما لا كلام فيه ، والإنصاف أن مذهب س في هذه المسألة لا يخلو عن تعسف. ومذهب الأخفش وعزاه الرضي إلى الفراء أن أفعل في نحو هذا التركيب أمر لفظا ومعنى فإذا قلت أحسن بزيد فقد أمرت كل واحد بأن يجعل زيدا حسنا ومعنى جعله كذلك وصفه به فكأنك قلت صفه بالحسن كيف شئت فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص كما قال الشاعر :
لقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل
وهذا المعنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير س ، وأيضا همزة الجعل أكثر من همزة صار ذا كذا وإن لم يكن شيء منهما على ما قال الرضي قياسا مطردا ، واعتبر الفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد لأن المراد أنه لظهور الأمر يؤمر كل أحد لا على التعيين بوصفه بما ذكر ، ولم يتصرف في أفعل على هذا المذهب فيسند إلى مثنى أو مجموع أو مؤنث لما ذكروا من علة كون فعل للتعجب غير متصرف وهي مشابهته الحروف في الإنشاء وكون كل لفظ من ألفاظه صار علما لمعنى من المعاني ، وإن كان هناك جملة فالقياس أن لا يتصرف فيه احتياطا لتحصيل الفهم كأسماء الأعلام فلذا لم يتصرف في نعم وبئس في الأمثال ، وسهل ذلك هنا انمحاء معنى الأمر فيه كما انمحى معنى الجعل وصار لمحض إنشاء التعجب ولم يبق فيه معنى الخطاب ، والباء زائدة في المفعول ، وأجاز الزجاج أن تكون الهمزة للصيرورة فتكون الباء للتعدية أي صيره ذا حسن ، ثم إنه اعتذر لبقاء أحسن في الأحوال على صورة واحدة لكون الخطاب لمصدر الفعل أي يا حسن أحسن بزيد وفيه تكلف وسماجة. وأيضا نحن نقول أحسن بزيد يا عمرو ولا يخاطب شيئان في حالة إلا أن يقول : معنى خطاب الحسن قد انمحى ، وثمرة الخلاف بين س وغيره تظهر فيما إذا اضطر إلى حذف الباء فعلى مذهب س يلزم رفع مجروره وعلى غيره يلزم نصبه ، هذا وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية : أبصر بدين اللّه تعالى وأسمع به أي بصر بهدى اللّه تعالى وسمع به فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الاسم الجليل ونقل ذلك عن ابن الأنباري وليس بشيء. وقرأ عيسى «أبصر به وأسمع» بصيغة الماضي فيهما وخرج

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 243
ذلك أبو حيان على أن المراد الإخبار لا التعجب ، والضمير المجرور للّه تعالى أي أبصر عباده بمعرفته سبحانه وأسمعهم ، وجوز أن يكون أَبْصِرْ أفعل تفضيل وكذا أَسْمِعْ وهو منصوب على الحالية من ضمير له وضمير بِهِ عائد على الغيب وليس المراد حقيقة التفضيل بل عظم شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل ، ولعل هذا أقرب مما ذكره أبو حيان ، وحاصل المعنى عليه أنه جل شأنه يعلم غيب السموات والأرض بصيرا به وسميعا على أتم وجه وأعظمه ما لَهُمْ أي لأهل السموات والأرض المدلول عليه بذكرهما مِنْ دُونِهِ تعالى مِنْ وَلِيٍّ من يتولى أمورهم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ في قضائه تعالى أَحَداً كائنا من كان ولا يجعل له فيه مدخلا ، وقيل يحتمل أن يعود الضمير لأصحاب الكهف وإضافة حكم للعهد على معنى ما لهم من يتولى أمرهم ويحفظهم غيره سبحانه ولا يشرك في حكمه الذي ظهر فيهم أحدا من الخلق.
وجوز ابن عطية أن يعود على معاصري رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الكفار المشاقين له عليه الصلاة والسلام وجعل الآية اعتراضا بتهديد ، وقيل : يحتمل أن يعود على معنى مؤمني أهل السموات والأرض. والمراد أنهم لن يتخذوا من دونه تعالى وليا ، وقيل : يعود على المختلفين في مدة لبث أصحاب الكهف أي لا يتولى أمرهم غير اللّه تعالى فهم لا يقدرون بغير إقداره سبحانه فكيف يعلمون بغير إعلامه عز وجل والكل كما ترى ، ثم لا يخفى عليك أن ما في النظم الكريم أبلغ في نفي الشريك من أن يقال من ولي ولا شريك.
وقرأ مجاهد «ولا يشرك» بالياء آخر الحروف والجزم ، قال يعقوب : لا أعرف وجه ذلك ، ووجه بعضهم بأنه سكن بنية الوقف. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد بن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر «ولا تشرك» بالتاء ثالث الحروف والجزم على أنه نهي لكل أحد عن الشرك لا نهي له صلّى اللّه عليه وسلّم ولو جعل له عليه الصلاة والسلام لجعل تعريضا بغيرة كقوله : إياك أعني واسمعي يا جارة. فيكون مآله إلى ذلك ، وجوز أن يكون الخطاب له صلّى اللّه عليه وسلّم ويجعل معطوفا على لا تَقُولَنَّ والمعنى لا تسأل أحدا عما لا تعرفه من قصة أصحاب الكهف ولبثهم واقتصر على ما يأتيك في ذلك من الوحي أو لا تسأل أحدا عما أخبرك اللّه تعالى به من نبأ مدة لبثهم واقتصر على بيانه سبحانه ولا يخفى ما فيه من كثرة مخالفة الظاهر وإن كان أشد مناسبة لقوله تعالى :
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ووجه الربط على القراءة المشهورة حسبما تقدم من تفسيرها أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الكهف وكانت من المغيبات بالإضافة إليه صلّى اللّه عليه وسلّم ودل اشتمال القرآن عليها على أنه وحي معجز من حيثية الاشتمال وإن كانت جهة إعجازه غير منحصرة في ذلك أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه بقوله سبحانه وَاتْلُ إلخ وهو أمر من التلاوة بمعنى القراءة أي لازم تلاوة ذلك على أصحابك أو مطلقا ولا تكترث بقول من يقول لك ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، وجوز أن يكون اتْلُ أمرا من التلو بمعنى الاتباع أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل به ، وقيل وجه الربط أنه سبحانه لما نهاه عن المراء المتعمق فيه وعن الاستفتاء أمره سبحانه بأن يتلو ما أوحي إليه من أمرهم فكأنه قيل اقرأ ما أوحي إليك من أمرهم واستغن به ولا تتعرض لأكثر من ذلك أو اتبع ذلك وخذ به ولا تتعمق في جدالهم ولا تستفت أحدا منهم فالكلام متعلق بما تقدم من النواهي ، والمراد بما أوحي إلخ هو الآيات المتضمنة شرح قصة أصحاب الكهف ، وقيل : متعلق بقوله تعالى : قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي قل لهم ذلك واتل عليهم أخباره عن مدة لبثهم فالمراد بما أوحي إلخ ما تضمن هذا الإخبار ، وهذا دون ما قبله بكثير بل لا ينبغي أن يلتفت إليه ، والمعول عليه أن المراد بما أوحي ما هو أعم مما تضمن القصة وغيره من كتابه تعالى.
لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها غيره وأما هو سبحانه فقدرته شاملة لكل شيء يمحو ما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 244
يشاء ويثبت ، ويعلم مما ذكر اندفاع ما قيل : إن التبديل واقع لقوله تعالى : وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً [النحل : 101] ، والظاهر عموم الكلمات الأخبار وغيرها ، ومن هنا قال الطبرسي : المعنى لا مغير لما أخبر به تعالى ولا لما أمر والكلام على حذف مضاف أي لا مبدل لحكم كلماته انتهى ، لكن أنت تعلم أن الخبر لا يقبل التبديل أي النسخ فلا تتعلق به الإرادة حتى تتعلق به القدرة لئلا يلزم الكذب المستحيل عليه عز شأنه. ومنهم من خص الكلمات بالإخبار لأن المقام للإخبار عن قصة أصحاب الكهف وعليه لا يحتاج إلى تخصيص النكرة المنفية لما سمعت من حال الخبر ، وقول الإمام : إن النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلا توهم لا يقتدى به.
ومن الناس من خص الكلمات بمواعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحي إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد ، ومآله اتل ولا تبال فإن اللّه تعالى ناصرك وناصر أصحابك وهو كما ترى وإن كان أشد مناسبة لما بعد ، والضمير على ما يظهر من مجمع البيان للكتاب ، ويجوز أن يكون للرب تعالى كما هو الظاهر في الضمير في قوله سبحانه :
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة ، وقال الإمام في البيان والإرشاد : وأصله من الالتحاد بمعنى الميل ، وجوز الراغب فيه أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدرا ، وفسره ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما هنا بالمدخل في الأرض وأنشد عليه حين سأله نافع بن الأرزق قول خصيب الضمري :
يا لهف نفسي ولهف غير مجدية عني وما عن قضاء اللّه ملتحد
ولا داعي فيه لتفسيره بالمدخل في الأرض ليلتجأ إليه ، ثم إذا كان المعنى بالخطاب سيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم فالكلام مبني على الفرض والتقدير إذ هو عليه الصلاة والسلام بل خلص أمته لا تحدثهم أنفسهم بطلب ملجأ غيره تعالى ، نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن التجأ إليه وعول في جميع أموره عليه فكفاه جل وعلا ما أهمه وكشف عنه غياهب كل غمه.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ قد تقدم أن مقام العبودية لا يشابهه مقام ولا يدانيه ونبينا صلّى اللّه عليه وسلّم في أعلى مراقيه ، وقد ذكر أن العبد الحقيقي من كان حرا عن الكونين وليس ذاك إلا سيدهما صلّى اللّه عليه وسلّم وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على الْكِتابَ وجعله بعض أهل التأويل عائدا على عَبْدِهِ أي لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافا عن جنابه وميلا إلى ما سواه وجعله مستقيما في عبوديته سبحانه ، وجعل الأمر في قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أمر تكوين لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين : 15] وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ [الإسراء : 9] وهي الأعمال التي أريد بها وجه اللّه تعالى لا غير ، وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلّى اللّه عليه وسلّم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات زِينَةً لَها أي لأهلها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجل ، وقال ابن عطاء : حسن العمل الإعراض عن الكل ، وقال الجنيد : حسن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 245
العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به. وقال بعضهم : أهل المعرفة باللّه تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليهم بالحرمة.
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً قال الجنيد قدس اللّه سره : أي لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسري بك ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك.
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ قيل هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوة ، وفتوتهم إعراضهم عن غير اللّه تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه فَقالُوا حين استقاموا في منازل الأنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً معرفة كاملة وتوحيدا عزيزا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً بالوصول إليك والفناء فيك فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء ، ويقال أيضا : هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة وهما قولان متقاربان نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ الإيمان العلمي وَزِدْناهُمْ هُدىً بأن أحضرناهم وكاشفناهم وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين ، ويقال أيضا : رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين.
إِذْ قامُوا بنا لنا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً كلاما بعيدا عن الحق مفرطا في الظلم ، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين ، قال ابن الغرس : وهو استدلال ضعيف لا يقوم به المدعي على ساق.
وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجىء في شريعة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم بل لعمري أن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوي فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ فاخلوا بمحبوبكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مطوي معرفته وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته ، قال بعض العارفين : العزلة عن غير اللّه تعالى توجب الوصلة باللّه عز وجل بل لا تحصل الوصلة إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور ، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الفكر وجمع الحواس ، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكانا قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة.
وفي أسرار القرآن أن في الآية إشارة إلى أن اللّه تعالى حفظهم عن الاحتراق في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 246
محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها.
وفي الحديث «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره»
وقيل : في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن اللّه تعالى.
وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم ، وقال ابن عطاء : هم مقيمون في الحضرة كالنومى لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نومى منتبهون وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي ننقلهم من عالم إلى عالم وقال ابن عطاء : نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق ، وقال آخر : نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار ، وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ قال أبو بكر الوراق : مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر اللّه سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم.
وقيل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال ، وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ أي من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبا من عظمتي وهيبتي ، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروي عن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه.
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ رددناهم إلى الصحو بعد السكر لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس ، وقيل : إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة ، ويقال : مقام المحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضى من الحبيب وطر وإن فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل :
أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا
ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى : فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ والإشارة فيه أولا إلى أن اللائق بطالبي اللّه تعالى ترك السؤال ، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانيا إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم بِوَرِقِكُمْ هذِهِ فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروي فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 247
إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأجل ، ولذلك قال ذو النون : العارف من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه ، والعجب أن رجلا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال : نعم هي جمرات ولكن تطفئ حرارة جوع السالكين ، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور ، ورابعا إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم وَلْيَتَلَطَّفْ بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه.
وقال بعض أهل التأويل : إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم ، وقيل :
أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف ، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول : إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئا من الطعام فليكن لطيفا وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كل ما تجد لأنهم بعد في تذليل أنفسهم ، وقال بعضهم : طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المأكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف ، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس اللّه سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعما ويأكل لطيفا. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال ، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا ، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعن كبار أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم ، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه واللّه تعالى أعلم وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي من الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ بأحجار الإنكار أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ التي اجتمعوا عليها ولم ينزل اللّه تعالى بها من سلطان وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إرشاد إلى محض التجريد والتفريد ، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال : أفعله إن شاء اللّه تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه : يا مجنون فإذا من أنت ، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضا ما فيه ، وقيل الآية نهي عن أن يحبر صلّى اللّه عليه وسلّم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه.
ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قيل أي إذا نسيت الكون بأسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ ، وقيل إذا نسيت الذكر ، ومن هنا قال الجنيد قدس سره : حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر ، وقال قدس سره في قوله تعالى : وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سبحانه لك قبل أن تذكره جل وعلا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهرا وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق ، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي : ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف انتهى.
وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه اللّه سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات ، وأنا أقول لا حجر على اللّه سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيرا من عباده بلا واسطة في سويعات لَهُ تعالى شأنه غَيْبُ السَّماواتِ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 248
عالم العلو وَالْأَرْضِ عالم السفل ولا يخفى أن عنوان الغيبة إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله ومن هنا قال بعضهم : إنه سبحانه لا يعلم الغيب بمعنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم بمثل هذا الكلام وإن أول بما أول لما فيه ظاهرا من مصادمة الآيات.
وإلى اللّه تعالى نشكو أقواما ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره تعالى وما أسمعه لأن صفاته عين ذاته ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ إذ لا فعل لأحد سواه تعالى وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عز شأنه ، هذا واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[سورة الكهف (18) : الآيات 28 إلى 61]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47)
وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 249
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبسها وثبتها يقال صبرت زيدا أي حبسته ، وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي ، واستعمال ذلك في الثبات على الأمر وتحمله توسع ، ومنه الصبر بمعناه المعروف ، ولم يجعل هذا منه لتعدي هذا ولزومه مَعَ الَّذِينَ أي مصاحبة مع الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي يعبدونه دائما ، وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام وهي نظير قولهم : ضرب زيد الظهر والبطن يريدون به ضرب جميع بدنه ، وأبقى غير واحد الغداة والعشي على ظاهرهما ولم يرد عموم الأوقات أي يعبدونه في طرفي النهار ، وخصا بالذكر لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور ، والمراد بتلك العبادة قيل ذكر اللّه تعالى وروي ذلك من طريق مغيرة عن إبراهيم ، وقيل : قراءة القرآن ، وروي ذلك عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عدي بن الخيار ، وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن جبير أن المراد بها المفاوضة في الحلال والحرام.
وعن ابن عمر ومجاهد هي شهود الصلوات الخمس ، وعن قتادة شهود صلاة الصبح والعصر ، وفيما تقدم ما يؤيد ثاني الأقوال وفيما بعد ما يؤيد ظاهره أولها فتدبر جدا ، والمراد بالموصول فقراء الصحابة عمار وصهيب وسلمان

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 250
وابن مسعود وبلال وأضرابهم قال كفار قريش كأمية بن خلف وغيره من صناديد أهل مكة لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك فإن ريح جبابهم تؤذينا فنزلت الآية ، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عيينة بن بدر ويتهدد
وأقول : أكثر الروايات تؤيد الثاني وعليه تكون الآيات مستثناة من حكم السورة وكم مثل ذلك ، وقد أخرج ما يؤيد الأول ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، ولعل الآيات بعد تؤيده أيضا ، والتعبير عن أولئك بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخصلة الداعية إلى إدامة الصحبة. وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وخرج ذلك على ما ذكره سيبويه والخليل من أن بعض العرب ينكر غدوة فيقول : جاء زيد غدوة بالتنوين ، على أن الرضي قال : إنه يجوز استعمالها نكرة اتفاقا ، والمشهور أن الأكثر استعمالها علم جنس ممنوعا من الصرف فلا تدخل عليها أل لأنه لا يجتمع في كلمة تعريفان ، ومتى أريد إدخالها عليها قصد تنكيرها فأدخلت كما قصد تنكير العلم الشخصي في قوله :
وقد كان منهم صاحب وابن عمه أبو جندل والزيد زيد المعارك
والقراءة المذكورة مخرجة على ذلك ، واختار بعض المحققين التخريج الأول وقال : إنه أحسن دراية ورواية لأن التنكير في العلم الشخصي ظاهر وأما في الجنسي ففيه خفاء لأنه شائع في إفراده قبل تنكيره فتنكيره إنما يتصور بترك حضوره في الذهن الفارق بينه وبين النكرة ، وهو خفي فلذا أنكره الفناري في حواشيه على التلويح في تنكير رجب علم الشهر انتهى ، وللبحث فيه محالّ.
وهذه الآية كما في البحر أبلغ من التي في الأنعام وهي قوله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ بذلك الدعاء وَجْهَهُ أي رضاه سبحانه وتعالى دون الرياء والسمعة بناء على ما قاله الإمام السهيلي من أن الوجه إذا أضيف إليه تعالى يراد به الرضا والطاعة المرضية مجازا لأن من رضي على شخص يقبل عليه ومن غضب يعرض عنه ، وقيل : المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف.
وقيل : هو بمعنى التوجه ، والمعنى يريدون التوجه إليه تعالى والزلفى لديه سبحانه ، والأول أولى ، والجملة في موضع الحال من فاعل «يدعون» أي يدعون مريدين ذلك.
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا ، والمراد النهي عن احتقارهم وصرف النظر عنهم لرثاثة حالهم إلى غيرهم فعدا بمعنى صرف المتعدي إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بعن ، قال في القاموس يقال : عداه عن الأمر عدوا وعدوانا صرفه ، واختار هذا أبو حيان وهو الذي قدر المفعول كما سمعت وقد تتعدى عدا إلى مفعول واحد بعن كما تتعدى إليه بنفسها فتكون بمعنى جاوز وترك قال في القاموس : يقال عدا الأمر وعنه جاوزه وتركه ، وجوز أن يكون معنى الآية على ذلك كأنه قيل لا تتركهم عيناك ، وقيل : إن عدا حقيقة معناه تجاوز كما صرح به الراغب والتجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو كما صرحوا به أيضا وهو هنا غير مراد فلا بد من تضمين عدا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 251
معنى نبا وعلا في قولك : نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به ، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ثم قال : لم يقل ولا تعدهم عيناك أو ولا تعل عيناك عنهم وارتكب التضمين ليعطي الكلام مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم ، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة ، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى ، واعترض أيضا ما قيل : بأنه لا يلزم من اتحاد الفعلين في المعنى اتحادهما في التعدية فلا يلزم من كون عدا بمعنى تجاوز أن يتعدى كما يتعدى ليقال : إن التجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو وهو غير مراد ، فلا بد من تضمين عدا معنى فعل متعد بعن ، ويكفي كلام القاموس مستندا لمن خالف الزمخشري فتدبر ولا تغفل.
وقرأ الحسن «ولا تعد عينيك» بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة من أعداه ونصب العينين ، وعنه وعن عيسى والأعمش أنهم قرؤوا «ولا تعد عينيك» بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة من عداه يعديه ونصب العينين أيضا ، وجعل الزمخشري ، وصاحب اللوامح الهمزة والتضعيف للتعدية.
وتعقب ذلك في البحر بأنه ليس بجيد بل الهمزة والتضعيف في هذه الكلمة لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد وذلك لأنه قد أقر الزمخشري بأنها قبل ذينك الأمرين متعدية بنفسها إلى واحد وعديت بعن للتضمين فمتى كان الأمران للتعدية لزم أن تتعدى إلى اثنين مع أنها لم تتعد في القراءتين المذكورتين إليهما.
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الدنيا ، والجملة على القراءة المتواترة حال من كاف عَيْناكَ وجازت الحال منه لأنه جزء المضاف إليه ، والعامل على ما قيل معنى الإضافة وليس بشيء.
وقال في الكشف : العامل الفعل السابق كما تقرر في قوله تعالى بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة : 135] ولك أن تقول : هاهنا خاصة العين مقحمة للتأكيد ولا يبعد أن يجعل حالا من الفاعل ، وتوحيد الضمير إما لاتحاد الإحساس أو للتنبيه على مكان الإقحام أو للاكتفاء بأحدهما عن الآخر أو لأنهما عضو واحد في الحقيقة ، واستبشاع إسناد الإرادة إلى العين مندفع بأن إرادتها كناية عن إرادة صاحبها ألا ترى إلى ما شاع من نحو قولهم : يستلذه العين أو السمع وإنما المستلذ الشخص على أن الإرادة يمكن جعلها مجازا عن النظر للهو لا للعبر اه.
ولا يخفى أن فيه عدولا عن الظاهر من غير داع ، وقول بعضهم : إنه لا يجوز مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذا الموضع لاختلاف العامل في الحال وذيها لا يصلح داعيا لظهور ضعفه ، ثم الظاهر أنه لا فرق في جواز كون الجملة حالا من المضاف إليه أو المضاف على تقدير أن يفسر تَعْدُ بتجاوز وتقدير أن تفسر بتصرف.
وخص بعضهم كونها حالا من المضاف إليه على التقدير الأول وكونها حالا من المضاف على التقدير الثاني ولعله أمر استحساني ، وذلك لأن في أول الكلام على التقدير الثاني إسناد ما هو من الأفعال الاختيارية ليس إلا وهو الصرف إلى العين فناسب إسناد الإرادة إليها في آخره ليكون أول الكلام وآخره على طرز واحد مع رعاية ما هو الأكثر في أحوال الأحوال من مجيئها من المضاف دون المضاف إليه ، وتضمن ذلك عدم مواجهة الحبيب صلّى اللّه عليه وسلّم بإسناد إرادة الحياة الدنيا إليه صريحا وإن كانت مصب النهي ، وليس في أول الكلام ذلك على التقدير الأول إذ الظاهر أن التجاوز ليس من الأفعال الاختيارية لا غير بل يتصف به المختار وغيره ، مع أن في جعل الجملة حالا من الفاعل على هذا التقدير مع قول بعض المحققين إن المتجاوز في الحقيقة هو النظر احتياجا إلى اعتبار الشيء وتركه في كلام واحد ، وليس لك أن تجعله استخداما بأن تريد من العينين أولا النظر مجازا وتريد عند عود ضمير تُرِيدُ منهما الحقيقة لأن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 252
التثنية تأبى ذلك ، وإن اعتبر ذلك أولا وآخرا ولم يترك احتيج إلى مؤن لا تخفى على المتأمل فتأمل وتدبر ، وهي على القراءتين الشاذتين حال من فاعل الفعل المستتر أي لا تعد أو لا تعد عينيك عنهم مريدا ذلك وَلا تُطِعْ في تنحية الفقراء عن مجلسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي جعلنا قلبه غافلا عَنْ ذِكْرِنا لبطلان استعداده للذكر بالمرة كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه أولئك الفقراء من الدعاء في الغداة والعشي ، وفيه تنبيه على أن الباعث لهم إلى استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب اللّه تعالى شأنه وملاحظة المعقولات وانهما كه «1» في الحسيات حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد. ومعنى الذكر ظاهر وفسره المفضل بالقرآن.
والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة ، وأولها المعتزلة فقيل المراد أغفلنا قلبه بالخذلان وهذا هو التأويل المشهور عندهم في أمثال ذلك وحاله معلوم عندك ، وقيل : المراد صادفناه غافلا كما في قولهم : سألناكم فما أفحمناكم وقاتلناكم فما أجبناكم. وتعقب بأنه لا ينبغي أن يتجرأ على تفسير فعل أسنده اللّه تعالى إليه بالمصادفة التي تفهم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم ، وقيل : المراد نسبناه إلى الغفلة كما في قول الكميت :
وطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وهو كما ترى ، وقال الرماني : «2» المراد لم نسم قلبه بالذكر ولم نجعله من القلوب التي كتبنا فيها الإيمان كقلوب المؤمنين من قولهم : أغفل فلان أبله إذا تركها غفلا من غير سمة وعلامة بكى ونحوه ، ومنه إغفال الخط لعدم إعجامه فالإغفال المذكور استعارة لجعل ذكر اللّه تعالى الدال على الإيمان به كالسمة لأنه علامة للسعادة كما جعل ثبوت الإيمان في القلب بمنزلة الكتابة ، وهو تأويل رقيق الحاشية لطيف المعنى وإن كان خلاف الظاهر فهو مما لا بأس به لمن لم يكن غرضه منه الهرب من مذهب أهل السنة ، واحتج بعضهم على أنه ليس المراد ظاهر الآية بقوله سبحانه :
وَاتَّبَعَ هَواهُ في طلب الشهوات حيث أسند اتباع الهوى إلى العبد فيدل على أنه فعله لا فعل اللّه تعالى ولو كان ذلك فعل اللّه سبحانه والإسناد مجازي لقيل فاتبع بالفاء السببية لتفرعه عليه.
وأجيب بأن فعل العبد لكونه بكسبه وقدرته ، وخلق اللّه تعالى يجوز إسناده إليه بالاعتبار الأول وإلى اللّه تعالى بالثاني ، والتنصيص على التفريع ليس بلازم فقد يترك لنكتة كالقصد إلى الإخبار به استقلالا لأنه أدخل في الذم وتفويضا إلى السامع في فهمه ولا حاجة إلى تقدير فقيل واتبع هواه.
وقرأ عمر بن فائد وموسى الاسواري وعمرو بن عبيد «أغفلنا» بفتح الفاء واللام «قلبه» بالرفع على أنه فاعل أغفلنا ، وهو على هذه القراءة من أغفله إذا وجده غافلا ، والمراد ظننا وحسبنا غافلين عن ذكرنا له ولصنيعه بالمؤاخذة بجعل ذكر اللّه تعالى له كناية عن مجازاته سبحانه ، واستشكل النهي عن إطاعة أولئك الغافلين في طرد أولئك المؤمنين بأنه ورد أنهم أرادوا طردهم ليؤمنوا فكان ينبغي تحصيل إيمانهم بذلك ، وغاية ما يلزم ترتب نفع كثير وهو إيمان أولئك الكفرة على ضرر قليل وهو سقوط حرمة أولئك البررة وفي عدم طردهم لزم ترتب ضرر عظيم وهو بقاء أولئك الكفرة على كفرهم على نفع قليل.
___________
(1) قوله وانهما كه إلى قوله حتى خفي عليه كذا بإفراد الضمير في خط المؤلف وفي أبي السعود ضمير انهما كه راجع إلى قوله الباعث له فغير المصنف له بلهم فحصل ما حصل.
(2) وقد كان معتزليا فليحفظ اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 253
ومن قواعد الشرع المقررة تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى ، وأجيب بأنه سبحانه علم أن أولئك الكفرة لا يؤمنون إيمانا حقيقيا بل إن يؤمنوا يؤمنوا إيمانا ظاهريا ومثله لا يرتكب له إسقاط حرمة أولئك الفقراء الأبرار فلذا جاء النهي عن الإطاعة.
وقد يقال : يحتمل أن يكون اللّه تعالى قد علم أن طرد أولئك الفقراء السابقين إلى الإيمان المنقطعين لعبادة الرحمن وكسر قلوبهم وإسقاط حرمتهم لجلب الأغنياء وتطييب خواطرهم يوجب نفرة القلوب وإساءة الظن برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فربما يرتد من هو قريب عهد بإسلام ويقل الداخلون في دينه بعد ذلك عليه الصلاة والسلام.
وذلك ضرر عظيم فوق ضرر بقاء شرذمة من الكفار على الكفر فلذا نهى جل وعلا عن إطاعة من أغفل قلبه واتبع هواه وَكانَ أَمْرُهُ في اتباع الهوى وترك الإيمان فُرُطاً أي ضياعا وهلاكا ، قاله مجاهد أو متقدما على الحق والصواب نابذا له وراء ظهره من قولهم : فرس فرط أي متقدم للخيل وهو في معنى ما قاله ابن زيد مخالفا للحق ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الفرط بمعنى التفريط والتضييع أي كان أمره الذي يجب أن يلزم ويهتم به من الدين تفريطا ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي كان أمره وهواه الذي هو سبيله إفراطا وإسرافا ، وبالإسراف فسره مقاتل ، والتعبير عن صناديد قريش المستدعين طرد فقراء المؤمنين بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة وَقُلِ لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر واتبعوا هواهم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي أوحي إليّ الحق ومِنْ رَبِّكُمْ حال مؤكدة أو خبر بعد خبر والأول أولى ، والظاهر أن قوله تعالى : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ من تمام القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد أي عقيب تحقيق أن ذلك حق لا ريب فيه لازم الاتباع من شاء أن يؤمن به ويتبعه فليفعل كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فليفعل ، وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم التي وعدوها في طرد المؤمنين وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجودا وعدما ما لا يخفى.
وجوز أن يكون الْحَقُّ مبتدأ خبره مِنْ رَبِّكُمْ واختار الزمخشري هنا الأول ، قال في الكشف : ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاما لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدين وجهه تبارك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لإزاحة الأعذار والعلل بقوله سبحانه وَقُلِ إلخ أي هذا الذي أوحي هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين بهذه السعادة ومن شاء فليكن في الهالكين انهماكا في الضلالة ، أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشمل الكتاب شمولا أوليا لم يطبق المفصل إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير بل كونه حقا لازم الاتباع لا غير اه.
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه وكون المشار إليه الكتاب مطلقا لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه ابن عطية ، وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل المراد أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبرا وهو المروي عن مقاتل ، وقال الضحاك : هو التوحيد ، وقال الكرماني : الإسلام والقرآن.
وقال مكي : المراد به التوفيق والخذلان أي قل التوفيق والخذلان من عند اللّه تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفى.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 254
وجوز أن يكون قوله سبحانه فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ إلخ تهديدا من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر أي قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء أن يكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل ، وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير وهو ظاهر.
وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخلية بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء ، وهذا كقول كثير : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في أفعاله موجد لها لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله. وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مؤثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة اللّه تعالى وإرادته ، أما الأول فلأنهم قالوا : لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل ، وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان : 30 ، التكوير : 29] ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار وهو مذهب الأشاعرة ، وفي الاحياء لحجة الإسلام فإن قلت : إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت : هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من اللّه تعالى انتهى.
وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة اللّه تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث ، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام ، وستذكر إن شاء اللّه تعالى طرفا لائقا منه في الموضع اللائق به ، وقال السدي : هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل ، وحكى ابن عطية عن فرقة أن فاعل شاءَ في الشرطيتين ضميره تعالى ، واحتج له بما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية : من شاء اللّه تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر.
والحق أن الفاعل ضمير مِنْ والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان أن من شاء الإيمان هو من شاء اللّه تعالى له الإيمان ومن شاء الكفر هو من شاء اللّه سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير ، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير : 29] واللّه تعالى أعلم وقرأ أبو السمال قعنب وَقُلِ الْحَقُّ بفتح اللام حيث وقع ، قال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية ، وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف ، وقرأ أيضا الْحَقُّ بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير قل القول الحق ومِنْ رَبِّكُمْ قيل حال أي كائنا من ربكم ، وقيل : صفة أي الكائن من ربكم وفيه بحث.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فليؤمن» و«ليكفر» بكسر لام الأمر فيهما إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ للكافرين بالحق بعد ما جاء من اللّه سبحانه ، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه ، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي ، وجعلها من جعل فَمَنْ شاءَ إلخ تهديدا من قبله تعالى تأكيدا للتهديد وتعليلا لما يفيده من الزجر عن الكفر. وجوز كونها تعليلا لما يفهم من ظاهر التخيير من

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 255
عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم ، وأَعْتَدْنا من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه ، وقيل : أصله أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء والمعنى واحد أي هيأنا لهم ناراً عظيمة عجيبة أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي فسطاطها ، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة والإضافة قرينة والإحاطة ترشيح ، وقيل : السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه ، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضا مجاز كإطلاقه على اللهب ، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة ، والمروي عن قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه حائط من نار ، وحكى الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار ، وحكى القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة نارا ويحيط بهم ، واحتج له
بما أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ وابن أبي حاتم وصححه والبيهقي في البعث وآخرون عن يعلى بن أمية أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن البحر هو من جهنم ثم تلا ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها
والسرادق قال الراغب : فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى ، وقد أصاب في دعوى التعريب فإن عامة اللغويين على ذلك ، وأما قوله : وليس من كلامهم إلخ فيكذبه ورود علابط وقرامص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة مع تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فلينظر ما مراده ، ثم إنه معرب سرايرده أي ستر الديوان ، وقيل : سراطاق أي طاق الديوان وهو أقرب لفظا إلا أن الطاق معرب أيضا وأصله تا أو تاك ، وقال أبو حيان وغيره : معرب سرادر وهو الدهليز ووقع في بيت الفرزدق :
تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم تركت لهم قبل الضراب السرادقا
ويجمع كما قال سيبويه بالألف والتاء وإن كان مذكرا فيقال سرادقات ، وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء ، وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش بقرينة قوله تعالى : يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وقيل : مما حل بهم من أنواع العذاب ، والمهل على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن جبير ماء غليظ كدردي الزيت ، وفيه حديث مرفوع فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصحصحه والبيهقي وآخرون
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى : كَالْمُهْلِ قال : كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه
، وقال غير واحد : هو ما أذيب من جواهر الأرض ، وقيل : ما أذيب من النحاس ، وأخرج الطبراني وابن المنذر وابن جرير عن ابن مسعود أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فإذا به فلما ذاب قال : هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار لونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد أنه القيح والدم الأسود ، وقيل : هو ضرب من القطران ، وقوله سبحانه :
يُغاثُوا إلخ خارج مخرج التهكم بهم كقول بشر بن أبي حازم :
غضبت تميم «1» أن تقتل عامرا يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
يَشْوِي الْوُجُوهَ ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث ، فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف ، والظاهر أنه المراد لا غير ، وقيل : عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم والجملة صفة ثانية لماء والأولى كَالْمُهْلِ أو حال منه كما في البحر لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال أبو البقاء.
___________
(1) في نسخة حنيفة اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 256
وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستتر فيه وفيه ما لا يخفى من التكلف لأنها ليست صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد قاله الخفاجي.
وذكر أن أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل ذؤابتي في قول الشاعر : رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي.
مرفوعا بالكاف لكونها بمنزل مثل وقال : إن ذلك ليس بالسهل لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات.
وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور ، وقيل : يجوز أن يكون مراد ذلك البعض إلا أنه تسامح بِئْسَ الشَّرابُ ذلك الماء الذي يغاثون به وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً أي متكأ كما قال أبو عبيدة وروي عن السدي ، وأصل الارتفاق كما قيل الاتكاء على مرفق اليد. قال في الصحاح يقال : بات فلان مرتفقا أي متكئا على مرفق يده ، وقيل : نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان ونصبه على التمييز ، قال الزمخشري :
وهذا لمشاكلة قوله تعالى : «وحسنت مرتفقا» وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء إلا أن يكون من قوله :
إني أرقت فبتّ الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح
أي فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته بأن يكون لأهل النار ارتفاق فيها أي اتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر ، وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن.
وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلا إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام حقيقة لا مشاكلة. وجوز أن يكون ذلك تهكما أو كناية عن عدم استراحتهم.
وروي عن ابن عباس أن المرتفق المنزل. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة ، وفي معناه قول ابن عطاء : المقر وقول العتبي : المجلس ، وقيل موضع الترافق أي ساءت موضعا للترافق والتصاحب ، وكأنه مراد مجاهد في تفسيره بالمجتمع فإنكار الطبري أن يكون له معنى مكابرة.
وقال ابن الأنباري : المعنى ساءت مطلبا للرفق لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه ، وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدرا ميميا بمعنى الارتفاق والاتكاء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا في محل التعليل للحث على الإيمان المنفهم من التخيير كأنه قيل وللذين آمنوا ، ولعل تغيير السبك للإيذان بكمال تنافي حالي الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ حسبما بين في تضاعيفه.
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وقرأ عيسى الثقفي «لا نضّيّع» بالتضعيف ، وعلى القراءتين الجملة خبر إن الثانية وخبر إن الأولى الثانية بما في حيزها والرابط ضمير محذوف تقديره من أحسن عملا منهم ، ولا يرد أنه يقتضي أن منهم من أحسن ومنهم من لم يحسن لأن ذلك على تقدير كون من تبعيضية وليس بمتعين لجواز كونها بيانية ولو سلم فلا بأس به فإن الإحسان زيادة الإخلاص الوارد في حديث الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه ، لكن يبقى على هذا حكم من لم يحسن بهذا المعنى منهم أو الرابط الاسم الظاهر الذي هو المبتدأ في المعنى على ما ذهب إليه الأخفش من جعله رابطا فإن من أحسن عملا في الحقيقة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. واعترض بأنه يأباه تنكير عَمَلًا لأنه للتقليل. وأجيب بأنه غير متعين لذلك إذ النكرة قد تعم في الإثبات ومقام المدح شاهد صدق أو الرابط عموم من بناء على أن العموم قد يكون رابطا كما في زيد نعم الرجل على قول وفيه مناقشة ظاهرة.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 257
ولعل الأولى كون الخبر جملة قوله تعالى أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وجملة إِنَّا إلخ معترضة ، ونحو هذا من الاعتراض كما قال ابن عطية وغيره قوله :
إن الخليفة إن اللّه ألبسه سربال ملك به ترجى الخواتيم
وأنت تعلم أن الاعتراض فيه غير متعين أيضا ، وعلى الاحتمال السابق يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة لبيان الأجر ويحتمل أن تكون خبرا بعد خبر على مذهب من لا يشترط في تعدد الأخبار كونها في معنى خبر واحد وهو الحق أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم جنات إقامة على أن العدن بمعنى الإقامة والاستقرار يقال عدن بالمكان إذا قام فيه واستقر ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه.
وعن ابن مسعود عدن جنة من الجنان وهي بطنانها ، ووجه إضافة الجنان إليها بأنها لسعتها كأن كل ناحية منها جنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهم في الغرفات آمنون يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ من الأولى للابتداء والثانية للبيان ، والجار والمجرور في موضع صفة لأساور ، وهذا ما اختاره الزمخشري وغيره.
وجوز أبو البقاء في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول الأخفش ، ويدل عليه قوله تعالى وَحُلُّوا أَساوِرَ [الإنسان : 21] وأن تكون بيانية أي شيئا أو حليا من أساور.
وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول كما جوز هو وغيره ذلك في الثانية ، وجوز فيها أيضا أن تتعلق بيحلون وهو كما ترى ، والأساور جمع أسورة جمع سوار بالكسر والضم وهو ما في الذراع من الحلي وهو عربي ، وقال الراغب : معرب دستواره ، وقيل جمع أسوار جمع سوار وأصله أساوير فخفف بحذف يائه فهو على القولين جمع الجمع ، ولم يجعلوه من أول الأمر جمع سوار لما رأوا أن فعالا لا يجمع على أفاعل في القياس ، وعن عمرو بن العلاء أن الواحد أسوار ، وأنشد ابن الأنباري :
واللّه لولا صبية صغار كأنما وجوههم أقمار
تضمهم من العتيك دار أخاف أن يصيبهم إقتار
أو لاطم ليس له أسوار لما رآني ملك جبار
ببابه ما وضح النهار وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار والجمع أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور وهو موافق لما نقل عن أبي العلاء.
ونقل ذلك أيضا عن قطرب وأبي عبيدة ، ونكرت لتعظيم حسنها من الإحاطة ، وقد أخرج ابن مردويه عن سعد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس ضوء النجوم»
وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحليته أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه اللّه تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا»
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : «إن أهل الجنة يحلون أسورة من ذهب ولؤلؤ وفضة هي أخف عليهم من كل شيء إنما هي نور»
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء»
وأخرج أبو الشيخ ، وغيره عن كعب الأحبار قال «إن للّه تعالى ملكا - وفي رواية - في الجنة ملك لو شئت أن أسميه أسميته يصوغ حلي أهل الجنة من يوم خلق إلى أن تقوم الساعة ولو أن حليا منها أخرج لرد شعاع الشمس»
والسؤال بأن لبس الرجال الأساور عيب في الدنيا فكيف يحلونها في الآخرة مندفع بأن كونه عيبا إنما هو بين قوم لم يعتادوه لا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 258
مطلقا ولا أظنك في مرية من أن الشيء قد يكون عيبا بين قوم ولا يكون عيبا بين آخرين ، وليس فيما نحن فيه أمر عقلي يحكم بكونه عيبا في كل وقت وفي كل مكان وبين كل قوم ، وإن التزمت أن فيه ذلك فقد حليت نفسك بحلية الجهل وخرجت من ربقة العقل ، هذا وقرأ أبان عن عاصم «من أسورة» بحذف ألف وزيادة هاء وهو أحد الجموع لسوار كما سمعت وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً لأن الخضرة أحسن الألوان والنفس تنبسط بها أكثر من غيرها ، وروي في أثر أنها تزيد في ضوء البصر ، وقيل :
ثلاثة مذهبة للحزن الماء والخضرة والوجه الحسن ، والظاهر أن لباسهم غير منحصر فيما ذكر إذ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سليم بن عامر أن الرجل يكسى في الساعة الواحدة سبعين ثوبا وأن أدناها مثل شقيق النعمان ، وقيل يحتمل الانحصار ولهم فيها ما تشتهي الأنفس لا يأباه لجواز أنهم لا يشتهون ولا تلذ أعينهم سوى ذلك من الألوان ، والتنكير لتعريف أنها لا يكاد يوصف حسنها.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال : لو أن ثوبا من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم.
وقرأ أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر «ويلبسون» بكسر الباء مِنْ سُنْدُسٍ قال الجواليقي : هو رقيق الديباج بالفارسية فهو معرب ، وفي القاموس هو ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف ، وقال الليث : لم يختلف أهل اللغة والمفسرون في أنه معرب ، وأنت تعلم أن فيه خلاف الشافعي عليه الرحمة ، والقول بأنه ليس من أهل اللغة والمفسرين في النفس منه شيء ، وقال شيد له : هو رقيق الديباج بالهندية ، وواحدة على ما نقل عن ثعلب سندسة.
وزعم بعضهم : أن أصله سندي وكان هذا النوع من الديباج يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما فعل في سادي فقيل سادس ، وهو كلام لا يروج إلا على سندي أو هندي. ويحكى أن جماعة من أهل الهند من بلد يقال له بروج بالجيم الفارسية ، وكانوا يتكلمون بلغة تسمى سنسكريت جاؤوا إلى الإسكندر الثاني بهدية من جملتها هذا الديباج ولم يكن رآه فقال : ما هذا؟ فقالوا : سندون بالنون في آخره فغيرته الروم إلى سندوس ثم العرب إلى سندس فهو معرب قطعا من ذلك اللفظ الذي أطلقته أولئك الجماعة عليه ، لكن لا جرم في أنه اسم له في الأصل بلغتهم أو اسم للبلدة المجلوب هو منها أطلق عليه كما في أسماء كثير من الأمتعة اليوم واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وَإِسْتَبْرَقٍ أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة وعكرمة أنه غليظ الديباج ، وقال ابن بحر : هو ديباج منسوج بذهب وفي القاموس هو الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج أو قدة حمراء كأنها قطع الأوتار اه ، والذي عليه الأكثرون من المفسرين واللغويين الأول ، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك معرب استبره وهي كلمة عجمية ومعناها الغليظ ، والمشهور أنه يقال للغليظ بالفارسية استبر بلا هاء ، وقال ابن قتيبة : هو رومي عرب وأصله استبره فأبدلوا الهاء قافا ، ووقع في شعر المرقش قال :
تراهن يلبسن المشاعر مرة وإستبرق الديباج طورا لباسها
وقال ابن دريد : هو سرياني عرب وذكر من أصله ما ذكروا ، وقيل : أصله استفره بحرف بعد التاء بين الفاء والباء الموحدة ، وادعى بعضهم أن الإستبرق الديباج الغليظ الحسن في اللغة العربية والفارسية ففيه توافق اللغتين ، ونقل عن الأزهري أنه استصوب هذا ، ويجمع على أباريق ويصغر كما في القاموس وغيره على أبيرق ، وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة وفتح القاف حيث وقع جعله كما يقتضيه ظاهر كلام ابن خالويه فعلا ماضيا على وزن استفعل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 259
من البريق إلا أن استفعل فيه موافق للمجرد الذي هو برق ، وظاهر كلام الأهوازي في الإقناع أنه وحده قرأ كذلك وجعله اسما ممنوعا من الصرف ولم يجعله فعلا ماضيا.
وقال صاحب اللوامح : قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة في جميع القرآن مع التنوين فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس ، ويجوز أنه جعله كلمة عربية من برق الثوب يبرق بريقا إذا تلألأ بجدته ونضارته فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما سمي به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ومعاملة المتمكن من الأسماء في الصرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب انتهى ، ولا يخفى أنه مخالف للنقلين السابقين ، ويمكن أن يقال :
إن لابن محيصن قراءتين فيه الصرف والمنع منه فنقل بعض قراءة وبعض آخر أخرى لكن ذكر ابن جني أن قراءة فتح القاف سهو أو كالسهو ، قال أبو حيان : وإنما قال ذلك لأن جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز أنه غير علم فتكون سهوا وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون سهوا انتهى.
وفي الجمع بين السندس والإستبرق إشعار ما بأن لأولئك القوم في الجنة ما يشتهون ، ونكرا لتعظيم شأنهما وكيف لا وهما وراء ما يشاهد من سندس الدنيا وإستبرقها بل وما يتخيل من ذلك ، وقد أخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد اللّه قال : في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة.
وأخرج الطيالسي والبخاري في التاريخ والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال : قال رجل : يا رسول اللّه أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلقا تخلق أم نسجا تنسج؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : بل يتشقق عنها ثمر الجنة
، وظاهره أنها من سندس كانت أو من إستبرق كذلك ، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب وفي القيمة أغلى وفي العين أحلى ، وبنى فعله للمفعول إشعارا بأنهم لا يتعاطون ذلك بأنفسهم وإنما يفعله الخدم كما قال الشاعر :
غرائر في كن وصون ونعمة يحلين ياقوتا وشذرا مفقرا
وكذلك سائر الملوك في الدنيا يلبسهم التيجان ونحوها من العلامات المرصعة بالجواهر خدمهم ، وأسند اللبس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا إذا كان فيه ستر العورة ، وقيل : بني الأول للمفعول والثاني للفاعل إشارة إلى أن التحلية تفضل من اللّه تعالى واللبس استحقاقهم ، وتعقب بأن فيه نزغة اعتزالية ويدفع بالعناية مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة كما قال غير واحد وهو السرير في الحجلة فإن لم يكن فيها فلا يسمى أريكة.
وأخرج ذلك البيهقي عن ابن عباس ، وقال الراغب : الأريكة حجلة على سرير وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا ، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات ، وروي تفسيرها بذلك عن عكرمة.
وقال الزجاج : الأرائك الفرش في الحجال والظاهر أنها على سائر الأقوال عربية ، وحكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية ، وأيّا ما كان فالكلام على ما قاله بعض المحققين كناية عن تنعمهم وترفههم فإن الاتكاء على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين ، والآثار ناطقة بأنهم يتكئون ويتنعمون ،
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه»
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن على الأرائك فرشا منضودة في السماء مقدار فرسخ.
وقرأ ابن محيصن «علرائك» بنقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام عَلَى فيها فيحذف ألف عَلَى لتوهم سكون لام التعريف ، ومثله قول الشاعر : فما أصبحت عارض نفسي برية يريد على الأرض.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 260
نِعْمَ الثَّوابُ ذلك الذي وعدوا به من الجنة ونعيمها وَحَسُنَتْ أي الأرائك أو الجنات مُرْتَفَقاً متكأ ، وقد تقدم آنفا الكلام فيه وَاضْرِبْ لَهُمْ للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي والكفرة الذين طلبوا طردهم مَثَلًا رَجُلَيْنِ مفعولان لأضرب ثانيهما أولهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان قاله بعضهم ، وقد مر تحقيق هذا المقام فتذكر ، والمراد بالرجلين إما رجلان مقدران على ما قيل وضرب المثل لا يقتضي وجودهما وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه ، فقيل هما إخوان من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه فرطوس ، وقيل اسمه قطفير والآخر مؤمن اسمه يهوذا في قول ابن عباس.
وقال مقاتل : اسمه يمليخا ، وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل اللّه تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله ، وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالا وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن : اللهم أنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف فقال : اللهم إني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال :
اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور فتصدق به ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال : اللهم إني أشتري منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله ، وقيل : هما أخوان من بني مخزوم كافر هو الأسود بن الأسد ومؤمن هو أبو سلمة عبد اللّه بن عبد الأسد ، والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا من أن للمؤمنين في الآخرة كذا وللكافرين فيها كذا بل من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم اللّه تعالى وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر أي اضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة والطاعة مع الفقر حال رجلين جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر جَنَّتَيْنِ بستانين لم يعين سبحانه مكانهما إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة.
وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين فجرى ما جرى ففرقهما اللّه تعالى في ليلة واحدة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يعلم منه قول آخر ، والجملة بتمامها تفسير للمثل فلا موضع لها من الإعراب ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لرجلين فموضعها النصب مِنْ أَعْنابٍ من كروم متنوعة فالكلام على ما قيل إما على تقدير مضاف وإما الأعناب فيه مجاز عن الكروم وهي أشجار العنب ، والمفهوم من ظاهر كلام الراغب أن العنب مشترك بين الثمرة والكرم وعليه فيراد الكروم من غير حاجة إلى التقدير أو ارتكاب المجاز ، والداعي إلى إرادة ذلك أن الجنة لا تكون من ثمر بل من شجر وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي جعلنا النخل محيطة بهما مطيفة بحفافيهما أي جانبيهما مؤزرا بها كرومهما يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا آخر كقولك غشيته به وَجَعَلْنا بَيْنَهُما وسطهما زَرْعاً لتكونا جامعتين للأقوات والفواكه متواصلتي العمارة على الهيئة الرائقة والوضع الأنيق.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ثمرها وبلغ مبلغا صالحا للأكل ، وكِلْتَا اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين وهو المذهب المشهور ومثنى لفظا ومعنى عند البغداديين وتاؤه منقلبة عن واو عند سيبويه فأصله كلوي فالألف فيه للتأنيث. ويشكل على هذا إعرابه بالحروف بشرطه ، ويجاب بما أجيب به عن الإشكال في الأسماء الخمسة. وعند الجرمي الألف لام منقلبة عن أصلها والتاء زائدة للتأنيث. ويرد عليه أنه لا يعرف فعتل وأن التاء لا تقع حشوا ولا بعد ساكن صحيح وعلى المشهور يجوز في ضميره مراعاة لفظه ومراعاة معناه وقد روعي الأول هنا والثاني فيما بعد. وفي مصحف عبد اللّه «كلا الجنتين آتي» بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ثم قرأ «آتت» فأنث لأنه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 261
ضمير مؤنث ، ولا فرق بين حقيقيه ومجازيه فالتركيب نظير قولك : طلع الشمس وأشرقت وقال : إن عبد اللّه قرأ «كل الجنتين آتي أكله» فذكر وأعاد الضمير على كل.
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ أي لم تنقص من أكلها شَيْئاً من النقص على خلاف ما يعهد في سائر البساتين فإن الثمار غالبا تكثر في عام وتقل في عام وكذا بعض الأشجار تأتي بالثمار في بعض الأعوام دون بعض ، وجوز أن يكون تَظْلِمْ متعديا وشَيْئاً مفعوله والمآل واحد وَفَجَّرْنا خِلالَهُما أي فيما بين كلتا الجنتين نَهَراً ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما ، قال يحيى بن أبي عمرو الشيباني : وهذا النهر هو النهر هو المسمى بنهر أبي فرطس وهو على ما قال ابن أبي حاتم نهر مشهور في الرملة ، وقيل المعنى فجرنا فيما بين كل من الجنتين نهرا على حدة فيكون هناك نهران على هذا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ، وتشديد فجر قيل للمبالغة في سعة التفجير ، وقال الفراء : لأن النهر ممتد فكأنه أنهار.
وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر «فجرنا» بالتخفيف على الأصل ، وقرأ أبو السمال والعياض بن غزوان وطلحة بن سليمان «نهرا» بسكون الهاء وهو لغة جارية فيه وفي نظائره ، ولعل تأخير ذكر التفجير عن ذكر الإيتاء مع أن الترتيب الخارجي على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لا نفهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مترتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة ، وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقي كقوله تعالى : يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النور : 35] قاله شيخ الإسلام وَكانَ لَهُ أي للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين ثَمَرٌ أنواع المال كما في القاموس. وغيره ويقال : ثمر إذا تمول ، وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان وغيره غير مناسب للنظم.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وقراء المدينة «ثمر» بضم الثاء والميم ، وكذا في «بثمره» الآتي وهو جمع ثمار بكسر الثاء جمع ثمر بفتحتين فهو جمع الجمع ومعناه على نحو ما تقدم أي أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغيرها ، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وقال مجاهد يراد به الذهب والفضة خاصة ، وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم تخفيفا هنا وفيما بعد والمعنى على ما سمعت ، وقرأ أبو رجاء في رواية «ثمر» بالفتح والسكون.
وفي مصحف أبي وحمل على التفسير «وآتيناه ثمرا كثيرا» فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن ، والمراد بالصاحب المعنى اللغوي فلا ينافي هذا العنوان القول بأنهما كانا أخوين خلافا لمن وهم وَهُوَ أي القائل يُحاوِرُهُ أي يحاور صاحبه فالجملة في موضع الحال من القائل ، والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث وإشراكه باللّه تعالى ، وجوز أن تكون الجملة حالا من صاحبه فضمير هُوَ عائد عليه وضمير صاحبه عائد على القائل أي والصاحب المؤمن يراجع بالوعظ والدعوة إلى اللّه عز وجل ذلك الكافر القائل له أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً حشما وأعوانا ، وقيل : أولادا ذكورا ، وروي ذلك عن قتادة ومقاتل ، وأيد بمقابلته - بأقل منك مالا وولدا - وتخصيص الذكور لأنهم الذين ينفرون معه لمصالحه ومعاونته ، وقيل : عشيرة ومن شأنهم أنهم ينفرون مع من هو منهم ، واستدل بذلك على أنه لم يكن أخاه لأن العشيرة مشتركة بينهما وملتزم الأخوة لا يفسر بذلك ، ونصب مالًا ونَفَراً على التمييز وهو على ما قيل محول عن المبتدأ ، والظاهر أن المراد من أفعل التفضيل معناه الحقيقي وحينئذ يرد بذلك ما في بعض الروايات من أن الأخ المؤمن بقي بعد التصدق بماله فقيرا محتاجا فسأل أخاه الكافر ولم يعطه ووبخه على التصدق وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي كل ما هو جنة له يتمتع بها بناء على أن الإضافة للاستغراق والعموم فتفيد ما أفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير ذلك ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون وإلى هذا ذهب

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 262
الزمخشري وهو معنى لطيف دق تصوره على أبي حيان فتعقبه بما تعقبه. واختار الإفراد لأن الدخول لا يمكن أن يكون في الجنتين معا في وقت واحد وإنما يكون في واحدة واحدة وهو خال عما أشير إليه من النكتة.
وكذا ما قيل إن الافراد لاتصال إحداهما بالأخرى ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في قوله تعالى :
جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ إلخ الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كان جنتين وسماه سبحانه جنة من قبل الجدار المحيط به وهو كما ترى ، والذي يدل عليه السياق والمحاورة أن المراد ودخل جنته مع صاحبه وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ جملة حالية أي وهو ضار لنفسه بكفره حيث عرضها للهلاك وعرض نعمتها للزوال أو واضع الشيء في غير موضعه حيث كان اللائق به الشكر والتواضع لا ما حكي عنه.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من ذكر دخول جنته حال ظلمه لنفسه كأنه قيل فماذا قال إذ ذاك؟ فقيل قال : ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك وتفنى يقال باد يبيد بيدا وبيودا وبيدودة إذا هلك هذِهِ أي الجنة أَبَداً أي طول الحياة فالمراد بالتأبيد طول المكث لا معناه المتبادر ، وقيل يجوز أن يكون أراد ذلك لأنه لجهله وإنكاره قيام الساعة ظن عدم فناء نوعها وإن فني كل شخص من أشجارها نحو ما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم في الحركات الفلكية وليس بشيء ، وقيل ما قصد إلا أن هذه الجنة المشاهدة بشخصها لا تفنى على ما يقوله الفلاسفة على المشهور في الأفلاك أنفسها وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل ، وقيل هذِهِ إشارة إلى الأجرام العلوية والأجسام السفلية من السموات والأرض وأنواع المخلوقات أو إشارة إلى الدنيا والمآل واحد والظاهر ما تقدم ، وأيّا ما كان فلعل هذا القول كان منه بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الصالحات الباقيات ، ولعله خوفه أيضا بالساعة فقال له : وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي كائنة فيما سيأتي فالقيام الذي هو من صفات الأجسام مجاز عن الكون والتحقق لكنه جار في العرف مجرى الحقيقة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث عند قيامها كما زعمت لَأَجِدَنَّ حينئذ خَيْراً مِنْها أي من هذه الجنة.
وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر «منهما» بضمير التثنية وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام أي من الجنتين مُنْقَلَباً أي مرجعا وعاقبة لفناء الأولى وبقاء الأخرى على زعمك ، وهو تمييز محول من المبتدأ على ما نص عليه أبو حيان ، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه وهذا كقوله تعالى حكاية وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت : 50] ولم يدر أن ذلك استدراج ، وكأنه لسبق ما يشق عليه فراقه وهي الجنة التي ظن أنها لا تبيد جاء هنا رُدِدْتُ ولعدمه فيما سيأتي بعد إن شاء اللّه تعالى من آية حم المذكورة جاء رُجِعْتُ فليتأمل.
قالَ لَهُ صاحِبُهُ استئناف كما سبق وَهُوَ يُحاوِرُهُ جملة حالية كالسابقة ، وفائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوها كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة.
وقرأ أبي وحمل ذلك على التفسير «وهو يخاصمه» أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي في ضمن خلق أصلك منه وهو آدم عليه السلام لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فإسناد الخلق من تراب إلى ذلك الكافر حقيقة باعتبار أنه مادة أصله ، وكون ذلك مبنيا على صحة قياس

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 263
المساواة خيال واه ، وقيل خلقك منه لأنه أصل مادتك إذ ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب فالإسناد مجاز من إسناد ما للسبب إلى المسبب فتدبر.
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ هي مادتك القريبة فالمخلوق واحد والمبدأ متعدد ، ونقل أنه ما من نطفة قدر اللّه تعالى أن يخلق منها بشرا إلا وملك موكل بها يلقي فيها قليلا من تراب ثم يخلق اللّه تعالى منها ما شاء من ذكر أو أنثى.
وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى ثبوت صحته ، وأنا أقول : غالب ظني أني وقفت على تصحيحه لكن في تخريج الآية عليه كلام لا يخفى ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا عدلك وكملك إنسانا ذكرا وأصل معنى التسوية جعل الشيء سواء أي مستويا كما فيما تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء : 42] ثم إنه يستعمل تارة بمعنى الخلق والإيجاد كما في قوله تعالى وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس : 6] فإذا قرن بالخلق والإيجاد كما هنا فالمراد به الخلق على أتم حال وأعدله حسبما تقتضيه الحكمة بدون إفراط ولا تفريط ، ونصب رَجُلًا على ما قال أبو حيان على الحال وهو محوج إلى التأويل.
وقال الحوفي : نصب على أنه مفعول ثان لسوى ، والمراد ثم جعلك رجلا ، وفيه على ما قيل تذكير بنعمة الرجولية أي جعلك ذكرا ولم يجعلك أنثى.
والظاهر أن نسبة الكفر باللّه تعالى إليه لشكه في البعث وقوله ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً والشاك في البعث كما في الكشف كافر من أوجه الشك في قدرته تعالى وفي أخباره سبحانه الصدق وفي حكمته ألا ترى إلى قوله عز وجل أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون : 115] وهذا هو الذي يقتضيه السياق لأن قوله أَكَفَرْتَ إلخ وقع ردا لقوله ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ولذلك رتب الإنكار بخلقه من تراب ثم من نطفة الملوح بدليل البعث وعليه أكثر المفسرين ونوقشوا فيه.
وقال بعضهم : الظاهر أنه كان مشركا كما يدل عليه قول صاحبه تعريضا به لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وقوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وليس في قوله لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي ما ينافيه لأنه على زعم صاحبه كما مر مع أن الإقرار بالربوبية لا ينافي الإشراك فعبدة الأصنام مقرون بها وهم مشركون فالمراد بقوله أَكَفَرْتَ أأشركت اه ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بعض ما يتعلق به.
وقرأ ثابت البناني وحمل ذلك على التفسير كنظائره المتقدمة ويلك أكفرت لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أصله لكن أنا وقد قرأ به أبي والحسن ، وحكى ابن عطية ذلك عن ابن مسعود فنقل حركة همزة أنا إلى نون لكن فحذفت الهمزة ثم حذفت الحركة ثم أدغمت النون في النون ، وقيل حذفت الهمزة مع حركتها ثم أدغم أحد المثلين في الآخر وهو أقرب مسافة إلا أن الحذف المذكور على خلاف القياس ، وقد جاء الحذف والإدغام في قوله :
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي
فإنه أراد لكن أنا لا أقليك ، وهو أولى من جعلهم التقدير لكنه إياك على حذف ضمير الشأن ، وأبعد منه جعل الأصل لكنني إياك على حذف اسم لكن كما في قوله :
فلو كنت ضبيّا عرفت قرابتي ولكن زنجيّ عظيم المشافر
أي لكنك مع نون الوقاية ، وبإثبات الألف آخرا في الوقف وحذفها في الوصل كما هو الأصل في أنا وقفا ووصلا قرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون ، وأبدلها هاء في الوقف أبو عمرو في رواية فقال «لكنه» ذكره ابن خالويه ، وقال ابن عطية : روى هارون عن أبي عمرو «لكنه هو اللّه ربي» بضمير لحق لكن.
وقرأ ابن عامر وزيد بن علي والحسن والزهري بإثبات الألف وقفا ووصلا وهو رواية عن نافع ويعقوب وأبي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 264
عمرو وورش وأبي جعفر وأبي بحرية ، وجاء ذلك على لغة بني تميم فإنهم يثبتون ألف أنا في الأصل اختيارا وأما غيرهم فيثبتها فيه اضطرارا ، وقال بعضهم : إن إثباتها في الوصل غير فصيح لكنه حسن هنا لمشابهة أنا بعد حذف همزته لضميرنا المتصل ولأن الألف جعل عوضا عن الهمزة المحذوفة فيه. وقيل أثبتت إجراء للوصل مجرى الوقف وفي إثباتها دفع اللبس بلكن المشددة ، ومن إثباتها وصلا قول الشاعر :
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما
وفي رواية الهاشمي عن أبي جعفر حذفها وصلا ووقفا ، وروي ذلك أيضا عن أبي عبلة وأبي حيوة وأبي بحرية ، وقرأ «لكننا» بحذف الهمزة وتخفيف النونين ، و«لكن» في جميع هذه القراءات حرف استدراك لا عمل له وأنا مبتدأ أول وهُوَ ضمير الشأن مبتدأ ثان واللَّهُ رَبِّي مبتدأ وخبر ، والجملة خبر ضمير الشأن وهي غنية عن الرابط وجملة ضمير الشأن وخبره خبر المبتدأ الأول والرابط ضمير المتكلم المضاف إليه ، والتركيب نظير قولك : هند هو زيد ضاربها ، وجوز أن يكون هُوَ مبتدأ ثانيا والاسم الجليل بدلا منه ورَبِّي خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الياء أيضا.
وفي البحر أن هُوَ ضمير الشأن وثم قول محذوف أي لكن أنا أقول هو اللّه ربي ، ويجوز أن يعود على الذي خَلَقَكَ أي لكن أنا أقول الذي خلقك اللّه ربي فخبره الاسم الجليل ورَبِّي نعت أو عطف بيان أو بدل انتهى ، ثم جوز عدم تقدير القول واقتصر على جعل هُوَ ضمير الشأن حينئذ حسبما سمعت ، ولا يخفى أن احتمال تقدير القول بعيد في هذه القراءة ولعل احتمال كون الاسم الجليل بدلا أقرب معنى من كونه خبرا وعود الضمير على الذي خلقك ، وجوز أبو علي كون - نا - ضمير الجماعة كالتي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين إلا أنه أريد بها ضمير المعظم نفسه فوحد رَبِّي على المعنى ولو اتبع اللفظ لقيل ربنا ولا يخفى ما فيه من البعد ، وقال ابن عطية في الآية : يجوز أن تكون لكن هي العاملة من أخوات إن واسمها محذوف وحذفه فصيح إذا دل عليه الكلام والتقدير لكن قولي هو اللّه ربي ، لكن ذلك إنما يتم لو قرىء بحذف الألف وقفا ووصلا وأنا لا أعرف أحدا قرأ بذلك انتهى ، وأنت قد عرفت من قرأ به ، وقد ذكر غيرهم قرؤوا أيضا أبو القاسم يوسف بن علي الهذلي في كتابه الكامل في القراءات لكن لا أظنك تستحسن التخريج على ذلك وقرأ عيسى الثقفي «لكن هو اللّه» بسكون نون لكن ، وحكاه ابن خالويه عن ابن مسعود والأهوازي عن الحسن وإعرابه ظاهر جدا.
وقرىء «لكن أنا هو اللّه لا إله إلا هو ربي» ويعلم إعرابه مما مر ، وخرج أبو حيان قراءة أبي عمرو على رواية هارون على أن يكون «هو» تأكيدا لضمير النصب في «لكنه» وجعله عائدا على «الذي خلقك» ثم قال : ويجوز أن يكون فصلا لوقوعه بين معرفتين ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد حينئذ على اسم لكن من الجملة الواقعة خبرا انتهى ، ويا ليت شعري ما الذي منعه من تجويز أن يكون ضمير لكنه للشأن ويكون هُوَ مبتدأ عائدا على الذي خَلَقَكَ والاسم الجليل خبره ورَبِّي نعتا أو عطف بيان أو بدل والجملة خبر ضمير الشأن المنصوب بلكن أو يكون هُوَ مبتدأ والاسم الجليل بدلا منه ورَبِّي خبرا والجملة خبر الضمير.
هذا وقوله وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً عطف على إحدى الجملتين والاستدراك على أَكَفَرْتَ وملخص المعنى لمكان الاستفهام الذي هو للتقرير على سبيل الإنكار أنت كافر باللّه تعالى لكني مؤمن موحد.
وللتغاير الظاهر بين الجملتين وقعت لكن موقعها فقد قالوا : إنها تقع بين كلامين متغايرين نحو زيد حاضر لكن عمرو غائب ، وإلى كون المعنى ما ذكر ذهب الزمخشري وغيره ، وذكر في الكشف أن فيه إشارة إلى أن الكفر باللّه تعالى يقابله الإيمان والتوحيد فجاز أن يستدرك بكل منهما وبهما معا أي كما هنا فإن الإيمان مفاد أنا هو اللّه ربي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 265
والتوحيد مفاد لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وأنت تعلم أيضا أن الشرك كثيرا ما يطلق على مطلق الكفر وجعلوا منه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء : 48 ، 116] وإنه يمكن أن يكون الغرض من مجموع الكلام إثبات الإيمان على الوجه الأكيد ، ولعل شرك صاحبه الذي عرض به في الجملة الثانية كما صرح به غير واحد بهذا المعنى.
وقيل الشرك فيه بالمعنى المتبادر وإثباته لصاحبه تعريضا باعتبار أنه لما أنكر البعث فقد عجز الباري جل جلاله ومن عجزه سبحانه وتعالى فقد سواه بخلقه تعالى في العجز وهو شرك ، وقيل باعتبار أنه لما اغتر بدنياه وزعم الاستحقاق الذاتي وأضاف ما أضاف لنفسه كان كأنه أشرك فعرض به المؤمن بما عرض فكأنه قال : لكن أنا مؤمن ولا أرى الغنى والفقر إلا من اللّه تعالى يفقر من يشاء ويغني من يشاء ولا أرى الاستحقاق الذاتي على خلاف ما أنت عليه والإنصاف أن كلا من القولين تكلف ، وقيل في الكلام تعريض بشرك صاحبه ولا يلزم أن يكون مدلولا عليه بكلامه السابق بل يكفيه ثبوت كونه مشركا في نفس الأمر وفيما بعد ما هو ظاهر فيه فتأمل ، ثم اعلم أن ما تضمنته الآية ذكر جليل. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت : علمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلمات أقولهن عند الكرب اللّه ربي لا أشرك به شيئا.
وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ حض على القول وتوبيخ على تركه ، وتقديم الظرف على المحضض عليه للإيذان بتحتم القول في آن الدخول من غير ريث للقصر ، وجاز تقديمه لذلك وجعله فاصلا بين لَوْلا وفعلها لتوسعهم في الظروف أي هلا قلت عند ما دخلتها ما شاءَ اللَّهُ أي الأمر ما شاء اللّه أو ما شاء اللّه تعالى كائن على أن ما موصولة مرفوعة المحل إما على أنها خبر مبتدأ محذوف أو على أنها مبتدأ محذوف الخبر.
ويجوز أن تكون شرطية في محل نصب بشاء والجواب محذوف أي أي شيء شاء اللّه تعالى كان ، وأيّا ما كان فالمراد تحضيضه على الاعتراف بأن جنته وما فيها بمشيئة اللّه تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها ، ودلالة الجملة على العموم الداخل فيه ما ذكر دخولا أوليا على التقدير الأول لأن تعريف الأمر للاستغراق ، والجملة على هذا تفيد الحصر وأما على غيره فقيل لأن ما شرطية أو موصولة وهي في معنى الشرط والشرط وما في معناه يفيد توقف وجود الجزاء على ما في حيزه فيفيد عدمه عند عدمه فيكون المعنى ما شاء كان وإن لم يشأ لم يكن ، ولا غبار على ذلك عند من يقول بمفهوم الشرط ، وقدر بعضهم في الثاني من احتمالي الموصولة ما شاء اللّه هو الكائن حتى تفيد الجملة ما ذكر وليس بشيء كما لا يخفى.
وزعم القفال من المعتزلة أن التقدير هذا ما شاءه اللّه تعالى والإشارة إلى ما في الجنة من الثمار ونحوها ، وهذا كقول الإنسان إذا نظر إلى كتاب مثلا : هذا خط زيد ، ومراده نفي دلالة الآية على العموم ليسلم له مذهب الاعتزال ، وكذلك فعل الكعبي والجبائي حيث قالا : الآية خاصة فيما تولى اللّه تعالى فعله ولا تشمل ما هو من فعل العباد ولا يمتنع أن يحصل في سلطانه سبحانه ما لا يريد كما يحصل فيه ما ينهى عنه ، ولا يخفى على من له ذوق سليم وذهن مستقيم أن المنساق إلى الفهم العموم وكم للمعتزلة عدول عن ذلك لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ من مقول القول أيضا أي هلا قلت ذلك اعترافا بعجزك وإقرارا بأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره جل جلاله ، وقد تضمنت هذه الآية ذكرا جليلا أيضا ،
فقد أخرج أحمد عن أبي هريرة قال : «قال لي نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت : نعم قال : أن تقول لا قوة إلا باللّه
قال عمرو بن ميمون قلت لأبي هريرة : لا حول ولا قوة إلا باللّه فقال : لا إنها في سورة الكهف ولولا إذ دخلت» الآية.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 266
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال : «إن من أفضل الدعاء قول الرجل ما شاء اللّه»
، وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «ما أنعم اللّه تعالى على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه إلا دفع اللّه تعالى عنه كل آفة حتى تأتيه منيته وقرأ ولولا إذ دخلت»
إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أنس قال : من رأى شيئا من ماله فأعجبه فقال ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه لم يصب ذلك المال آفة أبدا وقرأ الآية ، وأخرجه البيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف قال : كان مالك إذا دخل بيته يقول : ما شاء اللّه قلت لمالك : لم تقول هذا؟
قال : ألا تسمع اللّه تعالى يقول وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ ونقل عن ابن العربي أن مالكا يستدل بالآية على استحباب ما تضمنته من الذكر لكل من دخل منزله.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عروة أنه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال : ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه ويتأول قول اللّه تعالى وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ الآية ، ويفهم من بعض الروايات استحباب قول ذلك عند رؤية ما يعجب مطلقا سواء كان له أو لغيره وأنه إذا قال ذلك لم تصبه عين الإعجاب إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً إلخ أَنَا توكيد للضمير المنصوب على المفعولية في تَرَنِ وقد أقيم ضمير الرفع مقام ضمير النصب ، والرؤية إن كانت علمية فأقل مفعول ثان وإن كانت بصرية فهو حال من المفعول ، ويجوز أن يكون أَنَا فصلا وحينئذ يتعين أن تكون الرؤية علمية لأن الفصل إنما يقع بين مبتدأ وخبر في الحال أو في الأصل.
وقرأ عيسى بن عمر «أقلّ» بالرفع فيكون أَنَا مبتدأ وأَقَلَّ خبره والجملة في موضع المفعول الثاني على الأول من احتمالي الرؤية أو الحال على الثاني منهما ومالًا وَوَلَداً تمييز على القراءتين وما فيهما من الاحتمال ، وقوله : فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ قائم مقام جواب الشرط أي إن ترن كذلك فلا بأس عسى ربي إلخ ، وقال كثير : هو جواب الشرط ، والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنيع اللّه تعالى أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيرا من جنتك ويسلبك بكفرك نعمته ويخرب جنتك ، وقيد بعضهم هذا الإيتاء بقوله :
في الآخرة ، وقال آخر : في الدنيا أو في الآخرة ، وظاهر ما ذكر أنه في الدنيا كالإرسال في قوله وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ أي عذابا كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى : حُسْباناً فقال : نارا وأنشد له قول حسان :
بقية معشر صبت عليهم شآبيب من الحسبان شهب
وأخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا ، وقال الزمخشري : هو مصدر كالبطلان والغفران بمعنى الحساب والمراد به المحسوب والمقدر أي مقدرا قدره اللّه تعالى وحسبه وهو الحكم بتخريبها ، والظاهر أن إطلاقه على الحكم المذكور مجاز والزجاج جعل الحسبان بمعنى الحساب أيضا إلا أنه قدر مضافا أي عذاب حساب وهو حساب ما كسبت يداه ، ولا يخفى أنه يجوز أن يراد من الحسبان بهذا المعنى العذاب مجازا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف.
وظاهر عبارة القاموس وكذا ما روي أولا عن ابن عباس أن إطلاق الحسبان على العذاب حقيقة ، ويمكن على ما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 267
قيل أن يكون إطلاقه على النار باعتبار أنها من العذاب أو من المقدر ، ونقل الزمخشري أن حُسْباناً جمع حسبانة وهي المرماة أي ما يرمى به كالسهم والصاعقة وأريد بها هنا الصواعق ، وقيل أعم من ذلك أي يرسل عليها مرامي من عذابه إما بردا وإما حجارة وإما غيرهما مما يشاء فَتُصْبِحَ لذلك صَعِيداً أي أرضا زَلَقاً ليس فيها نبات قاله الحسن وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي قيل وأصل معنى الزلق الزلل في المشي لوحل ونحوه لكن لما كان ذلك فيما لا يكون فيه نبت ونحوه مما يمنع منه تجوز به أو كني عنه ، وعبر بالمصدر عن المزلقة مبالغة ، وقيل الزلق من زلق رأسه بمعنى حلقه والكلام على التشبيه أي فتصبح أرضا ملساء ليس فيها شجر ولا نبات كالرأس الذي حلق وفيه بعد ، وقيل المراد بالزلق المزلقة بالمعنى الحقيقي الظاهر ، والمعنى فتصبح أرضا لا نبات فيها ولا يثبت فيها قدم ، وحاصله فتصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها فتكون وحلا لا تنبت ولا يثبت عليها قدم ، وظاهر صنيع أبي حيان اختياره ، وقال مجاهد : أي فتصبح رملا هائلا أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا في الأرض ، والتعبير بالمصدر للمبالغة نظير ما مر.
فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ أي للماء الغائر طَلَباً تحركا وعملا في رده وإخراجه ، والمراد نفي استطاعة الوصول إليه فعبر عنه بنفي الطلب إشارة إلى أنه غير ممكن والعاقل لا يطلب مثله ، وقيل ضمير لَهُ للماء مطلقا لا للماء المخصوص أي فلن تستطيع لماء لها بدل ذلك الماء الغائر طلبا ، وهو الذي يقتضيه كلام الماوردي إلا أنه خلاف الظاهر.
والظاهر أن يُصْبِحَ عطف على (تصبح) وحينئذ لا بد أن يراد بالحسبان ما يصلح ترتب الأمرين عليه عادة كالحكم الإلهي بالتخريب إذ ليس كل آفة سماوية يترتب عليها إصباح الجنة صعيدا زلقا يترتب عليها وا صباح مائها غورا ، وجوز أن يكون العطف على يُرْسِلَ وحينئذ يجوز أن يراد بالحسبان أي معنى كان من المعاني السابقة ، وعلى هذا يكون المؤمن قد ترجى هلاك جنة صاحبه الكافر إما بآفة سماوية أو بآفة أرضية وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع لكنه لم يصرح بما يترتب على الغور من الضرر والخراب ، ولعل ذلك لظهوره والاكتفاء بالإشارة إليه بقوله فَلَنْ إلخ. وتعقب بأنه لا يخفى أنه لا فساد في هذا العطف لا لفظا ولا معنى إلا أنه كان الظاهر أن يقال :
أو يجعل ماءها غورا أو نحو ذلك مما فيه إسناد الفعل إلى اللّه تعالى ولا يظهر للعدول إلى ما في النظم الكريم وجه فتأمل ، ثم إن أكثر العلماء على أن قوله إِنْ تَرَنِ إلخ في مقابلة قول الكافر أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا إلخ وكأنهم عنوا المقابلة في الجملة لا المقابلة التامة أما إذا لم يتحد المراد بالنفر والولد فظاهر ، وأما إذا اتحد بأن فسر النفر بالولد فلأن هناك أمرين أكثرية وأعزية ولم يذكر هنا إلا مقابل أحدهما وهو الأقلية المنسوبة في المعنى إلى المال والولد ، نعم قيل :
إن أقلية الولد قد تستلزم الأذلية والأكثرية قد تستلزم الأعزية كما يشاهد في عرب البادية. هذا وكان الظاهر أن يتعرض في الجزاء لأمر الولد كما تعرض لأمر المال بأن يقال وعسى أن يؤتيني خيرا من ولدك ويصيبهم ببلاء فيصبحوا هلكى أو نحو ذلك. وأجيب بأنه إنما لم يتعرض لذلك إشارة إلى استيلاء حب المال على قلب ذلك الكافر وأنه يكفي في نكايته وإغاظته تلف جنته وإعطاء صاحبه المؤمن خيرا منها.
وقيل : إنما لم يتعرض لذلك لما فيه من ترجي هلاك من لم يصدر منه مكالمة ومحاورة ولم ينقل عنه مقاومة ومفاخرة لمجرد إغاظة كافر حاور وكاثر وفاخر وتركه أفضل للكامل وأكمل للفاضل ، والدعاء على الكفرة وذراريهم الصادر من بعض الأنبياء عليهم السلام ليس من قبيل هذا الترجي كما لا يخفى على المتأمل وحيث أراد ترك هذا الترجي ترك ترجي الولد لنفسه تبعا له أو لكونه غير مهم له ، وقيل : إنه ترجاه في قوله : خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ لأن المراد

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 268
شيئا خيرا من جنتك والنكرة قد تعم بمعونة المقام فيندرج الولد وليس بشيء.
وقيل : أراد ما هو الظاهر أي جنة خيرا من جنتك إلا أن الخيرية لا تتم من دون الولد إذ لا تكمل لذة بالمال لمن لا ولد له فترجى جنة خير من تلك الجنة متضمن لترجي ولد خير من أولئك الولد ولم يترج هلاك ولده ليكون بقاؤهم بعد هلاك جنته حملا عليه ، ولا يخفى أنه لا يتبادر إلى الذهن من خيرية الجنة إلا خيريتها فيما يعود إلى كونها جنة من كثرة الأشجار وزيادة الثمار وغزارة مياه الأنهار ونحو ذلك ، وفي قوله : ليكون إلخ منع ظاهر ، وقيل : لم يترج الولد اكتفاء بما عنده منهم فإن كثرة الأولاد ليس مما يرغب فيه الكاملون وفيه نظر ، وقيل : إنه لم يقرن ترجي إيتاء الولد مع ترجي إيتاء الجنة لأن ذلك الإيتاء المترجى في الآخرة وهي ليست محلا لإيتاء الولد لانقطاع التولد هناك ، ولا يخفى أن هذا بعد تسليم أنه لا يؤتى الولد لمن شاءه في الآخرة ليس بشيء ، وقيل : يمكن أن يكون ترجي الولد في قوله :
خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ بناء على أنه أراد من جنته جميع ما متع به من الدنيا وتكون الضمائر بعدها عائدة عليها بمعنى البستان على سبيل الاستخدام وهو كما ترى فتدبر ، واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه وأخبر.
وقرأت فرقة «غؤورا» بضم الغين وهمزة بعدها وواو بعدهما وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أهلك أمواله المعهودة من جنتيه وما فيهما ، وهو مأخوذ من إحاطة العدو وهي استدارته به من جميع جوانبه استعملت في الاستيلاء والغلبة ثم استعملت في كل هلاك ، وذكر الخفاجي أن في الكلام استعارة تمثيلية شبه إهلاك جنتيه بما فيهما بإهلاك قوم حاط بهم عدو وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم ، ويحتمل أن تكون الاستعارة تبعية ، وبعض يجوز كونها تمثيلية تبعية انتهى. وجعل ذلك من باب الكناية أظهر والعطف على مقدر كأنه قيل : فوقع بعض ما ترجى وأحيط إلخ وحذف لدلالة السباق والسياق عليه ، واستظهر أن الإهلاك كان ليلا لقوله تعالى فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ويحتمل أن تكون أصبح بمعنى صار فلا تدل على تقييد الخبر بالصباح ، ويجري هذان الأمران في تصبح ويصبح السابقين ، ومعنى تقليب الكفين على ما استظهره أبو حيان أن يبدي بطن كل منهما ثم يعوج يده حتى يبدو ظهر كل يفعل ذلك مرارا ، وقال غير واحد : هو أن يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى ثم يعكس الأمر ويكرر ذلك ، وأيّا ما كان فهو كناية عن الندم والتحسر وليس ذلك من قولهم : قلبت الأمر ظهرا لبطن كما في قول عمرو بن ربيعة :
وضربنا الحديث ظهرا لبطن وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
فإن ذلك مجاز عن الانتقال من بعض الأحاديث إلى بعض ، ولكونه كناية عن الندم عدي بعلى في قوله تعالى :
عَلى ما أَنْفَقَ فِيها فالجار والمجرور ظرف لغو متعلق بيقاب كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق ، ومنه يعلم أنه يجوز في الكناية إن تعدى بصلة المعنى الحقيقي كما في قولهم : بنى عليها وبصلة المعنى الكنائي كما هنا فيجوز بنى بها ويكون القول بأنه غلط غلط.
ويجوز أن يكون الجار والمجرور ظرفا مستقرا متعلقه خاص وهو حال من ضمير «يقلب» أي متحسرا على ما أنفق وهو نظرا إلى المعنى الكنائي حال مؤكدة على ما قيل لأن التحسر والندم بمعنى ، وقال بعضهم : إن التحسر الحزن وهو أخص من الندم فليراجع ، وأيّا ما كان فلا تضمين في الآية كما توهم. وقرىء «تقلب كفاه» أي تتقلب ، ولا يخفى عليك أمر الجار والمجرور على هذا ، وما إما مصدرية أي على إنفاقه في عمارتها ، وإما موصولة أي على الذي أنفقه في عمارتها من المال ، ويقدر على هذا مضاف إلى الموصول من الأفعال الاختيارية إذا كان متعلق الجار يُقَلِّبُ مرادا منه يندم لأن الندم إنما يكون على الأفعال الاختيارية ، ويعلم من هذا وجه تخصيص الندم على ما أنفق بالذكر دون

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 269
هلاك الجنة ، وقيل : لعل التخصيص لذلك ولأن ما أنفق في عمارتها كان ما يمكن صيانته عن طوارق الحدثان وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أن يتمتع بها أكثر مما يتمتع به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردى ولذلك قال ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف : 35] فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع بناء على الزعم الفاسد من إنفاق ما يمكن ادخاره في مثل هذا الشيء السريع الزوال انتهى ، والظاهر أن إهلاكها واستئصال نباتها وأشجارها كان دفعيا بآفة سماوية ولم يكن تدريجيا بإذهاب ما به النماء وهو الماء ، فقد قال الخفاجي : إن الآية تدل على وقوع استئصال نباتها وأشجارها عاجلا بآفة سماوية صريحا لقوله تعالى فَأَصْبَحَ بالفاء التعقيبية والتحسر إنما يكون لما وقع بغتة فتأمل وَهِيَ أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل خاوِيَةٌ أي ساقطة ، وأصل الخواء كما قيل الخلاء يقال خوى بطنه من الطعام يخوي خوى وخواء إذا خلا.
وفي القاموس خوت الدار تهدمت وخوت وخويت خيا وخويا وخواء وخواية خلت من أهلها ، وأريد السقوط هنا لتعلق قوله تعالى : عَلى عُرُوشِها بذلك ، والعروش جمع عرش وهو هنا ما يصنع من الأعمدة لتوضع عليه الكروم ، وسقوط الجنة على العروش لسقوطها قبلها ، ولعل ذلك لأنه قد أصاب الجنة من العذاب ما جعلها صعيدا زلقا لا يثبت فيها قائم ، ولعل تخصيص حال الكروم بالذكر دون النخل والزرع إما لأنها العمدة وهما من متمماتها وإما لأن ذكر هلاكها على ما قيل مغن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مسندة بعروشها فهلاك ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الإنفاق في عمارتها أكثر ، ثم هذه الجملة تبعد ما روي من أن اللّه تعالى أرسل عليها نارا فأحرقتها وغار ماؤها إلا أن يراد منها مطلق الخراب ، وحينئذ يجوز أن يراد من هِيَ الجنة بجميع ما اشتملت عليه وَيَقُولُ عطف على يُقَلِّبُ وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا من الضمير المستتر فيه بتقدير وهو يقول لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو الحالية إلا شذوذا.
يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أصابه ، قيل ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندما عليه فيكون تجديدا للإيمان لأن ندمه على شركه فيما مضى يشعر بأنه آمن في الحال فكأنه قال : آمنت باللّه تعالى الآن وليت ذلك كان أولا ، لكن لا يخفى أن مجرد الندم على الكفر لا يكون إيمانا وإن كان الندم على المعصية قد يكون توبة إذا عزم على أن لا يعود وكان الندم عليها من حيث كونها معصية كما صرح به في المواقف ، وعلى فرض صحة قياسه بها لم يتحقق هنا من الكافر ندم عليه من حيث هو كفر بل بسبب هلاك جنتيه ، والآية فيما بعد ظاهرة أيضا في أنه لم يتب عما كفر به وهو إنكار البعث ، والقول بأنه إنما لم تقبل توبته عن ذلك لأنها كانت عند مشاهدة البأس والإيمان إذ ذاك غير مقبول غير مقبول إذ غاية ما في الباب أنه إيمان بعد مشاهدة إهلاك ماله وليس في ذلك سلب الاختيار الذي هو مناط التكليف لا سيما إذا كان ذلك الإهلاك للإنذار ، نعم إذا قيل إن هذا حكاية لما يقوله الكافر يوم القيامة كما ذهب إليه بعض المفسرين كان وجه عدم القبول ظاهرا إذ لا ينفع تجديد الإيمان هناك بالاتفاق وَلَمْ تَكُنْ لَهُ وقرأ الاخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير «يكن» بالياء التحتية لأن المرفوع به أعني قوله تعالى فِئَةٌ غير حقيقي التأنيث والفعل مقدم عليه وقد فصل بينهما بالمنصوب ، وقد روعي في قوله سبحانه يَنْصُرُونَهُ المعنى فأتى بضمير الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة «ولم تكن له فئة تنصره» مراعاة للفظ فقط ، والمراد من النصرة لازمها وهو القدرة عليها أي لم تكن له فئة تقدر على نصره إما بدفع الهلاك قبل وقوعه أو برد المهلك بعينه على القول بجواز إعادة المعدوم بعينه أو برد مثله على القول بعدم جواز ذلك مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنه سبحانه وتعالى القادر على نصره وحده ، وارتكب المجاز لأنه لو أبقى ذلك على ظاهره لاقتضى نصرة اللّه تعالى إياه لأنه إذا قيل : لا ينصر زيدا أحد دون بكر فهم منه نصرة بكر

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 270
له في العرف وليس ذلك بمراد بل المراد ما سمعت ، وحاصله لا يقدرون على نصره إلا اللّه تعالى القدير وَما كانَ في نفسه مُنْتَصِراً ممتنعا بقوته عن انتقام اللّه تعالى منه هُنالِكَ أي في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي النصرة له تعالى وحده لا يقدر عليها أحد فالجملة تقرير وتأكيد لقوله تعالى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ إلخ ، أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر سبحانه بما فعل بالكافر أخاه المؤمن فالولاية بمعنى النصرة على الوجهين إلا أنها على الأول مطلقة أو مقيدة بالمضطر ومن وقع به الهلاك وعلى هذا مقيدة بغير المضطر وهم المؤمنون ، ويعضد أن المراد نصرتهم قوله تعالى : هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أي عاقبة لأوليائه ، ووجه ذلك أن الآية ختمت بحال الأولياء فيناسب أن يكون ابتداؤها كذلك.
وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير «الولاية» بكسر الواو وهي والولاية بالفتح بمعنى واحد عند بعض أهل اللغة كالو كالة والوكالة والوصاية والوصاية ، وقال الزمخشري : هي بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك أي هنالك السلطان له عز وجل لا يغلب ولا يمتنع منه ولا يعبد غيره كقوله تعالى : فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت : 65] فتكون الجملة تنبيها على أن قوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ إلخ كان عن اضطرار وجزع عما دهاه ولم يكن عن ندم وتوبة ، وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أنهما قالا : إن كسر الواو لحن هنا لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة ومعنى متقلدا كالكتابة والإمارة والخلافة وليس هنا تولي أمر إنما هي الولاية بالفتح بمعنى الدين بالكسر ولا يعول على ذلك.
واستظهر أبو حيان كون هُنالِكَ إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية للّه الحق ويناسب قوله تعالى : هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ويكون كقوله تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر : 16] والظاهر على جميع ذلك أن الوقف على مُنْتَصِراً وقوله تعالى : هُنالِكَ إلخ ابتداء كلام ، وحينئذ فالولاية مبتدأ ولِلَّهِ الخبر والظرف معمول الاستقرار والجملة مفيدة للحصر لتعريف المسند إليه واقتران الخبر بلام الاختصاص كما قرر في «الحمد للّه رب العالمين» وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون «هنالك» خبر «الولاية» أو الولاية مرفوعة به و«للّه» يتعلق بالظرف أو بالعامل فيه أو بالولاية ، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منها.
وقال بعضهم : إن الظرف متعلق بمنتصرا والإشارة إلى الدار الآخرة ، والمراد الإخبار بنفي أن ينتصر في الآخرة بعد نفي أن تكون له فئة تنصره في الدنيا. والزجاج جعله متعلقا بمنتصرا أيضا إلا أنه قال : وما كان منتصرا في تلك الحالة ، والْحَقِّ نعت للاسم الجليل.
وقرأ الاخوان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني الحق بالرفع على أنه صفة الْوَلايَةُ وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو الحق وأن يكون مبتدأ وهو خبره وقرأ أبي «هنالك الولاية الحق للّه» بتقديم الْحَقِّ ورفعه وهو يرجح كون الْحَقِّ نعتا للولاية في القراءة السابقة.
وقرأ أبو حيوة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو «الحق» بالنصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة والناصب له عامل مقدر كما في قولك : هذا عبد اللّه حقا ، ويحتمل أنه نعت مقطوع.
وقرأ الحسن والأعمش وحمزة وعاصم وخلف «عقبا» بسكون القاف والتنوين ، وعن عاصم «عقبى» بألف التأنيث المقصور على وزن رجعى ، والجمهور بضم القاف والتنوين والمعنى في الكل ما تقدم.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي اذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يغتروا بها ولا يضربوا عن الآخرة صفحا بالمرة أو اذكر لهم صفتها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثل وبينها لهم.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 271
كَماءٍ استئناف لبيان المثل أي هي كماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ وجوزوا أن يكون مفعولا ثانيا لا ضرب على أنه بمعنى صير. وتعقب بأن الكاف تنبو عنه إلا أن تكون مقحمة. ورد بأنه مما لا وجه لأن المعنى صير المثل هذا اللفظ فالمثل بمعنى الكلام الواقع فيه التمثل. وقال الحوفي : الكاف متعلقة بمحذوف صفة لمصدر محذوف أي ضربا كماء وليس بشيء.
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي فاشتبك وخالط بعضه بعضا لكثرته وتكاثفه بسبب كثرة سقي الماء إياه أو المراد فدخل الماء في النبات حتى روي ورف ، وكان الظاهر في هذا المعنى فاختلط بنبات الأرض لأن المعروف في عرف اللغة والاستعمال دخول الباء على الكثير الغير الطارئ وإن صدق بحسب الوضع على كل من المتداخلين أنه مختلط ومختلط به إلا أنه اختير ما في النظم الكريم للمبالغة في كثرة الماء حتى كأنه الأصل الكثير ففي الكلام قلب مقبول فَأَصْبَحَ ذلك النبات الملتف إثر بهجته ونضارته هَشِيماً أي يابسا متفتتا ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، وقيل جمع هشيمة وأصبح بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح كما في قوله :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
وقيل هي على ظاهرها مفيدة لتقييد الخبر بذلك لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلا. وتعقب بأنه ليس في الآية ما يدل على أن اتصافه بكونه هشيما لآفة سماوية بل المراد بيان ما يؤول إليه بعد النضارة من اليبس والتفتت كقوله تعالى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى : 4 ، 5] تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه كما قال أبو عبيدة ، وقال الأخفش : ترفعه ، وقال ابن كيسان : تجيء به وتذهب ، وقرأ ابن مسعود «تذريه» من أذرى رباعيا وهو لغة في ذرى وقرأ زيد بن علي والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير «تذروه الريح» بالإفراد ، وليس المشبه به نفس الماء بل هو الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر مهتزا ثم يصير يابسا تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن ، وعبر بالفاء في الآية للإشعار بسرعة زواله وصيرورته بتلك الصفة فليست فصيحية ، وقيل هي فصيحية والتقدير فزها ومكث مدة فأصبح هشيما وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها الإنشاء والإفناء مُقْتَدِراً كامل القدرة.
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما افتخر الأخ الكافر بما افتخر به من ذلك إثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل ، وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك.
وعمومه بالنسبة إلى الإفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ الأبوة ولأن المال مناط لبقاء النفس والبنون لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو في أضيق حال ونكال كذا في إرشاد العقل السليم ، والزينة مصدر وأطلق على ما يتزين به للمبالغة ولذلك أخبر به عن أمرين وإضافتها إلى الحياة الدنيا اختصاصية ، وجوز أن تكون على معنى في والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد علم شأنها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فما الظن بما هو من أوصافها التي شأنها أن تزول قبل زوالها. وذكر أن هذا إشارة إلى ما يرد افتخارهم بالمال والبنين كأنه قيل : المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان زينة الحياة الدنيا فهو سريع الزوال ينتج المال والبنون سريعا الزوال ، أما الصغرى فبديهية وأما الكبرى فدليلها يعلم مما مر من بيان شأن نفس الحياة الدنيا ثم يقال : المال والبنون سريعا الزوال وكل ما كان سريع الزوال يقبح بالعاقل أن يفتخر به ينتج المال والبنون يقبح بالعاقل أن يفتخر بهما وكلتا المتقدمين لا خفاء فيها.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 272
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ
أخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول اللّه ، قال : التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا باللّه»
وأخرج الطبراني وابن شاهين في الترغيب وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه هن الباقيات الصالحات وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهن من. كنوز الجنة ،
وجاء تفسيرها بما ذكر في غير ذلك من الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخرج وابن المنذر وابن أبي شيبة عن ابن عباس تفسيرهما بما ذكر أيضا لكن بدون الذكر الأخير.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر في رواية أخرى عنه تفسيرها بالصلوات الخمس
، وأخرج ابن مردويه وابن المنذر وابن أبي حاتم في رواية أخرى عنه أيضا تفسيرها بجميع أعمال الحسنات
، وفي معناه ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قتادة أنها كل ما أريد به وجه اللّه تعالى ، وعن الحسن وابن عطاء أنها النيات الصالحة واختار الطبري وغيره ما في الرواية الأخيرة عن ابن عباس ويندرج فيها ما جاء في ما ذكر من الروايات وغيرها.
وادعى الخفاجي أن كل ما ذكر في تفسيرها غير العام ذكر على طريق التمثيل ، ويبعد ذلك قوله صلّى اللّه عليه وسلّم وهن الباقيات المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه فتأمل ، وأيّا ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال وإسناد الباقيات إلى ذلك مجاز أي الباقي ثمرتها وثوابها بقرينة ما بعد فهي صفة جرت على غير ما هي له بحسب الأصل أو هناك مقدر مرفوع بالوصف مضاف إلى ضمير الموصوف استتر الضمير المجرور وارتفع بعد حذفه وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولا أوليا فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر ، والكلام متضمن للتنويه بشأنهم وحط قدر شانئهم فكأنه قيل ما افتخر به أولئك الكفرة من المال والبنين سريع الزوال لا ينبغي أن يفتخر به وما جاء به أولئك المؤمنون خَيْرٌ من ذلك عِنْدَ رَبِّكَ أي في الآخرة ، وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيريتها بمنزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركة الكل في الأصل إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة ، وقيل : معنى عند ربك في حكمه سبحانه وتعالى :
ثَواباً جزاء وأجرا ، وقيل : نفعا.
وَخَيْرٌ أَمَلًا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما يؤمله بها في الدنيا وأما المال والبنون فليس لصاحبهما ذلك ، وتكرير خَيْرٌ للمبالغة ، وقيل : لها وللإشعار باختلاف جهتي الخيرية وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ منصوب باذكر مضمرا أي اذكر يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيرها في الجو كالسحاب كما ينبىء عنه قوله تعالى : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل : 88] ، وقيل : نسير أجزاءها بعد أن يجعلها هباء منبثا والكلام على هذا على حذف مضاف ، وجوز أن يكون التسيير مجازا عن الإذهاب والإفناء بذكر السبب وإرادة المسبب أي واذكر يوم نذهب بها وننسفها نسفا فيكون كقوله تعالى : وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة : 5 ، 6] واعترض كلا الأمرين بأن صيرورة الجبال هباء منبثا وإذهابها بعد تسييرها فقد ذكر بعض المحققين أخذا من الآيات أنه أولا تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا ، والظاهر هنا أول أحوال الجبال ولا مقتضى للصرف عن الظاهر ، ثم المراد بذكر ذلك تحذير المشركين ما فيه من الدواهي التي هي أعظم من ثالثة الأثافي ، وجوز أبو حيان وغيره كون يَوْمَ ظرفا للفعل المضمر عند قوله تعالى : قَدْ جِئْتُمُونا
إلخ أي قلنا يوم كذا لقد جئتمونا ، وفيه ما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى هناك ، وغير واحد كونه معطوفا على ما قبله من قوله تعالى : عِنْدَ رَبِّكَ فهو معمول خَيْرٌ أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة وحينئذ يتعين أن يكون المراد من عند

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 273
ربك في حكمه تعالى كما قيل به ، وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب «تسير الجبال» برفع الجبال وبناء تسير بالتاء ثالثة الحروف للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه ، وعن الحسن أنه قرأ كذلك إلا أنه جاء بالياء آخر الحروف بدل التاء ، وقرأ أبي سيرت الجبال بالماضي المبني للمفعول ورفع الجبال ، وقرأ ابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو «تسير الجبال» بالمضارع المفتتح بالتاء المثناة من فوق المبني للفاعل ورفع الجبال وَتَرَى الْأَرْضَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية أي وترى جميع جوانب الأرض بارِزَةً بادية ظاهرة أما ظهور ما كان منها تحت الجبال فظاهر ، وأما ما عداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك أو تراها بارزة لذهاب جميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والأشجار وإنما اقتصر على زوال الجبال لأنه يعلم منه زوال ذلك بطريق الأولى ، وقيل : إسناد البروز إلى الأرض مجاز ، والمراد ترى أهل الأرض بارزين من بطنها وهو خلاف الظاهر.
وقرأ عيسى «وترى الأرض» ببناء الفعل للمفعول ورفع الأرض وَحَشَرْناهُمْ أي جمعناهم إلى الموقف من كل أوب بعد أن أقمناهم من قبورهم ولم يذكر لظهور إرادته ، وعلى ما قيل يكون ذلك مذكورا ، وإيثار الماضي بعد «نسير» و«ترى» للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المنكرون وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيا وموجبا ، وقال الزمخشري : هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك اه. واعترض بأن في بعض الآيات مع الأخبار ما يدل على أن التسيير والبروز عند النفخة الأولى وفساد نظام العالم والحشر وما عطف عليه عند النفخة الثانية فلا ينبغي حمل الآية على معنى وحشرناهم قبل ذلك لئلا تخالف غيرها فليتأمل ، ثم لا يخفى أن التعبير بالماضي على الأول مجاز وعلى هذا حقيقة لأن المضي والاستقبال بالنظر إلى الحكم المقارن له لا بالنسبة لزمان التكلم ، والجملة عليه كما في الكشف وغيره تحتمل العطف والحالية من فاعل نُسَيِّرُ.
وقال أبو حيان : الأولى جعلها حالا على هذا القول ، وأوجبه بعضهم وعلله بأنها لو كانت معطوفة لم يكن مضى بالنسبة إلى التسيير والبروز بل إلى زمان التكلم فيحتاج إلى التأويل الأول ، ثم قال : وتحقيقه أن صيغ الأفعال موضوعة لأزمنة التكلم إذا كانت مطلقة فإذا جعلت قيودا لما يدل على زمان كان مضيها وغيره بالنسبة إلى زمانه اه وليس بشيء ، والحق عدم الوجوب ، وتحقيق ذلك أن الجمل التي ظاهرها التعاطف يجوز فيها التوافق والتخالف في الزمان فإذا كان في الواقع كذلك فلا خفاء فيه وإن لم يكن فلا بد للعدول من وجه ، فإن كان أحدهما قيدا للآخر وهو ماض بالنسبة إليه فهو حقيقة ووجهه ما ذكر ولا تكون الجملة معطوفة حينئذ ، فإن عطفت وجعل المضي بالنسبة لأحد المتعاطفين فلا مانع منه وهل هو حقيقة أو مجاز محل تردد ، والذي يحكم به الإنصاف اختيار قول أبي حيان من أولوية الحالية على ذلك ، والقول بأنه لا وجه له لا وجه له ، وحينئذ يقدر قد عند الأكثرين أي وقد حشرناهم فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لم نترك ، يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء ، والغدير الذي هو ماء يتركه السيل في الأرض. وقرىء «يغادر» بالياء التحتية على أن الضمير للّه تعالى على طريق الالتفات.
وقرأ قتادة «تغادر» بالتاء الفوقية على أن الضمير للأرض كما في قوله تعالى : وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق : 4] وجوز أبو حيان كونه للقدرة ، وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنيا للمفعول ورفع «أحد» على النيابة عن الفاعل ، وقرأ الضحاك «نغدر» بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
أحضروا محل حكمه وقضائه عز وجل فيهم فًّا
مصطفين أو مصفوفين.
فقد أخرج ابن منده في التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن اللّه تعالى ينادي يوم القيامة يا عبادي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 274
أنا اللّه لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب»
وفي الحديث الصحيح «يجمع اللّه تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر» الحديث بطوله ،
وقيل تقام كل أمة وزمرة صفا.
وفي بعض الأخبار أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون ، وقيل لا عرض بالمعنى المعروض ولا اصطفاف والكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبهت حالهم في حشرهم بحال جند عرضوا على السلطان ليأمر فيهم بما يأمر ، وقيل إن فيه استعارة تبعية بتشبيه حشرهم بعرض هؤلاء ، ومعنى فًّا
سواء كان داخلا في الاستعارة التمثيلية أو كان ترشيحا غير متفرقين ولا مختلطين فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده.
ولا حاجة إلى أن يقال : إنه مفرد أريد به الجمع لكونه مصدرا أي صفوفا أو يقال : إن الأصل صفاصفا ، على أن هذا مع بعده يرد عليه أن ما يدل على التعدد بالتكرار كبابا بابا وصفا صفا لا يجوز حذفه ، هذا والحق أن إنكار الاصطفاف مما لا وجه له بعد إمكانه وصحة الإخبار فيه ، ولعل ما فسرنا به الآية مما لا غبار عليه ، وفي الالتفات إلى الغيبة وبناء الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم من تربية المهابة والجري على سنن الكبرياء وإظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى ، وقيل في قوله تعالى : لى رَبِّكَ
إشارة إلى غضب اللّه تعالى عليهم وطردهم عن ديوان القبول بعدم جريهم على معرفتهم لربوبيته عز وجل قَدْ جِئْتُمُونا
خطاب للكفار المنكرين للبعث على إضمار القول ، ويكون حالا مما تقدم فيقدر قائلين أو نقول إن كان حالا من فاعل (حشرنا) أو قائلا أو يقول إن كان من بِّكَ
أو مقولا لهم أو يقال لهم إن كان من ضعيررِضُوا.
وقد يقدر فعلا كقلنا أو نقول لا محل لجملته ، وجوز تعلق «يوم» السابق به على هذا التقدير دون تقدير الحالية.
قال الخفاجي : لأنه يصير كغلام زيد ضاربا على أن ضاربا حال من زيد ناصبا لغلام ومثله تعقيد غير جائز لا لأن ذلك قبل الحشر وهذا بعده ولا لأن معمول الحال لا يتقدم عليها كما يتوهم ، ثم قال : وأما ما أورد على تعلقه بالفعل في التقدير الثاني من أنه يلزم منه أن هذا القول هو المقصود أصالة فتخيل أغنى عن الرد أنه لا محذور فيه اه ، والحق أن تعلقه بالقول المقدر حالا أو غيره مما لا يرتضيه الطبع السليم والذهن المستقيم ، ولا يكاد يجوز مثل هذا التركيب على تقدير الحالية وإن قلنا بجواز تقدم معمول الحال عليها فتدبر ، والمراد من مجيئهم إليه تعالى مجيئهم إلى حيث لا حكم لأحد غيره سبحانه من المعبودات الباطلة التي تزعم فيها عبدتها النفع والضر وغير ذلك نظير ما قالوا في قوله تعالى «ملك يوم الدين»ما خَلَقْناكُمْ
نعت لمصدر محذوف أي مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا لكم وَّلَ مَرَّةٍ
أو حال من الضمير المرفوع في ئْتُمُونا
أي كائنين كما خلقناكم أول مرة حفاة عراة غرلا أو ما معكم شيء مما تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى : لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام : 94].
وجوز أن يكون المراد أحياء كخلقتكم الأولى ، والكلام عليه إعرابا كما تقدم لكن يخالفه في وجه التشبيه وذاك كما قيل أوفق بما قبل وهذا بقوله تعالى : لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
وهو إضراب وانتقال من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ والتقريع ، والموعد اسم زمان وأن مخففة من المثقلة فصل بينها وبين خبرها بحرف النفي لكونه جملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء وفي ذلك يجب الفصل بأحد الفواصل المعلومة إلا فيما شذ ، والجعل إما بمعنى التصيير فالجار والمجرور مفعوله الثاني ووْعِداً
مفعوله الأول ، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فالجار والمجرور في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 275
موضع الحال من مفعوله وهووْعِداً
أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعل لكم وقتا ينجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه.
وَوُضِعَ الْكِتابُ عطف على رِضُوا
داخل تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكر وقتها تحذير المشركين كما مر ، وإيراد صيغة الماضي للدلالة على التقرر والمراد من الكتاب كتب الأعمال فأل فيه للاستغراق ، ومن وضعه إما جعل كل كتاب في يد صاحبه اليمين أو الشمال وإما جعل كل في الميزان ، وجوز أن يكون المراد جعل الملائكة تلك الكتب في البين ليحاسبوا المكلفين بما فيها ، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد بالكتاب كتابا واحدا بأن تجمع الملائكة عليهم السلام صحائف الأعمال كلها في كتاب وتضعه في البين للمحاسبة ولكن لم أجد في ذلك أثرا ، نعم قال اللقاني في شرح قوله في جوهرة التوحيد :
وواجب أخذ العباد الصحفا كما من القرآن نصا عرفا
جزم الغزالي بما قيل إن صحف العباد ينسخ ما في جميعها في صحيفة واحدة انتهى ، والظاهر أن جزم الغزالي وأضرابه بذلك لا يكون إلا عن أثر لأن مثله لا يقال من قبل الرأي كما هو الظاهر ، وقيل : وضع الكتاب كناية عن إبراز محاسبة الخلق وسؤالهم فإنه إذ أريد محاسبة العمال جيء بالدفاتر ووضعت بين أيديهم ثم حوسبوا فأطلق الملزوم وأريد لازمه ، ولا يخفى أنه لا داعي إلى ذلك عندنا وربما يدعو إليه إنكار وزن الأعمال.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وَوُضِعَ الْكِتابُ ببناء وضع للفاعل وإسناده إلى ضميره تعالى على طريق الالتفات ونصب الكتاب على المفعولية أي ووضع اللّه الكتاب فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ قاطبة فيدخل فيهم الكفرة المنكرون للبعث دخولا أوليا ، والخطاب نظير ما مر مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا فِيهِ أي الكتاب من الجرائم والذنوب لتحققهم ما يترتب عليها من العذاب وَيَقُولُونَ عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيرا وقطميرا يا وَيْلَتَنا نداء لهلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات فإن الويلة كالويل الهلاك ونداؤها على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل يا هلاك أقبل فهذا أوانك ففيه استعارة مكنية تخييلية وفيه تقريع لهم وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك وقد طلبوه ليهلكوا ولا يروا العذاب الأليم.
وقيل : المراد نداء من بحضرتهم كأنه قيل : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا ، وفيه تقدير يفوت به تلك النكتة.
ما لِهذَا الْكِتابِ أي أي شيء له؟ والاستفهام مجاز عن التعجب من شأن الكتاب ، ولام الجر رسمت في الإمام مفصولة ، وزعم الطبرسي أنه لا وجه لذلك ، وقال البقاعي : إن في رسمها كذلك إشارة إلى أن المجرمين لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة ، وفي لطائف الإشارات وقف على ما أبو عمرو والكسائي ويعقوب والباقون على اللام والأصح الوقف على ما لأنها كلمة مستقلة ، وأكثرهم لم يذكر فيها شيئا اه. وأنت تعلم أن الرسم العثماني متبع ولا يقاس عليه ولا يكاد يعرف وجهه وفي حسن الوقف على ما أو اللام توقف عندي. وقوله تعالى : لا يُغادِرُ أي لا يترك صَغِيرَةً أي هنة صغيرة وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي إلا عدها وهو كناية عن الإحاطة جملة حالية محققة لما في الجملة الاستفهامية من التعجب أو استئنافية مبنية على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأن هذا الكتاب حتى يتعجب منه؟ فقيل : لا يُغادِرُ صَغِيرَةً إلخ.
وعن ابن جبير تفسير الصغيرة بالمسيس والكبيرة بالزنا ، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة بذلك ، وعلى هذا يحمل إطلاق ابن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 276
مردويه في الرواية عنه رضي اللّه تعالى عنه تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك ويندفع استشكال بعض الفضلاء ذلك ويعلم منه أن الضحك على الناس من الذنوب.
وعن عبد اللّه بن زمعة رضي اللّه تعالى عنه أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يخطب ويعظهم في ضحكهم من الريح الخارج بصوت وقال : علام يضحك أحدكم مما يفعل؟
بل ذكر بعض علمائنا أن من الضحك ما يكفر به الضاحك كالضحك على كلمة كفر ، وقيده بعضهم بما إذا قدر على أن يملك نفسه وإلا فلا يكفر ، وتمام الكلام في ذلك في محله ، وكان الظاهر لا يغادر كبيرة ولا صغيرة بناء على ما قالوا من أن الترقي في الإثبات يكون من الأدنى إلى الأعلى وفي النفي على عكس ذلك إذ لا يلزم من فعل الأدنى فعل الأعلى بخلاف النفي لكن قال المحققون : هذا إذا كان على ظاهره فإن كان كناية عن العموم كما هنا وقولك ما أعطاني قليلا ولا كثيرا جاز تقديم الأدنى على الأعلى في النفي كما فصله ابن الأثير في المثل السائر ، وفي البحر قدمت الصغيرة اهتماما بها ، وروي عن الفضيل أنه كان إذا قرأ الآية قال :
ضجوا واللّه من الصغائر قبل الكبائر ، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال فيالآية : اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ولم يشتك أحد ظلما فإياكم والمحقرات من الذنوب فإنها تجمع على صاحبها حتى تهلكه.
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا في الدنيا من السيئات أو جزاء ذلك حاضِراً مسطورا في كتاب كل منهم أو عتيدا بين أيديهم نقدا غير مؤجل ، واختير المعنى الأخير وإن كان فيه ارتكاب خلاف الظاهر لأن الكلام عليه تأسيس محض وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً بما لم يعمله أي منهم أو منهم ومن غيرهم ، والمراد أنه عز وجل لا يتجاوز الحد الذي حده في الثواب والعقاب وإن لم يجب ذلك عليه تعالى عقلا ، وتحقيقه أنه تعالى وعد بإثابة المطيع والزيادة في ثوابه وبتعذيب العاصي بمقدار جرمه من غير زيادة وأنه قد يغفر له ما سوى الكفر وأنه لا يعذب بغير جناية فهو سبحانه وتعالى لا يجاوز الحد الذي حده ولا يخالف ما جرت عليه سنته الإلهية فلا يعذب أحدا بما لم يعمله ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله الذي نهي عنه ولم يرتضه ، وهذا مما أجمع عليه المسلمون وإن اختلفوا في أن امتناع وقوع ما نفي هل هو سمعي أو عقلي فذهب إلى الأول أهل السنة وإلى الثاني المعتزلة ، وهل تسمية تلك المجاوزة ظلما حقيقة أم لا؟ قال الخفاجي : الظاهر أنها حقيقة ، وعليه لا حاجة إلى أن يقال : المراد بالآية أنه سبحانه لا يفعل بأحد ما يكون ظلما لو صدر من العباد كالتعذيب بلا ذنب فإنه لو صدر من العباد يكون ظلما ولو صدر منه سبحانه لا يكون كذلك لأن جل شأنه مالك الملك متصرف في ملكه كيف يشاء فلا يتصور في شأنه تعالى شأنه ظلم أصلا بوجه من الوجوه عند أهل السنة ، وأنت تعلم أن هذا هو المشهور لدى الجمهور لا ما اقتضاه التحقيق فتأمل واللّه تعالى ولي التوفيق.
واستدل بعموم الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهو القول المنصور وقد أسلفنا وللّه تعالى الحمد ما يؤيده من الأخبار وَإِذْ قُلْنا أي اذكر وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ كلهم كما هو الظاهر ، واستثنى بعض الصوفية الملائكة المهيمين ، وبعض آخر ملائكة السماء مطلقا وزعم أن المقول له ملائكة الأرض.
اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية وإكرام أو اسجدوا لجهته على معنى اتخذوه قبلة لسجودكم للّه تعالى ، وقد مر تمام الكلام في ذلك فَسَجَدُوا كلهم أجمعون امتثالا للأمر إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين بل أبى واستكبر ، وقوله تعالى : كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف سيق مساق التعليل لما يفيده استثناء اللعين من الساجدين ، وقيل : حال من المستثنى وقد مقدرة والرابط الضمير وهو اختيار أبي البقاء ، والأول ألصق بالقلب فكأنه قيل ما له لم يسجد؟ فقيل كان أصله جنيا ، وهذا ظاهر في أنه ليس من الملائكة نعم كان معهم ومعدودا في عدادهم ،
فقد أخرج ابن جرير عن سعد بن مسعود قال : كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة فتعبد بالسجود معهم.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 277
وأخرج نحوه عن شهر بن حوشب
،
وهو قول كثير من العلماء حتى قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم : قاتل اللّه تعالى أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة واللّه تعالى يقول : كانَ مِنَ الْجِنِّ وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس ، وفيه دلالة على أنه لم يكن قبله جن كما لم يكن قبل آدم عليه السلام إنس ، وفي القلب من صحته ما فيه. وأقرب منه إلى الصحة ما قاله جماعة من أنه كان قبله جن إلا أنهم هلكوا ولم يكن لهم عقب سواه فالجن والشياطين اليوم كلهم من ذريته فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس على ما هو المشهور ، وقيل : كان من الملائكة والجن قبيلة منهم ، وقد أخرج هذا ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى عنه رضي اللّه تعالى عنهما أن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وكان له مجمع البحرين بحر الروم وبحر فارس وسلطان الأرض فرأى أن له بذلك عظمة وشرفا على أهل السماء فوقع في نفسه كبر لم يعلم به أحد إلا اللّه تعالى قلما أمر بالسجود ظهر كبره الذي في نفسه فلعنه اللّه تعالى إلى يوم القيامة
، وكان على ما رواه عنه قتادة يقول :
لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود وأجيب عن هذا بما أشرنا إليه آنفا وبغيره مما لا يخفى ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ، وقد روى عنه جماعة أنه قال : الجن في الآية حي من الملائكة لم يزالوا يصوغون حلي أهل الجنة حتى تقوم الساعة ، وفي رواية أخرى عنه أن معنى كانَ مِنَ الْجِنِّ كان من خزنة الجنان وهو تأويل عجيب ، ومثله ما أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن قتادة أن معنى كونه من الجن أنه أجن عن طاعة اللّه تعالى أي ستر ومنع ، ورواية الكثير عنه أنه قائل بما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقيل : هو من الملائكة ومعنى كانَ مِنَ الْجِنِّ صار منهم بالمسخ ، وقيل : معنى ذلك أنه عد منهم لموافقته إياهم في المعصية حيث إنهم كانوا من قبل عاصين فبعثت طائفة من الملائكة عليهم السلام لقتالهم ، وأنت تعلم أنه يشق الجواب على من ادعى أن إبليس من الملائكة مع دعواه عصمتهم ، ولا بد أن يرتكب خلاف الظاهر في هذه الآية ، نعم مسألة عصمتهم عليهم السلام خلافية ولا قاطع في العصمة كما قال العلامة التفتازاني. وقد ذكر القاضي عياض أن طائفة ذهبوا إلى عصمة الرسل منهم والمقربين عليهم السلام ولم يقولوا بعصمة غيرهم ، وإذا ذهب مدعي كون إبليس من الملائكة إلى هذا لم يتخلص من الاعتراض إلا بزعم أنه لم يكن من المقربين ولا تساعده الآثار على ذلك ، ويبقى عليه أيضا أن الآية تأبى مدعاه ، وكذا لو ذهب إلى ما نقل عن بعض الصوفية من أن ملائكة الأرض لم يكونوا معصومين وكان إبليس عليه اللعنة منهم فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي فخرج عن طاعته سبحانه كما قال الفراء ، وأصله من فسق الرطب إذا خرج عن قشره ، وسموا الفأرة فاسقة لخروجها من جحرها من البابين ولهذا عدي بعن كما في قول رؤبة :
يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
والظاهر أن الفسق بهذا المعنى مما تكلمت به العرب من قبل ، وقال أبو عبيدة : لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكم به العرب بعد نزول القرآن ، ووافقه المبرد على ذلك فقال : الأمر على ما ذكره أبو عبيدة ، وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب ، وكأن ما ذكره الفراء بيان لحاصل المعنى إذ ليس الأمر بمعنى الطاعة أصلا بل هو إما بمعنى المأمور به وهو السجود وخروجه عنه بمعنى عدم اتصافه به ، وإما قوله تعالى : اسْجُدُوا وخروجه عنه مخالفته له ، وكون حاصل المعنى ذلك على المعنيين ظاهر ، وقيل : عَنْ للسببية كما في قولهم كسوته عن عري وأطعمته عن جوع أي فصار فاسقا كافرا بسبب أمر اللّه تعالى الملائكة المعدود هو في عدادهم إذ لولا ذلك الأمر ما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 278
تحقق إباء. وإلى ذلك ذهب قطرب إلا أنه قال : أي ففسق عن رده أمر ربه ، ويحتمل أن يكون تقدير معنى وأن يكون تقدير إعراب وجوز على تقدير السببية أن يراد بالأمر المشيئة أي ففسق بسبب مشيئة اللّه تعالى فسقه ولولا ذلك لأطاع. والأظهر ما ذكر أولا ، والفاء سببية عطفت ما بعدها على قوله تعالى «كان من الجن» وأفادت تسبب فسقه عن كونه من الجن إذ شأنهم التمرد لكدورة مادتهم وخباثة ذاتهم والذي خبث لا يخرج إلا نكدا وإن كان منهم من أطاع وآمن ، وجوز أن يكون العطف على ما يفهم من الاستثناء كأنه قيل : فسجدوا إلا إبليس أبى عن السجود ففسق ، وتفيد حينئذ تسبب فسقه عن إبائه وتركه السجود. وقيل : إنها هنا غير عاطفة إذ لا يصح تعليل ترك السجود وإبائه عنه بفسقه عن أمر ربه تعالى. قول الرضي : والفاء التي لغير العطف وهي التي تسمى فاء السببية لا تخلو أيضا من معنى الترتيب وتختص بالجمل وتدخل على ما هو جزاء مع تقدم كلمة الشرط وبدونها انتهى.
وليس بشيء لأنه يكفي لصحة ترتب الثاني تسببه كما في فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص : 15] كما صرح به في التسهيل وهنا كذلك ، والتعرض لعنوان الربوبية المنافية للفسق لبيان قبح ما فعله ، والمراد من الأمر بذكر وقت القصة ذكر القصة نفسها لما فيها من تشديد النكير على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين ببيان أن ذلك من صنع إبليس وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه ما يأتي إن شاء اللّه تعالى ، ومنه يعلم وجه الربط ، وجوز أن يكون وجهه أنه تعالى لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان زهدهم سبحانه أولا بزخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال وشيكة الانتقال والباقيات الصالحات خير ثوابا وأحسن أملا من أنفسها وأعلاها ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة ، واختار أبو حيان في وجهه أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المجرمين مما سطر في كتبهم وكان إبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي واتخاذ الشركاء ناسب ذكر إبليس والتنفير عنه تبعيدا عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به ويدعو إليه. وأيّا ما كان فلا يعد ذكر هذه القصة هنا مع ذكرها قبل تكرارا لأن ذكرها هنا لفائدة غير الفائدة التي ذكرت لها فيما قبل وهكذا ذكرها في كل موضع ذكرت فيه من الكتاب الجليل. ومثل هذا يقال في كل ما هو تكرار بحسب الظاهر فيه.
ولا يخفى أن أكثر المكررات ظاهرا مختلفة الأساليب متفاوتة الألفاظ والعبارات وفي ذلك من الأسرار الإلهية ما فيه فلا يستزلنك الشيطان.
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي الهمزة للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب ، والمراد إما إنكار أن يعقب اتخاذه وذريته أولياء العلم بصدور ما صدر منه مع التعجب من ذلك ، وإما تعقيب إنكار الاتخاذ المذكور والتعجيب منه إعلام اللّه تعالى بقبح صنيع اللعين فتأمل ، والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أن له أولادا وبذلك قال جماعة ، وقد روي عن ابن زيد أن اللّه تعالى قال لإبليس : إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس يولد لآدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن به
، وعن قتادة أنه قال : إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم. وذكر في البحر أن من القائلين بذلك أيضا الضحاك والأعمش والشعبي.
ونقل عن الشعبي أنه قال : لا تكون ذرية إلا من زوجة فيكون قائلا بالزوجة ، والذي في الدر المنثور برواية ابن المنذر عنه أنه سئل عن إبليس هل له زوجة؟ فقال : إن ذلك لعرس ما سمعت به ، وأخرج ابن أبي الدنيا في المكائد وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : ولد إبليس خمسة ثبر وهو صاحب المصائب والأعور وداسم لا أدري ما يعملان ومسوط وهو صاحب الصخب وزلبنور وهو الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب أهله.
وفي رواية أخرى عنه أن الأعور صاحب الزنا ومسوط صاحب أخبار الكذب يلقيها على أفواه الناس ولا يجدون

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 279
لها أصلا وراسم صاحب البيوت إذا دخل الرجل بيته ولم يسم دخل معه وإذا أكل ولم يسم أكل معه وزلبنور صاحب الأسواق وكان هؤلاء الخمسة من خمس بيضات باضها اللعين ، وقيل إنه عليه اللعنة يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن جميع ذريته من خمس بيضات باضها قال :
وبلغني أنه يجتمع على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر واللّه تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار ، وقال بعضهم : لا ولد له ، والمراد من الذرية الأتباع من الشياطين ، وعبر عنهم بذلك مجازا تشبيها لهم بالأولاد ، وقيل ولعله الحق إن له أولادا وأتباعا ، ويجوز أن يراد من الذرية مجموعها معا على التغليب أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يراه أو عموم المجاز.
وقد جاء في بعض الأخبار أن ممن ينسب إليه بالولاد من آمن بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وهو هامة رضي اللّه تعالى عنه وسبحان من يخرج الحي من الميت ، ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا ونقول به فليكن من هذا القبيل إذا صح الخبر فيه.
واستدل ما في ملكيته بظاهر الآية حيث أفادت أنه له ذرية والملائكة ليس لهم ذلك. ولمدعيها أن يقول : بعد تسليم حمل الذرية على الأولاد. إنه بعد أن عصى مسخ وخرج عن الملكية فصار له أولاد ولم تفد الآية أن له أولادا قبل العصيان والاستدلال بها لا يتم إلا بذلك ، وقوله تعالى : مِنْ دُونِي في موضع الحال أي أفتتخذونهم أولياء مجاوزين عني إليهم وتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي وَهُمْ أي والحال أن إبليس وذريته لَكُمْ عَدُوٌّ أي أعداء كما في قوله تعالى : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء : 77] وقوله تعالى : هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون :
4] وإنما فعل به ذلك تشبيها بالمصادر نحو القبول والولوع ، وتقييد الاتخاذ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكار وتشديده فإن مضمونها مانع من وقوع الاتخاذ ومناف له قطعا :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ الواضعين للشيء في غير موضعه بَدَلًا أي من اللّه سبحانه ، وهو نصب على التمييز وفاعل بِئْسَ ضمير مستتر يفسره هو والمخصوص بالذم محذوف أي بئس البدل من اللّه تعالى للظالمين إبليس وذريته ، وفي الالتفات إلى الغيبة مع وضع الظالمين موضع ضمير المخاطبين من الإيذان بكمال السخط والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ما لا يخفى.
ما أَشْهَدْتُهُمْ استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة الأصل والفسق والعداوة أي ما أحضرت إبليس وذريته.
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حيث خلقتهما قبل خلقهم وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء : 29] فكلا ضميري الجمع المنصوب والمجرور عائد على إبليس وذريته وهم المراد بالمضلين في قوله تعالى : وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وإنما وضع ذلك موضع ضميرهم ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء ، والعضد في الأصل ما بين المرفق إلى الكتف ويستعار للمعين كاليد وهو المراد هنا ولكونه نكرة في سياق النفي عم ، وفسر بالجمع والإفراد لرؤوس الآي ، وقيل إنما لم يجمع لأن الجميع في حكم الواحد في عدم الصلاحية للاعتضاد أي وما كنت متخذهم أعوانا في شأن الخلق أو في شأن من شؤوني حتى يتوهم شركتهم في التولي فضلا عن الاستبدال الذي لزم فعلهم بناء على الشركة في بعض أحكام الربوبية ، وإرجاع ضمير أَنْفُسِهِمْ إلى إبليس وذريته قد قال به كل من ذهب إلى إرجاع ضمير

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 280
أَشْهَدْتُهُمْ إليهم ، وعلل ذلك العلامة شيخ الإسلام بقوله حذرا من تفكيك الضميرين ومحافظة على ظاهر لفظ الأنفس ثم قال : ولك أن ترجع الضمير الثاني إلى الظالمين ويلتزم التفكيك بناء على عود المعنى إليه فإن نفي إشهاد الشياطين الذين يتولونهم هو الذي يدور عليه إنكار اتخاذهم أولياء بناء على أن أدنى ما يصحح التولي حضور الولي خلق المتولي وحيث لا حصول لا مصحح للتولي قطعا ، وأما إشهاد بعض الشياطين خلق بعض منهم فليس من مداراته الإنكار المذكور في شيء على أن إشهاد بعضهم خلق بعض إن كان مصححا لتولي الشاهد بناء على دلالته على كماله باعتبار أن له مدخلا في خلق المشهود في الجملة فهو مخل بتولي المشهود بناء على قصوره عمن شهد خلقه فلا يكون نفي الإشهاد المذكور متمحضا في نفي الكمال المصحح للتولي عن الكل وهو المناط للإنكار المذكور.
وفي الآية تهكم بالكفار وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على البله والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به ، وإيثار نفي الإشهاد على نفي شهودهم ونفي اتخاذهم أعوانا على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرته تعالى تابعون لمشيئته سبحانه وإرادته عز وجل بمعزل من استحقاق الشهود والمعونة من تلقاء أنفسهم من غير إحضار واتخاذ وإنما قصارى ما يتوهم فيهم أن يبلغوا ذلك المبلغ بأمر اللّه جل جلاله ولم يكد ذلك يكون اه.
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق لكن قيل عليه يجوز أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلها وكثيرا ما يراد منهما ذلك فيدخل فيه الكفار فتفيد الآية نفي إشهاد الشياطين خلقهم الذي من مداراته الإنكار المذكور من غير حاجة إلى التزام التفكيك الذي هو خلاف المتبادر ، وظاهر كلامه وكذا كلام كثير حمل الإشهاد المنفي على حقيقته.
وجوز أن يراد به المشاورة مجازا وهو الذي يقتضيه ظاهر ما في البحر ولا مانع على هذا أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلهما فكأنه قيل ما شاورتهم في خلق أحد لا الكفار ولا غيرهم فما بال هؤلاء الكفار يتولونهم وأدنى ما يصحح التولي كون الولي ممن يشاور في أمر المتولي أو أمر غيره ويكون نفي اتخاذهم أعوانا مطلقا في شيء من الأشياء بعد نفي مشاورتهم في الخلق ليؤدي الكلام ظاهرا عموم نفي مدخليتهم بوجه من الوجوه رأيا وإيجادا وغير ذلك في شيء من الأشياء ، ولعل الآية حينئذ نظير قوله تعالى : لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها من وجه ، وقيل قد يراد من نفي الإشهاد في جانب المعطوف نفي المشاورة ومنه نفي أن يكونوا خلقوا حسب مشيئتهم ومنه نفي أن يكونوا خلقوا كاملين فإنه يقال خلق كما شاء بمعنى خلق كاملا قال الشاعر :
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وعلى هذا يكون في الخلق من أشهد خلق نفسه بمعنى أنه خلق كاملا ، ولا يخفى ما فيه ، وقد يكتفى بدلالة ذلك على أن نفي الكمال بأقل من هذه المئونة فافهم. وزعم أن الكاملين شهدوا حقيقة خلق أنفسهم بمعنى أنهم رأوا وهم أعيان ثابتة خلقهم أي إفاضة الوجود الخارجي الذي لا يتصف به المعدوم عليهم لا أرى أن كاملا يقدم عليه أو يصغي إليه ، وقال الإمام بعد حكاية القول برجوع الضميرين إلى الشياطين : الأقرب عندي عودهما على الكفار الذين قالوا للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ ، ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها ، والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات وهو في الآية - أولئك الكفار - لأنهم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 281
المراد بالظالمين في قوله تعالى : بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا انتهى.
وقيل المعنى على تقدير عود الضميرين على أولئك الكفرة إن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند اللّه تعالى وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء ، وقيل المعنى عليه ما أشهدتهم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بخصائص لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين ، ويعضده قراءة أبي جعفر والجحدري والحسن وشيبة وَما كُنْتُ بفتح التاء خطابا له صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمعنى ما صح لك الاعتضاد بهم ، ولعل وصف أولئك الظالمين بالإضلال لما أن قصدهم بطرد الفقراء تنفير الناس عنه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو إضلال ظاهر وقيل كل ضال مضل لأن الإضلال إما بلسان القال أو بلسان الحال والثاني لا يخلو عنه ضال ، وقيل الضميران للملائكة ، والمعنى ما أشهدتهم ذلك ولا استعنت بهم في شيء بل خلقتهم ليعبدوني فكيف يعبدون ، ويرده وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً إلا أن يقال : هو نفي لاتخاذ الشياطين أعوانا فيستفاد من الجملتين نفي صحة عبادة الفريقين ، وقال ابن عطية :
الضميران عائدان على الكفار وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والأطباء ومن سواهم ممن يخوض خوضهم ، وإلى هذا ذهب عبد الحق الصقلي وذكره بعض الأصوليين انتهى. ويقال عليه في الجملة الأخيرة نحو ما قيل فيها آنفا.
واستدل بها على أنه لا ينبغي الاستعانة بالكافر وهو في أمور الدين كجهاد الكفار وقتال أهل البغي مما ذهب إليه بعض الأئمة ولبعضهم في ذلك تفصيل ، وأما الاستعانةبهم في أمور الدنيا فالذي يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت في أمر ممتهن كنزح الكنائف أو في غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها ، ولعل أفرض اليهودي أو الكلب قد مات في كلام الفاروق رضي اللّه تعالى عنه لعد ما استخدم فيه من الأمور الدينية أو هو مبني على اختيار تفصيل في الأمور الدنيوية أيضا.
وقد حكى الشيعة أن عليا كرم اللّه تعالى وجهه قال حين صمم على عزل معاوية وأشار عليه ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بإبقائه على عمله إلى أن يستفحل أمر الخلافة : يمنعني من ذلك قوله تعالى : وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً فلا أتخذ معاوية عضدا أبدا ، وهو كذب لا يعتقده إلا ضال مضل.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم «ما أشهدناهم» بنون العظمة : وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه «متخذا المضلين»
على اعمال اسم الفاعل وقرأ الحسن وعكرمة «عضدا» بسكون الضاد ونقل حركتها إلى العين وقرأ عيسى «عضدا» بسكون الضاد للتخفيف كما قالوا في رجل وسبع رجل وسبع بالسكون وهي لغة عن تميم ، وعنه أيضا أنه قرأ بفتحتين.
وقرأ شيبة وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة والخفاف وأبي زيد «عضدا» بضمتين ، وروي ذلك عن الحسن أيضا ، وكذا روي عنه أيضا أنه قرأ بفتحتين ، وهو على هذا إما لغة في العضد كما في البحر ولم يذكره في القاموس وإما جمع عاضد كخدم جمع خادم من عضده بمعنى قواه وأعانه فحينئذ لا استعارة. وقرأ الضحاك «عضدا» بكسر العين وفتح الضاد ولم نجد ذلك من لغاته ، نعم في القاموس عد عضد ككتف منها وهو عكس هذه القراءة وَيَوْمَ يَقُولُ أي اللّه تعالى للكفار توبيخا وتعجيزا بواسطة أو بدونها. وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم «نقول» بنون العظمة ، والكلام على معنى اذكر أيضا أي واذكر يوم يقول نادُوا للشفاعة لكم شُرَكائِيَ الَّذِينَ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 282
زَعَمْتُمْ
أي زعمتموهم شفعاء ، والإضافة باعتبار ما كانوا يزعمون أيضا فإنهم كانوا يزعمون أنهم شركاء كما يزعمون أنهم شفعاء ، وقد جوز غير واحد هنا أن يكون الكلام بتقدير زعمتموهم شركاء ، والمراد بهم إبليس وذريته ، وجعلهم بدلا فيما تقدم مبني على ما لزم من فعل عبدتهم المطيعين لهم فيما وسوسوا به أو كل ما عبد من دون اللّه تعالى.
وقرأ ابن كثير «شركاي» مقصورا مضافا إلى الياء فَدَعَوْهُمْ أي نادوهم للإغاثة ، وفيه بيان بكمال اعتنائهم بإغاثتهم على طريق الشفاعة إذ معلوم أن لا طريق إلى المدافعة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم إذ لا إمكان لذلك قيل وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به.
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين الداعين والمدعوين مَوْبِقاً اسم مكان من وبق وبوقا كوثب وثوبا أو وبق وبقا كفرح فرحا إذا هلك أي مهلكا يشتركون فيه وهو النار ، وجاء عن ابن عمر وأنس ومجاهد أنه واد في جهنم يجري بدم وصديد ، وعن عكرمة أنه نهر في النار يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها ، وتفسير الموبق بالمهلك مروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وعن مجاهد وغيرهما ، وعن الحسن تفسيره بالعداوة فهو مصدر أطلق على سبب الهلاك وهو العداوة كما أطلق التلف على البغض المؤدي إليه في قول عمر رضي اللّه تعالى عنه : لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا.
وعن الربيع بن أنس تفسيره بالمحبس ، ومعنى كون الموبق على سائر تفاسيره بينهم شموله لهم وكونهم مشتركين فيه كما يقال جعلت المال بين زيد وعمرو فكأنه ضمن جَعَلْنا معنى قسمنا وحينئذ لا يمكن إدخال عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام ونحوهم في الشركاء على القول الثاني.
وقال بعضهم : معنى كون الموبق أي المهلك أو المحبس بينهم أنه حاجز واقع في البين ، وجعل ذلك بينهم حسما لأطماع الكفرة في أن يصل إليهم ممن دعوه للشفاعة. وجاء عن بعض من فسره بالوادي أنه يفرق اللّه تعالى به بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، وعلى هذا لا مانع من شمول المعنى الثاني للشركاء لأولئك الأجلة.
وقال الثعالبي في فقه اللغة : الموبق بمعنى البرزخ البعيد على أن وبق بمعنى هلك أيضا أي جعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه الأشواط لفرط بعده ، وعليه أيضا يجوز الشمول المذكور لأن أولئك الكرام عليهم السلام في أعلى الجنان وهؤلاء اللئام في قعر النيران ، ولا يخفى على من له أدنى تأمل الحال فيما إذا أريد بالموبق العداوة.
وبَيْنَهُمْ على جميع ما ذكر ظرف وهو مفعول ثان لجعل إن جعل بمعنى صير ومَوْبِقاً مفعوله الأول ، وإن جعل بمعنى خلق كان الظرف متعلقا به أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله قدم عليه لرعاية الفواصل فتحول حالا.
وقال الفراء والسيرافي : البين هنا بمعنى الوصل فإنه يكون بمعناه كما يكون بمعنى الفراق وهو مفعول أول لجعلنا ومَوْبِقاً بمعنى هلاكا مفعوله الثاني ، والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة.
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ وضع المظهر في مقام المضمر تصريحا بإجرامهم وذما لهم بذلك. والرؤية بصرية ، وجاء عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه عنه أحمد وابن جرير والحاكم وصححه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن الكافر ليرى جهنم من مسير أربعين سنة
فَظَنُّوا أي علموا كما أخرجه عبد الرزاق ، وجماعة عن قتادة ، وهو الظاهر من حالهم بعد قول اللّه تعالى ذلك واستغاثتهم بشركائهم وعدم استجابتهم لهم وجعل الموبق بينهم.
وقيل الظن على ظاهره وهم لم يتيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي مخالطوها واقعون فيها لعدم يأسهم من رحمة اللّه تعالى قبل دخولهم فيها ، وقيل إنهم لما رأوها من بعيد كما سمعت في الحديث ظنوا أنها تخطفهم في الحال فإن اسم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 283
الفاعل موضوع للحال فالمتيقن أصل الدخول والمظنون الدخول حالا وفي مصحف عبد اللّه «ملاقوها» وكذلك قرأ الأعمش وابن غزوان عن طلحة ، واختير جعلها تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف ، وعن علقمة أنه قرأ «ملافّوها» بالفاء مشددة من لف الشيء وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي مكانا ينصرفون إليها.
قال أبو كبير الهذلي :
أزهير هل عن شيبة بن مصرف أم لا خلود لباذل متكلف
فهو اسم مكان ، وجوز أن يكون اسم زمان ، وكذا جوز أبو البقاء وتبعه غيره أن يكون مصدرا أي انصرافا ، وفي الدر المصون أنه سهو فإنه جعل مفعل بكسر العين مصدرا من صحيح مضارعه يفعل بالكسر وقد نصوا على أن مصدره مفتوح العين لا غير واسم زمانه ومكان مكسورها ، نعم إن القول بأنه مصدر مقبول في قراءة زيد بن على رضي اللّه تعالى عنهما «مصرفا» بفتح الراء وَلَقَدْ صَرَّفْنا كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم فِي هذَا الْقُرْآنِ الجليل الشأن لِلنَّاسِ لمصلحتهم ومنفعتهم مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي كل مثل على أن - من - سيف خطيب على رأي الأخفش والمجرور مفعول صَرَّفْنا أو مثلا من كل مثل على أن من أصلية والمفعول موصوف الجار والمجرور المحذوف ، وقيل المفعول مضمون مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي بعض كل جنس مثل ، وأيّا ما كان فالمراد من المثل إما معناه المشهور أو الصفة الغريبة التي هي في الحسن واستجلاب النفس كالمثل ، والمراد أنه تعالى نوع ضرب الأمثال وذكر الصفات الغريبة وذكر من كل جنس محتاج إليه داع إلى الإيمان نافع لهم مثلا لا أنه سبحانه ذكر جميع أفراد الأمثال ، وكأن في الآية حذفا أو هي على معنى ولقد فعلنا ذلك ليقبلوا فلم يفعلوا.
وَكانَ الْإِنْسانُ بحسب جبلته أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل ، وهو كما قال الراغب وغيره المنازعة بمفاوضة القول ، والأليق بالمقام أن يراد به هنا الخصومة بالباطل والمماراة وهو الأكثر في الاستعمال. وذكر غير واحد أنه مأخوذ من الجدل وهو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلا من المتجادلين يلتوي على صاحبه ، وانتصابه على التمييز ، والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل وعلل بسعة مضطربه فإنه بين أوج الملكية وحضيض البهيمية فليس له في جانبي التصاعد والتسفل مقام معلوم.
والظاهر أنه ليس المراد إنسانا معينا ، وقيل المراد به النضر بن الحارث ، وقيل ابن الزبعرى ، وقال ابن السائب :
أبي بن خلف وكان جداله في البعث حين أتي بعظم قد رم فقال : أيقدر اللّه تعالى على إعادة هذا وفته بيده؟ والأول أولى ، ويؤيده ما
أخرجه الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرم اللّه تعالى وجهه «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم طرقه وفاطمة ليلا فقال : ألا تصليان فقلت يا رسول اللّه إنما أنفسنا بيد اللّه تعالى إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
فإنه ظاهر في حمل الإنسان على العموم ، ولا شبهة في صحة الحديث إلا أن فيه إشكالا يعرف بالتأمل ، ولا يدفعه ما ذكره النووي حيث قال : المختار في معناه أنه صلّى اللّه عليه وسلّم تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ولهذا ضرب فخذه ، وقيل قال صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك تسليما لعذرهما وإنه لا عتب اه فتأمل وَما مَنَعَ النَّاسَ قال ابن عطية وغيره : المراد بهم كفار قريش الذين حكيت أباطيلهم ، وما نافية.
وزعم بعضهم وهو من الغرابة بمكان أنها استفهامية أي أي شيء منعهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي من إيمانهم باللّه تعالى وترك ما هم فيه من الإشراك إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له أو الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وإطلاق الهدى على كل للمبالغة وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ بالتوبة عما فرط منهم من أنواع الذنوب التي من جملتها مجادلتهم الحق بالباطل ، وفائدة ذكر هذا بعد الإيمان التعميم على ما قيل.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 284
واستدل به من زعم أن الإيمان إذا لم ينضم إليه الاستغفار لا يجب ما قبله وهو خلاف ما اقتضته الظواهر.
وقال بعضهم : لا شك أن الإيمان مع الاستغفار أكمل من الإيمان وحده فذكر معه لتفيد الآية ما منعهم من الاتصاف بأكمل ما يراد منهم ، ولا يخفى أنه ليس بشيء ، وقيل ذكر الاستغفار بعد الإيمان لتأكيد أن المراد منه الإيمان الذي لا يشوبه نفاق فكأنه قيل ما منعهم أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وهم من أهلك من الأمم السالفة ، وإضافة السنة إليهم قيل لكونها جارية عليهم وهي في الحقيقة سنة اللّه تعالى فيهم ، والمراد بها الإهلاك بعذاب الاستئصال ، وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر ، وأن وما بعدها في تأويل المصدر وهو فاعل مَنَعَ والكلام بتقدير مضاف أي ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا قاله الزجاج ، وجوز صاحب الفينان تقدير انتظار أي ما منعهم إلا انتظار الهلاك ، وقدر الواحدي تقدير أي ما منعهم إلا تقدير اللّه تعالى إتيان الهلاك عليهم ، وقال :
إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين ، ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثني ، والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس إتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى : أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا منتظر قطعا ، يميل لأن زمان إتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لإيمانهم واستغفارهم فلا يتأتى ما نعيته منهما.
واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان فلو كان منعهم للطلب لزم الدور. ودفع بأن المراد بالطلب سببه وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب بمثل قولهم : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال : 32] إلخ. وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند ، ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئا عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئا عن العناد واعترض أيضا بأن عدم الإيمان متقدم على الطلب مستمر فلا يكون الطلب مانعا.
وأجيب بأن المتقدم على الطلب هو عدم الإيمان السابق وليس الطلب بمانع منه بل هو مانع مما تحقق بعد وهو كما ترى ، وقيل المراد من الطلب الطلب الصوري اللساني لا الحقيقي القلبي فإن من له أدنى عقل لا يطلب الهلاك والعذاب طلبا حقيقيا قلبيا ومن الطلب الصوري منشؤه وما هو دليل عليه وهو تكذيب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بما أوعد به من العذاب والهلاك من لم يؤمن باللّه عز وجل فكأنه قيل ما منعهم من الإيمان باللّه تعالى الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام إلا تكذيبهم إياه بما أوعده على تركه ، ولا يخلو عن دغدغة.
وقيل الحق أن الآية على تقدير الطلب من قولك لمن يعصيك أنت تريد أن أضربك وهو على تنزيل الاستحقاق منزلة الطلب فكأنه قيل ما منعهم من ذلك إلا استحقاق الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي. وتعقب بأن عدم الإيمان والاتصاف بالكفر سبب للاستحقاق المذكور فيكون متقدما عليه ومتى كان الاستحقاق مانعا منه انعكس أمر التقدم والتأخر فيلزم اتصاف الواحد بالشخص بالتقدم والتأخر وأنه باطل. وأجيب بمنع كون عدم الإيمان سببا للاستحقاق في الحقيقة وإنما هو سبب صوري والسبب الحقيقي سوء استعداداتهم وخباثة ماهياتهم في نفس الأمر ، وهذا كما أنه سبب للاستحقاق كذلك هو سبب للاتصاف بالكفر ، وإن شئت فقل : هو مانع من الإيمان ، ومن هنا قيل إن المراد من الطلب الطلب بلسان الاستعداد وإن مآل الآية ما منعهم من ذلك إلا استعداداتهم وطلب ماهياتهم لضده ، وذلك لأن طلب استعداداتهم للهلاك أو العذاب المترتب على الضد استعداد للضد وطلب له ، وربما يقال بناء على هذا إن المفهوم من الآيات أن الكفار لو لم يأتهم رسول ينبههم من سنة الغفلة يحتجون لو عذبوا بعدم إتيانه فيقولون منعنا من الإيمان أنه لم يأتنا رسول ومآله منعنا من ذلك الغفلة ولا يجدون حجة أبلغ من ذلك وأنفع في الخلاص ، وأما سوء الاستعداد وخباثة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 285
الذات فبمراحل من أن يحتجوا به ويجعلوه مانعا فلا بعد في أن يقدر الطلب ويراد منه ظاهره وتكون الآية من قبيل قوله :
ولا عيب فيهم البيت. والمراد نفى أن يكون لهم مانع من الإيمان والاستغفار بعد مجيء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم يصلح أن يكون حجة لهم أصلا كأنه قيل لا مانع لهم من أن يؤمنوا أو يستغفروا ربهم ولا حجة بعد مجيء الرسول الذي بلغ ما بلغ من الهدى إلا طلب ما أوعدوا به من إتيان الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي حيث إن ذلك على فرض تحققه منهم لا يصلح للمانعية والحجية لم يبق مانع وحجة عندهم أصلا انتهى.
ولا يخفى أنه بعد الإغضاء عما يرد عليه بعيد وإنكار ذلك مكابرة ، والأولى تقدير التقدير وهو مانع بلا شبهة إلا أن القائلين بالاستعداد حسبما تعلم يجعلون منشأه الاستعداد ، وفي معناه تقدير الإرادة أي إرادته تعالى وعليه اقتصر العز ابن عبد السلام ، ودفع التنافي بين الحصر المستفاد من هذه الآية والحصر المستفاد من قوله تعالى : وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء : 94] بأن الحصر الأول في المانع الحقيقي فإن إرادة اللّه تعالى هي المانعة على الحقيقة والثاني في المانع العادي وهو استغراب بعث بشر رسول لأن المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب ذلك ، وقد تقدم في الإسراء ما ينفعك في الجمع بين الحصرين فتذكر فما في العهد من قدم وادعى الإمام تعدد الموانع وأن المراد من الآية فقدان نوع منها فقال : قال الأصحاب إن العلم بعدم إيمانهم مضاد لوجود إيمانهم فإذا كان ذلك العلم قائما كان المانع قائما ، وأيضا حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما حصل لأن حصول الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان فلا بد أن يقال : المراد فقدان الموانع المحسوسة انتهى فليتأمل فيه.
والقبل بضمتين جمع قبيل وهو النوع أي أو يأتيهم العذاب أنواعا وألوانا أو هو بمعنى قبلا بكسر القاف وفتح الباء كما قرأ به غير واحد أي عيانا فإن أبا عبيدة حكاهما معا بهذا المعنى وأصله بمعنى المقابلة فإذا دل على المعاينة ، ونصبه على الحال فإن كان حالا من الضمير المفعول فمعناه معاينين بكسر الياء أو بفتحها أو معاينين للناس ليفتضحوا ، وإن كان من العذاب فمعناه معاينا لهم أو للناس. وقرأت طائفة «قبلا» بكسر القاف وسكون الباء وهو كما في البحر تخفيف قبل على لغة تميم. وذكر ابن قتيبة والزمخشري أنه قرئ «قبلا» بفتحتين أي مستقبلا. وقرأ أبي بن كعب وابن غزوان عن طلحة «قبيلا» بقاف مفتوحة وباء مكسورة بعدها ياء ساكنة أي عيانا ومقابلة وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال إِلَّا حال كونهم مُبَشِّرِينَ للمؤمنين بالثواب وَمُنْذِرِينَ للكفرة والعصاة بالعقاب ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد ظهور المعجزات ويعاملوا بما لا يليق بشأنهم وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ باقتراح ذلك والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتا وقولهم لهم ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [يس : 15] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون : 24] إلى غير ذلك ، وتقييد الجدال بالباطل لبيان المذموم منه فإنه كما مر غير بعيد عام لغة لا خاص بالباطل ليحمل ما ذكر على التجريد ، والمراد به هنا معناه اللغوي وما يطلق عليه اصطلاحا مما يصدق عليه ذلك لِيُدْحِضُوا أي ليزيلوا ويبطلوا بِهِ أي بالجدال الْحَقَّ الذي جاءت به الرسل عليهم السلام ، وأصل الإدحاض الإزلاق والدحض الطين الذي يزلق فيه قال الشاعر :
وردت ونجى اليشكري حذاره وحاد كما حاد البعير عن الدحض
وقال آخر :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 286
أبا منذر رمت الوفاء وهبته وحدت كما حاد البعير المدحض
واستعماله في إزالة الحق قيل من استعمال ما وضع للمحسوس في المعقول ، وقيل لك أن تقول فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره كقول الخفاجي :
أتانا بوحل لأفكاره ليزلق أقدام هدى الحجج
وَاتَّخَذُوا آياتِي التي أيدت بها الرسل سواء كانت قولا أو فعلا وَما أُنْذِرُوا أي والذي أنذروه من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم هُزُواً أي استهزاء وسخرية.
وقرأ حمزة «هزأ» بالسكون مهموزا وقرأ غيره وغير حفص من السبعة بضمتين مهموزا وهو مصدر وصف به للمبالغة وقد يؤول بما يستهزأ به وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ الأكثرون على أن المراد بها القرآن العظيم لمكان أَنْ يَفْقَهُوهُ فالإضافة للعهد.
وجوز أن يراد بها جنس الآيات ويدخل القرآن العظيم دخولا أوليا ، والاستفهام إنكاري في قوة النفي ، وحقق غير واحد أن المراد نفى أن يساوي أحد في الظلم من وعظ بآيات اللّه تعالى فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يتعظ بها ، ودلالة ما ذكر على هذا بطريق الكناية وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض للإشعار بأن ظلم من يجادل في الآيات ويتخذها هزوا خارج عن الحد وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق ، ونسيان ذلك كناية عن عدم التفكر في عواقبه ، والمراد مِمَّنْ عند الأكثرين مشركو مكة.
وجوز أن يكون المراد منه المتصف بما في حيز الصلة كائنا من كان ويدخل فيه مشركو مكة دخولا أوليا ، والضمير في قوله تعالى : إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ لهم على الوجهين ، ووجه الجمع ظاهر ، والجملة استئناف بياني كأنه قيل ما علة الإعراض والنسيان؟ فقيل علته أنا جعلنا على قلوبهم أَكِنَّةً أي أغطية جمع كنان ، والتنوين على ما يشير إليه كلام البعض للتكثير أَنْ يَفْقَهُوهُ الضمير المنصوب عند الأكثرين للآيات ، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى المراد منها وهو القرآن.
وجوز أن يكون للقرآن لا باعتبار أنه المراد من الآيات وفي الكلام حذف والتقدير كراهة أن يفقهوه ، وقيل لئلا يفقهوه أي فقها نافعا وَفِي آذانِهِمْ أي وجعلنا فيها وَقْراً نقلا أن يسمعوه سماعا كذلك وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي مدة التكليف كلها ، وإِذاً جزاء وجواب كما حقق المراد منه في موضعه فتدل على نفي اهتدائهم لدعوة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه ، وعلى أنه جواب للرسول عليه الصلاة والسلام على تقدير قوله صلّى اللّه عليه وسلّم ما لي لا أدعوهم حرصا على اهتدائهم وإن ذكر له صلّى اللّه عليه وسلّم من أمرهم ما ذكر رجاء أن تنكشف تلك الأكنة وتمزق بيد الدعوة فقيل وإن تدعهم إلخ قاله الزمخشري. وفي الكشف في بيان ذلك أما الدلالة فصريح تخلل إِذاً يدل على ذلك لأن المعنى إذن لو دعوت وهو من التعكيس بلا تعسف ، وأما أنه جواب على الوجه المذكور فمعناه أنه صلّى اللّه عليه وسلّم نزل منزلة السائل مبالغة في عدم الاهتداء المرتب على كونهم مطبوعا على قلوبهم فلا ينافي ما آثروه من أنه على تقدير سؤال لم لم يهتدوا؟ فإن السؤال على هذا الوجه أوقع اه ، وهو كلام نفيس به ينكشف الغطا ويؤمن من تقليد الخطأ ويستغني به المتأمل عما قيل : إن تقدير ما لي لا أدعوهم يقتضي المنع من دعوتهم فكأنه أخذ من مثل قوله تعالى : فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النجم : 29] وقيل أخذ من قوله تعالى عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وقيل من قوله سبحانه «إن تدعهم» هذا ولا يخفى عليك المراد من الهدى وقد يراد منه القرآن فيكون من إقامة الظاهر مقام الضمير ، ولعل إرادة ذلك هنا ترجح إرادة القرآن في الهدى السابق ، واللّه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 287
تعالى أعلم. والآية في أناس علم اللّه تعالى موافاتهم على الكفر من مشركي مكة حين نزولها فلا ينافي الأخبار بالطبع وأنهم لا يؤمنون تحقيقا ولا تقليدا إيمان بعض المشركين بعد النزول ، واحتمال أن المراد جميع المشركين على معنى وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فلن يهتدوا جميعا وإنما يهتدي بعضهم كما ترى. واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم والقدرية بالآية التي قبلها ، قال الإمام : وقل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر وما ذلك إلا امتحان شديد من اللّه تعالى ألقاه اللّه تعالى على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين.
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ مبتدأ وخبر وقوله تعالى ذُو الرَّحْمَةِ أي صاحبها والموصوف بها خبر بعد خبر ، قال الإمام : وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار والرحمة إيصال النفع وقدرة اللّه تعالى تتعلق بالأول لأنه ترك مضار لا نهاية لها ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال.
وتعقبه النيسابوري بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى : ذُو الرَّحْمَةِ لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة : 173 وغيرها] بالمبالغة في الجانبين كثيرا وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره اه ، وقيل عليه إنهم فسروا الغفار بمريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم بمريد الأنعام على الخلق وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه لها ، وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق اه ، وهو كلام حسن اندفع به ما أورد على الإمام.
وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضا ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب ، ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول النيسابوري إن مقدوراته تعالى متناهية فإن ظاهره التعجيز تعالى اللّه سبحانه عما يقوله الظالمون علوا كبيرا ولكن يدفع بالعناية فتدبر ، ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين هاهنا على ما قاله الخفاجي إن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأسا ، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحا في نفسه كما قيل ، والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية ولو سلم ما ذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابله لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية كذا قيل وفيه نظر.
وربما يقال في توجيه ما قاله النيسابوري من أن ذو الرحمة لا يخلو عن المبالغة : إن ذلك إما لاقتران الرحمة بأل فتقيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء. وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلا إلى ذلك ، ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضا المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال : إنه أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها بكونها في الدنيا أو في الآخرة وهذان الاسمان يفيدان التقييد على المشهور ولذا عدل عنهما إلى ذو الرحمة ، وإذا قلت : هما مثله في عدم التقييد قيل : إن دلالته على المبالغة أقوى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 288
من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الاسمين الجليلين عليها ، وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معا أبلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه ، ومن أنصف لم يشك في أن قولك فلان ذو العلم أبلغ من قولك فلان العليم من حيث إن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران ، وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني ووجه ذلك ظاهر فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى ، والنكتة فيه هاهنا مزيد إيناسه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه بزيد حرصه عليه الصلاة والسلام على ذلك وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافا إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم انتهى.
وهو كلام واقف في أعراف الرد والقبول في النظر الجليل ، ومن دقق علم ما فيه من الأمرين ، وإنما قدم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال والمقام إذ المقام على ما قاله المحققون مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله تعالى : لَوْ يُؤاخِذُهُمْ أي لو يريد مؤاخذتهم بِما كَسَبُوا أي فعلوا ، وكسب الأشعري لا تفهمه العرب ، وما إما مصدرية أي بكسبهم وإما موصولة أي بالذي كسبوه من المعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ لاستيجاب أعمالهم لذلك ، قيل وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبىء عنه تاليها ، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة فإن المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار الفعل فيما مضى بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم بدر أو يوم القيامة على أن الموعد اسم زمان ، وجوز أن يكون اسم مكان والمراد منه جهنم ، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا مؤاخذين بغتة بل لهم موعد لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا قال الفراء : أي منجى يقال وألت نفس فلان نحت وعليه قول الأعشى :
وقد أخالس رب الدار غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
وقال ابن قتيبة : هو الملجأ يقال وأل فلان إلى كذا يئل وألا ووءولا إذا لجأ والمعنى واحد والفرق إنما هو بالتعدي بإلى وعدمه ، وتفسيره بالملجأ مروي عن ابن عباس ، وفسره مجاهد بالمحرز ، والضحاك بالمخلص والأمر في ذلك سهل ، وهو على ما قاله أبو البقاء : يحتمل أن يكون اسم زمان وأن يكون اسم مكان ، والضمير المجرور عائد على الموعد كما هو الظاهر ، وقيل : على العذاب وفيه من المبالغة ما فيه لدلالته على أنهم لا خلاص لهم أصلا فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة.
وأنت تعلم أن أمر المبالغة موجود في الظاهر أيضا وقيل : يعود على اللّه تعالى وهو مخالف للظاهر مع الخلو عن المبالغة ، وقرأ الزهري «موّلا» بتشديد الواو من غير همز ولا ياء ، وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه «مولا» بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء أيضا وَتِلْكَ الْقُرى أي قرى عاد وثمود وقوم لوط وأشباههم ، والكلام على تقدير مضاف أي أهل القرى لقوله تعالى : أَهْلَكْناهُمْ والإشارة لتنزيلهم لعلمهم بهم منزلة المحسوس ، وقدر المضاف في البحر قبل تِلْكَ وكلا الأمرين جائز ، وتلك يشار بها للمؤنث من العقلاء وغيرهم ، وجوز أن تكون القرى عبارة عن أهلها مجازا ، وأيّا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والْقُرى صفته والوصف بالجامد في باب الإشارة مشهور والخبر جملة أَهْلَكْناهُمْ واختار أبو حيان كون «القرى» هو الخبر والجملة حالية كقوله تعالى : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً [النمل :
52] وجوز أن تكون «تلك» منصوبا بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُوا أي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 289
حين ظلمهم كما فعل مشركو مكة ما حكي عنهم من القبائح ، وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أي لما فعلوا الظلم ، ولَمَّا عند الجمهور ظرف كما أشير إليه وليس المراد به الحين المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره.
وقال أبو الحسن بن عصفور : هي حرف ، ومما استدل به على حرفيتها هذه الآية حيث قال : إنها تدل على أن علة الإهلاك الظلم والظرف لا دلالة له على العلية ، واعترض بأن قولك أهلكته وقت الظلم يشعر بعلية الظلم وإن لم يدل الظرف نفسه على العلية ، وقيل لا مانع من أن يكون ظرفا استعمل للتعليل.
وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ لهلاكهم مَوْعِداً وقتا معينا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فمفعل الأول مصدر والثاني اسم زمان ، والتعيين من جهة أن الموعد لا يكون إلا معينا وإلا فاسم الزمان مبهم والعكس ركيك. وزعم بعضهم أن المهلك على هذه القراءة وهي قراءة حفص في الرواية المشهورة عنه - أعني القراءة بفتح الميم وكسر اللام - من المصادر الشاذة كالمرجع والمحيض وعلل ذلك بأن المضارع يهلك بكسر اللام وقد صرحوا بأن مجيء المصدر الميمي مكسورا فيما عين مضارعه مكسورة شاذ ، وتعقب بأنه قد صرح في القاموس بأن هلك جاء من باب ضرب ومنع وعلم فكيف يتحقق الشذوذ فالحق أنه مصدر غير شاذ وهو مضاف للفاعل ولذا فسر بما سمعت ، وقيل : إن هلك يكون لازما ومتعديا فعن تميم هلكني فلان فعلى تعديته يكون مضافا للمفعول ، وأنشد أبو علي في ذلك : - ومهمه هالك من تعرجا - أي مهلكه ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتعين ذلك في البيت بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكا فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة والأصل هالك من تعرجا بجعل من فاعلا لهالك ثم أضمر في هالك ضمير مهمه وانتصب من على التشبيه بالمفعول ثم أضيف من نصب ، والصحيح جواز استعمال الموصول في باب الصفة المشبهة ، وقد ثبت في أشعار العرب قال عمرو بن أبي ربيعة :
أسيلات أبدان دقاق خصورها وثيرات ما التفت عليها الملاحف
وقرأ حفص وهارون وحماد ويحيى عن أبي بكر بفتح الميم واللام ، وقراءة الجمهور بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر أيضا ، وجعله اسم مفعول على معنى وجعلنا لمن أهلكناه منهم في الدنيا موعدا ننتقم فيه منه أشد انتقام وهو يوم القيامة أو جهنم لا يخفى ما فيه ، والظاهر أن الآية استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليعتبروا ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم ، وهي ترجح حمل الموعد فيما سبق على يوم بدر فتدبر واللّه تعالى أعلم وأخبر.
«ومن باب الإشارة في الآيات» وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أمر بصحبة الفقراء الذين انقطعوا لخدمة مولاهم ، وفائدتها منه عليه الصلاة والسلام تعود عليهم وذلك لأنهم عشاق الحضرة وهو صلّى اللّه عليه وسلّم مرآتها وعرش تجليها ومعدن أسرارها ومشرق أنوارها فمتى رأوه صلّى اللّه عليه وسلّم عاشوا ومتى غاب عنهم كئبوا وطاشوا ، وأما صحبة الفقراء بالنسبة إلى غيره صلّى اللّه عليه وسلّم ففائدتها تعود إلى من صحبهم فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، وقال عمرو المكي : صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عيش أهل الجنة يتقلب معهم جليسهم من الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا ، ولأبي مدين من قصيدته المشهورة التي خمسها الشيخ محيي الدين قدس سره :
ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا هم السلاطين والسادات والأمرا
فاصحبهم وتأدب في مجالسهم وخل حظك مهما قدموك ورا
واستغنم الوقت واحضر دائما معهم واعلم بأن الرضا يختص من حضرا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 290
ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل لا علم عندي وكن بالجهل مستترا
إلى أن قال :
وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم وجه اعتذارك عما فيك منك جرا
وقل عبيدكم أولى بصفحكم فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا
هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم فلا تخف دركا منهم ولا ضررا
وعنى بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر ، وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ باللّه تعالى منه فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح ، والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما موقوفا تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد اللّه تعالى وتخرجوا من الكبر ، وفي الجامع الجلوس مع الفقراء من التواضع وهو من أفضل الجهاد ، وفي رواية أحبوا الفقراء وجالسوهم ، ومن فوائد مجالستهم أن العبد يرى نعمة اللّه تعالى عليه ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق وتحمل المن وغير ذلك ، نعم إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس ولذا عظم فضلها ، وقيل : إن في قوله تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ إلخ دون ودم مع الذين إلخ إشارة إلى ذلك ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلّى اللّه عليه وسلّم فإن نفسه الشريفة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة.
وقال بعض أهل الأسرار : إنما قيل : واصبر نفسك دون واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلّى اللّه عليه وسلّم كان مع الحق فأمر صلّى اللّه عليه وسلّم بصحبة الفقراء جهرا بجهر واستخلص سبحانه قلبه له سرا بسر تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم ، وقد جاء في الحديث «من تذلل لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه فليتق اللّه تعالى في الثلث الآخر»
ومضار مجالستهم كثيرة ، ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء ، وأدناها ضررا تحمل منهم فإنه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو بمجرد المجالسة وهو حمل لا يطاق ، ومن نوابغ الزمخشري طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن ، وقال بعض الشعراء :
لنا صاحب ما زال يتبع بره بمن وبذل المن بالبر لا يسوى
تركناه لا بغضا ولا عن ملالة ولكن لأجل المن يستعمل السلوى
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً نهي عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لهم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس ، وعدوا من إطاعته التواضع له فإنه يطلبه حالا وإن لم يفصح به مقالا وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ قالوا : فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين ، وعد من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال : إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيار ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل :
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 291
وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر
ولا يخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك ، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي اللّه تعالى عنه وهو :
إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين ووصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور ، وما أحسن قول الشهاب القتيل :
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
وإذا هم كتموا يحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح
وما ذكر أولا يكون مستمسكا في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سببا لضلال كثير من الناس وداعيا للإنكار عليهم ، وقد استدل بعض بالآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاؤوا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر. وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قدسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم. واعترض بأنه لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق ، وفيه نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء اللّه تعالى ما عسى أن ينفعك هنا ، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وأضرابه قدس اللّه تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لا سيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر ، ولذا ترى كثيرا من الناس ينكرون عليه ويكرون ، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمسا في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله :
ينكر المرء منه أمرا فينها ه نهاه فينكر الانكارا
تنثني عنه ثم تثني عليه ألسن تشبه الصحاة سكارى
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قيل هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور مِنْ سُنْدُسٍ الأحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف وَإِسْتَبْرَقٍ الأخلاق والمكاسب ، وعبر عنها بالاستبرق لكونها أكثف مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ قيل أي أرائك الأسماء الإلهية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إلخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على اللّه تعالى وتنبيه الأغنياء المغرورين ما فيه ، وقال النيسابوري : الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو النفس جَنَّتَيْنِ هما الهوى والدنيا مِنْ أَعْنابٍ الشهوات وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ حب الرياسة وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً من التمتعات البهيمية وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً من

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 292
القوى البشرية والحواس وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ من أنواع الشهوات وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يجاذب النفس أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا أي ميلا وَأَعَزُّ نَفَراً من الأوصاف المذمومة وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها قال ذلك غرورا باللّه تعالى وكرمه فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها من العمر وحسن الاستعداد انتهى.
وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً قال ابن عطاء : للطالبين له سبحانه لا للجنة وَخَيْرٌ عُقْباً للمريدين وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قيل هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس باللّه تعالى والإخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا اعوجاج فيها وهي خير المنازل ، وقد تفسر بما يعمها وغيرها من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً قال ابن عطاء : دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه لْ زَعَمْتُمْ
إلخ بعضهم ، ذكر أنه يعرض كل صنف صفا ، وقيل الأنبياء عليهم السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرون صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه وَوُضِعَ الْكِتابُ أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص ، ولبعضهم :
وأودعت الفؤاد كتاب شوق سينشر طيه يوم الحساب
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً قال أبو حفص : أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ قيل أي ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا لأنه مظهر الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر ، هذا واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه وَإِذْ قالَ مُوسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام على الصحيح ، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وجماعة من طريق سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : إن نوفا «1» البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو اللّه ثم ذكر حديثا طويلا فيه الإخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بما هو نص في أنه موسى بني إسرائيل ، وإلى إنكار ذلك ذهب أيضا أهل الكتاب وتبعهم من تبعهم من المحدثين والمؤرخين وزعموا أن موسى هنا هو موسى بن ميشا بالمعجمة ابن يوسف بن يعقوب ، وقيل : موسى بن إفرائيم بن يوسف وهو موسى الأول ، قيل وإنما أنكره أهل الكتاب لإنكارهم تعلم النبي من غيره. وأجيب بالتزام أن التعلم من نبي ولا غضاضة في تعلم نبي من نبي. وتعقب بأنه ولو التزموا ذلك وسلموا نبوة الخضر عليه السلام لا يسلمون أنه موسى بن عمران لأنهم لا تسمح أنفسهم بالقول بتعلم نبيهم الأفضل
___________
(1) هو ابن فضالة ابن امرأة كعب ، وقيل : ابن أخيه والمشهور الأول وهو من أصحاب أمير المؤمنين علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وبكال قيل بضم الباء حي من اليمن. وعن المبرد البكالي بكسر الباء نسبة إلى بكالة من اليمن ، وفي شرح مسلم للنووي البكالي ضبطه الجمهور بكسر الموحدة وتخفيف الكاف ورواه بعضهم بفتحها وتشديد الكاف قال القاضي : وهذا ضبط أكثر الشيوخ وأصحاب الحديث والصواب الأول وهو قول المحققين وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير وقيل : من همدان اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 293
ممن ليس مثله في الفضل فإن الخضر عليه السلام على القول بنبوته بل القول برسالته لم يبلغ درجة موسى عليه السلام ، وقال بعض المحققين : ليس إنكارهم لمجرد ذلك بل لذلك ولقولهم إن موسى عليه السلام بعد الخروج من مصر حصل هو وقومه في التيه وتوفي فيه ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته والقصة تقتضي خروجه عليه السلام من التيه لأنها لم تكن وهو في مصر بالإجماع ، وتقتضي أيضا الغيبة أياما ولو وقعت لعلمها كثير من بني إسرائيل الذين كانوا معه ولو علمت لنقلت لتضمنها أمرا غريبا تتوفر الدواعي على نقله فحيث لم يكن لم تكن. وأجيب بأن عدم سماح نفوسهم بالقول بعلم نبيهم عليه السلام ممن ليس مثله في الفضل أمر لا يساعده العقل وليس هو إلا كالحمية الجاهلية إذ لا يبعد عقلا تعلم الأفضل الأعلم شيئا ليس عنده ممن هو دونه في الفضل والعلم. ومن الأمثال المشهورة قد يوجد في الأسقاط ما لا يوجد في الأسفاط ، وقالوا : قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل ، وقال بعضهم :
لا مانع من أن يكون قد أخفى اللّه سبحانه وتعالى علم المسائل التي تضمنتها القصة عن موسى عليه السلام على مزيد علمه وفضله لحكمة ولا يقدح ذلك في كونه أفضل وأعلم من الخضر عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى ، وبأنه سيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا القول بأن القصة كانت بعد أن ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقر بعد هلاك القبط فلا إجماع على أنها لم تكن بمصر ، نعم اليهود لا يقولون باستقرارهم في مصر بعد هلاك القبط وعليه كثير منا وحينئذ يقال : إن عدم خروج موسى عليه السلام من التيه غير مسلم ، وكذلك اقتضاء ذلك الغيبة أياما لجواز أن يكون على وجه خارق للعادة كالتيه الذي وقعوا فيه وكنتق الجبل عليهم وغير ذلك من الخوارق التي وقعت فيهم ، وقد يقال : يجوز أن يكون عليه السلام خرج وغاب أياما لكن لم يعلموا أنه عليه السلام ذهب لهذا الأمر وظنوا أنه ذهب يناجي ويتعبد ولم يوقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع لعلمه بقصور فهمهم فخاف من حط قدره عندهم فهم القائلون اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف : 138] وأَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء : 135] وأوصى فتاه بكتم ذلك عنهم أيضا ، ويجوز أن يكون غاب عليه السلام وعلموا حقيقة غيبته لكن لم يتناقلوها جيلا بعد جيل لتوهم أن فيها شيئا مما يحط من قدره الشريف عليه السلام فلا زالت نقلتها تقل حتى هلكوا في وقت بختنصر كما هلك أكثر حملة التوراة ، ويجوز أن يكون قد بقي منهم أقل قليل إلى زمن نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم فتواصوا على كتمها وإنكارها ليوقعوا الشك في قلوب ضعفاء المسلمين ثم هلك ذلك القليل ولم تنقل عنه ، ولا يخفى أن باب الاحتمال واسع وبالجملة لا يبالى بإنكارهم بعد جواز الوقوع عقلا واخبار اللّه تعالى به ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فإن الآية ظاهرة في ذلك ، ويقرب من هذا الإنكار إنكار النصارى تكلم عيسى عليه السلام في المهد وقد
قدمنا أنه لا يلتفت إليه بعد إخبار اللّه تعالى به فعليك بكتاب اللّه تعالى ودع عنك الوساوس.
وإِذْ نصب على المفعولية باذكر محذوفا والمراد قل قال موسى لِفَتاهُ يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام فإنه كان يخدمه ويتعلم منه ولذا أضيف إليه ، والعرب تسمي الخادم فتى لأن الخدم أكثر ما يكونون في سن الفتوّة ، وكان فيما يقال ابن أخت موسى عليه السلام ، وقيل : هو أخو يوشع عليه السلام ، وأنكر اليهود أن يكون له أخ ، وقيل : لعبده فالإضافة للملك وأطلق على العبد فتى لما في الحديث الصحيح «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» وهو من آداب الشريعة ، وليس إطلاق ذلك بمكروه خلافا لبعض بل خلاف الأولى ، وهذا القول مخالف للمشهور وحكم النووي بأنه قول باطل وفي حل تملك النفس في بني إسرائيل كلام ، ومثله في البطلان القول الثاني لمنافاة كل الأخبار الصحيحة لا أَبْرَحُ من برح الناقص كزال يزال أي لا أزال أسير فحذف الخبر اعتمادا على قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالا على ما يعقبه من قوله حَتَّى أَبْلُغَ إذ الغاية لا بد لها من مغيا والمناسب لها هنا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 294
السير وفيما بعد أيضا ما يدل على ذلك وحذف الخبر فيها قليل كما ذكره الرضي ، ومنه قول الفرزدق :
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم
وقال أبو حيان : نص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل الدليل على حذفه إلا ما جاء في الشعر من قوله :
لهفي عليك كلهفة من خائف يبغي جوارك حين ليس مجير
أي حين ليس في الدنيا ، وجوز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون الأصل لا يبرح سيري حتى أبلغ فالخبر متعلق حتى مع مجرورها فحذف المضاف إليه «1» وهو سير فانقلب الضمير من البروز والجر إلى الرفع والاستتار وانقلب الفعل من الغيبة إلى التكلم ، قيل وكذا الفعل الواقع في الخبر وهو أَبْلُغَ كأن أصله يبلغ ليحصل الربط والإسناد مجازي وإلا يخل الخبر من الرابط إلا أن يقدر حتى أبلغ به أو يقال إن الضمير المستتر في كائن يكفي للربط أو أن وجود الربط بعد التغيير صورة يكفي فيه وإن كان المقدر في قوة المذكور ، وعندي لا لطف في هذا الوجه وإن استلطفه الزمخشري.
وجوز أيضا أن يكون أَبْرَحُ من برح التام كزال يزول فلا يحتاج إلى خبر ، نعم قيل لا بد من تقدير مفعول ليتم المعنى أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى صحة نقل.
والمجمع الملتقى وهو اسم مكان ، وقيل مصدر وليس بذاك ، والبحران بحر فارس والروم كما روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما ، وملتقاهما مما يلي المشرق ، ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما وإلا فهما لا يلتقيان إلا في البحر المحيط وهما شعبتان منه.
وذكر أبو حيان أن مجمع البحرين على ما يقتضيه كلام ابن عطية مما يلي بر الشام ، وقالت فرقة منهم محمد ابن كعب القرظي : هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا ، وعن أبي أنه بإفريقية ، وقيل البحران الكر والرس بأرمينية وروي ذلك عن السدي ، وقيل بحر القلزم وبحر الأزرق ، وقيل هما بحر ملح وبحر عذب وملتقاهما في الجزيرة الخضراء في جهة المغرب ، وقيل هما مجاز عن موسى والخضر عليهما السلام لأنهما بحرا علم ، والمراد بملتقاهما مكان يتفق فيه اجتماعهما ، وهو تأويل صوفي والسياق ينبو عنه وكذا قوله تعالى حَتَّى أَبْلُغَ إذ الظاهر عليه أن يقال حتى يجتمع البحران مثلا.
وقرأ الضحاك وعبد اللّه بن مسلم بن يسار مَجْمَعَ بكسر الميم الثانية ، والنضر عن ابن مسلم مَجْمَعَ بالكسر لكلا الحرفين وهو شاذ على القراءتين لأن قياس اسم المكان والزمان من فعل يفعل بفتح العين فيهما الفتح كما في قراءة الجمهور أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً عطف على أَبْلُغَ وأو لأحد الشيئين ، والمعنى حتى يقع إما بلوغي المجمع أو مضي حقبا أي سيري زمانا طويلا.
وجوز أن تكون أو بمعنى إلا والفعل منصوب بعدها بأن مقدرة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا زلت أسير في كل حال حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات المجمع ، ونقل أبو حيان جواز أن تكون بمعنى إلى وليس بشيء لأنه يقتضي جزمه ببلوغ المجمع بعد سيره حقبا وليس بمراد ، والحقب بضمتين ويقال بضم فسكون وبذلك قرأ
___________
(1) قوله فحذف المضاف إليه كذا بخطه والأولى المضاف وهو سير إلخ اه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 295
الضحاك اسم مفرد وجمعه كما في القاموس أحقب وأحقاب ، وفي الصحاح أن الحقب بالضم يجمع على حقاب مثل قف وقفاف ، وهو على ما روي عن ابن عباس وجماعة من اللغويين الدهر وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنه ثمانون سنة ، وعن الحسن أنه سبعون ، وقال الفراء : إنه سنة بلغة قريش وقال أبو حيان : الحقب السنون واحدها حقبة قال الشاعر :
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فإنك مما أحدثت بالمجرب
اه وما ذكره من أن الحقب السنون ذكره غير واحد من اللغويين لكن قوله واحدها حقبة فيه نظر لأن ظاهر كلامهم أنه اسم مفرد وقد نص على ذلك الخفاجي ولأن الحقبة جمع حقب بكسر ففتح ، قال في القاموس : الحقبة بالكسر من الدهر مدة لا وقت لها والسنة وجمعه حقب كعنب وحقوب كحبوب ، واقتصر الراغب والجوهري على الأول ، وكان منشأ عزيمة موسى عليه السلام على ما ذكر ما
رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال : أنا فعتب اللّه تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه سبحانه فأوحى اللّه تعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك» الحديث ،
وفي رواية أخرى عنه عن أبي أيضا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال : اي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه فقال له : نعم في عبادي من هو أعلم منك ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب وابن عساكر من طريق هارون عن أبيه عن ابن عباس قال : سأل موسى عليه السلام ربه سبحانه فقال : اي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني قال :
فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال : فأي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال : وكان حدث موسى نفسه أنه ليس أحد أعلم منه فلما أن قيل له الذي يبتغي علم الناس إلى علمه قال : يا رب فهل في الأرض أحد أعلم مني؟ قال : نعم قال : فأين هو؟
قيل له : عند الصخرة التي عندها العين فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر اللّه تعالى.
ثم إن هذه الأخبار لا دلالة فيها على وقوع القصة في مصر أو في غيرها ، نعم جاء في بعض الروايات التصريح بكونها في مصر ،
فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : لما ظهر موسى عليه السلام وقومه على مصر أنزل قومه بمصر فلما استقرت بهم البلد أنزل اللّه تعالى أن ذكرهم بأيام اللّه تعالى فخطب قومه فذكر ما آتاهم اللّه تعالى من الخير والنعم وذكرهم إذ أنجاهم اللّه تعالى من آل فرعون وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم اللّه سبحانه في الأرض وقال كلم اللّه تعالى نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه وأنزل علي محبة منه وآتاكم من كل شيء ما سألتموه فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرءون التوراة فلم يترك نعمة أنعمها اللّه تعالى عليهم إلا عرفهم إياها فقال له رجل من بني إسرائيل : فهل على الأرض أعلم منك يا نبي اللّه؟ قال : لا فبعث اللّه تعالى جبريل عليه السلام إلى موسى عليه السلام فقال : إن اللّه تعالى يقول وما يدريك أين أضع علمي بلى إن على ساحل البحر رجلا أعلم منك ثم كان ما قص اللّه سبحانه
، وأنكر ذلك ابن عطية فقال : ما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام وما أراه يصح بل المتظافر أن موسى عليه السلام توفي في أرض التيه قبل فتح ديار الجبارين اه وما ذكره من عدم إنزال موسى عليه السلام قومه بمصر هو الأقرب إلى القبول عندي وإن تعقب الخفاجي كلامه بعد نقله بقوله فيه نظر ، ثم إن==

22. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 296
الأخبار المذكورة ظاهرة في أن العبد الذي أرشد إليه موسى عليه السلام كان أعلم منه ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في ذلك فَلَمَّا بَلَغا الفاء فصيحة أي فذهبا يمشيان إلى مجمع البحرين فلما بلغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي البحرين ، والأصل في بين النصب على الظرفية.
وأخرج عن ذلك بجره «1» بالإضافة اتساعا والمراد مجمعهما ، وقيل : مجمعا في وسطهما فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين ، وذكر أن هذا يناسب تفسير المجمع بطنجة أو إفريقية إذ يراد بالمجمع متشعب بحر فارس والروم من المحيط وهو هناك ، وقيل : بين اسم بمعنى الوصل ، وتعقب بأن فيه ركاكة إذ لا حسن في قولك مجمع وصلهما ، وقيل إن فيه مزيد تأكيد كقولهم جد جده وجوز أن يكون بمعنى الافتراق أي موضع اجتماع افتراق البحرين أي البحرين المفترقين ، والظاهر أن ضمير التثنية على الاحتمالين للبحرين.
وقال الخفاجي : يحتمل على احتمال أن يكون بمعنى الافتراق عوده لموسى والخضر عليهما السلام أي وصلا إلى موضع وعد اجتماع شملهما فيه ، وكذا إذا كان بمعنى الوصل انتهى ، وفيه ما لا يخفى ، ومَجْمَعَ على سائر الاحتمالات اسم مكان ، واحتمال المصدرية هنا مثله فيما تقدم نَسِيا حُوتَهُما الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب ،
فقد صح أن اللّه تعالى حين قال لموسى عليه السلام : إن لي بمجمع البحرين من هو أعلم قال موسى : يا رب فكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا وجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر
، والظاهر نسبة النسيان إليهما جميعا وإليه ذهب الجمهور ، والكلام على تقدير مضاف أي نسيا حال حوتهما إلا أن الحال الذي نسيه كل منهما مختلف فالحال الذي نسيه موسى عليه السلام كونه باقيا في المكتل أو مفقودا والحال الذي نسيه يوشع عليه السلام ما رأى من حياته ووقوعه في البحر ، وهذا قول بأن يوشع شاهد حياته وفيه خبر صحيح ،
ففي حديث رواه الشيخان ، وغيرهما أن اللّه تعالى قال لموسى : خذ نونا ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح فأخذ ذلك فجعله في مكتل فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال : ما كلفت كثيرا فبينما هما في ظل صخرة إذا اضطرب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه : لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره.
وفي حديث رواه مسلم ، وغيره أن اللّه تعالى قال له : آية ذلك أن تزود حوتا «2» مالحا فهو حيث تفقده ففعل حتى إذا انتهيا إلى الصخرة انطلق موسى يطلب ووضع فتاه الحوت على الصخرة فاضطرب ودخل البحر فقال فتاه : إذا جاء نبي اللّه تعالى حدثته فأنساه الشيطان ،
وزعم بعض أن الناسي هو الفتى لا غير نسي أن يخبر موسى عليه السلام بأمر الحوت ، ووجه نسبة النسيان إليهما بأن الشيء قد ينسب إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحدا منهم ، وما ذكر هنا نظير نسي القوم زادهم إذا نسيه متعهد أمرهم ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي نسي أحدهما والمراد به الفتى وهو كما ترى ، وسبب حياة هذا الحوت على ما في بعض الروايات عن ابن عباس أنه كان عند الصخرة ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه ميت إلا حيي فأصاف شيء منه الحوت فحيي ، وروي أن يوشع عليه السلام توضأ من ذلك الماء فانتضح شيء منه على الحوت فعاش
، وقيل : إنه لم يصبه سوى روح الماء وبرده فعاش بإذن اللّه تعالى وذكر هذا الماء وأنه ما
___________
(1) والإضافة بيانية أو لامية.
(2) في رواية مملحا وفي أخرى مليحا.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 297
أصاب منه شيء إلا حيي وأن الحوت أصاب منه جاء في صحيح البخاري فيما يتعلق بسورة الكهف أيضا لكن ليس فيه أنه من شرب منه خلد كما في بعض الروايات السابقة. ويشكل على هذا البعض أنه روي أن يوشع شرب منه أيضا مع أنه لم يخلد اللهم إلا أن يقال : إن هذا لا يصح واللّه تعالى أعلم ، ثم إن هذا الحوت كان على ما سمعت فيما مر مالحا وفي رواية مشويا ، وفي بعض أنه كان في جملة ما تزوداه وكانا يصيبان منه عند العشاء والغداء فأحياه اللّه تعالى وقد أكلا نصفه فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً مسلكا كالسرب وهو النفق
فقد صح من حديث الشيخين والترمذي والنسائي وغيرهم أن اللّه تعالى أمسك عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق
، والمراد به البناء المقوس كالقنطرة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن الحبر جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا ييس حتى يكون صخرة ، وهذا وكذا ما سبق من الأمور الخارقة للعادة التي يظهرها سبحانه على من شاء من أنبيائه وأوليائه ، ونقل الدميري بقاء أثر الخارق الأول قال : قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي تزوده موسى وفتاه عليهما السلام وأكلا منه وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر واحد جنبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها ولها عين واحدة ورأسها نصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها وحسب أنها مأكولة ميتة ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة انتهى.
وقال أبو شجاع في كتاب الطبري : أتيت به فرأيته فإذا هو شق حوت وليس له إلا عين واحدة ، وقال ابن عطية :
وأنا رأيته أيضا وعلى شقه قشرة رقيقة ليس تحتها شوكة ، وفيه مخالفة لما في كلام أبي حامد ، وأنا سألت كثيرا من راكبي البحار ومتتبعي عجائب الآثار فلم يذكروا أنهم رأوا ذلك ولا أهدي إليهم في مملكة من الممالك فلعل أمره إن صح كل من الإثبات والنفي صار اليوم كالعنقاء كانت فعدمت واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.
والفاء على ما يقتضيه كلامهم فصيحة أي فحيي وسقط في البحر فاتخذ ، وقدر بعضهم المعطوف عليه الذي تفصح عنه الفاء بالواو على خلاف المألوف ليدفع به الاعتراض على كون الحال الذي نسيه يوشع ما رأى من حياته ووقوعه في البحر بأن الفاء تؤذن بأن نسيانه عليه السلام كان قبل حياته ووقوعه في البحر واتخاذه سربا فلا يصح اعتبار ذلك في الحال المنسي ، وأجيب بأن المعتبر في الحال هو الحياة والوقوع في البحر أنفسهما من غير اعتبار أمر آخر والواقع بعدهما من حيث ترتب عليهما الاتخاذ المذكور فهما من حيث أنفسهما متقدمان على النسيان ومن حيث ترتب الاتخاذ متأخران وهما من هذه الحيثية معطوفان على نسيا بالفاء التعقيبية ، ولا يخفى أنه سيأتي في الجواب إن شاء اللّه تعالى ما يأبى هذا الجواب إلا أن يلتزم فيه خلاف المشهور بين الأصحاب فتدبر ، وانتصاب سَرَباً على أنه مفعول ثان لاتخذ وفِي الْبَحْرِ حال منه ولو تأخر كان صفة أو من السبيل ، ويجوز أن يتعلق باتخذ ، وفِي في جميع ذلك ظرفية.
وربما يتوهم من كلام ابن زيد حيث قال : إنما اتخذ سبيله في البر حتى وصل إلى البحر فعام على العادة أنها تعليلية مثلها في أن امرأة دخلت النار في هرة فكأنه قيل فاتخذ سبيله في البر سربا لأجل وصوله إلى البحر ، وواقفه في كون اتخاذ السرب في البر قوم ، وزعموا أنه صادف في طريقه في البر حجرا فنقبه ، ولا يخفى أن القول بذلك خلاف ما ورد في الصحيح مما سمعت والآية لا تكاد تساعده ، وجوز أن يكون مفعولا اتخذ سَبِيلَهُ وفِي الْبَحْرِ وسربا حال من السبيل وليس بذاك ، وقيل حال من فاعل اتخذ وهو بمعنى التصرف والجولان من قولهم فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء ، ومنه قوله تعالى : وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد : 10] وهو في تأويل الوصف أي اتخذ ذلك في البحر متصرفا ، ولا يخفى أنه نظير سابقه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 298
[سورة الكهف (18) : الآيات 62 إلى 74]
فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)
قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)
فَلَمَّا جاوَزا أي ما فيه المقصد من مجمع البحرين ، صح أنهما انطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد وارتفع النهار أحس موسى عليه السلام بالجوع فعند ذلك قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو الطعام الذي يؤكل ، أول النهار والمراد به الحوت على ما ينبئ عنه ظاهر الجواب وقيل سارا ليلتهما إلى الغد فقال ذلك.
لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا وإعياء ، وهذا إشارة إلى سفرهم الذي هم ملتبسون به ولكن باعتبار بعض أجزائه ،
فقد صح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لم يجد موسى شيئا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به»
وذكر أنه يفهم من الفحوى ، والتخصيص بالذكر أنه لم ينصب في سائر أسفاره والحكمة في حصول الجوع والتعب له حين جاوز أن يطلب الغداء فيذكر الحوت فيرجع إلى حيث يجتمع بمراده ، وعن أبي بكر غالب بن عطية والد أبي عبد الحق المفسر قال : سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم ، والجملة في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع ، وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما ، وقرأ عبد اللّه بن عبيد بن عمير «نصبا» بضمتين ، قال صاحب اللوامح : وهي إحدى اللغات الأربع في هذه الكلمة قالَ أي فتاه ، والاستئناف بياني كأنه قيل فما صنع الفتى حين قال له موسى عليه السلام ما قال؟ فقيل قال أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي التجأنا إليها وأقمنا عندها ، وجاء في بعض الروايات الصحيحة أن موسى عليه السلام حين قال لفتاه :
لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً قال : قد قطع اللّه عنك النصب
، وعلى هذا فيحتمل أنه بعد أن قال ذلك قال أَرَأَيْتَ إلخ ، قال شيخ الإسلام : وذكر الإواء إلى الصخرة مع أن المذكور فيما سبق بلوغ مجمع البحرين لزيادة تعيين محل الحادثة فإن المجمع محل متسع لا يمكن تحقيق المراد بنسبة الحادثة إليه ولتمهيد العذر فإن الإواء إليها والنوم عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة انتهى.
وهذا الأخير إنما يتم على بعض الروايات من أنهما ناما عند الصخرة ، وذكر أن هذه الصخرة قريبة من نهر الزيت وهو نهر معين عنده كثير من شجر الزيتون ، وأَ رَأَيْتَ قيل بمعنى أخبرني وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت كذلك فلا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 299
بد لها من أمرين كون الاسم المستخبر عنه معها ولزوم الجملة التي بعدها الاستفهام وهما مفقودان هنا ، ونقل هو وناظر الجيش في شرح التسهيل عن أبي الحسن الأخفش أنه يرى أن أرأيت إذا لم ير بعدها منصوب ولا استفهام بل جملة مصدرة بالفاء كما هنا مخرجة عن بابها ومضمنة معنى أما أو تنبه فالفاء جوابها لا جواب إذ لأنها لا تجازى إلا مقرونة بما بلا خلاف فالمعنى أما أو تنبه إذ أوينا إلى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وقال شيخ الإسلام : الرؤية مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة ، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى ، وقد جعل فقدانه علامة لوجدان المطلوب وهذا أسلوب معتاد بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب : أرأيت ما نابني يريد بذلك تهويله وتعجيب صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعه ولا استخباره عن ذلك كما قيل ، والمفعول محذوف اعتمادا على ما يدل عليه من قوله فَإِنِّي إلخ وفيه تأكيد للتعجيب وتربية لاستعظام المنسي اه. وفيه من القصور ما فيه.
والزمخشري جعله استخبارا فقال : إن يوشع عليه السلام لما طلب منه موسى عليه السلام الغداء ذكر ما رأى من الحوت وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل عن سبب ذلك كأنه قال : أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فحذف ذلك اه ، وفيه إشارة إلى أن مفعول أَرَأَيْتَ محذوف وهو إما الجملة الاستفهامية إن كانت ما في ما دهاني للاستفهام وإما نفس ما إن كانت موصولة ، وإلى أن إذ ظرف متعلق بدهاني وهو سبب لما بعد الفاء في فَإِنِّي وهي سببية ، ونظير ذلك قوله تعالى : وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف : 11] فإن التقدير وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون إلخ وهو قول بأن أرأيت بمعنى أخبرني وقد سمعت ما قيل عليه ، وفي تقديره أيضا على الاحتمال الثاني ما في حذف الموصول مع جزء الصلة بناء على أن فَإِنِّي نَسِيتُ من تتمتها ، وعلى العلات ليس المراد من الاستخبار حقيقته بل تهويل الأمر أيضا.
ثم لا يخفى إن رأى إن كانت بصرية أو بمعنى عرف احتاجت إلى مفعول واحد والتقدير عند بعض المحققين أأبصرت أو أعرفت حالي إذ أوينا وفيه تقليل للحذف ولا يخفى حسنه ، وإن كانت علمية احتاجت إلى مفعولين وعلى هذا قال أبو حيان : يمكن أن تكون مما حذف منه المفعولان اختصارا والتقدير أرأيت أمرنا إذ أوينا ما عاقبته ، وإيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإيتائه قيل للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نسيان زاده في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوال المتعلقة بالغداء من حيث هو غداء وطعام بل من حيث هو حوت كسائر الحيتان مع زيادة وقيل للتصريح بما في فقده إدخال السرور على موسى عليه السلام مع حصول الجواب فقد تقدم رواية أنه قال له : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، ثم الظاهر أن النسيان على حقيقته وهو ليس متعلقا بذات الحوت بل بذكره.
وجوز أن يكون مجازا عن الفقد فيكون متعلقا بنفس الحوت ، والأكثرون على الأول أي نسيت أن أذكر لك أمر الحوت وما شاهدت من عجيب أمره وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ لعله شغله بوساوس في الأهل ومفارقة الوطن فكان ذلك سببا للنسيان بتقدير العزيز العليم وإلا فتلك الحال مما لا تنسى. وقال بعضهم : إن يوشع كان قد شاهد من موسى عليه السلام المعجزات القاهرات كثيرا فلم يبق لهذه المعجزة وقع عظيم لا يؤثر معه الوسوسة فنسي. وقال الإمام : إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال اللّه تعالى عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيها لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم اللّه تعالى وحفظه على القلب والخاطر ، وأنت تعلم أنه لو جعل اللّه تعالى المشاهد الناسي هو موسى عليه السلام كان أتم في التنبيه ، وقد يقال : إنه أنسي تأديبا له بناء على ما تقدم من أن موسى عليه السلام لما قال له : لا أكلفك إلخ قال له ما كلفت كثيرا حيث استسهل الأمر ولم يظهر الالتجاء فيه إلى اللّه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 300
تعالى بأن يقول : أخبرك إن شاء اللّه تعالى ، وفيه أيضا عتاب لموسى عليه السلام حيث اعتمد عليه في العلم بذهاب الحوت فلم يحصل له حتى نصب ، ثم إن هذه الوسوسة لا تضر بمقام يوشع عليه السلام وإن قلنا إنه كان نبيا وقت وقوع هذه القصة.
وقال بعض المحققين : لعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما اعتراه من مشاهدة الآيات الباهرة ، وإنما نسبه إلى الشيطان مع أن فاعله الحقيقي هو اللّه تعالى والمجازي هو الاستغراق المذكور هضما لنفسه بجعل ذلك الاستغراق والانجذاب لشغله عن التيقظ للموعد الذي ضربه اللّه تعالى بمنزلة الوساوس ففيه تجوز باستعارة الشيطان لمطلق الشاغل ، وفي الحديث «إنه ليغان على قلبي فاستغفر اللّه تعالى في اليوم سبعين مرة»
أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر يعد من نقصان صاحبها وتركه المجاهدات والتصفية فيكون قد تجوز بذلك عن النقصان لكونه سببه ، وضم حفص الهاء في «أنسانيه» وهو قليل في مثل هذا التركيب قلة النسيان في مثل هذه الواقعة ، والجمهور على الكسر وأمال الكسائي فتحة السين.
وقوله تعالى : أَنْ أَذْكُرَهُ بدل اشتمال من الهاء أي ما أنساني ذكره لك إلا الشيطان ، قيل وفي تعليق الفعل بضمير الحوت أولا وبذكره له ثانيا على طريق الإبدال المنبئ عن تنحيته المبدل منه إشارة إلى أن متعلق النسيان ليس نفس الحوت بل ذكر أمره.
وفي مصحف عبد اللّه وقراءته «أن أذكركه» ، وفي إيثار أن والفعل على المصدر نوع مبالغة لا تخفى.
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً الظاهر الذي عليه أكثر المفسرين أن مجموعه كلام يوشع وهو تتمة لقوله فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وفيه إنباء عن طرف آخر من أمره وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل حيي واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا ، فسبيله مفعول أول لاتخذ وفِي الْبَحْرِ حال منه وعَجَباً مفعول ثان ، وفي ذكر السبيل ثم إضافته إلى ضمير الحوت ثم جعل الظرف حالا من المضاف تنبيه إجمالي على أن المفعول الثاني من جنس الأمور الغريبة ، وفيه تشويق للمفعول الثاني وتكرير مفيد للتأكيد المناسب للمقام ، فهذا التركيب في إفادة المراد أو في لحق البلاغة من أن يقال واتخذ في البحر سبيلا عجبا ، وجوز أن يكون فِي الْبَحْرِ حالا من عَجَباً وأن يكون متعلقا باتخذ ، وأن يكون المفعول الثاني له وعَجَباً صفة مصدر محذوف أي اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالطاق والسرب ، وجوز أيضا على احتمال كون الظرف مفعولا ثانيا أن ينصب عَجَباً بفعل منه مضمر أي أعجب عجبا ، وهو من كلام يوشع عليه السلام أيضا تعجب من أمر الحوت بعد أن أخبر عنه ، وقيل إن كلام يوشع عليه السلام قد تم عند الْبَحْرِ وقول أعجب عجبا كلام موسى عليه السلام كأنه قيل : وقال موسى : أعجب عجبا من تلك الحال التي أخبرت بها ، وأنت تعلم أنه لو كان كذلك لجيء ، بالجملة الآتية بالواو العاطفة على هذا المقدر ، وقيل : يحتمل أن يكون المجموع من كلامه عز وجل وحينئذ يحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون إخبارا منه تعالى عن الحوت بأنه اتخذ سبيله في البحر عجبا للناس ، وثانيهما أن يكون إخبارا منه سبحانه عن موسى عليه السلام بأنه اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا يتعجب منه ، وعَجَباً على هذا مفعول ثان ولا ركاكة في تأخير قالَ الآتي عنه على هذا لأن استئناف لبيان ما صدر منه عليه السلام بعد ، ويؤيد كونه من كلام يوشع عليه السلام قراءة أبي حيوة «و
اتخاذ» بالنصب على أنه معطوف على المنصوب في أَذْكُرَهُ قالَ أي موسى عليه السلام ذلِكَ الذي ذكرت من أمر الحوت ما كُنَّا نَبْغِ أي الذي كنا نطلبه من حيث إنه أمارة للفوز بما هو المطلوب بالذات ، وقرىء «نبغ» بغير ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع ، وأما الوقف

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 301
فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لرسم المصحف ، وأثبتها في الحالين ابن كثير فَارْتَدَّا أي رجعا عَلى آثارِهِما الأولى ، والمراد طريقهما الذي جاءا منه قَصَصاً أي يقصانه قصصا أي يتبعانها اتباعا فهو من قص أثره إذا اتبعه كما هو الظاهر ، ونصبه على أنه مفعول لفعل مقدر من لفظه ، وجوز أن يكون حالا مؤولا بالوصف أي مقتصين حتى أتيا الصخرة التي فقد الحوت عندها.
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الجمهور على أنه الخضر بفتح الخاء وقد تكسر وكسر الضاد وقد تسكن ، وقيل اليسع ، وقيل اليأس ، وقيل ملك من الملائكة وهو قول غريب باطل كما في شرح مسلم ، والحق الذي تشهد له الأخبار الصحيحة هو الأول ، والخضر لقبه ولقب به كما
أخرج البخاري وغيره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه جلس على فروة «1» بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء.
وأخرج ابن عساكر وجماعة عن مجاهد أنه لقب بذلك لأنه إذا صلى اخضر ما حوله
، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أن ذلك لأنه كان إذا جلس في مكان اخضر ما حوله وكانت ثيابه خضرا
، وأخرج عن السدي أنه إذا قام بمكان نبت العشب تحت رجليه حتى يغطي قدميه
،
وقيل لإشراقه وحسنه ، والصواب كما قال النووي الأول ، وكنيته أبو العباس واسمه بليا بموحدة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية ، وفي آخره ألف قيل ممدودة ، وقيل ابليا بزيادة همزة في أوله ، وقيل عامر ، وقيل أحمد ووهاه ابن دحية بأنه لم يسمع قبل نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم أحد من الأمم السالفة بأحمد ، وزعم بعضهم أن اسم الخضر اليسع وأنه إنما سمي بذلك لأن علمه وسع ست سموات وست أرضين ووهاه ابن الجوزي ، وأنت تعلم أنه باطل لا واه ، ومثله القول بأن اسمه الياس ، واختلفوا في أبيه فأخرج الدارقطني في الأفراد ، وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه ابن آدم لصلبه ، وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أن أمه رومية وأباه فارسي ، ولم يذكر اسمه وذكر أن الياس أخوه من هذه الأم وهذا الأب ، وأخرج أيضا عن أسباط عن السدي أنه ابن ملك من الملوك وكان منقطعا في عبادة اللّه تعالى وأحب أبوه أن يزوجه فأبى ثم أجاب فزوجه بامرأة بكر فلم يقربها سنة ثم بثيب فلم يقربها ثم فر فطلبه فلم يقدر عليه ثم تزوجت امرأته الأولى وكانت قد آمنت وهي ماشطة امرأة فرعون ، ولم يذكر أيضا اسم أبيه ، وقيل إنه ابن فرعون على ما قيل إنه أبوه وسبحان من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، وأخرج أبو الشيخ في العظمة وأبو نعيم في الحلية عن كعب الأحبار أنه ابن عاميل وأنه ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ بحر الهند وهو بحر الصين فقال : يا أصحابي دلوني فدلوه في البحر أياما وليالي ثم صعد فقال : استقبلني ملك فقال لي : أيها الآدمي الخطاء إلى أين ومن أين؟ فقلت : أردت أن أنظر عمق هذا البحر فقال لي : كيف وقد أهوى رجل من زمان داود عليه السلام ، ولم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة
وذلك ثلاثمائة سنة ، وأظنك لا تشك بكذب هذا الخبر وإن قيل حدث عن البحر ولا حرج وقيل هو ابن العيص. وقيل هو ابن كليان بكاف مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية بعدها ألف ونون. وقال ابن قتيبة في المعارف : قال وهب بن منبه إنه ابن ملكان بفتح الميم وإسكان اللام ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال بيد أن صنيع النووي عليه الرحمة في شرح مسلم يشعر باختيار أنه بليا بن ملكا وهو الذي عليه الجمهور واللّه تعالى أعلم.
وصح من حديث البخاري وغيره أنهما رجعا إلى الصخرة وإذا رجل مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه
___________
(1) هي وجه الأرض اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 302
وطرفه الآخر تحت رأسه. وفي صحيح مسلم فأتيا جزيرة فوجد الخضر قائما يصلي على طنفسة خضراء على كبد البحر
، وقال الثعلبي : انتهيا إليه وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو مسجى بثوب أخضر
. وقيل إن سبيل الحوت عاد حجرا فلما جاءا إليه مشيا عليه حتى وصلا إلى جزيرة فيها الخضر ، وصح أنهما لما انتهيا إليه سلم موسى فقال الخضر : وإني بأرضك السلام. فقال : أنا موسى. فقال : موسى بني إسرائيل قال : نعم ،
وروي أنه لما سلم عليه وهو مسجى عرفه أنه موسى فرفع رأسه فاستوى جالسا وقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال موسى : وما أدراك بي ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ فقال : الذي أدراك بي ودلك عليّ ثم قال : يا موسى أما يكفيك أن التوراة بيدك وأن الوحي يأتيك؟ قال موسى : إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك
، والتنوين في عَبْداً للتفخيم والإضافة في عِبادِنا للتشريف والاختصاص أي عبدا جليل الشأن ممن اختص بنا وشرف بالإضافة إلينا.
آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا قيل المراد بها الرزق الحلال والعيش الرغد ، وقيل العزلة عن الناس وعدم الاحتياج إليهم وقيل طول الحياة مع سلامة البنية ، والجمهور على أنها الوحي والنبوة وقد أطلقت على ذلك في مواضع من القرآن ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وهذا قول من يقول بنبوته عليه السلام وفيه أقوال ثلاثة ، فالجمهور على أنه عليه السلام نبي وليس برسول ، وقيل هو رسول ، وقيل هو ولي وعليه القشيري وجماعة ، والمنصور ما عليه الجمهور. وشواهده من الآيات والأخبار كثيرة وبمجموعها يكاد يحصل اليقين ، وكما وقع الخلاف في نبوته وقع الخلاف في حياته اليوم فذهب جمع إلى أنه ليس بحي اليوم ،
وسئل البخاري عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال : كيف يكون هذا وقد قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أي قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد
، والذي
في صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل موته ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية
وهذا أبعد عن التأويل ، وسئل عن ذلك غيره من الأئمة فقرأ وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء : 34]. وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويجاهد بين يديه ويتعلم منه. وقد قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض
فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين كان الخضر حينئذ؟.
وسئل إبراهيم الحربي عن بقائه فقال : من أحال على غائب لم ينتصف منه وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان.
ونقل في البحر عن شرف الدين أبي عبد اللّه محمد بن أبي الفضل المرسي
القول بموته أيضا. ونقله ابن الجوزي عن علي بن موسى الرضا رضي اللّه تعالى عنهما أيضا
. وكذا عن إبراهيم بن إسحاق الحربي ، وقال أيضا : كان أبو الحسين بن المنادي يقبح قول من يقول إنه حي.
وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب محمد وكيف يعقل وجود الخضر ولا يصلي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الجمعة والجماعة ولا يشهد معه الجهاد مع
قوله عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني»
وقوله عز وجل وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران : 81] وثبوت أن عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف إمام هذه الأمة ولا يتقدم عليه في مبدأ الأمر ، وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر عليه السلام وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة ثم قال :
وعندنا من المعقول وجوه على عدم حياته ، أحدها أن الذي قال بحياته قال : إنه ابن آدم عليه السلام لصلبه وهذا فاسد لوجهين ، الأول أنه يلزم أن يكون عمره اليوم ستة آلاف سنة أو أكثر ومثل هذا بعيد في العادات في حق البشر. والثاني

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 303
أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من أولاده كما زعموا أنه وزير ذي القرنين لكان مهول الخلقة مفرط الطول والعرض ،
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «خلق آدم طوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده»
وما ذكر أحد ممن يزعم رؤية الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس ، والوجه الثاني أنه لو كان الخضر قبل نوح عليه السلام لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد.
الثالث أن العلماء اتفقوا على أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة مات من معه ولم يبق غير نسله ودليل ذلك قوله سبحانه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات : 77].
الرابع أنه لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لكان ذلك من أعظم الآيات والعجائب وكان خبره في القرآن مذكورا في مواضع لأنه من آيات الربوبية وقد ذكر سبحانه عز وجل من استحياه ألف سنة إلا خمسين عاما وجعله آية فكيف لا يذكر جل وعلا من استحياه أضعاف ذلك ، الخامس أن القول بحياة الخضر قول على اللّه تعالى بغير علم وهو حرام بنص القرآن ، أما المقدمة الثانية فظاهرة ، وأما الأولى فلأن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهذا كتاب اللّه تعالى فأين فيه حياة الخضر؟ وهذه سنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه ، وهؤلاء علماء الأمة فمتى أجمعوا على حياته ، السادس أن غاية ما يتمسك به في حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر فياللّه تعالى العجب هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه؟ وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله أنا الخضر ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من اللّه تعالى فمن أين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟ السابع أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف : 78] فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه السلام ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم وكل منهم يقول : قال لي الخضر جاءني الخضر أوصاني الخضر - فيا عجبا له يفارق الكليم ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم سبحانك هذا بهتان عظيم.
الثامن أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر لو قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : كذا وكذا لم يلتفت إلى قوله ولم يحتج به في الدين ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول : إنه لم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بايعه أو يقول : إنه لم يرسل إليه وفي هذا من الكفر ما فيه ، التاسع أنه لو كان حيا لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل اللّه تعالى ومقامه في الصف ساعة وحضوره الجمعة والجماعة وإرشاد جهلة الأمة أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات إلى غير ذلك ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما له وما عليه. وشاع الاستدلال بخبر لو كان الخضر حيا لزارني وهو كما قال الحفاظ خبر موضوع لا أصل له ولو صح لأغنى عن القيل والقال ولا نقطع به الخصام والجدال وذهب جمهور العلماء إلى أنه حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية قدست أسرارهم قاله النووي ، ونقل عن الثعلبي المفسر أن الخضر نبي معمر على جميع الأقوال محجوب عن أبصار أكثر الرجال ، وقال ابن الصلاح : هو حي اليوم عند جماهير العلماء والعامة معهم في ذلك وإنما ذهب إلى إنكار حياته بعض المحدثين واستدلوا على ذلك بأخبار كثيرة منها ما أخرجه الدارقطني في الأفراد وابن عساكر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال ومثله لا يقال من قبل الرأي ، ومنها ما
أخرجه ابن عساكر عن ابن إسحاق قال : حدثنا أصحابنا أن آدم عليه السلام لما حضره الموت جمع بنيه فقال : يا بني إن اللّه تعالى منزل على أهل الأرض عذابا فليكن جسدي معكم في المغارة حتى إذا هبطتم فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام فكان جسده معهم فلما بعث اللّه تعالى نوحا ضم ذلك الجسد وأرسل اللّه تعالى الطوفان على الأرض فغرقت

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 304
زمانا فجاء نوح حتى نزل بابل وأوصى بنيه الثلاثة أن يذهبوا بجسده إلى المغار الذي أمرهم أن يدفنوه به فقالوا : الأرض وحشة لا أنيس بها ولا نهتدي الطريق ولكن كف حتى يأمن الناس ويكثروا فقال لهم نوح : إن آدم قد دعا اللّه تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه فأنجز اللّه تعالى له ما وعده فهو يحيا إلى ما شاء اللّه تعالى له أن يحيا
، وفي هذا سبب طول بقائه وكأنه سبب بعيد وإلا فالمشهور فيه أنه شرب من عين الحياة حين دخل الظلمة مع ذي القرنين وكان على مقدمته ، ومنها ما
أخرجه الخطيب وابن عساكر عن علي رضي اللّه تعالى عنه وكرم وجهه قال : بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول : يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا تغلطه المسائل ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك قلت : يا عبد اللّه أعد الكلام قال : أسمعته؟ قلت : نعم قال : والذي نفس الخضر بيده - وكان هو الخضر - لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج وعدد المطر وورق الشجر.
ومنها ما
نقله الثعلبي عن ابن عباس قال : قال علي كرم اللّه تعالى وجهه : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما توفي وأخذنا في جهازه خرج الناس وخلا الموضع فلما وضعته على المغتسل إذا بهاتف يهتف من زاوية البيت بأعلى صوته لا تغسلوا محمدا فإنه طاهر طهر فوقع في قلبي شيء من ذلك وقلت : ويلك من أنت فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بهذا أمرنا وهذه سنته وإذا بهاتف آخر يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته غسلوا محمدا فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون حسد محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم أن يدخل قبره مغسولا فقلت : جزاك اللّه تعالى خيرا قد أخبرتني بأن ذلك إبليس فمن أنت؟ قال : أنا الخضر حضرت جنازة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم
، ومنها ما
أخرجه الحاكم في المستدرك عن جابر قال : لما توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واجتمع الصحابة دخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى الصحابة فقال : إن في اللّه تعالى عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فإلى اللّه تعالى فأنيبوا وإليه تعالى فارغبوا ونظره سبحانه إليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر فقال أبو بكر وعلي رضي اللّه تعالى عنهما : هذا الخضر عليه السلام
ومنها ما
أخرجه ابن عساكر أن الياس والخضر يصومان شهر رمضان في بيت المقدس ويحجان في كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من قابل
، ومنها ما
أخرجه ابن عساكر أيضا والعقيلي والدار قطني في الأفراد عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : يلتقي الخضر والياس كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هذه الكلمات باسم اللّه ما شاء اللّه لا يسوق الخير إلا اللّه ما شاء اللّه لا حول ولا قوة إلا باللّه.
ومنها ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن المنكدر قال : بينما عمر بن الخطاب يصلي على جنازة إذا بهاتف يهتف من خلفه لا تسبقنا بالصلاة يرحمك اللّه تعالى فانتظره حتى حق بالصف الأول فكبر عمر وكبر الناس معه فقال الهاتف : إن تعذبه فكثيرا عصاك وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك فنظر عمر وأصحابه إلى الرجل فلما دفن الميت وسوي عليه التراب قال : طوبى لك يا صاحب القبر ان لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا فقال عمر :
خذوا لي الرجل نسأله عن صلاته وكلامه هذا عمن هو فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع فقال عمر : هذا واللّه الذي حدثنا عنه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. والاستدلال بهذا مبني على أنه عنى بالمحدث عنه الخضر عليه السلام إلى غير ذلك.
وكثير مما ذكر وإن لم يدل على أنه حي اليوم بل يدل على أنه كان حيا في زمنه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا يلزم من حياته إذ ذاك حياته اليوم إلا أنه يكفي في رد الخصم إذ هو ينفي حياته إذ ذاك كما ينفي حياته اليوم ، نعم إذا كان عندنا من يثبتها إذ ذاك وينفيها الآن لم ينفع ما ذكر معه لكن ليس عندنا من هو كذلك ، وحكايات الصالحين من التابعين والصوفية في الاجتماع به والأخذ عنه في سائر الأعصار أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. نعم أجمع المحدثون القائلون

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 305
بحياته عليه السلام على أنه ليس له رواية عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما صرح به العراقي في تخريج أحاديث الأحياء. وهذا خلاف ما عند الصوفية فقد ادعى الشيخ علاء الدين استفادة الأحاديث النبوية عنه بلا واسطة.
وذكر السهروردي في السر المكتوم أن الخضر عليه السلام حدثنا بثلاثمائة حديث سمعه من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم شفاها ، واستدل بعض الذاهبين إلى حياته الآن بالاستصحاب فإنه قد تحققت من قبل بالدليل فتبقى على ذلك إلى أن يقوم الدليل على خلافها ولم يقم. وأجابوا عما استدل به الخصم مما تقدم. فأجابوا عما ذكره البخاري من الحديث الذي لا يوجب نفي حياته في زمانه صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما يوجب بظاهره نفيها بعد مائة سنة من زمان القول بأنه لم يكن حينئذ على ظهر الأرض بل كان على وجه الماء. وبأن الحديث عام فيما يشاهده الناس بدليل استثناء الملائكة عليهم السلام وإخراج الشيطان ، وحاصله انخرام القرن الأول ، نعم هو نص في الرد على مدعي التعمير كرتن بن عبد اللّه الهندي التبريزي الذي ظهر في القرن السابع وادعى الصحبة وروى الأحاديث.
وفيه أن الظاهر ممن على ظهر الأرض من هو من أهل الأرض ومتوطن فيها عرفا ولا شك أن هذا شامل لمن كان في البحر ولو لم يعد من في البحر ممن هو على ظهر الأرض لم يكن الحديث نصا في الرد على رتن وأضرابه لجواز أن يكونوا حين القول في البحر بل متى قبل هذا التأويل خرج كثير من الناس من عموم الحديث ، وضعف العموم في قوله تعالى : وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر : 45] ولينظر في قول من قال :
يحتمل أنه كان وقت القول في الهواء ففيه أيضا ما لا يخفى على الناظر. ويرد على الجواب الثاني أن الخضر لو كان موجودا لكان ممن يشاهده الناس كما هو الأمر المعتاد في البشر ، وكونه عليه السلام خارجا عن ذلك لا يثبت إلا بدليل وأنى هو فتأمل ، وأجابوا عما قاله الشيخ ابن تيمية بأن وجوب الإتيان ممنوع فكم من مؤمن به صلّى اللّه عليه وسلّم في زمانه لم يأته عليه الصلاة والسلام فهذا خير التابعين أويس القرني رضي اللّه تعالى عنه لم يتيسر له الإتيان والمرافقة في الجهاد ولا التعلم من غير واسطة وكذا النجاشي رضي اللّه تعالى عنه. على أنا نقول : إن الخضر عليه السلام كان يأتيه ويتعلم منه صلّى اللّه عليه وسلّم لكن على وجه الخفاء لعدم كونه مأمورا بإتيان العلانية لحكمة إلهية اقتضت ذلك. وأما الحضور في الجهاد
فقد روى ابن بشكوال في كتاب المستغيثين باللّه تعالى عن عبد اللّه بن المبارك أنه قال : كنت في غزوة فوقع فرسي ميتا فرأيت رجلا حسن الوجه طيب الرائحة قال : أتحب أن تركب فرسك؟ قلت : نعم فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره وقال : أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة اللّه وبعظمة اللّه وبجلال جلال اللّه وبقدرة قدرة اللّه وبسلطان سلطان اللّه وبلا إله إلا اللّه وبما جرى به القلم من عند اللّه وبلا حول ولا قوة إلا باللّه إلا انصرفت فوثب الفرس قائما بإذن اللّه تعالى وأخذ الرجل بركابي وقال : اركب فركبت ولحقت بأصحابي فلما كان من غداة غد وظهرنا على العدو فإذا هو بين أيدينا فقلت : ألست صاحبي بالأمس؟ قال : بلى فقلت : سألتك باللّه تعالى من أنت؟
فوثب قائما فاهتزت الأرض تحته خضراء فقال : أنا الخضر
فهذا صريح في أنه قد يحضر بعض المعارك ، وأما
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في بدر : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض»
فمعناه لا تعبد على وجه الظهور والغلبة وقوة الأمة وإلا فكم من مؤمن كان بالمدينة وغيرها ولم يحضر بدرا ، ولا يخفى أن نظم الخضر عليه السلام في سلك أويس القرني والنجاشي وأضرابهما ممن لم يمكنه الإتيان إليه صلّى اللّه عليه وسلّم بعيد عن الإنصاف وإن لم نقل بوجوب الإتيان عليه عليه السلام ، وكيف يقول منصف بإمامته صلّى اللّه عليه وسلّم لجميع الأنبياء عليهم السلام واقتداء جميعهم به ليلة المعراج ولا يرى لزوم الإتيان على الخضر عليه السلام والاجتماع معه صلّى اللّه عليه وسلّم مع أنه لا مانع له من ذلك بحسب الظاهر ، ومتى زعم أحد أن نسبته إلى نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم كنسبته إلى موسى عليه السلام فليجدد إسلامه ، ودعوى أنه كان يأتي ويتعلم خفية لعدم أمره بذلك علانية

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 306
لحكمة إلهية مما لم يقم عليها الدليل ، على أنه لو كان كذلك لذكره صلّى اللّه عليه وسلّم ولو مرة وأين الدليل على الذكر؟ وأيضا لا تظهر الحكمة في منعه عن الإتيان مرة أو مرتين على نحو إتيان جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي رضي اللّه تعالى عنه ، وإن قيل إن هذه الدعوى مجرد احتمال ، قيل لا يلتفت إلى مثله إلا عند الضرورة ولا تتحقق إلا بعد تحقق وجوده إذ ذاك بالدليل ووجوده كوجوده عندنا ، وأما ما روي عن ابن المدرك فلا نسلم ثبوته عنه ، وأنت إذا أمعنت النظر في ألفاظ القصة استبعدت صحتها ، ومن أنصف يعلم أن حضوره عليه السلام يوم
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لسعد رضي اللّه تعالى عنه : ارم فداك أبي وأمي
كان أهم من حضوره مع ابن المبارك ، واحتمال أنه حضر ولم يره أحد شبه شيء بالسفسطة ، وأما ما ذكروه في معنى الحديث فلقائل أن يقول : إنه بعيد فمن الظاهر منه نفي أن يعبد سبحانه إن أهلك تلك العصابة مطلقا على معنى أنهم إن أهملوا والإسلام غض ارتد الباقون ولم يكد يؤمن أحد بعد فلا يعبده سبحانه أحد من البشر في الأرض حينئذ ، وقد لا يوسط حديث الارتداد بأن يكون المعنى اللهم إن تهلك هذه العصابة الذين هم تاج رأس الإسلام استولى الكفار على سائر المسلمين بعدهم فأهلكوهم فلا يعبدك أحد من البشر حينئذ ، وأيّا ما كان فالاستدلال بالحديث على عدم وجود الخضر عليه السلام له وجه ، فإن أجابوا عنه بأن المراد نفي أن يشاهد من يعبده تعالى بعد والخضر عليه السلام لا يشاهد ورد عليه ما تقدم. وأجابوا عن الاستدلال بقوله تعالى : وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء : 34] بأن المراد من الخلد الدوام الأبدي والقائلون بوجوده اليوم لا يقولون بتأبيده بل منهم من يقول : إنه يقاتل الدجال ويموت ، ومنهم من يقول : إنه يموت زمان رفع القرآن ، ومنهم من يقول : إنه يموت في آخر الزمان ومراده أحد هذين الأمرين أو ما يقاربهما.
وتعقب بأن الخلد بمعنى الخلود وهو على ما يقتضيه ظاهر قوله تعالى خالِدِينَ فِيها أَبَداً [النساء : 57 وغيرها] حقيقة في طول المكث لا في دوام البقاء فإن الظاهر التأسيس لا التأكيد ، وقد قال الراغب : كل ما يتباطأ عنه التغير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوامها وبقائها انتهى.
وأنت تعلم قوة الجواب لأن المكث الطويل ثبت لبعض البشر كنوح عليه السلام. وأجابوا عما نقل عن ابن الجوزي من الوجوه العقلية ، أما عن الأول من وجهي فساد القول بأنه ابن آدم عليه السلام بعد تسليم صحة الرواية فبأن البعد العادي لا يضر القائل بتعميره هذه المدة المديدة لأن ذلك عنده من خرق العادات ، وأما على الثاني فبأن ما ذكر من عظم خلقة المتقدمين خارج مخرج الغالب وإلا فيأجوج ومأجوج من صلب يافث بن نوح وفيهم من طوله قدر شبر كما روي في الآثار ، على أنه لا بدع في أن يكون الخضر عليه السلام قد أعطى قوة التشكل والتصور بأي صورة شاء كجبريل عليه الصلاة والسلام ، وقد أثبت الصوفية قدست أسرارهم هذه القوة للأولياء ولهم في ذلك حكايات مشهورة ، وأنت تعلم أن ما ذكر عن يأجوج ومأجوج من أن فيهم من طوله قدر شبر بعد تسليمه لقائل أن يقول فيه : إن ذلك حين يفتح السد وهو في آخر الزمان ولا يتم الاستناد بحالهم إلا إذا ثبت أن فيهم من هو كذلك في الزمن القديم ، وما ذكر من إعطائه من قوة التشكل احتمال بعيد وفي ثبوته للأولياء خلاف كثير من المحدثين. وقال بعض الناس : لو أعطى أحد من البشر هذه القوة لأعطيها صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الهجرة فاستغنى بها عن الغار وجعلها حجابا له عن الكفار ، وللبحث في هذا مجال. وعن الثاني من الوجوه بأنه لا يلزم من عدم نقل كونه في السفينة إن قلنا بأنه عليه السلام كان قبل نوح عليه السلام عدم وجوده لجواز أنه كان ولم ينقل مع أنه يحتمل أن يكون قد ركب ولم يشاهد وهذا كما ترى. وقال بعض الناس : إذا كان احتمال إعطاء قوة التشكل قائما عند القائلين بالتعمير فليقولوا : يحتمل أنه عليه السلام قد تشكل فصار في غاية من الطول بحيث خاض في الماء ولم يحتج إلى الركوب في السفينة على نحو ما يزعمه أهل الخرافات في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 307
عوج بن عوق ، وأيضا هم يقولون : له قدرة الكون في الهواء فما منعهم من أن يقولوا بأنه يحتمل أنه لم يركب وتحفظ عن الماء بالهواء كما قالوا باحتمال أنه كان في الهواء في الجواب عن حديث البخاري ، وأيضا ذكر بعضهم عن العلامي في تفسيره أن الخضر يدور في البحار يهدي من ضل فيها والياس يدور في الجبال يهدي من ضل فيها هذا دأبهما في النهار وفي الليل يجتمعان عند سد يأجوج ومأجوج يحفظانه فلم لم يقولوا : إنه عليه السلام بقي في البحر حين ركب غيره السفينة ولعلهم إنما لم يقولوا ذلك لأن ما ذكر
قد روى قريبا منه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن أنس مرفوعا ولفظه «إن الخضر في البحر والياس في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين» الخبر
، وقد قالوا : إن سنده واه أو لأنهم لا يثبتون له هذه الخدمة الإلهية في ذلك الوقت ، ويوشك أن يقولوا في إعطائه قوة التشكل والكون في الهواء كذلك. وعن الثالث بأنه لا نسلم الاتفاق على أنه مات كل أهل السفينة ولم يبق بعد الخروج منها غير نسل نوح عليه السلام والخصر في الآية إضافي بالنسبة إلى المكذبين بنوح عليه السلام. وأيضا المراد أنه مات كل من كان ظاهرا مشاهدا غير نسله عليه السلام بدليل أن الشيطان كان أيضا في السفينة. وأيضا المراد من الآية بقاء ذريته عليه السلام على وجه التناسل وهو لا ينفي بقاء من عداهم من غير تناسل ونحن ندعي ذلك في الخضر على أن القول بأنه كان قبل نوح عليهما السلام قول ضعيف والمعتمد كونه بعد ذلك ولا يخفى ما في بعض ما ذكر من الكلام.
وعن الرابع بأنه لا يلزم من كون تعميره من أعظم الآيات أن يذكر في القرآن العظيم كرات ، وإنما ذكر سبحانه نوحا عليه السلام تسلية لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم بما لاقى من قومه في هذه المدة مع بقائهم مصرين على الكفر حتى أغرقوا ولا توجد هذه الفائدة في ذكر عمر الخضر عليه السلام لو ذكر ، على أنه قد يقال : من ذكر طول عمر نوح عليه السلام تصريحا يفهم تجويز عمر أطول من ذلك تلويحا.
وتعقب بأن لنا أن نعود فنقول : لا أقل من أن يذكر هذا الأمر العظيم في القرآن العظيم مرة لأنه من آيات الربوبية في النوع الإنساني ، وليس المراد أنه يلزم عقلا من كونه كذلك ذكره بل ندعي أن ذكر ذلك أمر استحساني لا سيما وقد ذكر تعمير عدو اللّه تعالى إبليس عليه اللعنة فإذا ذكر يكون القرآن مشتملا على ذكر معمر من الجن مبعد وذكر معمر من الإنس مقرب ولا يخفى حسنه ، وربما يقال : إن فيه أيضا إدخال السرور على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وبأن التجويز المذكور في حيز العلاوة مما لا كلام فيه إنما الكلام في الوقوع ودون إثباته الظفر بماء الحياة ، وأجاب بعضهم بأن في قوله تعالى : آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا إشارة إلى طول عمره عليه السلام على ما سمعت عن بعض في تفسيره. ورد بأن تفسيره بذلك مبني على القول بالتعمير فإن قبل قبل وإلا فلا ، وعن الخامس بأنا نختار أنه ثابت بالسنة وقد تقدم لك طرف منها.
وتعقب بما نقله عن القارئ عن ابن قيم الجوزية أنه قال : إن الأحاديث التي يذكر فيها الخضر عليه السلام وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد ومن ادعى الصحة فعليه البيان ، وقيل : يكفي في ثبوته إجماع المشايخ العظام وجماهير العلماء الأعلام. وقد نقل هذا الإجماع ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الأجلة الفخام ، وتعقب بأن إجماع المشايخ غير مسلم فقد نقل الشيخ صدر الدين إسحاق القونوي في تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي أن وجود الخضر عليه السلام في عالم المثال.
وذهب عبد الرزاق الكاشي إلى أن الخضر عبارة عن البسط والياس عن القبض ، وذهب بعضهم إلى أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر الذي كان في زمان موسى عليهما السلام ، ومع وجود هذه الأقوال لا يتم الإجماع ، وكونها غير مقبولة عند المحققين منهم لا يتممه أيضا ، وإجماع جماهير العلماء على ما نقل ابن الصلاح

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 308
والنووي مسلم لكنه ليس الإجماع الذي هو أحد الأدلة الشرعية والخصم لا يقنع إلا به وهو الذي نفاه فأنى بإثباته ، ولعل الخصم لا يعتبر أيضا إجماع المشايخ قدست أسرارهم إجماعا هو أحد الأدلة ، وعن السادس بأن له علامات عند أهله ككون الأرض تخضر عند قدمه وأن طول قدمه ذراع وربما يظهر منه بعض خوارق العادات بما يشهد بصدقه ، على أن المؤمن يصدق بقوله بناء على حسن الظن به ، وقد شاع بين زاعمي رؤيته عليه السلام أن من علاماته أن إبهام يده اليمنى لا عظم فيه وأن بؤبؤ إحدى عينيه يتحرك كالزئبق ، وتعقب بأنه بأي دليل ثبت أن هذه علاماته قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
والذي ثبت في الحديث الصحيح أنه إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء وأين فيه ثبوت ذلك له دائما ، وكون طول قدمه ذراعا إنما جاء في خبر محمد بن المنكدر السابق عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه ولا نسلم صحته ، على أن زاعمي رؤيته يزعمون أنهم يرونه في صور مختلفة ولا يكاد يستقر له عليه السلام قدم على صورة واحدة ، وظهور الخوارق مشترك بينه وبين غيره من أولياء الأمة فيمكن أن يظهر ولي خارقا ويقول : أنا الخضر مجازا لأنه على قدمه أو لاعتبار آخر ويدعوه لذلك داع شرعي ، وقد صح في حديث الهجرة أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما قيل له ممن القوم؟ قال : من ما فظن السائل أن ما اسم قبيلة
ولم يعن صلّى اللّه عليه وسلّم إلا أنهم خلقوا من ماء دافق ، وقد يقال للصوفي : إن أنا الخضر مع ظهور الخوارق لا تيقن منه أن القائل هو الخضر بالمعنى المتبادر في نفس الأمر لجواز أن يكون ذلك القائل ممن هو فان فيه لاتحاد المشرب ، وكثيرا ما يقول الفاني في شيخه أنا فلان ويذكر اسم شيخه ، وأيضا متى وقع من بعضهم قول : أنا الحق وما في الجبة إلا اللّه لم يبعد أن يقع أنا الخضر ، وقد ثبت عن كثير منهم نظما ونثرا قول : أنا آدم أنا نوح أنا إبراهيم أنا موسى أنا عيسى أنا محمد إلى غير ذلك مما لا يخفى عليك وذكروا له محملا صحيحا عندهم فليكن قول : أنا الخضر ممن ليس بالخضر على هذا الطرز ، ومع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين؟ وحسن الظن لا يحصل منه ذلك.
وعن السابع بأنا لا نسلم اجتماعه بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة ولا يلتفت إلى قولهم فالكذابون الدجالون يكذبون على اللّه تعالى وعلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فلا يبعد أن يكذبوا على الخضر عليه السلام ويقولوا قال وجاء إنما القول باجتماعه بأكابر الصوفية والعباد المحافظين على الحدود الشرعية فإنه قد شاع اجتماعه بهم حتى أن منهم من طلب الخضر مرافقته فأبى ، وروي ذلك عن علي الخواص رحمة اللّه تعالى عليه في سفر حجه ، وسئل عن سبب إبائه فقال :
خفت من النقص في توكلي حيث اعتمد على وجوده معي.
وتعقب بأن اجتماعه بهم واجتماعهم به يحتمل أن يكون من قبيل ما يذكرونه من اجتماعهم بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم واجتماعه عليه الصلاة والسلام بهم ، وذلك أن الأرواح المقدسة قد تظهر متشكلة ويجتمع بها الكاملون من العباد ، وقد صح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ورآه في السماء ورآه يطوف بالبيت. وادعى الشيخ الأكبر قدس سره الاجتماع مع أكثر الأنبياء عليهم السلام لا سيما مع إدريس عليه السلام فقد ذكر أنه اجتمع به مرارا وأخذ منه علما كثيرا بل قد يجتمع الكامل بمن لم يولد بعد كالمهدي ، وقد ذكر الشيخ الأكبر أيضا اجتماعه معه ، وهذا ظاهر عند من يقول : إن الأزل والأبد نقطة واحدة والفرق بينهما بالاعتبار عند المتجردين عن جلابيب أبدانهم ، ولعل كثرة هذا الظهور والتشكل من خصوصيات الخضر عليه السلام ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يحصل يقين أيضا بأن الخضر المرئي موجود في الخارج كوجود سائر الناس فيه كما لا يخفى.
ومما يبنى على اجتماعه عليه السلام بالكاملين من أهل اللّه تعالى بعض طرق إجازتنا بالصلاة البشيشية فإني

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 309
أرويها من بعض الطرق عن شيخي علاء الدين علي أفندي الموصلي عن شيخه ووالده صلاح الدين يوسف أفندي الموصلي عن شيخه خاتمة المرشدين السيد علي البندنيجي عن نبي اللّه تعالى الخضر عليه السلام عن الولي الكامل الشيخ عبد السلام بن بشيش قدس سره. وعن الثامن بأنا لا نسلم أن القول بعدم إرساله صلّى اللّه عليه وسلّم إليه عليه السلام كفر ، وبفرض أنه ليس بكفر هو قول باطل إجماعا ، ونختار أنه أتى وبايع لكن باطنا حيث لا يشعر به أحد وقد عده جماعة من أرباب الأصول في الصحابة ، ولعل عدم قبول روايته لعدم القطع في وجوده وشهوده في حال رؤيته وهو كما ترى.
وعن التاسع بأنه مجازفة في الكلام فإنه من أين يعلم نفي ما ذكره من حضور الجهاد وغيره عن الخضر عليه السلام مع أن العالم بالعلم اللدني لا يكون مشتغلا إلا بما علمه اللّه تعالى في كل مكان وزمان بحسب ما يقتضي الأمر والشأن ، وتعقب بأن النفي مستند إلى عدم الدليل فنحن نقول به إلى أن يقوم الدليل ولعله لا يقوم حتى يقوم الناس لرب العالمين ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في العلم اللدني والعالم به ، وبالجملة قد ظهر لك حال معظم أدلة الفريقين وبقي ما استدل به البعض من الاستصحاب.
وأنت تعلم أنه حجة عند الشافعي والمزني وأبي بكر الصيرفي في كل شيء نفيا وإثباتا ثبت تحققه بدليل ثم وقع الشك في بقائه إن لم يقع ظن بعدمه ، وأما عندنا وكذا عند المتكلمين فهو من الحجج القاصرة التي لا تصلح للإثبات وإنما تصلح للدفع بمعنى أن لا يثبت حكم وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله والأصل في العدم الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود فالمفقود يرث عنده لا عندنا لأن الإرث من باب الإثبات فلا يثبت به ولا يورث لأن عدم الإرث من باب الدفع فيثبت به ، ويتفرع على هذا الخلاف فروع أخر ليس هذا محل ذكرها ، وإذا كان حكم الاستصحاب عندنا ما ذكر فاستدلال الحنفي به على إثبات حياة الخضر عليه السلام اليوم وأنها متيقنة لا يخلو عن شيء بل استدلال الشافعي به على ذلك أيضا كذلك بناء على أن صحة الاستدلال به مشروط بعدم وقوع ظن بالعدم فإن العادة قاضية بعدم بقاء الآدمي تلك المدة المديدة والأحقاب العديدة ، وقد قيل : إن العادة دليل معتبر ولولا ذلك لم يؤثر خرق العادة بالمعجزة في وجوب الاعتقاد والاتباع فإن لم تفد يقينا بالعدم فيما نحن فيه أفادت الظن به فلا يتحقق شرط صحة الاستدلال ، وعلى هذا فالمعول عليه الخالص من شوب الكدر الاستدلال بأحد الأدلة الأربعة وقد علمت حال استدلالهم بالكتاب والسنة وما سموه إجماعا ، وأما الاستدلال بالقياس هنا فمما لا يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل «ثم اعلم» بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته عليه السلام أي مساعدة وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة ، ولا مقتضى للعدول عن ظواهر تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية واللّه تعالى أعلم بصحتها عن بعض الصالحين الأخيار وحسن الظن ببعض السادة الصوفية فإنهم قالوا بوجوده إلى آخر الزمان على وجه لا يقبل التأويل السابق ، ففي الباب الثالث والسبعين من الفتوحات المكية اعلم أن للّه تعالى في
كل نوع من المخلوقات خصائص وصفوة ، وأعلى الخواص فيه من العباد الرسل عليهم السلام ولهم مقام الرسالة والنبوة والولاية والإيمان فهم أركان بيت هذا النوع ، والرسول أفضلهم مقاما وأعلاهم حالا بمعنى أن المقام الذي أرسل منه أعلى منزلة عند اللّه تعالى من سائر المقامات وهم الأقطاب والأئمة والأوتاد الذين يحفظ اللّه تعالى بهم العالم ويصون بهم بيت الدين القائم بالأركان الأربعة الرسالة والنبوة والولاية والإيمان ، والرسالة هي الركن الجامع وهي المقصودة من هذا النوع فلا يخلو من أن يكون فيه رسول كما لا يزال دين اللّه تعالى ، وذلك الرسول هو القطب الذي هو موضع نظر الحق وبه يبقى النوع في هذه الدار ولو كفر الجميع ، ولا يصح هذا الاسم على إنسان إلا أن يكون ذا جسم طبيعي وروح ويكون موجودا في هذا النوع في هذه الدار بجسده وروحه يتغذى ، وهو مجلي الحق من آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ، ولما توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ما قرر الدين الذي لا ينسخ والشرع الذي لا يبدل ، ودخل الرسل كلهم عليهم السلام في ذلك الدين وكانت الأرض لا تخلو من

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 310
رسول حسي بجسمه لأنه قطب العالم الإنساني وإن تعدد الرسل كان واحد منهم هو المقصود أبقى اللّه تعالى بعد وفاته عليه الصلاة والسلام من الرسل الأحياء بأجسادهم في هذه الدار أربعة إدريس والياس وعيسى والخضر عليهم السلام ، والثلاثة الأول متفق عليهم والأخير مختلف فيه عند غيرنا لا عندنا فأسكن سبحانه إدريس في السماء الرابعة ، وهي وسائر السموات السبع من الدار الدنيا لأنها تتبدل في الدار الأخرى كما تتبدل هذه النشأة الترابية منا
بنشأة أخرى ، وأبقى الآخرين في الأرض فهم كلهم باقون بأجسامهم في الدار الدنيا ، وكلهم الأوتاد ، واثنان منهم الإمامان ، وواحد منهم القطب الذي هو موضع نظر الحق من العالم ، وهو ركن الحجر الأسود من أركان بيت الدين ، فما زال المرسلون ولا يزالون في هذه الدار إلى يوم القيامة وإن كانوا على شرع نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وبالواحد منهم يحفظ اللّه تعالى الإيمان وبالثاني الولاية وبالثالث النبوة وبالرابع الرسالة وبالمجموع الدين الحنيفي ، والقطب من هؤلاء لا يموت أبدا أي لا يصعق. وهذه المعرفة لا يعرفها من أهل طريقتنا إلا الأفراد الأمناء ، ولكل واحد منهم من هذه الأمة في كل زمان شخص على قلبه مع وجودهم ويقال لهم النواب ، وأكثر الأولياء من عامة أصحابنا لا يعرفون إلا أولئك النواب ولا يعرفون أولئك المرسلين ، ولذا يتطاول كل واحد من الأمة لنيل مقام القطبية والإمامية والوتدية فإذا خصوا بها عرفوا أنهم نواب عن أولئك المرسلين عليهم السلام. ومن كرامة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم أن جعل من أمته وأتباعه رسلا وإن لم يرسلوا فيهم من أهل هذا المقام الذي منه يرسلون وقد كانوا أرسلوا ، فلهذا صلى صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة الإسراء بالأنبياء عليهم السلام لتصح له الإمامة على الجميع حيا بجسمانيته وجسمه ، فلما انتقل عليه الصلاة والسلام بقي الأمر محفوظا بهؤلاء الرسل عليهم السلام ، فثبت الدين قائما بحمد اللّه تعالى وإن ظهر الفساد في العالم إلى أن يرث اللّه تعالى الأرض ومن عليها ، وهذه نكتة فاعرف قدرها فإنك لا تراها في كلام أحد غيرنا. ولولا ما ألقى عندي من إظهارها ما أظهرتها لسر يعلمه اللّه تعالى ما أعلمنا به.
ولا يعرف ما ذكرناه إلا نوابهم دون غيرهم من الأولياء ، فاحمدوا اللّه تعالى يا إخواننا حيث جعلكم اللّه تعالى ممن قرع سمعه أسرار اللّه تعالى المخبوءة في خلقه التي اختص بها من شاء من عباده ، فكونوا لها قابلين وبها مؤمنين ولا تحرموا التصديق بها فتحرموا خيرها انتهى.
وعلم منه القول برسالة الخضر عليه السلام وهو قول مرجوح عند جمهور العلماء والقول بحياته وبقائه إلى يوم القيامة وكذا بقاء عيسى عليه السلام ، والمشهور أنه بعد نزوله إلى الأرض يتزوج ويولد له ويتوفى ويدفن في الحجرة الشريفة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولينظر ما وجه قوله قدس سره بإبقاء عيسى عليه السلام في الأرض وهو اليوم في السماء كإدريس عليه السلام ، ثم إنك إن اعتبرت مثل هذه الأقوال وتلقيتها بالقبول لمجرد جلالة قائلها وحسن الظن فيه فقل بحياة الخضر عليه السلام إلى يوم القيامة ، وإن لم تعتبر ذلك وجعلت الدليل وجودا وعدما مدارا للقبول والرد ولم تغرك جلالة القائل إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويرد ما عدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : لا تنظر إلى من قال وانظر ما قال
فاستفت قلبك بعد الوقوف على أدلة الطرفين وما لها وما عليها ثم اعمل بما يفتيك. وأنا أرى كثيرا من الناس اليوم بل في كثير من الأعصار يسمون من يخالف الصوفية في أي أمر ذهبوا إليه منكرا ويعدونه سيىء العقيدة ويعتقدون بمن يوافقهم ويؤمن بقولهم الخير ، وفي كلام الصوفية أيضا نحو هذا فقد نقل الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السابق عن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال لأبي موسى الدبيلي : يا أبا موسى إذا رأيت من يؤمن بكلام أهل هذه الطريقة فقل له يدعو لك فإنه مجاب الدعوة ، وذكر أيضا أنه سمع أبا عمران موسى بن عمران الإشبيلي يقول لأبي القاسم بن عفير الخطيب وقد أنكر ما يذكر أهل الطريقة يا أبا القاسم لا تفعل فإنك إن فعلت هذا جمعنا بين حرمانين لا ندري ذلك من نفوسنا ولا نؤمن به من غيرنا وما ثم دليل يرده ولا قادح يقدح فيه شرعا أو عقلا انتهى.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 311
ويفهم منه أن ما يرده الدليل الشرعي أو العقلي لا يقبل وهو الذي إليه أذهب وبه أقول ، وأسأل اللّه تعالى أن يوفقني وإياك لكل ما هو مرضي لديه سبحانه ومقبول ، والتنوين في قوله تعالى : رَحْمَةً للتفخيم وكذا في قوله سبحانه : وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي علما لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب وأسرار العلوم الخفية ، وذكر لَدُنَّا قيل لأن العلم من أخص صفاته تعالى الذاتية وقد قالوا : إن القدرة لا تتعلق بشيء ما لم تتعلق الإرادة وهي لا تتعلق ما لم يتعلق العلم فالشيء يعلم أولا فيراد فتتعلق به القدرة فيوجد.
وذكر أنه يفهم من فحوى مِنْ لَدُنَّا أو من تقديمه على عِلْماً اختصاص ذلك باللّه تعالى كأنه قيل علما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوقيفنا ، وفي اختيار عَلَّمْناهُ على آتيناه من الإشارة إلى تعظيم أمر هذا العلم ما فيه ، وهذا التعليم يحتمل أن يكون بواسطة الوحي المسموع بلسان الملك وهو القسم الأول من أقسام الوحي الظاهري كما وقع لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم في أخباره عن الغيب الذي أوحاه اللّه تعالى إليه في القرآن الكريم ، وأن يكون بواسطة الوحي الحاصل بإشارة الملك من غير بيان بالكلام وهو القسم الثاني من ذلك ويسمى بالنفث كما
في حديث إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها
فاتقوا اللّه تعالى واجملوا في الطلب والإلهام على ما يشير إليه بعض عبارات القوم من هذا النوع ، ويثبتون له ملكا يسمونه ملك الإلهام ، ويكون للأنبياء عليهم السّلام ولغيرهم بالإجماع ، ولهم في الوقوف على المغيبات طرق تتشعب من تزكية الباطن.
والآية عندهم أصل في إثبات العلم اللدني ، وشاع إطلاق علم الحقيقة والعلم الباطن عليه ولم يرتض بعضهم هذا الإطلاق ، قال العارف باللّه تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة في كتابة المسمى بالدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما لفظه : وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم بما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع اللّه تعالى دق كلامه على الافهام ، حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخي فلان يدق على فهمه فقال : لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك ، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بالعلم الباطن وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم اللّه تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى.
والحق أن إطلاق العلم الباطن اصطلاحا على ما وقفوا عليه صحيح ولا مشاحة في الاصطلاح ، ووجهه أنه غير ظاهر على أكثر الناس ويتوقف حصوله على القوة القدسية دون المقدمات الفكرية وإن كان كل علم يتصف بكونه باطنا وكونه ظاهرا بالنسبة للجاهل به والعالم به ، وهذا كإطلاق العلم الغريب على علم الأوفاق والطلسمات والجفر وذلك لقلة وجوده والعارفين به فاعرف ذلك. وزعم بعضهم أن أحكام العلم الباطن وعلم الحقيقة مخالفة لأحكام الظاهر وعلم الشريعة وهو زعم باطل عاطل وخيال فاسد كاسد ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى نقل نصوص القوم فيما يرده وأنه لا مستند لهم في قصة موسى والخضر عليهما السّلام.
وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو «لدنا» بتخفيف النون وهي إحدى اللغات في لدن قالَ لَهُ مُوسى استئناف مبني على سؤال نشأ من السياق كأنه قيل فما جرى بينهما من الكلام؟ فقيل : قال له موسى عليه السّلام هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ استئذان منه عليه السّلام في اتباعه له بشرط التعليم ، ويفهم ذلك من عَلى فقد قال الأصوليون : إن على قد تستعمل في معنى يفهم منه كون ما بعدها شرطا لما قبلها كقوله تعالى : يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ [الممتحنة : 12] أي بشرط عدم الإشراك ، وكونها للشرط بمنزلة الحقيقة عند الفقهاء كما في التلويح لأنها في أصل الوضع للإلزام والجزاء لازم للشرط ، ويلوح بهذا أيضا كلام الفناري في بدائع الأصول وهو ظاهر في أنها ليست حقيقة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 312
في الشرط ، وذكر السرخسي أنه معنى حقيقي لها لكن النحاة لم يتعرضوا له ، وقد تردد السبكي في وروده في كلام العرب ، والحق أنه استعمال صحيح يشهد به الكتاب حقيقة كان أو مجازا ولا ينافي انفهام الشرطية تعلق الحرف بالفعل الذي قبله كما قالوا فيما ذكرنا من الآية كما أنه لا ينافيه تعلقه بمحذوف يقع حالا كما قيل به هنا فيكون المعنى هل اتبعك باذلا تعليمك إياي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي علما ذا رشد وهو إصابة الخير وقرأ أبو عمرو والحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي «رشدا» بفتحتين وأكثر السبعة بالضم والسكون وهما لغتان كالبخل والبخل ، ونصبه في الأصل على أنه صفة للمفعول الثاني لتعلمني ووصف به للمبالغة لكن أقيم مقامه بعد حذفه والمفعول الثاني لعلمت الضمير العائد على ما الموصولة أي من الذي علمته ، والفعلان مأخوذان من علم المتعدي إلى مفعول واحد ، وجوز أن يكون مِمَّا عُلِّمْتَ هو المفعول الثاني لتعلمني و«رشدا» بدل منه وهو خلاف الظاهر ، وأن يكون رُشْداً مفعولا له لأتبعك أي هل أتبعك لأجل إصابة الخير فيتعين أن يكون المفعول الثاني لتعلمني مِمَّا عُلِّمْتَ لتأويله ببعض ما علمت أو علما مما علمت ، وأن يكون مصدرا بإضمار فعله أي أرشد رشدا والجملة استئنافية والمفعول الثاني مِمَّا عُلِّمْتَ أيضا. واستشكل طلبه عليه السّلام التعليم بأنه رسول من أولي العزم فكيف يتعلم من غيره والرسول لا بد أن يكون أعلم أهل زمانه ، ومن هنا قال نوف وأضرابه : إن موسى هذا ليس هو ابن عمران وإن كان ظاهر إطلاقه يقتضي أن يكون إياه. وأجيب بأن اللازم في الرسول أن يكون أعلم في العقائد وما يتعلق بشريعته لا مطلقا ولذا
قال نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم «أنتم أعلم بأمور دنياكم»
فلا يضر في منصبه أن يتعلم علوما غيبية وأسرارا خفية لا تعلق لها بذلك من غيره لا سيما إذا كان ذلك الغير نبيا أو رسولا أيضا كما قيل في الخضر عليه السّلام ، ونظير ما ذكر من وجه تعلم عالم مجتهد كأبي حنيفة والشافعي رضي اللّه تعالى عنهما علم الجفر مثلا ممن دونه فإنه لا يخل بمقامه ، وإنكار ذلك مكابرة.
ولا يرد على هذا أن علم الغيب ليس علما ذا رشد أي إصابة خير وموسى عليه السّلام كان بصدد تعلم علم يصيب به خيرا لقوله تعالى : قل لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف : 188] وقال بعضهم : اللازم كون الرسول أعلم من أمته والخضر عليه السّلام نبي لم يرسل إليه ولا هو مأمور باتباع شريعته فلا ينكر تفرده بما لم يعلمه غيره ، ولا يخفى أنه على هذا ليس الخضر عليه السّلام من بني إسرائيل لأن الظاهر إرسال موسى عليه السّلام إليهم جميعا كذا قيل.
ثم إن الذي أميل إليه أن لموسى عليه السّلام علما بعلم الحقيقة المسمى بالعلم الباطن والعلم اللدني إلا أن الخضر أعلم به منه وللخضر عليه السّلام سواء كان نبيا أو رسولا علما بعلم الشريعة المسمى بالعلم الظاهر إلا أن موسى عليه السّلام أعلم به منه فكل منهما أعلم من صاحبه من وجه ، ونعت الخضر عليه السّلام في الأحاديث السابقة بأنه أعلم من موسى عليه السّلام ليس على معنى أنه أعلم منه من كل وجه بل على معنى أنه أعلم من بعض الوجوه وفي بعض العلوم لكن لما كان الكلام خارجا مخرج العتب والتأديب أخرج على وجه ظاهره العموم ، ونظير هذا آيات الوعيد على ما قيل من أنها مقيدة بالمشيئة لكنها لم تذكر لمزيد الإرهاب ، وأفعل التفضيل وإن كان للزيادة في حقيقة الفعل إلا أن ذلك على وجه يعم الزيادة في فرد منه ، ويدل على ذلك صحة التقييد بقسم خاص كما تقول زيد أعلم من عمرو في الطب وعمرو أعلم منه في الفلاحة ، ولو كان معناه الزيادة في مطلق العلم كان قولك زيد أعلم من عمرو مستلزما لأن لا يكون عمرو أعلم منه في شيء من العلوم فلا يصح تفضيل عمرو عليه في علم الفلاحة ، وإنكار صدق الأعلم المطلق مع صدق المقيد التزام لصدق المقيد بدون المطلق ، وقد جاء إطلاق أفعل التفضيل والمراد منه التفضيل من وجه على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب في أمالي القرآن ضمن عداد الأوجه في حل الإشكال المشهور في قوله تعالى : وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [الزخرف : 48] من أن المراد إلا هي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 313
أكبر من أختها من وجه ثم قال : وقد يكون الشيئان كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه ، وقد أشبع الكلام في هذا المقام مولانا جلال الدين الدواني فيما كتبه على الشرح الجديد للتجريد وحققه بما لا مزيد عليه ، ومما يدل على أن لموسى عليه السّلام علما ليس عند الخضر عليه السّلام ما
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس مرفوعا أن الخضر عليه السّلام قال : يا موسى إني على علم من علم اللّه تعالى علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم اللّه تعالى علمك اللّه سبحانه لا أعلمه
، وأنت تعلم أنه لو لم يكن قوله تعالى لموسى عليه السّلام المذكور في الأحاديث السابقة إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك على معنى أعلم في بعض العلوم بل كان على معنى أعلم في كل العلوم أشكل الجمع بينه وبين ما ذكرنا من كلام الخضر عليه السّلام ، ثم على ما ذكرنا ينبغي أن يراد من العلم الذي ذكر الخضر أنه يعلمه هو ولا يعلمه موسى عليهما السّلام بعض علم الحقيقة ومن العلم الذي ذكر أنه يعلمه موسى ولا يعلمه هو عليهما السّلام بعض علم الشريعة ، فلكل من موسى والخضر عليهما السّلام علم بالشريعة والحقيقة إلا أن موسى عليه السّلام أزيد بعلم الشريعة والخضر عليه السّلام أزيد بعلم الحقيقة ، ولكن نظرا للحالة الحاضرة كما ستعلم وجهه إن شاء اللّه تعالى وعدم علم كل ببعض ما عند صاحبه لا يضر بمقامه. وينبغي أن يحمل قول من قال كالجلال السيوطي ما جمعت الحقيقة والشريعة إلا لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما على معنى أنها ما جمعت على الوجه الأكمل إلا له صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يكن للأنبياء عليهم السّلام على ذلك الوجه إلا أحدهما ، والحمل على أنهما لم يجمعا على وجه الأمر بالتبليغ إلا لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم فإنه عليه الصلاة والسّلام مأمور بتبليغ الحقيقة كما هو مأمور بتبليغ الشريعة لكن للمستعدين لذلك لا يخلو عن شيء ويفهم من كلام بعض الأكابر أن علم الحقيقة من علوم الولاية وحينئذ لا بد أن يكون لكل نبي حظ منه ولا يلزم التساوي في علومها.
ففي الجواهر والدرر قلت للخواص عليه الرحمة : هل يتفاضل الرسل في العلم؟ فقال : العلم تابع للرسالة فإنه ليس عند كل رسول من العلم إلا بقدر ما تحتاج إليه أمته فقط فقلت له : هذا من حيث كونهم رسلا فهل حالهم من حيث كونهم أولياء كذلك؟ فقال : لا قد يكون لأحدهم من علوم الولاية ما هو أكثر من علوم ولاية أولي العزم من الرسل الذين هم أعلى منهم انتهى ، وأنا أرى أن ما يحصل لهم من علم الحقيقة بناء على القول بأنه من علوم الولاية أكثر مما يحصل للأولياء الذين ليسوا بأنبياء ، ولا تراني أفضل وليا ليس بنبي في علم الحقيقة على ولي هو نبي ولا أقول بولاية الخضر عليه السّلام دون نبوته ، وقائلو ذلك يلزمهم ظاهرا القول بأن ما عنده من علم الحقيقة مع كونه وليا أكثر مما عند موسى عليه السّلام منه إن أثبتوا له عليه السّلام شيئا من ذلك مع كونه نبيا ولكنهم لا يرون في ذلك حطا لقدر موسى عليه السالم ، وظاهر كلام بعضهم أنه عليه السّلام لم يؤت شيئا من علم الحقيقة أصلا ومع هذا لا ينحط قدره عن قدر الخضر عليهما السّلام إذ له جهات فضل أخر ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق ما يقوله الذاهبون إلى ولايته عليه السّلام.
ثم ما أراه أنا وللّه تعالى الحمد أبعد عن القول بما نقل عن بعض الصوفية من أن الولاية مطلقا أفضل من نبوة وإن كان الولي لا يبلغ درجة النبي ، وهو مردود عند المحققين بلا تردد ، نعم قد يقع تردد في نبوة النبي وولايته أيهما أفضل؟ فمن قائل بأن نبوته أفضل من ولايته ، ومن قائل بأن ولايته أفضل.
واختار هذا بعض العرفاء معللا له بأن نبوة التشريع متعلقة بمصلحة الوقت والولاية لا تعلق لها بوقت دون وقت وهي في النبي على غاية الكمال. والمختار عندي الأول. وقد ضل الكرامية في هذا المقام فزعموا أن الولي قد يبلغ درجة النبي بل أعلى. ورده ظاهر. والاستدلال له بما في هذه القصة بناء على القول بولاية الخضر عليه السّلام ليس بشيء كما لا يخفى.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 314
هذا ولا يخفى على من له أدنى ذوق بأساليب الكلام ما راعاه موسى عليه السّلام في سوق كلامه على علو مقامه من غاية التواضع مع الخضر عليه السّلام ونهاية الأدب واللطف ، وقد عد الإمام من ذلك أنواعا كثيرة أوصلها إلى اثني عشر نوعا إن أردتها فارجع إلى تفسيره. وسيأتي إن شاء اللّه عز وجل ما تدل عليه هذه الآية في سرد ما تدل عليه آيات القصة بأسرها مما ذكر في كتب الحديث وغيرها.
قالَ أي الخضر لموسى عليهما السّلام إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً نفي لأن يصبر معه على أبلغ وجه حيث جيء بإن المفيدة للتأكيد وبلن ونفيها آكد من نفي غيرها ، وعدل عن لن تصبر إلى لَنْ تَسْتَطِيعَ المفيد لنفي الصبر بطريق برهاني لأن الاستطاعة مما يتوقف عليه الفعل فيلزم من نفيه نفيه ، ونكر صَبْراً في سياق النفي وذلك يفيد العموم أي لا تصبر معي أصلا شيئا من الصبر ، وعلل ذلك بقوله :
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إيذانا بأنه عليه السّلام يتولى أمورا خفية المراد منكرة الظواهر والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وكأنه علم مع ذلك حدة موسى عليه السّلام ومزيد غيرته التي أوصلته إلى أن أخذ برأس أخيه يجره ، ونصب خُبْراً على التمييز المحول عن الفاعل والأصل ما لم يحط به خبرك ، وهو من خبر الثلاثي من باب نصر وعلم ومعناه عرف ، وجوز أن يكون مصدرا وناصبه تُحِطْ لأنه يلاقيه في المعنى لأن الإحاطة تطلق إطلاقا شائعا على المعرفة فكأنه قيل لم تخبره خبرا وقرأ الحسن وابن هرمز «خبرا» بضم الباء. واستدلوا بالآية كما قال الإمام وغيره على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل قالوا : لو كانت الاستطاعة حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل حصول الصبر فيكون نفيها كذبا وهو باطل فتعين أن لا تكون قبل الفعل. وأجاب الجبائي بأن المراد من هذا القول أنه يثقل عليك الصبر كما يقال في العرف إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك.
وتعقبه الإمام بأنه عدول عن الظاهر وأيد الاستدلال بما أيد ، والإنصاف أن الاستدلال بها على ما ذكر غير ظاهر لأن المراد ليس إلا نفي الصبر بنفي ما يتوقف هو عليه أعني الاستطاعة وهذا حاصل سواء كانت حاصلة قبل أو مقارنة ، ثم إن القول بأن الاستطاعة قبل الفعل ليس خاصا بالمعتزلة بل المفهوم من كلام الشيخ إبراهيم الكوراني أنه مذهب السلف أيضا وتحقيق ذلك في محله قالَ موسى عليه السّلام سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً معك غير معترض عليك وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً عطف على صابِراً والفعل يعطف على المفرد المشتق كما في قوله تعالى : صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [الملك : 19] بتأويل أحدهما بالآخر ، والأولى فيما نحن فيه التأويل في جانب المعطوف أي ستجدني صابرا وغير عاص ، وفي وعد هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان أو على سَتَجِدُنِي والجملة على الأول في محل نصب لأنها معطوفة على المفعول الثاني للوجدان ، وعلى الثاني لا محل لها من الإعراب على ما في الكشاف. واستشكل بأن الظاهر أن محلها النصب أيضا لتقدم القول. وأجيب بأن مقول القول هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه فلا يكون لأجزائه محل باعتبار الأصل ، وقيل : مراد الزمخشري بيان حال العطف في القول المحكي عن موسى عليه السّلام ، وقيل : مراده أنه ليس مؤولا بمفرد كما في الأول ، وقيل : إنه مبني على أن مقول القول محذوف وهذه الجملة مفسرة له ، والظاهر الجواب الأول ، وأول الوجهين في العطف هو الأولى لما عرفت ولظهور تعلق المعطوف بالاستثناء عليه. وذكر المشيئة إن كان للتعليق فلا إشكال في عدم تحقق ما وعد به.
ولا يقال : إنه عليه السّلام أخلف وعده وإن كان للتيمن ، فإن قلنا : إن الوعد كالوعيد إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب أو أنه مقيد بقيد يعلم بقرينة المقام كأن أردت أو إن لم يمنع مانع شرعي أو غيره فكذلك لا إشكال ، وإن قلنا :
إنه خبر وإنه ليس على نية التقييد جاء الإشكال ظاهرا فإن الخلف حينئذ كذب وهو غير لائق مقام النبوة لمنافاته

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 315
العصمة ، وأجيب بأن ما صدر منه عليه السّلام في المرتين الأخيرتين كانا نسيانا كما في المرة الأولى ولا يضر مثل هذا الخلف بمقام النبوة لأن النسيان عذر. وتعقب بأنه لا نسلم النسيان في المرتين الأخيرتين ففي البخاري وشرحه لابن حجر وكانت الأولى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا ، وفي رواية والثانية عمدا والثالثة فراقا ، وقال بعضهم : لك أن تقول : لم يقع منه عليه السّلام ما يخل بمقامه لأن الخلف في المرة الأولى معفو عنه وحيث وقع لم تكن الأخيرتان خلفا وفيه تأمل ، وقال القشيري : إن موسى عليه السّلام وعد من نفسه بشيئين بالصبر وقرنه بالمشيئة فصبر فيما كان من الخضر عليه السّلام من الفعل وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالمشيئة فعصاه حيث قال : فلا تسألني فكان يسأله فما قرنه بالاستثناء لم يخلف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى ، وهو مبني على أن العطف على سَتَجِدُنِي وقد علمت أنه خلاف الأولى ، وأيضا المراد بالصبر الثبات والإقرار على الفعل وعدم الاعتراض كما ينبىء عنه المحاورة الآتية وهو لم يتحقق منه عليه السّلام ، وأيضا يبقى الكلام في الخلف كما لا يخفى ، وأنت تعلم أنه يبعد من حال موسى عليه السّلام القطع بالصبر وعدم عصيان الأمر بعد أن أشار له الخضر عليه السّلام أنه سيصدر منه أمور منكرة مخالفة لقضية شريعته فلا يبعد منه اعتبار التعليق في الجملتين ، ولم يأت به بعدهما بل وسطه بين مفعولي الوجدان من الجملة الأولى لمزيد الاعتناء بشأنه ، وبه يرتفع الإشكال من غير احتياج إلى القيل والقال ، وفيه دليل على أن أفعال العبد بمشيئته تعالى لأنه إذا صدر بعض الأفعال الاختيارية بمشيئته سبحانه لزم صدور الكل بها إذ لا قائل بالفرق.
والمعتزلة اختاروا أن ذكر المشيئة للتيمن وهو لا يدل على ما ذكر ، وقال بعض المحققين : إن الاستدلال جار أيضا على احتمال التيمن لأنه لا وجه للتيمن بما لا حقيقة له ، وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضا فافهم ، وقد استدل بالآية على أن الأمر للوجوب وفيه نظر ، ثم إن الظاهر أنه لم يرد بالأمر مقابل النهي بل أريد مطلق الطلب وحاصل الآية نفى أن يعصيه في كل ما يطلبه قالَ الخضر عليه السّلام فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أذن له عليه السّلام في الاتباع بعد اللتيا والتي ، والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من وعد موسى عليه السّلام بالصبر والطاعة.
فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تشاهده من أفعالي فضلا عن المناقشة والاعتراض حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي حتى أبتدئك ببيانه ، والغاية على ما قيل مضروبة لما يفهم من الكلام كأنه قيل أنكر بقلبك على ما أفعل حتى أبينه لك أو هي لتأبيد ترك السؤال فإنه لا ينبغي السؤال بعد البيان بالطريق الأولى ، وعلى الوجهين فيها إيذان بأن كل ما يصدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة ، وقيل : حتى للتعليل وليس بشيء.
وقرأ نافع وابن عامر «فلا تسألنّي» بالنون المثقلة مع الهمز ، وعن أبي جعفر «فلا تسلني» بفتح السين واللام والنون المثقلة من غير همز ، وكل القراء كما قال أبو بكر بياء في آخره ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في حذف الياء خلاف غريب فَانْطَلَقا أي موسى والخضر عليهما السّلام ولم يضم يوشع عليه السّلام لأنه في حكم التبع ، وقيل رده موسى عليه السّلام إلى بني إسرائيل ،
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول
، وفي رواية أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن أهل السفينة ظنوا أنهم لصوص لأن المكان كان مخوفا فأبوا أن يحملوهم فقال كبيرهم :
إني أرى رجالا على وجوههم النور لأحملنهم فحملهم
حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ أل فيها لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة ، وكانت على ما في بعض الروايات سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن سفينة أحسن منها ولا أجمل ولا أوثق ، وكانت أيضا على ما يدل عليه بعض الروايات الصحيحة من سفن صغار يحمل بها أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر ، وفي رواية أبي حاتم أنها كانت ذاهبة إلى أيلة ، وصح أنهما حين ركبا جاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم اللّه تعالى إلا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 316
مثل ما نقص هذا العصفور من البحر
، وهو جار مجرى التمثيل واستعمال الركوب في أمثال هذه المواقع بكلمة فِي مع تجريده عنها في مثل قوله تعالى : لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل : 8] على ما يقتضيه تعديته بنفسه قد مرت الإشارة إلى وجهه في قوله تعالى وَقالَ ارْكَبُوا فِيها [هود : 41] وقيل إن ذلك لإرادة معنى الدخول كأنه قيل حتى إذا دخلا في السفينة خَرَقَها
صح أنهما لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواحها بالقدوم فقال له موسى عليه السّلام : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها
، وصح أيضا أنه عليه السّلام خرقها ووتد فيها وتدا
. وقيل قلع لوحين مما يلي الماء. وفي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا أنهما لما ركبا واطمأنا فيها ولججت بهما مع أهلها أخرج مثقابا له ومطرقة ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ثم جلس عليها يرقعها.
وهذه الرواية ظاهرة في أن خرقه إياها كان حين وصولها إلى لج البحر وهو معظم مائه ، وفي الرواية عن الربيع أن أهل السفينة حملوهما فساروا حتى إذا شارفوا على الأرض خرقها ، ويمكن الجمع بأن أول العزم كان وهي في اللج وتمام الفعل كان وقد شارفت على الأرض ، وظاهر الأخبار يقتضي أنه عليه السّلام خرقها وأهلها فيها وهو ظاهر قوله تعالى قالَ موسى أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها سواء كانت اللام للعاقبة بناء على أن موسى عليه السّلام حسن الظن بالخضر أو للتعليل بناء على أنه الأنسب بمقام الإنكار ، وبعضهم لم يجوز هذا توهما منه أن فيه سوء أدب وليس كذلك بل يوشك أن يتعين كونها للتعليل لأن الظاهر بناء الجواب عليه كما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى. وفي حديث أخرجه عبد بن حميد ومسلم وابن مردويه قال : فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة فخرج من كان فيها وتخلف ليخرقها فقال له موسى : تخرقها لتغرق أهلها فقال له الخضر ما قص اللّه تعالى.
وهذا ظاهر في أنه عزم على الحرق فاعترض عليه موسى عليه السّلام وهو خلاف ما تقتضيه الآية. فإن أول بأنه بتقدير وتخلف ليخرقها فخرقها وأن تعبير موسى عليه السّلام بالمضارع استحضارا للصورة أو قيل بأنه وقع من الخضر عليه السّلام أولا تصميم على الخرق وتهيئة لأسبابه وثانيا خرق بالفعل ووقع من موسى عليه السّلام اعتراض على الأول أولا وعلى الثاني ثانيا فنقل في الحديث أول ما وقع من كل في هذه المادة وفي الآية ثاني ما وقع من كل فيها بقي بين ظاهر الحديث وظاهر الآية مخالفة أيضا على ما قيل من حيث إن الأول يقتضي أن أهل السفينة لم يكونوا فيها إذ خرقت والثاني يقتضي أنهم كانوا فيها حينئذ ، وأجيب أنه ليس في الحديث أكثر من أنهم خرجوا منها وتخلف للخرق وليس فيه أنهم خرجوا فخرقها فيمكن أن يكون عليه السّلام تخلف للخرق إذ خرجوا لكنه لم يفعله إلا بعد رجوعهم إليها وحصولهم فيها ، وأنت تعلم أنه ينافي هذا ما قيل في وجه الجمع بين الرواية عن سعيد والرواية عن الربيع وبالجملة الجمع بين الأخبار الثلاثة وبينها وبين الآية صعب ، وقال بعضهم في ذلك : إنه يحتمل أن السفينة لما لججت بهم صادفوا جزيرة في اللج فخرجوا لبعض حوائجهم وتخلف الخضر عازما على الخرق ومعه موسى عليه السّلام فأحس منه ذلك فعجل بالاعتراض ثم رجع أهلها وركبوا فيها والعزم هو العزم فأخذ عليه السّلام في مباشرة ما عزم عليه ولم يشعر موسى عليه السّلام حتى تم وقد شارفت على الأرض ، ولا يخفى ما في ذلك من البعد ، وذكر بعضهم أن ظاهر الآية يقتضي أن خرقه إياها وقع عقب الركوب لأن الجزاء يعقب الشرط.
وأجيب بأن ذلك ليس بلازم وإنما اللازم تسبب الجزاء عن الشرط ووقوعه بعده ألا تراك تقول : إذا خرج زيد على السلطان قتله وإذا أعطيت السلطان قصيدة أعطاك جائزة مع أنه كثيرا ما لا يعقب القتل الخروج والإعطاء الإعطاء وقد صرح ابن الحاجب بأنه لا يلزم وقوع الشرط والجزاء في زمان واحد فيقال : إذا جئتني اليوم أكرمك غدا ، وعلى ذلك قوله تعالى : أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم : 66] ومن التزم ذلك كالرضي جعل الزمان المدلول عليه بإذا ممتدا وقدر في الآية المذكورة «أئذا ما مت وصرت رميما» وعليه أيضا لا يلزم التعقيب ، نعم قال بعضهم : إن خبر لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 317
قد قلع لوحا من ألواحها يدل على تعقيب الخرق للركوب ، وأيضا جعل غاية انطلاقهما مضمون الجملة الشرطية يقتضي ذلك إذ لو كان الخرق متراخيا عن الركوب لم يكن غاية الانطلاق مضمون الجملة لعدم انتهائه به. وأجيب بأن المبادرة التي دل عليها الخبر عرفته بمعنى أنه لم تمض أيام ونحوه ، وبأنه لا مانع من كون الغاية أمرا ممتدا ويكون انتهاء المغيا بابتدائه كقولك : ملك فلان حتى كانت سنة كذا ملكه فتأمل.
ثم إن في القلب من صحة رواية الربيع شيئا واللّه تعالى أعلم بصحتها ، والظاهر أن أهل السفينة لم يروه لما باشر خرقها وإلا لما مكنوه وقد نص على ذلك علي القاري وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية من طريق حماد ابن زيد عن شعيب بن الحبحاب أنه قال : كان الخضر عبدا لا تراه إلا عين من أراد اللّه تعالى أن يريه إياه فلم يره من القوم إلا موسى عليه السّلام ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وكذا بينه وبين قتل الغلام ، وليس هذا بالمرفوع واللّه تعالى أعلم بصحته ، نعم سيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا عن الربيع أيضا أنهم علموا بعد ذلك أنه الفاعل ، والظاهر أيضا أن موسى عليه السّلام لم يرد إدراج نفسه الشريفة في قوله لِتُغْرِقَ أَهْلَها وإن كان صالحا لأن يدرج فيه بناء على أن المراد من أهلها الراكبين فيها.
وقرأ الحسن وأبو رجاء «لتغّرق» بالتشديد لتكثير المفعول ، وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني «ليغرق أهلها» على إسناد الفعل إلى الأهل ، وكون اللام على هذه القراءة للعاقبة ظاهر جدا لَقَدْ جِئْتَ أتيت وفعلت شَيْئاً إِمْراً أي داهيا منكرا من أمر الأمر بمعنى كثر قاله الكسائي فأصله كثير ، والعرب كما قال ابن جني في سر الصناعة تصف الدواهي بالكثرة ، وهو عند بعضهم في الأصل على وزن كبد فخفف قيل ولم يقل أمرا إمرا مع ما فيه من التجنيس لأنه تكلف لا يلتفت إلى مثله في الكلام البليغ كما صرح به الإمام المرزوقي في شرح قول السموأل :
يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول
ردا لاختيار بعضهم رواية يقصر حب الموت ، وأيد ذلك بقول أبي ذؤيب الهذلي وشيك الفصول بعيد القفول حيث أمكن له أن يقول بطيء القفول ولم يقل ، وربما يقال هنا : إنه لم يقل ذلك لما ذكر مع إيهامه خلاف المراد وقصوره عن درجة ما في النظم الجليل من زيادة التفظيع ، وفي الرواية عن الربيع أن موسى عليه السّلام لما رأى من الخضر ما رأى امتلأ غضبا وشد عليه ثيابه وأراد أن يقذف الخضر عليه السّلام في البحر فقال أردت هلاكهم فستعلم أنك أول هالك وجعل كلما ازداد غضبا استعر البحر وكلما سكن كان البحر كالدهن ، وأن يوشع بن نون قال له : ألا تذكر العهد والميثاق الذي جعلت على نفسك ، وأن الخضر عليه السّلام أقبل عليه يذكره ما قاله من قبل قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وهو متضمن للإنكار على عدم وقوع الصبر منه عليه السّلام فأدركه عند ذلك الحلم قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ اعتذار بنسيان الوصية على أبلغ وجه كأن نسيانه أمر محقق عند الخضر عليه السّلام لا يحتاج أن يفيده إياه استقلالا وإنما يلتمس منه ترك المؤاخذة به فما مصدرية والباء صلة المؤاخذة أي لا تؤاخذ بنسياني وصيتك في ترك السؤال عن شيء حتى تحدث لي منه ذكرا ، والتمس ترك المؤاخذة بالنسيان لأن الكامل قد يؤاخذ به وهي مؤاخذة بقلة التحفظ التي أدت إليه كما وقعت لأول ناس وهو أول الناس وإلا فالمؤاخذة به نفسه لا تصح لأنه غير مقدور ، وقيل : الباء للسببية وهي متعلقة بالفعل ، والنسيان وإن لم يكن سببا قريبا للمؤاخذة بل السبب القريب لها هو ترك العمل بالوصية لكنه سبب بعيد لأنه لولاه لم يكن الترك ، وجوز أن تكون متعلقة بمعنى النهي كما قيل في بِنِعْمَةِ رَبِّكَ من قوله تعالى : ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم : 2] إنه متعلق بمعنى النفي فيكون النسيان سببا للنهي عن المؤاخذة بترك العمل بالوصية ، وزعم بعضهم تعين كونها
للملابسة ويجوز في ما أن تكون موصولة وأن تكون موصوفة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 318
أي لا تؤاخذني بالذي أو بشيء نسيته وهو الوصية لكن يحتاج هذا ظاهرا إلى تقدير مضاف أي بترك ما نسيته لأن المؤاخذة بترك الوصية أي ترك العمل بها لا بنفس الوصية.
وقيل قد لا يحتاج إلى تقدير المضاف فإن الوصية سبب للمؤاخذة إذ لولاها لم يكن ترك العمل ولا المؤاخذة ، ونظير ذلك ما قيل في قوله تعالى : فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف : 50] ثم كون ما ذكر اعتذارا بنسيان الوصية هو الظاهر وقد صح في البخاري أن المرة الأولى كانت نسيانا.
وزعم بعضهم أنه يحتمل أنه عليه السّلام لم ينس الوصية وإنما نهى عن مؤاخذته بالنسيان موهما أن ما صدر منه كان عن نسيانها مع أنه إنما عنى نسيان شيء آخر ، وهذا من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوسل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السّلام : هذه أختي وإني سقيم ، وروى هذا ابن جرير عن أبي بن كعب وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما.
وجوز أن يكون النسيان مجازا عن الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة وَلا تُرْهِقْنِي لا تغشني ولا تحملني مِنْ أَمْرِي وهو اتباعه إياه عُسْراً أي صعوبة وهو مفعول ثان لترهقني ، والمراد لا تعسر علي متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة ، وقرأ أبو جعفر «عسرا» بضمتين فَانْطَلَقا الفاء فصيحة أي فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان على الساحل كما في الصحيح ، وفي رواية أنهما مرا بقرية حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً يزعمون كما قال البخاري أن اسمه جيسور بالجيم وروي بالحاء ، وقيل اسمه جنبتور وقيل غير ذلك ، وصح أنه كان يلعب مع الغلمان وكانوا على ما قيل عشرة وأنه لم يكن فيهم أحسن ولا أنظف منه فأخذه فَقَتَلَهُ
أخرج البخاري في رواية أنه عليه السّلام أخذ برأسه من أعلاه فاقتلعه بيده
، وفي رواية أخرى أنه أخذه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين
، وقيل ضرب رأسه بالجدار حتى قتله ، وقيل رضه بحجر ، وقيل ضربه برجله فقتله ، وقيل أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات ، وجمع بين الروايات الثلاثة الأول بأنه ضرب رأسه بالجدار أولا ثم أضجعه وذبحه ثم اقتلع رأسه ، وربما يجمع بين الكل وفي كلا الجمعين بعد ، والظاهر أن الغلام لم يكن بالغا لأنه حقيقة الغلام الشائعة في الاستعمال وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وقيل كان بالغا شابا ، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه كان ابن عشرين سنة ، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام ، ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج :
شفاها من الداء الذي قد أصابها غلام إذا هز القناة سقاها
وقوله :
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هو جيت لست بشاعر
وقيل هو حقيقة في البالغ لأن أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون فيمن بلغ الحلم ، وإطلاقه على الصبي الصغير تجوز من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه ، ويؤيد قول الأولين قوله تعالى قالَ أي موسى عليه السّلام أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي طاهرة من الذنوب فإن البالغ قلما يزكو من الذنوب.
وقد جاء في حديث عن ابن جبير عن ابن عباس مرفوعا تفسير زكية بصغيرة
وهو تفسير باللازم ، ومن قال كان بالغا قال : وصفه عليه السّلام بذلك لأنه لم يره أذنب فهو وصف ناشىء من حسن الظن ، واستدل على كونه بالغا بقوله تعالى : بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير حق قصاص لك عليها وأجاب النووي والكرماني بأن المراد التنبيه على أنه قتله بغير حق إلا أنه خص حق القصاص بالنفي لأنه الأنسب بمقام القتل أو أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي ، وقد نقل المحدثون كالبيهقي في كتاب المعرفة أنه كان في شرعنا كذلك قبل الهجرة.
وقال السبكي : قبل أحد ثم نسخ ، والجار والمجرور - قال أبو البقاء - متعلق بقتلت كأنه قيل أي قتلت نفسا بلا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 319
حق ، وجوز أن يتعلق بمحذوف أي قتلا بغير نفس ، وأن يكون في موضع الحال أي قتلها ظالما لها أو مظلومة وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب ورويس عنه أيضا وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو «زاكية» بتخفيف الياء وألف بعد الزاي ، و«زكية» بالتشديد من غير ألف كما قرأ زيد بن علي والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون أبلغ من ذلك لأنه صفة مشبهة دالة على الثبوت مع كون فعيل المحول من فاعل - كما قال أبو حيان - يدل على المبالغة ، وفرق أبو عمرو بين زاكية وزكية بأن زاكية بالألف هي التي لم تذنب قط وزكية بدون الألف هي التي أذنبت ثم غفرت.
وتعقب بأنه فرق غير ظاهر لأن أصل معنى الزكاة النمو والزيادة فلذا وردت للزيادة المعنوية وأطلقت على الطهارة من الآثام ولو بحسب الخلقة والابتداء كما في قوله تعالى : لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم : 19] فمن أين جاءت هذه الدلالة ثم وجه ذلك بأنه يحتمل أن تكون لكون زاكية بالألف من زكي اللازم وهو يقتضي أنه ليس بفعل آخر وأنه ثابت له في نفسه وزكية بمعنى مزكاة فإن فعيلا قد يكون من غير الثلاثي كرضيع بمعنى مراضع ، وتطهير غيره له من الذنوب إنما يكون بالمغفرة وقد فهمه من كلام العرب فإنه امام العربية واللغة فتكون بهذا الاعتبار زاكية بالألف أبلغ وأنسب بالمقام بناء على أنه يرى أن الغلام لم يبلغ الحلم ولذا اختار القراءة بذلك وإن كان كل من القراءتين متواترا عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهذا على ما قيل لا ينافي كون زكية بلا ألف أبلغ باعتبار أنها تدل على الرفع وهو أقوى من الدفع فافهم ، وأيّا ما كان فوصف النفس بذلك لزيادة تفظيع ما فعل.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب أن الخضر عليه السّلام لما قتل الغلام ذعر موسى عليه السّلام ذعرة منكرة قال : أقتلت نفسا زكية بغير نفس
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً منكرا جدا ، قال الإمام : المنكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس وهو أبلغ في تقبيح الشيء من الأمر ، وقيل بالعكس ، وقال الراغب : المنكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف ، ولهذه الأبلغية قال بعضهم المراد شيئا أنكر من الأول ، واختار الطيبي أنه دون الأمر وقال : إن الذي يقتضيه النظم أنه ذكر الأغلظ ثم تنزل إلى الأهون فقتل النفس أهون من الخرق لما فيه من إهلاك جماعة وأغلظ من إقامة الجدار بلا أجرة ، وقال في الكشف : الظاهر أبلغية النكر أما بحسب اللفظ فظاهر ألا ترى كيف فسر الشاعر أي في قوله :
لقد لقي الأقران «1» مني نكرا داهية دهياء إذا امرا
النكر بداهية من صفتها كيت وكيت وجعل الإمر بعض أوصافها ، وأما بحسب الحقيقة فلأن خرق السفينة تسبب إلى الهلاك وهذا مباشرة على أن ذلك لم يكن سببا مفضيا ، وقول من قال : إنه تنزل استدلالا بأن إقامة الجدار أهون من القتل ليس بشيء لأنه حكي على ترتيب الوجود لا تنزل فيه ولا ترقي وإنما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى ما ذيل انتهى ، وروي القول بالأبلغية عن قتادة ، ومما يؤيد ذلك ما حكاه القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السّلام حين قال للخضر عليه السّلام ما قال غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه وإذا مكتوب فيه كافر لا يؤمن باللّه تعالى أبدا ، وبنى وجه تغيير النظم الجليل على أقبحية القتل فقيل : إنما غير النظم إلى ما ترى لأن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل وأحق فكان الاعتراض جدير بأن يجعل عمدة الكلام ، وهو مبني على أن الحكم في الكلام الشرطي هو الجزاء والشرط قيد له بمنزلة الحال عند أهل العربية ، وتحقيق ذلك في المطول وحواشيه.
وكان العطف بالفاء التعقيبية ليفيد أن القتل وقع عقيب اللقاء من غير ريث كما يشعر به الاعتراض إذ لو مضى
___________
(1) قوله مني نكرا في نسخة منكم بدل مني اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 320
زمان بين اللقاء والقتل أمكن نظرا للأمور العادية اطلاع الخضر فيه من حاله على ما لم يطلع عليه موسى عليه السّلام فلا يعترض عليه هذا الاعتراض ، ولا يضر في هذا ادعاء أن الخرق أيضا كذلك لأن المقصود توجيه اختيار الفاء دون الواو أو ثم بعد توجيه اختيار أصل العطف بأن ذلك يتأتى جعل الاعتراض عمدة ، والحاصل أنه لما كان الاعتراض في القصة الثانية معتنى بشأنه وأهم جعل جزاء لإذا الشرطية وبعد أن تعين للجزائية لذلك لم يكن بد من جعل القتل من جملة الشرط بالعطف ، واختيرت الفاء من بين حروفه ليفاد التعقيب ، ولما لم يكن الاعتراض في القصة الأولى مثله في الثانية جعل مستأنفا وجعل الخرق جزاء.
وزعم التاشكندي جواز كون الاعتراضين في القصتين مستأنفين والجزاء فيهما فعل الخضر عليه السّلام إلا أنه لا بد من تقدير قد في الجزاء الثاني لأن الماضي المثبت الغير المقترن بها لفظا أو تقديرا لا يصلح للجزائية.
واعتبر هذا في الثانية ولم يعتبر مثله في الأول لأن القتل أقبح فهو جدير بأن يؤكد ولا كذلك الخرق.
وتعقبه بعض الفضلاء بأن الفاء الجزائية لا يجوز أن تدخل على الماضي المثبت إلا بتقدير قد لتحقق تأثير حرف الشرط فيه بأن يقلب معناه إلى الاستقبال فلا حاجة إلى الرابطة في كونه جوابا ، وأما بتقدير قد فتدخل الفاء لعدم تأثير حرف الشرط فيه فهو محتاج إلى الرابطة فقوله تعالى : خَرَقَها وكذلك قوله سبحانه : فَقَتَلَهُ لكونهما مستقبلين بالنسبة إلى ما قبلهما يقعان جزاء بلا حاجة إلى ربط الفاء الجزائية فلا مجال في الثاني لجعل الفاء جزائية وكذا لا مجال في الأول لفرض تقدير قد لاصطلاح إدخال الفاء عليه فتدبر فإنه لا يخلو عن شيء.
وقال مير بادشاه في الرد على ذلك : إن الذوق السليم يأبى عن تقدير قد لو جعل القتل جزاء لعدم اقتضاء المقام إياها كيف وقد سبق الخرق جزاء بدونها وقد علم أنه يصدر عن الخضر عليه السّلام ما لا يستطيع المتشرع أن يصبر عليه وما المحتاج إلى التحقيق إلا اعتراض موسى عليه السّلام ثانيا بعد ما سلف منه من الكلام وكونه عليه السّلام مرسلا منه تعالى للتعلم ، وفيه إعراض عن بيان النكتة في التحقيق وعدم التفات إليها وغفلة على ما قال بعض الفضلاء عن موضع الفاء الجزائية وتقدير قد ، ولعل الحق أن يقال : إن التقدير وإن جاز خلاف الظاهر جدا ، وزعم أيضا أنه يمكن أن يقال في بيان إخراج القصتين على ما أخرجنا عليه أن لقاء الغلام سبب للشفقة والرفق لا القتل فلذا لم يحسن جعله جزاء وجعل جزاء الشرط وركوب السفينة قد يكون سببا لخرقها فلذا جعل جزاء ، وفيه أن للخصم أن يمنع الفرق ويقول : كما أن لقاء الغلام سبب للرفق لا القتل كذلك ركوب السفينة سبب لحفظها وصيانتها لا الخرق كيف وسلامتها سبب لسلامة الخضر عليه السّلام ظاهرا ، ومن الأمثال العامية لا ترم في البئر التي تشرب منها حجرا ، وإذا سلم له أن يقول : إن لقاء الغلام سبب للرفق لا للقتل فالقتل أغرب والاعتراض عليه أدخل فالاعتراض جدير بأن يجعل جزاء فيؤول الأمر في بيان النكتة إلى نحو ما تقدم والأمر في هذا سهل كما لا يخفى.
وقال شيخ الإسلام في وجه التغيير : إن صدور الخوارق عن الخضر عليه السّلام خرج بوقوعه مرة مخرج العادة واستأنست النفس به كاستئناسها بالأمور العادية فانصرفت عن ترقب سماعه إلى ترقب سماع حال موسى عليه السّلام هل يحافظ على مراعاة شرطه بموجب وعده عند مشاهدة خارق آخر أو يسارع إلى المناقشة كما في المرة الأولى فكان المقصود إفادة ما صدر عنه عليه السّلام فجعل الجزاء اعتراضه دون ما صدر عن الخضر عليهما السّلام وللّه تعالى در شأن التنزيل ، وأما ما قيل من أن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام فليس

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 321
من رفع الشبهة في شيء بل هو مؤيد لها فإن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فضلا عن النبي وذلك لا يقتضي جعله كذلك انتهى ، وتعقب بأن ما ذكره من النكتة على تقدير تسليمه لا يضر من بينها بما تقدم إذ لا تزاحم في النكات ، وأما اعتراضه فقوله مما يستدعي جعله مقصودا إن أراد أنه مقصود في نفسه فليس بصحيح وإن أراد أنه مقصود بأن يعترض عليه ويمنع منه فهذا يقتضي جعل الاعتراض جزاء كما مر ، وأما كونه من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فمقتض للاهتمام بالاعتراض عليه.
وأنت تعلم أن الشيء كلما ندر كان الإخبار به وإفادته السامع أوقع في النفس وأن الأخبار الغريبة يهتم بإفادتها ما لا يهتم بإفادة غير الغريبة إذ العالم بالغريب قليل بخلاف العالم بغيره وإنكار ذلك مكابرة فمراد الشيخ أن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا بالإفادة كما هو شأن الأمور القليلة الصدور النادرة الوقوع وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة الصدور وذلك لا يقتضي أن يعامل كذلك ، وعلى هذا لا غبار على ما ذكره عند المنصف ، ثم إن ما ذكره من النكتة يتأتى على القول بأن القتل أقبح من الخرق وعلى القول بالعكس أيضا وهذا بخلاف ما تقدم فإنه كان مبنيا على أقبحية القتل فمن لا يقول بها يحتاج في بيان النكتة إلى غير ذلك ، وقد رجح بذلك على ما تقدم ، واستأنس له أيضا بأن مساق الكلام من أوله لشرح حال موسى عليه السّلام فجعل اعتراضه عمدة الكلام أوفق بالمساق إلا أنه عدل عن ذلك في قصة الخرق وجعل ما صدر عن الخضر عليه السّلام عمدة دون اعتراضه لأن النفس لما سمعت وصف الخضر ظمأت لسماع ما يصدر منه فبل غليلها وجعل ما صدر عنه مقصودا بالإفادة لأنه مطلوب للنفس وهي منتظرة إياه ثم بعد أن سمعت ذلك وسكن أوامها سلك بالكلام مسلكه الأول وقصد بالإفادة حال من سبق الكلام من أوله لشرح حاله ، ولا يخفى أن هذا قول بأن الأصل نظرا إلى السوق أن تكون القصة الأولى على طرز القصة الثانية إلا أنه عدل عن ذلك لما ذكر ، والخروج عن الأصل يتقدر بقدر الحاجة فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة : 173] وهو مخالف لما يفهم من كلام الشيخ في الجملة فافهم واللّه تعالى أعلم. وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم نُكْراً بضمتين حيث كان منصوبا. «1»
___________
(1) تم الجزء الخامس عشر ويليه إن شاء اللّه تعالى الجزء السادس عشر وأوله قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 322

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 323
الجزء السادس عشر

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 324

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 325
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة الكهف (18) : الآيات 75 إلى 81]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً زيادة لَكَ لزيادة المكافحة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية.
قالَ أي موسى عليه السّلام إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ تفعله من الأعاجيب بَعْدَها أي بعد هذه المرة أو بعد هذه المسألة فَلا تُصاحِبْنِي وقرأ عيسى ويعقوب «فلا تصحبني» بفتح التاء من صحبه أي فلا تكن صاحبي ، وعن عيسى أيضا «فلا تصحبني» بضم التاء وكسر الحاء من أصحبه ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك ، وقدر بعضهم المفعول الثاني علمك وليس بذاك.
وقرأ الأعرج «فلا تصحبنّي» بفتح التاء والباء وشد النون ، والمراد المبالغة في النهي أي فلا تكن صاحبي البتة ، وهذا يؤيد كون المراد من النهي فيما لا تأكيد فيه التحريم ، والمراد به الحزم بالترك والمفارقة لا الترخيص على معنى إن سألتك بعد فأنت مرخص في ترك صحبتي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي وجدت عذرا من قبلي ، وقال النووي :
معناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي حيث خالفتك مرة بعد مرة.
وصح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : رحمة اللّه علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب لكن أخذته من صاحبه ذمامة فقال ذلك
، وقرأ نافع وعاصم «من لدني» بتخفيف النون وهي حجة على س في منعه ذلك ، والأكثرون على أنه حذف نون الوقاية وأبقى النون الأصلية المكسورة على ما هو القياس في الأسماء المضافة من أنها لا تلحقها نون الوقاية كوطني ومقامي ، وقيل : إنه يحتمل أن يكون المذكور نون الوقاية والمضاف إنما هو - لد - بلا نون لغة في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 326
لدن فلا حذف أصلا وتعقب بأن نون الوقاية إنما هي في المبني على السكون لتقيه الكسر و- لد - بلا نون مضموم. ورد بأنه لا مانع من أن يقال : إنها وقته من زوال الضم وأشم شعبة الضم في الدال وروي عن عاصم أنه سكنها ، وقال مجاهد : سوء غلط ، ولعله أراد رواية وإلا فقد ذكروا أن لد بالفتح والسكون لغة في لدن ، وقرأ عيسى «عذرا» بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي «عذري» بالإضافة إلى ياء المتكلم.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ الجمهور على أنها أنطاكية وحكاه الثعلبي عن ابن عباس ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه أنها برقة وهي كما في القاموس اسم لمواضع ، وفي المواهب أنها قرية بأرض الروم واللّه تعالى أعلم ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن السدي أنها باجروان وهي أيضا اسم لمتعدد إلا أنه ذكر بعضهم أن المراد بها قرية بنواحي أرمينية ، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنها الأبلة بهمزة وباء موحدة ولام مشددة ، وقيل :
قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى قال في مجمع البيان وهو المروي عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه
، وقيل : قرية في الجزيرة الخضراء من أرض الأندلس ، قال ابن حجر : والخلاف هنا كالخلاف في مجمع البحرين ولا يوثق بشيء منه ، وفي الحديث أتيا أهل قرية لئاما
اسْتَطْعَما أَهْلَها في محل الجر على أنه صفة لقرية ، وجواب إذا قالَ الآتي إن شاء اللّه تعالى وسلك بذلك نحو ما سلك في القصة الثانية من جعل الاعتراض عمدة الكلام للنكتة التي ذكرها هناك شيخ الإسلام ، وذهب أبو البقاء وغيره إلى أنه هو الجواب والآتي مستأنف نظير ما في القصة الأولى ، والوصفية مختار المحققين كما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى. وهاهنا سؤال مشهور وقد نظمه الصلاح الصفدي ورفعه إلى الإمام تقي الدين السبكي فقال :
أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا بدا وجهه استحى له القمران
ومن كفه يوم الندى ويراعه على طرسه بحران يلتقيان
ومن إن دجت في المشكلات مسائل جلاها بفكر دائم اللمعان
رأيت كتاب اللّه أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاره بإيجاز ألفاظ وبسط معاني
ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الفكر في طول الزمان عناني
وما هي إلا استطعما أهلها فقد نرى استطعماهم مثله ببيان
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان
فأرشد على عادات فضلك حيرتي فما لي إلى هذا الكلام يدان
فأجاب السبكي بأن جملة اسْتَطْعَما محتملة لأن تكون في محل جر صفة لقرية وأن تكون في محل نصب صفة لأهل وأن تكون جواب إذا ولا احتمال لغير ذلك ، ومن تأمل علم أن الأول متعين معنى وأن الثاني والثالث وإن احتملتهما الآية بعيدان عن مغزاها ، أما الثالث فلأنه يلزم عليه كون المقصود الإخبار بالاستطعام عند الإتيان وأن ذلك تمام معنى الكلام ، ويلزمه أن يكون معظم قصدهما أو هو طلب الطعام مع أن القصد هو ما أراد ربك مما قص بعد وإظهار الأمر العجيب لموسى عليه السّلام ، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه أن تكون العناية بشرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إليها نفسها فيتعين الأول ويجب فيه اسْتَطْعَما أَهْلَها ولا يجوز استطعماهم أصلا لخلو الجملة عن ضمير الموصوف.
وعلى هذا يفهم من مجموع الآيات أن الخضر عليه السّلام فعل ما فعل في قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 327
سوء صنيع من الآباء عن حق الضيف مع طلبه وللبقاع تأثير في الطباع ولم يهم فيها مع أنها حرية بالإفساد والإضاعة بل باشر الإصلاح لمجرد الطاعة ولم يعبأ عليه السّلام بفعل أهلها اللئام ، وينضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكونوا هم الأولون أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم ، والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولا على البعض ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدر اللّه تعالى لهما استقراء الجميع على التدريج ليتبين به كمال رحمته سبحانه وعدم مؤاخذته تعالى بسوء صنيع بعض عباده ، ولو قيل استطعماهم تعين إرادة الأولين فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبى ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء ، فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن كثير من المفسرين تحت الأستار حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء ، وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد ، وآخر زعم ما لا يعول عليه حتى سمعت عن شخص أنه قال : إن العدول عن استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل وهو قول يحكى ليرد فإن القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك ومنه ما يأتي في الآية ، ومن تمام الكلام فيما ذكر أن استطعما إن جعل جوابا فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة وذكر تعريفا وتنبيها على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير فهذا ما فتح اللّه تعالى علي والشعر يضيق عن الجواب وقد قلت :
لأسرار آيات الكتاب معاني تدق فلا تبدو لكل معاني
وفيها لمرتاض لبيب عجائب سنا برقها يعنو له القمران
إذا بارق منها لقلبي قد بدا هممت قرير العين بالطيران
سرورا وإبهاجا وصولا على العلا كأني علا فوق السماك مكاني
فما الملك والأقران ما البيض ما القنا وعندي وجوه أسفرت بتهاني
وهاتيك منها قد أبحتك سرها فشكرا لمن أولاك حسن بياني
أرى استطعما وصفا على قرية جرى وليس لها «1» والنحو كالميزان
صناعته تقضي بأن استتار ما يعود عليه ليس في الإمكان
وليس جوابا لا ولا صف أهلها فلا وجه للإضمار والكتمان
وهذي ثلاث ما سواها بممكن تعين منها واحد فسباني
ورضت بها فكري إلى أن تمخضت به زبدة الأحقاب منذ زمان
وإن حياتي في تموج أبحر من العلم في قلبي يمد لساني
إلى آخر ما تحمس به ، وفيه من المناقشة ما فيه. وقد اعترض بعضهم بأنه على تقدير كون الجملة صفة للقرية يمكن أن يؤتى بتركيب أخصر مما ذكر بأن يقال : فلما أتيا قرية استطعما أهلها فما الداعي إلى ذكر الأهل أولا على هذا التقدير ، وأجيب بأنه جيء بالأهل للإشارة إلى أنهم قصدوا بالإتيان في قريتهم وسألوا فمنعوا ولا شك أن هذا أبلغ في اللؤم وأبعد عن صدور جميل في حق أحد منهم فيكون صدور ما صدر من الخضر عليه السّلام غريبا جدا ، لا يقال :
ليكن التركيب كذلك وليكن على الإرادة الأهل تقديرا أو تجوزا كما في قوله تعالى : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف : 82] لأنا نقول : إن الإتيان ينسب للمكان كأتيت عرفات ولمن فيه كأتيت أهل بغداد فلو لم يذكر كان فيه تفويتا
___________
(1) أي صفة جرت على غير من هي له اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 328
للمقصود ، وليس ذلك نظير ما ذكر من الآية لامتناع سؤال نفس القرية عادة ، واختار الشيخ عز الدين علي الموصلي في جواب الصفدي أن تكرار الأهل والعدول عن استطعماهم إلى اسْتَطْعَما أَهْلَها للتحقير وهو أحد نكات إقامة الظاهر مقام الضمير وبسط الكلام في ذلك نثرا وقال نظما :
سألت لما ذا استطعما أهلها أتى عن استطعماهم إن ذاك لشان
وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف على سبب الرجحان منذ زمان
فهاك جوابا رافعا لنقابه يصير به المعنى كرأي عيان
إذا ما استوى الحالان في الحكم رجح الضمير وأما حين يختلفان
بأن كان في التصريح إظهار حكمة كرفعة شأن أو حقارة جاني
كمثل أمير المؤمنين يقول ذا وما نحن فيه صرحوا بأمان
وهذا على الإيجاز والبسط جاء في جوابي منثورا بحسن بيان
وذكر في النثر وجها آخر للعدول وهو ما نقله السبكي ورده ، وقد ذكره أيضا النيسابوري وهو لعمري كما قال السبكي ، ويؤول إلى ما ذكر من أن الإظهار للتحقير قول بعض المحققين : إنه للتأكيد المقصود منه زيادة التشنيع وهو وجه وجيه عند كل نبيه ، ومن ذلك قوله تعالى : فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة : 59] الآية ومثله كثير في الفصيح ، وقال بعضهم : إن الأهلين متغايران فلذا جيء بهما معا ، وقولهم : إذا أعيد المذكور أولا معرفة كان الثاني عين الأول غير مطرد وذلك لأن المراد بالأهل الأول البعض إذ في ابتداء دخول القرية لا يتأتى عادة إتيان جميع أهلها لا سيما على ما روي من أن دخولهما كان قبل غروب الشمس وبالأهل الثاني الجميع لما ورد أنهما عليهما السلام كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم فلو جيء بالضمير لفهم أنهما استطعما البعض ، وعكس بعضهم الأمر فقال : المراد بالأهل الأول الجميع ومعنى إتيانهم الوصول إليهم والحلول فيما بينهم وهو نظير إتيان البلد وهو ظاهر في الوصول إلى بعض منه والحلول فيه وبالأهل الثاني البعض إذ سؤال فرد فرد من كبار أهل القرية وصغارهم وذكورهم وإناثهم وأغنيائهم وفقرائهم مستبعد جدا والخبر لا يدل عليه ولعله ظاهر في أنهما استطعما الرجال ، وقد روي عن أبي هريرة واللّه تعالى أعلم بصحة الخبر أنه قال : أطعمتهما امرأة من بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم فلذا جيء بالظاهر دون الضمير ، ونقل مثله عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة.
وأورد عليهما أن فيهما مخالفة لما هو الغالب في إعادة الأول معرفة ، وعلى الثاني أنه ليس في المغايرة المذكورة فيه فائدة يعتد بها ، ولا يورد هذا على الأول لأن فائدة المغايرة المذكورة فيه زيادة التشنيع على أهل القرية كما لا يخفى.
واختار بعضهم على القول بالتأكيد أن المراد بالأهل في الموضعين الذين يتوقع من ظاهر حالهم حصول الغرض منهم ويحصل اليأس من غيرهم باليأس منهم من المقيمين المتوطنين في القرية ، ومن لم يحكم العادة يقول : إنهما عليهما السلام أتوا الجميع وسألوهم لما أنهما على ما قيل قد مستهما الحاجة فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما بالتشديد وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وأبو محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفا وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفا ، وحقيقة ضاف مال من ضاف السهم عن الهدف يضيف ويقال أضافت الشمس للغروب وتضيفت إذا مالت ، ونظيره زاره من الازورار ، ولا يخفى ما في التعبير بالإباء من الإشارة إلى مزيد لؤم القوم لأنه كما قال الراغب شدة الامتناع ، ولهذا لم يقل : فلم يضيفوهما مع أنه أخصر فإنه دون ما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 329
في النظم الجليل في الدلالة على ذمهم ، ولعل ذلك الاستطعام كان طلبا للطعام على وجه الضيافة بأن يكونا قد قالا : إنا غريبان فضيفونا أو نحو ذلك كما يشير إليه التعبير بقوله تعالى : فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما دون فأبوا أن يطعموهما مع اقتضاء ظاهر اسْتَطْعَما أَهْلَها إياه ، وإنما عبر باستطعما دون استضافا للإشارة إلى أن جل قصدهما الطعام دون الميل بهما إلى منزل وإيوائهما إلى محل. وذكر بعضهم أن في فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما من التشنيع ما ليس في أبوا أن يطعموهما لأن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب كما إذا رد غريبا استضافه بل لا يكاد يرد الضيف إلا لئيم ، ومن أعظم هجاء العرب فلان يطرد الضيف ، وعن قتادة شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه.
وقال زين الدين الموصلي : إنما خص سبحانه الاستطعام بموسى والخضر عليهما السلام والضيافة بالأهل لأن الاستطعام وظيفة السائل والضيافة وظيفة المسئول لأن العرف يقضي بذلك فيدعو المقيم القادم إلى منزله يسأله ويحمله إليه انتهى ، وهو كما ترى. ومما يضحك منه العقلاء ما نقله النيسابوري وغيره أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وأتوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بحمل من ذهب فقالوا : يا رسول اللّه نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء من (أبوا) تاء فأبى عليه الصلاة والسلام ، وبعضهم يحكي وقوع هذه القصة في زمن علي كرم اللّه تعالى وجهه ولا أصل لشيء من ذلك ، وعلى فرض الصحة يعلم منه قلة عقول أهل القرية في الإسلام كما علم لؤمهم من القرآن والسنة من قبل فَوَجَدا عطف كما قال السبكي على أَتَيا فِيها جِداراً روي أنهما التجئا إليه حيث لم يجدا مأوى وكانت ليلتهما ليلة باردة وكان على شارع الطريق يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يسقط وماضيه انقض على وزن انفعل نحو انجر والنون زائدة لأنه من قضضته بمعنى كسرته لكن لما كان المنكسر يتساقط قيل الانقضاض السقوط ، والمشهور أنه السقوط بسرعة كانقضاض الكوكب والطير ، قال صاحب اللوامح : هو من القضة وهي الحصى الصغار ، ومنه طعام قضض إذا كان في حصى فعلى هذا المعنى يريد أن يتفتت فيصير حصى انتهى.
وذكر أبو علي في الإيضاح أن وزنه أفعل من النقض كأحمر ، وقال السهيلي في الروض هو غلط وتحقيق ذلك في محله. والنون على هذا أصلية ، والمراد من إرادة السقوط قربه من ذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة تسبب إرادة السقوط لقربه أو على سبيل الاستعارة بأن يشبه قرب السقوط بالإرادة لما فيهما من الميل ، ويجوز أن يعتبر في الكلام استعارة مكنية وتخييلية ، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم ومن ذلك قوله :
يريد الرمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل
وقول حسان رضي اللّه تعالى عنه :
إن دهرا يلف شملي بحمل لزمان يهم بالإحسان
وقول الآخر :
أبت الروادف والثدي لقمصها مس البطون وأن تمس ظهورا
وقول أبي نواس :
فاستنطق العود قد طال السكوت به لا ينطق اللهو حتى ينطق العود
إلى ما لا يحصى كثرة حتى قيل : إن من له أدنى اطلاع على كلام العرب لا يحتاج إلى شاهد على هذا المطلب.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 330
ونقل بعض أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني أنه ينكر وقوع المجاز في القرآن فيؤول الآية بأن الضمير في يريد للخضر أو لموسى عليهما السلام ، وجوز أن يكون الفاعل الجدار وأن اللّه تعالى خلق فيه حياة وإرادة والكل تكلف وتعسف تغسل به بلاغة الكلام.
وقال أبو حيان : لعل النقل لا يصح عن الرجل وكيف يقول ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر ، وقرأ أبي «ينقض» بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيا للمفعول ، وفي حرف عبد اللّه وقراءة الأعمش «يريد لينقض» كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وعكرمة وخليد بن سعد ويحيى ابن يعمر «ينقاص» بالصاد المهملة مع الألف
ووزنه ينفعل اللازم من قصته فانقاص إذا كسرته فانكسر ، وقال ابن خالويه :
تقول العرب : انقاصت السن إذا انشقت طولا ، قال ذو الرمة يصف ثور وحش :
يغشى الكناس بروقيه ويهدمه من هائل الرمل منقاص ومنكثب
وفي الصحاح قيص السن سقوطها من أصلها وأنشد قول أبي ذؤيب :
فراق كقيص السن فالصبر إنه لكل أناس عثرة وحبور
وقال الأموي : انقاصت البر انهارت ، وقال الأصمعي : المنقاص المنقعر والمنقاض بالضاد المعجمة المنشق طولا ، وقال أبو عمرو : هما بمعنى واحد. وقرأ الزهري «ينقاض» بألف وضاد معجمة ، والمشهور تفسيره بينهدم.
وذكر أبو علي أن المشهور عن الزهري أنه ينقاص بالمهملة فَأَقامَهُ مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس وابن جبير ، وقال القرطبي إنه هو الصحيح وهو أشبه بأحوال الأنبياء عليهم السلام واعترض بأنه غير ملائم لما بعد إذ لا يستحق بمثله الأجر ، ورد بأن عدم استحقاق الأجر مع حصول الغرض غير مسلم ولا يضره سهولته على الفاعل ، وقيل : أقامه بعمود عمده به ، وقال مقاتل : سواه بالشيد ، وقيل هدمه وقعد يبنيه.
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قرأ «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه»
وكان طول هذا الجدار إلى السماء على ما نقل النووي عن وهب بن منبه مائة ذراع ، ونقل السفيري عن الثعلبي أنه كان سمكه مائتي ذراع بذراع تلك القرية وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وكان عرضه خمسين ذراعا وكان الناس يمرون تحته على خوف منه قالَ موسى عليه السلام لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً تحريضا للخضر عليه السّلام وحثا على أخذ الجعل والأجرة على ما فعله ليحصل لهما بذلك الانتعاش والتقوى بالمعاش فهو سؤال له لم لم يأخذ الأجرة واعتراض على ترك الأخذ فالمراد لازم فائدة الخبر إذ لا فائدة في الإخبار بفعله ، وقيل : لم يقل ذلك حثا وإنما قاله تعريضا بأن فعله ذلك فضول وتبرع بما لم يطلب منه من غير فائدة ولا استحقاق لمن فعل له مع كمال الاحتياج إلى خلافه ، وكان الكليم عليه السّلام لما رأى الحرمان ومساس الحاجة والاشتغال بما لا يعني لم يتمالك الصبر فاعترض ، واتخذ افتعل فالتاء الأولى أصلية والثانية تاء الافتعال أدغمت فيها الأولى ومادته تخذ لا أخذ وإن كان بمعناه لأن فاء الكلمة لا تبدل إذا كانت همزة أو ياء مبدلة منها ، ولذا قيل إن ايتزر خطأ أو شاذ وهذا شائع في فصيح الكلام ، وأيضا إبدالها في الافتعال لو سلم لم يكن لقولهم تخذ وجه وهذا مذهب البصريين ، وقال غيرهم : إنه الاتخاذ افتعال من الأخذ ولا يسلم ما تقدم ، ويقول : المدة العارضة تبدل تاء أيضا ، ولكثرة استعماله هنا أجروه مجرى الأصلي وقالوا تخذ ثلاثيا جريا عليه وهذا كما قالوا : تقى من اتقى.
وقرأ عبد اللّه والحسن وقتادة وأبو بحرية وابن محيصن وحميد واليزيدي ويعقوب وأبو حاتم وابن كثير وأبو

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 331
عمرو «لتخذت» بتاء مفتوحة وخاء مكسورة أي لأخذت ، وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص الذال وأدغمها باقي السبعة قالَ الخضر عليه السّلام هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ على إضافة المصدر إلى الظرف اتساعا ، وأين الحاجب يجعل الإضافة في مثله على معنى في وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر.
وقرأ ابن أبي عبلة «فراق بيني» بالتنوين ونصب بين على الظرفية ، وأعيد بين وإن كان لا يضاف إلى لمتعدد لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ، قال أبو حيان : والعدول عن بيننا لمعنى التأكيد والإشارة إلى الفراق المدلول عليه بقوله قبل فَلا تُصاحِبْنِي والحمل مفيد لأن المخبر عنه الفراق باعتبار كونه في الذهن والخبر الفراق باعتبار أنه في الخارج كما قيل أو إلى الوقت الحاضر أي هذا الوقت وقت فراقنا أو إلى الاعتراض الثالث أي هذا الاعتراض سبب فراقنا حسبما طلبت ، فوجه تخصيص الفراق بالثالث ظاهر.
وقال العلامة الأول : إنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا بخلاف هذا فإنه لا ينكر الإحسان للمسيء بل يحمد. وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في وجهه أن قول موسى عليه السّلام في السفينة والغلام كان للّه تعالى ، وفي هذا لنفسه لطلب الدنيا فكان سبب الفراق ، وحكى القشيري نحوه عن بعضهم. ورد ذلك في الكشف بأنه لا يليق بجلالتهما ولعل الخبر عن الحبر غير صحيح ، ونقل في البحر عن أرباب المعاني أن هذه الأمور التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى عليه السّلام وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ ولما أنكر قتل الغلام قيل له أين إنكارك هذا ووكز القبطي والقضاء عليه؟ ولما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنتي شعيب عليه السّلام بدون أجرة؟ ورأيت أنا
في بعض الكتب أن الخضر عليه السّلام قال : يا موسى اعترضت علي بخرق السفينة وأنت ألقيت ألواح التوراة فتكسرت واعترضت علي بقتل الغلام وأنت وكزت القبطي فقضي عليه واعترضت علي بإقامة الجدار بلا أجر وأنت سقيت لبنتي شعيب أغنامهما بلا أجر فمن فعل نحو ما فعلت لن يعترض علي
، والظاهر أن شيئا من ذلك لا يصح والفرق ظاهر بين ما صدر من موسى عليه السّلام وما صدر من الخضر وهو أجل من أن يحتج على صاحب التوراة بمثل ذلك كما لا يخفى.
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن أبي عبد اللّه وأظنه الملطي قال : لما أراد الخضر أن يفارق موسى قال له : أوصني قال : كن نفاعا ولا تكن ضرارا كن بشاشيا ولا تكن غضبانا ارجع عن اللجاجة ولا تمش من غير حاجة ولا تعير أمرا بخطيئته وابك على خطيئتك يا ابن عمران
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال : بلغني أن الخضر قال لموسى لما أراد أن يفارقه : يا موسى تعلم العلم لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به ، وبلغني أن موسى قال للخضر : ادع لي فقال الخضر : يسر اللّه تعالى عليك طاعته
واللّه تعالى أعلم بصحة ذلك أيضا.
سَأُنَبِّئُكَ وقرأ ابن أبي وثاب «سانبيك» بإخلاص الياء من غير همز ، والسين للتأكيد لعدم تراخي الإنباء أي أخبرك البتة بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً والظاهر أن هذا لم يكن عن طلب من موسى عليه السّلام ، وقيل : إنه لما عزم الخضر على فراقه أخذ بثيابه وقال : لا أفارقك حتى تخبرني بما أباح لك فعل ما فعلت ودعاك إليه فقال سَأُنَبِّئُكَ والتأويل رد الشيء إلى مآله ، والمراد به هنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل بالمعنى المذكور ، وما عبارة عن الأفعال الصادرة من الخضر عليه السّلام وهي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز ، وفي جعل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 332
الموصول عدم استطاعة موسى عليه السّلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما نوع تعريض به عليه السّلام وعتاب ، ويجوز أن يقال : إن ذلك لاستشارة مزيد توجهه وإقباله لتلقي ما يلقى إليه ، وصَبْراً مفعول تستطع وعليه متعلق به وقدم رعاية للفاصلة.
أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقها فَكانَتْ لِمَساكِينَ لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة جمع مسكين بكسر الميم وفتحها ويجمع على مساكين ومسكينون وهو الضعيف العاجز ، ويشمل هذا ما إذا كان العجز لأمر في النفس أو البدن ومن هنا قيل سموا مساكين لزمانتهم وقد كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وإطلاق مساكين عليهم على هذا من باب التغليب ، وهذا المعنى للمسكين غير ما اختلف الفقهاء في الفرق بينه وبين الفقير وعليه لا تكون الآية حجة لمن يقول : إن المسكين من يملك شيئا ولا يكفيه لأن هذا المعنى مقطوع فيه النظر عن المال وعدمه.
وقد يفسر بالمحتاج وحينئذ تكون الآية ظاهرة فيما يدعيه القائل المذكور ، وادعى من يقول : إن المسكين من لا شيء له أصلا وهو الفقير عند الأول أن السفينة لم تكن ملكا لهم بل كانوا أجراء فيها ، وقيل : كانت معهم عارية واللام للاختصاص لا للملك ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ولا يقبل بلا دليل ، وقيل : إنهم نزلوا منزلة من لا شيء له أصلا وأطلق عليهم المساكين ترحما. وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه لِمَساكِينَ بتشديد السين
جمع تصحيح لمساك فقيل : المعنى لملاحين ، وقيل : المساك من يمسك رجل السفينة وكانوا يتناوبون ذلك ، وقيل : المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ولعل إرادة الملاحين أظهر يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ أي يعملون بها فيه ويتعيشون بما يحصل لهم ، وإسناد العمل إلى الكل على القول بأن منهم زمنى على التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي أجعلها ذات عيب بالخرق ولم أرد إغراق من بها كما حسبت ولإرادة هذا المعنى جيء بالإرادة ولم يقل فأعبتها. وهذا ظاهر في أن اللام في الاعتراض للتعليل ويحتاج حملها على العاقبة إلى ارتكاب خلاف الظاهر هنا كما لا يخفى على المتأمل وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أي أمامهم وبذلك قرأ ابن عباس وابن جبير وهو قول قتادة وأبي عبيدة وابن السكيت والزجاج ، وعلى ذلك جاء قول لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
وقول سوار بن المضرب السعدي :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقول الآخر :
أليس ورائي أن أدب على العصا فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي
وفي القرآن كثير أيضا ، ولا خلاف عند أهل اللغة في مجيء وراء بمعنى أمام وإنما الخلاف في غير ذلك ، وأكثرهم على أنه معنى حقيقي يصح إرادته منها في أي موضع كان وقالوا : هي من الأضداد ، وظاهر كلام البعض أن لها معنى واحدا يشمل الضدين فقال ابن الكمال نقلا عن الزمخشري : إنها اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام ، وقال البيضاوي ما حاصله : إنه في الأصل مصدر ورا يرئي كقضا يقضي وإذا أضيف إلى الفاعل يراد به المفعول أعني المستور وهو ما كان خلفا وإذا أضيف إلى المفعول يراد به الفاعل أعني الساتر وهو ما كان قداما. ورد عليه بقوله تعالى : ارْجِعُوا وَراءَكُمْ [الحديد : 13] فإن وراء أضيفت فيه إلى المفعول والمراد بها الخلف.
وقال الفراء : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك وكذا في سائر الأجسام وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام وقال أبو علي : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 333
واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ، وقيل : أي خلفهم كما هو المشهور في معنى وراء.
واعترض بأنه إذا كان خلفهم فقد سلموا منه ، وأجيب بأن المراد أنه خلفهم مدرك لهم ومارّ بهم أو بأن رجوعهم عليه واسمه على ما يزعمون هدد بن بدد وكان كافرا ، وقيل : جلندي بن كركر ملك غسان ، وقيل : مفواد بن الجلند ابن سعيد الأزدي وكان بجزيرة الأندلس يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ أي صالحة وقد قرأ كذلك أبي بن كعب ، ولو أبقي العموم على ظاهره لم يكن للتعييب فائدة غَصْباً من أصحابها ، وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ ، والظاهر أنه كان يغصب السفن من أصحابها ثم لا يردها عليهم ، وقيل : كان يسخرها ثم يردها ، والفاء في فَأَرَدْتُ للتفريع فيفيد أن سبب إرادة التعييب كونها لقوم مساكين عجزة لكن لما كانت مناسبة هذا السبب للمسبب خفية بين ذلك بذكر عادة الملك في غصب السفن ، ومآل المعنى أما السفينة فكانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافونه ويعجزون عن دفعه من غصب ملك وراءهم عادته غصب السفن الصالحة ، وذكر بعضهم أن السبب مجموع الأمرين المسكنة والغصب إلا أنه وسط التفريع بين الأمرين وكان الظاهر تأخيره عنهما للغاية به من حيث إن ذلك الفعل كان هو المنكر المحتاج إلى بيان تأويله وللإيذان بأن الأقوى في السببية هو الأمر الأول ولذلك لم يبال بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق الجزء الأخير من السبب ولأن في تأخيره فصلا بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب فليفهم ، وظاهر الآية أن موسى عليه السّلام ما علم تأويل هذا الفعل قبل.
ويشكل عليه ما جاء عن الربيع أن الخضر عليه السّلام بعد أن خرق السفينة وسلمت من الملك الظالم أقبل على أصحابها فقال : إنما أردت الذي هو خير لكم فحمدوا رأيه وأصلحها لهم كما كانت فإنه ظاهر في أنه عليه السّلام أوقفهم على حقيقة الأمر ، والظاهر أن موسى عليه السّلام كان حاضرا يسمع ذلك ، وقد يقال : إن هذا الخبر لا يعول عليه واحتمال صحته مع عدم سماع موسى عليه السّلام مما لا يلتفت إليه وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قتله فَكانَ أَبَواهُ أي أبوه وأمه ففيه تغليب واسم الأب على ما في الإتقان كأزير والأم سهوا ، وفي مصحف أبي وقراءة ابن عباس «وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه» مُؤْمِنَيْنِ والمعنى على ذلك في قراءة السبعة إلا أنه ترك التصريح بكفره إشعارا بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره واستدل بتلك القراءة من قال : إن الغلام كان بالغا لأن الصغير لا يوصف بكفر وإيمان حقيقيين. وأجاب النووي عن ذلك بوجهين ، الأول أن القراءة شاذة لا حجة فيها ، الثاني أنه سماه بما يؤول إليه لو عاش وفي صحيح مسلم أن الغلام طبع يوم طبع كافرا وأول بنحو هذا وكذا ما مر من خبر صاحب العرس والعرائس لكن في صحته توقف عندي لأنه ربما يقتضي بظاهره علم موسى عليه السّلام بتأويل القتل قبل الفراق ، وعلى ما سمعت من التأويل لا يرد شيء مما ذكر على القول المنصور في الأطفال وهو أنهم مطلقا في الجنة على أنه قيل الكلام في غير من أخبر الصادق بأنه كافر ، وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري «فكان أبواه مؤمنان» وخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن ، والجملة في موضع الخبر لها ، وأجاز أبو الفضل أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث بن كعب فيكون منصوبا ، وأجاز أيضا أن يكون في كان ضمير الْغُلامُ والجملة في موضع الخبر.
فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما فخفنا خوفا شديدا أن يغشى الوالدين المؤمنين لو بقي حيا طُغْياناً مجاوزة للحدود الإلهية وَكُفْراً باللّه تعالى وذلك بأن يحملهما حبه على متابعته كما روي عن ابن جبير ، ولعل عطف الكفر على الطغيان لتفظيع أمره ، ولعل ذكر الطغيان مع أن ظاهر السياق الاقتصار على الكفر ليتأتى هذا التفظيع أو ليكون المعنى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 334
فخشينا أن يدنس إيمانهما أولا ويزيله آخرا ، ويلتزم على هذا القول بأن ذلك أشنع وأقبح من إزالته بدون سابقية تدنيس وفسر بعض شراح البخاري الخشية بالعلم فقال : أي علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه ، وقيل : المعنى خشينا أن يغشيهما طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما عليه من تربيتهما إياه وكونهما سببا لوجوده بسبب عقوقه وسوء صنيعه فيلحقهما شر وبلاء ، وقيل : المعنى خشينا أن يغشيهما ويقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر ، وفي بعض الآثار أن الغلام كان يفسد وفي رواية يقطع الطريق ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه ، واستدل بذلك من قال : إنه كان بالغا ، والذاهب إلى صغره يقول إن ذلك لا يصح ولعل الحق معه ، والظاهر أن هذا من كلام الخضر عليه السّلام أجاب به موسى عليه السّلام من جهته ، وجوز الزمخشري أن يكون ذلك حكاية لقول اللّه عز وجل والمراد فكر هنا بجعل الخشية مجازا مرسلا عن لازمها وهو الكراهة على ما قيل ، قال في الكشف : وذلك لاتحاد مقام المخاطبة كان سؤال موسى عليه السّلام منه تعالى والخضر عليه السّلام بإذن اللّه تعالى يجيب عنه وفي ذلك لطف ولكن الظاهر هو الأول انتهى ، وقيل : هو على هذا الاحتمال بتقدير فقال اللّه : خشينا والفاء من الحكاية وهو أيضا بعيد ولا يكاد يلائم هذا الاحتمال الآية بعد إلا أن يجعل التعبير بالظاهر فيها التفاتا ، وفي مصحف عبد اللّه وقراءة أبي فخاف ربك والتأويل ما سمعت.
وقال ابن عطية : إن الخوف والخشية كالترجي بلعل ونحوها الواقع في كلامه تعالى مصروف إلى المخاطبين وإلا فاللّه جل جلاله منزه عن كل ذلك فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ بأن يرزقهما بدله ولدا خيرا منه زَكاةً قال ابن عباس : أي دينا وهو تفسير باللازم والكثير قالوا : أي طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة ، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير إليهما وَأَقْرَبَ رُحْماً أي رحمة ، قال رؤبة ابن العجاج :
يا منزل الرحم على إدريسا ومنزل اللعن على إبليسا
وهما مصدران كالكثر والكثرة ، والمراد أقرب رحمة عليهما وبرا بهما واستظهر ذلك أبو حيان ، ولعل وجهه كثرة استعمال المصدر مبنيا للفاعل مع ما في ذلك هنا من موافقة المصدر قبله ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية أن المعنى هما به أرحم منهما بالغلام ، ولعل المراد على هذا أنه أحب إليهما من ذلك الغلام إما لزيادة حسن خلقه أو خلقه أو الاثنين معا ، وهذا المعنى أقرب للتأسيس من المعنى الأول على تفسير المعطوف عليه بما سمعت إلا أنه يؤيد ذلك التفسير ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهما أبدلا جارية ولدت نبيا ، وقال الثعلبي : إنها أدركت يونس بن متى فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيا هدى اللّه تعالى على يده أمة من الأمم ، وفي رواية ابن المنذر عن يوسف بن عمر أنها ولدت نبيين ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس وجعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنهما أنها ولدت سبعين نبيا
،
واستبعد هذا ابن عطية وقال : لا يعرف كثرة الأنبياء عليهم السّلام إلا في بني إسرائيل ولم تكن هذه المرأة منهم وفيه نظر ظاهر ، ووجه التأييد أن الجارية بحسب العادة تحب أبويها وترحمهما وتعطف عليهما وتبر بهما أكثر من الغلام قيل : أبدلهما غلاما مؤمنا مثلهما ، وانتصاب المصدرين على التمييز والعامل ما قبل كل من أفعل التفضيل ، ولا يخفى ما في الإبهام أولا ثم البيان ثانيا من اللطف ولذا لم يقل : فأردنا أن يبدلهما ربهما أزكى منه وأرحم على أن في خير زكاة من المدح ما ليس في أزكى كما يظهر بالتأمل الصادق.
وذكر أبو حيان أن أفعل ليس للتفضيل هنا لأنه لا زكاة في ذلك الغلام ولا رحمة. وتعقب بأنه كان زكيا طاهرا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 335 من الذنوب بالفعل إن كان صغيرا وبحسب الظاهر إن كان بالغا فلذا قال موسى عليه السّلام «نفسا زكية» وهذا في مقابلته فخير من زكاة من هو زكي في الحال والمآل بحسب الظاهر والباطن ولو سلم فالاشتراك التقديري يكفي في صحة التفضيل وأن قوله : ولا رحمة قول بلا دليل انتهى.
وقال الخفاجي : إن الجواب الصحيح هنا أن يكتفي بالاشتراك التقديري لأن الخضر عليه السّلام كان عالما بالباطن فهو يعلم أنه لا زكاة فيه ولا رحمة فقوله : إنه لا دليل عليه لا وجه له ، وأنت تعلم أن الرحمة على التفسير الثاني مما لا يصح نفيها لأنها مدار الخشية فافهم ، والظاهر أن الفاء للتفريع فيفيد سببية الخشية للإرادة المذكورة ويفهم من تفريع القتل ، ولم يفرعه نفسه مع أنه المقصود تأويله اعتمادا على ظهور انفهامه من هذه الجملة على ألطف وجه ، وفيها إشارة إلى رد ما يلوح به كلام موسى عليه السّلام من أن قتله ظلم وفساد في الأرض.
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير «يبدّلهما» بالتشديد.
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم «رحما» بضم الحاء ، وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «رحما» بفتح الراء وكسر الحاء.
[سورة الكهف (18) : الآيات 82 إلى 85]
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85)
وَأَمَّا الْجِدارُ المعهود فَكانَ لِغُلامَيْنِ قيل : إنهما أصرم وصريم يَتِيمَيْنِ صغيرين مات أبوهما وهذا هو الظاهر لأن يتم بني آدم بموت الأب ، وفي الحديث «لا يتم بعد بلوغ»
وقال ابن عطية : يحتمل أنهما كانا بالغين والتعبير عنهما بما ذكر باعتبار ما كان على معنى الشفقة عليهما ولا يخفى أنه بعيد جدا فِي الْمَدِينَةِ هي القرية المذكورة فيما سبق ، ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا لإظهار نوع اعتداد بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح. ولما كان سوق الكلام السابق على غير هذا المساق عبر بالقرية فيه وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
مال مدفون من ذهب وفضة كما أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء
وبذلك قال عكرمة وقتادة ، وهو في الأصل مصدر ثم أريد به اسم المفعول.
قال الراغب : الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء ، واستشكل تفسير الكنز بما ذكر بأن الظاهر أن الكانز له أبوهما لاقتضاء لَهُما له إذا لا يكون لهما إلا إذا كان إرثا أو كانا قد استخرجاه والثاني منتف فتعين الأول وقد وصف بالصلاح ، ويعارض ذلك ما جاء في ذم الكانز. وأجيب بأن المذموم ما لم تؤد منه الحقوق بل لا يقال لما أديت منه كنز شرعا كما يدل عليه عند القائلين بالمفهوم
حديث كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز
فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بصدد بيان الأحكام الشرعية لا المفاهيم اللغوية لأنها معلومة للمخاطبين ولا يعتبر في مفهومه اللغوي المراد هنا شيء من الإخراج وعدمه ، والوصف بالصلاح قرينة على أنه لم يكن من الكنز المذموم ، ومن قال : إن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 336
الكنز حرام مطلقا ادعى أنه لم يكن كذلك في شرع من قبلنا ، واحتج عليه بما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء في هذه الآية قال : أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحو ذلك وفيه فلا يعجبن الرجل فيقول : ما شأن الكنز حل لمن قبلنا وحرم علينا فإن اللّه تعالى يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء وهي السنن والفرائض تحل لأمة وتحرم على أخرى ، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال : ما كان ذهبا ولا فضة ولكن كان صحف علم وروي ذلك أيضا عن ابن جبير ، وأخرج ابن مردويه من حديث علي كرم اللّه تعالى وجهه مرفوعا والبزار عن أبي ذر كذلك ، والخرائطي عن ابن عباس موقوفا أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
. وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنه مكتوب في أحد شقيهبسم اللّه الرحمن الرحيم
عجبت إلخ ، في الشق الآخر أنا اللّه لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه
وجمع بعضهم بأن المراد بالكنز ما يشمل جميع ذلك بناء على أنه المال المدفون مطلقا ، وكل من المذكورات مال كان مدفونا إلا أنه اقتصر في كل من الروايات على واحد منها وفيه أنه على بعده يأباه ظاهر قول ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ما كان ذهبا ولا فضة وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً الظاهر أنه الأب الأقرب الذي ولدهما ، وذكر أن اسمه كاشح وأن اسم أمهما دهنا ، وقيل : كان الأب العاشر ، وعن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه أنه كان الأب السابع.
وأيّا ما كان ففي الآية دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بالأبناء ، وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن خيثمة قال : قال عيسى عليه السّلام طوبى لذرية المؤمن ثم طوبى لهم كيف يحفظون من بعده وتلا خيثمة هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب قال : إن اللّه تعالى ليحفظ بالعبد الصالح القبيل من الناس ، وعن الحسن بن علي رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ اللّه تعالى مال الغلامين؟
قال بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه فقال الخارجي أنبأنا اللّه تعالى : أنكم قوم خصمون ، وذكر من صلاح هذا الرجل أن الناس كانوا يضعون عنده الودائع فيردها إليهم كما وضعوها
، ويروى أنه كان سباحا فَأَرادَ رَبُّكَ مالكك ومدبر أمورك ، ففي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السّلام دون ضميرهما تنبيه له على تحتم كمال الانقياد والاستسلام لإرادته سبحانه ووجوب الاحتراز عن المناقشة فيما وقع بحسبهما التي يشم منها طلب ما يحصل به تربية البدن وتدبيره أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما قيل أي الحلم وكمال الرأي ، وفي الصحاح القوة وهو ما بين ثماني عشر إلى ثلاثين وهو واحد جاء على بناء الجمع مثل آنك ولا نظير لهما ، ويقال : هو جمع لا واحد له من لفظه مثل آسال وأبابيل وعباديد ومذاكير ، وكان سيبويه يقول : واحده شده وهو حسن في المعنى لأنه يقال بلغ الغلام شدته ولكن لا يجمع فعلة على أفعل ، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم من قولهم يوم بؤس ويوم نعم ، وأما قول من قال : واحده شد مثل كلب وأكلب أو شد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس كما يقولون في واحد الأبابيل أبول قياسا على عجول وليس هو شيء يسمع من العرب.
وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما من تحت الجدار ولولا أني أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 337
حفظه والانتفاع به وذكروا أن اليتيمين كانا غير عالمين بالكنز ولهما وصي يعلم به لكنه كان غائبا والجدار قد شارف فلو سقط لضاع فلذا أقامه رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له لأراد وأقيم الظاهر مقام الضمير ، وليس مفعولا له ليستخرجا لاختلاف الفاعل وبعضهم أجاز ذلك لعدم اشتراطه الاتحاد أو جعل المصدر من المبني للمفعول وأجاز أن يكون النصب على الحال وهو من ضمير يَسْتَخْرِجا بتأويل مرحومين ، والزمخشري النصب على أنه مفعول مطلق لأراد فإن إرادة ذلك رحمة منه تعالى.
واعترض بأنه إذا كان أراد ربك بمعنى رحم كانت الرحمة من الرب لا محالة فأي فائدة في ذكر قوله تعالى مِنْ رَبِّكَ وكذا إذا كان مفعولا له وقيل : في الكلام حذف والتقدير فعلت ما فعلت رحمة من ربك فهو حينئذ مفعول له بتقدير إرادة أو رجاء رحمة ربك أو منصوب بنزع الخافض والرحمة بمعنى الوحي أي برحمة ربك ووحيه فيكون قوله وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي عن رأيي واجتهادي تأكيدا لذلك ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من العواقب المنظومة في سلك البيان ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الفخامة تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ أي تستطع وهو مضارع اسطاع بهمز الوصل وأصله استطاع على وزن استفعل ثم حذف تاء الافتعال تخفيفا وبقيت الطاء التي هي أصل. وزعم بعضهم أن السين عوض قلب الواو ألفا والأصل أطاع ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ثم دعوى أنهم أبدلوا من تاء الافتعال طاء لوقوعها بعد السين ويقال تستتيع بإبدال الطاء تاء وتستيع بحذف تاء الافتعال فاللغات أربع كما قال ابن السكيت ، وما ألطف حذف أحد المتقاربين وبقاء الآخر في آخر هذا الكلام الذي وقع عنده ذهاب الخضر عن موسى عليهما السّلام.
وقال بعض المحققين : إنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير ، وتعقب بأن ذلك مكرر أيضا وذاك أخف منه فلم لم يؤت به ، وفيه أن الفرق ظاهر بين هذا وذلك ، وقيل : إنما خص بالتخفيف للإشارة إلى أنه خف على موسى عليه السّلام ما لقيه ببيان سببه ، وتعقب بأنه يبعده أنه في الحكاية لا المحكي وأنت تعلم هذا وكذا ما ذكرناه زهرة لا تتحمل الفرك والتأويل بالمعنى السابق الذي ذكر أنه المراد أي ذلك مآل وعاقبة الذي لم تستطع عَلَيْهِ صَبْراً من الأمور التي رأيت فيكون إنجازا للتنبئة الموعودة ، وجوز أن تكون الإشارة إلى البيان نفسه فيكون التأويل بمعناه المشهور ، وعلى كل حال فهو فذلكة لما تقدم ، وفي جعل الصلة غير ما مر تكرير للتنكير وتشديد للعتاب ، قيل : ولعل إسناد الإرادة أولا إلى ضمير المتكلم وحده أنه الفاعل المباشر للتعييب ، وثانيا إلى ضمير المتكلم ومعه غيره لأن إهلاك الغلام بمباشرته وفعله وتبديل غيره موقوف عليه وهو بمحض فعل اللّه تعالى وقدرته فضمير - نا - مشترك بين اللّه تعالى والخضر عليه السّلام ، وثالثا إلى اللّه تعالى وحده لأنه لا مدخل له عليه السّلام في بلوغ الغلامين. واعترض توجيه ضمير الجمع بأن اجتماع المخلوق مع اللّه تعالى في ضمير واحد لا سيما ضمير المتكلم فيه من ترك الأدب ما فيه. ويدل على ذلك ما
جاء من أن ثابت بن قيس بن شماس كان يخطب في مجلسه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا وردت وفود العرب فاتفق أن قدم وفد تميم فقام خطيبهم وذكر مفاخرهم ومآثرهم فلما أتم خطبته قام ثابت وخطب خطبة قال فيها من يطع اللّه عز وجل ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : بئس خطيب القوم أنت
،
وصرح الخطابي أنه عليه الصلاة والسّلام كره منه ما فيه من التسوية ، وأجيب بأنه قد وقع نحو ذلك في الآيات والأحاديث ، فمن ذلك قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب : 56] فإن الظاهر أن ضمير يُصَلُّونَ عَلَى راجع إلى اللّه تعالى وإلى الملائكة. وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث الإيمان : «أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما»
ولعل ما كرهه صلّى اللّه عليه وسلّم من ثابت أنه وقف على قوله يعصهما : لا التسوية في الضمير ، وظاهر هذا أنه لا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 338
كراهة مطلقا في هذه التسوية وهو أحد الأقوال في المسألة. وثانيها ما ذهب إليه الخطابي أنها تكره تنزيها ، وثالثها ما يفهمه كلام الغزالي أنها تكره تحريما ، وعلى القول بالكراهة التنزيهية استظهر بعضهم أنها غير مطردة فقد تكره في مقام دون مقام. وبني الجواب عما نحن فيه على ذلك فقال : لما كان المقام الذي قام فيه ثابت مقام خطابة وإطناب وهو بحضرة قوم مشركين والإسلام غض طري كره صلّى اللّه عليه وسلّم التسوية منه فيه وأما مثل هذا المقام الذي القائل فيه والمخاطب من عرفت وقصد فيه نكتة وهو عدم استقلاله فلا كراهة للتسوية فيه. وخص بعض الكراهة بغير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وحينئذ يقوى الجواب عما ذكر لأنه إذا جازت للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فهو في كلام اللّه تعالى وما حكاه سبحانه بالطريق الأولى.
وخلاصة ما قرر في المسألة أن الحق أنه لا كراهة في ذلك في كلام اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم كما أشير إليه في شروح البخاري ، وأما في حق البشر فلعل المختار أنه مكروه تنزيها في مقام دون مقام ، هذا وأنا لا أقول باشتراك هذا الضمير بين اللّه تعالى والخضر عليه السّلام لا لأن فيه ترك الأدب بل لأن الظاهر أنه كضمير (خشينا) والظاهر في ذاك عدم الاشتراك لأنه محوج لارتكاب المجاز على أن النكتة التي ذكروها في اختيار التشريك في ضمير أردنا لا تظهر في اختياره في ضمير فَخَشِينا لأنه لم يتضمن الكلام الأول فعلين على نحو ما تضمنهما الكلام الثاني فتدبر ، وقيل في وجه تغاير الأسلوب : إن الأول شر فلا يليق إسناده إليه سبحانه وإن كان هو الفاعل جل وعلا ، والثالث خير فأفرد إسناده إلى اللّه عز وجل. والثاني ممتزج خبره وهو تبديله بخير منه وشره وهو القتل فأسند إلى اللّه تعالى وإلى نفسه نظرا لهما. وفيه أن هذا الإسناد في فَخَشِينا أيضا وأين امتزاج الخير والشر فيه ، وجعل النكتة في التعبير ينافيه مجرد الموافقة لتاليه ليس بشيء كما لا يخفى ، وقيل : الظاهر أنه أسند الإرادة في الأولين إلى نفسه لكنه تفنن في التعبير فعبر عنها بضمير المتكلم مع الغير بعد ما عبر بضمير المتكلم الواحد لأن مرتبة الانضمام مؤخرة عن مرتبة الانفراد مع أن فيه تنبيها على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية بخلاف التعييب ، وأسند فعل الإبدال إلى اللّه تعالى إشارة إلى استقلاله سبحانه بالفعل وأن الحاصل للعبد مجرد مقارنة إرادة الفعل دون تأثير فيه كما هو المذهب الحق انتهى ، وأنت تعلم أن الإبدال نفسه مما ليس لإرادة العبد مقارنة له أصلا وإنما لها مقارنة للقتل الموقوف هو عليه على أن في هذا التوجيه بعد ما فيه.
وفي الانتصاف لعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع اللّه تعالى لأن المراد ثم عيب فتأدب عليه السّلام بأن نسب الإعابة إلى نفسه ، وأما إسناد الثاني إلى - نا - فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك أمرنا بكذا ودبرنا كذا وإنما يعنون أمر الملك العظيم. ودبر ويدل على ذلك قوله في الثالث : فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وهو كما ترى ، وقيل : اختلاف الأسلوب لاختلاف حال العارف باللّه سبحانه فإنه في ابتداء أمره يرى نفسه مؤثرة فلذا أسند الإرادة أولا إلى نفسه ثم يتنبه إلى أنه لا يستقل بالفعل بدون اللّه تعالى فلذا أسند إلى ذلك الضمير ثم يرى أنه لا دخل له وأن المؤثر والمريد إنما هو اللّه تعالى فلذا أسنده إليه سبحانه فقط وهذا مقام الفناء ومقام كان اللّه ولا شيء معه وهو الآن كما كان ، وتعقب بأنه إن أريد أن هذه الأحوال مرت على الخضر عليه السّلام واتصف بكل منها أثناء المحاورة فهو باطل وكيف يليق أن يكون إذ ذاك ممن يتصف بالمرتبة الثانية فضلا عن المرتبة الأولى وهو الذي قد أوتي من قبل العلم اللدني. وإن أريد أنه عبر تعبير من اتصف بكل مرتبة من تلك المراتب وإن كان هو عليه السّلام في أعلاها فإن كان ذلك تعليما لموسى عليه السّلام فموسى عليه السّلام أجل من أن يعلمه الخضر عليه السّلام مسألة خلق الأعمال ، وإن كان تعليما لغيره عليه السّلام فليس المقام ذلك المقام على تقدير أن يكون هناك غير يسمع منه هذا الكلام وإن أريد أنه عبر في المواضع الثلاثة بأسلوب مخصوص من هاتيك الأساليب إلا أنه سبحانه عبر في كل موضع بأسلوب فتعددت الأساليب في حكايته

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 339
تعالى القصة لنا تعليما وإشارة إلى هاتيك المراتب وإن لم يكن كلام الخضر عليه السّلام كذلك فاللّه تعالى أجل وأعظم من أن ينقل عن أحد كلاما لم يقله أو لم يقل ما بمعناه فالقول بذلك نوع افتراء عليه سبحانه. والذي يخطر ببال العبد الفقير أنه روعي في الجواب حال الاعتراض وما تضمنه وأشار إليه فلما كان الاعتراض الأول بناء «1» على أن لام لِتُغْرِقَ للتعليل متضمنا إسناد إرادة الإغراق إلى الخضر عليه السّلام وكان الإنكار فيه دون الإنكار فيما يليه بناء على ما اختاره المحققون من أن نُكْراً أبلغ من إِمْراً ناسب أن يشرح بإسناد إرادة التعييب إلى نفسه المشير إلى نفي إرادة الإغراق عنها التي يشير كلام موسى عليه السّلام إليها وأن لا يأتي بما يدل على التعظيم أو ضم أحد معه في الإرادة لعدم تعظيم أمر الإنكار المحوج لأن يقابل بما يدل على تعظيم إرادة خلاف ما حسبه عليه السّلام وأنكره.
ولما كان الاعتراض الثاني في غاية المبالغة والإنكار هناك في نهاية الإنكار ناسب أن يشير إلى أن ما اعترض عليه وبولغ في إنكاره قد أريد به أمر عظيم ولو لم يقع لم يؤمن من وقوع خطب جسيم فلذا أسند الخشية والإرادة إلى ضمير المعظم نفسه أو المتكلم ومعه غيره فإن في إسناد الإرادة إلى ذلك تعظيما لأمرها وفي تعظيمه تعظيم أمر المراد وكذا في إسناد الخشية إلى ذلك تعظيم أمرها ، وفي تعظيمه تعظيم أمر المخشي. وربما يقال بناء على إرادة الضم منا :
إن في ذلك الإسناد إشارة إلى أن ما يخشى وما يراد قد بلغ في العظم إلى أن يشارك موسى عليه السّلام في الخشية منه ، وفي إرادته الخضر لا أن يستقل بإنكار ما هو من مبادئ ذلك المراد وبه ينقطع عن الأصلين عرق الفساد ، ولما كان الاعتراض الثالث هينا جدا حيث كان بلفظ لا تصلب فيه ولا إزعاج في ظاهره وخافيه ومع هذا لم يكن على نفس الفعل بل على عدم أخذ الأجرة عليه ليستعان بها على إقامة جدار البدن وإزالة ما أصابه من الوهن فناسب أن يلين في جوابه المقام ولا ينسب لنفسه استقلالا أو مشاركة شيئا ما من الأفعال فلذا أسند الإرادة إلى الرب سبحانه وتعالى ولم يكتف بذلك حتى أضافه إلى ضميره عليه السّلام ، ولا ينافي ذلك تكرير النكير والعتاب لأنه متعلق بمجموع ما من أولا من ذلك الجناب ، هذا واللّه تعالى أعلم بحقيقة أسرار الكتاب وهو سبحانه الموفق للصواب ، واستدل بقوله : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي القائلون بنبوته عليه السّلام وهو ظاهر في ذلك ، واحتمال أن يكون هناك نبي أمره بذلك عن وحي كما زعمه القائلون بولايته احتمال بعيد على أنه ليس في وصفه بقوله تعالى : آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً على هذا كثير فائدة بل قد يقال : أي فائدة في هذا العلم اللدني إذا احتاج في إظهار العجائب لموسى عليه السّلام إلى توسيط نبي مثله ، وقال بعضهم : كان ذلك عن إلهام ويلزمه القول بأن الإلهام كان حجة في بعض الشرائع وأن الخضر من المكلفين بتلك الشريعة وإلا فالظاهر أن حجيته ليست في شريعة موسى عليه السّلام وكذا هو ليس بحجة في شريعتنا على الصحيح ، ومن شذ وقال بحجيته اشترط لذلك أن لا يعارضه نص شرعي فلو أطلع اللّه تعالى بالإلهام بعض عباده على نحو ما اطلع عليه الخضر عليه السّلام من حال الغلام لم يحل له قتله ، وما أخرجه الإمام أحمد عن عطاء أنه قال : كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل
الصبيان فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم إنما قصد به ابن عباس كما قال السبكي المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعا لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر وليس مقصوده رضي اللّه تعالى عنه أنه إن حصل ذلك يجوز القتل فما قاله اليافعي في روضه من أنه لو أذن اللّه تعالى لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا وعلم الإذن يقينا فلبسه لم يكن منتهكا للشرع وحصول اليقين له من حيث حصوله للخضر بقتله للغلام إذ هو ولي لا نبي على الصحيح انتهى عثرة يكاد أن لا
___________
(1) ويوشك أن يكون هذا من قبيل. وكلت للخل كما كال لي. على وفاء الكيل أو بخسه اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 340
يقال لصاحبها لعا لأن مظنة حصول اليقين اليوم الإلهام وهو ليس بحجة عند الأئمة ومن شذ اشترط ما اشترط ، وحصوله بخبر عيسى عليه السّلام إذا نزل متعذر لأنه عليه السّلام ينزل بشريعة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ومن شريعته تحريم لبس الحرير على الرجال إلا للتداوي وما ذكره من نفي نبوة الخضر لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ، وممن صرح بأن الإلهام ليس بحجة من الصوفية الإمام الشعراني وقال : قد زل في هذا الباب خلق كثير فضلوا وأضلوا ، ولنا في ذلك مؤلف سميته حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العمل بالإلهام وهو مجلد لطيف انتهى ، وقال أيضا في كتابه المسمى بالجواهر والدرر : قد رأيت من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره ما نصه اعلم أنا لا نعني بملك الإلهام حيث أطلقناه إلا الدقائق الممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة فإن الملك لا ينزل بوحي على غير قلب نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي جملة واحدة فإن الشريعة قد استقرت وتبين الفرض والواجب وغيرهما فانقطع الأمر الإلهي بانقطاع النبوة والرسالة وما بقي أحد يأمره اللّه تعالى بأمر يكون شرعا مستقلا يتعبد به أبدا لأنه إن أمره بفرض كان الشارع قد أمر به وإن أمره بمباح فلا يخلو إما أن يكون ذلك المباح المأمور به صار واجبا أو مندوبا في حقه فهذا عين نسخ الشرع الذي هو عليه حيث صير المباح الشرعي واجبا أو مندوبا وإن أبقاه مباحا كما كان فأي فائدة للأمر الذي جاء به ملك الإلهام لهذا المدعي فإن قال : لم يجئني ملك الإلهام بذلك وإنما أمرني اللّه تعالى بلا واسطة قلنا : لا يصدق في مثل ذلك وهو تلبيس من النفس ، فإن ادعى أن اللّه سبحانه كلمه كما كلم موسى عليه السّلام فلا قائل به ، ثم إنه تعالى لو كلمه ما كان يلقي إليه في كلامه إلا علوما وأخبارا لا أحكاما وشرعا ولا يأمره أصلا انتهى.
وقد صرح الإمام الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره العزيز في المكتوبات في مواضع عديدة بأن الإلهام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ويعلم من ذلك أنه لا مخالفة بين الشريعة والحقيقة والظاهر والباطن وكلامه قدس سره في المكتوبات طافح بذلك ، ففي المكتوب الثالث والأربعين من الجلد الأول إن قوما مالوا إلى الإلحاد والزندقة يتخيلون أن المقصود الأصلي وراء الشريعة حاشا وكلا ثم حاشا وكلا نعوذ باللّه سبحانه من هذا الاعتقاد السوء فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة وكل ما خالف الشريعة مردود وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة ، وقال في أثناء المكتوب الحادي والأربعين من الجلد الأول أيضا في مبحث الشريعة والطريقة والحقيقة : مثلا عدم نطق اللسان بالكذب شريعة ونفي خاطر الكذب عن القلب إن كان بالتكلف والتعمل فهو طريقة وإن تيسر بلا تكلف فهو حقيقة ففي الجملة الباطن الذي هو الطريقة والحقيقة مكمل الظاهر الذي هو الشريعة فالسالكون سبيل الطريقة والحقيقة إن ظهر منهم في أثناء الطريق أمور ظاهرها مخالف للشريعة ومناف لها فهو من سكر الوقت وغلبة الحال فإذا تجاوزوا ذلك المقام ورجعوا إلى الصحو ارتفعت تلك المنافاة بالكلية وصارت تلك العلوم المضادة بتمامها هباء منثورا.
وقال نفعنا اللّه تعالى بعلومه في أثناء المكتوب السادس والثلاثين من الجلد الأول أيضا : للشريعة ثلاثة أجزاء علم وعمل وإخلاص فما لم تتحقق هذه الأجزاء لم تتحقق الشريعة وإذا تحققت الشريعة حصل رضا الحق سبحانه وتعالى وهو فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية ورضوان من اللّه أكبر فالشريعة متكفلة بجميع السعادات ولم يبق مطلب وراء الشريعة فالطريقة والحقيقة اللتان امتاز بهما الصوفية كلتاهما خادمتان للشريعة في تكميل الجزء الثالث الذي هو الإخلاص فالمقصود منهما تكميل الشريعة لا أمر آخر وراء ذلك إلى آخر ما قال ، وقال عليه الرحمة في أثناء المكتوب التاسع والعشرين من الجلد المذكور بعد تحقيق كثير : فتقرر أن طريق الوصول إلى درجات القرب الإلهي جل شأنه سواء كان قرب النبوة أو قرب الولاية منحصر في طريق الشريعة التي دعا إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصار مأمورا بها في آية

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 341
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف : 108] وآية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران : 31] تدل على ذلك أيضا وكل طريق سوى هذا الطريق سوى هذا الطريق ضلال ومنحرف عن المطلوب الحقيقي وكل طريقة ردتها الشريعة فهي زندقة ، وشاهد ذلك آية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً [الأنعام : 153] وآية فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس : 32] وآية وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمران : 85] وحديث «خط لنا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم» الخبر
، وحديث «كل بدعة ضلالة»
وأحاديث أخر إلى آخر ما قال عليه رحمة الملك المتعال ، وقال قدس سره في معارف الصوفية : اعلم أن معارف الصوفية وعلومهم في نهاية سيرهم وسلوكهم إنما هي علوم الشريعة لا أنها علوم أخر غير علوم الشريعة ، نعم يظهر في أثناء الطريق علوم ومعارف كثيرة ولكن لا بد من العبور عنها ، ففي نهاية النهايات علومهم علوم العلماء وهي علوم الشريعة والفرق بينهم وبين العلماء أن تلك العلوم بالنسبة إلى العلماء نظرية واستدلالية وبالنسبة إليهم تصير كشفية وضرورية.
وقال أيضا : اعلم أن الشريعة والحقيقة متحدان في الحقيقة ولا فرق بينهما إلا بالإجمال والتفصيل وبالاستدلال والكشف بالغيب والشهادة وبالتعمل وعدم التعمل وللشريعة من ذلك الأول وللحقيقة الثاني وعلامة الوصول إلى حقيقة حق اليقين مطابقة علومه ومعارفه لعلوم الشريعة ومعارفها وما دامت المخالفة موجودة ولو أدنى شعرة فذلك دليل على عدم الوصول ، وما وقع في عبارة بعض المشايخ من أن الشريعة قشر والحقيقة لب فهو وإن كان مشعرا بعدم استقامة قائله ولكن يمكن أن يكون مراده أن المجمل بالنسبة إلى المفصل حكمه حكم القشر بالنسبة إلى اللب وان الاستدلال بالنسبة إلى الكشف كذلك ، والأكابر المستقيمة أحوالهم لا يجوزون الإتيان بمثل هذه العبارات الموهمة إلى غير ذلك من عباراته الشريفة التي لا تكاد تحصى.
وقال سيدي القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره : جميع الأولياء لا يستمدون إلا من كلام اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ولا يعملون إلا بظاهرهما ، وقال سيد الطائفة الجنيد قدس سره : الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسّلام. وقال أيضا : من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا العلم لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة ، وقال السري السقطي : التصوف اسم لثلاثة معان وهو لا يطفىء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بسر باطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك محارم اللّه ، وقال أيضا قدس سره : من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط.
وقال أبو الحسين النوري : من رأيته يدعي مع اللّه تعالى حالة تخرجه عن جد العلم الشرعي فلا تقربه ومن رأيته يدعي حالة لا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه ، وقال أبو سعيد الخراز : كل فيض باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.
وقال أبو العباس أحمد الدينوري : لسان الظاهر لا يغير حكم الباطن ، وفي التحفة لابن حجر قال الغزالي : من زعم أن له مع اللّه تعالى حالا أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم شرب الخمر وجب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر لأن ضرره أكثر انتهى ، ولا نظر في خلوده لأنه مرتد لاستحلاله ما علمت حرمته أو نفيه وجوب ما علم وجوبه ضرورة فيهما ، ومن ثم جزم في الأنوار بخلوده انتهى.
وقال في الإحياء : من قال إن الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان إلى غير ذلك.
وفي رسالة القشيري طرف منه ، والذي ينبغي أن يعلم أن كلام العارفين المحققين وإن دل على أنه لا مخالفة بين الشريعة والطريقة والحقيقة في الحقيقة لكنه يدل أيضا على أن في الحقيقة كشوفا وعلوما غيبية ولذا تراهم يقولون : علم الحقيقة هو العلم اللدني ، وعلم المكاشفة ، وعلم الموهبة ، وعلم الأسرار ، والعلم المكنون وعلم الوراثة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 342
إلا أن هذا لا يدل على المخالفة فإن الكشوف والعلوم الغيبية ثمرة الإخلاص الذي هو الجزء الثالث من أجزاء الشريعة فهي بالحقيقة مترتبة على الشريعة ونتيجة لها ومع هذا لا تغير تلك الكشوف والعلوم الغيبية حكما شرعيا ولا تقيد مطلقا ولا تطلق مقيدا خلافا لما توهمه ساجقلي زاده حيث قال في شرح عبارة الاحياء السابقة آنفا : يريد الغزالي من الباطن ما ينكشف لعلماء الباطن من حل بعض الأشياء لهم مع أن الشارع حرمه على عباده مطلقا فيجب أن يقال : إنما انكشف حله لهم لما انكشف لهم من سبب خفي يحلله لهم وتحريم الشارع تعالى ذلك على عباده مقيد بانتقاء انكشاف السبب المحلل لهم فمن انكشف له ذلك السبب حل له ومن لا فلا لكن الشارع سبحانه حرّمه على عادة على الإطلاق وترك ذلك القيد لندرة وقوعه إذ من ينكشف له قليل جدا مثاله انكشاف محل خرق السفينة وقتل الغلام للخضر عليه السّلام فحل له بذلك الانكشاف الخرق والقتل وحلهما له مخالف لإطلاق نهي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمته عن الضرر وعن قتل الصبي لكنهما مقيدان فالأول مقيد بما إذا لم يعلم هناك غاصب مثلا والثاني بما إذا لم يعلم أن الصبي سيصير ضالا مضلا لكن الشارع ترك القيدين لندرة وقوعهما واعتمادا على فهم الراسخين في العلم إياهما إلى آخر ما قال فإن النصوص السابقة تنادي بخلافه كما سمعت ، ثم إن تلك الغيوب والمكاشفات بل سائر ما يحصل للصوفية من التجليات ليست من المقاصد بالذات ولا يقف عندها الكامل ولا يلتفت إليها ، وقد ذكر الإمام الرباني قدس سره في المكتوب السادس والثلاثين المتقدم نقل بعضه أنها تربي بها أطفال الطريق وأنه ينبغي مجاوزتها والوصول إلى مقام الرضا الذي هو نهاية مقامات السلوك والجذبة وهو عزيز لا يصل إليه إلا واحد من ألوف ، ثم قال : إن الذين هم قليلو النظر يعدون الأحوال والمواجيد من المقامات والمشاهدات والتجليات من المطالب فلا جرم بقوا في قيد
الوهم والخيال وصاروا محرومين من كمالات الشريعة كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى : 13] انتهى ، ويعلم منه أن الكاملين في الشريعة يعبرون على ذلك ولا يلتفتون إليه ولا يعدونه مقصدا وجل مقصدهم تحصيل مقام الرضا ، وعلى هذا يخرج بيت المثنوي حيث يقول :
زان طرف كه عشق من افزود درد بو حنيفة شافعي درسي نكرد
وقد يحجب الكامل عن جميع ذلك ويلحق من هذه الحيثية بعوام الناس ، ويعلم مما ذكر أن موسى عليه السّلام أكمل من الخضر وأعلمية الخضر عليه السّلام بعلم الحقيقة كانت بالنسبة إلى الحالة الحاضرة فإن موسى عليه السّلام عبر على ذلك ولم يقف عنده لأنه في مقام التشريع ، ولعل طلبه التعليم كان بالأمر ابتلاء له بسبب تلك الفلتة ، وقد ذكروا أن الكامل كلما كان صعوده أعلا كان هبوطه أنزل وكلما كان هبوطه أنزل كان في الإرشاد أكمل في الإفاضة أتم لمزيد المناسبة حينئذ بين المرشد والمسترشد ، ولهذا قالوا فيما يحكى : إن الحسن البصري وقف على شط نهر ينتظر سفينة فجاء حبيب العجمي فقال له : ما تنتظر؟ فقال : سفينة فقال : أي حاجة إلى السفينة أما لك يقين؟ فقال الحسن : أما لك علم؟ ثم عبر حبيب على الماء بلا سفينة ووقف الحسن أن الفضل للحسن فإنه كان جامعا بين علم اليقين وعين اليقين وعرف الأشياء كما هي وفي نفس الأمر جعلت القدرة مستورة خلف الحكمة والحكمة في الأسباب وحبيب صاحب سكر لم ير الأسباب فعومل برفعها ، ومن هنا يظهر سر قلة الخوارق في الصحابة مع قول الإمام الرباني : إن نهاية أويس سيد التابعين بداية وحشي قاتل حمزة يوم أسلم فما الظن بغير أويس مع غير وحشي ، وأنا أقول : إن الكامل وإن كان من علمت إلا أن فوقه الأكمل وهو من لم يزل صاعدا في نزوله ونازلا في صعوده وليس ذلك إلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولولا ذلك ما أمد العالم العلوي والسفلي ، وهذا مرجع الحقيقة والشريعة له عليه الصلاة والسّلام على الوجه الأتم كما أشرنا إليه سابقا والحمد للّه تعالى على أن جعلنا من أمته وذريته ، ولا يعكر على ما ذكرنا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 343
ما قاله الإمام الغزالي في الاحياء وهو أن علم الآخرة قسمان علم مكاشفة وعلم معاملة أما علم المكاشفة فهو علم الباطن وهو غاية العلوم وهو علم الصديقين والمقربين وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من الصفات المذمومة وينكشف بذلك ما كان يسمع من قبل أسمائها ويتوهم لها معان مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة بذات اللّه تعالى وبصفاته التامات وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة انتهى.
لأن المراد أن ذلك من علم الباطن الذي هو علم الحقيقة وهذا البعض لا يمكن أن يخلو منه نبي كيف ورتبة الصديقين دون رتبة الأنبياء عليهم السّلام كما قرروه في آية فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء : 69] ومما ذكرنا من عدم المخالفة بين الشريعة والحقيقة يعلم ما في كلام البلقيني في دفع ما استشكله من
قول الخضر لموسى عليهما السّلام : «إني على علم» الحديث
السابق حيث زعم أنه يدل بظاهره على امتناع تعليم العلمين معا مع أنه لا يمتنع ، وأجاب بأن علم الكشوف والحقائق ينافي علم الظاهر فلا ينبغي للعالم الحاكم بالظاهر أن يعلم الحقائق للتنافي وكذا لا ينبغي للعالم بالحقيقة أن يعلم العلم الظاهر الذي ليس مكلفا به وينافي ما عنده عن الحقيقة ، ولعمري لقد أخطأ فيما قال وبالحق تعرف الرجال وكأنه لم يعتمد عليه فأردفه بجواب آخر هو خلاف الظاهر.
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك والاستشكال من ضعف النظر ، ثم إن قصة الخضر عليه السّلام لا تصلح حجة لمن يزعم المخالفة بين العلمين فإن أعظم ما يشكل فيها قتل الغلام لكونه طبع كافرا وخشي من بقائه حيا ارتداد أبويه وذلك أيضا شريعة لكنها مخصوصة به عليه السّلام لأنه كما قال العلامة السبكي : أوحي إليه أن يعمل بالباطن وخلاف الظاهر الموافق للحكمة فلا إشكال فيه وإن علم من شريعتنا أنه لا يجوز لأحد كائنا من كان قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين وكيف يجوز قتله بسبب لم يحصل والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي واتفاق الشرائع في الأحكام مما لم يذهب إليه أحد من الأنام فضلا عن العلماء الأعلام وهذا ظاهر على القول بنبوته ، وأما على القول بولايته فيقال : إن عمل الولي بالإلهام كان إذ ذاك شرعا أو كما قيل إنه أمر بذلك على يد نبي غير موسى عليه السّلام ، وأما إقامة الجدار بلا أجر فلا إشكال فيها لأنها إحسان وغاية ما يتخيل أنه للمسيء فليكن كذلك ولا ضير فإنه من مكارم الأخلاق ، وأما خرق السفينة لتسلم من غصب الظالم فقد قالوا : إنه مما لا بأس به حتى قال العز بن عبد السّلام : إنه إذا كان تحت يد الإنسان مال يتيم أو سفيه أو مجنون وخاف عليه أن يأخذه ظالم يجب عليه تعييبه لأجل حفظه وكان القول قول من عيب مال اليتيم ونحوه إذ نازعه اليتيم ونحوه بعد الرشد ونحوه في أنه فعله لحفظه على الأوجه كما قاله القاضي زكريا في شرح الروض قبيل باب الوديعة.
ونظير ذلك ما لو كان تحت يده مال يتيم مثلا وعلم أنه لو لم يبذل منه شيئا لقاض سوء لانتزعه منه وسلمه لبعض الخونة وأدى ذلك إلى ذهابه فإنه يجب عليه أن يدفع إليه شيئا ويتحرى في أقل ما يمكن إرضاؤه به ويكون القول قوله أيضا ، وقال بعضهم : قصارى ما تدل عليه القصة ثبوت العلم الباطن وهو مسلم لكن إطلاق الباطن عليه إضافي كما تقدم ، وكان في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء باللّه تعالى فإذا قالوه لا ينكره إلا أهل الغرة باللّه تعالى»
إشارة إلى ذلك ، والمراد بأهل الغرة علماء الظاهر الذين لم يؤتوا ذلك ، وبعض مثبتيه يستدلون بقول أبي هريرة : حفظت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعاءين من العلم فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم ، واستدل به أيضا على المخالفة بين العلمين.
وأنت تعلم أنه يحتمل أن يكون أراد بالآخر الذي لو بثه لقتل علم الفتن وما وقع من بني أمية وذم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 344
لأناس معينين منهم ولا شك أن بث ذلك في تلك الأعصار يجر إلى القتل ، وعلى تسليم أنه أراد به العلم الباطن المسمى بعلم الحقيقة لا نسلم أن قطع البلعوم منه على بثه لمخالفته للعلم الظاهر في نفس الأمر بل لتوهم من بيده الحل والعقد والأمر والنهي من أمراء ذلك الزمان المخالفة فافهم ، واستدل العلماء بما في القصة حسبما ذكره شراح الحديث وغيرهم على استحباب الرحلة للعلم وفضل طلبه واستحباب استعمال الأدب مع العالم واحترام المشايخ وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والوفاء بعهودهم والاعتذار عند مخالفتهم وعلى جواز اتخاذ الخادم في السفر وحمل الزاد فيه وأنه لا ينافي التوكل ونسبة النسيان ونحوه من الأمور المكروهة إلى الشيطان مجازا وتأدبا عن نسبتها إلى اللّه تعالى واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه وتقديم المشيئة في الأمر واشتراط المتبوع على التابع وعلى أن النسيان غير مؤاخذ به وأن للثلاث اعتبارا في التكرار ونحوه على جواز ركوب السفينة وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى عليه السّلام وعلى جواز أن يطلب الإنسان الطعام عند احتياجه إليه وعلى أن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام وجواز أخذ الأجر على الأعمال وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بملك آلة يكتسب بها أو بشيء لا يكفيه وأن الغصب حرام وأنه يجوز دفن المال في الأرض وفيه إثبات كرامات الأولياء على قول من يقول : الخضر ولي إلى غير ذلك مما يظهر للمتتبع أو للمتأمل ، وبالجملة قد تضمنت هذه القصة فوائد كثيرة ومطالب عالية خطيرة فأمعن النظر في ذاك واللّه سبحانه يتولى هداك.
«ومن باب الإشارة في الآيات» على ما ذكره بعض أهل الإشارة فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا فيه إشارة إلى أن للّه تعالى خواص أضافهم سبحانه إليه وقطعهم عن غيره وأخص خواصه عز وجل من أضافه إلى الاسم الجليل وهو اسم الذات الجامع لجميع الصفات أو إلى ضمير الغيبة الراجع إليه تعالى وليس ذاك إلا حبيبه الأكرم صلّى اللّه عليه وسلّم آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وهي مرتبة القرب منه عز وجل وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وهو العلم الخاص الذي لا يعلم إلا من جهته تعالى ، وقال ذو النون : العلم اللدني هو الذي يحكم على الخلق بمواقع التوفيق والخذلان.
وقال الجنيد قدس سره : هو الاطلاع على الأسرار من غير ظن فيه ولا خلاف واقع لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات ويحصل للعبد إذا حفظ جوارحه عن جميع المخالفات وأفنى حركاته عن كل الإرادات وكان شبحا بين يدي الحق بلا تمني ولا مراد ، وقيل : هو علم يعرف به الحق سبحانه أولياءه ما فيه صلاح عباده. وقال بعضهم : هو علم غيبي يتعلق بعالم الأفعال وأخص منه الوقوف على بعض سر القدر قبل وقوع واقعته وأخص من ذلك علم الأسماء والنعوت الخاصة وأخص منه علم الذات.
وذكر بعض العارفين أن من العلوم ما لا يعلمه إلا النبي ، واستدل له
بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث المعراج كما ذكره القسطلاني في مواهبه وغيره «وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى ثم أخذ علي كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري وعلم خيرني فيه وعلمني القرآن فكان جبريل عليه السّلام يذكرني به وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي»
انتهى ، وللّه تعالى علم استأثر به عز وجل لم يطلع عليه أحدا من خلقه قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قاله عن ابتلاء إلهي كما قدمنا ، وقال فارس كما في أسرار القرآن : إن موسى عليه السّلام كان أعلم من الخضر فيما أخذ عن اللّه تعالى والخضر كان أعلم من موسى فيما وقع إلى موسى عليه السّلام ، وقال أيضا : إن موسى كان باقيا بالحق والخضر كان فانيا بالحق قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 345
قيل : علم الخضر أن موسى عليه السّلام أكرم الخلق على اللّه تعالى في زمانه وأنه ذو حدة عظيمة ففزع من صحبته لئلا يقع منه معه ما لا يليق بشأنه.
وقال بعضهم : آيسه من نفسه لئلا يشغله صحبته عن صحبة الحق قال : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قال بعضهم : لو قال كما قال الذبيح عليه السّلام : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ لوفق للصبر كما وفق الذبيح ، والفرق أن كلام الذبيح أظهر في الالتجاء وكسر النفس حيث علق بمشيئة اللّه تعالى وجدانه واحدا من جماعة متصفين بالصبر ولا كذلك كلام موسى عليه السّلام فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها سلكا طريق السؤال الذي يتعلق بذل النفس في الطريقة وهو لا ينافي التوكل وكذا الكسب قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً كأنه عليه السّلام أراد دفع ما أحوجهما إلى السؤال من أولئك اللئام وفيه نظر إلى الأسباب وهو من أحوال الكاملين كما مر في حكاية الحسن البصري وحبيب ، ففي هذا إشارة إلى أنه أكمل من الخضر عليهما السّلام قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أي حسبما أردت ، وقال النصرابادي : لما علم الخضر بلوغ موسى إلى منتهى التأديب وقصور علمه عن علمه قال ذلك لئلا يسأله موسى بعد عن علم أو حال فيفتضح.
وقيل : خاف أن يسأله عن أسرار العلوم الربانية الصفاتية الذاتية فيعجز عن جوابه فقال ما قال وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً قيل : كان حسن الوجه جدا وكان محبوبا في الغاية لوالديه فخشي فتنتهما به ، والآية من المشكل ظاهرا لأنه إن كان قد قدر اللّه تعالى عليهما الكفر فلا ينفعهما قتل الولد وإن لم يكن قدر سبحانه ذلك فلا يضرهما بقاؤه ، وأجيب بأن المقدر بقاؤهما على الإيمان إن قتل وقتله ليبقيا على ذلك.
وقيل إن المقدر قد يغير ولا يلزم من ذلك سوى التغير في تعلق صفته تعالى لا في الصفة نفسها ليلزم التغير فيه عز وجل ، وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد : 39].
واستشكل أيضا بأن المحذور يزول بتوفيقه للإيمان فما الحاجة إلى القتل ، وأجيب بأن الظاهر أنه غير مستعد لذلك فهو مناف للحكمة وكأن الخضر عليه السّلام رأى فيما قال نوع مناقشة فتخلص من ذلك بقوله : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي بل فعلته بأمر اللّه عز وجل ولا يسأل سبحانه عما أمر وفعل ولعل قوله لموسى عليه السّلام ما قال حين نقر العصفور في البحر سد لباب المناقشة فيما أمر اللّه تعالى شأنه ، ولعل علم مثل هذه المسائل من العلم الذي استأثر اللّه سبحانه به وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة : 255] وأول بعضهم مجمع البحرين بمجمع ولاية الشيخ وولاية المريد والصخرة بالنفس والحوت بالقلب المملح بملح حب الدنيا وزينتها والسفينة بالشريعة وخرقها بهدم الناموس في الظاهر مع الصلاح في الباطن وإغراق أهلها بإيقاعهم في بحار الضلال والغلام بالنفس الأمارة وقتله بذبحه بسيف الرياضة والقرية بالجسد وأهلها بالقوى الإنسانية من الحواس واستطعامهم بطلب أفاعيلها التي تختص بها وإباء الضيافة بمنعها إعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها والجدار بالتعلق الحائل بين النفس الناطقة وعالم المجردات وإرادة الانقضاض بمشارفة قطع العلائق وإقامته بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس ومشيئة اتخاذ الأجر بمشيئة الصبر على شدة الرياضة لنيل الكشوف وإفاضة الأنوار والمساكين بالعوام والبحر الذي يعملون فيه ببحر الدنيا والملك بالشيطان والسفن التي يغصبها العبادات الخالية عن الانكسار والذل والخشوع والأبوين المؤمنين بالقلب والروح والبدل الخير بالنفس
المطمئنة والملهمة والكنز بالكمالات النظرية والعلمية والأب الصالح بالعقل المفارق الذي كمالاته بالفعل وبلوغ الأشد بوصولهما بتربية الشيخ وإرشاده إلى المرتبة الكاملة وهذا ما اختاره النيسابوري ، واختار غيره تأويلا آخر هو أدهي منه ، هذا واللّه تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ كان السؤال على وجه الامتحان والسائلون في المشهور قريش بتلقين اليهود ، وقيل : اليهود أنفسهم وروي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 346
ذلك عن السدي ، وأكثر الآثار تدل على أن الآية نزلت بعد سؤالهم فالتعبير بصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لما أن في سؤالهم على ذلك الوجه مع مشاهدتهم من أمره صلّى اللّه عليه وسلّم ما شاهدوا نوع غرابة ، وقيل : للدلالة على استمرارهم على السؤال إلى ورود الجواب ، وبعض الآثار يدل على أن الآية نزلت قبل ،
فعن عقبة بن عامر قال : إن نفرا من أهل الكتاب جاؤوا بالصحف أو الكتب فقالوا لي : استأذن لنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لندخل عليه فانصرفت إليه عليه الصلاة والسّلام فأخبرته بمكانهم فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : ما لي ولهم يسألونني عما لا أعلم إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي ثم قال : ائتني بوضوء أتوضأ به فأتيته فتوضأ ثم قام إلى مسجد في بيته فركع ركعتين فانصرف حتى بدا السرور في وجهه ثم قال : اذهب فأدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي فأدخلتهم فلما رآهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : إن شئتم أخبرتكم بما سألتموني عنه وإن شئتم غير ذلك فافعلوا
، والجمهور على الأول ولم تثبت صحة هذا الخبر.
واختلف في ذي القرنين فقيل : هو ملك أهبطه اللّه تعالى إلى الأرض وآتاه من كل شيء سببا وروي ذلك عن جبير بن نفير ، واستدل على ذلك بما أخرجه ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أنه سمع رجلا ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال له عمر : ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما لكم وأسماء الملائكة ، وهذا قول غريب بل لا يكاد يصح ، والخبر على فرض صحته ليس نصا في ذلك إذ يحتمل ولو على بعد أن يكون المراد أن هذا الاسم من أسماء الملائكة عليهم السّلام فلا تسموا به أنتم وإن تسمى به بعض من قبلكم من الناس.
وقيل : هو عبد صالح ملكه اللّه تعالى الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة ولا نعرف من هو وذكر في تسميته بذي القرنين وجوه : الأول
أنه دعا إلى طاعة اللّه تعالى فضرب على قرنه الأيمن فمات ثم بعثه اللّه تعالى فدعا فضرب على قرنه الأيسر فمات ثم بعثه اللّه تعالى فسمي ذا القرنين وملك ما ملك وروي هذا عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
، والثاني أنه انقرض في وقته قرنان من الناس ، الثالث أنه كانت صفحتا رأسه من نحاس وروي ذلك عن وهب بن منبه ، الرابع أنه كان في رأسه قرنان كالظلفين وهو أول من لبس العمامة ليسترهما وروي ذلك عن عبيد بن يعلى ، الخامس أنه كان لتاجه قرنان ، السادس أنه طاف قرني الدنيا أي شرقها وغربها وروي ذلك مرفوعا ، السابع أنه كان له غديرتان وروي ذلك عن قتادة ويونس بن عبيد ، الثامن أنه سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمتد الظلمة من ورائه ، التاسع أنه دخل النور والظلمة ، العاشر أنه رأى في منامه كأنه صعد إلى الشمس وأخذ بقرنيها.
الحادي عشر أنه يجوز أن يكون قد لقب بذلك لشجاعته كأنه ينطح أقرانه كما لقب أزدشير بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد ، ولا يخفى أنه يبعد عدم معرفة رجل مكن له ما مكن في الأرض وبلغ من الشهرة ما بلغ في طولها والعرض ، وأما الوجوه المذكورة في وجه تسميته ففيها ما لا يكاد يصح ولعله غير خفي عليك وقيل : هو فريدون بن اثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية وكان ملكا عادلا مطيعا للّه تعالى. وفي كتاب صور الأقاليم لأبي زيد البلخي أنه كان مؤيدا بالوحي. وفي عامة التواريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة ايرج وسلم وتور فأعطى ايرج العراق والهند والحجاز وجعله صاحب التاج ، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب ، وأعطى تور الصين والترك والمشرق ، ووضع لكل قانونا تحكم به وسميت القوانين الثلاثة سياسة فهي معربة سي ايسا أي ثلاثة قوانين ، ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة أو عظم شجاعته وقهره الملوك. ورد بأنه قد أجمع أهل التاريخ على أنه لم يسافر لا شرقا ولا غربا وإنما دوخ له البلاد كاوه الأصفهاني الحداد الذي مزق اللّه تعالى على يده ملك الضحاك وبقي رئيس العساكر إلى أن مات ، ويلزم على هذا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 347
القول أيضا أن يكون الخضر عليه السّلام على مقدمته بناء على ما اشتهر أنه عليه السّلام كان على مقدمة ذي القرنين ولم يذكر ذلك أحد من المؤرخين. وأجيب بأن من يقول : إنه الإسكندر يثبت جميع ما ثبت للإسكندر في الآيات والأخبار ولا يبالي بعدم ذكر المؤرخين لذلك وهو كما ترى ، وقيل : هو إسكندر اليوناني ابن فيلقوس ، وقيل : قلفيص ، وقيل : قليص.
وقال ابن كثير : هو ابن فيليس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نون بن شرخون بن تونط بن يوفيل بن رومي بن الأصغر بن العزيز بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السّلام وكان سرير ملكه مقدونيا وهي بلدة من بلاد الروم غربي دار السلطنة السنية قسطنطينية المحمية بينهما من المسافة قدر خمسة عشر يوما أو نحو ذلك عند مدينة شيروز ، وقول ابن زيدون : إنها مصر وهم ، وهو الذي غلب دارا الأصغر واستولى على ملك الفرس وكان مولده في السنة الثالثة عشرة من ملك دارا الأكبر. وزعم بعضهم أنه أبوه وذلك أنه تزوج بنت فيلقوس فلما قربها وجد منها رائحة منكرة فأرسلها إلى أبيها وقد حملت بالإسكندر فلما وضعته بقي في كفالة أبيها فنسب إليه ، وقيل : إن دارا الأكبر تزوج ابنة ملك الزنج هلابي فاستخبث ريحها فأمر أن يحتال لذلك فكانت تغتسل بماء السندروس فأذهب كثيرا من ذفرها ثم عافها وردها إلى أهلها فولدت الإسكندر وكان يسمى الإسكندروس. ويدل على أنه ولده أنه لما أدرك دارا الأصغر بن دارا الأكبر وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال له : يا أخي أخبرني عمن فعل هذا بك لأنتقم منه وهو زعم باطل. وقوله : يا أخي من باب الإكرام ومخاطبة الأمثال.
وإنما سمي ذا القرنين لملكه طرفي الأرض أو لشجاعته واستدل لهذا القول بأن القرآن دل على أن الرجل بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال وذلك تمام المعمور من الأرض وسئل هذا الملك يجب أن يبقى ذكره مخلدا والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا هذا الإسكندر ، وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم وانتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبني الإسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر واستولى على دارا وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها ، وقيل : مات برومية المدائن ووضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وعاش اثنين وثلاثين سنة ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة. وقيل : عاش ستا وثلاثين ومدة ملكه ست عشرة سنة ، وقيل : غير ذلك ، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر كذا ذكره الإمام ثم قال : وهذا القول هو الأظهر للدليل المذكور إلا أن فيه إشكالا قويا وهو أنه كان تلميذ أرسطو الحكيم المقيم بمدينة أنينة أسلمه إليه أبوه فأقام عنده خمس سنين وتعلم منه الفلسفة وبرع فيها وكان على مذهبه فتعظيم اللّه تعالى إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وذلك مما لا سبيل إليه.
وأجيب بأنا لا نسلم أنه كان على مذهبه في جميع ما ذهب إليه والتلمذه على شخص لا توجب الموافقة في جميع مقالات ذلك الشخص ألا ترى كثرة مخالفة الإمامين لشيخهما الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه فيحتمل أن يكون مخالفا له فيما يوجب الكفر ، وفي ذبحه في مذبح بيت المقدس دليل على أنه لم يكن يرى جميع ما يراه الحكماء ، ولا يخفى أنه احتمال بعيد ، والمشهور أنه كان قائلا بما يقوله الحكماء والذبح المذكور غير متحقق والاستدلال به ضعيف ، وقيل : إن قوله بذلك وتمذهبه بمذهب أرسطو لا يوجب كفره إذ ذاك فإنه كان مقرا بالصانع تعالى شأنه معظما له غير عابد سواه من صنم أو غيره كما يدل عليه ما نقله الشهرستاني أن الحكماء تشاوروا في أن يسجدوا له إجلالا وتعظيما فقال : لا يجوز السجود

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 348
لغير بادئ الكل ولم يكن مبعوثا إليه رسول فإنه كان قبل مبعث عيسى عليه السّلام بنحو ثلاثمائة سنة وكان الأنبياء عليهم السّلام إذ ذاك من بني إسرائيل ومبعوثين إليهم ولم يكن هو منهم فكان حكمه حكم أهل الفترة. وتعقب بأنه على تسليم ذلك لا يحسم مادة الإشكال لأن اللّه تعالى لا يكاد يعظم من حكمه حكم أهل الفترة مثل هذا التعظيم الذي دلت عليه الآيات
والأخبار ، وأيضا الثالث في التواريخ أن الإسكندر المذكور كان أرسطو بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه ولم يذكر فيها أنه اجتمع مع الخضر عليه السّلام فضلا عن اتخاذه إياه وزيرا كما هو المشهور في ذي القرنين.
واعترض أيضا بأن إسكندر المذكور لم يتحقق له سفر نحو المغرب في كتب التواريخ المعتبرة وقد نبه على ذلك كاتب جلبي عليه الرحمة ، وقيل : هو الإسكندر الرومي وهو متقدم على اليوناني بكثير ويقال له : ذو القرنين الأكبر ، واسمه قيل : مرزبان بن مردبة من ولد يافث بن نوح عليه السّلام وكان أسود ، وقيل : اسمه عبد اللّه بن الضحاك ، وقيل : مصعب بن عبد اللّه بن قينان بن منصور بن عبد اللّه بن الأزد بن عون بن زيد بن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان ، وجعل بعضهم هذا الخلاف في اسم ذي القرنين اليوناني بعد أن نقل القول بأن اسمه الإسكندر بن فيلقوس ، وذكر في اسم الرومي ونسبه ما نقل سابقا عن ابن كثير.
وذهب بعض المحققين إلى أن الإسكندر اليوناني والإسكندر الرومي كلاهما يطلقان على غالب دارا الأصغر والتاريخ المشهور بالتاريخ الرومي ويسمى أيضا السرياني والعجمي ينسب إليه في المشهور وأوله «1» شروق يوم الاثنين من أول سنة من سني ولايته عند ابن البناء ومن أول السنة السابعة وهي سنة خروجه لتملك البلاد كما في زيج الصوفي أو من أول السنة التي مات فيها كما في المبادئ والغايات ، وبعض المحققين ينسبه إلى سولونس بن الطبوخوس الذي أمر ببناء أنطاكية وهو الذي صححه ابن أبي الشكر ، وتوقف بعضهم كالغ بك عن نسبته إلى أحدهما لتعارض الأدلة ، ونفى بعضهم أن يكون في الزمن المتقدم بين الملوك إسكندران.
وزعم أنه ليس هناك إلا الإسكندر الذي غلب دارا واستولى على ملك فارس وقال : إن ذا القرنين المذكور في القرآن العظيم يحتمل أن يكون هو ويحتمل أن يكون غيره ، والذي عليه الكثير أن المسمى بالإسكندر بين الملوك السالفة اثنان بينهما نحو ألفي سنة وأن أولهما هو المراد بذي القرنين ويسميه بعضهم الرومي وبعضهم اليوناني وهو الذي عمر دهرا طويلا فقيل : عمر ألفا وستمائة سنة ، وقيل : ألفي سنة ، وقيل : ثلاثة آلاف سنة ولا يصح في ذلك شيء ، وذكر أبو الريحان البيروني المنجم في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمي ابن عمير بن أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به تبع اليماني حيث قال :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ملكا علا في الأرض غير مفند
بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب ملك من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
ثم قال : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأدواء كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي رعين وذي يزن وذي جدن ، واختار هذا القول كاتب جلبي وذكر أنه كان في عصر إبراهيم عليه السّلام وأنه اجتمع معه في مكة المكرمة وتعانقا وأن شهرة بلوغ ملك الإسكندر اليوناني تلميذ أرسطو الغاية القصوى في كتب التواريخ كما ذكر
___________
(1) قوله وأوله إلخ وقع استطرادا اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 349
الإمام دون هذا إنما هي لقرب زمان اليوناني بالنسبة إليه فإن بينهما نحو ألفي سنة وتواريخ هاتيك الأعصار قد أصابها إعصار ولم يبق ما يعول عليه ويرجع في حل المشكلات إليه ، وربما يقال : إن عدم شهرة من ذكر تقوي كونه المسئول عنه إذ غرض اليهود من السؤال الامتحان وذلك إنما يحسن فيما خفي أمره ولم يشهر إذ الشهرة لا سيما إذا كانت تامة مظنة العلم وإلى كون ذي القرنين في زمان إبراهيم عليه السّلام ذهب غير واحد ، وقد ذكر الأزرقي أنه أسلم على يده عليه السّلام وطاف معه بالكعبة وكان ثالثهما إسماعيل عليه السّلام ، وروي أنه حج ماشيا فلما سمع إبراهيم عليه السّلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا ، وقيل : أتي بفرس ليركب فقال : لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبشره إبراهيم عليه السّلام بذلك فكانت السحابة تحمله وعساكره وجميع آلتهم إذا أرادوا غزو قوم وهؤلاء لم يصرحوا بأن ذا القرنين هذا هو الحميري الذي ذكر لكن مقتضى كلام كاتب جلبي أنه هو.
وذكر أنه يمكن أن يكون إسكندر لقبا لمن ذكر معربا عن الكسندر ومعناه في اللغة اليونانية آدمي جيد ، وربما يقال : إن من قال : اسم الإسكندر مصعب بن عبد اللّه بن قينان بن منصور إلى آخر النسب السابق المنتهي إلى قحطان عنى هذا الرجل الحميري لا الرومي ولا اليوناني لكن وهم الناقل لأنه لم يقل أحد بأن الروم من أبناء قحطان وكذا اليونان ، نعم ذكر يعقوب بن إسحاق الكندي أن يونان أخو قحطان ورد عليه أبو العباس الناشئ في قصيدته حيث قال :
أبا يوسف إني نظرت فلم أجد على الفحص رأيا صح منك ولا عقدا
وصرت حكيما عند قوم إذا امرؤ بلاهم جميعا لم يجد عندهم عهدا
أتقرن إلحادا بدين محمد لقد جئت شيئا يا أخا كندة إدّا
وتخلط يونانا بقحطان ضلة لعمري لقد باعدت بينهما جدا
والمذكور في كتب التواريخ أن ملوك اليمن إلى أن غلبت الحبشة عليها من أبناء قحطان. وأورد على هذا القول في ذي القرنين أنه لم يوجد في كتب التواريخ المعتبرة سمي بن عمير بن أفريقيس في عداد ملوك اليمن والمذكور إنما هو شمر بصيغة فعل الماضي من التشمير بن أفريقيس ولم يذكروا بينه وبين أفريقيس عميرا وقد ذكر بعضهم فيه أنه ذو القرنين وقالوا : إنه يقال له شمر يرعش لارتعاش كان فيه فلعل سمي محرف عن شمر وابن عمير محرف من يرعش ، وقد ذكروا في أبيه أفريقيس أنه غزا نحو المغرب في أرض البربر حتى أتى طنجة ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم وأنه هو الذي بنى إفريقية وبه سميت وكان ملكه مائة وأربعا وستين سنة ، وفيه أنه خرج نحو العراق وتوجه نحو الصين وأنه قلع المدينة التي تسمى اليوم سمرقند وقالوا : إنها معرب شمركند وإلى ذلك يشير دعبل الخزاعي بقوله يفتخر بملوك اليمن :
هم كتبوا الكتاب بباب مرو وباب الشاس كانوا الكاتبينا
وهم سموا بشمر سمرقندا وهم غرسوا هناك النابتينا
وأنه إنما لقب بذي القرنين لذؤابتين كانتا له وكان ملكه على ما قال ابن قتيبة مائة وسبعا وثلاثين سنة وعلى ما قال المسعودي ثلاثا وخمسين سنة وعلى ما قال غيرهما سبعا وثمانين سنة ، ثم إن هذا لم يكن بأبي كرب وإنما المكنى به على ما رأيناه في بعض التواريخ أسعد بن كليكرب ويقال له تبع الأوسط ويذكر أنه آمن بنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم قبل مبعثه وفي ذلك يقول :
شهدت على أحمد أنه رسول من اللّه باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيرا له وابن عم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 350
وذكروا أنه كان شديد الوطأة كثير الغزو فمله قومه فأغروا ابنه حسان على قتله فقتله ، ولا يخفى أن كلا هذين الشخصين لا يصح أن يكون المراد بذي القرنين الذي ذكر أنه لقي إبراهيم عليه السّلام أما الأول فلأنهم ذكروا أنه ملك بعد ياسر ينعم بن عمرو وملك ياسر بعد بلقيس زوجة سليمان عليه السّلام وكان عمها فكيف يتصور أن يكون هذا ذاك مع بعد زمان ما بين إبراهيم وسليمان عليهما السّلام.
وأما الثاني فلأنه بعد هذا بكثير مع أنه لم يطلق عليه أحد ذا القرنين ولا نسب إليه غزوا في مشارق الأرض ومغاربها ورأيت في بعض الكتب أن في زمن منوجهر بن ايرج بن أفريدون بعث موسى عليه السّلام وكان ملك اليمن في زمانه شمر أبا الملوك وكان في طاعته انتهى ، وعليه أيضا لا يمكن أن يكون شمر هذا هو ذا القرنين السابق وهو ظاهر وإذا أسقطت جميع هذه الأقوال عن الاعتبار بناء على ما قيل إن أخبار ملوك اليمن مضطربة لا يكاد يوقف على روايتين متفقين فيها واعتبرت القول بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السّلام ملك منهم هو ذو القرنين بناء على حسن الظن بقائل ذلك أشكل الأمر من وجه آخر وهو أن كتب التواريخ قاطبة ناطقة بأن فريدون كان في زمان إبراهيم عليه السّلام وأنه قسم المعمورة بين بنيه الثلاثة حسبما تقدم فكيف يتسنى مع هذا القول بأن ذا القرنين رجل من ملوك اليمن كان في ذلك الزمان أيضا ، ويجيء نحو هذا الإشكال إذا قلنا إن ذا القرنين هو أحد الإسكندرين اليوناني والرومي وقلنا بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السّلام أيضا ، والحاصل أن القول بأن فريدون كان في ذلك الزمان وكان مالكا المعمورة كما في عامة تواريخ الفرس يمنع القول بأن ذا القرنين في ذلك الزمان غيره بل القول بوجود أحد الثلاثة من فريدون وذي القرنين التبعي وأحد الإسكندرين في ذلك الزمان وملكه المعمورة يمنع من القول بوجود غيره منهم في ذلك الزمان وملكه المعمورة أيضا ، واستشكل كون ذي القرنين أيا كان من هؤلاء الثلاثة في زمان إبراهيم عليه السّلام بأن نمرود كان في زمانه أيضا ، وقد جاء ملك الدنيا مؤمنان وكافران أما المؤمنان فسليمان عليه السّلام وذو القرنين وأما الكافران فنمرود وبختنصر ولا مخلص من ذلك على تقدير صحة الخبر إلا بأن يقال كان زمان إبراهيم عليه السّلام ممتدا ووقع ملكهما الدنيا متعاقبا وهو كما ترى.
ورأيت في بعض الكتب القول بأن ذا القرنين ملك نمرود وينحل به الإشكال. وقال بعضهم : الذي تقتضيه كتب التواريخ عدم صحة الخبر أو تأويله إذ ليس في شيء منها عموم ملك سليمان عليه السّلام أو ملك نمرود أو بختنصر والظاهر عدم الصحة. واستشكل أيضا كونه في ذلك الزمان بأنه لم يذكر في التوراة كما يدعيه اليهود اليوم كافة ويبعد ذلك غاية البعد على تقدير وجوده فالظاهر من عدم ذكره عدم كونه موجودا ، وأجيب بأنا لا نسلم عدم ذكره ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن اليهود قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين لأنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره اللّه تعالى في التوراة إلا في مكان واحد قال : ومن هو؟ قالوا : ذو القرنين الخبر بل الظاهر من سؤالهم أن له ذكرا في كتابهم وإنكارهم اليوم ذلك لا يلتفت إليه على أن ما ذكر في الاستشكال مجرد استبعاد ولا يخفى أنه ليس مانعا قويا ، هذا وبالجملة لا يكاد يسلم في أمر ذي القرنين شيء من الأقوال عن قيل وقال ، وكأني بك بعد الاطلاع على الأقوال وما لها وما عليها تختار أنه الإسكندر بن فليقوس غالب دارا وتدعي أنه يقال له اليوناني كما يقال له الرومي وأنه كان مؤمنا باللّه تعالى لم يرتكب مكفرا من عقد أو قول أو فعل وتقول إن تلمذته على أرسطو لا تمنع من ذلك :
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل
وقد تتلمذ الأشعري على المعتزلة ورئيس المعتزلة على الحسن ، وقد خالف أرسطو أفلاطون في أكثر المسائل وكان تلميذه ، والقول بأن أرسطو كان بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه لا يدل على اتباعه له في سائر اعتقاداته فإن ذلك على تقدير ثبوته إنما هو في الأمور الملكية لا المسائل الاعتقادية على أن الملا صدر الدين

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 351
الشيرازي ذكر أن أرسطو كان حكيما عابدا موحدا قائلا بحدوث العالم ودثوره المشار إليه بقوله تعالى : يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ وما شاع عنه في أمر العالم توهم ناشىء من عدم فهم كلامه ومثله في ذلك سائر أساطين الحكماء ولا نسلم عدم سفره نحو المغرب ولا ثبوت أن الخضر كان وزير ذي القرنين ، وإن اشتهر ليقدح عدم كونه وزيرا عنده في كونه ذا القرنين وقيل : إنه كان وزيرا عند ملك يقال له ذو القرنين أيضا لكنه غير هذا ووقع الاشتباه في ذلك ، وقيل : يمكن أن يكون عليه السّلام في جملة الحكماء الذين معه وكان كالوزير عنده لا يقدح في ذلك استشارة غيره في بعض الأمور وكان مشتهرا إذ ذاك بالحكمة دون النبوة ، وفي الأعصار القديمة كانوا يسمون النبي حكيما ولعله كان مشتهرا أيضا باسم آخر وعدم تعرض المؤرخين لشيء من ذلك لا يدل على العدم ، وقيل لا نسلم عدم التعرض بل قولهم إن الخضر كان وزير ذي القرنين قول بأنه كان وزير الإسكندر المذكور عند القائل بأنه ذو القرنين ولا يمنع من ذلك كون الخضر على الأصح نبيا والإسكندر ليس كذلك كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا عن الجمهور لأن المراد من وزارته له تدبير أموره ونصرته ولا ضرر في نصرة نبي وتدبيره أمور ملك صالح غير نبي وهو واقع في بني إسرائيل وإن لم تختر ما ذكر فإن اخترت أنه من ملوك اليمن أو إسكندر آخر يلزمك إما القول بأنه لم يكن في زمن إبراهيم عليه السّلام وإما القول بأنه كان في زمنه بعد نمرود أو معه إلا أنه تحت إمرته ولم يكن فريدون إذ ذاك ويلزمك طي الكشح عن كتب التواريخ كما يلزمك على أتم وجه لو اخترت أنه فريدون.
والأقرب عندي لإلزام أهل الملل والنحل الضالين الذين يشق عليهم نبذ كتب التواريخ وعدم الالتفات إلى ما فيها بالكلية مع كثرتها وانتشارها في مشارق الأرض ومغاربها وتباين أديان مؤلفيها واختلاف أعصارهم اختيار أنه الإسكندر بن فليفوس غالب دارا :
وما علي إذا ما قلت معتقدي دع الجهول يظن الجهل عدوانا
واليهود قاطبة على هذا لكنهم لعنهم اللّه تعالى وقعوا في الإسكندر ونسبوه أقبح نسبة مع أنهم يذكرون أنه أكرمهم حين جاء إلى بيت المقدس وعظم أحبارهم واللّه تعالى أعلم ، ثم إن السؤال ليس عن ذات ذي القرنين بل عن شأنه فكأنه قيل ويسألونك عن شأن ذي القرنين قُلْ لهم في الجواب سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً الخطاب للسائلين والهاء لذي القرنين ومن تبعيضية ، والمراد من أنبائه وقصصه ، والجار والمجرور صفة ذكرا قدم عليه فصار حالا ، والمراد بالتلاوة الذكر وعبر عنه بذلك لكونه حكاية عن جهة اللّه عز وجل أي سأذكر لكم نبأ مذكورا من أنبائه ، ويجوز أن يكون الضمير له تعالى ومن ابتدائية ولا حذف والتلاوة على ظاهرها أي سأتلو عليكم من جهته سبحانه وتعالى في شأنه ذكرا أي قرآنا ، والسين للتأكيد والدلالة على التحقق المناسب لتقدم تأييده صلّى اللّه عليه وسلّم وتصديقه بإنجاز وعده أي لا أترك التلاوة البتة كما في قوله :
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت
لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآية ما نزلت بانفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولة بما بعدها ريثما سألوه عليه الصلاة والسّلام ، وقوله تعالى : إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ شروع في تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود ، والتمكين هاهنا الأقدار وتمهيد الأسباب يقال مكنه ومكن له كنصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له وفرق بينهما بأن معنى الأول جعله قادرا ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يستعمل كل منهما في محل الآخر وهكذا إذا كان التمكين مأخوذا من المكان بناء على توهم ميمه أصلية ، والمعنى أنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار ، وقيل : تمكينه في الأرض من حيث إنه سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 352
عليه سواء وفي ذلك أثر ولا أراه يصح ، وقيل : تمكينه بالنبوة وإجراء المعجزات ، وروى
القول بنبوته أبو الشيخ في العظمة عن أبي الورقاء عن علي كرم اللّه تعالى وجهه
وإلى ذلك ذهب مقاتل ووافقه الضحاك ويعارضه ما
أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن أبي عاصم في السنة وابن مردويه من طريق أبي الفضل أن ابن الكواء سأل عليا كرم اللّه تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ قال : لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا أحب اللّه تعالى فأحبه ونصح اللّه تعالى فنصحه
، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : ذو القرنين بلغ السدين وكان نذيرا ولم أسمع بحق أنه كان نبيا ، وإلى أنه ليس بنبي ذهب الجمهور وتوقف بعضهم لما
أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال :
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما أدري أتبع كان لعينا أم لا وما أدري أذو القرنين كان نبيا أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟»
وأنت تعلم أن هذا النفي لم يكن ليستمر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيمكن أن يكون درى عليه الصلاة والسّلام فيما بعد أنه لم يكن نبيا كما يدل عليه ما روي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه فإنه لم يكن يقول ذلك إلا عن سماع ، ويشهد لذلك ما
أخرجه ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال : سئل علي كرم اللّه تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبي هو؟ فقال : سمعت نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم يقول هو عبد ناصح اللّه تعالى فنصحه
وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أراده من مهمات ملكه ومقاصده المعلقة بسلطانه سَبَباً أي طريقا يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة لا العلم فقط وإن وقع الاقتصار عليه في بعض الآثار ، ومن بيانية والمبين سببا وفي الكلام مضاف مقدر أي من أسباب كل شيء ، والمراد بذلك الأسباب العادية ، والقول بأنه يلزم على التقدير المذكور أن يكون لكل شيء أسباب لا سبب وسببان ليس بشيء ، وجوز أن يكون من تعليلية فلا تقدير واختاره بعضهم فتأمل ، واستدل بعض من قال بنبوته بالآية على ذلك وليس بشيء كما لا يخفى فَأَتْبَعَ بالقطع والفاء فصيحة والتقدير فأراد بلوغ المغرب فاتبع سَبَباً يوصله إليه ، ولعل قصد بلوغ المغرب ابتداء لأنه أقرب إليه وقيل : لمراعاة الحركة الشمسية وليس ذلك لكون جهة المغرب أفضل من جهة المشرق كما زعمه بعض المغاربة فإنه كما قال الجلال السيوطي لا قطع بتفضيل إحدى الجهتين على الأخرى لتعارض الأدلة.
وقرأ نافع وابن كثير «فاتبع» بهمزة الوصل وتشديد التاء وكذا فيما يأتي واستظهر بعضهم أنهما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد ، وقيل : إن اتبع بالقطع يتعدى لاثنين والتقدير هنا فاتبع سببا سببا آخر أو فاتبع أمره سببا كقوله تعالى :
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً [القصص : 42] ، وقال أبو عبيد اتبع بالوصل في السير وأتبع بالقطع معناه اللحاق كقوله تعالى : فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات : 10] وقال يونس : «اتبع» بالقطع للمجد المسرع الحثيث الطلب واتبع بالوصل إنما يتضمن مجرد الانتقال والاقتفاء
[سورة الكهف (18) : الآيات 86 إلى 110]
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90)
كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100)
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105)
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 353
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ووقف كما هو الظاهر على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس وفيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال على أحد الأقوال وَجَدَها أي الشمس تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة وهي الطين الأسود من حمئت البئر تحمأ حمأ إذا كثرت حمأتها.
وقرأ عبد اللّه وطلحة بن عبيد اللّه وعمرو بن العاص وابنه عبد اللّه وابن عمر ومعاوية والحسن وزيد بن علي وابن عامر وحمزة والكسائي «حامية» بالياء أي حارة ، وأنكر هذه القراءة ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أول ما سمعها ، فقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية قرأ «في عين حامية» فقال له : ما نقرؤها إلا حَمِئَةٍ فسأل معاوية عبد اللّه بن عمرو كيف تقرأها؟
فقال : كما قرأتها فقلت : في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له : أين تجد الشمس تغرب في التوراة فقال كعب : سل أهل العزيمة فإنهم أعلم بها وأما أنا فإني لم أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب ، قال ابن أبي حاضر : لو أني عند كما أيدتك بكلام تزاد به بصيرة في حَمِئَةٍ ، قال ابن عباس : وما هو؟ قلت :
قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه قد كان ذو القرنين إلى آخر الأبيات الثلاثة السابقة ومحل الشاهد قوله :
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
فقال ابن عباس : ما الخلب؟ قال : ابن أبي حاضر الطين بكلامهم فقال : فما الثأط؟ قال : الحمأة فقال : فما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 354
الحرمد؟ قال : الأسود فدعا ابن عباس غلاما فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل ولا يخفى أنه ليس بين القراءتين منافاة قطعية لجواز كون العين جامعة بين الوصفين بأن تكون ذات طين أسود وماؤها حار ولجواز كون القراءة بالياء أصلها من المهموز قلبت همزته ياء لانكسار ما قبلها وإن كان ذلك إنما يطرد إذا كانت الهمزة ساكنة كذا قيل : وتعقب بأنه يأباه ما جرى بين ابن عباس ومعاوية.
وأجيب بأنه إذا سلم صحته فمبناه السماع والتحكيم لترجيح إحدى القراءتين ، وظاهر ما سمعت ترجيح قراءة ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وكأن رجوع معاوية لقراءة ابن عباس على ما ذكره القرطبي كان لذلك. نعم ما
أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي ذر قال : كنت ردف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو على حمار فرأى الشمس حين غربت فقال : أتدري حيث تغرب؟ قلت : اللّه ورسوله أعلم قال : فإنها تغرب في عين
حامية غير مهموزة يوافق قراءة معاوية ويدل على أن فِي عَيْنٍ متعلق بتغرب كما هو الظاهر ، وقول بعض المتعسفين بأنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل وَجَدَها مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وكأن الذي دعاه إلى القول بذلك لزوم إشكال على الظاهر فإن جرم الشمس أكبر من جسم الأرض بأضعاف مضاعفة فكيف يمكن دخولها في عين ماء في الأرض ، وهو مدفوع بأن المراد وجدها في نظر العين كذلك إذ لم ير هناك إلا الماء لا أنها كذلك حقيقة وهذا كما أن راكب البحر يراها كأنها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير الشط والذي في أرض ملساء واسعة يراها أيضا كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها ، ولا يرد على هذا أنه عبر يوجد والوجدان يدل على الوجود لما أن وجد يكون بمعنى رأى كما ذكره الراغب فليكن هنا بهذا المعنى ، ثم المراد بالعين الحمئة إما عين في البحر أو البحر نفسه وتسميته عينا مما لا بأس به خصوصا وهو بالنسبة لعظمة اللّه تعالى كقطرة وإن عظم عندنا.
وزعم بعض البغدادين أن فِي بمعنى عند أي تغرب عند عين ، ومن الناس من زعم أن الآية على ظاهرها ولا يعجز اللّه تعالى شيء ، ونحن نقر بعظم قدرة اللّه عز وجل ولا نلتفت إلى هذا القول ، ومثله ما نقله الطرطوشي من أنها يبلعها حوت بل هذا كلام لا يقبله إلا الصبيان ونحوهم فإنها قد تبقى طالعة في بعض الآفاق ستة أشهر وغاربة كذلك كما في أفق عرض تسعين وقد تغيب في مقدار ساعة ويظهر نورها من قبل المشرق في بعض العروض كما في بلغاريا في بعض أيام السنة فالشمس على ما هو الحق لم تزل سائرة طالعة على قوم غاربة على آخرين بحسب آفاقهم بل قال إمام الحرمين : لا خلاف في ذلك ، ويدل على ما ذكر ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت الليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من شرقها وكذلك القمر ، وكذا ما
أخرجه ابن عساكر عن الزهري أن خزيمة بن حكيم السلمي سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن سخونة الماء في الشتاء وبرده في الصيف فقال : إن الشمس إذا سقطت تحت الأرض سارت حتى تطلع من مكانها فإذا طال الليل كثر لبثها في الأرض فيسخن الماء لذلك فإذا كان الصيف مرت مسرعة لا تلبث تحت الأرض لقصر الليل فثبت الماء على حاله باردا ،
ولا يخفى أن هذا السير تحت الأرض تختلف فيه الشمس من حيث المسامتة بحسب الآفاق والأوقات فتسامت الأقدام تارة ولا تسامتها أخرى فما أخرجه أبو الشيخ عن الحسن قال : إذا غربت الشمس دارت في فلك السماء مما يلي دبر القبلة حتى ترجع إلى المشرق الذي تطلع منه وتجري منه في السماء من شرقها إلى غربها ثم ترجع إلى الأفق مما يلي دبر القبلة إلى شرقها كذلك هي مسخرة في فلكها وكذلك القمر لا يكاد يصح. ويشكل على ما ذكر ما
أخرجه البخاري عن أبي ذر قال : كنت مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد عند غروب الشمس فقال : يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت اللّه ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 355
العرش
فذلك قوله تعالى : وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس : 38].
وأجيب بأن المراد أنها تذهب تحت الأرض حتى تصل إلى غاية الانحطاط وهي عند وصولها دائرة نصف النهار في سمت القدم بالنسبة إلى أفق القوم الذين غربت عنهم وذلك الوصول أشبه شيء بالسجود بل لا مانع أن تسجد هناك سجودا حقيقيا لائقا بها فالمراد من تحت العرش مكانا مخصوصا مسامتا لبعض أجزاء العرش وإلا فهي في كل وقت تحت العرش وفي جوفه ، وهذا مبني على أنه جسم كريّ محيط بسائر الأفلاك والفلكيات وبه تحدد الجهات وهذا قول الفلاسفة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في سورة طه ما يتعلق بذلك ، وعلى ما ذكر فالمراد بمستقرها محل انتهاء انحطاطها فهي تجري عند كل قوم لذلك المحل ثم تشرع في الارتفاع ، وقال الخطابي : يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر تحته استقرارا لا نحيط به نحن وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها انتهى ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في ذلك في سورة يس ، وبالجملة لا يلزم على هذا التأويل خروج الشمس عن فلكها الممثل بل ولا عن خارج المركز وإن اختلف قربها وبعدها من العرش بالنسبة إلى حركتها في ذلك الخارج.
نعم ورد في بعض الآثار ما يدل على خروجها عن حيزها ، فعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الشمس إذا غربت رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع ثم ينطلق بها ما بين السماء السابعة وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر حيال المشرق من سماء إلى سماء فإذا وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذلك حين تطلع الشمس وهو وإن لم تأباه قواعدنا من شمول قدرة اللّه تعالى سائر الممكنات وعدم امتناع الخرق والالتئام على الفلك مطلقا إلا أنه لا يتسنى مع تحقق غروبها عند قوم وطلوعها عند آخرين وبقائها طالعة نحو ستة أشهر في بعض العروض إلى غير ذلك مما لا يخفى فلعل الخبر غير صحيح.
وقد نص الجلال السيوطي على أن أبا الشيخ رواه بسند واه ثم إن الظاهر على رواية البخاري ورواية ابن أبي شيبة ومن معه أن أبا ذر رضي اللّه تعالى عنه سئل مرتين إلا أنه رد العلم في الثانية إلى اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم طلبا لزيادة الفائدة ومبالغة في الأدب مع الرسول عليه الصلاة والسّلام واللّه تعالى أعلم.
وَوَجَدَ عِنْدَها أي عند تلك العين على ساحل البحر قَوْماً لباسهم على ما قيل : جلود السباع وطعامهم ما لفظه البحر ، قال وهب بن منبه : هم قوم يقال لهم : ناسك لا يحصيهم كثرة إلا اللّه تعالى.
وقال أبو زيد السهيلي : هم قوم من نسل ثمود كانوا يسكنون جابرسا وهي مدينة عظيمة لها اثنا عشر بابا ويقال لها بالسريانية : جرجيسا ، وروي نحو ذلك عن ابن جريج ، وزعم ابن السائب أنه كان فيهم مؤمنون وكافرون ، والذي عليه الجمهور أنهم كانوا كفارا فخيره اللّه تعالى بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى : قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل من أول الأمر وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي أمرا ذا حسن على حذف المضاف أو على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة وذلك بالدعوة إلى الحق والإرشاد إلى ما فيه الفوز بالدرجات ومحل إن مع صلته إما الرفع على الابتداء أو على الخبر وإما النصب على المفعولية إما تعذيبك واقع أو إما أمرك تعذيبك أو إما تفعل أو توقع تعذيبك وهكذا الحال في الاتخاذ ، وقدم التعذيب لأنه الذي يستحقونه في الحال لكفرهم ، وفي التعبير - بإما أن تتخذ فيهم حسنا - دون إما أن تدعوهم مثلا إيماء إلى ترجيح الشق الثاني ، واستدل بالآية من قال بنبوته ، والقول عند بعضهم بواسطة ملك وعند آخرين كفاحا ومن لم يقل بنبوته قال : كان الخطاب بواسطة نبي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 356
في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي. وتعقب هذا بأن مثل هذا التخيير المتضمن لإزهاق النفوس لا يجوز أن يكون بالإلهام دون الإعلام وإن وافق شريعة ، ونقض ذلك بقصة إبراهيم عليه السّلام في ذبح ابنه بالرؤيا وهي دون الإلهام ، وفيه أن رؤيا الأنبياء عليهم السّلام وإلهاماتهم وحي كما بين في محله ، والكلام هنا على تقدير عدم النبوة وهو ظاهر.
وقال علي بن عيسى : المعنى قلنا يا محمد قالوا أي جنده الذين كانوا معه يا ذا القرنين فحذف القول اعتمادا على ظهور أنه ليس بنبي وهو من التكلف بمكان ، وقريب منه دعوى أن القائل العلماء الذين معه قالوه عن اجتهاد ومشاورة له بذلك ونسبه اللّه تعالى إليه مجازا ، والحق أن الآية ظاهرة الدلالة في نبوته ولعلها أظهر في ذلك من دلالة قوله تعالى : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي على نبوة الخضر عليه السّلام ، وكأن الداعي إلى صرفها عن الظاهر الأخبار الدالة على خلافها ، ولعل الأولى في تأويلها أن يقال : كان القول بواسطة نبي.
قالَ ذو القرنين لذلك النبي أو لمن عنده من خواصه بعد أن تلقى أمره تعالى مختارا للشق الأخير من شقي التخيير حسبما أرشد إليه أَمَّا مَنْ ظَلَمَ نفسه ولم يقبل دعوتي وأصر على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل ، والظاهر أنه كان بالسيف ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان عذابه أن يجعلهم في بقر من صفر ثم يوقد تحتهم النار حتى يتقطعوا فيها وهو بعيد عن الصحة ، وأتى بنون العظمة على عادة الملوك ، وإسناد التعذيب إليه لأنه السبب الآمر ، ودعوى صدور ذلك منه بالذات في غاية البعد ، وقيل : أراد من الضمير اللّه تعالى ونفسه والإسناد باعتبار الخلق والكسب وهو أيضا بعيد مع ما فيه من تشريك اللّه تعالى مع غيره في الضمير وفيه من الخلاف ما علمت ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً أي منكرا فظيعا وهو العذاب في نار جهنم ، ونصب عَذاباً على أنه مصدر يعذبه ، وقيل : تنازع فيه هو ونعذبه والمراد بالعذاب النكر نظرا إلى الأول ما روي عن السدي وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وفي قوله إِلى رَبِّهِ دون إليك دلالة على أن الخطاب السابق لم يكن بطريق الوحي إليه وإن مقاولته كانت مع النبي أو مع خواصه وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بموجب دعوتي وَعَمِلَ عملا صالِحاً حسبما يقتضيه الإيمان فَلَهُ في الدارين جَزاءً الْحُسْنى أي فله المثوبة الحسنى أو الفعلة الحسنى أو الجنة جزاء على أن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة قدم على المبتدأ اعتناء به أو منصوب بمضمر أي يجزى بها جزاء ، والجملة حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبر المتقدم عليه أو هو حال أي مجزيا بها ، وتعقب ذلك أبو الحسن بأنه لا تكاد العرب تتكلم بالحال مقدما إلا في الشعر ، وقال الفراء : هو نصب على التمييز.
وقرأ ابن عباس ومسروق «جزاء» منصوبا غير منون ، وخرج ذلك المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، وخرجه غيره على أنه حذف للإضافة والمبتدأ محذوف لدلالة المعنى عليه أي فله الجزاء جزاء الحسنى.
وقرأ عبد اللّه بن أبي إسحاق بالرفع والتنوين على أنه المبتدأ والْحُسْنى بدله والخبر الجار والمجرور.
وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع بلا تنوين ، وخرج على أنه مبتدأ مضاف ، قال أبو علي : والمراد على الإضافة جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو المراد بالحسنى الجنة والإضافة كما في دار الآخرة.
وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا أي مما نأمر به يُسْراً أي سهلا ميسرا غير شاق ، وتقديره ذا يسر وأطلق عليه المصدر مبالغة ، وقرأ أبو جعفر «يسرا» بضمتين حيث وقع هذا ، وقال الطبري : المراد من اتخاذ الحسن الأسر فيكون قد خير بين القتل والأسر ، والمعنى إما أن تعذب بالقتل وإما أن تحسن إليهم بإبقاء الروح والأسر ، وما حكي من الجواب

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 357
على هذا الوجه قيل من الأسلوب الحكيم لأن الظاهر أنه تعالى خيره في قتلهم وأسرهم وهم كفار فقال أما الكافر فيراعى فيه قوة الإسلام وأما المؤمن فلا يتعرض له إلا بما يجب.
وفي الكشف أنه روعي فيه على الوجهين نكتة بتقديم ما منّ اللّه تعالى في جانب الرحمة دلالة على أن ما منّه تابع وتتميم وما منّه في جانب العذاب رعاية لترتيب الوجود مع الترقي ليكون أغيظ ، وكأنه حمل فَلَهُ إلخ على معنى فله من اللّه تعالى إلخ وهو الظاهر ، وجوز حمل إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ على التوزيع دون التخيير ، والمعنى على ما قيل : ليكن شأنك معهم أما التعذيب. وأما الإحسان فالأول لمن بقي على حاله والثاني لمن تاب فتأمل. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا راجعا من مغرب الشمس موصلا إلى مشرقها حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ يعني الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض أي غاية الأرض المعمورة من جهة المشرق.
وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن «مطلع» بفتح اللام ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو عند المحققين مصدر ميمي والكلام على تقدير مضاف أي مكان طلوع الشمس والمراد مكانا تطلع عليه ، وقال الجوهري : إنه اسم مكان كمكسور اللام فالقراءتان متفقتان من غير تقدير مضاف ، وقد صرح بعض أئمة التصريف أن المطلع جاء في المكان والزمان فتحا وكسرا ، وما آثره المحققون مبني على أنه لم يرد في كلام الفصحاء بالفتح إلا مصدرا ولا حاجة إلى تخريج القرآن على الشاذ لأنه قد يخل بالفصاحة ، وقال أبو حيان : إن الكسر سماع في أحرف معدودة وهو مخالف للقياس فإنه يقتضي أن يكون مضارعه تطلع بكسر اللام ، وكان الكسائي يقول : هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي مطلع بكسرها في اسم الزمان والمكان على ذلك القياس انتهى فافهم ، ثم إن الظاهر من حال ذي القرنين وكونه قد أوتي من كل شيء سببا أنه بلغ مطلع الشمس في مدة قليلة ، وقيل : بلغه في اثنتي عشرة سنة وهو خلاف الظاهر إلا أن يكون أقام في أثناء سيره فإن طول المعمورة يقطعه بأقل من هذه المدة بكثير السائر على الاستقامة كما لا يخفى على العارف بالمساحة وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن جريج قال : حدثت عن الحسن عن سمرة بن جندب قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الآية لم نجعل لهم من دونها سترا بناء لم يبن فيها بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس
، وأخرج جماعة عن الحسن وذكر أنه حديث سمرة أن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غابت خرجوا يتراعون كما تراعى البهائم
،
وقيل : المراد لا شيء لهم يسترهم من اللباس والبناء ، وهم على ما قيل قوم من الزنج ، وقيل : من الهنود ، وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من أهل الأرض ، وعن بعضهم خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقالوا :
بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلبس الأخرى ومعي صاحب يعرف لسانهم فقالوا له : جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم انتهى.
وأنت تعلم أن مثل هذه الحكايات لا ينبغي أن يلتفت إليها ويعول عليها وما هي إلا أخبار عن هيان بن بيان يحكيها العجائز وأمثالهن لصغار الصبيان ، وعن وهب بن منبه أنه يقال لهؤلاء القوم منسك ، وظاهر الآية لوقوع النكرة فيها في سياق النفي يقتضي أنهم ليس لهم ما يسترهم أصلا وذلك ينافي أن يكون لهم سرب ونحوه ، وأجيب بأن ألفاظ العموم لا تتناول الصور النادرة فالمراد نفي الساتر المتعارف والسرب ونحوه ليس منه ، وأنت تعلم أن عدم التناول

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 358
أحد قولين في المسألة ، وقال ابن عطية : الظاهر أن نفي جعل ساتر لهم من الشمس عبارة عن قربها إليهم وتأثيرها بقدرة اللّه تعالى فيهم ونيلها منهم ولو كانت لهم أسراب لكان لهم ستر كثيف انتهى ، وحينئذ فالنكرة على عمومها ، وأنا أختار ذلك إلى أن تثبت صحة أحد الأخبار السابقة. كَذلِكَ خبر مبتدأ محذوف أي أمر ذي القرنين ذلك ، والمشار إليه ما وصف به قبل من بلوغ المغرب والمشرق وما فعله ، وفائدة ذلك تعظيمه وتعظيم أمره أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار ، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لوجد أي وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة أو صفة مصدر محذوف لنجعل أي لم نجعل لهم سترا جعلا كائنا كالجعل الذي لكم فيما تفضلنا به عليكم من الألبسة الفاخرة والأبنية العالية ، وفيه أنه لا يتبادر إلى الفهم أو صفة «سترا» والمعنى عليه كسابقه ، وفيه ما فيه أو صفة قَوْمٍ أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليه الشمس في الكفر والحكم أو معمول بلغ أي بَلَغَ مغربها كما بلغ مطلعها.
وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الجنود والآلات وأسباب الملك خُبْراً علما تعلق بظواهره وخفاياه ويفيد هذا على الأول زيادة تعظيم الأمر وأنه وراء ما وصف بكثير مما لا يحيط به الأعلم اللطيف الخبير ، وهو على الأخير تأويل لما قاسى في السير إلى أن بلغ فيكون المعنى وقد أحطنا بما لاقاه وحصل له في أثناء سيره خبرا أو تعظيم للسبب الموصل إليه في قوله تعالى فأتبع سببا حتى إذا بلغ أي أحطنا بما لديه من الأسباب الموصلة إلى هذا الموضع الشاسع مما لم نؤت غيره وهذا كما في الكشف أظهر من التهويل ، وعلى الثاني تتميم يفيد حسن اختياره أي أحطنا بما لديه من حسن التلقي وجودة العمل خبرا ، وعلى الثالث لبيان أنه كذلك في رأي العين وحقيقته لا يحيط بعلمها غير اللّه تعالى ، وعلى الرابع والخامس تذييل للقصة أو بالقصتين فلا يأباهما كما توهم ، وعلى السادس تتميم يؤكد أنه سن بهم سنته فيمن وجدهم في مغرب الشمس ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من مطلع الشمس إلى الشمال حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ أي الجبلين ، قال في القاموس : السد الجبل والحاجز وإطلاق السد عليه لأنه سد فجا من الأرض ، وقيل : إطلاق ذلك عليه هنا لعلاقة المجاورة وليس بذاك ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب بضم السين ، والمعنى على ما قال الكسائي واحد ، وقال الخليل ، وس : السد بالضم الاسم وبالفتح المصدر ، وقال ابن أبي إسحاق : الأول ما رأته عيناك والثاني ما لا تريانه ، وقال عكرمة وأبو عمرو ابن العلاء وأبو عبيدة : الأول ما كان من خلق اللّه تعالى لا دخل لصنع البشر فيه والثاني ما كان لصنع البشر دخل فيه ، ووجه دلالة المضموم على ذلك أنه بمعنى مفعول ولكونه لم يذكر فاعله فيه دلالة على تعينه وعدم ذهاب الوهم إلى غيره فيقتضي أنه هو اللّه تعالى ، وأما دلالة المفتوح على أنه من عمل العباد
فللاعتبار بدلالة الحدوث وتصوير أنه ها هو ذا يفعله فليشاهد ، وهذا يناسب ما فيه مدخل العباد على أنه يكفي فيه فوات ذلك التفخيم ، وأنت تعلم أن القراءة بهما ظاهرة في توافقهما وعدم ذكر الفاعل والحدوث أمران مشتركان ، وعكس بعضهم فقال : المفتوح ما كان من خلقه تعالى إذ المصدر لم يذكر فاعله والمضموم ما كان بعمل العباد لأنه بمعنى مفعول والمتبادر منه ما فعله العباد وضعفه ظاهر ، وانتصاب بَيْنَ على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف المتصرفة ما لم يركب مع آخر مثله ، وقيل : إنه ظرف والمفعول به محذوف وهو ما أراده أو نحوه ، وهذان السدان فيما يقرب من عرض تسعين من جهة الشمال وهو المراد بآخر الجر بياء في كتاب حزقيال عليه السّلام ، وقد ذكر بعض أحبار اليهود أن يأجوج ومأجوج في منتهى الشمال حيث لا يستطيع أحد غيرهم السكنى فيه وهم في زاوية من ذلك لكنهم لم يتحقق عندهم أنهم فيما يلي المشرق من الشمال أو فيما يلي المغرب منه ، وهذا موافق لما ذكرناه في موضع السدين وهو الذي مال إليه كاتب

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 359
جلبي ، وقيل : هما جبلا أرمينية وأذربيجان ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وإليه يميل صنيع البيضاوي.
وتعقب بأنه توهم ولعل النسبة إلى الحبر غير صحيحة ، وكان من يزعم ذلك يزعم أن سد ذي القرنين هو السد المشهور في باب الأبواب وهو مع استلزامه أن يكون يأجوج ومأجوج الخزر والترك خلاف ما عليه المؤرخون فإن باني ذلك السد عندهم كسرى أنوشروان ، وقيل : أسفنديار وهو أيضا لم يبق إلى الآن بل خرب من قبل هذا بكثير ، وزعم أن السد ويأجوج ومأجوج هناك وأن الكل قد تلطف بحيث لا يرى كما يراه عصرينا رئيس الطائفة المسماة بالكشفية السيد كاظم الرشتي ضرب من الهذيان وإحدى علامات الخذلان.
وقال ابن سعيد : إن ذلك الموضع حيث الطول مائة وثلاثة وستون درجة والعرض أربعون درجة ، وفيه أن في هذا الطول والعرض بلاد الخنا والجين وليس هناك يأجوج ومأجوج ، نعم هناك سد عظيم يقرب من مائتين وخمسين ساعة طولا لكنه ليس بين السدين ولا بانيه ذو القرنين ولا يكاد يصدق عليه ما جاء في وصف سده ، ويمنع من القول بذلك أيضا ما لا يخفى ، وقيل : هما بموضع من الأرض لا نعلمه وكم فيها من أرض مجهولة ولعله قد حال بيننا وبين ذلك الموضع مياه عظيمة ، ودعوى استقراء سائر البراري والبحار غير مسلمة ، ويجوز العقل أن يكون في البحر أرض نحو أمريقا لم يظفر بها إلى الآن وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود وبعد إخبار الصادق بوجود هذين السدين وما يتبعهما يلزمنا الإيمان بذلك كسائر ما أخبر به من الممكنات والالتفات إلى كلام المنكرين ناشىء من قلة الدين وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أي السدين قَوْماً أمة من الناس قيل هم الترك ، وزعم بعضهم أن القوم كانوا من الجان وهو زعم باطل لا بعيد كما قال أبو حيان.
لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا من أقوال أتباع ذي القرنين أو من أقوال من عداهم لغرابة لغتهم وبعدها عن لغات غيرهم وعدم مناسبتها لها مع قلة فطنتهم إذ لو تقاربت فهموها ولو كثرت فطنتهم فهموا ما يراد من القول بالقرائن فتعلموه ، والظاهر إبقاء القول على معناه المتبادر.
وزعم بعضهم أن الزمخشري جعله مجازا عن الفهم مطلقا أو عما من شأنه أن يقال ليشمل الإشارة ونحوها حيث قال : أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها ، وفيه نظر ، والظاهر أنه فهم من نفي يكاد إثبات الفهم لهم لكن يعسر وهو بناء على قول بعضهم : إن نفيها إثبات وإثباتها نفي وليس بالمختار.
وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي «يفقهون» من الأفعال أي لا يكادون يفهمون الناس لتلعثمهم وعدم تبيينهم الحروف قالُوا أي بواسطة مترجمهم مترجمهم فإسناد القول إليهم مجاز ، ولعل هذا المترجم كان من قوم بقرب بلادهم ، ويؤيد ذلك ما وقع في مصحف ابن مسعود قال : الذين من دونهم أو بالذات على أن يكون فهم ذي القرنين كلامهم وإفهامهم إياهم من جملة ما آتاه اللّه تعالى من الأسباب ، وقال بعضهم : لا يبعد أن يقال القائلون قوم غير الذين لا يفهمون قولا ولم يقولوا ذلك على طريق الترجمة لهم وأيد بما في مصحف ابن مسعود. وأيّا ما كان فلا منافاة بين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا.
وقالوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه السّلام وبه جزم وهب بن منبه وغيره واعتمده كثير من المتأخرين. وقال الكسائي في العرائس : إن يافث سار إلى المشرق فولد له هناك خمسة أولاد جومر وبنرش وأشار واسقويل ومياشح فمن جومر جميع الصقالبة والروم وأجناسهم ومن مياشح جميع أصناف العجم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 360
ومن أشار يأجوج ومأجوج وأجناسهم ومن اسقويل جميع الترك ومن بنرش الفقجق واليونان. وقيل : كلاهما من الترك وروي ذلك عن الضحاك ، وفي كلام بعضهم أن الترك منهم لما أخرجه ابن جرير وابن مردويه من طريق السدي من أثر قوي الترك سرية من سرايا يأجوج ومأجوج خرجت فجاء ذو القرنين فبنى السد فبقوا خارجين عنه ، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة أن يأجوج ومأجوج ثنتان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين وكانت واحدة منهم خارجة للغزو فبقيت خارجة وسميت الترك لذلك»
وقيل : يأجوج من الترك ومأجوج من الديلم ، وقيل من الجيل ، وعن كعب الأحبار أن يأجوج ومأجوج من ولد آدم عليه السّلام من غير حواء وذلك أنه عليه السّلام نام فاحتلم فامتزجت نطفته في التراب فخلق منها يأجوج ومأجوج ، ونقل النووي في فتاواه القول بأنهم أولاد آدم عليه السّلام من غير حواء عن جماهير العلماء.
وتعقب دعوى الاحتلام بأن الأنبياء عليهم السّلام لا يحتلمون ، وأجيب بأن المنفي الاحتلام بمن لا تحل لهم فيجوز أن يحتلموا بنسائهم فلعل احتلام آدم عليه السّلام من القسم الجائز ، ويحتمل أيضا أن يكون منه عليه السّلام إنزال من غير أن يرى نفسه أنه يجامع كما يقع كثيرا لأبنائه ، واعترض أيضا بأنه يلزم على هذا أنهم كانوا قبل الطوفان ولم يهلكوا به ، وأجيب بأن عموم الطوفان غير مجمع عليه فلعل القائل بذلك ممن لا يقول بعمومه وأنا أرى هذا القول حديث خرافة ، وقال الحافظ ابن حجر : لم يرد ذلك عن أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار ، ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح عليه السّلام ونوح من ذرية حواء قطعا. وكأنه عنى بالحديث غير ما
روي عن أبي هريرة مرفوعا ولد لنوح. سام وحام ويافث فولد لسام العرب وفارس والروم وولد لحام القبط والبربر والسودان وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة
فإنه صرح أنه ضعيف ، وفي التوراة في السفر الأول في الفصل العاشر التصريح بأن يأجوج من أبناء يافث. وزعم بعض اليهود أن مأجوج اسم للأرض التي كان يسكنها يأجوج وليس اسما لقبيلة وهو باطل بالنص ، والظاهر أنهما اسمان أعجميان فمنع صرفهما للعلمية والعجمة وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية وهي لغة بني أسد ووزنهما مفعول ، وبناء مفعول من ذلك مع أنه لازم لتعديه بحرف الجر.
وقيل إن كان ما ذكر منقولا فللتعدي وإن كان مرتجلا فظاهر ، وقال الأخفش : إن جعلنا ألفهم أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار ، ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فياجوج من يججت وماجوج من مججت ، وقال قطرب : في غير الهمز ماجوج فاعول من المج ويأجوج فاعول من اليج ، وقال أبو الحسن علي بن عبد الصمد السخاوي : الظاهر أنه عربي وأصله الهمز وتركه على التخفيف. وهو إما من الأجة وهو الاختلاف كما قال تعالى :
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف : 99] أو من الأج وهو سرعة العدو قال تعالى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء : 96] أو من الأجة وهي شدة الحر أو من أج الماء ياج أجوجا إذا كان ملحا مرا انتهى. وعلة منع الصرف على القول بعربيتهما العلمية والتأنيث باعتبار القبيلة.
وقرأ العجاج ورؤية ابنه «آجوج» بهزة بدل الياء. وربما يقال جوج بلا همزة ولا ياء في غير القرآن وجاء بهذا اللفظ في كتاب حزقيال عليه السّلام مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا بالقتل والتخريب وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر ، وقيل بأخذ الأقوات وأكلها. روي أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه ، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب الأوصافي أنه قال : كان فسادهم أنهم يأكلون الناس ، واستدل بإسناد مفسدون إلى يأجوج ومأجوج على أن أقل الجمع اثنان وليس بشيء أصلا فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي جعلا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 361
من أموالنا. والفاء لتفريع العرض على إفسادهم في الأرض. وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وحمزة والكسائي «خراجا» بألف بعد الراء وكلاهما بمعنى واحد كالنول والنوال.
وقيل الخرج المصدر أطلق على الخراج والخراج الاسم لما يخرج. وقال ابن الأعرابي : الخرج على الرؤوس بقال : أد خراج أرضك وقال ثعلب : الخرج أخص من الخراج. وقيل : الخرج المال يخرج مرة والخراج الخرج المتكرر وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك إداؤه عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر سدا بضم السين.
قالَ ما مَكَّنِّي بالإدغام ، وقرأ بن كثير وحميد بالفك أي الذي مكنني فِيهِ رَبِّي وجعلني فيه سبحانه مكينا قادرا من الملك والمال وسائر الأسباب خَيْرٌ أي مما تريدون أن تبذلوه إلى من الخرج فلا حاجة بي إليه فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات كزبر الحديد أو من الناس أو الأعم منهما ، والفاء لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكنه اللّه تعالى فيه من مالهم أو على عدم قبول خرجهم أَجْعَلْ جواب الأمر بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ تقديم إضافة الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج لإظهار كمال العناية بمصالحهم كما راعوه في قولهم بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي حاجزا حصينا وحجابا متينا وهو أكبر من السد وأوثق يقال : ثوب مردم أي فيه رقاع فوق رقاع ، ويقال : سحاب مردم أي متكاثف بعضه فوق بعض ، وذكر أن أصل معناه سد الثلمة بالحجارة ونحوها ، وقيل : سد الخلل مطلقا ، ومنه قول عنترة :
هل غادر الشعراء من متردم ثم أطلق على ما ذكر ، وقيل : هو والسد بمعنى ، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : هو كأشد الحجاب وعليه يكون قد وعدهم بالإسعاف بمرامهم فوق ما يرجونه وهو اللائق بشأن الملوك آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ جمع زبرة كغرف في غرفة وهي القطعة العظيمة ، وأصل الزبر الاجتماع ومنه زبرت الكتاب جمعت حروفه وزبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر ، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن زُبَرَ الْحَدِيدِ فقال : قطعة وأنشد قول كعب بن مالك :
تلظى عليهم حين شد حميها بزبر الحديد والحجارة شاجر
وطلب إيتاء الزبر لا ينافي أنه لم يقبل منهم شيئا لأن المراد من الإيتاء المأمور به الإيتاء بالثمن أو مجرد المناولة والإيصال وإن كان ما آتوه له لا إعطاء ما هو لهم فهو معونة مطلوبة ، وعلى تسليم كون الإيتاء بمعنى الإعطاء لا المناولة يقال : إن إعطاء الآلة للعمل لا يلزمه تملكها ولو تملكها لا يعد ذلك جعلا فإنه إعطاء المال لا إعطاء مثل هذا ، وينبىء عن أن المراد ليس الإعطاء قراءة أبي بكر عن عاصم «ردما ائتوني» بكسر التنوين ووصل الهمزة من أتاه بكذا إذ جاء به له وعلى هذه القراءة نصب زُبُراً بنزع الخافض أي جيئوني بزبر الحديد وتخصيص زبر الحديد بالذكر دون الصخور والحطب ونحوهما لما أن الحاجة إليها أمس إذ هي الركن القوي في السد ووجودها أعز.
وقرأ الحسن «زبر» بضم الباء كالزاي حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ في الكلام حذف أي فأتوه إياها فأخذ يبني شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو فبين مفعول ساوى وفاعله ضمير ذي القرنين ، وقيل : الفاعل ضمير السد المفهوم من الكلام أي فأتوه إياها فأخذ يسد بها حتى إذا ساوى السد الفضاء الذي بين الصدفين ويفهم من ذلك مساواة السد في العلو للجبلين ، والصدف كما أشرنا إليه جانب الجبل وأصله على ما قيل : الميل ، ونقل في الكشف أنه لا يقال للمنفرد صدف حتى يصادفه الآخر ثم قال : فهو من الأسماء المتضايفة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 362
كالزوج وأمثاله ، وقال أبو عبيدة : وهو كل بناء عظيم مرتفع ولا يخفى أنه ليس بالمراد هنا.
وزعم بعضهم أن المراد به هنا الجبل وهو خلاف ما عليه الجمهور. وقرأ قتادة سوى من التسوية.
وقرأ ابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم «سووي» بالبناء للمجهول ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن «الصدفين» بضم الصاد والدال وهي لغة حمير كما أن فتحهما في قراءة الأكثرين لغة تميم ، وقرأ أبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن «الصدفين» بضم فسكون.
وقرأ ابن جندب بفتح فسكون ، وروي ذلك عن قتادة ، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ بضم ففتح وهي قراءة أبان عن عاصم ، وقرأ الماجشون بفتح فضم.
قالَ للعملة انْفُخُوا أي بالكيران في زبر الحديد الموضوعة بين الصدفين ففعلوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي جعل المنفوخ فيه ناراً أي كالنار في الحرارة والهيئة فهو من التشبيه البليغ ، وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعل الفعلة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلة قالَ الذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها ، وقيل لأولئك النافخين قال لهم بعد أن نفخوا في ذلك حتى صار كالنار وتم ما أراده منهم أولا آتُونِي من الذين يتولون أمر النحاس أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني في باب التنازع أولى إذ لو كان قِطْراً مفعول آتُونِي لأضمر مفعول أُفْرِغْ وحذفه وإن جاز لكونه فضلة إلا أنه يوقع في لبس.
والقطر كما أشرنا إليه النحاس المذاب وهو قول الأكثرين ، وقيل : الرصاص المذاب ، وقيل : الحديد المذاب وليس بذاك ، وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه «ائتوني» بهمزة الوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإغاثة باليد عند الإفراغ ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفا ، وكذا الكلام في قوله اجعل وقوله ساوى على أحد القولين فَمَا اسْطاعُوا بحذف تاء الافتعال تخفيفا وحذرا عن تلاقي المتقاربين في المخرج وهما الطاء والتاء.
وقرأ حمزة وطلحة بإدغام التاء في الطاء وفيه جمع بين الساكنين على غير حده ولم يجوزه أبو علي وجوزه جماعة ، وقرأ الأعشى عن أبي بكر «فما اصطاعوا» بقلب السين صادا لمجاورة الطاء ، وقرأ الأعمش «فما استطاعوا» بالتاء من غير حذف والفاء فصيحة أي ففعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر أو الإتيان فأفرغ عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلا صلدا فجاء يأجوج ومأجوج وقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما اسطاعوا أَنْ يَظْهَرُوهُ «1» أي يعلوه ويرقوا فيه لارتفاعه وملاسته ، قيل : كان ارتفاعه مائتي ذراع ، وقيل : ألف وثمانمائة ذراع وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لصلابته وثخانته. قيل : وكان عرضه خمسين ذراعا وكان أساسه قد بلغ الماء وقد جعل فيه الصخر والنحاس المذاب وكانت زبر الحديد للبناء فوق الأرض ، ولا يخفى أن إفراغ القطر عليها بعد أن أثرت فيها حرارة النار حتى صارت كالنار مع ما ذكروا من أن امتداد السد في الأرض مائة فرسخ لا يتم إلا بأمر إلهي خارج عن العادة كصرف تأثير حرارة النار العظيمة عن أبدان المباشرين للأعمال وإلا فمثل تلك الحرارة عادة مما لا يقدر حيوان على أن يحوم حولها ومثل ذلك النفخ في هاتيك الزبر العظيمة الكثيرة حتى تكون نارا ، ويجوز أن يكون كل من الأمرين بواسطة آلات غريبة أو أعمال أوتيها هو أو أحد ممن معه لا يكاد أحد يعرفها اليوم ، وللحكماء المتقدمين بل والمتأخرين أعمال عجيبة يتوصلون إليها بآلات
___________
(1) قيل أي يظهروا عليه فحذف الجار وأوصل الفعل اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 363
غريبة تكاد تخرج عن طور العقل وهذا مما لا شبهة فيه فليكن ما وقع لذي القرنين من ذلك القبيل ، وقيل : كان بناؤه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فجوة أصلا.
وأخرج ابن جرير ، وابن مردوية عن أبي بكرة الشفي أن رجلا قال : يا رسول اللّه قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال : انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء ، قال : قد رأيته
، والظاهر أن الرؤية بصرية لا منامية وهو أمر غريب إن صح الخبر ، وأما ما ذكره بعضهم من أن الواثق باللّه العباسي أرسل سلاما الترجمان للكشف عن هذا السد فذهب جهة الشمال في قصة تطول حتى رآه ثم عاد ، وذكر له من أمره ما ذكر فثقات المؤرخين على تضعيفه ، وعندي أنه كذب لما فيه مما تأبى عنه الآية كما لا يخفى على الواقف عليه تفصيلا.
ولا يخفى لطف الإتيان بالتاء في استطاعوا هنا قالَ أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم هذا إشارة إلى السد ، وقيل : إلى تمكنه من بنائه والفضل للمتقدم ليتحد مرجع الضمير المتأخر أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال رَحْمَةٌ أي إثر رحمة عظيمة وعبر عنه بها للمبالغة مِنْ رَبِّي على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وكون السد رحمة على العباد ظاهر وإذا جعلت الإشارة إلى التمكن فكونه رحمة عليهم أنه سبب لذلك ، وربما يرجح المتقدم أيضا باحتياج المتأخر إلى هذا التأويل وإن كان الأمر فيه سهلا ، وفي الأخبار عنه بما ذكر إيذان على ما قيل بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بالمباشرة ، وفي التعرض لوصف الربوبية تربية معنى الرحمة ، وقرأ ابن أبي عبلة «هذه رحمة» بتأنيث اسم الإشارة وخرج على أنه رعاية للخبر أو جعل المشار إليه القدرة والقوة على ذلك فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أي وقت وعده تعالى فالكلام على حذف مضاف والإسناد إلى الوعد مجاز وهو لوقته حقيقة ، ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود وهو وقته أو وقوعه فلا حذف ولا مجاز في الإسناد بل هناك مجاز في الطرف ، والمراد من وقت ذلك يوم القيامة ، وقيل : وقت خروج يأجوج ومأجوج.
وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئه ومجيء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السّلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قال الزمخشري وغيره فإن بعض الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئه حتما جَعَلَهُ أي السد المشار إليه مع متانته ورصانته دَكَّاءَ بألف التأنيث الممدودة والموصوف مؤنث مقدر أي أرضا مستوية ، وقال بعضهم : الكلام على تقدير مضاف أي مثل دكاء وهي ناقة لا سنام لها ولا بد من التقدير لأن السد مذكر لا يوصف بمؤنث ، وقرأ غير الكوفيين دكا على أنه مصدر دككته وهو بمعنى المفعول أي مدكوكا مسوى بالأرض أو على ظاهره والوصف به للمبالغة ، والنصب على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير ، وزعم ابن عطية أنها بمعنى خلق وليس بشيء.
وهذا الجعل وقت مجيء الوعد بمجيء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته تعالى شأنه بعد بيان سعة رحمته عز وجل وكان علمه بهذا الجعل على ما قيل من توابع علمه بمجيء الساعة إذ من مبادئها دك الجبال الشامخة الراسخة ضرورة أنه لا يتم بدونها واستفادته العلم بمجيئها ممن كان في عصره من الأنبياء عليهم السّلام ، ويجوز أن يكون العلم بجميع ذلك بالسماع من النبي وكذا العلم بمجيء وقت خروجهم على تقدير أن يكون ذلك مرادا من الوعد يجوز أن يكون عن اجتهاد ويجوز أن يكون عن سماع.
وفي كتاب حزقيال عليه السّلام الاخبار بمجيئهم في آخر الزمان من آخر الجر بياء في أمم كثيرة لا يحصيهم إلا اللّه تعالى وإفسادهم في الأرض وقصدهم بيت المقدس وهلاكهم عن آخرهم في بريته بأنواع من العذاب وهو عليه السّلام قبل إسكندر غالب دارا فإذا كان هو ذا القرنين فيمكن أن يكون وقف على ذلك فأفاده علما بما ذكر واللّه تعالى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 364
أعلم ، ثم إن في الكلام حذفا أي وهو يستمر إلى آخر الزمان فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وَكانَ وَعْدُ رَبِّي أي وعده سبحانه المعهود أو كل ما وعد عز وجل به فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا حَقًّا ثابتا لا محالة واقعا البتة وهذه الجملة تذييل من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية وتأكيد لمضمونها وهو آخر ما حكي من قصته ، وقوله عز وجل وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ كلام مسوق من جنابه سبحانه وتعالى وضمير الجمع المجرور عند بعض المحققين للخلائق ، والترك بمعنى الجعل وهو من الأضداد ، والعطف على قوله تعالى : جَعَلَهُ دَكًّا وفيه تحقيق لمضمونه ، ولا يضر في ذلك كونه محكيا عن ذي القرنين أي جعلنا بعض الخلائق يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ جاء الوعد بمجيء بعض مبادئه يَمُوجُ فِي بَعْضٍ آخر منهم ، والموج مجاز عن الاضطراب أي يضطربون اضطراب البحر يختلط إنسهم وجنهم من شدة الهول وروي هذا عن ابن عباس ، ولعل ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى ، وقيل : الضمير للناس والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ جاء الوعد بخروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر لفزعهم منهم وفرارهم وفيه بعد وقيل : الضمير للناس أيضا ، والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ تم السد يموج في بعضهم للنظر إليه والتعجيب منه ولا يخفى أن هذا يتعجب منه.
وقال أبو حيان : الأظهر كون الضمير ليأجوج ومأجوج أي وتركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم حين يخرجون من السد مزدحمين في البلاد وذلك بعد نزول عيسى عليه السّلام ،
ففي صحيح مسلم من حديث النواس ابن سمعان بعد ذكر الدجال وهلاكه بباب لد على يده عليه السّلام ثم يأتي عيسى عليه السّلام قوما قد عصمهم اللّه تعالى من الدجال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هم كذلك إذ أوحى اللّه تعالى إلى عيسى عليه السّلام أني قد أخرجت عبادا لي لإيذان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث اللّه تعالى يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم ويضمون إليهم مواشيهم فيشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا حتى إن من يمر من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان هاهنا ماء مرة ويحصر عيسى نبي اللّه وأصحابه حتى يكون رأس الثور ورأس الحمار لأحدهم خيرا من مائة دينار
وفي رواية مسلم وغيره فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض هلم نقتل من في السماء فيرمون نشابهم إلى السماء فيردها اللّه تعالى عليهم مخضوبة دما للبلاء والفتنة فيرغب نبي اللّه وأصحابه إلى اللّه تعالى فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى
، وفي رواية داود كالنغف في أعناقهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة لا يسمع لهم حس فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد وطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن اللّه عز وجل قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مداينهم وحصونهم فيسرحون مواشيهم فما يكون لها مرعى إلا لحومهم فتشكر أحسن ما شكرت عن شيء ويهبط نبي اللّه عيسى عليه السّلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون فيها موضع شبر إلا ملاءه زهمهم ونتنهم فيستغيثون باللّه تعالى فيبعث اللّه سبحانه ريحا يمانية غبراء فتصير على الناس غما ودخانا ويقع عليهم الزكمة ويكشف ما بهم بعد ثلاثة أيام وقد قذفت الأرض جيفهم في البحر ، وفي رواية فيرغب نبي اللّه عيسى عليه السّلام وأصحابه إلى اللّه عز وجل فيرسل طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء اللّه تعالى ، وفي رواية فترميهم في البحر - وفي أخرى في النار
ولا منافاة كما يظهر بأدنى تأمل - ثم يرسل اللّه عز وجل مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض : انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ويوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين ، ولعل اللّه تعالى يحفظ ذلك في الأودية ومواضع السيول زيادة في سرور

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 365
المسلمين أو يحفظها حيث هلكوا ولا يلقيها معهم حيث شاء ولا يعجز اللّه تعالى شيء ، والحديث يدل على كثرتهم جدا ، ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا أن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم من صلبه ألفا من الذرية
. وحمله بعضهم على طول العمر.
وفي البحر أنه قد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء. وأعجب ما روي في ذلك قول مكحول الأرض مسيرة مائة عام ثمانون منها يأجوج ومأجوج وهي أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة لا تشبه أمة الأخرى وهو قول باطل ، ومثله ما روي عن أبي الشيخ عن أبي أمامة الدنيا سبعة أقاليم فليأجوج ومأجوج ستة وللباقي إقليم واحد وهو كلام من لا يعرف الأرض ولا الأقاليم. نعم أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق البكالي عن ابن عمر أن اللّه تعالى جزأ الإنس عشرة أجزاء فتسعة منهم يأجوج ومأجوج وجزء سائر الناس إلا أني لم أقف على تصحيحه لغير الحاكم وحكم تصحيحه مشهور ويعلم مما تقدم ومما سيأتي إن شاء اللّه تعالى بطلان ما يزعمه بعض الناس من أنهم التتار الذين أكثروا الفساد في البلاد وقتلوا الأخيار والأشرار. ولعمري إن ذلك الزعم من الضلالة بمكان وإن كان بين يأجوج ومأجوج وأولئك الكفرة مشابهة تامة لا تخفى على الواقفين على أخبار ما يكون وما كان أبطال ما يزعمه بعض الناس من أنهم التتار وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الظاهر أن المراد النفخة الثانية لأنه المناسب لما بعد. ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى لأنها داهية عامة ليس فيها حالة مختصة بالكفار ، وقيل :
لئلا يقع الفصل بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة.
والصور قرن جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول. وقد صح عن أبي سعيد الخدري أنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنا جبينه وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ».
وزعم أبو عبيدة أنه جمع صورة وأيد بقراءة الحسن «الصّور» بفتح الواو فيكون لسورة وسور ورد ذلك أظهر من أن يخفى ، ولذلك قال أبو الهيثم على ما نقل عنه الإمام القرطبي : من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات. وذكر أن الأمم مجمعة على أن النافخ فيه إسرافيل عليه السّلام فَجَمَعْناهُمْ أي الخلائق بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء جَمْعاً أي جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أظهرناها وأبرزناها يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة لِلْكافِرِينَ منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا عَرْضاً أي عرضا فظيعا هائلا لا يقادر قدره. وتخصيص العرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ وهم في الدنيا فِي غِطاءٍ كثيف وغشاوة غليظة محاطة بذلك من جميع الجوانب عَنْ ذِكْرِي عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكرى بالتوحيد والتمجيد. فالذكر مجاز عن الآيات المذكورة من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب. وفيه أن من لم ينظر نظرا يؤدي به إلى ذكر التعظيم كأنه لا نظر له البتة وهذا فائدة التجوز.
وقيل : الكلام على حذف مضاف أي عن آيات ذكرى وليس بذاك ، ويجوز أن يكون المراد بالأعين البصائر القلبية ، والمعنى كانت بصائرهم في غطاء عن أن يذكروني على وجه يليق بشأني أو عن ذكرى الذي أنزلته على الأنبياء عليهم السّلام ، ويجوز أن يخص بالقرآن الكريم وَكانُوا مع ذلك لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً نفي لسماعهم على أتم وجه ولذا عدل عن وكانوا صما الأخصر إليه. والمراد أنهم مع ذلك كفاقدي حاسة السمع بالكلية وهو مبالغة في تصوير إعراضهم عن سماع ما يرشدهم إلى ما ينفعهم بعد تصوير تعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار فلا حاجة إلى تقدير لذكرى المراد منه القرآن أو مطلق الشرائع الإلهية فإنه بعد تخصيص الذكر المذكور في النظم الكريم أولا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 366
بالآيات المشاهدة لا يصير قرينة على هذا الحذف. قال ابن هشام في المغني : إن الدليل اللفظي لا بد من مطابقته للمحذوف معنى فلا يصح زيد ضارب وعمرو أي ضارب على أن الأول بمعناه المعروف والثاني بمعنى مسافر. وتقدير ذلك وإرادة معنى الآيات منه مجازا لتحقق الآيات في ضمن الكلام المعجز لا يخفى حاله وحال إرادة الآيات ثم إرادة الكلام المعجز منها مجازا بعد المجاز أظهر ، وقال بعض المحققين : إن تقدير ذلك إنما هو بقرينة قوله تعالى سمعا وأن الكافرين هذا حالهم لا بقرينة ذكر الذكر قبل ليجيء كلام ابن هشام ، ولا يخفى أنه لا كلام في تقدير الذكر بمعنى القرآن أو الشرائع الإلهية إذا أريد من الذكر المذكور ذلك. والمصول نعت الكافرين أو بدل منه أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كفروا بي كما يعرب عنه قوله تعالى عِبادِي والحسبان بمعنى الظن ، وقد قرأ عبد اللّه «أفظن» والهمزة للإنكار والتوبيخ على معنى إنكار الواقع واستقباحه ، والفاء للعطف على مقدر يفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ وإلى المعطوفين جميعا على ما اختاره شيخ الإسلام. والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي من الملائكة وعيسى ونحوهم عليهم السّلام من المقربين كما تشعر به الإضافة فإن الأكثر أن تكون في مثل هذا اللفظ لتشريف المضاف.
واقتصر قتادة في المراد من ذلك على الملائكة ، والظاهر إرادة ما يعمهم وغيرهم ممن ذكرنا واختاره أبو حيان وغيره ، وروي عن ابن عباس أن المراد منه الشياطين وفيه بعد ولعل الرواية لا تصح. وعن مقاتل أن المراد الأصنام وهو كما ترى ، وجوز بعض المحققين أن يراد ما يعم المذكورين والأصنام وسائر المعبودات الباطلة من الكواكب وغيرها تغليبا ، ولعل المقام يقتضي أن لا تكون الإضافة فيه للتشريف أي أفظنوا أن يتخذوا عبادي الذين هم تحت ملكي وسلطاني مِنْ دُونِي أي مجاوزين لي أَوْلِياءَ أي معبودين أو أنصارا لهم من بأسي ، وما في حيز صلة أن قيل ساد مسد مفعولي حسب أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياء. وكان مصب الإنكار أنهم يتخذونهم كذلك إلا أنه أقحم الحسبان للمبالغة ، وقيل : المراد ما ذكر على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لما أنه إنما يكون من الجانبين والمتخذون بمعزل عن ولايتهم لقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم ، وقيل : إن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أول لحسب والمفعول الثاني محذوف أي أفحسبوا اتخاذهم نافعهم أو سببا لرفع العذاب عنهم أو نحو ذلك. وهو مبني على تجويز حذف أحد المفعولين في باب علم وهو مذهب بعض النحاة ، وتعقب بأن فيه تسليما لنفس الاتخاذ واعتدادا به في الجملة والأولى ما خلا عن ذلك.
هذا وفي الكشف أن التحقيق أن قوله تعالى : فَحَسِبَ معطوف على كانت وكانوا دلالة على أن الحسبان ناشىء عن التعامي والتصام وأدخل عليه همزة الإنكار ذما على ذم وقطعا له عن المعطوف عليهما لفظا لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكد للذم كأنه قيل لا يزيلون ما بهم من مرضى الغشاوة والصمم ويزيدون عليهما الحسبان المترتب عليهما. وقوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا من وضع الظاهر مقام المضمر زيادة للذم انتهى. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر إلى قوله كأنه قيل إلخ أنه يأبى ذلك ترك الإضمار والتعرض لوصف آخر غير التعامي والتصام على أنهما أخرجا مخرج الأحوال الجبلية لهم ولم يذكرا من حيث إنهما من أفعالهم الاختيارية الحادثة كحسبانهم ليحسن تفريعه عليهما. وأيضا فإنه دين قديم لهم لا يمكن جعله ناشئا عن تصامهم عن كلام اللّه عز وجل. وتخصيص الإنكار بحسبانهم المتأخر عن ذلك تعسف لا يخفى انتهى ، ولا يخلو عن بحث فتأمل.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وزيد بن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهم والشافعي عليه الرحمة ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة ومسعود بن صالح

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 367
وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما أَفَحَسِبَ بإسكان السين وضم الباء مضافا إلى الذين وخرج ذلك على أن حسب مبتدأ وهو بمعنى محسب أي كافي وأَنْ يَتَّخِذُوا خبره أي أفكافيهم اتخاذهم عبادي من دوني أولياء. وفيه دلالة على غاية الذم لأنه جعل ذلك مجموع عدتهم يوم الحساب وما يكتفون به عن سائر العقائد والفضائل التي لا بد منها للفائز في ذلك اليوم. وجعل الزمخشري المصدر المتحصل من أن والفعل فاعلا لحسب لأنه اعتمد على الهمزة واسم الفاعل إذا اعتمد ساوى الفعل في العمل ، واعترض عليه أبو حيان بأن حسب مؤول باسم الفاعل وما ذكر مخصوص بالوصف الصريح. ثم أشار إلى جوابه بأن سيبويه أجاز في مررت برجل خير منه أبوه وبرجل سواء عليه الخير والشر وبرجل أب له صاحبه وبرجل إنما رجل هو وبرجل حسبك من رجل الرفع بالصفات المؤولة ، وذكر أنهم أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة وحينئذ فلا كلام فيما ذكر الزمخشري إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ أي هيأناها وهو ظاهر في أنها مخلوقة اليوم لِلْكافِرِينَ المعهودين عدل عن الإضمار ذما لهم وإشعارا بأن ذلك الاعتداد بسبب كفرهم المتضمن لحسبانهم الباطل نُزُلًا أي شيئا يتمتعون به عند ورودهم وهو ما يقام به للنزيل أي الضيف مما حضر من الطعام واختار هذا جماعة من المفسرين. وفي ذلك على ما قيل تخطئة لهم في حسبانهم وتهكم به حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء من قبيل اعتاد العتاد وإعدادا لزاد ليوم المعاد فكأنه قيل إنا اعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر جهنم عدة ، وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هي أنموذج له ، ولا يأبى ذلك قوله تعالى جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ لأن المراد هناك أنها جزاؤهم بما فيها فافهم ، وقال الزجاج : النزل موضع النزول ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقيل : هو جمع نازل ونصبه على الحال.
وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه «نزلا» بسكون الزاي قُلْ يا محمد هَلْ نُنَبِّئُكُمْ خطاب للكفرة ، وإذا حمل الاستفهام على الاستئذان كان فيه من التهكم ما فيه ، والجمع في صيغة المتكلم قيل لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضا بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا نصب على التمييز ، وجمع مع أن الأصل في التمييز الإفراد والمصدر شامل للقليل والكثير كما ذكر ذلك النحاة للإيذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها ، وقيل :
جمع لأن ما ذكره النحاة إنما هو إذا كان المصدر باقيا على مصدريته أما إذا كان مؤولا باسم فاعل فإنه يعامل معاملته وهنا عمل بمعنى عامل فجمع على أعمال والمراد عاملين والصفة تقع تمييزا نحو للّه تعالى دره فارسا ، وزعم بعضهم أن أعمالا جمع عامل ، وتعقب بأن جمع فاعل على أفعال نادر وقد أنكره بعض النحاة في غير ألفاظ مخصوصة كأشهاد جمع شاهد ، وقيل : جمع عمل ككتف بمعنى ذو عمل كما في القاموس وهو كما ترى ، وزعم بعض المتأخرين أنه إذا اعتبر أعمالا بمعنى عاملين كان الأخسرين بمعنى الخاسرين لأن التمييز إذا كان صفة كان عبارة عن المنتصب عنه متحدا معه بالذات محمولا عليه بالمواطأة حتى إن النحاة صرحوا بأنه تجعل الحال أيضا وهو خبر عن ذي الحال معنى ومن البين أن أفعل التفضيل يمتنع أن يتحد مع اسم الفاعل لمكان الزيادة فحيث وقع اسم الفاعل تمييزا وانتصب بأفعل وجب أن يكون بمعنى فاعل ليتحدا ، وتعقبه بعضهم بأن أفعل لا يكون مع اللام مجردا عن معنى التفضيل كما أنه لا يكون مجردا عنه مع الإضافة وإنما يكون ذلك إذا كان مع من كما صرح به ابن مالك في التسهيل وذكره الرضي ، ولا يخفى عليك ما في جميع ذلك من النظر ، والحق أن الجمعية ليست إلا لما ذكر أولا ، نعم ذكر أبو البقاء أنه جمع لكونه منصوبا على أسماء الفاعلين وأول ذلك بأنه أراد باسم الفاعل المعنى اللغوي وأراد أنه جمع ليفيد التوزيع على أنه لا يخلو عن شيء ، ثم إن هذا على ما في إرشاد العقل السليم بيان لحال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها وفي حسبانهم أيضا حيث كانوا معجبين بها واثقين بنيل ثوابها ومشاهدة آثارها غب بيان أحوالهم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 368
باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها مع كونها حسنة في حسبانهم الَّذِينَ ضَلَّ أي ضاع وبطل بالكلية عند اللّه عز وجل سَعْيُهُمْ في إقامة تلك الأعمال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بسعي لا بضل لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا.
قيل : المراد بهم أهل الكتابين وروي ذلك عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص ومجاهد ويدخل في الأعمال حينئذ ما عملوه من الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات ، وقيل : الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة ، وقيل الصابئة ، وسأل ابن الكواء عليا كرم اللّه تعالى وجهه عنهم فقال : منهم أهل حروراء يعني الخوارج
، واستشكل بأن قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ يأباه لأنهم لا ينكرون البعث وهم غير كفرة ، وأجيب بأن من اتصالية فلا يلزم أن يكونوا متصلين بهم من كل الوجوه بل يكفي كونهم على الضلال مع أنه يجوز أن يكون كرم اللّه تعالى وجهه معتقدا لكفرهم ، واستحسن أنه تعريض بهم على سبيل التغليظ لا تفسير للآية ، والمذكور
في مجمع البيان أن العياشي روى بسنده أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين كرم اللّه تعالى وجهه عن أهل هذه الآية فقال : أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد
، وهذا يؤيد الجواب الأول ، وأخبر أن المراد ما يعم سائر الكفرة ، ومحل الموصول الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جواب للسؤال كأنه قيل من هم؟ فقيل الذين إلخ ، وجوز أن يكون في محل جر عطف بيان على (الأخسرين) وجوز أن يكون نعتا أو بدلا وأن يكون منصوبا على الذم على أن الجواب ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من قوله سبحانه أُولئِكَ الَّذِينَ إلخ.
وتعقب بأنه يأبى ذلك أن صدره ليس منبئا عن خسران الأعمال وضلال السعي كما يستدعيه مقام الجواب والتفريع الأول وإن دل على هبوطها لكنه ساكت عن أنباء بما هو العمدة في تحقيق معنى الخسران من الوثوق بترتب الربح واعتقاد النفع فيما صنعوا على أن التفريع الثاني مما يقطع ذلك الاحتمال رأسا إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمر بقضية نون العظمة والجواب عن ذلك لا يتم إلا بتكلف فتأمل وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي أي يعتقدون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها ، والجملة حال من فاعل ضَلَّ أي ضل سعيهم المذكور والحال أنهم يحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه في سَعْيُهُمْ لكونه في محل الرفع أي بطل سعيهم والحال أنهم إلخ ، والفرق بين الوجهين أن المقارن لحال حسبانهم المذكور في الأول ضلال سعيهم ، وفي الثاني نفس سعيهم قيل ، والأول أدخل في بيان خطئهم ، ولا يخفى ما بين يحسبون ويحسنون من تجنيس التصحيف ومثل ذلك قول البحتري :
ولم يكن المغتر باللّه إذ سرى ليعجز والمعتز باللّه طالبه
أُولئِكَ كلام مستأنف من جنابه تعالى مسوق لتكميل تعريف الأخسرين وتبيين خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين غير داخل تحت الأمر كما قيل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي والحسبان المذكور الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بدلائله سبحانه الداعية إلى التوحيد الشاملة للسمعية والعقلية ، وقيل : بالقرآن والأول أولى ، والتعرض لعنوان الربوبية لزيادة تقبيح حالهم في الكفر المذكور وَلِقائِهِ هو حقيقة في مقابلة الشيء ومصادفته وليس بمراد ، والأكثرون على أنه كناية عن البعث والحشر وما يتبع ذلك من أمور الآخرة أي لم يؤمنوا بذلك على ما هو عليه ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي لقاء عذابه تعالى وليس بذاك

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 369
فَحَبِطَتْ بكسر الباء ، وقرأ ابن عباس وأبو السمال بفتحها ، والفاء للتفريع أي فحبطت لذلك أَعْمالُهُمْ المعهودة حبوطا كليا فَلا نُقِيمُ لَهُمْ أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي فنزدري بهم ونحتقرهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا لأن مدار الاعتبار والاعتناء الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراء والاحتقار من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزية الكفر فسيجيء إن شاء اللّه تعالى بعد ذلك ، وزعم بعضهم أن حقه على هذا أن يعطف بالواو عطف أحد المتفرعين على الآخر لأن منشأ ازدرائهم الكفر لا الحبوط وبه اعترض على ذلك وهو ناشىء من فرط الذهول كما لا يخفى أو لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا لأنها قد حبطت وصارت هباء منثورا. ونفي هذا بعد الإخبار بحبوطها من قبيل التأكيد بخلاف النفي على المعنى الأول ولذلك رجح عليه وليس من الاعتزال في شيء ، وقرأ مجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله تعالى : بِآياتِ رَبِّهِمْ وعن عبيد أيضا فلا يقيم بفتح ياء المضارعة كأنه جعل قام متعديا ، وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن على أن يقوم مضارع قام اللازم و«وزن» فاعله.
ذلِكَ بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك. وقوله عز وجل جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مفسرة له فلا محل لها من الإعراب ، وجوز أن يكون ذلِكَ مبتدأ وجَزاؤُهُمْ بدل منه بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن كانت الإشارة إلى الجزاء الذي في الذهن وجَهَنَّمُ خبره. والتذكير وإن كان الخبر مؤنثا لأن المشار إليه الجزاء ولأن الخبر في الحقيقة للبدل. وأن يكون ذلِكَ مبتدأ وجَزاؤُهُمْ خبره وجَهَنَّمُ عطف بيان للخبر والإشارة إلى جهنم الحاضرة في الذهن ، وأن يكون مبتدأ وجَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر خبر له والعائد محذوف والإشارة إلى كفرهم وأعمالهم والتذكير باعتبار ما ذكر أي ذلك جزاؤهم به جهنم ، وتعقب بأن العائد المجرور إنما يكثر حذفه في مثل ذلك إذا جر بحرف بتبعيض أو ظرفية أو جر عائد قبله بمثل ما جر به كقوله : فالذي تدعي به أنت مفلح. أي به. وجوز أبو البقاء أن يكون ذلِكَ مبتدأ وجَزاؤُهُمْ بدل أو عطف بيان وجَهَنَّمُ بدل من جزاء أو خبر مبتدأ محذوف أي هو جهنم وقوله تعالى : بِما كَفَرُوا خبر ذلِكَ وقال بعد أن ذكر من وجوه الإعراب ما ذكر : إنه لا يجوز أن يتعلق الجار بجزاؤهم للفصل بينهما بجهنم ، وقيل : الظاهر تعلقه به ولا يضر الفصل في مثل ذلك. وهو تصريح بأن ما ذكر جزاء لكفرهم المتضمن لسائر القبائح التي أنبأ عنها قوله تعالى المعطوف على كفروا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً أي مهزوا بهما فإنهم لم يقنعوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل عليهم السّلام بل ارتكبوا مثل تلك العظيمة أيضا.
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر ، والمراد من الآيات قيل المعجزات الظاهرة على أيدي الرسل عليهم السّلام والصحف الإلهية المنزلة عليهم الصلاة والسّلام إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة أثر بيان مآلهم بطريق الوعيد أي إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من حكم اللّه تعالى ووعده فالمضي باعتبار ما ذكر. وفيه على ما قال شيخ الإسلام إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الرأفة الأزلية بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلا فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم ، وقيل : يجوز أن يكون ما وعدوا به لتحققه نزل منزلة الماضي فجيء بكان إشارة إلى ذلك. ولم يقل اعتدنا لهم كما قيل فيما مر للإشارة إلى أن أمر الجنات لا يكاد يتم بل لا يزال ما فيها يزداد فإن اعتاد الشيء وتهيئته يقتضي تمامية أمره وكماله ، وقد جاء في الآثار أنه يغرس للمؤمن بكل تسبيحة يسبحها شجرة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 370
في الجنة ، وقيل : التعبير بما ذكر أظهر في تحقق الأمر من التعبير بالاعتاد ألا ترى أنه قد تهيأ دار لشخص ولا يسكنها ولا يخلو عن لطف فافهم.
جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أخرج ابن المنذر وإن أبي حاتم عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا ، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن عبد اللّه بن الحارث أن ابن عباس سأل كعبا عن الفردوس فقال : جنة الأعناب بالسريانية ، وقال عكرمة : هي الجنة بالحبشية ، وقال القفال : هي الجنة الملتفة بالأشجار ، وحكى الزجاج أنها الأودية التي تنبت ضروبا من النبات ، وقال المبرد : هي فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب ، ونص الفراء على أنه عربي أيضا ومعناه البستان الذي فيه كرم وهو مما يذكرّ ويؤنث ، وزعم بعضهم أنها لم تسمع في كلام العرب إلا في قول حسان :
وإن ثواب اللّه كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد
وهو لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس ثم الفوم والبصل
وجاء في شعر جرير في أبيات يمدح بها خالد بن عبد اللّه القسري حيث قال :
وإنا لنرجو أن نرافق رفقة يكونون في الفردوس أول وارد
ومما سمعه أهل مكة قبل إسلام سعد قول هاتف :
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على اللّه في الفردوس منية عارف
والحق أن ذكرها في شعر الإسلاميين كثير وفي شعر الجاهليين قليل ، وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا سألتم اللّه تعالى فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنها تفجر أنهار الجنة»
وعن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض والفردوس أعلى الجنة فإذا سألتم اللّه تعالى فاسألوه الفردوس
، وروي عن كعب أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر
. وصح أن أهل الفردوس ليسمعون أطيط العرش.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري مرفوعا الفردوس مقصورة الرحمن
وكل ذلك لا ينافي كون الفردوس في اللغة البستان كما توهم إذ لا مانع من أن يكون أعلى الجنة بستانا لكنه لكونه في غاية السعة أطلق على كل قطعة منه جنة فقيل جنات الفردوس كذا قيل. واستشكل بأن الآية حينئذ تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس المشتمل على جنات وهذا لا يصح على القول بأن الفردوس أعلى الدرجات إذ لا شبهة في تفاوت مراتبهم ، وكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات طائفة مخصوصة من مطلق المؤمنين مع كونه في مقابلة الكافرين ليس بشيء.
وقال أبو حيان : الظاهر أن معنى جنات الفردوس بساتين حول الفردوس ولذا أضيفت الجنات إلى الفردوس. وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لما أن الآية حينئذ تفيد أن جميع المؤمنين في جنات الفردوس ومن المعلوم أن منهم من هو في الفردوس. وقيل : الأمر كما ذكر أبو حيان إلا أنه يلتزم الاستخدام في الآية بأن يراد مطلق الجنات فيما بعد ، وفيه مع كونه خلاف الظاهر ما لا يخفى.
وقيل المراد من جنات الفردوس جميع الجنات والإضافة إلى الفردوس التي هي أعلاها باعتبار اشتمالها عليها ويكفي في الإضافة هذه الملابسة ، ولعلك تختار أن الفردوس في الآثار بمعنى وفي الآية بمعنى آخر وتختار من معانيه ما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 371
تكلف في الإضافة فيه كالشجر الملتف ونحوه ، وظاهر بيت حسان وبيت أمية شاهد على أن للفردوس معنى غير ما جاء في الآثار فليتدبر. واعلم أنه استشكل أيضا ما جاء من أمر السائل بسؤال الفردوس لنفسه مع كونه أعلى الجنة
بخبر أحمد عن أبي هريرة مرفوعا «إذا صليتم علي فاسألوا اللّه تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو»
وأجيب بأنه لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها أعلى من بعض وتكون الوسيلة عبارة عن أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنان ، ونظير ذلك ما قيل في حد الإعجاز فتذكر ، وقيل المراد من الدرجة في حديث الوسيلة درجة المكانة لا المكان بخلافها فيما تقدم فلا إشكال ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من قوله تعالى نُزُلًا أو على أنه بيان كما في سعيا لك وخبر كان في الوجهين نُزُلًا أو على أنه الخبر ونُزُلًا من حال من جَنَّاتُ فإن جعل بمعنى ما يهيأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس نزلا أو جعلت نفس الجنات نزلا مبالغة في الإكرام وفيه إيذان بأنها عند ما أعد اللّه تعالى لهم على لسان النبوة من
قوله تعالى «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة ، وإن جعلت بمعنى المنزل فالمعنى ظاهر خالِدِينَ فِيها نصب على الحالية وهي مقدرة عند البعض وحقق أنها حال مقارنة والمعتبر في المقارنة زمان الحكم وهو كونهم في الجنة وهم بعد حصولهم فيها مقارنون له إذ لا آخر له فتأمل ولا تغفل لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا هو - كما قال ابن عيسى وغيره - مصدر كالعوج والصغر والعود في قوله :
عادني حبها عودا أي لا يطلبون عنها تحولا إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم وأرفع منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم وتطمح عنه أبصارهم وإن تفاوتت درجاتهم ، والحاصل أن المراد من عدم طلب التحول عنها كونها أطيب المنازل وأعلاها ، وقال ابن عطية : كأنه اسم جمع وكأن واحده حوالة ولا يخفى بعده ، وقال الزجاج عن قوم : هو بمعنى الحيلة في التنقل وهو ضعيف متكلف ، وجوز أن يراد نفي التحول والانتقال على أن يكون تأكيدا للخلود لأن عدم طلب الانتقال مستلزم للخلود فيؤكده أو لأن الكلام على حد ولا ترى الضب بها ينجحر أي لا يتحولون عنها فيبغوه ، وقيل في وجه التأكيد : إنهم إذا لم يريدوا الانتقال لا ينتقلون لعدم الإكراه فيها وعدم إرادة النقلة عنها فلم يبق إلا الخلود إذ لا واسطة بينهما كما قيل ، والجملة حال من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فتكون حالا متداخلة ، وفيها إيذان بأن الخلود لا يورثهم مللا قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ أي جنس البحر مِداداً هو في الأصل اسم لكل ما يمد به الشيء واختص في العرف لما تمد به الدواة من الحبر لِكَلِماتِ رَبِّي أي معدا لكتابة كلماته تعالى ، والمراد بها كما روي عن قتادة معلوماته سبحانه وحكمته عز وجل لَنَفِدَ الْبَحْرُ مع كثرته ولم يبق منه شيء لتناهيه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي لعدم تناهيها وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً عونا وزيادة لأن مجموع المتناهيين متناه بل جميع ما يدخل في الوجود على التعاقب أو الاجتماع متناه ببرهان التطبيق وغيره من البراهين ، وهذا كلام من جهته تعالى شأنه غير داخل في الكلام الملقن جيء به لتحقيق مضمونه وتصديق مدلوله على أتم وجه ، والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته تعالى لو لم نجىء بمثله مددا ولو جئنا بمثله مددا ، والكلام في جواب لَوْ مشهور وليس قوله تعالى قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ للدلالة على أن ثم نفادا في الجملة محققا أو مقدرا لأن المراد منه لنفد البحر وهي باقية إلا أنه عدل إلى المنزل لفائدة المزاوجة وإن ما لا ينفد عند العقول العامية ينفد دون نفادها وكلما فرضت من المد فكذلك والمثل للجنس شائع على أمثال كثيرة تفرض كل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 372
منها مددا ، وهذا كما في الكشف أبلغ من وجه من قوله تعالى : وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان : 27].
وذلك أبلغ من وجه آخر وهو ما في تخصيص هذا العدد من النكتة ولم يرد تخصيص العدة ثم فيه زيادة تصوير لما استقر في عقائد العامة من أنها سبعة حتى إذا بالغوا فيما يتعذر الوصول إليه قالوا هو خلف سبعة أبحر ، وفي إضافة الكلمات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم في الموضعين من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى ، وإظهار البحر والكلمات في موضع الإضمار لزيادة التقرير ، ونصب مَدَداً على التمييز كما في قوله : فإن الهوى يكفيكه مثله صبرا وجوز أبو الفضل الرازي نصبه على المصدر على معنى ولو أمددنا بمثله إمدادا وناب المدد عن الإمداد على حد ما قيل في قوله تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] وفيه تكلف.
وقرأ حمزة ، والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى «قبل أن ينفد» بالياء آخر الحروف ، وقرأ السلمي «أن تنفّد» بالتشديد على تفعل على المضي وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع نفد مشددا نحو كسرته فتكسر.
وقرأ الأعرج «بمثله مددا» بكسر الميم على أنه جمع مدة وهو ما يستمده الكاتب فيكتب به ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن ميحصن وحميد والحسن في رواية وأبو عمرو كذلك. وحفص كذلك أيضا «مدادا» بألف بين الدالين وكسر الميم. وسبب النزول أن حي بن أخطب كما رواه الترمذي عن ابن عباس قال : في كتابكم وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة : 269] ثم تقرءون وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : 85] ومراده الاعتراض بأنه وقع في كتابكم تناقض بناء على أن لا حكمة هي العلم وأن الخير الكثير هو عين الحكمة لا آثارها وما يترتب عليها لأن الشيء الواحد لا يكون قليلا وكثيرا في حالة واحدة فالآية جواب عن ذلك بالإرشاد إلى أن القلة والكثرة من الأمور الإضافية فيجوز أن يكون الشيء كثيرا في نفسه وهو قليل بالنسبة إلى شيء آخر فإن البحر مع عظمته وكثرته خصوصا إذا ضم إليه أمثاله قليل بالنسبة إلى كلماته عز وجل ، وقيل سبب ذلك أن اليهود قالوا للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها وإنك أعطيت من العلم ما يحتاجه الناس ، وقد سئلت عن الروح فلم تجب فيه؟ ومرادهم الاعتراض بالتناقض بين دعواه عليه الصلاة والسلام وحاله في زعمهم بناء على أن العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس وأنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يفده عبارة ولا إشارة والجواب عن هذا منع كون العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس في أمر دينهم المبعوث له الأنبياء عليهم السلام والقائل «أنتم أعلم بأمور دنياكم» لا يدعي علم ما يحتاجه الناس مطلقا ، وأنت تعلم أن الآية لا تكون جوابا عما ذكر على تقدير صحة كون ذلك سبب النزول إلا بضم الآية الآتية إليها ومع هذا يحتاج ذلك إلى نوع تكلف قُلْ بعد أن بينت شأن كلماته عز شأنه إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا
أدعي الإحاطة بكلماته جل وعلا يُوحى إِلَيَّ من تلك الكلمات أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وإنما تميزت عنكم بذلك ، وأن المفتوحة وأن كفت بما في تأويل المصدر القائم مقام فاعل يُوحى والاقتصار على ما ذكر لأنه ملاك الأمر ، والقصر في الموضعين بناء على القول بإفادة إنما بالكسر وإنما بالفتح الحصر من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب والمقصور عليه في الأول أَنَا والمقصور البشرية مثل المخاطبين ، وهو على ما قيل مبني على تنزيلهم لاقتراحهم عليه عليه الصلاة والسلام ما لا يكون من بشر مثلهم منزلة من يعتقد خلافه أو على تنزيلهم منزلة من ذكر لزعمهم أن الرسالة التي يدعيها صلّى اللّه عليه وسلّم مبرهنة بالبراهين الساطعة تنافي ذلك ، وقيل إن المقصود بأن يقصر عليه الإيحاء إليه صلّى اللّه عليه وسلّم على معنى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم مقصور على إيحاء ذلك إليه لا يتجاوزه إلى عدم الإيحاء كما يزعمون ، والمقصور الثاني إِلهُكُمْ أي معبودكم الحق والمقصور عليه الوحدانية المعبر عنها بإله واحد أي لا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 373
يتجاوز معبودكم بالحق تلك الصفة التي هي الوحدانية أي الوحدة في الألوهية إلى صفة أخرى كالتعدد فيها الذي تعتقدونه أيها المشركون.
وزعم بعضهم أن القصر في الثاني من قصر الصفة على الموصوف قصر أفراد وأن المقصور الألوهية مصدر إلهكم والمقصور عليه هو اللّه تعالى المعبر عنه بإله واحد ولا يخفى ما فيه من التكلف والعدول عما هو الأليق.
ومما يوضح ما ذكرنا أنه لو قيل إنما إلهكم واحد لم يكن إلا من قصر الموصوف على الصفة فزيادة إله للتوطئة للوصف بواحد والإشارة إلى أن المراد الوحدة في الألوهية لا تغير ذلك. وأما جعله من قصر الصفة على الموصوف قصر إفراد على أن اللّه تعالى هو المقصور عليه والوحدانية هي المقصور فباطل قطعا لأن قصر الصفة على الموصوف كذلك إنما يخاطب به من يعتقد اشتراك الصفة بين موصوفين كما تقرر في محله وهذا الاعتقاد لا يتصور هنا من عاقر لبداهة استحالة اشتراك موصوفين في الوحدانية أي الوحدة في الألوهية وما يوهم إرادة هذا القصر من كلام الزمخشري في نظير هذه الآية مؤول كما لا يخفى على المنصف ، وجوز أن يكون من قصر التعيين وليس بذاك فتأمل جميع ذلك واللّه تعالى يتولى هداك فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الرجاء طمع حصول ما فيه مسرة في المستقبل ويستعمل بمعنى الخوف وأنشدوا :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عوامل
ولقاء الرب سبحانه هنا قيل مثل للوصول إلى العاقبة من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها فالمعنى على هذا ، وحمل الرجاء على المعنى الأول من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من ربه تعالى والبشري فَلْيَعْمَلْ لتحصيل ذلك والفوز به عَمَلًا صالِحاً وقيل هو كناية عن البعث وما يتبعه والكلام على حذف مضاف أي من كان يؤمل حسن البعث فليعمل إلخ ، وقيل لا حذف ، والمراد من توقع البعث فليعمل صالحا أي إن ذلك العمل مطلوب ممن يتوقع البعث فكيف من يتحققه ، وقيل : اللقاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أيضا أي من كان يؤمل لقاء ثواب ربه فليعمل إلخ ، وقيل المراد منه رؤيته سبحانه أي من كان يؤمل رؤيته تعالى يوم القيامة وهو راض عنه فليعمل إلخ ، وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على معنى من خاف سوء لقاء ربه أو خاف لقاء جزائه تعالى فليعمل إلخ ، وتفسير الرجاء بالطمع أولى ، وكذا كون المرجو الكرامة والبشرى ، وعلى هذا فإدخال الماضي على المستقبل للدلالة على أن اللائق بحق العبد الاستمرار والاستدامة على رجاء الكرامة من ربه فكأنه قيل فمن استمر علم رجاء كرامته تعالى فليعمل عملا صالحا في نفسه لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً إشراكا جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب بعمله دنيا ، واقتصر ابن جبير على تفسير الشرك بالرياء وروي نحوه عن الحسن ، وصح في الحديث تسميته بالشرك الأصغر ، ويؤيد إرادة ذلك تقديم الأمر بالعمل الصالح على هذا النهي فإن وجهه حينئذ ظاهر إذ يكون الكلام في قوة قولك من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا
في نفسه ولا يراه بعمله أحدا فيفسده. وكذا ما
روي من أن جندب بن زهير قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :
إني أعمل العمل للّه تعالى فإذا اطلع عليه سرني فقال لي : إن اللّه تعالى لا يقبل ما شورك فيه فنزلت الآية تصديقا له صلّى اللّه عليه وسلّم
، نعم لا يأبى ذلك إرادة العموم كما لا يخفى ، وقد تظافرت الأخبار أن كل عمل لغرض دنيوي لا يقبل ،
فقد أخرج

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 374
أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يرويه عن ربه تعالى أنه قال : «أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك»
. وأخرج البزار والبيهقي عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تعرض أعمال بني آدم بين يدي اللّه عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول اللّه تعالى ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب واللّه ما رأينا منه إلا خيرا فيقول سبحانه إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي»
، وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن يحيى بن الوليد بن عبادة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من غزا وهو لا ينوي في غزاته إلا عقالا فله ما نوى»
، وأخرج أبو داود والنسائي والطبراني بسند جيد عن أبي أمامة قال : «جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لا شيء له فأعادها ثلاث مرار يقول رسول اللّه عليه الصلاة والسلام : لا شيء له ثم قال : إن اللّه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه»
إلى غير ذلك من الأخبار.
واستشكل كون السرور بالعمل إشراكا فيه محبطا له مع أن الإتيان به ابتداء كان بإخلاص النية كما يدل عليه إني أعمل العمل للّه تعالى.
وأجيب بما أشار إليه في الأحياء من أن العمل لا يخلو إذا عمل من أن ينعقد من أوله إلى آخره على الإخلاص من غير شائبة رياء وهو الذهب المصفى أو ينعقد من أوله إلى آخره على الرياء وهو عمل محبط لا نفع فيه أو ينعقد من أول أمره على الإخلاص ثم يطرأ عليه الرياء وحينئذ لا يخلو طروه عليه من أن يكون بعد تمامه أو قبله والأول غير محبط لا سيما إذا لم يتكلف إظهاره إلا أنه إذا ظهرت رغبة وسرور تام بظهوره يخشى عليه لكن الظاهر أنه مثاب عليه والثاني وهو المراد هنا فإن كان باعثا له على العمل ومؤثرا فيه فسد ما قارنه وأحبطه ثم سرى إلى ما قبله.
وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة وغيرهما من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس وفيه نزل قوله تعالى : فَمَنْ كانَ يَرْجُوا الآية ولا شك أن العمل الذي يقارن ذلك محبط.
وذكر بعضهم قد يثاب الرجل على الإعجاب إذا اطلع على عمله ،
فقد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه «أن رجلا قال : يا رسول اللّه إني أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني فقال عليه الصلاة والسلام لك أجران أجر السر وأجر العلانية»
وهذا محمول على ما إذا كان ظهور عمله لأحد باعثا له على عمل مثله والاقتداء به فيه ونحو ذلك ولم يكن إعجابه بعمله ولا بظهوره بل بما يترتب عليه من الخير ومثله دفع سوء الظن ولذا قيل ينبغي لمن يقتدي به أن يظهر أعماله الحسنة ، والظاهر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم علم حال كل من هذا الرجل وجندب بن زهير فأجاب كلا على حسب حاله ، وما ألطف جوابه عليه الصلاة والسلام لجندب كما لا يخفى على الفطن.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الأيمان عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : أنزلت الآية في المشركين الذين عبدوا مع اللّه تعالى إلها غيره وليست في المؤمنين وهو ظاهر في أنه حمل الشرك على الجلي ، وأنه تعلم أنه لا يظهر حينئذ وجه تقديم الأمر بالعمل الصالح على النهي عن الشرك المذكور إلا بتكلف فلعل العموم أولى وإن كان الشرك أكثر شيوعا في الشرك الجلي.
ويدخل في العموم قراءة القرآن للموتى بالأجرة فلا ثواب فيها للميت ولا للقارئ أصلا وقد عمت البلوى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 375
بذلك والناس عنه غافلون وإذا نبهوا لا يتنبهون فإنا للّه تعالى وإنا إليه راجعون وقد بالغ في العموم من جعل الاستعانة في الطاعات كالوضوء شركا منهيا عنه
فقد قال الراغب في المحاضرات : إن علي بن موسى الرضا رضي اللّه تعالى عنهما كان عند المأمون فلما حضر وقت الصلاة رأى الخدم يأتونه بالماء والطست فقال الرضا رضي اللّه تعالى عنه : لو توليت هذا بنفسك فإن اللّه تعالى يقول : فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً
ولعل المراد بالنهي هذا مطلق طلب الترك ليعم الحرام والمكروه ، والظاهر أن الفاء للتفريع على قصر الوحدانية عليه تعالى ، ووجه ذلك على أن كون الإله الحق واحدا يقتضي أن يكون في غاية العظمة والكمال واقتضاء ذلك عمل الطامع في كرامته عملا صالحا وعدم الإشراك بعبادته مما لا شبهة فيه كذا قيل ، وقيل الأمر بالعمل الصالح متفرع على كونه تعالى إلها والنهي عن الشرك متفرع على كون الإله واحدا ، وجعل هذا وجها لتقديم الأمر على النهي على ما روي عن ابن عباس وهو كما ترى ، وقيل : التفريع على مجموع ما تقدم فليفهم ، ووضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبية لزيادة التقرير وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ووجوب الامتثال فعلا وتركا.
وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي «ولا تشرك» بالتاء الفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ويكون قوله تعالى : «بربه» التفاتا أيضا من الخطاب إلى الغيبة ، هذا وعن معاوية بن أبي سفيان أن هذه الآية «فمن كان يرجو» إلخ آخر آية نزلت وفيه كلام والحق خلافه واللّه تعالى أعلم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» قيل ذو القرنين إشارة إلى القلب ، وقيل : إلى الشيخ الكامل ويأجوج ومأجوج إشارة إلى الدواعي والهواجس الوهمية والوساوس والنوازع الخيالية ، وقيل : إشارة إلى القوى والطبائع والأرض إشارة إلى البدن وهكذا فعلوا في باقي ألفاظ القصة وراموا التطبيق بين ما في الآفاق وما في الأنفس ولعمري لقد تكلفوا غاية التكلف ولم يأتوا بما يشرح الخاطر ويسر الناظر ، ولعل الأولى أن يقال : الإشارة في القصة إلى إرشاد الملوك لاستكشاف أحوال رعاياهم وتأديب مسيئهم والإحسان إلى محسنهم وإعانة ضعفائهم ودفع الضرر عنهم وعدم الطمع بما في أيديهم وإن سمحت به أنفسهم لمصلحتهم. وقد يقال : فيها إشارة إلى اعتبار الأسباب.
وقال الأشاعرة : الأسباب في الحقيقة ملغاة وعلى هذا قول شيخهم يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة أندلس ومذهب السلف أنها معتبرة وإن لم يتوقف عليها فعل اللّه تعالى عقلا وتحقيق هذا المطلب في محله ، وقوله تعالى :
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً إشارة إلى المرائين على ما في أسرار القرآن ومنهم الذين يجلسون في الخانقاه لأجل نظر الخلق وصرف وجوه الناس إليهم واصطياد أهل الدنيا بشباك حيلهم وذكر من خسرانهم في الدنيا افتضاحهم فيها وإظهار اللّه تعالى حقيقة حالهم للناس.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وأما خسرانهم في الآخرة فالطرد عن الحضرة والعذاب الأليم. وقوله تعالى : قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إشارة إلى جهة مشاركته صلّى اللّه عليه وسلّم للناس وجهة امتيازه ولولا تلك المشاركة ما حصلت الإفاضة ولولا ذلك الامتياز ما حصلت الاستفاضة. وقد أشار مولانا جلال الدين القونوي قدس سره إلى ذلك بقوله :
كفت بيغمبر كه أصحابي نجوم ره روانرا شمع وشيطان رارجوم
هر كسى را كر نظر بوادي زدور كو كرفتي ز آفتاب جرخ نور
كي ستاره حاجتي بوادي ذليل كي بدي بر نور خورشيدا ودليل
ماه ميكو يد بابر وخاك في من بشر من مثلكم يوحى إلى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 376
جون شما تاريك بودم در نهاد وحي خورشيد دم جنين نوري
بداد ظلمتي دارم به نسبت با شموس نور دارم بهر ظلمات
نفوس زان ضعيفم تا تو بابي أوري كه ني مردي آفتاب انوري
هذا ونسأل اللّه تعالى بحرمة نبيه المكرم المعظم صلّى اللّه عليه وسلّم أن يوفقنا لما يرضيه ويوفقنا على أسرار كتابه الكريم ومعانيه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 377
سورة مريم
المشهور تسميتها بذلك ورويت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ،
فقد أخرج الطبراني وأبو نعيم والديلمي من طريق أبي بكر ابن عبد اللّه بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده قال : أتيت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فقلت : ولدت لي الليلة جارية فقال : والليلة أنزلت علي سورة مريم
، وجاء فيما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما تسميتها بسورة «كهيعص» وهي مكية كما روي عن عائشة وابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم ، وقال مقاتل : هي كذلك إلا آية السجدة فإنها مدنية نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة ، وفي الإتقان استثناء قوله تعالى : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم : 71] أيضا ، وهي عند العراقيين والشاميين ثمان وتسعون آية وعند المكيين تسع وتسعون وللمدنيين قولان ، ووجه مناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأعاجيب كقصة ولادة يحيى. وقصة ولادة عيسى عليهما السلام ولهذا ذكرت بعدها ، وقيل إن أصحاب الكهف يبعثون قبل الساعة ويحجون مع عيسى عليه السلام حين ينزل ففي ذكر هذه السورة بعد تلك مع ذلك إن ثبت ما لا يخفى من المناسبة ، ويقوى ذلك ما قيل أنهم من قومه عليه السّلام وقيل غير ذلك.
[سورة مريم (19) : الآيات 1 إلى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
كهيعص
أخرج ابن مردويه عن الكلبي أنه سئل عن ذلك فحدث عن أبي صالح عن أم هانىء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال كاف هاد عالم صادق ،
واختلفت الروايات عن ابن عباس ، ففي رواية أنه قال : كاف من كريم وها من هاد

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 378
ويا من حكيم وعين من عليم وصاد من صادق ، وفي رواية أنه قال : كبير هاد أمين عزيز صادق ، وفي أخرى أنه قال : هو قسم أقسم اللّه تعالى به وهو من أسماء اللّه تعالى ، وفي أخرى أنه كان يقول : كهيعص وحم ويس وأشباه هذا هو اسم اللّه تعالى الأعظم ، ويستأنس له بما
أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي وابن ماجه وابن جرير عن فاطمة بنت علي قالت : كان علي كرم اللّه تعالى وجهه : يقول يا كهيعص اغفر لي
، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا كهيعص هو الهجاء المقطع الكاف من الملك والهاء من اللّه والياء والعين من العزيز والصادق من المصور.
وأخرج أيضا عن محمد بن كعب نحو ذلك إلا أنه لم يذكر الياء ، وقال الصاد من الصمد.
وأخرج أيضا عن الربيع بن أنس أنه قال في ذلك : يا من يجير ولا يجار عليه ، وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد عن قتادة أنه اسم من أسماء القرآن ، وقيل : إنه اسم للسورة وعليه جماعة ، وقيل حروف مسرودة على نمط التعديد ونسب إلى جمع من أهل التحقيق ، وفوض البعض علم حقيقة ذلك إلى حضرة علام الغيوب.
وقد تقدم تمام الكلام في ذلك وأمثاله في أول سورة البقرة فتذكر ، وقرأ الجمهور كاف بإسكان الفاء ، وروي عن الحسن ضمها وأمال نافع هاويا بين اللفظين وأظهر دال صاد ولم يدغمها في الذال بعد وعليه الأكثرون.
وقرأ الحسن بضم الهاء وعنه أيضا ضم الياء وكسر الهاء ، وعن عاصم ضم الياء وعنه أيضا كسرهما ، وعن حمزة فتح الهاء وكسر الياء ، قال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن المقري الرازي في كتاب اللوامح : إن الضم في هذه الأحرف ليس على حقيقته وإلا لوجب قلب ما بعدهن من الألفات واوات بل المراد أن ينحى هذه الألفات نحو الواو على لغة أهل الحجاز وهي التي تسمى ألف التفخيم ضد الإمالة ، وهذه الترجمة كما ترجموا عن الفتحة الممالة المقربة من الكسر بالكسر لتقريب الألف بعدها من الياء انتهى ، ووجه الإمالة والتفخيم أن هذه الألفات لما لم يكن لها أصل حملوها على المنقلبة عن الواو تارة ، وعن الياء أخرى فيجوز الأمران دفعا للتحكم.
وقرأ أبو جعفر بتقطيع هذه الحروف وتخليص بعضها من بعض واقتضى ذلك إسكان أخرهن ، والتقاء الساكنين مغتفر في باب الوقف ، وأدغم أبو عمرو دال صاد في الذال بعد وقرأ حفص عن عاصم وفرقة بإظهار النون من عين ، والجمهور على إخفائها. واختلف في إعرابه فقيل على القول بأن كل حرف من اسم من أسمائه تعالى لا محل لشيء من ذلك ولا للمجموع من الإعراب ، وقيل : إن كل حرف على نية الإتمام خبر لمبتدأ محذوف أي هو كاف هو هاد وهكذا أو الأول على نية الإتمام كذلك والبواقي خبر بعد خبر. وعلى ما روي عن الربيع قيل : هو منادي وهو اسم من أسمائه تعالى معناه الذي يجير ولا يجار عليه. وقيل لا محل له من الإعراب أيضا وهو كلمة تقال في موضع نداء اللّه تعالى بذلك العنوان مثل ما يقال مهيم في مقام الاستفسار عن الحال وهو كما ترى ، وعلى القول بأنه حروف مسرودة على نمط التعديد قالوا : لا محل له من الأعراب وقوله تعالى ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ على هذه الأقوال خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو ذِكْرُ إلخ. ويقال على الأخير المؤلف من جنس هذه الحروف المبسوطة مرادا به السورة ذِكْرُ إلخ. وقيل مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليك ذِكْرُ إلخ ، وعلى القول بأنه اسم للسورة قيل محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا كهيعص أي مسمى به. وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد كما قيل في قولهم هذا ما اشترى فلان.
وفي ذِكْرُ وجهان كونه خبرا لمبتدأ محذوف وكونه مبتدأ خبره محذوف ، وقيل محله الرفع على أنه مبتدأ وذِكْرُ إلخ خبره أي المسمى به ذكر إلخ فإن ذكر ذلك لما كان مطلع السورة الكريمة ومعظم ما انطوت هي عليه جعلت كأنها نفس ذكره أو الإسناد باعتبار الاشتمال أو هو بتقدير مضاف أي ذو ذكر إلخ أو بتأويل مذكور فيه رحمة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 379
ربك ، وعلى القول بأنه اسم للقرآن قيل المراد بالقرآن ما يصدق على البعض ويراد به السورة والإعراب هو الإعراب وحينئذ لا تقابل بين القولين. وقيل المراد ما هو الظاهر وهو مبتدأ خبره ذِكْرُ إلخ والإسناد باعتبار الاشتمال أو التقدير أو التأويل وقوله تعالى عَبْدَهُ مفعول لرحمة ربك على أنها مفعول لما أضيف إليه وهو مصدر مضاف لفاعله موضوع هكذا بالتاء لا أنها للوحدة حتى تمنع من العمل لأن صيغة الوحدة ليست الصيغة التي اشتق منها الفعل ولا الفعل دال على الوحدة فلا يعمل المصدر لذلك عمل الفعل إلا شذوذا كما نص عليه النحاة ، وقيل مفعول للذكر على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع ، ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها كما يقال ذكرني معروفك أي بلغني ، وقوله عز وجل زَكَرِيَّا بدل منه بدل كل من كل أو عطف بيان له أو نصب بإضمار أعني. وقوله تعالى شأنه إِذْ نادى رَبَّهُ ظرف لرحمة ربك وقيل لذكر على أنه مضاف لفاعله لا على الوجه الأول لفساد المعنى وقيل : هو بدل اشتمال من زَكَرِيَّا كما قوله تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
[مريم : 16].
وقرأ الحسن وابن يعمر كما حكاه أبو الفتح «ذكّر» فعلا ماضيا مشددا و«رحمة» بالنصب على أنه كما في البحر مفعول ثان لذكر والمفعول الأول محذوف و«عبده» مفعول لرحمة وفاعل «ذكّر» ضمير القرآن المعلوم من السياق أي ذكر القرآن الناس أن رحم سبحانه عبده ، ويجوز أن يكون فاعل «ذكّر» ضمير كهيعص بناء على أن المراد منه القرآن ويكون مبتدأ والجملة خبره ، وأن يكون الفاعل ضميره عز وجل أي ذكر اللّه تعالى الناس ذلك ، وجوز أن يكون رَحْمَتِ رَبِّكَ مفعولا ثانيا والمفعول الأول هو عَبْدَهُ والفاعل ضميره سبحانه أي ذكر اللّه تعالى عبده رحمته أي جعل العبد يذكر رحمته ، وإعراب زَكَرِيَّا كما مر ، وجوز أن يكون مفعولا لرحمة والمراد بعبده الجنس كأنه قيل ذكر عباده رحمته زكريا وهو كما ترى ، ويجوز على هذا أن يكون الفاعل ضمير القرآن ، وقيل يجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى والرحمة مفعولا أولا و«عبده» مفعولا ثانيا ويرتكب المجاز أي جعل اللّه تعالى الرحمة ذاكرة عبده ، وقيل «رحمة» نصب بنزع الخافض أي ذكر برحمة ، وذكر الداني عن أبي يعمر أنه قرأ «ذكر» على الأمر والتشديد و«رحمة» بالنصب أي ذكر الناس رحمة أو برحمة ربك عبده زكريا.
وقرأ الكلبي «ذكر» فعلا ماضيا خفيفا و«رحمة ربك» بالنصب على المفعولية لذكر و«عبده» بالرفع على الفاعلية له. وزكريا عليه السّلام من ولد سليمان بن داود عليهما السّلام ، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه آخر أنبياء بني إسرائيل وهو ابن آزر بن مسلم من ذرية يعقوب ، وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه ابن دان وكان من أبناء الأنبياء الذين يكتبون الوحي في بيت المقدس ، وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا أنه عليه السّلام كان نجارا.
وجاء في اسمه خمس لغات أولها المد وثانيها القر وقرئ بهما في السبع وثالثها زكري بتشديد الياء. ورابعها زكرى بتخفيفها وخامسها زكر كقلم وهو اسم أعجمي ، والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره وقد يقال لمجرد الصوت بل لكل ما يدل على شيء وإن لم يكن صوتا على ما حققه الراغب ، والمراد هنا إذ دعا ربه نِداءً أي دعاء خَفِيًّا مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم حيث لم يكونوا حاضريه وكان ذلك على ما قيل في جوف الليل ، وإنما أخفى دعاءه عليه السّلام لأنه أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء وأقرب إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولد لتوقفه على مبادئ لا يليق به تعاطيها في أوان الكبر والشيخوخة وعن غائلة مواليه ، وعلى ما ذكرنا لا منافاة بين النداء وكونه خفيا بل لا منافاة بينهما أيضا إذا فسر النداء برفع الصوت لأن الخفاء غير الخفوت ومن رفع صوته في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 380
مكان ليس بمرأى ولا مسمع من الناس فقد أخفاه ، وقيل : هو مجاز عن عدم الرياء أي الإخلاص ولم ينافه النداء بمعنى رفع الصوت لهذا.
وفي الكشف أنه الأشبه أنه كناية مع إرادة الحقيقة لأن الخفاء في نفسه مطلوب أيضا لكن المقصود بالذات الإخلاص ، وقيل مستورا عن الناس بالمخافتة ، ولا منافاة بناء على ارتكاب المجاز أو بناء على أن النداء لا يلزمه رفع الصوت ولذا قيل : يا من ينادي بالضمير فيسمع وكان نداؤه عليه السّلام كذلك لما مر آنفا أو لضعف صوته بسبب كبره كما قيل الشيخ صوته خفات وسمعه تارات ، قيل : كان سنه حينئذ ستين سنة ، وقيل خمسا وستين ، وقيل سبعين ، وقيل خمسا وسبعين ، وقيل ثمانين ، وقبل خمسا ثمانين ، وقيل اثنتين وتسعين ، وقيل تسعا وتسعين ، وقيل مائة وعشرين وهو أوفق بالتعليل المذكور.
وزعم بعضهم أنه أشير إلى كون النداء خفيا ليس فيه رفع بحذف حرفه في قوله تعالى قالَ رَبِّ والجملة تفسير للنداء وبيان لكيفيته فلا محل لها من الإعراب إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف ، وإسناد ذلك إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا أصابه الضعف والرخاوة تداعى ما وراءه وتساقطت قوته ففي الكلام كناية مبنية على تشبيه مضمر في النفس أو لأنه أشد أجزائه صلابة وقواما وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ففي الكلام كناية بلا تشبيه ، وأفرد - على ما قاله العلامة الزمخشري وارتضاه كثير من المحققين - لأن المفرد هو الدال على معنى الجنسية والقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان القصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها حتى كأنه وقع من سامع شك في الشمول والإحاطة لأن القيد في الكلام ناظر إلى نفي ما يقابله وهذا غير مناسب للمقام ، وقال السكاكي : إنه ترك جمع الْعَظْمُ إلى الأفراد لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا ولو جمع لم يتعين ذلك لصحة وهنت العظام عند حصول الوهن لبعض منها دون كل فرد وهو مسلك آخر مرجوح عند الكثير وتحقيق ذلك في موضعه ، وعن قتادة أنه عليه السّلام اشتكى سقوط الأضراس ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى خبر يدل عليه فإن انفهامه من الآية مما لا يكاد يسلم ، ومِنِّي متعلق بمحذوف هو حال من العظم ، ولم يقل - عظمي - مع أنه أخصر لما في ذلك من التفصيل بعد الإجمال ولأنه أصرح في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا ، وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها.
وقرأ الأعمش «وهن» بكسر الهاء ، وقرىء بضمها أيضا وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً شبه الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ففي الكلام استعارتان تصريحية تبعية في اشْتَعَلَ ومكنية في الشيب ، وانفكاكها عن التخييلية مما عليه المحققون من أهل المعاني على أنه يمكن على بعد القول بوجود التخييلية هنا أيضا. وتكلف بعضهم لزعمه عدم جواز الانفكاك وعدم ظهور وجود التخييلية إخراج ما في الآية مخرج الاستعارة التمثيلية وليس بذاك ، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول فإن اسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك : اشتعل بيته نارا يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته.
وزعم بعضهم أن شَيْباً نصب على المصدرية لأن معنى اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شاب ، وقيل هو حال أي شائبا وكلا القولين لا يرتضيهما كامل كما لا يخفى ، واكتفى باللام عن الإضافة لأن تعريف العهد المقصود هنا يفيد ما تفيده ، ولما كان تعريف الْعَظْمُ السابق للجنس كما علمت لم يكتف به وزاد قوله مِنِّي وبالجملة ما أفصح هذه الجملة وأبلغها ، ومنها أخذ ابن دريد قوله :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 381
واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل النساء
وعن أبي عمرو أنه أدغم السين في الشين وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي لم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وقيل حال من ياء المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسي وهو غريب ، وهذا توسل منه عليه السّلام بما سلف منه تعالى من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده الإجابة دهرا طويلا لا يكاد يخيبه أبدا لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره ، وفي هذا التوسل من الإشارة إلى عظم كرم اللّه عز وجل ما فيه.
وقد حكى أن حاتما الطائي ، وقيل معن بن زائدة أتاه محتاج فسأله وقال : أنا الذي أحسنت إليه وقت كدا فقال :
مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته ، وقيل المعنى ولم أكن بدعائك إياي إلى الطاعة شقيا بل كنت ممن أطاعك وعبدك مختصا فالكاف على هذا فاعل والأول أظهر وأولى وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه السّلام لا سيما توسيطه بين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع.
وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه : يا رب قال اللّه تعالى له : لبيك عبدي
. وروي أن موسى عليه السّلام قال يوما في دعائه : يا رب فقال اللّه سبحانه وتعالى له : لبيك يا موسى فقال موسى : أهذا لي خاصة فقال اللّه تبارك وتعالى : لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية
،
وقيل : إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع اللّه تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عز وجل وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ هم عصبة الرجل على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. ومجاهد ، وعن الأصم أنهم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب. وقيل : من يلي أمره من ذوي قرابته مطلقا ، وكانوا على سائر الأقوال شرار بني إسرائيل فخاف عليه السّلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته ، والجملة عطف على قوله إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي مترتب مضمونها على مضمونة فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادئ خوفه عليه السّلام من يلي أمره بعد موته حسبما يدل عليه قوله مِنْ وَرائِي فإن المراد منه بإجماع من علمنا من المفسرين من بعد موتي ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أي خفت فعل الموالي من ورائي أو جور المولى وقد قرىء كما في إرشاد العقل السليم كذلك ، وجوز تعلقه بالموالي ويكفي في ذلك وجود معنى الفعل فيه في الجملة ، فقد قالوا : يكفي في تعلق الظرف رائحة الفعل ولا يشترط فيه أن يكون دالا على الحدوث كاسم الفاعل والمفعول حتى يتكلف له ويقال : إن اللام في الموالي على هذا موصول والظرف متعلق بصلته وإن مولى مخفف مولى كما قيل في معنى أنه مخفف معنى فإنه تعسف لا حاجة إليه ، نعم قالوا في حاصل المعنى على هذا : خفت الذين يلون الأمر من ورائي ، ولم يجوز الزمخشري تعلقه بخفت لفساد المعنى ، وبين ذلك في الكشف بأن الجار ليس صلة الفعل لتعديه إلى المحذور بلا واسطة فتعين أن يكون للظرفية على نحو خفت الأسد قبلك أو من قبلك وحينئذ يلزم أن يكون الخوف ثابتا بعد موته وفساده ظاهر وبعضهم رأى جواز التعلق بناء على أن كون المفعول في ظرف مصحح لتعلق ذلك الظرف بفعله كقولك : رميت الصيد في الحرم إذا كان الصيد فيه دون رميك والظاهر عدم الجواز فافهم ، وقال ابن جني : هو حال مقدرة من الْمَوالِيَ وعن ابن كثير أنه قرأ «ومن وراي»
بالقصر وفتح الياء كعصاي.
وقرأ الزهري «الموالي» بسكون الياء. وقرأ عثمان بن عفان وابن عباس وزيد بن ثابت وعلي بن الحسين وولداه محمد بن وزيد وسعيد بن العاص وابن جبير وأبو يعمر وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لابن عامر «خفّت» بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث «الموالي» بسكون الياء على أن «خفت» من الخفة ضد الثقل ومعنى مِنْ وَرائِي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 382
كما تقدم : والمراد وأني قل الموالي وعجزوا عن القيام بأمور الدين من بعدي أو من الخفوف بمعنى السير السريع ومعنى مِنْ وَرائِي من قدامي وقبلي ، والمراد وأني مات الموالي القادرون على إقامة مراسم الملة ومصالح الأمة وذهبوا قدامي ولم يبق منهم من به تقوى واعتضاد فيكون محتاجا إلى العقب لعجز مواليه عن القيام بعده بما هو قائم به أو لأنهم ماتوا قبله فبقي محتاجا إلى من يعتضد به ، وتعلق الجار والمجرور على الوجه الثاني بالفعل ظاهر ، وأما على الوجه الأول فإن لوحظ أن عجزهم وقلتهم سيقع بعده لا أنه واقع وقت دعائه صح تعلقه بالفعل أيضا وإن لم يكن كذلك تعلق بغير ذلك.
وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد من حين شبابها إلى شيبها ، فالعقر بالفتح والضم العقم ، ويقال عاقر للذكر والأنثى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ كلا الجارين متعلق بهب واللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا ، وتقديم الأول لكون مدلوله أهم عنده ، وجوز تعلق الثاني بمحذوف وقع حالا من المفعول الآتي. وتقدم الكلام في لدن ، والمراد أعطني من محض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة بطريق الاختراع لا بواسطة الأسباب العادية ، وقيل المراد أعطني من فضلك كيف شئت وَلِيًّا أي ولدا من صلبي وهو الظاهر ، ويؤيده قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه عليه السّلام قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران : 38] وقيل إنه عليه السّلام طلب من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أو غيره ، وقيل : أنه عليه السّلام أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس وكلا القولين لا يعول عليه. وزعم الزمخشري أن مِنْ لَدُنْكَ تأكيد لكونه وليا مرضيا ولا يخفى ما فيه. وتأخير المفعول عن الجارين لإظهار كمال الاعتناء بكون الهبة له على ذلك الوجه البديع مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما بعده من الوصف فتأخيرهما عن الكل وتوسيطهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بحزالة النظم الكريم ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما ذكره عليه السّلام من كبر السن وضعف القوى وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عليه السّلام عن حصول الولد بتوسط الأسباب العادية واستيهابه على الوجه الخارق للعادة.
وقيل لأن ذلك موجب لانقطاع رجائه عن حصول الولد منها وهي في تلك الحال واستيهابه على الوجه الذي يشاؤه اللّه تعالى ، وهو مبني على القول الثاني في المراد من فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا والأول أولى.
ولا يقدح فيما ذكر أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعا من مشاهدته عليه السّلام للخوارق الظاهرة في حق مريم كما يعرب عنه قوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ الآية. وعدم ذكره هاهنا للتعويل على ما ذكر هنالك كما أن عدم ذكر مقدمة الدعاء هنالك للاكتفاء بذكرها هاهنا ، والاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من السنن التنزيلية ، وقوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ صفة لوليا كما هو المتبادر من الجملة الواقعة بعد النكرات ، ويقال : ورثه وورث منه لغتان كما قيل ، وقيل من للتعبيض لا للتعدية ، وآل الرجل خاصته الذين يؤل إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين ، ويعقوب على ما روي عن السدي هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فإن زكريا من ولد هارون وهو من ولد لاوي ابن يعقوب وكان متزوجا بأخت مريم بنت عمران وهي من ولد سليمان بن داود عليهما السّلام وهو من ولد يهوذ بن يعقوب أيضا. وقال الكلبي ومقاتل : هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان أبو مريم.
وقيل : هو أخو زكريا عليه السّلام والمراد من الوراثة في الموضعين العلم على ما قيل.
وقال الكلبي : كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا عليه السّلام رئيس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده الحبورة ويرث من بني ماثان ملكهم فتكون الوراثة مختلفة في الموضعين وأيد ذلك بعدم اختيار العطف على الضمير المنصوب والاكتفاء بيرث الأول ، وقيل الوراثة الأولى وراثة النبوة والثانية وراثة الملك فتكون مختلفة أيضا إلا أن قوله وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي مرضيا عندك قولا وفعلا ، وقيل راضيا والأول أنسب يكون على هذا تأكيدا لأن النبي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 383
شأنه أن يكون كذلك ، وعلى ما قلنا يكون دعاء بتوفيقه للعمل كما أن الأول متضمن للدعاء بتوفيقه للعلم فكأنه طلب أن يكون ولده عالما عاملا ، وقيل : المراد اجعله مرضيا بين عبادك أي متبعا فلا يكون هناك تأكيد مطلقا ، وتوسيط رَبِّ بين مفعولي الجعل على سائر الأوجه للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه.
واختار السكاكي أن الجملتين مستأنفتان استئنافا بيانيا لأنه يرد أنه يلزم على الوصفية أن لا يكون قد وهب لزكريا عليه السّلام من وصف لهلاك يحيى عليه السّلام قبل هلاكه لقتل يحيى عليه السّلام قبل قتله. وتعقب ذلك في الكشف بأنه مدفوع بأن الروايات متعارضة والأكثر على هلاك زكريا قبله عليهما السّلام ، ثم قال : وأما الجواب بأنه لا غضاضة في أن يستجاب للنبي بعض ما سأل دون بعض ألا ترى إلى دعوة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم في حق أمته حيث
قال عليه الصلاة والسّلام : «وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها»
وإلى دعوة إبراهيم عليه السّلام في حق أبيه فإنما يتم لو كان المحذور ذلك وإنما المحذور لزوم الخلف في خبره تعالى فقد قال سبحانه وتعالى في [الأنبياء : 84 ، 88 ، 90] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وهو يدل على أنه عليه السّلام أعطى ما سأل من غير تفرقة بين بعض وبعض وكذلك سياق الآيات الأخر. ولك أن تستدل بظاهر هذه الآية على ضعف رواية من زعم أن يحيى هلك قبل أبيه عليهما السّلام ، وأما الإيراد بأن ما اختير من الحمل على الاستئناف لا يدفع المحذور لأنه وصل معنوي فليس بشيء لأن الوصل ثابت ولكنه غير داخل في المسئول لأنه بيان العلة الباعثة على السؤال ولا يلزم أن يكون علة السؤال مسؤولة انتهى.
وأجاب بعضهم بأنه حيث كان المراد من الوراثة هنا وراثة العلم لا يضر هلاكه قبل أبيه عليهما السّلام لحصول الغرض وهو أخذ ذلك وإفاضته على الغير بحيث تبقى آثاره بعد زكريا عليه السّلام زمانا طويلا ولا يخفى أن المعروف بقاء ذات الوارث بعد الموروث عنه.
وقرأ أبو عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصفهاني وابن محيصن وقتادة بجزم الفعلين على أنهما جواب الدعاء والمعنى أن تهب لي ذلك يرثني إلخ ، والمراد أنه كذلك في ظني ورجائي ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه. وابن عباس وجعفر بن محمد رضي اللّه تعالى عنهم والحسن وابن يعمر والجحدري وأبو حرب بن أبي الأسود وأبو نهيك «يرثني» بالرفع «وأرث» فعلا مضارعا من ورث وخرج ذلك على أن المعنى يرثني العلم وأرث أنا به الملك من آل يعقوب وذلك بجعل وراثة الولي الملك وراثة لزكريا عليه السّلام لأن رفعة الولد للوالد والواو لمطلق الجمع ، وقال بعضهم : والواو للحال والجملة حال من أحد الضميرين ، وقال صاحب اللوامح : فيه تقديم ومعناه فهب لي وليا من آل يعقوب يرثني النبوة إن مت قبله وأرثه ماله إن مات قبلي وفيه ما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى قريبا ، ونقل عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ، وجماعة أنهم قرأوا «يرثني وأرث» برفع وأرث بزنة فاعل
على أنه فاعل يرثني على طريقة التجريد كما قال أبو الفتح ، وغيره أي يرثني ولي من ذلك الولي أو به فقد جرد من الولي وليا كما تقول رأيت منه أو به أسدا ، وعن الجحدري أنه قرأ «وأرث» بإمالة الواو ، وقرأ مجاهد «أو يرث» تصغير وأرث وأصله ويرث بواوين الأولى فاء الكلمة الأصلية والثانية بدل ألف فاعل لأنها تقلب واوا في التصغير كضو يرب ولما وقعت الواو مضمومة قبل أخرى في أوله قلبت همزة كما تقرر في التصريف ونقل عنه أنه قال التصغير لصغره فإنه عليه السّلام لما طلبه في كبره علم ولو حدسا أنه يرثه في صغر سنه ، وقيل : للمدح وليس بذاك.
هذا واستدل الشيعة بالآية على أن الأنبياء عليهم السّلام تورث عنهم أموالهم لأن الوراثة حقيقية في وراثة المال ولا داعي إلى الصرف عن الحقيقة ، وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي صالح أنهم قالوا في الآية : يرثني مالي وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلّى اللّه عليه وسلّم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 384
قال في الآية : يرحم اللّه تعالى أخي زكريا ما كان عليه من ورثة
وفي رواية ما كان عليه ممن يرث ماله
، وقال بعضهم :
إن الوراثة ظاهرة في ذلك ولا يجوز هاهنا حملها على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله : وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ولا على وراثة العلم لأنه كسبي والموروث حاصل بلا كسب. ومذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السّلام لا يرثون مالا ولا يورثون لما صح عندهم من الأخبار. وقد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة
فقد روي الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر
،
وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة ، والوراثة في الآية محمولة على ما سمعت ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم والمنصب والمال وإنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية ولو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة ، ومن ذلك قوله تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر : 32] وقوله تعالى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ [الأعراف : 169] وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ [الشورى : 14] وقوله تعالى : إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الأعراف : 128] وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران : 180] قولهم لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة قلنا : الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب ودون تأويله خرط القتاد ، والآثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد ، وزعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله : وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه. وزعم أن كسبية الشيء تمنع من كونه موروثا ليس بشيء فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق ، ومن ذلك أيضا ما
رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه قال : إن سليمان ورث داود وإن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ورث سليمان عليه السّلام
فإن وراثة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سليمان عليه السّلام لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم والنبوة ونحوهما ، ومما يؤيد حمل الوراثة هنا على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية والهمم العلياء للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المتغير الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما جناب زكريا عليه السّلام فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف والحزن والخوف ويستدعي من حضرة الحق سبحانه وتعالى ذلك النحو من الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا ، وقالت الشيعة : إنه عليه السّلام خاف أن يصرف بنو عمه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب له الوارث المرضي لذلك ، وفيه أن ذلك مما لا يخاف منه إذ الرجل إذا مات وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال ذلك الآخر فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ ولا مؤاخذة على الميت من ذلك الصرف بل لا عتاب أيضا مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له عليه السّلام بأن يصرفه قبل موته ويتصدق به كله في سبيل اللّه تعالى ويترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم. وللأنبياء عليهم السّلام عند الشيعة خبر بزمن موتهم وتخيير فيه فما كان له خوف موت الفجأة أيضا فليس قصده عليه السّلام من مسألة الولد سوى إجراء أحكام اللّه تعالى وترويج الشريعة وبقاء النبوة في أولاده فإن ذلك موجب لتضاعف الأجر إلى حيث شاء اللّه تعالى من الدهر ، ومن أنصف لم يتوقف في قبول ذلك واللّه تعالى الهادي لأقوم المسالك.
يا زَكَرِيَّا على إرادة القول أي قيل له أو قال اللّه تعالى يا زكريا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لكن لا بان يخاطبه سبحانه وتعالى بذلك بالذات بل بواسطة الملك كما يدل عليه آية أخرى على أن يحكي عليه السّلام العبارة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 385
عنه عز وجل على نهج قوله تعالى : قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر : 53] الآية وهذا جواب لندائه عليه السّلام ووعد بإجابة دعائه كما يفهمه التعبير بالبشارة دون الإعطاء أو نحوه وما في الوعد من التراخي لا ينافي التعقيب في قوله تعالى : فَاسْتَجَبْنا لَهُ الآية لأنه تعقيب عرفي كما في تزوج فولد له ولأن المراد بالاستجابة الوعد أيضا لأن وعد الكريم نقد ، والمشهور أن هذا القول كان إثر الدعاء ولم يكن بين البشارة والولادة إلا أشهر ، وقيل : إنه رزق الولد بعد أربعين سنة من دعائه ، وقيل : بعد ستين. والغلام الولد الذكر ، وقد يقال للأنثى : غلامة كما قال :
تهان لها الغلامة والغلام وفي تعيين اسمه عليه السّلام تأكيد للوعد وتشريف له عليه السّلام ، وفي تخصيصه به حسبما يعرف عنه قوله تعالى : لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي شريكا له في الاسم حيث لم يسم أحد قبله بيحيى على ما روي عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم مزيد تشريف وتفخيم له عليه السّلام ، وهذا كما قال الزمخشري شاهد على أن الأسماء النادرة التي لا يكاد الناس يستعملونها جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحى في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز حتى قال القائل في مدح قوم :
شنع الأسامي مسبلي أزر حمر تمس الأرض بالهدب
وقيل للصلت بن عطاء : كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك؟ فقال : كنت غريب الدار غريب الاسم خفيف الجرم شحيحا بالأشلاء فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد أن سَمِيًّا بمعنى شبيها وروي عن عطاء وابن جبير مثله أي لم نجعل له شبيها حيث أنه لم يعص ولم يهم بمعصية ،
فقد أخرج أحمد والحكيم والترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا عليهما السّلام لم يهم بخطيئة ولم يعملها»
والأخبار في ذلك متظافرة ، وقيل : لم يكن له شبيه لذلك ولأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر.
وقيل لأنه كان كما وصف اللّه تعالى مصدقا بكلمة من اللّه وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين فيكون هذا إجمالا لذلك وإنما قيل للشبيه سمي لأن المتشابهين يتشاركان في الاسم ، ومن هذا الإطلاق قوله تعالى : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم : 65] لأنه الذي يقتضيه التفريع ، والأظهر أنه اسم أعجمي لأنه لم تكن عادتهم التسمية بالألفاظ العربية فيكون منعه الصرف على القول المشهور في مثله للعلمية والعجمة ، وقيل أنه عربي ولتلك العادة مدخل في غرابته وعلى هذا فهو منقول من الفعل كيعمر ويعيش وقد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع بن أخت الجاحظ ووجه تسميته بذلك على القول بعربيته قيل الإشارة بأنه يعمر ، وهذا في معنى التفاؤل بطول حياته ، وكان في ذلك إشارة إلى أنه عليه السّلام يرث حسبما سأل زكريا عليه السّلام ، وقيل : سمي بذلك لأنه حي به رحم أمه ، وقيل لأنه حي بين شيخ فان وعجوز عاقر ، وقيل لأنه يحيا بالحكمة والعفة ، وقيل لأنه يحيا بإرشاد الخلق وهدايتهم ، وقيل لأنه يستشهد والشهداء أحياء ، وقيل غير ذلك ، ثم لا يخفى أنه على العربية والعجمة يختلف الوزن والتصغير كما بين في محله.
قالَ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال عليه السّلام حينئذ؟ فقيل قال رَبِّ ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بواسطة الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجد في التبتل إليه عز وجل ، وقيل لذلك والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه تعالى بما يصدر عنه متوقف على توسطه كما أن علم البشر بما يصدر عنه تعالى متوقف على ذلك في عامة الأوقات ، ولا يخفى أن الاقتصار على الأول أولى أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ كلمة أَنَّى بمعنى كيف أو من أين ، وكان أما تامة وأنى واللام متعلقان بها ، وتقديم الجار على الفاعل لما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 386
مر غير مرة أي كيف أو من أين يحدث لي غلام ، ويجوز أن يتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من غُلامٌ أي أنى يحدث كائنا لي غلام أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما أنى ولِي متعلق بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصب على الظرفية ، وقوله تعالى وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا حال منه مؤكدة للاستبعاد إثر تأكيد ، ومن للابتداء العلي ، والعتى من عتي يعتو اليبس والقحول في المفصال والعظام.
وقال الراغب : هو حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداوتها ، وقيل إلى رياضتها وهي الحالة المشار إليها بقول الشاعر : ومن العناء رياضة الهرم. وأصله عتوو كقعود فاستثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم انقلبت الثانية أيضا لاجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون وكسرت العين اتباعا لما بعدها أي كانت امرأتي عاقرا لم تلد في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوز وقد بلغت أنا من أجل كبر السن يبسا وقحولا أو حالة لا سبيل إلى إصلاحها وقد تقدم لك الأقوال في مقدار عمره عليه السّلام إذ ذاك. وأما عمر امرأته فقد قيل إنه كان ثماني وتسعين.
وجوز أن تكون مِنَ للتبعيض أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا ، وجعلها بعضهم بيانية تجريدية وفيه بحث والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا من عِتِيًّا وهو نصب على المفعولية وأصل المعنى متحد مع قوله تعالى في آل عمران حكاية عنه بلغني الكبر والتفاوت في المسند إليه لا يضر فإن ما بلغك من المعاني فقد بلغته نعم بين الكلامين اختلاف من حيثية أخرى لا تخفى فيحتاج اختيار كل منهما في مقام إلى نكتة فتدبر ذاك ، وكذا وجه البداءة هاهنا بذكر حال امرأته عليه السّلام على عكس ما في تلك السورة.
وفي إرشاد العقل السليم لعل ذلك لما أنه قد ذكر حاله في تضاعيف دعائه وإنما المذكور هاهنا بلوغه أقصى مراتب الكبر تتمة لما ذكر قبل وأما هنا لك فلم يسبق في الدعاء ذكر حاله فلذلك قدمه على ذكر حال امرأته لما أن المسارعة إلى بيان قصور شأنه أنسب ا ه.
وقال بعضهم : يحتمل تكرر الدعاء والمحاورة واختلاف الأسلوب للتفنن مع تضمن كل ما لم يتضمنه الآخر فتأمل واللّه تعالى الموفق ، والظاهر أنه عليه السّلام كان يعرف من نفسه أنه لم يكن عاقرا ، ولذلك ذكر الكبر ولم يذكر العقر وإنما قال عليه السّلام ما ذكر مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة اللّه تعالى لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران استعظاما لقدرة اللّه تعالى واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محض فضل اللّه تعالى ولطفه مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة ولم يكن ذلك استبعادا كذا قيل.
وقيل : هو استبعاد لكنه ليس راجعا إلى المتكلم بل هو بالنسبة إلى المبطلين ، وإنما طلب عليه السّلام ما يزيل شوكة استبعادهم ويجلب ارتداعهم من سيء عادتهم ، وذلك مما لا بأس به من النبي خلافا لابن المنير ، نعم أورد على ذلك أن الدعاء كان خفيا عن المبطلين.
وأجيب بأنه يحتمل أنه جهر به بعد ذلك إظهارا لنعمة اللّه تعالى عليه وطلبا لما ذكر فتذكر ، وقيل : هو استبعاد راجع إلى المتكلم حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة ، وكان قد نسي عليه السّلام دعاءه وهو بعيد جدا.
وقال في الانتصاف : الظاهر واللّه تعالى أعلم أن زكريا عليه السّلام طلب ولدا على الجملة وليس في الآية ما يدل أنه يوجد منه وهو هرم ولا إنه من زوجته وهي عاقر ولا أنه يعاد عليهما قوتهما وشبابهما كما فعل بغيرهما أو يكون الولد من غير زوجته العاقر فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما فاستخبر أيكون وهما كذلك فقيل له كذلك أي يكون

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 387
الولد وأنتما كذلك. وتعقب بأن قوله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ظاهر في أنه طلب الولد وهما على حالة يستحيل عادة منهما الولد.
والظاهر عندي كونه استبعادا من حيث العادة أو هو بالنسبة إلى المبطلين وهو كما في الكشف أولى. وقرأ أكثر السبعة «عتيّا» بضم العين ، وقرأ ابن مسعود بفتحها وكذا بفتح صاد صِلِيًّا [مريم : 70] وأصل ذلك كما قال ابن جني ردا على قول ابن مجاهد لا أعرف لهما في العربية أصلا ما جاء من المصادر على فعيل نحو الحويل والزويل وعن ابن مسعود أيضا ومجاهد أنهما قرأ «عسيا» بضم العين وبالسين مكسورة. وحكى ذلك الداني عن ابن عباس والزمخشري عن أبي ، ومجاهد وهو من عسا العود يعسو إذا يبس.
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ قرأ الحسن «وهو علي هين» بالواو ، وعنه أنه كسر ياء المتكلم كما في قوله النابغة :
علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
ونحو ذلك قراءة حمزة وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم : 22] بكسر الياء ، والكاف إما رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وضمير قالَ للرب عز وجل لا للملك المبشر لئلا يفك النظم ، وذلك إشارة إلى قول زكريا عليه السّلام ، والخطاب في قالَ رَبُّكَ له عليه السّلام لا لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم بدليل السابق واللاحق ، وجملة هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مفعول قالَ الثاني وجملة الأمر كذلك مع جملة قالَ رَبُّكَ إلخ مفعول قالَ الأول وإن لم يتخلل بين الجملتين عاطف كما في قوله تعالى : وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود : 41] وقوله سبحانه وتعالى : قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا [المؤمنون : 82 ، 83] الآية وكم وكم ، وجيء بالجملة الأولى تصديقا منه تعالى لزكريا عليه السّلام وبالثانية جوابا لما عسى يتوهم من أنه إذا كان ذلك في الاستبعاد بتلك المنزلة وقد صدقت فيه فأنى يتسنى فهي في نفسها استئنافية لذلك ، ولا يحسن تخلل العاطف في مثل هاتين الجملتين إذا كان المحكي عنه قد تكلم بهما معا من غير عاطف ليدل على الصورة الأولى للقول بعينها ، وكذلك لا يحسن إضمار قول آخر لأنه يكون استئنافا جوابا للمحكي له فلا يدل على أنه استئناف أيضا في الأول إلا بمنفصل أما لو تكلم بهما في زمانين أو بدون ذلك الترتيب فالظاهر العطف أو الاستئناف بإضمار القول.
ثم لو كان الاقتصار في جواب زكريا عليه السّلام على هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ من دون إقحام قالَ رَبُّكَ لكان مستقيما لكن إنما عدل إليه للدلالة على تحقيق الوعد وإزالة الاستبعاد بالكلية على منوال ما إذا وعد ملك بعض خواصه ما لا يجد نفسه تستأهل ذلك فأخذ يتعجب مستبعدا أن يكون من الملك بتلك المنزلة فحاول أن يحقق مراده ويزيل استبعاده فأما أن يقول لا تستبعد أنه أهون شيء على الكلام الظاهر وإما أن يقول لا تستبعد قد قلت إنه أهون شيء علي إشارة منه إلى أنه وعد سبق القول به وتحتم وأنه من جلالة القدر بحيث لا يرى في إنجازه لباغيه كائنا من كان وقعا فكيف لمن استحق منه لصدق قدمه في عبوديته إجلالا ورفعا ، وهذا قول بلسان الإشارة يصدق وإن لم يكن قد سيق منه نطق به لأن المقصود أن علو المكانة وسعة القدرة وكمال الجود يقضي بذلك قيل : أولا أولا ثم إذا أراد ترشيح هذا المعنى عدل عن الحكاية قائلا : قد قال من أنت غرس نعمائه أنه أهون شيء علي ثم إذا حكى الملك القصة مع بعض خلصائه كان له أن يقول : قلت لعبدي فلان كيف وكيت قال : إني وليت قلت قال من أنت إلخ وأن يقول بدله قال سيد فلان له ويسرد الحديث فهذا وزان الآية فيما جرى لزكريا عليه السّلام وحكى لنبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل والسّلام ، وقد لاح من هذا التقرير إن فوات نكتة الإقحام مانع من أن يجعل المرفوع من صلة قالَ الثاني والمجموع

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 388
صلة الأول ، والظاهر في توجيه قراءة الحسن على هذا أن جملة هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ عطف على محذوف من نحو أفعل وأنا فاعل ، ويجوز أن يقال وربما أشعر كلام الزمخشري بإيثاره أنه عطف على الجملة السابقة نظرا إلى الأصل لما مر من أن قالَ مقحم لنكتة فكأنه قيل الأمر كذلك وهو على ذلك يهون علي ، وأما نصب بقال الثاني وهي الكاف التي تستعمل مقحمة في الأمر العجيب الغريب لتثبيته وذلك إشارة إلى مبهم يفسر ما بعده أعني هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وضمير قالَ للرب كما تقدم والخطاب لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم أيضا أي قال رب زكريا له قال ربك مثل ذلك القول العجيب الغريب هو علي هين على أن قالَ الثاني مع ما في صلته مقول القول الأول وإقحام القول الثاني لما سلف ولا ينصب الكاف بقال الأول وإلا لكان قالَ ثانيا تأكيدا لفظيا لئلا يقع الفصل بين المفسر والمفسر بأجنبي وهو ممتنع إذ لا ينتظم أن يقال : قال رب زكريا قال ربك ويكون الخطاب لزكريا عليه السّلام والمخاطب غيره كيف وهذا النوع من الكلام يقع فيه التشبيه مقدما لا سيما في التنزيل الجليل من نحو وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً [البقرة : 143] كذلك اللّه يفعل ما يشاء إلى غير ذلك ، وهذا الوجه لا يتمشى في قراءة الحسن لأن المفسر لا يدخله الواو ولا يجوز حذفه حتى يجعل عطفا عليه لأن الحذف والتفسير متنافيان ، وجوز على احتمال النصب أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من وعد اللّه تعالى إياه عليه السّلام بقوله : إِنَّا نُبَشِّرُكَ إلخ أي قال ربه سبحانه له قال ربك مثل ذلك أي مثل ذلك القول العجيب الذي وعدته وعرفته وهو إِنَّا نُبَشِّرُكَ إلخ ، وأداة التشبيه مقحمة كما مر فيكون المعنى وعد ذلك وحققه وفرغ منه فكن فارغ البال من تحصيله على أوثق بال ثم قال : هو علي هين أي قال ربك هو علي هين فيضمر القول ليتطابقا في البلاغة ، ولأن قوله مثل ذلك مفرد فلا يحسن أن تقرن الجملة به وينسحب
عليه ذلك القول بعينه بل إنما يضمر مثله استئنافا إيفاءا بحق التناسب. وإن شئت لم تنوه ليكون محكيا منتظما في سلك قالَ رَبُّكَ منسحبا عليه القول الأول أي قال رب زكريا له هو على هين لأن اللّه تعالى هو المخاطب لزكريا عليه السّلام فلا منع من جعله مقول القول الأول من غير إضمار لأن القولين - أعني قال ربك مثل ذلك هو علي هين - صادران معا محكيان على حالهما. ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى أعني الملك تعين إضمار القول لامتناع أن يكون هو علي هين من مقوله فلا ينسحب عليه الأول.
وأما على قراءة الحسن فإن جعل عطفا علي قالَ رَبُّكَ لم يحتج إلى إضمار لصحة الانسحاب وإن أريد تأكيده أيضا قدر القول لئلا تفوت البلاغة ويكون التناسب حاصلا ، وجعله عطفا ما بعده قالَ الثاني من دون التقدير يفوت به رعاية التناسب لفظا فإن ما بعده مفرد والملاءمة معنى لما عرفت أن لأقول على الحقيقة ، والمعنى قال ربه قد حقق الموعود وفرغ عنه فلا بد من تقديره على هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ليفيد تحقيقه أيضا ، ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى تعين الإضمار لعدم الانسحاب دونه فافهم ، وهذا ما حققه صاحب الكشف وقرر به عبارة الكشاف بأدنى اختصار ، ثم ذكر أن خلاصة ما وجده من قول الأفاضل أن التقدير على احتمال أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الوعد قال رب زكريا له قال ربك قولا مثل قوله سبحانه وتعالى السابق عدة في الغرابة والعجب فاتجه له عليه السّلام أن يسأل ماذا قلت يا رب وهو مثله فيقول : هو علي هين أي قلت أو قال ربك. والأصل على هذا التقدير قلت قولا مثل الوعد في الغرابة فعدل إلى الالتفات أو التجريد أيا شئت تسميه لفائدته المعلومة ، وليس في الإتيان بأصل القول خروج عن مقتضى الظاهر إذ لا بد منه لينتظم الكلام وذلك لأن المعنى على هذا التقدير ولا تعجب من ذلك القول وانظر إلى مثله واعجب فقد قلناه.
وكذلك يتجه لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم السؤال فيجاب بأنه قال له ربه هو علي هين وصحة وقوعه جوابا عن سؤال نبينا عليه الصلاة والسّلام وهو الأظهر على هذا الوجه لأن الكلام معه ، وإذ قد صح أن يجعل جوابا له جاز إضمار القول لأنه جواب له صلّى اللّه عليه وسلّم بما يدل على أنه خوطب به زكريا عليه السّلام أيضا وجاز أن لا يضمر لأن المخاطب لهما واحد والخطاب مع نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وعلم من ضرورة المماثلة أنه قيل لزكريا أيضا هذه المقالة ولو كان الحاكي والقائل الأول

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 389
مختلفين في هذه الصورة لم يكن بد من إضماره لأنه إذا قال عمرو لبكر ماذا قال زيد لخالد مما يماثل مقالته السابقة له؟ فيقول : إنك محبب مرضي وجب أن يكون التقدير قال زيد لخالد هذه المقالة لا محالة ، ولا بعد في تنزيل كلام الزمخشري عليه ، وهذا ما لوح إليه صاحب التقريب وآثره الإمام الطيبي وفيه فوات النكتة المذكورة في قالَ رَبُّكَ ثم إنه إن لم يكن سبق القول كان كذبا من حيث الظاهر إذ ليس من القول بلسان الإشارة إلا أن يؤول بأنه مستقبل معنى ، هذا والكلام مسوق لما يزيل الاستبعاد ويحقق الموعود المرتاد وفي ذلك التقدير خروج عنه إلى معنى آخر ربما يستلزم هذا المعنى تبعا وما سيق له الكلام ينبغي أن يجعل الأصل انتهى.
وهو كلام تحقيق وتدقيق لا يرشد إليه إلا توفيق ، وفي الآية وجه آخر هو ما أشار إليه صاحب الانتصاف ، وهَيِّنٌ فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ، والمراد أني كامل القدرة على ذلك إذا أردته كان.
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً تقرير لما قبل ، والشيء هنا بمعنى الموجود أي ولم تك موجودا بل كنت معدوما ، والظاهر أن هذا إشارة إلى خلقه بطريق التوالد والانتقال في الأطوار كما يخلق سائر أفراد الإنسان ، وقال بعض المحققين : المراد به ابتداء خلق البشر ، إذ هو الواقع إثر العدم المحض لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالد المعتاد فكأنه قيل : وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم ولم تك إذ ذاك شيئا أصلا بل كنت عدما بحتا ، وإنما لم يقل :
وقد خلقت أباك أو آدم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته في إزالة الاستبعاد بقياس حال ما بشر به على حاله عليه السّلام لتأكيد الاحتجاج وتوضيح منهاج القياس من حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه السّلام من العدم لأنه عليه السّلام أبدع أنموذجا منطويا على سائر آحاد الجنس فكان إبداعه على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه كذلك ، ولما كان خلقه عليه السّلام على هذا النمط الساري إلى جميع ذريته أبدع من أن يكون مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته وكان عدم زكريا حينئذ أظهر عنده وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشر به نسب الخلق المذكور إليه كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف : 11] توفية لمقام الامتنان حقه انتهى ، ولا يخلو عن تكلف ، وجوز أن يكون الشيء بمعنى المعتد به وهو مجاز شائع ، ومنه قول المتنبي :
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وقولهم : عجبت من لا شيء وليس بشيء إذ يأباه المقام ويرده نظم الكلام. وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي «خلقناك».
[سورة مريم (19) : الآيات 10 إلى 26]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19)
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 390
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة تدلني على تحقق المسئول ووقوع الخبر ، وكان هذا السؤال كما قال الزجاج لتعريف وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه وهو أمر خفي لا يوقف عليه لا سيما إذا كانت زوجته ممن انقطع حيضها لكبرها وأراد أن يطلعه اللّه تعالى ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر من حين حدوثها ولا يؤخره إلى أن تظهر ظهورا معتادا ، وقيل : طلب ذلك ليزداد يقينا وطمأنينة كما طلب إبراهيم عليه السّلام كيفية إحياء الموتى لذلك والأول أولى ، وبالجملة لم يطلبه لتوقف منه في صدق الوعد ولا لتوهم أن ذلك من عند غير اللّه تعالى ، ورواية هذا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لا تصبح لعصمة الأنبياء عليهم السّلام عن مثل ذلك وذكر أن هذا السؤال ينبغي أن يكون بعد ما مضى بعد البشارة برهة من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبر من عيسى عليهما السّلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب في أن دعاءه عليه السّلام كان في صغر مريم لقوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ وهي إنما ولدت عيسى عليه السّلام وهي بنت عشر سنين أو بنت ثلاث عشرة سنة ، والجعل إبداعي واللام متعلقة به ، والتقديم على آيَةً الذي هو المفعول لما تقدم مرارا أو بمحذوف وقع حالا من آيَةً وقيل : بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين أولهما آيَةً وثانيهما الظرف وتقديمه لأنه لا مسوغ لكون آيَةً مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الظرف فلا يتغير حالهما بعد ورود الناسخ.
قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أن لا تقدر على تكليمهم بكلامهم المعروف في محاوراتهم.
روي عن أبي زيد أنه لما حملت زوجته عليه السّلام أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا وهو مع ذلك يقرأ التوراة فإذا أراد مناداة أحد لم يطقها ثَلاثَ لَيالٍ مع أيامهن للتصريح بالأيام في سورة آل عمران والقصة واحدة ، والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر كما ذكره السيرافي ، والنكتة في الاكتفاء بالليالي هنا وبالأيام ثمة على ما قيل أن هذه السورة مكية سابقة النزول وتلك مدنية والليالي عندهم سابقة على الأيام لأن شهورهم وسنيهم قمرية إنما تعرف بالأهلّة ولذلك اعتبروها في التاريخ كما ذكره النحاة فأعطى السابق للسابق ، والليال جمع ليل على غير قياس كأهل وأهال أو جمع ليلاة ويجمع أيضا على ليايل.
سَوِيًّا حال من فاعل تُكَلِّمَ مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة لا لاعتقال اللسان بمرض أي يتعذر عليك تكليمهم ولا تطيقه حال كونك سوى الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرس وهذا ما عليه الجمهور ، وعن ابن عباس أن سَوِيًّا عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «أن لا تكلّم» بالرفع على أن أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن أي إنه لا تكلم فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ أي من المصلى كما روي عن ابن زيد أو من الغرفة كما قيل ،

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 391
وأصل المحراب كما قال الطبرسي : مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله ، ويسمى محل العبادة محرابا لما أن العابد كالمحارب للشيطان فيه ، وإطلاق المحراب على المعروف اليوم في المساجد لذلك وهو محدث لم يكن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وقد ألف الجلال السيوطي في ذلك رسالة صغيرة سماها إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب. روي أن قومه كانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم متغيرا لونه فأنكروه وقالوا : مالك؟ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أومأ إليهم وأشار كما روي عن قتادة وابن منبه والكلبي والقرطبي وهو إحدى الروايتين عن مجاهد ، ويشهد له قوله تعالى : إِلَّا رَمْزاً [آل عمران : 41] وروي عن ابن عباس كتب لهم على الأرض. أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا وهو الرواية الأخرى عن مجاهد لكن بلفظ على التراب بدل على الأرض وقال عكرمة : كتب على ورقة وجاء إطلاق الوحي على الكتابة في كلام العرب ومنه قول عنترة :
كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطي
وقول ذي الرمة :
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في بطون الصحائف
وأَنْ إما مفسرة أو مصدرية فتقدر قبلها الباء الجارة ، والمراد بالتسبيح الصلاة مجازا بعلاقة الاشتمال وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وجماعة وبُكْرَةً وَعَشِيًّا ظرفا زمان له ، والمراد بذلك كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقال بعض : التسبيح على ظاهره وهو التنزيه أي نزهوا ربكم طرفي النهار ، ولعله عليه السّلام كان مأمورا بأن يسبح شكرا ويأمر قومه.
وقال صاحب التحرير والتحبير : عندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص التسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمرا عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول : سبحان اللّه تعالى سبحان الخالق جل جلاله فلما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح ا ه.
فأمرهم بالتسبيح إشارة إلى حصول أمر عجيب ، وقيل : إنه عليه السّلام كان قد أخبر قومه بما بشر به قبل جعل العلامة فلما تعذر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشر به من الأمر العجيب فسروا بذلك.
وقرأ طلحة «أن سبحوه» بهاء الضمير عائدة إلى اللّه تعالى ، وروى ابن غزوان عن طلحة «أن سبحن» بنون مشددة يا يَحْيى على تقدير القول وكلام آخر حذف مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم أي فلما ولد وبلغ سنا يؤمر مثله فيه قلنا يا يحيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة ، وادعى ابن عطية الإجماع على ذلك بناء على أن آل للعهد ولا معهود إذ ذاك سواها فإن الإنجيل لم يكن موجودا حينئذ وليس كما قال بل قيل له عليه السّلام : كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء عليهم السّلام بمثل ذلك ، وقيل : المراد بالكتاب صحف إبراهيم عليه السّلام ، وقيل : المراد الجنس أي كتب اللّه تعالى بِقُوَّةٍ بجد واستظهار وعمل بما فيه ، وقائل ذلك هو اللّه تعالى على لسان الملك كما هو الغالب في القول للأنبياء عليه السّلام ، وأبعد التبريزي فقدر قال له أبوه حين ترعرع ونشأ : يا يحيى إلخ ، ويزيده بعدا قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.
أخرج أبو نعيم وابن مردويه والديلمي عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في ذلك : أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين
، وجاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أيضا قال الغلمان ليحيى بن زكريا عليهما السّلام : اذهب بنا نلعب فقال : اللعب خلقنا ، اذهبوا نصلي
فهو قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا والظاهر أن الحكم على هذا بمعنى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 392
الحكمة ، وقيل : هي بمعنى العقل ، وقيل معرفة آداب الخدمة ، وقيل الفراسة الصادقة وقيل النبوة وعليه كثير قالوا : أوتيها وهو ابن سبع سنين أو ابن ثلاث أو ابن سنتين ولم ينبأ أكثر الأنبياء عليهم السلام قبل الأربعين ، والجملة عطف على قلنا المقدر وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا عطف على الْحُكْمَ وتنوينه للتفخيم وهو في الأصل من حن إذا ارتاح واشتاق ثم استعمل في الرحمة والعطف ، ومنه الحنان للّه تعالى خلافا لمن منع إطلاقه عليه عز وجل ، وإلى تفسيره بالرحمة هنا ذهب الحسن وقتادة والضحاك وعكرمة والفراء وأبو عبيدة وهو رواية عن ابن عباس ، ويروى أنه أنشد في ذلك لابن الأزرق قول طرفة :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأنشد سيبويه قول المنذر بن درهم الكلبي :
وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف
تقول حنانا ما أتى بك هاهنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف
والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي وآتيناه رحمة عظيمة عليه كائنة من جنابنا وهذا أبلغ من ورحمناه وروي هذا التفسير عن مجاهد ، وقيل : المراد وآتيناه رحمة في قلبه وشفقة على أبويه وغيرهما ، وفائدة الوصف على هذا الإشارة إلى أن ذلك كان مرضيا للّه عز وجل فإن من الرحمة والشفقة ما هو غير مقبول كالذي يؤدي إلى ترك شيء من حقوق اللّه سبحانه كالحدود مثلا أو الإشارة إلى أن تلك الرحمة زائدة على ما في جبلة غيره عليه السّلام لأن ما يهبه العظيم عظيم. وأورد على هذا أن الإفراط مذموم كالتفريط وخير الأمور أوسطها. ورد بأن مقام المدح يقتضي ذلك. ورب إفراط يحمد من شخص ويذم من آخر فإن السلطان يهب الألوف ولو وهبها غيره كان إسرافا مذموما.
وعن ابن زيد أن الحنان هنا المحبة وهو رواية عن عكرمة أي وآتيناه محبة من لدنا ، والمراد على ما قيل جعلناه محببا عند الناس فكل من رآه أحبه نظير قوله تعالى : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه : 39] وجوز بعضهم أن يكون المعنى نحو ما تقدم على القول السابق ، وقيل : هو منصوب على المصدرية فيكون من باب وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحفظا [الملك : 5].
وجوز أن يجعل مفعولا لأجله وأن يجعل عطفا على صَبِيًّا وذلك ظاهر على تقدير أن يكون المعنى رحمة لأبويه وغيرهما ، وعلى تقدير أن يكون وحنانا من اللّه تعالى عليه لا يجيء الحال وباقي الأوجه بحاله ، ولا يخفى على المتأمل الحال على ما روي عن ابن زيد وَزَكاةً أي بركة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وهو عطف على المفعول ، ومعنى إيتائه البركة على ما قيل جعله مباركا نفاعا معلما للخير. وقيل : الزكاة الصدقة والمراد ما يتصدق به ، والعطف على حاله أي آتيناه ما يتصدق به على الناس وهو كما ترى.
وقيل : هي بمعنى الصدقة والعطف على الحال والمراد آتيناه الحكم حال كونه متصدقا به على أبويه وروي هذا عن الكلبي. وابن السائب ، وجوز عليه العطف على حَناناً بتقدير العلية ، وقيل : العطف على المفعول ، ومعنى إيتائه الصدقة عليهما كونه عليه السّلام صدقة عليهما ، وعن الزجاج هي الطهارة من الذنوب ولا يضر في مقام المدح الإتيان بألفاظ ربما يستغني ببعضها عن بعض وَكانَ تَقِيًّا مطيعا متجنبا عن المعاصي وقد جاء في غير ما حديث أنه عليه السّلام ما عمل معصية ولا هم بها.
وأخرج مالك وأحمد في الزهد وابن المبارك وأبو نعيم عن مجاهد قال : كان طعام يحيى بن زكريا عليهما

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 393
السّلام العشب وإنه كان ليبكي من خشية اللّه تعالى حتى لو كان القار على عينه لخرقه وقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
كثير البر بهما والإحسان إليهما والظاهر أنه عطف على خبر كان وقيل هو من باب علفتها تبنا وماء باردا والمراد وجعلناه برا وهو يناسب نظيره حكاية عن عيسى عليه السّلام ، وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وابن نهيك وأبو مجلز «وبرا» في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
متكبرا متعاليا عن قبول الحق والإذعان له أو متطاولا على الخلق وقيل : الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقا ، وعن ابن عباس أنه الذي يقتل ويضرب على الغضب.
وقال الراغب : هو في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها.
عَصِيًّا
مخالفا أمر مولاه عز وجل ، وقيل : عاقا لأبويه وهو فعول وقيل فعيل ، والمراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وَسَلامٌ عَلَيْهِ
قال الطبري : أمان من اللّه تعالى عليه يَوْمَ وُلِدَ
من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم وَيَوْمَ يَمُوتُ
من وحشة فراق الدنيا وهو المطلع وعذاب القبر ، وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت بناء على أنه عليه السّلام قتل لبغي من بغايا بني إسرائيل وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
من هول القيامة وعذاب النار وجيء بالحال للتأكيد ، وقيل : للإشارة إلى أن البعث جسماني لا روحاني ، وقيل للتنبيه على أنه عليه السّلام من الشهداء.
وقال ابن عطية : الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من اللّه تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى اللّه عز وجل ، وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما السّلام التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى : ادع اللّه تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى : بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم اللّه تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي.
وهذه الجملة - كما قال الطيبي - عطف من حيث المعنى على آتَيْناهُ الْحُكْمَ كأنه قيل وأتيناه الحكم صبيا وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك المواطن فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق. ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك قوله تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
إلخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأمر عليه الصلاة والسّلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السّلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة. والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السّلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السّلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها مَرْيَمَ
أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان.
وقوله تعالى : إِذِ انْتَبَذَتْ
ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء. وجعله أبو حيان ظرفا لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى. وقيل : هو ظرف لمحذوف وقع حالا من ذلك المضاف ، وقيل : بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة.
وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلا منها. ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقط غير بين ولا مبين. وقيل : بدل كل من كل على أن المراد بمريم قصتها وبالظرف

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 394
الواقع فيه وفيه بعد. وقيل : إِذِ
بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي. وهذا قول ضعيف للنحاة. والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال.
والانتباذ الاعتزال والانفراد.
وقال الراغب يقال : انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس والنبذ : إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به.
وقوله تعالى مِنْ أَهْلِها
متعلق بانتبذت ، وقوله سبحانه مَكاناً شَرْقِيًّا
قيل نصب على الظرف ، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه. واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هنا للعبادة ، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بحبل على ما روي عن ابن عباس أو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى : فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
وكونه شرقيا كان أمرا اتفاقيا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك «فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا» فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس ، وفي رواية إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه السّلام يستقبلون بيت المقدس وأنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السّلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك ، وجوز أن يكون اختاره اللّه تعالى لها لأنه مطلع الأنوار. وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى ، وروي أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه السّلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر ، وذلك قوله عز وجل : فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
أي جبرائيل عليه السّلام كما قاله الأكثر ، وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز. والإضافة للتشريف كبيت اللّه تعالى.
وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريبا فهو مجاز أيضا إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحا. وقال أبو مسلم : المراد من الروح عيسى عليه السّلام لقوله تعالى وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء : 171] وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء. وقرأ أبو حيوة وسهل «روحنا» بفتح الراء ، والمراد به جبريل عليه السّلام أيضا لأنه سبب لما فيه روح العباد إصابة الروح عند اللّه تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى :
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة : 88 ، 89] أو لأنه عليه السّلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا أو ذا روحنا.
وذكر النقاش أنه قرىء «روحنّا» بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليه السّلام فَتَمَثَّلَ لَها
مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء ، والمراد فتصور لها بَشَراً سَوِيًّا
سوي الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا ، وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقي إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته ، وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع ما فيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلا عن الحالة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 395
المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة ، نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في صورة دحية رضي اللّه تعالى عنه أو لابتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك ليكون مظنة لما ذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في نزاهتها بعيد جدا عن كلامه.
وقال بعض المتأخرين : إن استعاذتها باللّه تعالى تنبىء عن تهييج شهوتها وميلانها إليه ميلا طبيعيا على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السّلام وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف : 33] فقد قيل : المراد بالصبوة فيه الميل بمقتضى الطبيعة وحكم القوة الشهوية ثم إنه لا ينافي عفتها بل يحققها لكونه طبيعيا اضطراريا غير داخل تحت التكليف كما قيل في قوله تعالى : وَهَمَّ بِها [يوسف : 24] ومع هذا قد استعاذ يوسف عليه السّلام بما حكى اللّه تعالى عنه من قوله تعالى قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف : 23] فدعوى أن الاستعاذة تكذب التهييج والميل الطبيعي كذب والقول بأنه يأبى ذلك مقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة ليس بشيء لأن خلق الإنسان من ماء واحد أثر من آثار القدرة الخارقة للعادة أيضا.
والأسباب في هذا المقام ليست بمرفوضة بالكلية كما يرشد إلى ذلك قصة يحيى عليه السّلام. على أنه قد يدعي أن خلق شيء لا من شيء أصلا محال فلا يكون من مراتب القدرة ومادة الجعل الإبداعي الأعيان الثابتة وهي قديمة اه ، ولا يخلو عن بحث ، وما ذكرناه في التعليل أسلم من القال والقيل فتدبر ، ونصب «بشرا» على الحالية المقدرة أو التمييز ، وقيل على المفعولية بتضمين تمثل معنى اتخذ ، واستشكل أمر هذا التمثل بأن جبريل عليه السّلام شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان يلزم أن لا يبقى جبريل إن تساقطت الأجزاء الزائدة على جثة الإنسان وأن تتداخل الأجزاء إن لم يذهب شيء وهو محال. وأيضا لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي أمس لاحتمال التمثل ، وأيضا لو جاز التمثل بصورة الإنسان فلم لا يجوز تمثله بصورة أخرى غير صورة الإنسان ، ومن ذلك البعوض ونحوه ، ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل ، وأيضا لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي عليه الصلاة والسّلام يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل المتمثل به. وأجيب عن الأول بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل عليه السّلام أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة فبالأجزاء الأصلية يكون متمكنا من التمثل بشرا هذا عند القائلين بأنه جسم ، وأما عند القائلين بأنه روحاني فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير. وعن الثاني بأنه مشترك الإلزام بين الكل فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك أيضا إذ يجوز أن يخلق سبحانه مثل زيد مثلا ومع هذا الجواز يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على طرز ما تقدم.
وكذا من لم يعترف ، وأسند الحوادث إلى الاتصالات والتشكلات الفلكية يلزمه ذلك لجواز حدوث اتصال يقتضي حدوث مثل ذلك وحينئذ يمتنع القطع أيضا ، ولعله لما كان مثل ذلك نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك أن زيدا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس.
وأجيب عن الثالث بأن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع ، وهو الجواب عن الرابع كذا قال الإمام الرازي وعندي أن مسألة التمثل على القول بالجسمية مما ينبغي تفويض الأمر فيها إلى علام الغيوب ولا سبيل للعقل إلى الجزم فيها بشيء تنشرح له القلوب. وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابا لآثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها. وما قيل من أن ذلك تذكير لمن رأت بالجزاء لينزجر فإنه يقال يا رحمن الآخرة ليس بشيء لأنه ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
شرط جوابه محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي إن كان يرجى منك أن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 396
تتقي اللّه تعالى وتخشاه وتحتفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري.
وفي الكشف أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقيا أولى أن أثر الاستجارة باللّه تعالى أعنى مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقي ، وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ باللّه تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطا للاستعاذة لا تتم دونها وقال : إن كان يرجى إظهارا لمعنى أن وأنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلا عن العلم بها.
والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاستعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة باللّه تعالى حثا له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وإن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى.
وقدر الزجاج إن كنت تقيا فتتعظ بتعويذي ، والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جوابا لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعا بتقدير مبتدأ ، وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بي وقيل إنها أرادت إن كنت تقيا متورعا فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقابله من باب أولي ، وقال الشهاب : الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام ، وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى اللّه تعالى من شره لا حثه على الانزجار وقيل نافية ، والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقيا متورعا بحضورك عندي وانفرادك بي وهو خلاف الظاهر ، وأيّا ما كان فالتقيّ وصف من التقوى ، وقول من قال : إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد.
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
المالك لأمرك والناظر في مصلحتك الذي استعذت به ولست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر. روي عن ابن عباس أنها لما قالت : إِنِّي أَعُوذُ
إلخ تبسم جبريل عليه السّلام وقال : إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً
أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع ، ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى بتقدير القول أي ربك الذي قال أرسلت هذا الملك لأهب لك ، ويؤيده قراءة شيبة وأبي الحسن وأبي بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي وأبي عمرو ونافع في رواية ليهب بالياء فإن فاعله ضمير الرب تعالى. وما قيل : من أصل «ليهب» لأهب فقلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها تعسف من غير داع له.
وفي بعض المصاحف : أمرني أن أهب لك غلاما زَكِيًّا
طاهرا من الذنوب. وقيل : نبيا. وقيل : ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح فالزكا شامل للزيادة المعنوية والحسية. واستدل بعضهم برسالة الملك إليها على نبوتها.
وأجيب : بأن الرسالة لمثل ذلك لا تستدعي النبوة قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مبادئ الولادة وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي ولم أكن زانية ، والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة : 237 ، الأحزاب : 49] ولامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء : 43 ، المائدة : 6] ونحوه كما قيل دخلتم بهن وبني عليها.
وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه إما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صريحة فيه ومنها ما في النظم الكريم ، ولا يرد على ذلك ما في سورة آل عمران من قولها وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب ، ولم يجعل كناية عن الزنا وحده ، ولقائل أن يقول : إنه ثم كناية عن النكاح

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 397
فقط كما هنا واستوعبت الأقسام هاهنا لأنه مقام البسط واقتصرت على نفي النكاح ثم لعدم التهمة ولعلمها أنهم ملائكة ينادون لا يتخيلون فيها التهمة بخلاف هذه الحالة فإن جبريل عليه السّلام كان قد أتاها في صورة شاب أمرد ، ولهذا تعوذت منه ولم يكن قد سكن روعها بالكلية إلى أن قال : إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
على أنه قيل : إن في آل عمران من الاكتفاء وترك الاكتفاء في هذه لأنه تقدم نزولها فهي محل التفصيل بخلاف تلك لسبق العلم ، وقيل : المساس هنا كناية عن الأمرين على سبيل التغليب كما في تلك السورة وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تخصيص بعد التعميم لزيادة الاعتناء بتنزيه ساحتها عن الفحشاء ، ولذا آثرت كان في النفي الثاني فإن في ذلك إيذانا بأن انتفاء الفجور لازم لها.
وكأنها عليها السّلام من فرط تعجبها وغاية استبعادها لم تلتفت إلى الوصف في قول الملك عليه السّلام «لأهب لك غلاما زكيا» النافي كل ريبة وتهمة ونبذته وراء ظهرها وأتت بالموصوف وحده وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه أي ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع بله الوصف ، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم.
وبغي فعول عند المبرد وأصله بغوي فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الغين اتباعا ولذا لم تلحقه هاء التأنيث لأن فعولا يستوي فيه المذكر والمؤنث وإن كان بمعنى فاعل كصبور ، واعترضه ابن جني في كتاب التمام بأنه لو كان فعولا لقيل بغو كما قيل نهو عن المنكر ورد بأنه لا يقاس على الشاذ وقد نصوا على شذوذه فهو لمخالفته قاعدة اجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون واختار أنه فعيل وهو على ما قال أبو البقاء بمعنى فاعل ، وكان القياس أن تلحقه هاء التأنيث لأنه حينئذ ليس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كفعول ، ووجه عدم اللحوق بأنه للمبالغة التي فيه حمل على فعول فلم تلحقه الهاء ، وقال بعضهم :
هو من باب النسب كطالق ومثله يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وقيل ترك تأنيثه لاختصاصه في الاستعمال بالمؤنث ويقال للرجل باغ وقيل فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل وعلى هذا معنى بغي يبغيها الرجال للفجور بها ، وعلى القول بأنه بمعنى فاعل فاجرة تبغي الرجال ، وأيّا ما كان فهو للشيوع في الزانية صار حقيقة صريحة فيه فلا يرد أن اعتبار المبالغة فيه لا يناسب المقام لأن نفي الأبلغ لا يستلزم نفي أصل الفعل ، ولا يحتاج إلى الجواب بالتزام أن ذلك من باب النسب أو بأن المراد نفي القيد والمقيد معا أو المبالغة في النفي لا نفي المبالغة قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أطلقوا الكلام في أنه نظير ما تقدم في قصة زكريا عليه السّلام ، وفي الكشف أنه لا يجري فيه تمام الأوجه التي ذكرها الزمخشري هناك لأن «قال» أولا فيه ضمير الرسول إليها فكذلك إن علق بالثاني يكون المعنى قال الرسول قال ربك كذلك ثم فسره بقوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أو المعنى مثل ذلك القول العجيب الذي سمعته ووعدتك قال ربك على إقحام الكاف ثم استأنف هو علي هين ولا بد من إضمار القول لأن المخاطب لها جبريل عليه السّلام وقوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ كلام الحق تعالى شأنه حكاه لها. وإن علق بالأول يكون المعنى الأمر كذلك تصديقا لها أو كما وعدت تحقيقا له ثم استأنف قال ربك هو علي هين لإزالة الاستبعاد أو لتقرير التحقيق. ولا يبعد أن يجعل قالَ رَبُّكِ على هذا تفسيرا وكذلك مبهما انتهى. ولا أرى ما نقل عن ابن المنير هناك وجها هنا وَلِنَجْعَلَهُ تعليل لمعلل محذوف أي لنجعل وهب الغلام آيَةً وبرهانا لِلنَّاسِ جميعهم أو المؤمنين على ما روي عن ابن عباس يستدلون به على كمال قدرتنا وَرَحْمَةً عظيمة كائنة مِنَّا عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده فعلنا ذلك.
وجوز أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة أي لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله آية إلخ. قال في الكشف : إن مثل هذا يطرد فيه الوجهان ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف أيضا فليس قبل ما يصلح فهو تطويل للمسافة وهذه الجملة - أعني العلة معللها - معطوفة على

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 398
قوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وفي إيثار الأولى اسمية دالة على لزوم الهون مزيلة للاستبعاد والثانية فعلية دالة على أنه تعالى أنشأه لكونه آية ورحمة خاصة لا لأمر آخر ينافيه مرادا بها التجدد لتجدد الوجود لينتقل من الاستبعاد إلى الاستحماد ما لا يخفى من الفخامة انتهى.
ولا يرد أنه إذا قدر علة لنبين جاز أن يكون ذلك متعلقا بما يدل عليه هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ من غير حذف شيء فلا يصح قوله لم يكن بد من معلل محذوف لظهور ما فيه. وما ذكره من العطف خالف فيه بعضهم فجعل الواو على الأول اعتراضية ، ومن الناس من قال : إن لِنَجْعَلَهُ على قراءة «ليهب» عطف عليه على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وجوز أيضا العطف على لِأَهَبَ
على قراءة أكثر السبعة ، ولا يخفى بعد هذا العطف على القراءتين وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا محكما قد تعلق به قضاؤنا الأزلي أو قدر وسطر في اللوح لا بد لك منه أو كان أمرا حقيقا بمقتضى الحكمة والتفضل أن يفعل لتضمنه حكما بالغة : وهذه الجملة تذييل إما لمجموع الكلام أو للأخير فَحَمَلَتْهُ الفاء فصيحة أي فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيبها فدخلت النفخة في جوفها فحملته. وروي هذا عن ابن عباس وقيل : لم يدن عليه السّلام بل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت. وقيل : إن النفخة كانت في كمها وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل كانت في ذيلها ، وقيل كانت في فمها.
واختلفوا في سنها إذ ذاك فقيل ثلاث عشرة سنة ، وعن وهب ومجاهد خمس عشرة سنة ، وقيل : أربع عشرة سنة ، وقيل : اثنتا عشرة سنة ، وقيل : عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل ، وحكى محمد بن الهيصم رئيس الهيصمية من الكرامية أنها لم تكن حاضت بعد ، وقيل : إنها عليها السّلام لم تكن تحيض أصلا بل كانت مطهرة من الحيض. وكذا اختلفوا في مدة حملها ففي رواية عن ابن عباس أنها تسعة أشهر كما في سائر النساء وهو المروي عن الباقر رضي اللّه تعالى عنه لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب ذكرها في أثناء هذه القصة الغريبة. وفي رواية أخرى عنه أنها كانت ساعة واحدة كما حملته نبذته ، واستدل لذلك بالتعقيب الآتي وبأنه سبحانه قال في وصفه إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران : 59] فإنه ظاهر في أنه عز وجل قال له كن فيكون فلا يتصور فيه مدة الحمل. وعن عطاء وأبي العالية والضحاك أنها كانت سبعة أشهر ، وقيل : كانت ستة أشهر ، وقيل : حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، والمشهور أنها كانت ثمانية أشهر ، قيل : ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره عليه السّلام.
ونقل النيسابوري عن أهل التنجيم أن ذلك لأن الحمل يعود إلى تربية القمر فتستولي عليه البرودة والرطوبة وهو ظاهر في أن مربي الحمل في أول شهور الحمل القمر وفي الثامن يعود الأمر إليه عند المنجمين وهو مخالف لما في كفاية التعليم عنهم من أن أول الشهور منسوب إلى زحل والثاني إلى المشتري وهكذا إلى السابع وهو منسوب إلى القمر ثم ترجع النسبة إلى زحل ثم إلى المشتري : وفيها أيضا أن جهال المنجمين يقولون إن النطفة في الشهر الأول تقبل البرودة من زحل فتجمد ، وفي الثاني تقبل القوة النامية من المشتري فتأخذ في النمو ، وفي الثالث تقبل القوة الغضبية من المريخ وفي الرابع قوة الحياة من الشمس وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة وفي السادس قوة النطق من عطارد وفي السابع قوة الحركة من القمر فتتم خلقة الجنين فإن ولد في ذلك الوقت عاش وإلا فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل وإن ولد في التاسع عاش لأنه قبل قوة المشتري ، ومثل تلك الكلمات خرافات وكل امرأة تعرف أن النطفة إذا مضت عليها ثلاثة أشهر تتحرك ، وقد ذكر حكماء الطبيعة أن أقل مدة الولادة ستة أشهر ومدة الحركة ثلث مدة الولادة فيكون أقلها شهرين ومن امتحن الإسقاط يعلم أن الخلقة تتم في أقل من خمسين يوما انتهى.
وكلام المتشرعين لا يخفى عليك في هذا الباب.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 399
وقد يعيش المولود لثمان إلا أنه قليل فليس ذلك من خواصه عليه السّلام إن صح. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال المضطربة المتناقضة بيد أني أميل إلى أولها والاستدلال للثاني مما سمعت لا يخلو عن نظر.
فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فاعتزلت وهو في بطنها فالباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون : 20] وقول المتنبي يصف الخيول :
فمرت غير نافرة عليهم تدوس بنا الجماجم والرؤوسا
والجار والمجرور ظرف مستقر وقع حالا من ضميرها المستتر أي فانتبذت ملتبسة به مَكاناً قَصِيًّا بعيدا من أهلها وراء الجبل ، وأخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد عن نوف أن جبريل عليه السّلام نفخ في جيبها فحملت حتى إذا أثقلت وجعت ما يجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وخرج قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد فكان ما أخبر اللّه تعالى به.
وروى الثعلبي في العرائس عن وهب قال : إن مريم لما حملت كان معها ابن عم لها يسمى يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكانا معا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم أن أحدا من أهل زمانهما أشد اجتهادا وعبادة منهما وأول من علم أمرها يوسف فتحير في ذلك لعلمه بكمال صلاحها وعفتها وأنه لم تغب عنه ساعة فقال لها : قد وقع في نفسي شيء من أمرك لم أستطع كتمانه وقد رأيت الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولا جميلا فقال : يا مريم أخبريني هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر :
فقالت؟ نعم ألم تعلم أن اللّه تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تعلم أن اللّه تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة أتقول : إن اللّه سبحانه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى يستعين بالماء؟ قال : لا أقول هذا ولكني أقول إن اللّه تعالى يقدر على ما يشاء بقول كن فيكون فقالت :
ألم تعلم أن اللّه تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زال ما يجده وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى اللّه تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت «1» تلك البلاد أدركها النفاس
فكان ما قص سبحانه ، وقيل : انتبذت أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي الجأها كما قال الزمخشري وجماعة ، وفي الصحاح أجأته إلى كذا بمعنى ألجأته واضطررته إليه قال زهير بن أبي سلمى :
وجار سار معتمدا عليكم أجاءته المخافة والرجاء
قال الفراء : أصله من جئت وقد جعلته العرب الجاء ، وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب انتهى ، واختار أبو حيان أن المعنى جاء بها واعترض على الزمخشري وأطال الكلام بما لا يخفى رده والْمَخاضُ بفتح الميم كما في قراءة الأكثرين وبكسرها كما في رواية عن ابن كثير مصدر مخضت المرأة بفتح الخاء وكسرها إذا أخذها الطلق وتحرك الولد في بطنها للخروج ، وقرأ الأعمش وطلحة «فاجاءها» بإمالة فتحة الجيم ، وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم فَأَجاءَهَا من المفاجأة وروي ذلك عن مجاهد ونقله ابن عطية عن شبيل بن عزرة أيضا ، وقال صاحب اللوامح : إن قراءته تحتمل أن تكون الهمزة فيها قد قلبت ألفا ويحتمل أن تكون بين بين غير مقلوبة.
إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستند إليه عند الولادة كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي أو لذلك
___________
(1) قوله قال كاف هاد إلخ كذا بخطه ولم يذكر اسما أوله الياء وانظره اه منه :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 400
ولتستر به كما قيل ، والجذع ما بين العرق ومتشعب الأغصان من الشجرة ، وقد يقال للغصن أيضا : جذع ، والنخلة معروفة. والتعريف إما للجنس فالمراد واحدة من النخل لا على التعيين أو للعهد فالمراد نخلة معينة ويكفي لتعينها تعينها في نفسها وإن لم يعلمها المخاطب بالقرآن عليه الصلاة والسّلام كما إذا قلت أكل السلطان ما أتى به الطباخ أي طباخه فإنه المعهود ، وقد يقال : إنها معينة له صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يكون اللّه تعالى أراها له عليه الصلاة والسّلام ليلة المعراج ، وزعم بعضهم أنها موجودة إلى اليوم ، والظاهر أنها كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها وهو الذي تدل عليه الآثار ، فعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها عليها السّلام لما اشتد عليها الطلق نظرت إلى أكمة فصعدت مسرعة فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس عليها سعف.
وقيل : إن اللّه تعالى خلقها لها يومئذ وليس بذاك وكان الوقت شتاء ، ولعل اللّه تعالى أرشدها إليها ليريها فيما هو أشبه الأشجار بالإنسان من آياته ما يسكن روعتها كأثمارها بدون رأس وفي وقت الشتاء الذي لم يعهد ذلك فيه ومن غير لقاح كما هو المعتاد ، وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وإلى أن ولدها نافع كالثمرة الحلواء وأنه عليه السّلام سيحيي الأموات كما أحيى اللّه تعالى بسببه الموات مع ما في ذلك من اللطف بجعل ثمرتها خرسة لها ، والجار والمجرور متعلق بأجاءها ، وعلى القراءة الأخرى متعلق بمحذوف وقع حالا أي مستندة إلى جذع النخلة قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ بكسر الميم من مات يمات كخاف يخاف أو من مات يميت كجاء يجيء.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر ويعقوب بضمها من مات يموت كقال يقول :
قَبْلَ هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت أو قبل هذا الأمر. وإنما قالته عليها السّلام مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه السّلام من الوعد الكريم استحياء من الناس وخوفا من لائمتهم أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها. وروي أنها سمعت نداء أخرج يا من يعبد من دون اللّه تعالى فحزنت لذلك وتمنت الموت ، وتمني الموت لنحو ذلك مما لا كراهة فيه. نعم يكره تمنيه لضرر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا.
ففي صحيح مسلم وغيره قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم احيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي»
ومن ظن أن تمنيها عليها السّلام ذلك كان لشدة الوجع فقد أساء الظن والعياذ باللّه تعالى.
وَكُنْتُ نَسْياً أي شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد به أصلا كخرقة الطمث.
وقرأ الأكثرون «نسيا» بالكسر. قال الفراء : هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر والفتح أحب إلي.
وقال الفارسي : الكسر أعلى اللغتين ، وقال ابن الأنباري : هو بالكسر اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض وبالفتح مصدر نائب عن الاسم ، وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسئا» بكسر النون والهمزة مكان الياء وهي قراءة نوف الأعرابي ، وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضا في رواية «نسأ» بفتح النون والهمزة على أن ذلك من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء ، ونقل ابن عطية عن بكر بن حبيب أنه قرأ «نسا» بفتح النون والسين من غير همز كعصى مَنْسِيًّا لا يخطر ببال أحد من الناس ووصف النسي بذلك لما أنه حقيقة عرفية فيما يقل الاعتداد به وإن لم ينس ، وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية بكسر الميم اتباعا لحركة السين كما قالوا : منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء فَناداها أي جبريل عليه السّلام كما روي عن ابن عباس ونوف.
وقرأ علقمة فخاطبها قال أبو حيان : وينبغي أن تكون تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف ، وقرأ الحبر «فناداها

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 401
ملك» مِنْ تَحْتِها وينبغي أن يكون المراد به جبريل عليه السّلام ليوافق ما روي عنه أولا. ومعنى مِنْ تَحْتِها من مكان أسفل منها وكان واقفا تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفا ، ونقل في البحر عن الحسن أنه قال :
ناداها جبريل عليه السّلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وأقسم على ذلك. ولعله إنما كان موقفه عليه السّلام هناك إجلالا لها وتحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال. والقول بأنه عليه السّلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال ، وقيل : ضمير تَحْتِها للنخلة ، واستظهر أبو حيان كون المنادى عيسى عليه السّلام والضمير لمريم والفاء فصيحة أي فولدت غلاما فأنطقه اللّه تعالى حين الولادة فناداها المولود من تحتها.
وروي ذلك عن مجاهد ووهب وابن جبير وابن جرير وابن زيد والجبائي ونقله الطبرسي عن الحسن أيضا ، وقرأ الابنان والأبوان وعاصم والجحدري وابن عباس والحسن في رواية عنهما مِنْ بفتح الميم بمعنى الذي فاعل نادى وتَحْتِها ظرف منصوب صلة لمن والمراد به إما عيسى أو جبريل عليهما الصلاة والسّلام أَلَّا تَحْزَنِي أي أي لا تحزني على أن أن مفسرة أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ بمكان أسفل منك ، وقيل : تحت أمرك إن أمرت بالجري جرى وإن أمرت بالإمساك أمسك وهو خلاف الظاهر سَرِيًّا أي جدولا كما أخرجه الحاكم في مستدركه عن البراء وقال : إن صحيح على شرط الشيخين وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه وأسنده عبد الرزاق وابن جرير ابن مردويه في تفاسيرهم عنه موقوفا عليه أيضا ولم يصح الرفع كما أوضحه الجلال السيوطي وعلى ذلك جاء قول لبيد يصف عيرا وأتانا :
فتوسطا عرض السريّ فصدعا مسجروة متجاوزا قلامها
وأنشد ابن عباس قول الشاعر :
سهل الخليقة ماجد ذو نائل مثل السريّ تمده الأنهار
وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس جدولا من الأردن أجراه اللّه تعالى منه لما أصابها العطش. وروي أن جبريل عليه السّلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا ، وقيل :
فعل ذلك عيسى عليه السّلام وهو المروي عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه
، وقيل : كان ذلك موجودا من قبل إلا أن اللّه تعالى نبهها عليه ، وما تقدم هو الموافق لمقام بيان ظهور الخوارق والمتبادر من النظم الكريم ، وسمي الجدول سريا لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا المعنى ياء ، وعن الحسن وابن زيد والجبائي أن المراد بالسري عيسى عليه السّلام وهو من السر وبمعنى الرفعة كما قال الراغب أي جعل ربك تحتك غلاما رفيع الشأن سامي القدر ، وفي الصحاح هو سخاء في مروءة وإرادة الرفعة أرفع قدرا ولامه على هذا المعنى واو. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي عنه. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.
وَهُزِّي إِلَيْكِ أي إلى جهتك ، والهز تحريك يمينا وشمالا سواء كان بعنف أولا أو تحريك بجذب ودفع وهو مضمن معنى الميل فلذا عدي بإلى أو أنه مجاز عنه أو اعتبر في تعديته ذلك لأنه جزء معناه كذا قيل.
ومنع أبو حيان تعلقه بهزي وعلل ذلك بأنه قد تقرر في النحو أن الفعل لا يعدى إلى الضمير المتصل وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا عدم وهما لمدلول واحد فلا يقال : ضربتك وزيد ضربه على معنى ضربت نفسك وضرب نفسه. والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا يقال : نظرت إليك وزيد نظر على معنى نظرت إلى نفسك ونظر إلى نفسه ، ومن هنا جعلوا على في قوله :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 402
هون عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها
اسما كما في قوله :
غدت من عليه بعد ماتم ظمؤها وجعل الجار والمجرور هنا متعلقا بمحذوف أي أعني إليك ما قالوا في سقيا لك ونحوه مما جيء به للتبيين.
وأنت تعلم أنهم قالوا بمجيء إلى للتبيين لكن قال ابن مالك. وكذا صاحب القاموس : إنها المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل وما هنا ليس كذلك. وقال في الإتقان : حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري أن إلى تستعمل اسما فيقال : انصرفت من إليك كما يقال غدوت من عليه وخرج عليه من القرآن وَهُزِّي إِلَيْكِ وبه يندفع إشكال أبي حيان فيه انتهى.
وكان عليه أن يبين ما معناها على القول بالاسمية ، ولعلها حينئذ بمعنى عند فقد صرح بمجيئها بهذا المعنى في القاموس وأنشد :
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره أشهى إلي من الرحيق السلسل
لكن لا يحلو هذا المعنى في الآية ، ومثله ما قيل إنها في ذلك اسم فعل ، ثم إن حكاية استعمالها اسما إذا صحت تقدح في قول أبي حيان : لا يمكن أن يدعى أن إلى نكون اسما لإجماع النحاة على حرفيتها. ولعله أراد إجماع من يعتد به منهم في نظره. والذي أميل إليه في دفع الإشكال أن الفعل مضمن معنى الميل والجار والمجرور متعلق به لا بالفعل الرافع للضمير وهو مغزى بعيد لا ينبغي أن يسارع إليه بالاعتراض على أن في القلب من عدم صحة نحو هذا التركيب للقاعدة المذكورة شيئا لكثرة مجيء ذلك في كلامهم. ومنه قوله تعالى : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب : 37] والبيت المار آنفا. وقول الشاعر :
دع عنك نهبا صيح في حجراته ولكن حديثا ما حديث الرواعل
وقولهم : اذهب إليك وسر عنك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع. وتأويل جميع ما جاء لا يخلو عن تكلف فتأمل وأنصف ، ثم الفعل هنا منزل منزلة اللازم كما في قول ذي الرمة :
فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
فلذا عدي بالباء أي افعلي الهز بِجِذْعِ النَّخْلَةِ فالباء للآلة كما في كتبت بالقلم. وقيل هو متعد والمفعول محذوف والكلام على تقدير مضاف أي هزي الثمرة بهز جذع النخلة ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن هز الثمرة لا يخلو من ركاكة ، وعن المبرد أن مفعوله رُطَباً الآتي والكلام من باب التنازع. وتعقب بأن الهز على الرطب لا يقع إلا تبعا فجعله أصلا وجعل الأصل تبعا حيث أدخل عليه الباء للاستعانة غير ملائم مع ما فيه من الفصل بجواب الأمر بينه وبين مفعوله ويكون فيه أعمال الأول وهو ضعيف لا سيما في هذا المقام.
وما ذكر من التعكيس وارد على ما فيه التكلف وهو ظاهر ، وما قيل من أن الهز وإن وقع بالأصالة على الجذع لكن المقصود منه الثمرة فلهذه النكتة المناسبة جعلت أصلا لأن هز الثمرة ثمرة الهز لا يدفع الركاكة التي ذكرناها مع أن المفيد لذلك ما يذكر في جواب الأمر. وجعل بعضهم بِجِذْعِ النَّخْلَةِ في موضع الحال على تقدير جعل المفعول رُطَباً أو الثمرة أي كائنة أو كائنا بجذع النخلة وفيه ثمرة ما لا تسمن ولا تغني ، وقيل الباء مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة : 195] وقول الشاعر :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 403
هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور
والوجه الصحيح الملائم لما عليه التنزيل من غرابة النظم كما في الكشف هو الأول ، وقول الفراء : إنه يقال هزه وهز به إن أراد أنهما بمعنى كما هو الظاهر لا يلتفت إليه كما نص عليه بعض من يعول عليه تُساقِطْ من ساقطت بمعنى أسقطت ، والضمير المؤنث للنخلة ورجوع للمضاف إليه شائع ، ومن أنكره فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وجوز أبو حيان حيان أن يكون الضمير للجذع لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله تعالى : «تلتقطه بعض السيارة» «1» في قراءة من قرأ بالتاء الفوقية ، وقول الشاعر : كما شرقت صدر القناة من الدم. وتعقب بأنه خلاف الظاهر وإن صح. وقرأ مسروق وأبو حيوة في رواية «تسقط» بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف وفي رواية أخرى عن أبي حيوة أنه قرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت. وقوله تعالى عَلَيْكِ رُطَباً في جميع ذلك نصب على المفعولية وهو نضيج البسر واحدته بهاء وجمع شاذا على أرطاب كربع «2» وأرباع ، وعن أبي حيوة أيضا أنه قرأ «تسقط» بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف ، وعنه أيضا كذلك إلا أنه بالياء من تحت فنصب رُطَباً على التمييز ، وروي عنه أنه رفعه في القراءة الأخيرة على الفاعلية.
وقرأ أبو السمال «تتساقط» بتاءين. وقرأ البراء بن عازب «يساقط» بالياء من تحت مضارع أساقط وقرأ الجمهور «تساقط» بفتح التاء من فوق وشد السين بعدها ألف وفتح القاف ، والنصب على هذه الثلاثة على التمييز أيضا.
وجوز في بعض القراءات أن يكون على الحالية الموطئة وإذا أضمر ضمير مذكر على إحدى القراءات فهو للجذع ، وإذا أضمر ضمير مؤنث فهو للنخلة أوله ما سمعت جَنِيًّا أي مجنيا ففعيل بمعنى مفعول أي صالحا للاجتناء. وفي القاموس ثمر جني جني من ساعته. وعليه قيل المعنى رطبا يقول من يراه هو جني وهو صفة مدح فإن ما يجني أحسن مما يسقط بالهز وما قرب عهده أحسن مما بعد عهده ، وقيل فعيل بمعنى فاعل أي رطبا طريا ، وكان المراد على ما قيل إنه تم نضجه.
وقرأ طلحة بن سليمان «جنيا» بكسر الجيم للاتباع. ووجه التذكير ظاهر. وعن ابن السيد أنه قال في شرح أدب الكاتب. كان يجب أن يقال جنية إلا أنه أخرج بعض الكلام على التذكير وبعضه على التأنيث ، وفيه نظر ، روي عن ابن عباس أنه لم يكن للنخلة إلا الجذع ولم يكن لها رأس فلما هزته إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم اخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ثم رطبا كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها وكان برنيا ، وقيل عجوة وهو المروي عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه.
والظاهر أنها لم تحمل سوى الرطب ، وقيل كان معه موز ، وروي ذلك عن أبي روق وإنما اقتصر عليه لغاية نفعه للنفساء ،
فعن الباقر رضي اللّه تعالى عنه لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن اللّه أطعمه مريم في نفاسها
وقالوا : ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل ، وقيل : المرأة إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ، وذكر أن التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك وفي أمرها بالهز إشارة إلى أن السعي في تحصيل الرزق في الجملة مطلوب وهو لا ينافي التوكل وما أحسن ما قيل :
ألم تر أن اللّه أوحى لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
___________
(1) قيل إنها نفست بكورة أجناس من أعمال مصر اه منه.
(2) سورة : يوسف ، الآية : 10.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 404
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزة إليها ولكن كل شيء له سبب
فَكُلِي من ذلك الرطب وَاشْرَبِي من ذلك السري. وقيل : من عصير الرطب وكان في غاية الطراوة فلا يتم الاستدلال بذكر الشرب على تعين تفسير السري بالجدول وما ألطف ما أرشد إليه النظم الكريم من إحضار الماء أولا والطعام ثانيا ثم الأكل ثالثا والشرب رابعا فإن الاهتمام بالماء أشد من الاهتمام بالأكل لا سيما ممن يريد أن يأكل ما يحوج إلى الماء كالأشياء الحلوة الحارة ، والعادة قاضية بأن الأكل بعد الشرب ولذا قدم الأكل على الشرب حيث وقع ، وقيل : قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه ، وقد كان جاريا وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة. وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاكله وهو الرطب. والأمر قيل يحتمل الوجوب والندب. وذلك باعتبار حالها ، وقيل هو للإباحة وَقَرِّي عَيْناً وطيبي نفسا وارفضي عنها ما أحزنك. وقرىء بكسر القاف وهي لغة نجدوهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر بمعنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى : تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ [الأحزاب : 19] من الحزن أو بمعنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. ويشهد له قوله قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه. وتسليتها عليها السّلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث إنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن اللّه تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية ، وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير.
ومن فسر السري برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسري من حيث إن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن اللّه سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالا وحالا.
وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال : قال عيسى عليه السّلام لها لا تحزني فقالت : كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السّلام : أنا أكفيك الكلام
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً أي آدميا كائنا من كان. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ابن الرومي «ترئن» بالإبدال من الياء همزة. وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين.
وقال الزمخشري : إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة «ترين» بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جني : هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي :
أما ترى رأسي أزرى به مأس زمان ذي انتكاس مؤوس
فَقُولِي له إن استنطقك إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنه «صياما» والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف عبد اللّه وقرأ به أنس بن مالك فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة ، وقيل إطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك. وقال بعضهم : المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره. وقد نهى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عنه فهو منسوخ في شرعه كما ذكره الجصاص في كتاب الأحكام.
وروي عن أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي.
وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام. وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 405
يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان قربة في شرع من قبلنا. فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشىء من قلة الاطلاع ، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السّلام خاصة. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال : كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم ما لصاحبك لم يسلم؟ قال : إنه نذر صوما لا يكلم اليوم إنسيا فقال له ابن مسعود : بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر فإنه خير لك. والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى : فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تكلم إنسيا بغير هذا الإخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمنذور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته. وقالت فرقة :
أمرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل : وهو الأظهر. قال الفراء : العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. ويفهم من قوله تعالى : إِنْسِيًّا دون أحدا أن المراد فلن أكلم اليوم إنسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي. وإنما أمرت عليها السّلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السّلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.
[سورة مريم (19) : الآيات 27 إلى 50]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 406
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضا. والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها. وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها قيل : إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السّلام. وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال : لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم يجدوها فاتهموه فأخذوه ووبخوه فقال رجل : إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان.
فظاهر الآية والأخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم ، وقيل : أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ فعلت شَيْئاً فَرِيًّا قال قتادة : عظيما ، وقيل : عجيبا. وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد ، وقيل : من أفراه كذلك. واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياسا من الثلاثي. وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس.
وفي الصحاح عن الكسائي أن الفري القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد. وعن الراغب مثل ذلك. وقيل الإفراء عام. وأيّا ما كان فقد استعير الفري لما ذكر في تفسيره. وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شرا أو خيرا قولا أو فعلا. ومنه في وصف عمر رضي اللّه تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه ، وفي المثل جاء يفري الفري. ونصب شَيْئاً على أنه مفعول به. وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئا عجيبا ، وعبر عنه بالشيء تحقيقا للاستغراب.
وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية «فريا» بسكون الراء وفيما نقل ابن خالويه «فرأ» بالهمزة يا أُخْتَ هارُونَ استئناف لتجديد التعيير وتأكيد التوبيخ. وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران عليهما السّلام لما
أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني وابن حبان وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أهل نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون يا أُخْتَ هارُونَ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا «1» قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول اللّه عليه الصلاة والسّلام فقال : «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بالأنبياء والصالحين قبلهم»
بل هو على ما روي عن الكلبي أخ لها من أبيها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : هو رجل صالح في بني إسرائيل. وروي عنه أنه قال ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون. والأخت على هذا بمعنى المشابهة وشبهوها به تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه رجل طالح فشبهوها به شتما لها. وقيل : المراد ، هارون أخو موسى عليهما السّلام ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم أيضا عن السدي.
وعلي بن أبي طلحة : وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة فوصفها بالأخوة لكونها وصف أصلها. وجوز
___________
(1) هو أول النتاج اه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 407
أن يكون هارون مطلقا على نسله كهاشم وتميم ، والمراد بالأخت أنها واحدة منهم كما يقال أخا العرب وهو المروي عن السدي.
ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تقرير لكون ما جاءت به فريا أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش وفيه دليل على أن الفروع غالبا تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك. وقرأ عمر بن بجا التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريرا : ما كان أباك امرؤ سوء. بجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة. وحسن ذلك قليلا وجود مسوغ الابتداء فيها وهو الإضافة.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي إلى عيسى عليه السّلام أن كلموه. قال شيخ الإسلام : والظاهر أنها بينت حينئذ نذرها وأنها بمعزل من محاورة الإنس حسبما أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به قالُوا منكرين لجوابها ، وفي بعض الآثار أنها لما أشارت إليه أن كلموه قالوا : استخفافها بنا أشد من زناها وحاشاها ثم قالوا : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قال قتادة : المهد حجر أمه ، وقال عكرمة :
المرباة أي المرجحة ، وقيل : سريره. وقيل : المكان الذي يستقر عليه. واستشكلت الآية بأن كل من يكلمه الناس كان في المهد صبيا قبل زمان تكليمه فلا يكون محلا للتعجب والإنكار.
وأجاب الزمخشري عن ذلك بوجهين ، الأول أن كان الإيقاع مضمون لجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو هاهنا لقريبه خاصة والدال عليه أن الكلام مسوق للتعجب فيكون المعنى كيف نكلم من كان بالأمس وقريبا منه. من هذا الوقت في المهد وغرضهم من ذلك استمرار حال الصبي به لم يبرح بعد عنه ولو قيل : من هو في المهد لم يكن فيه تلك الوكادة من حيث السابق كالشاهد على ذلك ، ومن على هذا موصولة يراد بها عيسى عليه السّلام. الثاني أن يكون نُكَلِّمُ حكاية حال ماضية ومن موصوفة ، والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي ما كلمناهم إلى الآن حتى نكلم هذا ، وفي العدول عن الماضي إلى الحال إفادة التصوير والاستمرار. وهذا كما في الكشف وجه حسن ملائم.
وقال أبو عبيدة : كان زائدة لمجرد التأكيد من غير دلالة على الزمان وصَبِيًّا حال مؤكدة والعامل فيها الاستقرار ، فقول ابن الأنباري إن كان نصبت هنا الخبر والزائدة لا تنصبه ليس بشيء ، والمعنى كيف نكلم من هو في المهد الآن حال كونه صبيا ، وعلى قول من قال : إن كان الزائدة لا تدل على حدث لكنها تدل على زمان ماض مقيد به ما زيدت فيه كالسيرافي لا يندفع الإشكال بالقول بزيادتها.
وقال الزجاج : الأجود أن تكون من شرطية لا موصولة ولا موصوفة أي من كان في المهد فكيف نكلمه وهذا كما يقال كيف أعظ من لا يعمل بموعظتي والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء فلا إشكال في ذلك ، ولا يخفى بعده قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل : قال عيسى عليه السّلام إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ روي أنه عليه السّلام كان يرضع فلما سمع ما قالوا ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته فقال ما قال ، وقيل إن زكريا عليه السّلام أقبل عليه يستنطقه فقال ذلك وذكر عبوديته للّه تعالى أولا لأن الاعتراف بذلك على ما قيل أول مقامات السالكين. وفيه رد على من يزعم ربوبيته ، وفي جيع ما قال تنبيه على يراءة أمه لدلالته على الاصطفاء واللّه سبحانه أجل من أن يصطفي ولد الزنا وذلك من المسلمات عندهم ، وفيه من إجلال أمه عليهما السّلام ما ليس في التصريح ، وقيل لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بما ذكر إلا مبرأة مصطفاة.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 408
واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان وعده عليه السّلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني آتانِيَ الْكِتابَ الظاهر أنه الإنجيل. وقيل التوراة. وقيل مجموعهما وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وجعلني مع ذلك مُبارَكاً قال مجاهد نفاعا ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص. وقال سفيان : معلم الخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وعن الضحاك قاضيا للحوائج ، والأول أولى لعمومه ، والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة أما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع. وقيل أكمله اللّه تعالى عقلا واستنبأه طفلا وروي ذلك عن الحسن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السّلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله آتانِيَ الْكِتابَ أَيْنَ ما كُنْتُ أي حيثما كنت وفي البحر أن هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركا وحذف لدلالة ما تقدم عليه ، ولا يجوز أن يكون معمولا لجعلني السابق لأن - أين - لا تكون إلا استفهاما أو شرطا والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه.
وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بهما أمرا مؤكدا والظاهر أن المراد بهما ما شرع في البدن والمال على وجه مخصوص. وقيل المراد بالزكاة زكاة الفطر. وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل ، ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء اللّه وإن كان منظورا فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم السّلام لأن اللّه تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم للّه تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة تطهير وكسبهم طاهر ، وقيل لا يتعين لأن ذلك أمر له بايجاب الزكاة على أمته وهو خلاف الظاهر ، وإذا قيل بحمل الزكاة على الظاهر فالظاهر أن المراد أَوْصانِي بأداء زكاة المال إن ملكته فلا مانع من أن يشمل التوقيت بقوله سبحانه ما دُمْتُ حَيًّا مدة كونه عليه السّلام في السماء ، ويلتزم القول بوجوب الصلاة عليه عليه الصلاة والسّلام هناك كذا قيل.
وأنت تعلم أن الظاهر المتبادر من المدة المذكورة مدة كونه عليه الصلاة والسّلام حيا في الدنيا على ما هو المتعارف وذلك لا يشمل مدة كونه عليه السّلام في السماء ، ونقل ابن عطية أن أهل المدينة. وابن كثير. وأبا عمرو قرأوا «دمت» بكسر الدال ولم نجد ذلك لغيره نعم قيل إن ذلك لغة وَبَرًّا بِوالِدَتِي عطف على «مباركا» على ما قال الحوفي وأبو البقاء ، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا للفصل وبالجملة ومتعلقها اختار إضمار فعل أي وجعلني بارا بها ، قيل هذا كالصريح في أنه عليه السّلام لا والد له فهو أظهر الجمل في الإشارة إلى براءتها عليها السّلام. وقرىء «برا» بكسر الباء ووجه نصبه نحو ما مر في القراءة المتواترة ، وجعل ذاته عليه السّلام برا من باب فإنما هي إقبال وإدبار ، وجوز أن يكون النصب بفعل في معنى أَوْصانِي أي وألزمني أو وكلفني برا فهو من باب علفتها تبنا وماء باردا وأقرب منه على ما في الكشف لأنه مثل زيدا مررت به في التناسب وإن لم يكن من بابه.
وجوز أن يكون معطوفا على محل بِالصَّلاةِ كما قيل في قراءة أَرْجُلَكُمْ [المائدة : 6] بالنصب ، وقيل إن أوصى قد يتعدى للمفعول الثاني بنفسه كما وقع في البخاري أوصيناك دينا واحدا ، والظاهر أن الفعل في مثل ذلك مضمن معنى ما يتعدى بنفسه ، وحكى الزهراوي. وأبو البقاء أنه قرىء «وبرا» بكسر الباء وهو معطوف على الصلاة والزكاة قولا واحدا ، والتنكير للتفخيم وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي لم يقض علي سبحانه بذلك في علمه الأزلي ، وقد كان عليه السّلام يقول : سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي.
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا تقدم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 409
فتذكر فما في العهد من قدم ، والأظهر بل الصحيح أن التعريف للجنس جيء به تعريضا باللعنة على متهمي مريم وأعدائها عليها السّلام من اليهود فإنه إذا قال جنس السّلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم ، ونظيره قوله تعالى :
وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه : 47] يعني أن العذاب على من كذب وتولى ، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر بل غير صحيح لا لأن المعهود سلام يحيى عليه الصلاة والسّلام وعينه لا يكون سلاما لعيسى عليه الصلاة والسّلام لجواز أن يكون من قبيل هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ [البقرة : 25] بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجودا وسردا فيكون معهودا غير سابق لفظا ومعنى على أن المقام يقتضي التعريض ويفوت على ذلك التقدير لأن التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السّلام به عليه كذا في الكشف والاكتفاء في العهد به لصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى حاله وسلام يحيى عليه السّلام قيل لكونه من قول اللّه تعالى أرجح من هذا السّلام لكونه من قول عيسى عليه السّلام ، وقيل هذا أرجح لما فيه من إقامة اللّه تعالى إياه في ذلك مقام نفسه مع إفادة اختصاص جميع السّلام به عليه السّلام فتأمل.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «يوم ولدت» بتاء التأنيث وإسناد الفعل إلى والدته ذلِكَ إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة ، وفيه إشارة إلى علو رتبته وبعد منزلته وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ونزوله منزلة المحسوس المشاهد. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : عِيسَى وقوله سبحانه : ابْنُ مَرْيَمَ صفة عيسى أو خبر بعد خبر أو بدل أو عطف بيان والأكثرون على الصفة. والمراد ذلك هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني حيث جعل موصوفا بأضداد ما يصفونه كالعبودية لخالقه سبحانه المضادة لكونه عليه السّلام إلها وابنا للّه عز وجل فالحصر مستفاد من فحوى الكلام ، وقيل : هو مستفاد من تعريف الطرفين بناء على ما ذكره الكرماني من أن تعريفهما مطلقا يفيد الحصر ، وهو على ما فيه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن ذلك مخصوص بتعريف المسند باللام أو بإضافته إلى ما هي فيه كتلك آيات الكتاب على ما فيه بعض شروح الكشاف.
وقيل استفادته من التعريف على ما ذكروه أيضا بناء على أن عيسى مؤول بالمعرف باللام أي المسمى بعيسى وهو كما ترى فعليك بالأول.
قَوْلَ الْحَقِّ نصب على المدح ، والمراد بالحق اللّه تعالى وبالقول كلمته تعالى ، وأطلقت عليه عليه السّلام بمعنى أنه خلق بقول كن من غير أب ، وقيل : نصب على الحال من عيسى ، والمراد بالحق والقول ما سمعت.
وقيل : نصب على المصدر أي أقول قول الحق. وقيل : هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة منصوب بأحق محذوفا وجوبا. وقال شيخ الإسلام : هو مصدر مؤكد لقال إني عبد اللّه إلخ وقوله سبحانه ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وفيه بعد. والْحَقِّ في الأقوال الثلاثة بمعنى الصدق. والإضافة عند جمع بيانية وعند أبي حيان من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقرأ الجمهور «قول» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه ، والضمير المقدر للكلام السابق أو لتمام القصة. وقيل : صفة لعيسى أو بدل من أو خبر بعد لذلك أهو الخبر وعيسى بدل أو عطف بيان.
والمراد في جميع ذلك كلمة اللّه تعالى. وقرأ ابن مسعود «قال الحق». وقال اللّه برفع «قال» فيهما.
وعن الحسن «قول الحق» بضم القاف واللام. والقول والقال والقول بمعنى واحد كالرهب والرهب والرهب.
ونص أبو حيان على أنها مصادر ، وعن ابن السكيت القال وكذا القيل اسم لا مصدر. وقرأ طلحة والأعمش في رواية «قال الحق» برفع لام «قال» على أنه فعل ماض ورفع «الحق» على الفاعلية. وجعل ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ على هذا

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 410
مقول القول أي قال اللّه تعالى ذلك الموصوف بما ذكر عيسى ابن مريم الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود : هو ساحر وحاشاه ويقول النصارى : ابن اللّه سبحان اللّه عما يقولون.
والموصول صفة القول أو الحق أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ وذلك بحسب اختلاف التفسير والقراءة. وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي كذلك «تمترون» بتاء الخطاب.
ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ أي ما صح وما استقام له جل شأنه اتخاذ ذلك وهو تكذيب للنصارى وتنزيه له عز وجل عما افتروه عليه تبارك وتعالى وقوله جل وعلا إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ تبكيت له ببيان أن شأنه تعالى شأنه إذا قضى أمرا من الأمور أن يوجد بأسرع وقت فمن يكون هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وهو من أمارات الاحتياج والنقص وقرأ ابن عامر «فيكون» بالنصب على الجواب. وقوله تعالى وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ عطف على ما قال الواحدي على قوله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فهو من تمام قول عيسى عليه السّلام تقرير المعنى العبودية والآيتان معترضتان ، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. وقرأ أبي بغير واو.
والظاهر أنه على هذا بتقدير القول خطابا لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم أي قل يا محمد إن اللّه إلخ. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأن بالواو وفتح الهمزة وخرجه الزمخشري على حذف حرف الجر وتعلقه باعبدوه أي ولأنه تعالى ربي وربّكم فاعبدوه وهو كقوله تعالى : وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن : 18] وهو قول الخليل وسيبويه.
وأجاز الفراء أن يكون إن وما بعدها في تأويل مصدر عطفا على الزَّكاةِ أي وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن اللّه ربي وربكم إلخ. وأجاز الكسائي أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن اللّه ربي وربكم.
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه عطف على أَمْراً من قوله تعالى إِذا قَضى أَمْراً أي إذ قضى أمرا وقضى أن اللّه ربي وربكم وهو تخبيط في الإعراب فلعله لا يصح عن أبي عمرو فإنه من الجلالة في علم النحو بمكان ، وقيل : إنه عطف على الكتاب وأكثر الأقوال كما ترى. وفي حرف أبي رضي اللّه تعالى عنه أيضا وبأن بالواو وباء الجر وخرجه بعضهم بالعطف على الصلاة أو الزكاة وبعضهم بأنه متعلق باعبدوه أي بسبب ذلك فاعبدوه ، والخطاب أما لمعاصري عيسى عليه السّلام وإما لمعاصري نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم هذا أي ما ذكر من التوحيد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه ، وقوله تعالى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيها على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للاختلاف فإن ما حكي من مقالات عيسى عليه السّلام مع كونها نصوصا قاطعة في كونه عبد اللّه تعالى ورسوله قد اختلف اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط فالمراد بالأحزاب اليهود والنصارى وهو المروي عن الكلبي ، ومعنى مِنْ بَيْنِهِمْ أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين ، و«بين» ظرف استعمل اسما بدخول من عليه.
ونقل في البحر القول بزيادة من. وحكى أيضا القول بأن البين هنا بمعنى البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق فتكون سببية ولا يخفى بعده ، وقيل : المراد بالأحزاب فرق النصارى فإنهم اختلفوا بعد رفعه عليه السّلام فيه فقال :
نسطور هو ابن اللّه تعالى عن ذلك أظهره ثم رفعه ، وقال يعقوب : هو اللّه تعالى هبط ثم صعد وقال ملكا : هو عبد اللّه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 411
تعالى ونبيه ، وفي الملل والنحل أن الملكانية قالوا : إن الكلمة يعني أقنوم العلم اتحدت بالمسيح عليه السّلام وتدرعت بناسوته.
وقالوا أيضا : إن المسيح عليه السّلام ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم وقد ولدت مريم إلها قديما أزليا والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا ، وقد قمنا من أمر النصارى ما فيه كفاية فليتذكر ، وقيل المراد بهم المسلمون واليهود والنصارى.
وعن الحسن أنهم الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام لما قص عليهم قصة عيسى عليه السّلام اختلفوا فيه من بين الناس ، قيل : إنهم مطلق الكفار فيشمل اليهود والنصارى والمشركين الذين كانوا في زمن نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وغيرهم ورجحه الإمام بأنه لا مخصص فيه ، ورجح القول بأنهم أهل الكتاب بأن ذكر الاختلاف عقيب قصة عيسى عليه السّلام يقتضي ذلك ، ويؤيده قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فالمراد بهم الأحزاب المختلفون ، وعبر عنهم بذلك إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم ، وإذا قيل بدخول المسلمين أو الملكانية وقيل : إنهم قالوا بأنه عليه السّلام عبد اللّه ونبيه ، في الأحزاب ، فالمراد من الذين كفروا بعض الأحزاب أي فويل للذين كفروا منهم مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي من مشهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد الملائكة والأنبياء عليهم السّلام عليهم وألسنتهم وسائر جوارحهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها.
وقيل : هو ما شهدوا به في حق عيسى عليه السّلام وأمه وعظمه لعظم ما فيه أيضا كقوله تعالى كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الكهف : 5]. وقيل هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وهو كما ترى. والحق أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ تعجيب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للحساب والجزاء أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما وعميا.
وروي ذلك عن الحسن وقتادة وقال علي بن عيسى : هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ويبصرون ما يسود وجوههم وعن أبي العالية أنه أمر حقيقة للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه. والجار والمجرور على الأولين في موضع الرفع على القول المشهور. وعلى الأخير في محل نصب لأن أَسْمِعْ أمر حقيقي وفاعله مستتر وجوبا. وقيل : في التعجب أيضا إنه كذلك. والفاعل ضمير المصدر لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي في الدنيا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لا يدرك غايته حيث اغفلوا الاستماع والنظر بالكلية. ووضع (الظالمين) موضع الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم.
والاستدراك على ما نقل عن أبي العالية يتعلق بقوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَأَنْذِرْهُمْ أي الظالمين على ما هو الظاهر. وقال أبو حيان : الضمير لجميع الناس أي خوفهم يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسر الظالمون على ما فرطوا في جنب اللّه تعالى. وقيل : الناس قاطبة ، وتحسر المحسنين على قلة إحسانهم إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وذبح الموت ونودي كل من الفريقين بالخلود.
وعن السدي وابن جريج الاقتصار على ذبح الموت وكان ذلك لما روي الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رأوه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا؟

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 412
فيقولون نعم : هذا الموت وكلهم قد رأوه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم» الآية.
وفي رواية عن ابن مسعود أن يوم الحسرة حين يرى الكفار مقاعدهم من الجنة لو كانوا مؤمنين ، وقيل : حين يقال لهم وهم في النار اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون : 108] وقيل : حين يقال امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس : 59].
وقال الضحاك : ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر ، وقيل : المراد بذلك يوم القيامة مطلقا ، وروي ذلك عن ابن زيد وفيه حسرات في مواطن عديدة ، ومن هنا قيل : المراد بالحسرة جنسها فيشمل ذلك حسرتهم فيما ذكر وحسرتهم عند أخذ الكتب بالشمائل وغير ذلك والمراد بقضاء الأمر «1» الفراغ من أمر الدنيا بالكلية ويعتبر وقت ذلك ممتدا ، وقيل : المراد بيوم الحسرة يوم القيامة كما روي عن ابن زيد إلا أن المراد بقضاء الأمر الفراغ مما يوجب الحسرة ، وجوز ابن عطية أن يراد بيوم الحسرة ما يعم يوم الموت.
وأنت تعلم أن ظاهر الحديث السابق وكذا غيره كما لا يخفى على المتتبع قاض بأن يوم الحسرة يوم يذبح الموت وينادي بالخلود ، ولعل التخصيص لما أن الحسرة يومئذ أعظم الحسرات لأنه هناك تنقطع الآمال وينسد باب الخلاص من الأهوال. ومن غريب ما قيل : إن المراد بقضاء الأمر سد باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها وليس بشيء ، وإِذْ على سائر الأقوال بدل من يَوْمَ أو متعلق بالحسرة والمصدر المعرف يعمل بالمفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف ، وقوله تعالى وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قال الزمخشري : متعلق بقوله تعالى شأنه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عن الحسن ، ووجه ذلك بأن الجملتين في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين ، واستظهر في الكشف العطف على قوله تعالى : الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي هم في ضلال وهم في غفلة وعلى الوجهين تكون جملة أَنْذِرْهُمْ معترضة والواو اعتراضية ، ووجه الاعتراض أن الإنذار مؤكد ما هم فيه من الغفلة والضلال ، وجوز أن يكون ذلك متعلقا بأنذرهم على أنه حال من المفعول أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين للعقب بأنه لا يلائم قوله تعالى : إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات : 45] وقال في الكشف : أنه غير وارد لأن ذلك بالنسبة إلى النفع وهذا بالنسبة إلى تنبيه الغافل لبيان أن النفع في الآخرة وهذه وظيفة الأنبياء عليهم السّلام عن آخرهم ، ثم لو سلم لا مناقضة كما في قوله تعالى وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات : 55] كيف وقد تكرر هذا المعنى في القرآن إلى قوله تعالى : لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس : 6] وأما إن قوله سبحانه : وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ نفي مؤكد يشتمل على الماضية والآتية فلا يسلم لو جعل حالا ولو سلم فقد علم جوابه مما سبق وما على الرسول إلا
البلاغ.
نعم لا نمنع أن الوجه الأول أرجح وأشد طباقا للمقام ، وحاصل المعنى على الأخير أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها للإنذار إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها لا يبقى لأحد غيره تعالى ملك ولا ملك فيكون كل ذلك له تعالى استقلالا ظاهرا وباطنا دون ما سواه وينتقل إليه سبحانه انتقال الموروث من المورث إلى الوارث ، وهذا كقوله تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر : 16] أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه واستيفائه إياه وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي يردون إلى الجزاء لا إلى غيرنا استقلالا أو اشتراكا. وقرأ الأعرج «ترجعون»
___________
(1) قيل بألف سنة اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 413
بالتاء الفوقية. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء التحتية مبنيا للفاعل ، وحكى عنهم الداني أنهم قرؤوا بالتاء الفوقية واللّه تعالى أعلم «ومن باب الإشارة في الآيات» كهيعص هو وأمثاله على الصحيح سر من أسرار اللّه تعالى ، وقيل في وجه افتتاح هذه السورة به : إن الكاف إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعف زكريا عليه السّلام وشيخوخته وعجزه ، والهاء إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته سبحانه به وإراءة مطلوبه له ، والياء إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي ، والعين إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب ، والصاد إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد ، والإشارة في القصتين إجمالا إلى أن اللّه تعالى شأنه يهب بسؤال وغير سؤال. وطبق بعض أهل التأويل ما فيهما على ما في الأنفس فتكلفوا وتعسفوا ، وفي نذر الصوم والمراد به الصمت إشارة إلى ترك الانتصار للنفس فكأنه قيل لها عليه السّلام : اسكتي ولا تنتصري فإن في كلامك وانتصارك لنفسك مشقة عليك وفي سكوتك إظهار ما لنا فيك من القدرة فلزمت الصمت فلما علم اللّه سبحانه صدق انقطاعها إليه أنطق جل وعلا عيسى عليه السّلام ببراءتها ، وذكر أنه عليه السّلام طوى كل وصف جميل في مطاوي قوله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وذلك لما قالوا من أنه لايدعي أحد بعبد اللّه إلا إذا صار مظهرا لجميع الصفات الإلهية المشير إليها الاسم الجليل ، وجعل على هذا قوله آتانِيَ الْكِتابَ إلخ كالتعليل لهذه الدعوى. وذكروا أن العبد مضافا إلى ضميره تعالى أبلغ مدحا مما ذكر وأن صاحب ذلك المقام هو نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، وكأن مرادهم أن العبد مضافا إلى ضميره سبحانه كذلك إذا لم يقرن بعلم كعبده زكريا وإلا فدعوى الاختصاص لأنتم فليتدبر.
وذكر ابن عطاء في قوله تعالى : وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا إن الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا ينتصح نعوذ باللّه سبحانه من أن يجعلنا كذلك وَاذْكُرْ عطف على أَنْذِرْهُمْ عند أبي السعود ، وقيل : على أذكر السابق ، ولعله الظاهر فِي الْكِتابِ أي هذه السورة أو في القرآن إِبْراهِيمَ أي اتل على الناس قصته كقوله تعالى :
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشعراء : 69] وإلا فذاكر ذلك في الكتاب هو اللّه تعالى كما في الكشاف ، وفيه أنه عليه الصلاة السّلام لكونه الناطق عنه تعالى ومبلغ أوامره ونواهيه وأعظم مظاهره سبحانه ومجاليه كأنه الذاكر في الكتاب ما ذكره ربه جل وعلا «1» ومناسبة هذه الآية لما قبلها اشتمالها على تضليل من نسب الألوهية إلى الجماد اشتمال ما قبلها على ما أشار إلى تضليل من نسبها إلى الحي والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن الفريق الثاني أضل.
ويقال على القول الأول في العطف إن المراد أنذرهم ذلك واذكر لهم قصة إبراهيم عليه السّلام فإنهم ينتمون إليه صلّى اللّه عليه وسلّم فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم فيه من القبائح إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً أي ملازم الصدق لم يكذب قط نَبِيًّا استنبأه اللّه تعالى وهو خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي كان جامعا بين الوصفين.
ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فإن كل نبي صديق ، وقيل :
الصديق من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله ، وفي الكشاف الصديق من أبنية المبالغة والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب اللّه تعالى وآياته وكتبه ورسله وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبيا في نفسه كقوله تعالى : بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات :
___________
(1) داخل في حيز قيل اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 414
37] أو كان بليغا في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق اللّه تعالى بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك انتهى.
وفيه إشارة إلى أن المبالغة تحتمل أن تكون باعتبار الكم وأن تكون باعتبار الكيف ولك أن تريد الأمرين لكون المقام مقام المدح والمبالغة ، وقد ألم بذلك الراغب ، وأما أن التكثير باعتبار المفعول كما في قطعت الحبال فقد عده في الكشف من الأغلاط فتأمل ، واستظهر أنه من الصدق لا من التصديق ، وأيد بأنه قرىء «أنه كان صادقا» وبأنه قلما يوجد فعيل من مفعل والكثير من فاعل ، وفسر بعضهم النبي هنا برفيع القدر عند اللّه تعالى وعند الناس.
والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السّلام بذلك من دواعي ذكره وهي على ما قيل اعتراض بين المبدل منه وهو إبراهيم والبدل وهو إذ في قوله تعالى إِذْ قالَ
وتعقبه صاحب الفرائد بأن الاعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع ، وفيه منع ظاهر ، وفي البحر أن بدلية إذ من إبراهيم تقتضي تصرفها والأصح أنها لا تتصرف وفيه بحث ، وقيل : إذ ظرف لكان وهو مبني على أن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلافية ، وقيل : ظرف لنبينا أي منبىء في وقت قوله لِأَبِيهِ
وتعقب بأنه يقتضي أن الاستنباء كان في ذلك الوقت ، وقيل : ظرف لصديقا ، وفي البحر لا يجوز ذلك لأنه قد نعت الأعلى رأي الكوفيين ، وفيه أن نَبِيًّا خبر كما ذكرنا لا نعت ، نعم تقييد الصديقية بذلك الوقت لا يخلو عن شيء.
وقيل ظرف لصديقا نبيا وظاهره أنه معمول لهما معا ، وفيه أن توارد عاملين على معمول واحد غير جائز على الصحيح ، والقول بأنهما جعلا بتأويل اسم واحد كتأويل حلو حامض بمز أي جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء عليهم السّلام حين خاطب أباه لا يخفى ما فيه ، والذي يقتضيه السياق ويشهد به الذوق البدلية وهو بدل اشتمال ، وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارا فتذكر.
يا أَبَتِ أي يا أبي فإن التاء عوض من ياء الإضافة ولذلك لا يجمع بينهما إلا شذوذا كقوله : يا أبتي أرقني القذان ، والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض ، وقيل : الألف للإشباع وأنت تعلم حال العلل النحوية.
وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر «يا أبت» بفتح التاء ، وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد اللّه «وأبت» بواو بدل ياء والنداء بها في غير الندبة قليل ، وناداه عليه السّلام بذلك استعطافا له.
وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أنس مرفوعا حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا بما سمي إبراهيم عليه السّلام به أباه يا أبت ولا يسميه باسمه ، وهذا ظاهر في أنه كان أباه حقيقة ، وصحح جمع أنه كان عمه وإطلاق الأب عليه مجاز لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
ثناءك عليه عند عبادتك له وجؤارك إليه وَلا يُبْصِرُ
خضوعك وخشوعك بين يديه أو لا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا ، وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة وَلا يُغْنِي
أي لا يقدر على أن يغني عَنْكَ شَيْئاً
من الأشياء أو شيئا من الإغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية. ولقد سلك عليه السّلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناد ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 415
النفع والضر لكن كان ممكنا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي مصدرا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منحيا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب. وقوله جاءَنِي ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبىء عليه السّلام ، والذي جاءه قيل العلم بما يجب للّه تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله. وقيل : العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها. وقيل : العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال : يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ فإن عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها.
وقوله إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته ، ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه ، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء بالرحمن. وفيه أيضا إشارة إلى كمال شناعة عصيانه. وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه السّلام فتذكيره داع لأبيه عن الاحتراز عن موالاته وطاعته ، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير.
وقوله : يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ تحذير من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف ، ومن هنا قيل : إن في اختياره مجاملة. وحمله الفراء والطبري على العلم وليس بذاك وتوين عَذابٌ على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى : لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ [النور : 14] ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد اه.
واختار أبو السعود أنه للتعظيم ، وقال : كلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز وجل ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار : 6] انتهى ، وفي الكشف أن الحمل على التفخيم فى عَذابٌ كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال مِنَ الرَّحْمنِ لقوله أولا كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا وللدلالة على أنه ليس على وجه الانتقام بل ذلك أيضا رحمة من اللّه تعالى على عباده وتنبيه على سبق الرحمة الغضب وإن الرحمانية لا تنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة : الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل القضية الأخرى والجلال إلى آخر ما قال ، وأيد الحمل على التفخيم بقوله فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي قرينا تليه ويليك في العذاب فإن الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم. وأجيب عن كون المقام مقام إظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة أحيانا من الشفقة أيضا كما قيل :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 416
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
وقد تقدم هذا مع أبيات أخر بهذا المعنى ، ويكفي في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق. والمس وإن كان مشعرا بالقلة عند الجلة لكن قالوا : إن الكثرة والعظمة باعتبار ما يلزمه ويتبعه لا بالنظر إليه في نفسه فإنه غير مقصود بالذات وإنما هو كالذوق مقدمة للمقصود فيصح وصفه بكل من الأمرين باعتبارين. وكأني بك تختار التفخيم لأنه أنسب بالتخويف وتدعي أنه هاهنا من معدن الشفقة فتدبر. وجوز أن يكون فَتَكُونَ إلخ مترتبا على مس العذاب القليل والولي من الموالاة وهي المتابعة والمصادقة. والمراد تفريع الثبات على حكم تلك الموالاة وبقاء آثارها من سخط اللّه تعالى وغضبه ، ولا مانع من أن يتفرع من قليل أمر عظيم. ثم الظاهر أن المراد بالعذاب عذاب الآخرة وتأوله بعضهم بعذاب الدنيا وأراد به الخذلان أو شيئا آخر مما أصاب الكفرة في الدنيا من أنواع البلاء وليس بذاك ، وزعم بعضهم أن في الكلام تقديما وتأخيرا والأصل إني أخاف أن تكون وليا للشيطان أي تابعا له في الدنيا فيمسك عذاب من الرحمن أي في العقبى وكأنه أشكل عليه أمر التفريع فاضطر لما ذكر وقد أغناك اللّه تعالى عن ذلك بما ذكرنا قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا قال أبوه عند ما سمع منه عليه السّلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل؟ قال مصرا على عناده مقابلا الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة : أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ اختار الزمخشري كون راغِبٌ خبرا مقدما وأَنْتَ مبتدأ وفيه توجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجيب. وذهب أبو البقاء وابن مالك وغيرهما إلى أن أَنْتَ فاعل الصفة لتقدم الاستفهام وهو مغن عن الخبر وذلك لئلا يلزم الفصل بين أَراغِبٌ ومعموله وهو عَنْ آلِهَتِي بأجنبي هو المبتدأ. وأجيب بأن عَنْ متعلق بمقدر بعد أنت يدل عليه أراغب.
وقال صاحب الكشف : المبتدأ ليس أجنبيا من كل وجه لا سيما والمفصول ظرف والمقدم في نية التأخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحا. ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان لقوة أثره على القياس ، ولا خفاء أن زيادة الإنكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قيل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبها له على الخطأ في صدوفه ذلك ولو قيل : أترغب لم يكن من هذا الباب في شيء انتهى ، ورجح أبو حيان إعراب أبي البقاء ومن معه بعدم لزوم الفصل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتأخير ، وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وإن خلا عن فصل أو محذور آخر كما في أطالع الشمس وذلك نحو أقائم زيد للزوم التباس المبتدأ بالفاعل كما في ضرب زيد فإنه لا يجوز فيه ابتدائية زيد. وأجاب الشمني بأن زيدا في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك إجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي واللّه لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إلي لأرجمنك بالحجارة على ما روي عن الحسن ، وقيل : باللسان والمراد لأشتمنك وروي ذلك عن ابن عباس وعن السدي والضحاك وابن جريج ، وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبة عن الآلهة أي لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي لأرجمنك وليس بذاك وَاهْجُرْنِي عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني واتركني وإلى ذلك ذهب الزمخشري.
ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح أو لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية وإخبارية ، وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشاء وليست الفاء في فاحذرني عاطفة حتى يعود المحذور. ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الأخبار والإنشاء والتقدير أوقع

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 417
في النفس مَلِيًّا أي دهرا طويلا عن الحسن ومجاهد وجماعة ، وقال السدي : أبدا وكأنه المراد ، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل :
فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطويلا ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجرا مليا ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالما سويا والمراد قادرا على الهجر مطيقا له وهو حينئذ حال من فاعل اهْجُرْنِي أي اهجرني مليا بالهجران والذهاب عني قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح ، وكأنه على هذا من تملى بكذا تمتع به ملاوة من الدهر قالَ استئناف كما سلف سَلامٌ عَلَيْكَ توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة فإن ترك الإساءة للمسيء إحسان أي لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك ، وهو نظير ما في قوله تعالى «لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين» في قوله ، وقيل : هو تحية مفارق ، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلا بقوله تعالى : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ [الممتحنة : 8] الآية ، وقوله سبحانه قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة : 4] الآية ، وما استدل به متأول وهو محجوج بما ثبت في صحيح مسلم «لا تبدأ اليهود والنصارى بالسلام» وقرىء «سلاما» بالنصب على المصدرية والرفع على الابتداء سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي استدعيه سبحانه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الإيمان كما يلوح به تعليل قوله «واغفر لأبي» بقوله إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء :
86] كذا قيل فيكون استغفاره في قوة قوله : ربي اهده إلى الإيمان وأخرجه من الضلال.
والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مم لا ريب في جوازه كما أنه لا ريب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر اللّه تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا لما تبين له عليه السّلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبيين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليه السّلام في الاستغفار ، قال العلامة الطيبي : إنه تعالى بين للمؤمنين أن أولئك أعداء اللّه تعالى بقوله سبحانه لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة : 1] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عز وجل : إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة : 2] ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الممتحنة : 3] ثم سلاهم عز وجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السّلام وقومه بقوله تبارك وتعالى : قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ [الممتحنة : 4] إلى قوله تعالى شأنه إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة : 4] فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليه السّلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليه السّلام لأبيه في قوله سأستغفر لك لأنه لم يتبين
له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى.
واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الاستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولى قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبيين كان كاستغفار إبراهيم عليه السّلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للإيمان ، والذي اعتمده كثير من العلماء أن قوله

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 418
تعالى : ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة : 113] الآية نزل في استغفاره صلّى اللّه عليه وسلّم لعمه أبي طالب بعد موته وذلك الاستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية أصلا وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض أن استغفاره عليه الصلاة والسّلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضا أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من أصحاب الجحيم ، وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الإيمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي أظهر شيء عنده صلّى اللّه عليه وسلّم وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة والسّلام ، وهو اعتراض قوي بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر.
وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه السّلام أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قالوا :
أراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا إنما استغفر له بقوله : «واغفر لأبي» لأنه وعده أن يؤمن ، واستشهدوا بقوله تعالى : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة : 114] ثم قال : ولقائل أن يقول : الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع فأما قضية العقل فلا تأباه فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول إبراهيم عليه السّلام «لأستغفرن» لك في آية «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم» إلخ عما وجبت فيه الأسوة ولو كان بشرط الإيمان والتوبة لما صح الاستثناء ، وأما كون الوعد من أبيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره «وعدها أباه» بالباء الموحدة قال في الكشف : واعترض الإمام حديث الاستثناء بأن الآية دلت على المنع من التأسي لا أن ذلك كان معصية فجاز أن يكون من خواصه ككثير من المباحات التي اختص بها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وليس بشيء لأن الزمخشري لم يذهب إلى أن ما ارتكبه إبراهيم عليه السّلام كان منكرا بل إنما هو منكر علينا لورود السمع.
واعترض صاحب التقريب بأن نفي اللازم ممنوع فإن الاستثناء عما وجبت فيه الأسوة دل على أنه غير واجب لا على أنه غير جائز فكان ينبغي عما جازت فيه الأسوة بدل عما وجبت إلخ والآية لا دلالة فيها على الوجوب. والجواب أن جعله مستنكرا ومستثنى يدل على أنه منكر لا الاستثناء عما وجبت فيه فقط وإنما أتى الاستنكار لأنه مستثنى عن الأسوة الحسنة فلو اؤتسي به فيه لكان أسوة قبيحة ، وأما الدلالة على الوجوب فبينة من قوله تعالى آخرا لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب : 21] كما تقرر في الأصول.
والحاصل أن فعل إبراهيم عليه السّلام يدل على أنه ليس منكرا في نفسه وقوله تعالى «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا» إلخ يدل على أنه الآن منكر سمعا وأنه كان مستنكرا في زمن إبراهيم عليه السّلام أيضا بعد ما كان غير منكر ولذا تبرأ منه وهو ظاهر إلا أن الزمخشري جعل مدرك الجواز قبل النهي العقل وهي مسألة خلافية وكم قائل إنه السمع لدخوله تحت بر الوالدين والشفقة على أمة الدعوة بل قيل : إن الأول مذهب المعتزلة وهذا مذهب أهل السنة انتهى مع تغيير يسير.
واعترض القول بأنه استنكر في زمن إبراهيم عليه السّلام بعد ما كان غير منكر بأنه لو كان كذلك لم يفعله نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وقد جاء أنه عليه الصلاة والسّلام فعله لعمه أبي طالب. وأجيب بجواز أنه لم يبلغه إذ فعل عليه الصلاة والسّلام ، والتحقيق في هذه المسألة أن الاستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة بمعنى طلب هدايته للإيمان مما لا محذور فيه عقلا ونقلا وطلب ذلك للكافر المعلوم أنه قد طبع على قلبه وأخبر اللّه تعالى أنه لا يؤمن وعلم أن لا تعليق في أمره أصلا مما لا مساغ له عقلا ونقلا ، ومثله طلب المغفرة للكافر مع بقائه على الكفر على ما ذكره بعض المحققين ،

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 419
وكان ذلك على ما قيل لما فيه من إلغاء أمر الكفر الذي لا شيء يعدله من المعاصي وصيرورة التكليف بالإيمان الذي لا شيء يعدله من الطاعات عبثا مع ما في ذلك مما لا يليق بعظمة اللّه عز وجل ، ويكاد يلحق بذلك فيما ذكر طلب المغفرة لسائر العصاة مع البقاء على المعصية إلا أن يفرق بين الكفر وسائر المعاصي ، وأما طلب المغفرة للكافر بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما يمنعه السمع وفرق بينه وبين طلبها للكافر مع بقائه على الكفر بعدم جريان التعليل السابق فيه ويحتاج ذلك إلى تأمل.
واستدل على جواز ذلك عقلا
بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم لعمه «لا أزال أستغفر لك ما لم أنه»
فنزل قوله تعالى : ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة : 113] الآية ، وحمل قوله تعالى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة : 113] على معنى من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا كفارا والتزم القول بنزول قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء : 116] بعد ذلك وإلا فلا يتسنى استغفاره صلّى اللّه عليه وسلّم لعمه بعد العلم بموته كافرا وتقدم السماع بأن اللّه تعالى لا يغفر الكفر ، وقيل لا حاجة إلى التزام ذلك لجواز أن يكون عليه الصلاة والسّلام لوفور شفقته وشدة رأفته قد حمل الآية على أنه تعالى لا يغفر الشرك إذا لم يشفع فيه أو الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر الجوارح وعلم من عمه أنه لم يكن شركه كذلك فطلب المغفرة حتى نهى صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل غير ذلك فتأمل ، فالمقام محتاج بعد إلى كلام واللّه تعالى الموفق.
إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا بليغا في البر والإكرام يقال حفي به إذا اعتنى بإكرامه ، والجملة تعليل لمضمون ما قبلها ، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل مع الاهتمام وَأَعْتَزِلُكُمْ الظاهر أنه عطف على سَأَسْتَغْفِرُ والمراد أتباعد عنك وعن قومك وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثر فيكم نصائحي.
يروى أنه عليه السّلام هاجر إلى الشام ، وقيل إلى حران وهو قريب من ذلك وكانوا بأرض كوثا. وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر ، وجوز حمل الاعتزال على الاعتزال بالقلب والاعتقاد وهو خلاف الظاهر المأثور وَأَدْعُوا رَبِّي أي أعبده سبحانه وحده كما يفهم من اجتناب غيره تعالى من المعبودات وللتغاير بين العبادتين غوير بين العبارتين ، وذكر بعضهم أنه عبر بالعبادة أولا لأن ذلك أوفق بقول أبيه أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي مع قوله فيما سبق يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
[مريم : 42] إلخ ، وعبر ثانيا بالدعاء لأنه أظهر في الإقبال المقابل للاعتزال.
وجوز أن يراد بذلك الدعاء مطلقا أو ما حكاه سبحانه في سورة [الشعراء : 83] وهو قوله رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وقيل لا يبعد أن يراد استدعاء الولد أيضا بقوله : رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات :
100] حسبما يساعده السياق والسباق عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم في عبادة آلهتهم. وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة إلى ما تقدم وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ بدل من فارقهم من أبيه وقومه الكفرة لكن لا عقيب المهاجرة. والمشهور أن أول ما وهب له عليه السّلام من الأولاد إسماعيل عليه السّلام لقوله تعالى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات : 101] إثر دعائه بقوله «رب هب لي من الصالحين» وكان من هاجر فغارت سارة فحملت بإسحاق عليه السّلام فلما كبر ولد له يعقوب عليه السّلام.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 420
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمال عظم النعم التي أعطاها اللّه تعالى إياه بمقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء ولهما أولاد وأحفاد أولو شأن خطير وذوو عدد كثير مع أنه سبحانه أراد أن يذكر إسماعيل عليه السّلام بفضله على الانفراد. وروي أنه عليه السّلام لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج سارة وولدت له إسحاق وولد لإسحاق يعقوب. والأول هو الأقرب الأظهر وَكُلًّا أي كل واحد من إسحاق ويعقوب أو منهما ومن إبراهيم عليه السّلام وهو مفعول أول لقوله تعالى جَعَلْنا نَبِيًّا قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كل واحد منهم جَعَلْنا نَبِيًّا لا بعضهم دون بعض ، ولا يظهر في هذا الترتيب على الوجه الثاني في كُلًّا كون إبراهيم عليه السّلام نبيا قبل الاعتزال وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا قال الحسن : النبوة.
ولعل ذكر ذلك بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأن النبوة من باب الرحمة التي يختص بها من يشاء. وقال الكلبي : هي المال والولد وقيل هو الكتاب والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي أوتوه مما لم يؤت أحد من العالمين وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا تفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته عليه السّلام بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء : 84] وزيادة على ذلك. والمراد باللسان ما يوجد به من الكلام فهو مجاز بعلاقة السببية كاليد في العطية ولسان العرب لغتهم. ويطلق على الرسالة الرائع كما في قول أعشى باهلة :
إني أتتني لسان لا أسر بها ومنه قول الآخر ندمت على لسان كان مني وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وأن محامدهم لا تخفى كأنها نار على علم على تباعد الأعصار وتبدل الدول وتغير الملل والنحل ، وخص بعضهم لسان الصدق بما يتلى في التشهد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم والعموم أولى.
[سورة مريم (19) : الآيات 51 إلى 75]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 421
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى قيل قدم ذكره على إسماعيل عليهما السلام لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب عليه السلام. وقيل : تعجيلا لاستجلاب أهل الكتاب بعد ما فيه استجلاب العرب. إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً موحدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه للّه عز وجل وأخلص عن سواه.
وقرأ الكوفيون وأبو رزين ويحيى وقتادة «مخلصا» بفتح اللام على أن اللّه تعالى أخلصه وَكانَ رَسُولًا مرسلا من جهة اللّه تعالى إلى الخلق بتبليغ ما شاء من الأحكام نَبِيًّا رفيع القدر على كثير من الرسل عليهم السلام أو على سائر الناس الذين أرسل إليهم فالنبي من النبوة بمعنى الرفعة. ويجوز أن يكون من النبأ وأصله نبيء أي المنبئ عن اللّه تعالى بالتوحيد والشرائع «1» ورجح الأول بأنه أبلغ قيل ولذلك
قال صلّى اللّه عليه وسلّم «لست بنبيء اللّه تعالى بالهمزة ولكن نبي اللّه تعالى»
لمن خاطبه بالهمز وأراد أن يغض منه. والذي ذكره الجوهري أن القائل أراد أنه عليه الصلاة والسّلام أخرجه قومه من نبأ فأجابه صلّى اللّه عليه وسلّم بما يدفع ذلك الاحتمال. ووجه الإتيان بالنبي بعد الرسول على الأول ظاهر. ووجه ذلك على الثاني موافقة الواقع بناء على أن المراد أرسله اللّه تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه سبحانه.
واختار بعضهم أن المراد من كلا اللفظين معنا هما اللغوي وأن ذكر النبي بعد الرسول لما أنه ليس كل مرسل نبيا لأنه قد يرسل بعطية أو مكتوب أو نحوهما وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن صفة لجانب لقوله تعالى في آية أخرى جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ بالنصب أي باديناه من ناحيته اليمنى من اليمين المقابل لليسار. والمراد به يمين موسى عليه السّلام أي الناحية التي تلي يمينه إذ الجبل نفسه لا ميمنة له ولا ميسرة. ويجوز أن يكون الأيمن من اليمن وهو البركة وهو صفة لجانب أيضا أي من جانبه الميمون المبارك.
وجوز على هذا أن يكون صفة للطور والأول أولى ، والمراد من ندائه من ذلك ظهور كلامه تعالى من تلك الجهة ، والظاهر أنه عليه السّلام إنما سمع الكلام اللفظي ، وقال بعض : إن الذي سمعه كان بلا حرف ولا صوت وأنه عليه السّلام سمعه بجميع أعضائه من جميع الجهات وبذلك يتيقن أن المنادي هو اللّه تعالى ، ومن هنا قيل : إن المراد ناديناه مقبلا من جانب الطور المبارك وهو طور ما وراء طور العقل ، وفي الأخبار ما ينادي على خلافه وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا تقريب تشريف مثل حاله عليه السّلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ورفع الوسائط بينه وبينه ، ونَجِيًّا فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم من المناجاة المسارّة بالكلام ونصبه على الحالية من أحد ضميري موسى عليه السّلام في ناديناه وقربناه أي ناديناه أو قربناه حال كونه مناجيا ، وقال غير واحد.
مرتفعا على أنه من النجو وهو الارتفاع.
___________
(1) لم يقصد به الاعتراض اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 422
فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن جبرائيل عليه السّلام أردفه حتى سمع صرير القلم والتوراة تكتب له
أي كتابة ثانية وإلا ففي الحديث الصحيح الوارد في شأن محاجة آدم وموسى عليهما السّلام أنها كتبت قبل خلق آدم عليه السّلام بأربعين سنة ، وخبر رفعه عليه السّلام إلى السماء حتى سمع صرير القلم رواه غير واحد وصححه الحاكم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وعلى ذلك لا يكون المعراج مطلقا مختصا بنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم بل المعراج الأكمل ، وقيل معنى نَجِيًّا ناجيا بصدقه ، وروى ذلك عن قتادة ولا يخفى بعده.
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي من أجل رحمتنا له أَخاهُ أي معاضدة أخيه ومؤازرته إجابة لدعوته بقوله :
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي [طه : 29 ، 30] لا نفسه عليه السّلام لأنه كان أكبر من موسى عليه السّلام سنا فوجوده سابق على وجوده وهو مفعول وَهَبْنا وقوله تعالى هارُونَ عطف بيان له ، وقوله سبحانه نَبِيًّا حال منه ، ويجوز أن تكون من للتبعيض قيل وحينئذ يكون أَخاهُ بدل بعض من كل أو كل من كل أو اشتمال من من ، وتعقب بأنها إن كانت اسما مرادفة لبعض فهو خلاف الظاهر وإن كانت حرفا فإبدال الاسم من الحرف مما لم يوجد في كلامهم ، وقيل : التقدير وهبنا له شيئا من رحمتنا فأخاه بدل من شيئا المقدر وأنت تعلم أن الظاهر هو كونه مفعولا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ الظاهر أنه ابن إبراهيم عليهما السّلام كما ذهب إليه الجمهور وهو الحق ، وفصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه عليهم السّلام لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلا ، وقيل :
إنه إسماعيل بن حز قيل بعثه اللّه تعالى إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه فخيره اللّه تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه سبحانه وفوض أمرهم إليه عز وجل في العفو والعقوبة وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه
وغالب الظن أنه لا يصح عنه إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ تعليل لموجب الأمر ، وإيراده عليه السّلام بهذا الوصف لكمال شهرته بذلك.
وقد جاء في بعض الأخبار أنه وعد رجلا أن يقيم له بمكان فغاب عنه حولا فلما جاءه قال له : ما برحت من مكانك فقال : لا واللّه ما كنت لأخلف موعدي ،
وقيل :
غاب عنه اثني عشر يوما ، وعن مقاتل ثلاثة أيام ، وعن سهل بن سعد يوما وليلة والأول أشهر ورواه الإمامية أيضا عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه
وإذا كان هو الذبيح فناهيك في صدقه أنه وعد أباه الصبر على الذبح بقوله : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات : 102] فوفى.
وقال بعض الأذكياء طال بقاؤه : لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى هذا الوعد والصدق فيه من أعظم ما يتصور.
وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا الكلام فيه كالكلام في السابق بيد أنهم قالوا هنا : إن فيه دلالة على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة مستقلة فإن أولاد إبراهيم عليهم السّلام كانوا على شريعته وقد اشتهر خلافه بل اشترط بعضهم فيه أن يكون صاحب كتاب أيضا والحق أنه ليس بلازم ، وقيل : إن المراد بكونه صاحب شريعة أن يكون له شريعة بالنسبة إلى المبعوث إليهم وإسماعيل عليه السّلام كذلك لأنه بعث إلى جرهم بشريعة أبيه ولم يبعث إبراهيم عليه السّلام إليهم ولا يخفى ما فيه وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ اشتغالا بالأهم وهو أن يبدأ الرجل بعد تكميل نفسه بتكميل من هو أقرب الناس إليه قال اللّه تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء : 214] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه : 132] قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم : 6] أو قصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم.
وقال الحسن : المراد بأهله أمته «1» لكون النبي بمنزلة الأب لأمته ، ويؤيد ذلك أن في مصحف عبد اللّه وكان يأمر قومه والمراد بالصلاة والزكاة قيل معناهما المشهور ، وقيل : المراد بالزكاة مطلق الصدقة ، وحكي أنه عليه السّلام كان
___________
(1) وحكى الأزهري عن الكسائي أن النبي الطريق والأنبياء عليهم السّلام طرق الهدى اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 423
يأمر أهله بالصلاة ليلا والصدقة نهارا ، وقيل المراد بها تزكية النفس وتطهيرها وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا لاستقامة أقواله وأفعاله وهو اسم مفعول وأصله مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وقلبت الضمة كسرة.
وقرأ ابن أبي عبلة «مرضوا» من غير إعلال ، وعن العرب أنهم قالوا : أرض مسنية ومسنوة وهي التي تسقى بالسواني وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ هو نبي قبل نوح وبينهما على ما في المستدرك عن ابن عباس ألف سنة وهو أخنوخ «1» بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السّلام ، وعن وهب بن منبه أنه جد نوح عليه السّلام ، والمشهور أنه جد أبيه فإنه ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والحساب وجعل اللّه تعالى ذلك من معجزاته على ما في البحر وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخط وكان خياطا وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد آدم ، وقد أنزل اللّه تعالى عليه ثلاثين صحيفة وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل ، وعن ابن مسعود أنه الياس بعث إلى قومه أن يقولوا لا إله إلا اللّه ويعملوا ما شاؤوا فأبوا وأهلكوا
والمعول عليه الأول وإن روي القول بأنه الياس ابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن مسعود ، وهذا اللفظ سرياني عند الأكثرين وليس مشتقا من الدرس لأن الاشتقاق من غير العربي مما لم يقل به أحد وكونه عربيا مشتقا من ذلك يرده منع صرفه ، نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة دراسته إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا هو كما تقدم.
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا هو شرف النبوة والزلفى عند اللّه تعالى كما روي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي وأبو مسلم ، وعن أنس وأبي سعيد الخدري وكعب ومجاهد السماء الرابعة ، وعن ابن عباس. والضحاك السماء السادسة وفي رواية أخرى عن الحسن الجنة لا شيء أعلا من الجنة ، وعن النابغة الجعدي أنه لما أنشد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الشعر الذي آخره :
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال عليه الصلاة والسّلام له : إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال إلى الجنة يا رسول اللّه قال : أجل إن شاء اللّه تعالى.
وعن قتادة أنه عليه السّلام يعبد اللّه تعالى مع الملائكة عليهم السّلام في السماء السابعة ويرتع تارة في الجنة حيث شاء ، وأكثر القائلين برفعه حسا قائلون بأنه حي حيث رفع ، وعن مقاتل أنه ميت في السماء وهو قول شاذ. وسبب رفعه على ما
روي عن كعب وغيره أنه مر ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال : يا رب إني مشيت يوما في الشمس فأصابني منها ما أصابني فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال : يا رب خلقتني لحمل الشمس فماذا الذي قضيت فيه قال : إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته قال : يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس ثم إنه طلب منه رفعه إلى السماء فأذن اللّه تعالى له بذلك فرفعه
، وأخرج ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفع الحديث إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن إدريس كان نبيا تقيا زكيا وكان يقسم دهره على نصفين ثلاثة أيام يعلم الناس الخير وأربعة أيام يسيح في الأرض ويعبد اللّه تعالى مجتهدا وكان يصعد من عمله وحده
___________
(1) أي أمة الإجابة اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 424
إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع أعمال بني آدم وأن ملك الموت أحبه في اللّه تعالى فأتاه حين خرج للسياحة فقال له : يا نبي اللّه إني أريد أن تأذن لي في صحبتك فقال له إدريس وهو لا يعرفه : إنك لن تقوى على صحبتي قال : بلى إني أرجو أن يقويني اللّه تعالى على ذلك فخرج معه يومه ذلك حتى إذا كان من آخر النهار مرا براعي غنم فقال ملك الموت : يا نبي اللّه إنا لا ندري حيث نمسي فلو أخذنا جفرة من هذه الغنم فأفطرنا عليها فقال له : لا تعد إلى مثل هذا أتدعوني إلى أخذ ما ليس لنا من حيث نمسي يأتينا اللّه تعالى برزق فلما أمسى أتاه اللّه تعالى بالرزق الذي كان يأتيه فقال لملك الموت تقدم فكل فقال : لا والذي أكرمك بالنبوة ما أشتهي فأكل وحده وقاما جميعا إلى الصلاة ففتر إدريس ونعس ولم يفتر الملك ولم ينعس فعجب منه وصغرت عنده عبادته مما رأى ثم أصبحا فساحا فلما كان آخر النهار مرا بحديقة عنب فقال له مثل ما قال أولا فلما أمسيا أتاه اللّه تعالى بالرزق فدعاه إلى الأكل فلم يأكل وقاما إلى الصلاة وكان من أمرهما ما كان أولا فقال له إدريس : لا والذي نفسي بيده ما أنت من بني آدم فقال : أجل لست منهم وذكر له أنه ملك الموت فقال : أمرت فيّ بأمر فقال : لو أمرت فيك بأمر ما ناظرتك ولكني أحبك في اللّه تعالى وصحبتك له فقال له : إنك معي هذه المدة لم تقبض روح أحد من الخلق قال : بل إني معك وإني أقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها وما الدنيا كلها عندي إلا كمائدة بين يدي الرجل يتناول منها ما شاء فقال له : يا ملك الموت أسألك بالذي أحببتني له وفيه إلا قضيت لي حاجة أسالكها فقال : سلني يا نبي اللّه فقال :
أحب أن تذيقني الموت ثم ترد عليّ روحي فقال : ما أقدر إلا أن أستأذن فاستأذن ربه تعالى فأذن له فقبض روحه ثم ردها اللّه تعالى إليه فقال له ملك الموت : يا نبي اللّه كيف وجدت الموت؟ قال : أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله رؤية النار فانطلق إلى أحد أبواب جهنم فنادى بعض خزنتها فلما علموا أنه ملك الموت ارتعدت فرائصهم وقالوا :
أمرت فينا بأمر فقال لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم ولكن نبي اللّه تعالى إدريس سألني أن تروه لمحة من النار ففتحوا له قدر ثقب المخيط فأصابه ما صعق منه فقال ملك الموت : أغلقوا فغلقوا وجعل يمسح وجه إدريس ويقول : يا نبي اللّه تعالى ما كنت أحب أن يكون هذا حظك من صحبتي فلما أفاق سأله كيف رأيت قال : أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله أن يريه لمحة من الجنة ففعل نظير ما فعل قبل فلما فتحوا له أصابه من بردها وطيبها وريحانها ما أخذ بقلبه فقال : يا ملك الموت إني أحب أن أدخل الجنة فآكل أكلة من ثمارها وأشرب شربة من مائها فلعل ذلك أن يكون أشد لطلبتي ورغبتي فدخل وأكل وشرب فقال له ملك الموت : اخرج يا نبي اللّه تعالى قد أصبت حاجتك حتى يردك اللّه عز وجل مع الأنبياء عليهم السّلام يوم القيامة فاحتضن بساق شجرة من أشجارها وقال : ما أنا بخارج وإن شئت أن أخاصمك خاصمتك فأوحى اللّه تعالى إلى ملك الموت قاضه الخصومة فقال له : ما الذي تخاصمني به يا نبي اللّه تعالى فقال إدريس : قال اللّه تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران : 185 ، الأنبياء : 35 ، العنكبوت : 57] وقد ذقته وقال سبحانه وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم : 71] وقد وردتها وقال جل وعلا لأهل الجنة وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر : 48] فأخرج من شيء ساقه اللّه عز وجل إليّ فأوحى اللّه تعالى إلى ملك الموت خصمك عبدي إدريس وعزتي وجلالي إن في سابق علمي أن يكون كذلك فدعه فقد احتج عليك بحجة قوية» الحديث
واللّه تعالى أعلم بصحته وكذا بصحة ما قبله من خبر كعب ، وهذا الرفع لاقتضائه علو الشأن ورفعة القدر كان فيه من المدح ما فيه وإلا فمجرد الرفع إلى مكان عال حسا ليس بشيء :
فالنار يعلوها الدخان وربما يعلو الغبار عمائم الفرسان
وادعى بعضهم أن الأقرب أن العلو حسي لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية. وتعقب بأن فيه نظرا لأنه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 425
ورد مثله بل ما هو أظهر منه كقوله :
وكن في مكان إذا ما سقطت تقوم ورجلك في عافيه. فتأمل
أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة الكريمة ، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل. وهو مبتدأ وقوله تعالى الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي بفنون النعم الدينية والدنيوية حسبما أشير إليه مجملا خبره على ما استظهره في البحر ، والحصر عند القائل به إضافي بالنسبة إلى غير الأنبياء الباقين عليهم الصلاة والسّلام لأنهم معروفون بكونهم منعما عليهم فينزل الأنعام على غيرهم منزلة العدم ، وقيل : يقدر مضاف أي بعض الذين أنعم اللّه عليهم وقوله تعالى مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للموصول ، وقيل : من تبعيضية بناء على أن المراد أولئك المذكورون الذين أنعم اللّه تعالى عليهم بالنعم المعهودة المذكورة هنا فيكون الموضوع والمحمول مخصوصا بمن سمعت وهم بعض النبيين وعموم المفهوم المراد من المحمول في نفسه ومن حيث هو في الذهن لا ينافي أن يقصد به أمر خاص في الخارج كما لا يخفى واختير حمل التعريف في الخبر عن الجنس للمبالغة كما في قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة : 2] ، والمحذور مندفع بما ذكرنا ومِنَ في قوله سبحانه مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ قيل بيانية والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق والمجرور بدل من المجرور بإعادة الجار وهو بدل بعض من كل بناء على أن المراد ذريته الأنبياء وهي غير شاملة لآدم عليه السّلام ولا يخفى بعده ، وقيل : هي تبعيضية لأن المنعم عليه أخص من الذرية من وجه لشمولها بناء على الظاهر المتبادر منها غير من أنعم عليه دونه ولا يضر في ذلك كونها أعم منها من وجه لشموله آدم والملك. ومؤمني الجن دونها وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي ومن ذرية من حملناهم معه عليه السّلام خصوصا وهم من عدا إدريس عليه السّلام لما سمعت من أنه قبل نوح وإبراهيم عليه السّلام كان بالإجماع من ذرية سام به نوح عليهما السّلام وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وهم الباقون.
وَإِسْرائِيلَ عطف على إِبْراهِيمَ أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب عليه اسلام وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام ، وفي الآية دليل على أن أولاد البنات من الذرية لدخول عيسى عليه السّلام ولا أب له ، وجعل إطلاق الذرية عليه بطريق التغليب خلاف الظاهر وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا عطف على قوله تعالى مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ومن للتبعيض أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واخترناهم للنبوة والكرامة.
وجوز أن يكون عطفا على قوله سبحانه مِنَ النَّبِيِّينَ. ومن للبيان وأورد عليه أن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال : المراد ممن جمعنا له بين النبوة والهداية والاجتباء للكرامة وهو خلاف الظاهر ، وقوله تعالى إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا استئناف مساق لبيان خشيتهم من اللّه تعالى واخباتهم له سبحانه مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من اللّه عز سلطانه.
وقيل : خبر بعد خبر لاسم الإشارة ، وقيل : إن الكلام انقطع عند قوله تعالى وَإِسْرائِيلَ ، وقوله سبحانه وَمِمَّنْ هَدَيْنا خبر مبتدأ محذوف وهذه الجملة صفة لذلك المحذوف أي وممن هدينا واجتبينا قوم إذا تتلى عليهم إلخ ، ونقل ذلك عن أبي مسلم ، وروى بعض الإمامية عن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : نحن عنينا بهؤلاء القوم
،
ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا وحال روايات الإمامية لا يخفى على أرباب التمييز ، وظاهر صنيع بعض المحققين اختيار أن يكون الموصول صفة لاسم الإشارة على ما هو الشائع فيما بعد اسم الإشارة وهذه الجملة هي الخبر لأن ذلك أمدح لهم ، ووجه ذلك ظاهر عند من يعرف حكم الأوصاف والأخبار ، وسجدا جمع ساجد وكذا بكيّا جمع باك كشاهد وشهود وأصله بكوى اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 426
وأدغمت الياء في الياء وحركت الكاف بالكسر لمناسبة الياء وجمعه المقيس بكاة كرام ورماة إلا أنه لم يسمع على ما في البحر وهو مخالف لما في القاموس وغيره ، وجوز بعضهم أن يكون مصدر بكى كجلوسا مصدر جلس وهو خلاف الظاهر ، نعم ربما يقتضيه ما أخرجه ابن أبي الدنيا في البكاء وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال : هذا السجود فأين البكى ، وزعم ابن عطية أن ذلك متعيين في قراءة عبد اللّه ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي «بكيا» بكسر أوله وليس كما زعم لأن ذلك اتباع ، وظاهر أنه لا يعين المصدرية. ونصب الاسمين على الحالية من ضمير خَرُّوا أي ساجدين وباكين والأول حال مقدرة كما قال الزجاج ، والظاهر أن المراد من السجود معناه الشرعي والمراد من الآيات ما تضمنته الكتب السماوية سواء كان مشتملا على ذكر السجود أم لا وسواء كان متضمنا لذكر العذاب المنزل بالكفار أم لا ، ومن هنا استدل بالآية على استحباب السجود والبكاء عند تلاوة القرآن.
وقد أخرج ابن ماجة وإسحاق بن راهوية والبزار في مسنديهما من حديث سعيد بن أبي وقاص مرفوعا اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا
،
وقيل : المراد من السجود سجود التلاوة حسبما تعبدنا به عند سماع بعض الآيات القرآنية فالمراد بآيات الرحمن آيات مخصوصة متضمة لذكر السجود ، وقيل : المراد منه الصلاة وهو قول ساقط جدا ، وقيل :
المراد منه الخشوع والخضوع ، والمراد من الآيات ما تضمن العذاب المنزل بالكفار وهذا قريب من سابقه ، ونقل الجلال السيوطي عن الرازي أنه استدل بالآية على وجوب سجود التلاوة وهو كما قال الكيا : بعيد ، وذكروا أنه ينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآيتها فها هنا يقول : اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك ، وفي آية الإسراء اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك ، وفي آية تنزيل السجدة اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك.
وقرأ عبد اللّه وأبو جعفر وشيبة وشبل بن عباد وأبو حيوة وعبد اللّه بن أحمد العجلي عن حمزة وقتيبة في رواية وورش في رواية النحاس وابن ذكوان في رواية التغلبي «يتلى» بالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي ولوجود الفاصل فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي جاء بعدهم عقب سوء فإن المشهور في الخلف ساكن اللام ذلك والمشهور في مفتوح اللام ضده ، وقال أبو حاتم : الخلف بالسكون الأولاد الجمع والواحد فيه سواء وبالفتح البدل ولدا كان أو غيره ، وقال النضر بن شميل : الخلف بالتحريك والإسكان القرن السوء أما الصالح فالتحريك لا غير ، وقال ابن جرير : أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد يعكس ، وعلى استعمال المفتوح في الذم جاء قول لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أَضاعُوا الصَّلاةَ وقرأ عبد اللّه والحسن وأبو رزين العقيلي والضحاك وابن مقسم «الصلوات» بالجمع وهو ظاهر ، ولعل الأفراد للاتفاق في النوع ، وإضاعتها على ما روي عن ابن مسعود والنخعي والقاسم بن مخيمرة ومجاهد وإبراهيم. وعمر بن عبد العزيز
تأخيرها عن وقتها ، وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه
، واختار الزجاج أن إضاعتها الاختلال بشروطها من الوقت وغيره ، وقيل : إقامتها في غير جماعة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد ابن كعب القرظي أن إضاعتها تركها ، وقيل : عدم اعتقاد وجوبها ، وعلى هذا الآية في الكفار وعلى ما قبله لأقطع ، واستظهر أنها عليه في قوم مسلمين بناء على أن الكفار غير مكلفين بالفروع إلا أن يقال : المراد أن من شأنهم ذلك فتدبر ، وعلى ما قبلهما في قوم مسلمين قولا واحدا.
والمشهور عن ابن عباس ومقاتل أنها في اليهود ، وعن السدي أنها فيهم وفي النصارى ، واختير كونها في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 427
الكفرة مطلقا لما سيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا وعليه بني حسن موقع حكاية قول جبريل عليه السّلام الآتي ، وكونها في قوم مسلمين من هذه الأمة مروي عن مجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم قالوا : إنهم يأتون عند ذهاب الصالحين يتبادرون بالزنا ينزو بعضهم على بعض في الأزقة كالأنعام لا يستحيون من الناس ولا يخافون من اللّه تعالى وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ وانهمكوا في المعاصي المختلفة الأنواع ، وفي البحر الشَّهَواتِ عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وعن ذكر اللّه تعالى ، وعد بعضهم من ذلك نكاح الأخت من الأب وهو على القول بأن الآية فيما يعم اليهود لأن من مذهبهم فيما قيل ذلك وليس بحق. والذي صح عنهم أنهم يجوزون نكاح بنت الأخ وبنت الأخت ونحو هما ، وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه من بنى المشيد وركب المنظور ولبس المشهور فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا
أخرج ابن جرير والطبراني وغيرهما من حديث أبي أمامة مرفوعا أنه نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار وفيه لو أن صخرة زنة عشر عشراوات قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ثم تنتهي إلى غي وأثام
، ويعلم منه سر التعبير بسوف يلقون.
وأخرج جماعة من طرق عن ابن مسعود أنه قال : الغيّ نهر أو واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات ، وحكى الكرماني أنه آبار في جهنم يسيل إليها الصديد والقيح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن الغي السوء ، ومن ذلك قول مرقش الأصغر :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وعن ابن زيد أنه الضلال وهو المعنى المشهور ، وعليه قيل المراد جزاء غي. وروي ذلك عن الضحاك واختاره الزجاج ، وقيل : المراد غيا عن طريق الجنة. وقرىء فيما حكى الأخفش «يلقّون» بضم الياء وفتح اللام وشد القاف إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً استثناء منقطع عند الزجاج. وقال في البحر : ظاهره الاتصال ، وأيد بذكر الإيمان كون الآية في الكفرة أو عامة لهم ولغيرهم لأن من آمن لا يقال إلا لمن كان كافرا إلا بحسب التغليظ ، وحمل الإيمان على الكامل خلاف الظاهر ، وكذا كون المراد إلا من جمع التوبة والإيمان ، وقيل : المراد من الإيمان الصلاة كما في قوله تعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة : 143] ويكون ذكره في مقابلة إضاعة الصلاة وذكر العمل الصالح في مقابلة اتباع الشهوات فَأُولئِكَ المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بموجب الوعد المحتوم ، ولا يخفى ما في ترك التسويف مع ذكر أولئك من اللطف.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب «يدخّلون» بالبناء للمفعول من أدخل. وقرأ ابن غزوان عن طلحة «سيدخلون» بسين الاستقبال مبنيا للفاعل وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا أو لا ينقصون شيئا من النقص ، وفيه تنبيه على أن فعلهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم. واستدل المعتزلة بالآية على أن العمل شرط دخول الجنة. وأجيب بأن المراد يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بلا تسويف بقرينة المقابلة وذلك بتنزيل الزمان السابق على الدخول لحفظهم فيه عما ينال غيرهم منزلة العدم فيكون العمل شرطا لهذا الدخول لا للدخول مطلقا ، وأيضا يجوز أن يكون شرطا لدخول جنة عدن لا مطلق الجنة ، وقيل هو شرط لعدم نقص شيء من ثواب الأعمال وهو كما ترى ، وقيل غير ذلك. واعترض بعضهم على القول بالشرطية بأنه يلزم أن لا يكون من تاب وآمن ولم يتمكن من العمل الصالح يدخل الجنة. وأجيب بأن ذلك من الصور النادرة والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب فتأمل.
جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها اشتمال الكل على الجزء بناء على ما قيل : إن «جنات عدن» علم لإحدى الجنات الثمان كعلمية بنات أوبر. وقيل : إن العلم هو جنة عدن إلا أنه أقيم الجزء الثاني

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 428
بعد حذف الأول مقام المجموع كما في شهر رمضان ورمضان فكان الأصل جنات جنة عدن. والذي حسن هذه الإقامة أن المعتبر علميته في المنقول الإضافي هو الجزء الثاني حتى كأنه نقل وحده كما قرر في موضعه من كتب النحو المفصلة. وقي الكشف إذا كانت التسمية بالمضاف والمضاف إليه جعلوا المضاف إليه في نحوه مقدر العملية لأن المعهود في كلامهم في هذا الباب الإضافة إلى الأعلام والكنى فإذا أضافوا إلى غيرها أجروه مجراها كأبي تراب ألا ترى أنهم لا يجوزون إدخال اللام في ابن داية وأبي تراب ويوجبونه في نحو امرئ القيس وماء السماء كل ذلك نظرا إلى أنه لا يغير من حاله كالعلم إلى آخر ما فيه.
ويدل على ذلك أيضا منعه من الصرف في بنات أوبر وأبي قترة وابن داية إلى غير ذلك فجنات عدن على القولين معرفة أما على الأول فللعلمية ، وأما على الثاني فللإضافة المذكورة وإن لم يكن عدن في الأصل علما ولا معرفة بل هو مصدر عدن بالمكان يعدن ويعدن أقام به. واعتبار كون عدن قبل التركيب علما لإحدى الجنات يستدعي أن تكون الإضافة في «جنة عدن» من إضافة الأعم مطلقا إلى الأخص بناء على أن المتبادر من الجنة المكان المعروف لا الأشجار ونحوها وهي لا تحسن مطلقا بل منها حسن كشجر الأراك ومدينة بغداد ومنها قبيح كإنسان زيد ولا فارق بينهما إلا الذوق وهو غير مضبوط.
وجوز أن يكون «عدن» علما للعدن بمعنى الإقامة كسحر علم للسحر وأمس للأمس وتعريف «جنات» عليه ظاهر أيضا ، وإنما قالوا تصحيحا للبدلية لأنه لو لم يعتبر التعريف لزم إبدال النكرة من المعرفة وهو على رأي القائل لا يجوز إلا إذا كانت النكرة موصوفة وللوصفية بقوله تعالى الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ وجوز أبو حيان اعتبار جَنَّاتِ عَدْنٍ نكرة على معنى جنات إقامة واستقرار وقال : إن دعوى أن عدنا علم لمعنى العدن يحتاج إلى توقيف وسماع من العرب مع ما في ذلك مما يوهم اقتضاء البناء. وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه. وعدم جواز إبدال النكرة من المعرفة إلا موصوفة شيء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع. ومذهب البصريين جواز الإبدال وإن لم تكن النكرة موصوفة «1» وقال أبو علي : يجوز ذلك إذا كان في إبدال النكرة فائدة لا تستفاد من المبدل منه مع أنه لا تتعين البدلية لجواز النصب على المدح ، وكذا لا يتعين كون الموصول صفة لجواز الإبدال اه بأدنى زيادة.
وتعقب إبدال الموصول بأنه في حكم المشتق. وقد نصوا على أن إبدال المشتق ضعيف. ولعل أبا حيان لا يسلم ذلك ثم إنه جوز كون جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل كل. وكذا جوز كونه عطف بيان. وجملة «لا يظلمون» على وجهي البدلية. والعطف اعتراض أو حال. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر والأعمش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو جَنَّاتِ عَدْنٍ بالرفع ، وخرجه أبو حيان على أنه خبر مبتدأ محذوف أي تلك جنات ، وغيره على أنها مبتدأ والخبر الموصول. وقرأ الحسن بن حي وعلي بن صالح «جنة عدن» بالنصب والإفراد ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد اللّه.
وقرأ اليماني والحسن في رواية وإسحاق الأزرق عن حمزة «جنة عدن» بالرفع والإفراد والعائد إلى الموصول محذوف أي وعدها الرحمن ، والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته سبحانه وتعالى ، والباء في قوله عز وجل : بِالْغَيْبِ للملابسة وهي متعلقة بمضمر هو حال من العائد أو من عِبادَهُ أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب أي غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها أو للسببية وهي متعلقة بوعد أي وعدها
___________
(1) بضم الهمزة وفتحها اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 429
إياهم بسبب تصديق الغيب والإيمان به ، وقيل : هي صلة «عباده» على معنى الذين يعبدونه سبحانه بالغيب أي في السر وهو كما ترى إِنَّهُ أي الرحمن ، وجوز كون الضمير للشان كانَ وَعْدُهُ
أي موعوده سبحانه وهو الجنات كما روي عن ابن جريج أو موعوده كائنا ما كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا كما قيل ، وجوز إبقاء الوعد على مصدريته وإطلاقه على ما ذكر للمبالغة.
والتعبير بكان للإيذان بتحقق الوقوع أي كان ذلك مَأْتِيًّا أي يأتيه من وعد له لا محالة ، وقيل : مَأْتِيًّا مفعول بمعنى فاعل أي آتيا ، وقيل : هو مفعول من أتى إليه إحسانا أي فعل به ما يعد إحسانا وجميلا والوعد على ظاهره.
ومعنى كونه مفعولا كونه منجزا لأن فعل الوعد بعد صدوره وإيجاده إنما هو تنجيزه أي إنه كان وعده عباده منجزا لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فضول كلام لا طائل تحته بل هو جار مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير.
والكلام كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها ، وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن ، وعن مجاهد تفسير اللغو بالكلام المشتمل على السب ، والمراد لا يتسابون والتعميم أولى إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع ، والسّلام إما بمعناه المعروف أي لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم السّلام عليهم أو تسليم بعضهم على بعض أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص أي لكن يسمعون كلاما سالما من العيب والنقص ، وجوز أن يكون متصلا وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وهو يفيد نفي سماع اللغو بالطريق البرهاني الأقوى. والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير ولولا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغة ، وقيل : اتصال الاستثناء على أن معنى السّلام الدعاء بالسلامة من الآفات وحيث إن أهل الجنة أغنياء عن ذلك إذ لا آفة فيها كان السّلام لغوا بحسب الظاهر وإن لم يكن كذلك نظرا للمقصود منه وهو الإكرام وإظهار التحابب ، ولذا كان لائقا بأهل الجنة.
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وارد على عادة المتنعمين في هذه الدار ، أخرج ابن المنذر عن يحيى بن كثير قال : كانت العرب في زمانها إنما لها أكلة واحدة فمن أصاب أكلتين سمي فلان الناعم فأنزل اللّه تعالى هذا يرغب عباده فيما عنده ، وروي نحو ذلك عن الحسن ، وقيل : المراد دوام رزقهم ودروره وإلا فليس في الجنة بكرة ولا عشي لكن جاء في بعض الآثار أن أهل الجنة يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن. وأبي قلابة قالا : «جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول اللّه هل في الجنة من ليل؟ قال : وما هيجك على هذا؟ قال : سمعت اللّه تعالى يذكر في الكتاب وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا فقلت : الليل من البكرة والعشي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من اللّه تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة عليهم السّلام».
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا استئناف جيء به لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها فاسم الإشارة مبتدأ والْجَنَّةُ خبر له والموصول صفة «1» لها والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي نورثها ، وبذلك قرأ الأعمش وقرأ الحسن والأعرج وقتادة ورويس وحميد وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو «نورّث» بفتح
___________
(1) وقال الرضي : الوصف شرط إذا كان البدل بدل كل اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 430
الواو وتشديد الراء والمراد نبقيها على من كان تقيا من ثرمة تقواه ونمتعه بها كما نبقي على الوراث مال مورثه ونمتعه به فالإيراث «1» مستعار للإبقاء ، وإيثاره على سائر ما يدل على ذلك كالبيع والهبة لأنه أتم أنواع التمليك من حيث إنه لا يعقب بفسح ولا استرجاع ولا إبطال ، وقيل : يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال : ليس من أحد إلا وله في الجنة منزل وأزواج فإذا كان يوم القيامة ورث اللّه تعالى المؤمن كذا وكذا منزلا من منازل الكفار
وذلك قوله تعالى : تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ الآية ، ولا يخفى أن هذا إن صح فيه أثر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فعلى العين والرأس وإلا فقد قيل عليه : إنه ضعيف لأنه يدل على أن بعض الجنة موروث والنظم الجليل يدل على أنها كلها كذلك ولأن الإيراث ينبىء عن ملك سابق لا على فرضه مع أنه لا داعي للفرض هنا لكن تعقب بأنه يكفي في الإيراث كونه الموروث كان موجودا لكن بشرط التقوى بناء على ما ذهب إليه بعضهم في قوله تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ حيث قال : المراد من العباد ما يعم المؤمن التقي وغيره ووعد غير المؤمن التقي مشروط بالإيمان والتقوى ، نعم اختار الأكثرون أن المراد من العباد هناك المتقون والمراد منهم هنا الأعم ، والمراد من التقى من آمن وعمل صالحا على ما قيل ، ولا دلالة في الآية على أن غيره لا يدخل الجنة مطلقا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن داود بن أبي هند أنه الموحد فتذكر ولا تغفل.
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ حكاية قول جبرائيل صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه ،
فقد روي أنه احتبس عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أيّا ما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر عليه الصلاة والسّلام كيف يجيب حتى حزن واشتد عليه ذلك وقال المشركون : إن ربه ودعه وقلاه فلما نزل قال له عليه الصلاة والسّلام : يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال : إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست وأنزل اللّه تعالى هذه الآية وسورة الضحى
قاله غير واحد ، فهو من عطف القصة على القصة على ما قاله الخفاجي. وفي الكشف وجه وقوع ذلك هذا الموقع أنه تعالى لما فرغ من أقاصيص الأنبياء عليهم السّلام تثبيتا له صلّى اللّه عليه وسلّم وذنب بما أحدث بعدهم الخلوف واستثنى الأخلاف وذكر جزاء الفريقين عقب بحكاية نزول جبريل عليه السّلام وما رماه المشركون به من توديع ربه سبحانه إياه زيادة في التسلية وأن الأمر ليس على ما زعم هؤلاء الخلوف وأدمج فيه مناسبته لحديث التقوى بما دل على أنهم مأمورون في حركة وسكون منقادون مفوضون لطفا له ولأمته صلّى اللّه عليه وسلّم ولهذا صرح بعده بقوله تعالى فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ وفيه إنك لا ينبغي أن تكترث بمقالة المخالفين إلى أن تلقى ربك سعيدا ، وعطف عليه مقالة الكفار بيانا لتباين ما بين المقالتين وما عليه الملك المعصوم والإنسان الجاهل الظلوم فهو استطراد شبيه بالاعتراض حسن الموقع انتهى ، ولا يأبى ما تقدم في سبب النزول ما
أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وجماعة في سببه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لجبريل عليه الصلاة والسّلام : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ
لجواز أن يكون صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذلك في أثناء محاورته السابقة أيضا واقتصر في كل رواية على شيء مما وقع في المحاورة ، وقيل : يجوز أن يكون النزول متكررا نعم ما ذكر في التوجيه إنما يحسن على بعض الروايات السابقة في المراد بالخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
وقال بعضهم : إن التقدير هذا ، وقال جبريل : وما نتنزل إلخ وبه يظهر حسن العطف ووجهه انتهى وتعقب بأنه لا
___________
(1) وقيل يحتمل الكلام التمثيل اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 431
محصل له. وحكى النقاش عن قوم أن الآية متصلة بقول جبريل عليه السّلام أولا إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم : 19] وهو قول نازل عن درجة القبول جدا ، والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل يقال نزلته فتنزل ، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل ، وعلى ذلك قوله :
فلست لإنسيّ ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب
إذ لا أثر للتدرج في مقصود الشاعر ، والمعنى ما نتنزل وقتا غب وقت إلا بأمر اللّه تعالى على ما تقتضيه حكمته سبحانه ، وقرأ الأعرج «وما يتنزل» بالياء والضمير للوحي بقرينة الحال ، وسبب النزول والكلام لجبريل عليه السّلام ، وقيل : إن الضمير له عليه السّلام والكلام له عز وجل. خبر سبحانه أنه لا يتنزل جبريل إلا بأمره تعالى قائلا لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا ما قدامنا من الزمان المستقبل وَما خَلْفَنا من الزمان الماضي وَما بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الزمان الحال فلا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره سبحانه ومشيئته عز وجل ، وقال ابن جريج : ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة وما بين ذلك هو مدة الحياة ، وقال أبو العالية : ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث وما بين ذلك ما بين النفختين وهو أربعون سنة ، وفي كتاب التحرير والتحبير ما بين الأيدي الآخرة وما خلف الدنيا ، ورواه العوفي عن ابن عباس وبه قال ابن جبير وقتادة ومقاتل وسفيان ، وقال الأخفش : ما بين الأيدي هو ما قبل الخلق وما خلف هو ما بعد الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والآخرة فالمئات على هذه الأقوال من الزمان.
وقال صاحب الفنيان : ما بين أيدينا السماء وما خلفنا الأرض وما بين ذلك ما بين الأرض والسماء ، وقيل : ما بين الأيدي الأرض وما خلف السماء وقيل : ما بين الأيدي المكان الذي ينتقلون إليه وما خلف المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه فالمئات من الأمكنة ، واختار بعضهم تفسيرها بما يعم الزمان والمكان ، والمراد أنه تعالى المالك لكل ذلك فلا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل.
وقال البغوي : المراد له علم ما بين أيدينا إلخ أي فلا نقدم على ما لم يكن موافق حكمته سبحانه وتعالى.
واختار بعضهم التعميم أي له سبحانه ذلك ملكا وعلما وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي تاركا أنبياءه عليهم السّلام ويدخل صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك دخولا أوليا أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن عن ترك اللّه تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة بالغة ، وقيل : النسيان على ظاهره يعني أنه سبحانه لإحاطة علمه وملكه لا يطرأ عليه الغفلة والنسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك وإنما كان تأخير الإيحاء لحكمة علمها جل شأنه ، واختير الأول لأن هذا المعنى لا يجوز عليه سبحانه فلا حاجة إلى نفيه عنه عز وجل مع أن الأول هو الأوفق لسبب النزول.
ورجح الثاني بأنه أوفق بصيغة المبالغة فإنها باعتبار كثرة من فرض التعلق به وهي أتم على الثاني مع ما في ذلك من إبقاء اللفظ على حقيقته ، وكثيرا ما جاء في القرآن نفي ما لا يجوز عليه سبحانه وتعالى وفيه نظر ، نعم لا شبهة في أن المتبادر الثاني وأمر الأوفقية لسبب النزول سهل ، وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسّلام من تشريفه صلّى اللّه عليه وسلّم والإشعار بعلة الحكم ما لا يخفى ، وقال أبو مسلم وابن بحر : أول الآية إلى وَما بَيْنَ ذلِكَ من كلام المتقين حين يدخلون الجنة والتنزل فيه من النزول في المكان ، والمعنى وما نحل الجنة ونتخذها منازل إلا بأمر ربك تعالى ولطفه وهو سبحانه مالك الأمور كلها سالفها ومترقبها وحاضرها فما وجدنا وما نجده من لطفه وفضله ، وقوله سبحانه وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا تقرير من جهته تعالى لقولهم أي وما كان سبحانه تاركا لثواب العالمين أو ما كان ناسيا لأعمالهم والثواب عليها حسبما وعد جل وعلا ، وفيه أن حمل التنزل على ما ذكر

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 432
خلاف الظاهر. وأيضا مقتضاه بأمر ربنا لأن خطاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما في الوجه الأول غير ظاهر إلا أن يكون حكاه اللّه تعالى على المعنى لأن ربهم وربه واحد ولو حكى على لفظهم لقيل ربنا ، وإنما حكى كذلك ليجعل تمهيدا لما بعده ، وكون ذلك خطاب جماعة المتقين لواحد منهم بعيد وكذا وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا إذ لم يقل ربهم. وأيضا لا يوافق ذلك سبب النزول بوجه ، وكأن القائل إنما اختاره ليناسب الكلام ما قبله ويظهر عطفه عليه. وقد تحقق أنا في غنى عن ارتكابه لهذا الغرض.
وقوله تعالى رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحة عظمته وجلاله الغفلة والنسيان أو ترك وقلاء من اختاره واصطفاه لتبليغ رسالته ، ورَبُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات إلخ أو بدل من رَبِّكَ في قوله تعالى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا والفاء في قوله سبحانه فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما ، وقيل : من كونه تعالى غير تارك له عليه الصلاة والسّلام أو غير ناس لأعمال العاملين ، والمعنى فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده إلخ فإن إيجاب معرفته سبحانه كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفت أنه عز وجل لا ينساك أو لا ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ولا تحزن بإبطاء الوحي وكلام الكفرة فإنه سبحانه يراقبك ويراعيك ويلطف بك في الدنيا والآخرة.
وجوز أبو البقاء أن يكون رَبُّ السَّماواتِ مبتدأ والخبر فَاعْبُدْهُ والفاء زائدة على رأي الأخفش وهو كما ترى.
وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى : وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا من تتمة كلام المتقين على تقدير أن يكون رَبُّ خبر مبتدأ محذوف ولم يجوز ذلك على تقدير الإبدال لأنه لا يظهر حينئذ ترتب قوله سبحانه فَاعْبُدْهُ إلخ عليه لأنه من كلام اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم في الدنيا بلا شك ، وجعله جواب شرط محذوف على تقدير ولما عرفت أحوال أهل الجنة وأقوالهم فأقبل على العمل لا يلائم - كما في الكشف - فصاحة التنزيل للعدول عن السبب الظاهر إلى الخفي ، وتعدية الاصطبار باللام مع أن المعروف تعديته بعلى كما في قوله تعالى : وَاصْطَبِرْ عليها لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز : اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته ، وفيه إشارة إلى ما يكابد من المجاهدة وأن المستقيم من ثبت لذلك ولم يتزلزل وشمة من معنى رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثلا كما جاء في رواية جماعة عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة وأصله الشريك في الاسم ، وإطلاقه على ذلك لأن الشركة في الاسم تقتضي المماثلة ، وقال ابن عطية : السمي على هذا بمعنى المسامي والمضاهي ، وأبقاه بعضهم على الأصل ، واستظهر أن يرادها هنا الشريك في اسم خاص قد عبر عنه تعالى بذلك وهو رب السماوات والأرض ، وقيل : المراد هو الشريك في الاسم الجليل فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا ، وقيل : المراد هو الشريكفيما يختص به تعالى كالاسم الجليل والرحمن ، ونقل ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أيضا وقيل : هو الشريك في اسم الإله ، والمراد بالتسمية التسمية على الحق وأما التسمية على الباطل فهي كلا تسمية ، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال :
السمي الولد وأنشد له قول الشاعر :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 433
أما السمى فأنت منه مكثر والمال مال يغتدي ويروح
وروي ذلك أيضا عن الضحاك ، وأيّا ما كان فالمراد بإنكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكده ، والجملة تقرير لوجوب عبادته عز وجل وإن اختلف الاعتبار حسب اختلاف الأقوال فتدبر.
وقرأ الأخوان وهشام وعلي بن نصر وهارون كلاهما عن أبي عمرو والحسن وال. عمش وعيسى وابن محيصن «هتعلم» بإدغام اللام في التاء وهو على ما قال أبو عبيدة لغة كالإظهار وأنشدوا لذلك قول مزاحم العقيلي :
فذر ذا ولكن هتعين متيما على ضوء برق آخر الليل ناصب
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنها نزلت في العاصي بن وائل ، وعن عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقيل : في أبي جهل ، وعن الكلبي أنها في أبيّ بن خلف أخذ عظما باليا فجعل يفته بيده ويذريه في الريح ويقول : زعم فلان أنا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا إن هذا شيء لا يكون أبدا فأل في الْإِنْسانُ على ما قيل للعهد والمراد به أحد هؤلاء الأشخاص ، وقيل : المراد بالإنسان جماعة معينون وهم الكفرة المنكرون للبعث.
وقال غير واحد : يجوز أن تكون أل للجنس ويكون هناك مجاز في الطرف بأن يطلق جنس الإنسان ويراد بعض أفراده كما يطلق الكل على بعض أجزائه أو يكون هناك مجاز في الإسناد بأن يسند إلى الكل ما صدر عن البعض كما يقال : بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم ، ومن ذلك قوله :
فسيف بني عبس وقد ضربوا نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
واعترض هذا بأنه يشترط لصحة ذلك الإسناد رضا الباقين بالفعل أو مساعدتهم عليه حتى يعد كأنه صدر منهم ، ولا شك أن بقية أفراد الإنسان من المؤمنين لم يرضوا بهذا القول. وأجاب بعض مشترطي ذلك للصحة بأن الإنكار مركوز في طبائع الكل قبل النظر في الدليل فالرضا حاصل بالنظر إلى الطبع والجبلة.
وقال الخفاجي : الحق عدم اشتراط ذلك لصحته وإنما يشترط لحسنه نكتة يقتضيها مقام الكلام حتى يعد الفعل كأنه صدر عن الجميع فقد تكون الرضا وقد تكون المظاهرة وقد تكون عدم الغوث والمدد ولذا أوجب الشرع القسامة والدية وقد تكون غير ذلك ، وكأن النكتة هنا أنه لما وقع بينهم إعلان قول لا ينبغي أن يقال مثله وإذا قيل لا ينبغي أن يترك قائله بدون منع أو قتل جعل ذلك بمنزلة الرضا حثا لهم على إنكاره قولا أو فعلا انتهى.
وقيل : لعل الحق أن الإسناد إلى الكل هنا للإشارة إلى قلة المؤمنين بالبعث على الوجه الذي أخبر به الصادق وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين فتأمل ، وعبر بالمضارع إما استحضارا للصورة الماضية لنوع غرابة. وإما لإفادة الاستمرار التجددي فإن هذا القول لا يزال يتجدد حتى ينفخ في الصور ، والهمزة للإنكار وإذا ظرف متعلق بفعل محذوف دل عليه أُخْرَجُ ولم يجوزوا تعلقه بالمذكور لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله ، وعد ابن عطية توسط سوف مانعا من العمل أيضا ، ورد عليه بقوله :
فلما رأته آمنا هان وجدها وقالت أبونا هكذا سوف يفعل
وغير ذلك مما سمع ، ونقل عن الرضي أنه جعل إذا هنا شرطية وجعل عاملها الجزاء وقال : إن كلمة الشرط تدل على لزوم الجزاء للشرط ، ولتحصيل هذا الغرض عمل في إذا جزاؤه مع كونه بعد حرف لا يعمل ما بعده فيما قبله كالفاء في فَسَبِّحْ وإن في قولك : إذا جئتني فإني مكرم ولام الابتداء في قوله تعالى : إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ، ومختار الأكثرين أن إذا هنا ظرفية ، وما ذكره الرضي ليس بمتفق عليه ، وتحقيق ذلك في كتب العربية ، وفي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 434
الكلام معطوف محذوف لقيام القرينة عليه أي إذا ما مت وصرت رميما لسوف إلخ.
واللام هنا لمجرد التوكيد ، ولذا ساغ اقترانها بحرف الاستقبال ، وهذا على القول بأنها إذا دخلت المضارع خلصته للحال ، وأما على القول بأنها لا تخلصه فلا حاجة إلى دعوى تجريدها للتوكيد لكن الأول هو المشهور وما في إِذا ما للتوكيد أيضا. والمراد من الإخراج الإخراج من الأرض أو من حال الفناء والخروج على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز عن الانتقال من حال إلى أخرى ، وإيلاء الظرف همزة الإنكار دون الإخراج لأن ذلك الإخراج ليس بمنكر مطلقا وإنما المنكر كونه وقت اجتماع الأمرين فقدم الظرف لأنه محل الإنكار ، والأصل في المنكر أن يلي الهمزة ، ويجوز أن يكون المراد إنكار وقت ذلك بعينه أي إنكار مجيء وقت فيه حياة بعد الموت يعني أن هذا الوقت لا يكون موجودا وهو أبلغ من إنكار الحياة بعد الموت لما أنه يفيد إنكاره بطريق برهاني ، وبعضهم لم يقدر معطوفا واعتبر زمان الموت ممتد إلا أول زهوق الروح كما هو المتبادر وقيل : لا حاجة إلى جميع ذلك لأنهم إذا أحالوه في حالة الموت علم إحالته إذا كانوا رفاتا بالطريق الأولى ، وأيا ما كان فلا إشكال في الآية.
وقرأ جماعة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه إِذا بدون همزة الاستفهام وهي مقدرة معه لدلالة المعنى على ذلك ، وقيل : لا تقدير والمراد الاخبار على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك. وقرأ طلحة بن مصرف «سأخرج» بسين الاستقبال وبغير لام ، وعلى ذلك تكون إذا متعلقة بالفعل المذكور على الصحيح ، وفي رواية أخرى عنه «لسأخرج» بالسين واللام. وقرأ الحسن وأبو حيوة «أخرج» مبنيا للفاعل «أو لا يذكر الإنسان» من الذكر الذي يراد به التفكر ، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي الفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المانعة عن القول المذكور وهو السر في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان على ما قيل : والهمزة للإنكار التوبيخي وهي على أحد المذهبين المشهورين في مثل هذا التركيب داخلة على محذوف معطوف عليه ما بعد والتقدير هاهنا أيقول ذلك ولا يذكر أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه ، وقيل : أي من قبل بعثه وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي والحال أنه لم يكن حينئذ موجودا فحيث خلقناه وهو في تلك الحالة المنافية للخلق بالكلية مع كونه أبعد من الوقوع فلأن نبعثه باعادة ما عدم منه وقد كان متصفا بالوجود في وقت على ما اختاره بعض أهل السنة أو بجمع المواد المتفرقة وإيجاد مثل ما كان فيها من الإعراض على ما اختاره بعض آخر منهم أيضا أولى وأظهر فما له لا يذكره فيقع فيما يقع فيه من النكير ، وقيل : إن العطف على يقول المذكور سابقا.
والهمزة لإنكار الجمع لدخولها على الواو المفيدة له ، ولا يخل ذلك بصدارتها لأنها بالنسبة إلى جملتها فكأنه قيل ، أيجمع بين القول المذكور وعدم الذكر : ومحصله أيقول ذلك ولا يذكر أنا خلقناه إلخ.
وقرأ غير واحد من السبعة «يذّكر» بفتح الذال والكاف وتشديد هما ، وأصله يتذكر فأدغم التاء في الذال وبذلك قرأ أبي فَوَ رَبِّكَ أقسامه باسمه عزت أسماؤه مضافا إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم لتحقيق الأمر بالإشعار بعلته وتفخيم شأنه عليه الصلاة والسّلام ورفع منزلته لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي لتجمعن القائلين ما تقدم بالسوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم أحياء ، وفي القسم على ذلك دون البعث إثبات له على أبلغ وجه وآكده كأنه أمر واضح غني عن التصريح به بعد بيان إمكانه بما تقدم من الحجة البالغة وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال ، وكون الضمير للكفرة القائلين هو الظاهر نظرا إلى السياق وإليه ذهب ابن عطية. وجماعة. ولا ينافي ذلك إرادة الواحد من الإنسان كما لا يخفى.
واستظهر أبو حيان أنه للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم وَالشَّياطِينَ معطوف على الضمير المنصوب أو مفعول معه. روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم كل منهم مع شيطانه في سلسلة ، ووجه

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 435
ذلك على تقدير عود الضمير للناس أنهم لما حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعا على طرز ما قيل في نسبة القول إلى الجنس ، وقيل : يحشر كل واحد من الناس مؤمنهم وكافرهم مع قرينه من الشياطين ولا يختص الكافر بذلك. وقد يستأنس له بما
في الصحيحين عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا «ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا : وإياك يا رسول اللّه قال : وإياي إلا أن اللّه تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»
ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا باركين على الركب ، وأصله جثوو بواوين فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين فكسرت الثاء للتخفيف فانقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء فأدغمت الياء في الياء وكسرت الجيم اتباعا لما بعدها.
وقرأ غير واحد من السبعة بضمها وهو جمع جاث في القراءتين ، وجوز الراغب كونه مصدرا نظير ما قيل في بكى وقد مر ، ولعل إحضار الكفرة بهذه الحال إهانة لهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة.
وقال بعضهم : إن المحاسبة تكون حول جهنم فيجثون لمخاصمة بعضهم بعضا ثم يتبرأ بعضهم من بعض ، وقال السدي : يجثون لضيق المكان بهم فالحال على القولين مقدرة بخلافه على ما تقدم. وقيل : إنها عليه مقدرة أيضا لأن المراد الجثي حول جهنم ، ومن جعل الضمير للكفرة وغيرهم قال : إنه يحضر السعداء والأشقياء حول جهنم ليرى السعداء ما نجاهم اللّه تعالى منه فيزدادوا غبطة وسرورا وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم ويزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم بهم ويجثون كلهم ثم لما يدهمهم من هول المطلع أو لضيق المكان أو لأن ذلك من توابع التواقف للحساب والتقاول قبل الوصول إلى الثواب والعقاب ، وقيل : إنهم يجثون على ركبهم إظهارا للذل في ذلك الموطن العظيم ، ويدل على جثي جميع أهل الموقف ظاهر قوله تعالى : وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية : 28] لكن سيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ما هو ظاهر في عدم جثي الجميع من الأخبار واللّه تعالى أعلم ، والحال قيل : مقدرة ، وقيل : غير مقدرة إلا أنه أسند ما للبعض إلى الكل ، وجعلها مقدرة بالنسبة إلى السعداء وغير مقدرة بالنسبة إلى الأشقياء لا يصح ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه فسر جِثِيًّا بجماعات على أنه جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة أي لنحضرنهم جماعات ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي جماعة تشايعت وتعاونت على الباطل أو شاعت وتبعت الباطل على ما يقتضيه كون الآية في الكفرة أو جماعة شاعت دينا مطلقا على ما يقتضيه كونها في المؤمنين وغيرهم أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي نبوا عن الطاعة وعصيانا ، وعن ابن عباس جراءة ، وعن مجاهد كفرا ، وقيل : افتراء بلغة تميم ، والجمهور على التفسير الأول ، وهو على سائر التفاسير مصدر وفيه القراءتان السابقتان في جثيا.
وزعم بعضهم أنه فيهما جمع جاث وهو خلاف الظاهر هنا ، والنزع الإخراج كما في قوله تعالى : وَنَزَعَ يَدَهُ [الأعراف : 108 ، الشعراء : 33] والمراد استمرار ذلك أي إنا نخرج ونفوز من كل جماعة من جماعات الكفر أعصاهم فأعصاهم إلى أن يحاط بهم فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ولك قوله تعالى : ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا فالمراد بالذين هم أولى المنتزعون باعتبار الترتيب ، وقد يراد بهم أولئك باعتبار المجموع فكأنه قيل : ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وهم أولى بالصلي من بين سائر الصالين ودركاتهم أسفل وعذابهم أشد ففي الكلام إقامة المظهر مقام المضمر ، وفسر بعضهم النزع بالرمي من نزعت السهم عن القوس أي رميته فالمعنى لنرمين فيها الأعصى فالأعصى من كل طائفة من تلك الطوائف ثم لنحن أعلم بتصليتهم وحمل الآية على البدء بالأشد فالأشد مروي عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 436
وجوز أن يراد بأشدهم عتيا رؤساء الشيع وأئمتهم لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا مضلين قال اللّه تعالى :
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ.
وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة وعليه لا يجب الاستمرار والإحاطة. وأورد على القول بالعموم أن قوله تعالى أَشَدُّ عِتِيًّا يقتضي اشتراك الكل في العتي بل في أشديته وهو لا يناسب المؤمنين ، وأجيب عنه بأن ذلك من نسبة ما للبعض إلى الكل والتفضيل على طائفة لا يقتضي مشاركة كل فرد فرد فإذا قلت : هو أشجع العرب لا يلزمه وجود الشجاعة في جميع أفرادهم ، وعلى هذا يكون في الآية إيماء إلى التجاوز عن كثير حيث خص العذاب بالأشد معصية ، وأَيُّهُمْ مفعول لَنَنْزِعَنَّ وهو اسم موصول بمعنى الذي مبني على الضم محله النصب وأَشَدُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد والجملة صلة والعائد المبتدأ وعَلَى الرَّحْمنِ متعلق بأشد وعِتِيًّا تمييز محول عن المبتدأ ، ومن زعم أنه جمع جعله حالا ، وجوز في الجار أن يكون للبيان فهو متعلق بمحذوف كما في سقيا لك ، ويجوز تعلقه بعتيا ، أما إن كان وصفا فبالاتفاق ، وأما إذا كان مصدرا فعند القائل بجواز تقدم معمول المصدر لا سيما إذا كان ظرفا ، وكذا الكلام في بِها من قوله هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا فإنه جوز أن يكون الجار للبيان وأن يكون متعلقا بأولى وأن يكون متعلقا بصليا ، وقد قرىء بالضم والكسر ، وجوز فيه المصدرية والوصية ، وهو على الوصفية حال وعلى المصدرية تمييز على طرز ما قيل في عِتِيًّا إلا أنه جوز فيه أن يكون تمييزا عن النسبة بين أَوْلى والمجرور وقد أشير إلى ذلك فيما مر.
والصلي من صلى النار كرضي وبها قاسى حرها ، وقال الراغب : يقال صلي بالنار وبكذا أي بلي به ، وعن الكلبي أنه فسر الصلي بالدخول ، وعن ابن جريج أنه فسره بالخلود ، وليس كل من المعنيين بحقيقي له كما لا يخفى ، ثم ما ذكر من بناء - أي - هنا هو مذهب سيبويه ، وكان حقها أن تبنى في كل موضع كسائر الموصولات لشبهها الحرف بافتقارها لما بعدها من الصلة لكنها لما لزمت الإضافة إلى المفرد لفظا أو تقديرا وهي من خواص الأسماء بعد الشبه فرجعت إلى الأصل في الأسماء وهو الأعراب ولأنها إذا أضيفت إلى نكرة كانت بمعنى كل وإذا أضيفت إلى معرفة كانت بمعنى بعض فحملت في الإعراب على ما هي بمعناه وعادت هنا عنده إلى ما هو حق الموصول وهو البناء لأنه لما حذف صدر صلتها ازداد نقصها المعنوي وهو الإبهام والافتقار للصلة بنقص الصلة التي هي كجزئها فقويت مشابهتها للحرف ، ولم يرتض كثير من العلماء ما ذهب إليه.
قال أبو عمرو الجرمي : خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحدا يقول : لأضربن أيهم قائم بالضم ، وقال أبو جعفر : النحاس ما عملت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذه المسألة.
وقال الزجاج : ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما فإنه يقول بإعراب أي إذا أفردت عن الإضافة فكيف يبنيها إذا أضيفت. وقد تكلف شيخنا علاء الدين أعلى اللّه تعالى مقامه في عليين للذب عن سيبويه في ذلك بما لا يفي بمؤنة نقله ، وقد ذكرنا بعضا منه في حواشينا على شرح القطر للمصنف.
نعم يؤيد ما ذهب إليه سيبويه من المفعولية قراءة طلحة بن مصرف ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء وزائدة عن الأعمش أيهم بالنصب لكنها ترد ما نقل عنه من تحتم البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها ، وينبغي إذا كان واقفا على هذه القراءة أن يقول بجواز الأمرين فيها حينئذ ، وقال الخليل : مفعول (ننزعن) موصول محذوف وأي هنا استفهامية مبتدأ وأشد خبره والجملة محكية بقول وقع صلة للموصول المحذوف أي لننزعن الذين يقال فيهم : أيهم

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 437
أشد ، وتعقب بأنه لا معنى لجعل «النزع» لمن يسأل عنه بهذا الاستفهام ، وأجيب بأن ذلك مجاز عن تقارب أحوالهم وتشابهها في العتو حتى يستحق أن يسأل عنها أو المراد الذين يجاب بهم عن هذا السؤال ، وحاصله لننزعن الأشد عتيا وهو مع تكلفه فيه حذف الموصول مع بعض الصلة وهو تكلف على تكلف ومثله لا ينقاس ، نعم مثله في الحذف على ما قيل قول الشاعر :
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم
وذهب الكسائي والفراء إلى ما قاله الخليل إلا أنهما جعلا الجملة في محل نصب بنزعن ، والمراد لننزعن من يقع في جواب هذا السؤال ، والفعل معلق بالاستفهام وساغ تعليقه عندهما لأن المعنى لننادين وهما يريان تعليق النداء وإن لم يكن من أفعال القلوب وإلى ذلك ذهب المهدوي ، وقيل : لما كان النزع متضمنا معنى الإفراز والتمييز وهو مما يلزمه العلم عومل معاملة العلم فساغ تعليقه. ويونس لا يرى التعليق مختصا بصنف من الأفعال بل سائر أصنافها سواء في صحة التعليق عنده ، وقيل : الجملة الاستفهامية استئنافية والفعل واقع على كُلِّ شِيعَةٍ على زيادة من في الإثبات كما يراه الأخفش أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة بجعل مِنْ مفعولا لتأويلها باسم ، ثم إذا كان الاستئناف بيانيا واقعا في جواب من المنزوعون؟ احتيج إلى التأويل كأن يقال : المراد الذين يقعون في جواب أيهم أشد أو نحو ذلك ، وإذا كانت أي على تقدير الاستئناف ووقوع الفعل على ما ذكر موصولة لم يحتج إلى التأويل إلا أن في القول بالاستئناف عدولا عن الظاهر من كون الكلام جملة واحدة إلى خلاف الظاهر من كونه جملتين.
ونقل بعضهم عن المبرد أن أَيُّهُمْ فاعل شِيعَةٍ لأن معناه يشيع ، والتقدير لننزعن من كل فريق يشيع أيهم هو أشد ، وأي على هذا على ما قال أبو البقاء. ونقل عن الرضي بمعنى الذي ، وفي البحر قال المبرد : أيهم متعلق بشيعة فلذلك ارتفع ، والمعنى أن الذين تشايعوا أيهم أشد كأنهم يتبادرون إلى هذا ، ويلزمه أن يقدر مفعولا لننزعن محذوفا ، وقدر أيضا في هذا المذهب من الذين تشايعوا أيهم أشد على معنى من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد ، قال النحاس :
وهذا قول حسن انتهى ، وهو خلاف ما نقل أولا ، ولعمري إن ما نسب إلى المبرد أولا وأخيرا أبرد من يخ ، وقيل : إن الجملة استفهامية وقعت صفة لشيعة على معنى لننزعن من كل شيعة مقول فيهم أيهم أشد أي من كل شيعة متقاربي الأحوال ، ومن مزيدة والنزع الرمي ، وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول : في أيهم معنى الشرط تقول :
ضربت القوم أيهم غضب ، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو حيان : فعلى هذا يكون التقدير هنا إن اشتد عتوهم أو لم يشتد انتهى وهو كما ترى ، والوجه الذي ينساق إليه الذهن ويساعده اللفظ والمعنى هو ما ذهب إليه سيبويه ومدار ما ذهب إليه في أي من الإعراب والبناء هو المساع في الحقيقة ، وتعليلات النحويين على ما فيها إنما هي بعد الوقوع ، وعدم سماع لا يقدح في سماعه فتدبر.
وَإِنْ مِنْكُمْ التفات إلى خطاب الإنسان سواء أريد منه العموم أو خصوص الكفرة لإظهار مزيد الاعتناء بمضمون الكلام. وقيل : هو خطاب للناس وابتداء كلام منه عز وجل بعد ما أتم الغرض من الأول فلا التفات أصلا. ولعله الأسبق إلى الذهن لكن قيل يؤيد الأول قراءة ابن عباس وعكرمة وجماعة وَإِنَّ مِنْهُمْ أي وما منكم أحد إِلَّا وارِدُها أي داخلها كما ذهب إلى ذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة ، وعلى ذلك قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء : 98]. وقوله تعالى : في فرعون يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود : 98].

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 438
واحتج ابن عباسبما ذكر على ابن الأزرق حين أنكر عليه تفسير الورود بالدخول وهو جار على تقدير عموم الخطاب أيضا فيدخلها المؤمن إلا أنها تضره على ما قيل ،
فقد أخرج أحمد ، والحكيم الترمذي ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وجماعة عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن. وقال آخر : يدخلونها جميعا ثم ينجي اللّه تعالى الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه فذكرت له فقال : وأهوى بإصبعه إلى أذنيه صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السّلام حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي اللّه تعالى الذين اتقوا»
، وقد ذكر الإمام الرازي لهذا الدخول عدة فوائد في تفسيره فليراجع.
وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن الورود المرور عليها من غير دخول ، وروي ذلك أيضا عن قتادة وذلك بالمرور على الصراط الموضوع على متنها على ما رواه جماعة عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه ، ويمر المؤمن ولا يشعر بها بناء على ما أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحكيم وغيرهم عن خالد بن معدان قال :
إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ربنا ألم تعدنا أن نرد النار قال : بلى ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة ، ولا ينافي هذا ما
أخرجه الترمذي والطبراني وغيرهما عن يعلى بن أمية عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي
لجواز أن لا يكون متذكرا هذا القول عند السؤال أو لم يكن سمعه لاشتغاله ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال في الآية : ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها ورود المشركين أن يدخلوها ، ولا بد على هذا من ارتكاب عموم المجاز عند من لا يرى جواز استعمال اللفظ في معنيين ، وعن مجاهد أن ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لما صح من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «الحمى من فيح جهنم»
ولا يخفى خفاء الاستدلال به على المطلوب.
واستدل بعضهم على ذلك بما
أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة قال : خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعود رجلا من أصحابه وعكا وأنا معه فقال عليه الصلاة والسّلام : «إن اللّه تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة وفيه خفاء أيضا»
والحق أنه لا دلالة فيه على عدم ورود المؤمن المحموم في الدنيا النار في الآخرة ، وقصارى ما يدل عليه أنه يحفظ من ألم النار يوم القيامة ، وأخرج عبد ابن حميد عن عبيد بن عمير أن الورود الحضور والقرب كما في قوله تعالى وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص : 23] واختار بعضهم أن المراد حضورهم جاثين حواليها ، واستدل عليه بما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى ، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى : أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء : 101] لأن المراد مبعدون عن عذابها ، وقيل : المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها كانَ أي ورودهم إياها عَلى رَبِّكَ حَتْماً أمرا واجبا كما روي عن ابن عباس ، والمراد بمنزلة الواجب في تحتم للوقوع إذ لا يجب على اللّه تعالى شيء عند أهل السنة مَقْضِيًّا قضى بوقوعه البتة.
وأخرج الخطيب عن عكرمة أن معنى كان حتما مقضيا كان قسما واجبا ، وروي ذلك أيضا عن ابن مسعود والحسن وقتادة ، قيل : والمراد منه إنشاء القسم ، وقيل : قد يقال : إن عَلى رَبِّكَ المقصود منه اليمين كما تقول : للّه تعالى على كذا إذ لا معنى له إلا تأكد اللزوم والقسم لا يذكر إلا لمثله ، وعلى ورد في كلامهم كثيرا للقسم كقوله :
على إذا ما جئت ليلى أزورها زيارة بيت اللّه رجلان حافيا
فإن صيغة النذر قد يراد بها اليمين كما صرحوا به ، ويجوز أن يكون المراد بهذه الجملة القسم كقولهم : عزمت عليك إلا فعلت كذا انتهى ، ويعلم مما ذكر المراد من القسم فيما
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 439
ماجة وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تجلة القسم».
وقال أبو عبيدة. وابن عطية وتبعهما غير واحد : إن القسم في الخبر إشارة إلى القسم في المبتدأ أعني وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ، وصرح بعضهم أن الواو فيه للقسم ، وتعقب ذلك أبو حيان بأنه لا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار وهو لا يجوز إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما في قوله : واللّه ما ليلي ينام صاحبه.
وقال أيضا : نص النحويون على أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن وأين ذلك في الآية ، وجعل ابن هشام تحلة القسم كناية عن القلة وقد شاع في ذلك ، ومنه قول كعب :
تخذى على يسرات وهي لاحقة ذوابل مسهن الأرض تحليل
فإن المعنى مسهن الأرض قليل كما يحلف الإنسان على شيء ليفعلنه فيفعل منه اليسير ليتحلل به من قسمه ثم قال : إن فيما قاله جماعة من المفسرين من أن القسم على الأصل وهو إشارة إلى قوله تعالى : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها إلخ نظرا لأن الجملة لا قسم فيها إلا إن عطفت على الجمل التي أجيب بها القسم من قوله تعالى : فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ إلى آخرها وفيه بعد انتهى. والخفاجي جوز الحالية والعطف ، وقال : حديث البعد غير مسموع لعدم تخلل الفاصل وهو كما ترى ، ولعل الأسلم من القيل والقال جعل ذلك مجازا عن القلة وهو مجاز مشهور فيما ذكر ، ولا يعكر على هذا ما
أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه والطبراني وغيرهم عن معاذ بن أنس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «من حرس من وراء المسلمين في سبيل اللّه تعالى متطوعا لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن اللّه تعالى يقول : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.
فإن التعليل صحيح مع إرادة القلة من ذلك أيضا فكأنه قيل : لم ير النار إلا قليلا لأن اللّه تعالى أخبر بورود كل أحد إياها ولا بد من وقوع ما أخبر به ولولا ذلك لجاز أن لا يراها أصلا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا بالإخراج منها على ما ذهب إليه الجمع الكثير وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا على ركبهم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد ، وهذه الآية ظاهرة عندي في أن المراد بالورود الدخول وهو الأمر المشترك.
وقال بعضهم : إنها دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وذلك لأن ننجي. وَنَذَرُ تفصيل للجنس فكأنه قيل ننجي هؤلاء ونترك هؤلاء على حالهم الذي أحضروا فيه جاثين ، ولا بد على هذا من أن يكون التقدير في حواليها ، وأنت تعلم أن الظاهر عدم التقدير والجثو لا يوجب ذلك ، وخولف بين قوله تعالى : اتَّقَوْا وقوله سبحانه الظَّالِمِينَ ليؤذن بترجيح جانب الرحمة وأن التوحيد هو المنجي والإشراك هو المردي فكأنه قيل : ثم ننجي من وجد منه تقوى ما وهو الاحتراز من الشرك ونهلك من اتصف بالظلم أي بالشرك وثبت عليه ، وفي إيقاع نَذَرُ مقابلا لننجي إشعار بتلك اللطيفة أيضا ، وقال الراغب : يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به. ومن ذلك قيل لقطعة اللحم التي لا يعتد بها وذر ، وجيء بثم للإيذان بالتفاوت بين فعل الخلق هو وورودهم النار وفعل الحق سبحان وهو النجاة والدمار زمانا ورتبة قاله العلامة الطيبي طيب اللّه تعالى ثراه ، والذي تقتضيه الآثار الواردة في عصاة المؤمنين أن يقال : إن التنجية المذكورة ليست دفعية بل تحصل أولا فأولا على حسب قوة التقوى وضعفها حتى يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من خير وذلك بعد العذاب حسب معصيته وما ظاهره من الأخبار كخبر جابر السابق إن المؤمن لا تضره النار مؤول بحمل المؤمن على المؤمن الكامل لكثرة الأخبار الدالة على أن بعض المؤمنين يعذبون.
ومن ذلك ما
أخرجه الترمذي عن جابر رضي اللّه تعالى عنه أيضا قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «يعذب ناس من أهل

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 440
التوحيد في النار حتى يكونوا حمما ثم تدركهم الرحمة فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل»
ومن هنا حظر بعض العلماء أن يقال في الدعاء : اللهم اغفر لجميع أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم جميع ذنوبهم أو اللهم لا تعذب أحدا من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم هذا ، وقال بعضهم : إن المراد من التنجية على تقدير أن الخطاب خاص بالكفرة أن يساق الذين اتقوا إلى الجنة بعد أن كانوا على شفير النار ، وجيء بثم لبيان التفاوت بين ورود الكافرين النار وسوق المذكورين إلى الجنة وأن الأول للإهانة والآخر للكرامة ، وأنت تعلم أن الذين يذهب بهم إلى الجنة من الذين اتقوا من غير دخول في النار أصلا ليسوا إلا الخواص. والمعتزلة خصوا الذين اتقوا بغير أصحاب الكبائر وأدخلوهم في الظالمين واستدلوا بالآية على خلودهم في النار وكانوا ظالمين.
وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وأبي رضي اللّه تعالى عنهم والجحدري ومعاوية بن قرة ويعقوب «ثمّ» بفتح الثاء أي هناك وابن أبي ليلى «ثمّة» بالفتح مع هاء السكت وهو ظرف متعلق بما بعده وقرأ يحيى والأعمش. والكسائي وابن محيصن ويعقوب «ننجي» بتخفيف الجيم. وقرىء «ينجي» و«ينجّي» بالتشديد والتخفيف مع البناء للمفعول ، وقرأت فرقة «نجّي» بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه «ننحي» بحاء مهملة
،
وهذه القراءة تؤيد بظاهرها تفسير الورود بالقرب والحضور وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الآية إلى آخرها حكاية لما قالوا عند سماع الآيات الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم أي وإذا تتلى على المشركين آياتُنا التي من جملتها الآيات السابقة بَيِّناتٍ أي ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها أو مرتلات الألفاظ ملخصات المعنى مبينات المقاصد أما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات أو تبيين الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم قولا أو فعلا ، والوجه كما في الكشاف أن يكون بَيِّناتٍ حالا مؤكدة لمضمون الجملة وإن لم يكن عقدها من اسمين لأن المعنى عليه.
وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن «وإذا يتلى» بالياء التحتية لأن المرفوع مجازي التأنيث مع وجود الفاصل قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا. ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له أو قال الذين مردوا منهم على الكفر وأصروا على العتو والعناد وهم النضر بن الحارث وأتباعه الفجرة فإن الآية نزلت فيهم. واللام في قوله تعالى لِلَّذِينَ آمَنُوا للتبليغ كما في قلت له كذا إذا خاطبته به ، وقيل لام الأجل أي قالوا لأجلهم وفي حقهم ، ورجح الأول بأن قولهم ليس في حق المؤمنين فقط كما ينطق به قوله تعالى أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أي المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا : أينا خَيْرٌ نحن أو أنتم مَقاماً أي مكانا ومنزلا ، وأصله موضع القيام ثم استعمل لمطلق المكان. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وأبو حاتم عن أبي عمرو «مقاما» بضم الميم وأصله موضع الإقامة ، والمراد به أيضا المنزل والمكان فتتوافق القراءتان.
وجوز في البحر احتمال المفتوح والمضموم للمصدرية على أن الأصل مصدر قام يقوم ، والثاني مصدر أقام يقيم ، ورأيت في بعض المجموعات كلاما ينسب لأبي السعود عليه الرحمة في الفرق بين المقام بالفتح والمقام بالضم وقد سأله بعضهم عن ذلك بقوله :
يا وحيد الدهر يا شيخ الأنام نبتغي فرق المقام والمقام
وهو أن الأول يعني المفتوح الميم موضع قيام الشيء أعم من أن يكون قيامه فيه بنفسه أو بإقامة غيره ومن أن يكون ذلك بطريق المكثف فيه أو بدونه ، والثاني موضع إقامة الغير إياه أو موضع قيامه بنفسه قياما ممتدا ، فإن كان الفعل الناصب ثلاثيا فمقتضى المقام هو الأول ، وكذا إن كان رباعيا ولم يقصد بيان كون المقام موضع قيام المضاف

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 441
إليه بإقامة غيره أو موضع قيامه الممتد ، وأما إذا قصد ذلك فمقتضاه الثاني كما إذا قلت : أقيمت تاء القسم مقام الواو تنبيها على أنها خلف عن الباء التي هي الأصل من أحرف القسم.
ومقامات الكلمات كلها وإن كانت منوطة بوضع الواضع لكن مقامها المنوط بأصل الوضع لكونه مقاما أصليا لها قد نزل منزلة موضع قيامها بأنفسها وجعل مقامها المنوط بالاستعمال الطارئ جاريا مجرى المقام الاضطراري لذوات الاختيار ، هذا إذا كان المقام ظرفا أما إذا كان مصدرا ميميا والفعل الناصب رباعي فحقه ضم الميم انتهى المراد منه.
وأنت تعلم أنه في هذا المقام ليس منصوبا على الظرفية ولا على المصدرية بل منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ على ما قيل : أي أي الفريقين مقامه خير وَأَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجلسا ومجتمعا ، وفي البحر هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة ، وقيل : مجلس أهل الندى أي الكرم. وكذا النادي يروي أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ويتطيبون ويلبسون مفاخر الملابس ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين الذين لا يقدرون على ذلك إذا تليت عليهم الآيات ، قال الإمام : ومرادهم من ذلك معارضة المؤمنين كأنهم قالوا : لو كنتم على الحق وكنا على الباطل كان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة لكن الكفار كانوا في النعمة والراحة والمؤمنين كانوا بعكس ذلك فعلم أن الحق ليس مع المؤمنين ، وهذا مع ظهور أنه قياس عقيم ناشىء من رأى سقيم نقضه اللّه تعالى وأبطله بقوله سبحانه وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً.
وحاصله أن كثيرا ممن كان أعظم نعمة منكم في الدنيا كعاد. وثمود. وأضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم اللّه تعالى فلو دل حصول نعمة الدنيا للإنسان على كونه مكرما عند اللّه تعالى وجب أن لا يهلك أحدا من المتنعمين في الدنيا ، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى كأنه قيل فلينظر هؤلاء أيضا مثل ذلك ، وكَمْ خبرية للتكثير مفعول أَهْلَكْنا ، وقدمت لصدارتها ، وقيل : استفهامية والأول هو الظاهر ومِنْ قَرْنٍ بيان لإبهامها. والقرن أهل كل عصر ، وقد اختلف في مدته وهو من قرن الدابة سمي به لتقدمه ، ومنه قرن الشمس لأول ما يطلع منها. و«هم أحسن» في حيز النصب على ما ذهب إليه الزمخشري وتبعه أبو البقاء صفة لكم ورده أبو حيان بأنه قد صرح الأصحاب بأن كم سواء كانت خبرية أو استفهامية لا توصف ولا يوصف بها ، وجعله صفة قَرْنٍ وضمير الجمع لاشتمال القرن على أفراد كثيرة ولو أفرد الضمير لكان عربيا أيضا. ولا يرد عليه كما قال الخفاجي : كم من رجل قام وكم من قرية هلكت بناء على أن الجار والمجرور يتعين تعلقه بمحذوف هو صفة لكم كما ادعى بعضهم أن الرضي أشار إليه لأنه يجوز في الجار والمجرور أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف والجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب فما ادعى غير مسلم عنده ، وأَثاثاً تمييز وهو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها واحدها أثاثة ، وقيل : لا واحد لها وقيل : الأثاث ماجد من المتاع والخرثي ما قدم وبلى ، وأنشد الحسن بن علي الطوسي :
تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا
والرئي المنظر كما قال ابن عباس. وغيره ، وهو فعل بمعنى مفعول من الرؤية كالطحن والسقي. وقرأ الزهري وأبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية الهمداني وأيوب وابن سعدان وابن ذكوان وقالوا «ريا» بتشديد الياء من غير همز فاحتمل أن يكون من ذلك على قلب الهمزة ياء وإدغامها. واحتمل أن يكون من الري ضد العطش والمراد به النضارة والحسن.
وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش «ريئا» بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا ، وقرىء «رياء» بياء بعدها ألف

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 442
بعدها همزة حكاها اليزيدي. ومعناها كما في الدر المصون مراءاة بعضهم بعضا.
وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «ريا» بحذف الهمزة والقصر فتجاسر بعض الناس وقال : هي لحن ، وليس كذلك بل خرجت على وجهين أحدهما أن يكون الأصل «ريّا» بتشديد الياء فخفف بحذف إحدى الياءين وهي الثانية لأنها التي حصل بها الثقل ولأن الآخر محل التغيير وذلك كما حذفت في لا سيما. والثاني أن يكون الأصل «ريئا» بياء ساكنة بعدها همزة فنقلت حركة الهمزة إلى الياء ثم حذفت على القاعدة المعروفة.
وقرأ ابن عباس أيضا وابن جبير ويزيد البربري والأعصم المكي «زيّا» بالزاي وتشديد الياء وهو المحاسن المجموعة يقال : زواه زيا بالفتح أي جمعه ، ويراد منه الأثاث أيضا كما ذكره المبرد في قول الثقفي :
أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث
والظاهر في الآية المعنى الأول قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ إلخ أمر منه تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ الدنيوية على المؤمنين ببيان مآل أمر الفريقين إما على وجه كلي متناول لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللذة الفانية المبتهجين بها على أن من على عمومها ، وإما على وجه خاص بهم على أنها عبارة عنهم. ووصفهم بالتمكن في الضلالة لذمهم والإشعار بعلة الحكم أي من كان مستقرا في الضلالة مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي يمد سبحانه له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال والتمكن من التصرفات فالطلب في معنى الخبر ، واختير للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما ينبىء عنه قوله تعالى : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر : 37] فيكون حاصل المعنى من كان في الضلالة فلا عذر له فقد أمهله الرحمن ومد له مدا ، وجوز أن يكون ذلك للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى : إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران : 178] وحاصل المعنى من كان في الضلالة فعادة اللّه تعالى أن يمد له ويستدر جه ليزداد إثما ، وقيل : المراد الدعاء بالمد إظهارا لعدم بقاء عذر بعد هذا البيان الواضح فهو على أسلوب رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يونس : 88] إن حمل على الدعاء ، قال في الكشف : الوجه الأول أوفق بهذا المقام ، والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المدن أحكامها حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إلى آخره غاية للمد وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها ، وما اسم موصول والجملة بعده صلة والعائد محذوف أي الذي يوعدونه ، واعتبار ما مصدرية خلاف الظاهر.
وقوله تعالى : إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ بدل من «ما» وتفصيل للموعود على طريقة منع الخلو ، والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي بغلبة المؤمنين واستيلائهم عليهم ، والمراد بالساعة قيل : يوم القيامة وهو الظاهر.
وقيل : ما يشمل حين الموت ومعاينة العذاب ومن مات فقد قامت قيامته وذلك لتتصل الغاية بالمغيا فإن المد لا يتصل بيوم القيامة ، وأجيب بأن أمر الفاصل سهل لأن أمور هذه الدنيا لزوالها وتقضيها لا تعد فاصلة كما قيل : ذلك في قوله تعالى : أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح : 25] وقوله تعالى : فَسَيَعْلَمُونَ جواب الشرط وهما في الحقيقة الغاية إن قلنا : إن المجموع هو الكلام أو مفهومه فقط إن قلنا : إنه هو الكلام والشرط قيد له ، وحَتَّى عند ابن مالك جارة وهي لمجرد الغاية لا جارة ولا عاطفة عند الجمهور وهكذا هي كلما دخلت على إذا الشرطية وهي منصوبة بالشرط أو الجزاء على الخلاف المشهور ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، والمراد حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الأخروي فقط فسيعلمون حينئذ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكانا لا خير مقاما ، وفي التعبير بالمكان هنا دون المقام المعبر به هناك مبالغة في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 443
إظهار سوء حالهم وَأَضْعَفُ جُنْداً أي فئة وأنصارا لا أحسن نديا ، ووجه التقابل أن حسن الندى باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم.
وقيل : إن المراد من الندي هناك من فيه كما يقال المجلس العالي للتعظيم وليس المراد أن له ثمة جندا ضعيفا كلا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [الكهف : 43] وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمونه من أن لهم أعوانا من شركائهم ، والظاهر أن من موصولة وهي في محل نصب مفعول «يعلمون» وتعدى إلى واحد لأن العلم بمعنى المعرفة ، وجملة هُوَ شَرٌّ صلة الموصول. وجوز أبو حيان كونها استفهامية والعلم على بابه والجملة في موضع نصب سادة مسد المفعولين وهو عند أبي البقاء فصل لا مبتدأ.
وجوز الزمخشري وظاهر صنيعه اختياره أن يكون ما تقدم غاية لقول الكفرة أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ إلخ.
وقوله تعالى : كَمْ أَهْلَكْنا إلخ وقُلْ مَنْ كانَ إلخ جملتان معترضتان للإنكار عليهم أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين إما العذاب في الدنيا بأيدي المؤمنين وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وتعقبه في البحر بأنه في غاية البعد لطول الفصل بين الغاية والمغيا مع أن الفصل بجملتي اعتراض فيه خلاف أبي علي فإنه لا يجيزه ، وأنت تعلم أيضا بعد إصلاح أمر انقطاع القول حين الموت وعدم امتداده إلى يوم القيامة أن اعتبار استمرار القول وتكرره لا يتم بدون اعتبار استمرار التلاوة لوقوع القول في حيز جواب إذا وهو كما ترى.
[سورة مريم (19) : الآيات 76 إلى 98]
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 444
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً كلام مستأنف سيق لبيان حال المهتدين إثر بيان حال الضالين كما اختاره أبو السعود ، واختار الزمخشري وتبعه أبو البقاء أنه عطف على موضع فَلْيَمْدُدْ إلخ ولم يجوزه أبو حيان سواء كان «فليمدد» دعاء أو خبرا في صورة الطلب لأنه في موضع الخبر إن كانت من موصولة ، وفي موضع الجزاء إن كانت شرطية وموضع المعطوف موضع المعطوف عليه والجملة التي جعلت معطوفة خالية من ضمير يربط الخبر بالمبتدأ والجواب بالشرط ، وقيل عليه أيضا : إن العطف غير مناسب من جهة المعنى كما أنه غير مناسب من جهة الإعراب إذ لا يتجه أن يقال : من كان في الضلالة يزيد اللّه الذين اهتدوا هدى. وأجيب عن هذا بأن المعنى من كان في الضلالة زيد في ضلالته وزيد في هداية أعدائه لأنه مما يغيظه وعما سبق بأن من شرطية لا موصولة. اشتراط ضمير يعود من الجزاء على اسم الشرط غير الظرف ممنوع وهو غير متفق عليه عند النحاة كما في الدر المصون مع أنه مقدر كما سمعت ولا يخفى أن هذا العطف لا يخلو عن تكلف ، واختار البيضاوي أنه عطف على مجموع قوله تعالى مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ إلخ ليتم التقابل فإنه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر أن يجيبهم عن قولهم المؤمنين أي الفريقين إلخ فليأت بذكر القسمين أصالة. قال الطيبي : فكأنه قيل : قل من كان في الضلالة من الفريقين فليمهله اللّه تعالى وينفس في مدة حياته ليزيد في الغي ويجمع اللّه تعالى له عذاب الدارين ومن كان في الهداية منهما يزيد اللّه تعالى هدايته فيجمع سبحانه له خير الدارين. وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم وفيه معنى قول حسان :
أتهجوه ولست له بكفء فشر كما لخير كما فداء
في الدعاء والاحتراز عن المواجهة ، وفي الكشف أن هذا أولى مما اختاره الزمخشري وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قد تقدمت الأقوال المأثورة في تفسيرها ، واختير أنها الطاعات التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها لعمومه وكلها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً بمعناه المتعارف ، وقيل : عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها وَخَيْرٌ من ذلك أيضا مَرَدًّا أي مرجعا وعاقبة لأن عاقبتها المسرة الأبدية والنعيم المقيم وعاقبة ذلك الحسرة السرمدية والعذاب الأليم. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم من اللطف والتشريف ما لا يخفى. وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيان الخيرية وتأكيد لها. وفي الآية على ما ذكره الزمخشري ضرب من التهكم بالكفرة حيث أشارت إلى تسمية جزائهم ثوابا. والمفاضلة على ما قال على طريقة - الصيف أحر من الشتاء - أي أبلغ في حره من الشتاء في برده وليست على التهكم لأنك لو قلت : النار خير من الزمهرير أو بالعكس تهكما كان التهكم على بابه في المفضل والمفضل عليه وذلك مما لا يتمشى فيما نحن فيه. وحاصل ما أراده أن المراد ثواب هؤلاء أبلغ من ثواب أولئك أي عقابهم. وقول صاحب التقريب فيه : إنه غير معلوم جوابه كيف لا وقد سبقت الرحمة الغضب وفي الجنة من الضعف والإفضال ما لا يقادر قدره والنار من عدله تعالى ، وقوله : إنه غير مناسب لمقام التهديد مع ما فيه من المنع يرد عليه أن الكلام مبني على التقابل وأنه على المشاكلة في قولهم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وأحسن نديا فوعد هؤلاء ليس لمجرد تهديد أولئك بل مقصود لذاته قاله في الكشف.
وقال صاحب الفرائد : ما قاله الزمخشري بعيد عن الطبع والاستعمال وليس في كلامهم ما يشهد له ، ويمكن أن يقال : المراد ثواب الأعمال الصالحة في الآخرة خير من ثوابهم في الدنيا وهو ما حصل لهم منها من الخير بزعمهم ومما أوتوا من المال والجاه والمنافع الحاصلة منهما اه ، ورد إنكاره له بأن الزجاج ذكره في قوله تعالى : أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الفرقان : 15] وأن له نظائر. والبعد عن الطبع في حيز المنع.
وقال بعض المحققين : إن أفعل في الآية للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى الزيادة المطلقة كما قيل في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 445
يوسف عليه السلام أحسن إخوته وهي إحدى حالاته الأربع التي ذكرها بعض علماء العربية ، فالمعنى أن ثوابهم ومردهم متصف بالزيادة في الخيرية على المتصف بها بقطع النظر عن هؤلاء المفتخرين بدنياهم فلا يلزم مشاركتهم في الخيرية فتأمل. والجملة على ما ذهب إليه أبو السعود على تقديري الاستئناف والعطف فيما قبلها مستأنفة واردة من جهته تعالى لبيان فضل أعمال المهتدين غير داخلة في حيز الكلام الملقن لقوله سبحانه وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ومشتملة على تسلية قلوب المؤمنين مما عسى أن يختلج فيها من مفاخرة الكفرة شيء كما أن قوله تعالى حَتَّى إِذا رَأَوْا - إلى - جُنْداً تتميم لوعيدهم ، وكلاهما من تتمة الأمر بالجواب عن قولهم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ، وجعل التعبير بخير واردا على طريق المشاكلة. وما ذكره من كون ذلك من تتمة الجواب هو المنساق إلى الذهن إلا أن ظاهر الخطاب يأباه وقد يتكلف له ، ولعلنا قد أسلفنا في هذه السورة ما ينفعك في أمره فتذكر.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا أي بآياتنا التي من جملتها آيات البعث. أخرج البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وابن حبان وغيرهم عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا وكان لي على العاصي بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال : لا واللّه لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت : لا واللّه لا أكفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم حتى تموت ثم تبعث قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك فأنزل اللّه تعالى أَفَرَأَيْتَ إلخ.
وفي رواية أن خبابا قال له لا واللّه لا أكفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم حيا ولا ميتا ولا إذا بعثت فقال العاصي : فإذا بعثت جئتني إلخ ، وفي رواية أن رجالا من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أتوه يتقاضون دينا لهم عليه فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات؟ قالوا : بلى قال : موعدكم الآخرة واللّه لأوتين مالا وولدا ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فنزلت
،
وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقد كانت له أقوال تشبه ذلك ، وقال أبو مسلم : هي عامة في كل من له هذه الصفة ، والأول هو الثابت في كتب الصحيح ، والهمزة للتعجيب من حال ذلك الكافر والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن ترى ويقضي منها العجب ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي حقها أن يؤمن بها كل من وقف عليها وَقالَ مستهزأ بها مصدرا كلامه باليمين الفاجرة واللّه لَأُوتَيَنَّ في الآخرة واردة في الدنيا كما حكاه الطبرسي عن بعضهم تأباه الأخبار الصحيحة إلا أن يحمل الإيتاء على ما قيل على الإيتاء المستمر إلى الآخرة أي لأوتين إيتاء مستمرا مالًا وَوَلَداً والمراد أنظر إليه فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة ، وقيل : إن الرؤية مجاز عن الأخبار من إطلاق السبب وإرادة المسبب ، والاستفهام مجاز عن الأمر به لأن المقصود من نحو قولك : ما فعلت أخبرني فهو إنشاء تجوز به عن إنشاء آخر والفاء على أصلها.
والمعنى أخبر بقصة هذا الكافر عقيب حديث أولئك الذين قالوا : أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً الآية ، وقيل :
عقيب حديث من قال : إِذا ما مِتُّ إلخ ، وما قدمنا في معنى الآية هو الأظهر واختاره العلامة أبو السعود.
وتعقب الثاني بقوله : أنت خبير بأن المشهور استعمال أَرَأَيْتَ في معنى أخبرني بطريق الاستفهام جاريا على أصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالأخبار لغيره وإرادة أخبرني بطريق الاستفهام جاريا على أصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالأخبار لغيره وإرادة أخبرني هنا مما لا يكاد يصح كما لا يخفى.
وقيل : المراد لأوتين في الدنيا ويأباه سبب النزول ، قال العلامة : إلا أن يحمل على الإيتاء المستمر إلى الآخرة فحينئذ ينطبق على ذلك. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن عيسى الأصبهاني «ولدا» بضم الواو وسكون اللام فقيل : هو جمع ولد كأسد وأسد وأنشدوا له قوله :

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 446
ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
وقيل هو لغة في ولد كالعرب والعرب ، وأنشدوا له قوله :
فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار
والحق أنه ورد في كلام العرب مفردا وجمعا وكلاهما صحيح هنا. وقرأ عبد اللّه ويحيى بن يعمر «ولدا» بكسر الواو وسكون اللام وهو بمعنى ذلك ، وقوله تعالى : أَطَّلَعَ الْغَيْبَ رد لكلمته الشنعاء وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إليه بالتعجيب منها ، فالجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وقيل : إنها في محل نصب واقعة موقع مفعول ثان لأرأيت على أنه بمعنى أخبرني وهو كما ترى ، والهمزة للاستفهام ، والأصل أأطلع فحذفت همزة الوصل تخفيفا ، وقرأ «أطلع» بكسر الهمزة وحذف همزة الاستفهام لدلالة أم عليها كما في قوله : بسبع رمين الجمر أم بثمان والفعل متعد بنفسه وقد يتعدى بعلى وليس بلازم حتى تكون الآية من الحذف والإيصال ، والمراد من الطلوع الظهور على وجه العلو والتملك ولذا اختير على التعبير بالعلم ونحو - أي أقد بلغ من عظمة الشأن إلى أن ارتقى علم الغيب الذي استأثر به العليم الخبير جل جلاله حتى ادعى علم أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا وأقسم عليه ، وعن ابن عباس أن المعنى انظر في اللوح المحفوظ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قال لا إله إلا اللّه يرجو بها ذلك ، وعن قتادة العهد العمل الصالح الذي وعد اللّه تعالى عليه الثواب ، فالمعنى أعلم الغيب أم عمل عملا يرجو ذلك في مقابلته. وقال بعضهم : العهد على ظاهره.
والمعنى أعلم الغيب أم أعطاه اللّه تعالى عهدا وموثقا وقال له : إن ذلك كائن لا محالة.
ونقل هذا عن الكلبي ، وهذه مجاراة مع العين بحسب منطوق مقاله كما أن كلامه كذلك ، والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية الرحمة لإيتاء ما يدعيه كَلَّا ردع وزجر عن التفوه بتلك العظيمة ، وفي ذلك تنبيه على خطئه. وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين في هذا الحرف وفيه مذاهب لعلنا نشير إليها إن شاء اللّه تعالى ، وهذا أول موضع وقع فيه من القرآن ، وقد تكرر في النصف الأخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعا ولم يجوز أبو العباس الوقف عليه في موضع.
وقال الفراء : هو على أربعة أقسام ، أحدها ما يحسن الوقف عليه ويحسن الابتداء به والثاني ما يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء به ، والثالث ما يحسن الابتداء به ولا يحسن الوقف عليه ، والرابع ما لا يحسن فيه شيء من الأمرين ، أما القسم الأول ففي عشرة مواضع ما نحن فيه وقوله تعالى : لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا [مريم : 81] وقوله سبحانه لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا [المؤمنون : 100] وقوله عز وجل الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا [سبأ : 27] وقوله تبارك وتعالى أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا [المعارج : 38 ، 39] وقوله جل وعلا أَنْ أَزِيدَ كَلَّا [المدثر : 15 ، 16] وقوله عز اسمه صُحُفاً مُنَشَّرَةً كَلَّا [المدثر : 52 ، 53] وقوله سبحانه وتعالى رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا [الفجر : 16 ، 17] وقوله تبارك اسمه أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا [الهمزة : 3 ، 4] وقوله تعالى شأنه ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا [المعارج : 14 ، 15] فمن جعله في هذه المواضع ردا لما قبله وقف عليه ومن جعله بمعنى ألا التي للتنبيه أو بمعنى حقا ابتدأ به وهو يحتمل ذلك فيها ، وأما القسم الثاني ففي موضعين قوله جل جلاله حكاية فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا [الشعراء : 14 ، 15] وقوله عز شأنه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا [الشعراء : 61 ، 62] وأما الثالث ففي تسعة عشر موضعا قوله تعالى شأنه : كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ [عيسى : 11] كَلَّا وَالْقَمَرِ [المدثر : 32] كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الإنفطار : 9] كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [القيامة : 26] كَلَّا لا وَزَرَ [القيامة : 11] كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [القيامة : 20] كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ : 4] كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ [عبس : 13] كَلَّا بَلْ رانَ عَلى

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 447
قُلُوبِهِمْ
[المطففين : 14] كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر : 17] كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ [المطففين : 7] كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ [المطففين : 18] كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ [المطففين : 15] كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ [الفجر : 21] كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [العلق : 6] كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ [العلق : 15] كَلَّا لا تُطِعْهُ [العلق : 19] كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر : 3] كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ [التكاثر : 5] لأنه ليس للرد في ذلك ، وأما القسم الرابع ففي موضعين ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [الفجر : 21] ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [التكاثر : 14] فإنه لا يحسن الوقف على ثم لأنه حرف عطف ولا على كلا لأن الفائدة فيما بعد ، وقال بعضهم : إنه يحسن الوقف على كلا في جميع القرآن لأنه بمعنى انته إلى في موضع واحد وهو قوله تعالى كَلَّا وَالْقَمَرِ [المدثر : 32] لأنه موصول باليمين بمنزلة قولك أي وربي سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي سنظهر أنا كتبنا قوله كقوله :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقرّي به بدا
أي إذا انتسبنا علمت وتبين أني لست بابن لئيمة أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة الجاني وحفظها عليه فإن نفس كتبة ذلك لا تكاد تتأخر عن القول لقوله تعالى ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق : 18] وقوله سبحانه جل وعلا وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف : 80] فمبني الأول تنزيل إظهار الشيء الخفي منزلة إحداث الأمر المعدوم بجامع أن كلا منهما إخراج من الكمون إلى البروز فيكون استعارة تبعية مبنية على تشبيه إظهار الكتابة على رؤوس الإشهاد بأحداثها ومدار الثاني تسمية الشيء باسم سببه فإن كتبة جريمة المجرم سبب لعقوبته قطعا قاله أبو السعود ، وقيل : إن الكتابة في المعنى الثاني استعارة للوعيد بالانتقام وفيه خفاء ، وقال بعضهم : لا مجاز في الآية بيد أن السين للتأكيد ، والمراد نكتب في الحال ورد بأن السين إذا أكدت فإنما تؤكد الوعد أو الوعيد وتفيد أنه كائن لا محالة في المستقبل. وأما إنها تؤكد ما يراد به الحال فلا كذا قيل : فليراجع.
وقرأ الأعمش «سيكتب» بالياء التحتية والبناء للمفعول وذكرت عن عاصم وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي نطول له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له من المدد يقال :
مده وأمده بمعنى ، وتدل عليه
قراءة علي كرم اللّه تعالى وجهه «ونمد» بالضم
وهو بهذا المعنى يجوز أن يستعمل باللام وبدونها ومعناه على الأول نفعل المدله وهو أبلغ من نمده وأكد بالمصدر إيذانا بفرط غضب اللّه تعالى عليه لكفره وافترائه على اللّه سبحانه واستهزائه بآياته العظام نعوذ باللّه عز وجل مما يستوجب الغضب.
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي نسلب ذلك ونأخذه بموته أخذ الوارث ما يرثه ، والمراد بما يقول مسماه ومصداقه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد يقول الرجل : أنا أملك كذا فتقول : ولي فوق ما تقول ، والمعنى على المضي وكذا في يقول السابق ، وفيه إيذان بأنه ليس لما قال مصداق موجود سوى ما ذكر ، وما إما بدل من الضمير بدل اشتمال وإما مفعول به أي نرث منه ما آتيناه في الدنيا وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً لا يصحبه مال ولا ولد كان له فضلا أي يؤتى ثمة زائدا ، وفي حرف ابن مسعود «ونرثه ما عنده ويأتينا فردا لا مال له ولا ولد» وهو ظاهر في المعنى المذكور ، وقيل :
المعنى نحرمه ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد ونعطيه لغيره من المستحقين ، وروي هذا عن أبي سهل ، وتفسير الإرث بذلك تفسير باللازم وما يَقُولُ مراد منه مسماه أيضا والولد الذي يعطى للغير ينبغي أن يكون ولد ذلك الغير الذي كان له في الدنيا وإعطاؤه إياه بأن يجمع بينه وبينه حسبما يشتهيه وهذا مبني على أنه لا توالد في الجنة.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال جمع : منهم مجاهد وطاوس وإبراهيم النخعي : بعدم التوالد احتجاجا بما في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 448
حديث لقيط رضي اللّه تعالى عنه الطويل الذي عليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته ، وقال فيه أبو عبد اللّه بن منده لا ينكره إلا جاحد أو جاهل ، وقد خرجه جماعة من أئمة السنة من قوله : قلت يا رسول اللّه أو لنا فيها أزواج أو منهن مصلحات؟ قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا تتوالد»
، وبما
روي عن أبي ذر العقيلي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد»
وقالت فرقة بالتوالد احتجاجا بما
أخرجه الترمذي في جامعه عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي»
وقال حسن غريب ، وبما
أخرجه أبو نعيم عن أبي سعيد أيضا قيل يا رسول اللّه أيولد لأهل الجنة فإن الولد من تمام السرور؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «نعم والذي نفسي بيده وما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابه»
وأجابت عما تقدم بأن المراد نفي أن يكون توالد أو ولد على الوجه المعهود في الدنيا. وتعقب ذلك بأن الحديث الأخير ضعيف كما قال البيهقي.
والحديث الأول قال فيه السفاريني : أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة إن الرجل من أهل الجنة ليولد له وإذا قلنا بأن له على الرواية السابقة سندا حسنا كما أشار إليه الترمذي فلقائل أن يقول : إن فيه تعليقا بالشرط وجاز أن لا يقع ، وإذا وإن كانت ظاهرة في المحقق لكنها قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم. وأما الجواب عن الحديثين السابقين بما مر فأوهن من بيت العنكبوت كما لا يخفى ، وبالجملة المرجح عند الأكثرين عدم التوالد ورجح ذلك السفاريني بعشرة أوجه لكن للبحث في أكثرها مجال واللّه تعالى أعلم. وقيل : المراد بما يقول نفس القول المذكور لا مسماه ، والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضا له مفرد عنه.
وتعقب بأن هذا مبني على صدور القول المذكور عنه بطريق الاعتقاد وأنه مستمر عل التفوه به راج لوقوع مضمونه ولا ريب في أن ذلك مستحيل ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء.
وأجيب بأنا لا نسلم البناء على ذلك لجواز أن يكون المراد إنما يقول ذلك ويستهزىء ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين الاستهزاء بما ينكشف له ويحل به أو يقال : إن مبنى ما ذكر على المجاراة مع اللعين كما تقدم.
وقيل : المعنى نحفظ قوله لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ويأتينا على فقره ومسكنته فردا من المال والولد لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه فيجتمع عليه أمران : تبعة قوله ووباله وفقد المطموع فيه ، وإلى تفسير الإرث بالحفظ ذهب النحاس وجعل من ذلك «العلماء ورثة الأنبياء» أي حفظة ما قالوه ، وأنت خبير بأن حفظ قوله قد علم من قوله تعالى سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ.
وفي الكشاف يحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه اللّه تعالى مالا وولدا في الدنيا وبلغت به أشعبيته أن تألى على ذلك فقال سبحانه هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة ويأتينا غدا فردا بلا مال ولا ولد كقوله تعالى لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام : 94] فما يجدي عليه تمنيه وتأليه انتهى ، ولا يخفى أنه احتمال بعيد جدا في نفسه ومن جهة سبب النزول ، والتكلف لتطبيقه عليه لا يقربه كما لا يخفى وفَرْداً حال على جميع الأقوال لكن قيل : إنه حال مقدرة حيث أريد حرمانه عن المال والولد وإعطاء ذلك لمستحقه لأن الانفراد عليه يقتضي التفاوت بين الضال والمهتدي وهو إنما يكون بعد بالموقف بخلاف ما إذا أريد غير ذلك مما تضمنته الأقوال لعدم اقتضائه التفاوت بينهما وكفاية فردية الموقف في الصحة وإن كانت مشتركة.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 449
وزعم بعضهم أن الحال مقدرة على سائر الأقوال لأن المراد دوام الانفراد عن المال والولد أو عن القول المذكور والدوام غير محقق عند الإتيان بل مقدر كما في قوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر : 83] ولا يخفى ما فيه.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً حكاية لجناية عامة للكل مستتبعة لضد ما يرجون ترتبه عليها إثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها أي اتخذ الكفرة الظالمون الأصنام أو ما يعمهم وسائر المعبودات الباطلة آلهة متجاوزين اللّه تعالى لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أي ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل وشفعاء عنده كَلَّا ردع لهم وزجر عن ذلك ، وفيه إنكار لوقوع ما علقوا به أطماعهم الفارغة سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي ستجحد الآلهة عبادة أولئك الكفرة إياها وينطق اللّه تعالى من لم يكن ناطقا منها فتقول جميعا ما عبدتمونا كما قال سبحانه :
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل : 86] أو ستنكر الكفرة حين يشاهدون عاقبة سوء كفرهم عبادتهم إياها كما قال سبحانه لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام : 23].
ومعنى قوله تعالى وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا على الأول على ما قيل تكون الآلهة التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا ضدا للعز أي ذلا وهوانا أو أعوانا عليهم كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وهو أظهر من التفسير السابق ، وكونهم أعوانا عليهم لأنهم يلعنونهم ، وقيل : لأن عبادتهم كانت سببا للعذاب.
وتعقب بأن هذا لم يحدث يوم القيامة وظاهر الآية الحدوث ذلك اليوم والأمر فيه هين ، وقيل : لأنهم يكونون آلة لعذابهم حيث يجعلون وقود النار وحصب جهنم وهذا لا يتسنى إلا على تقدير أن يراد بالآلهة الأصنام ، وإطلاق الضد على العون لما أن عون الرجل يضاد عدوه وينافيه بإعانته له عليه ، وعلى الثاني يكون الكفرة على الآلهة أي أعداء لها من قولهم : الناس عليكم أي أعداؤكم ، ومنه اللهم كن لنا ولا تكن علينا ضدا أي منافين ما كانوا عليه كافرين بها بعد ما كانوا يعبدونها فعليهم على ما قيل خبر يكون ، «وضدا» حال مؤكدة والعداوة مرادة مما قبله ، وقيل : إنها مرادة منه وهو الخبر وعَلَيْهِمْ في موضع الحال ، وقد فسره بأعداء الضحاك وهو على ما نقل عن الأخفش كالعدو يستعمل مفردا وجمعا.
وبذلك قال صاحب القاموس وجعل ما هنا جمعا ، وأنكر بعضهم كونه مما يطلق على الواحد والجمع ، وقال :
هو للواحد فقط وإنما وحد هنا لوحدة المعنى الذي يدور عليه مضادتهم فإنهم بذلك كالشيء الواحد كما في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيما رواه النسائي وهم يد على من سواهم ، وقال صاحب الفرائد : إنما وحد لأنه ذكر في مقابلة قوله تعالى عِزًّا وهو مصدر يصلح لأن يكون جمعا فهذا وإن لم يكن مصدرا لكن يصلح لأن يكون جمعا نظرا إلى ما يراد منه وهو الذل.
وهذا إذا تم فإنما يتم على المعنى الأول ، وقد صرح في البحر أنه على ذلك مصدر يوصف به الجمع كما يوصف به الواحد فليراجع. وقرأ أبو نهيك هنا وفيما تقدم كلا بفتح الكاف والتنوين فقيل إنها الحرف الذي للردع إلا أنه نوى الوقف عليها فصار ألفها كألف الإطلاق ثم أبدلت تنوينا ، ويجوز أن لا يكون نوى الوقف بل أجريت الألف مجرى ألف الإطلاق لما أن ألف المبنى لم يكن لها أصل ولم يجز أن تقع رويا ويسمى هذا تنوين الغالي وهو يلحق الحروف وغيرها ويجامع الألف واللام كقولك :
أقلي اللوم عاذل والعتابن وقولي إن أصبت لقد أصابن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 450
وليس هذا مثل قَوارِيرَا [الإنسان : 15 ، 16] كما لا يخفى خلافا لمن زعمه. وفي محتسب ابن جني أن كَلَّا مصدر من كل السيف إذا نبا وهو منصوب بفعل مضمر من لفظه ، والتقدير هنا كل هذا الرأي والاعتقاد كلا ، والمراد ضعف ضعفا ، وقيل : هو مفعول به بتقدير حملوا كَلَّا ويقال نظير ذلك فيما تقدم ، وقال ابن عطية : هو نعت لآلهة ، والمراد به الثقيل الذي لا خير فيه والإفراد لأنه بزنة المصدر وهو كما ترى ، والأوفق بالمعنى ما تقدم وإن قيل فيه تعسف لفظي وإنه يلزم عليه إثبات التنوين خطأ كما في أمثال ذلك.
وحكى أبو عمرو الداني عن أبي نهيك أنه قرأ «كلا» بضم الكاف والتنوين وهي على هذا منصوبة بفعل محذوف دل عليه سَيَكْفُرُونَ على أنه من باب الاشتغال نحو زيدا مررت به أي يجحدون كلا أي عبادة كل من الآلهة ففيه مضاف مقدر وقد لا يقدر. وذكر الطبري عنه أنه قرأ «كلّ» بضم الكاف والرفع وهو على هذا مبتدأ.
والجملة بعده خبره أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ قيضناهم وجعلناهم قرناء لهم مسلطين عليهم أو سلطناهم عليهم ومكناهم من إضلالهم تَؤُزُّهُمْ أَزًّا تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجا شديدا بأنواع التسويلات والوساوس فإن الأز والهز والاستفزاز أخوات معناها شدة الإزعاج ، وجملة «تؤزهم» إما حال مقدرة من الشياطين أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل : ماذا تفعل الشياطين بهم؟ فقيل تؤزهم إلخ. والمراد من الآية تعجيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مما تضمنته الآيات السابقة الكريمة من قوله سبحانه «ويقول الإنسان أئذا ما مت» إلى هنا وحكته عن هؤلاء الكفرة الغواة والمردة العتاة من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل والتمادي في الغي والانهماك في الضلال والإفراط في العناد والتصميم على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم والإجماع على مدافعة الحق بعد إيضاحه وانتفاء الشرك عنه بالكلية وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم لا لأن هناك قصورا في التبليغ أو مسوغا في الجملة ، وفيها تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فهي تذييل لتلك الآيات لما ذكر. وليس المراد منها تعجيبه عليه الصلاة والسلام من إرسال الشياطين عليهم كما يوهمه تعليق الرؤية به بل مما ذكر من أحوالهم من حيث كونها من آثار إغواء الشياطين كما ينبىء عن لك قوله سبحانه تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا حسبما تقتضيه جناياتهم ويبيد عن آخرهم وتطهر الأرض من خباثاتهم ، والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظنة الوقوع المنهي عنه محوجة إلى النهي كما في قوله تعالى «إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة».
وقوله تعالى : إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تعليل لموجب النهي ببيان اقتراب هلاكهم فإنه لم ييق لهم إلا أيام وأنفاس نعدها عدا أي قليلة كما قيل في قوله تعالى : دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف : 20] ولا ينافي هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة أي يطول لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم وهو قليل باعتبار عاقبته وعند اللّه عز وجل ، وقيل : إن التعليل بما ذكر دل أن أنفاسهم وأيامهم تنتهي بانتهاء العد ولا شك أنها على كثرتها يستوفي إحصاؤها في سرعة فعبر بهذا المعنى عن القليل فكأنه قيل : ليس بينك وبين هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت ، وهذا ليس مبنيا على أن كل ما يعد فهو قليل انتهى ، والأول هو الظاهر وهذا أبعد مغزى ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخول قبرك ، وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وللّه تعالى در من قال :
إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها فتى يعد عليه اللفظ والنفس

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 451
وقيل : المراد إنما نعد أعمالهم لنجازيهم عليها يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي ركبانا كما
أخرجه جماعة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة. وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن هذه الآية فقلت : يا رسول اللّه هل الوفد إلا الركب؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مثل مد البصر وينتهون إلى باب الجنة» الحديث
، وهذه
النوق من الجنة كما صرح به في حديث أخرجه عبد اللّه بن الإمام أحمد. وغيره موقوفا على علي كرم اللّه تعالى وجهه
، وروي عن عمرو بن قيس أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن
، ويروى أنه يركب كل منهم ما أحب من إبل أو خيل أو سفن تجيء عائمة بهم
، وأصل الوفد جمع وافد كالوفود والأوفاد والوفد من وفد إليه وعليه يفد وفدا ووفودا ووفادة وإفادة قدم وورد.
وفي النهاية الوفد هم القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافد وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك ، وقال الراغب : الوفد والوفود هم الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج ، ومنه الوفد من الإبل وهو السابق لغيرها ، وهذا المعنى الذي ذكره هو المشهور ، ومن هنا قيل : إن لفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتبجيل حيث آذنت بتشبيه حالة المتقين بحالة وفود الملوك وليس المراد حقيقة الوفادة من سائر الحيثيات لأنها تتضمن الانصراف من الموفود عليه والمتقون مقيمون أبدا في ثواب ربهم عز وجل. والكلام على تقدير مضاف أي إلى كرامة الرحمن أو ثوابه وهو الجنة أو إلى دار كرامته أو نحو ذلك ، وقيل : الحشر إلى الرحمن إيذانا بأنهم يجمعون من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة إلى من يرحمهم. قال القاضي : ولاختيار الرحمن في هذه السورة شأن ، ولعله أن مساق الكلام فيها لتعداد النعم الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها فكأنه قيل : هنا يوم نحشر المتقين إلى ربهم الذي غمرهم من قبل برحمته وشملهم برأفته وحاصله يوم نحشرهم إلى من عودهم الرحمة وفي ذلك من عظيم البشارة ما فيه ، وقد قابل سبحانه ذلك بقوله جل وعلا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كما تساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً أي عطاشا كما روي عن ابن عباس وأبي هريرة والحسن وقتادة ومجاهد ، وأصله مصدر ورد أي سار إلى الماء ، قال الراجز :
ردي ردي ورد قطاة صما كدرية أعجبها بردا لما
وإطلاقه على العطاش مجاز لعلاقة اللزوم لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش ، وجوز أن يكون المراد من الورد الدواب التي ترد الماء والكلام على التشبيه أي نسوقهم كالدواب التي ترد الماء ، وفي الكشف في لفظ الورد تهكم واستخفاف عظيم لا سيما وقد جعل المورد جهنم أعاذنا اللّه تعالى منها برحمته فلينظر ما بين الجملتين من الفرق العظيم وقرأ الحسن والجحدري «يحشر المتّقون ويساق المجرمون» ببناء الفعلين للمفعول.
واستدل بالآية على أن أهوال القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون مكرمين فكيف ينالهم بعد ذلك شدة وفي البحر الظاهر أن حشر المتقين إلى الرحمن وفد أبعد انقضاء الحساب وامتياز الفريقين وحكاه ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي وذكر ذلك النيسابوري احتمالا بحثا في الاستدلال السابق.
وأنت تعلم أن ذلك لا يتأتى على ما سمعت في الخبر المروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه فإنه صريح في أنهم يركبون عند خروجهم من القبور وينتهون إلى باب الجنة وهو ظاهر في أنهم لا يحاسبون.
وقال بعضهم : إن المراد بالمتقين الموصوفون بالتقوى الكاملة ولا يبعد أن يدخلوا الجنة بلا حساب فقد صحت الأخبار بدخول طائفة من هذه الأمة الجنة كذلك ،
ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : خرج

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 452
إلينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذات يوم فقال «عرضت على الأمم يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد والنبي معه الرهط فرأيت سوادا كثيرا فرجوت أن يكون أمتي فقيل : هذا موسى وقومه ثم قيل : انظر فرأيت سوادا كثيرا فقيل : هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتذاكر أصحابه فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ولكن قد آمنا باللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم هؤلاء أبناؤنا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» والحديث.
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي أمامة رضي اللّه تعالى عنه قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعين ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي»
وأخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن ربي أعطاني سبعين ألفا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : هلا استزدته؟ قال قد استزدته فأعطاني هكذا وفرج بين يديه وبسط باعيه وجثى»
قال هشام : هذا من اللّه عز وجل لا يدري ما عدده وأخرج الطبراني والبيهقي عن عمرو بن حزم الأنصاري رضى اللّه تعالى عنه قال : «احتبس عنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثا لا» يخرج إلا إلى صلاة مكتوبة ثم يرجع فلما كان اليوم الرابع خرج إلينا صلّى اللّه عليه وسلّم فقلنا : يا رسول اللّه احتبست عنا حتى ظننا أنه حدث حدث قال : لم يحدث الأخير إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا لا حساب وإني سألت ربي في هذه الثلاث أيام المزيد فوجدت ربي ماجدا كريما فأعطاني مع كل واحد سبعين ألفا» الخبر
إلى غير ذلك من الأخبار وفي بعضها ذكر من يدخل الجنة بغير حساب بوصفه كالحامدين اللّه تعالى شأنه في السراء والضراء وكالذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع وكالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه تعالى وكالذي يموت في طريق مكة ذاهبا أو راجعا وكطالب العلم والمرأة المطيعة لزوجها والولد البار بوالديه وكالرحيم الصبور وغير ذلك ، ووجه الجمع بين الأخبار ظاهر ويلزم. على تخصيص المتقين بالموصوفين بالتقوى الكاملة دخول عصاة المؤمنين في المجرمين أو عدم احتمال الآية على بيان حالهم ، واستدل بعضهم بالآية على ما روي من الخبر على عدم إحضار المتقين جثيا حول جهنم فما يدل على العموم مخصص بمثل ذلك فتأمل واللّه تعالى الموفق. ونصب يَوْمَ على الظرفية بفعل محذوف مؤخر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين من الأفعال ما لا يحيط ببيانه نطاق المقال ، وقيل : على المفعولية بمحذوف مقدم خوطب به سيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم أي اذكر لهم بطريق الترغيب والترهيب يوم نحشر إلخ ، وقيل : على الظرفية بنعد باعتبار معنى المجازاة ، وقيل : بقوله سبحانه وتعالى سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ.
وقيل بقوله جل وعلا يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ، وقيل : بقوله تعالى شأنه : لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ والذي يقتضيه مقام التهويل وتستدعيه جزالة التنزيل أن ينتصب بأحد الوجهين الأولين ويكون هذا استئنافا مبينا لبعض ما في ذلك اليوم من الأمور الدالة على هوله ، وضمير الجمع لما يعم المتقين والمجرمين أي العباد مطلقا وقيل : للمتقين ، وقيل :
للمجرمين من أهل الإيمان وأهل الكفر والشَّفاعَةَ ، على الأولين مصدر المبني للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن يكون مصدر المبني للمفعول.
وقوله تعالى إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً استثناء متصل من الضمير على الأول ومحل المستثنى إما الرفع على البدل أو النصب على أصل الاستثناء ، والمعنى لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من اتصف منهم بما يستأهل معه أن يشفع وهو المراد بالعهد ، وفسره ابن عباس بشهادة أن لا إله إلا اللّه والتبري من الحول والقوة عدم رجاء أحد إلا اللّه تعالى ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قرأ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 453
الآية وقال : إن اللّه تعالى يقول يوم القيامة : «من كان له عندي عهد فليقم فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعله لي عهدا عندك تؤديه إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد» ،
وأخرج ابن أبي شيبة عن مقاتل أنه قال : العهد الصلاح ، وروي نحوه عن السدي وابن جريج ، وقال الليث : هو حفظ كتاب اللّه تعالى ، وتسمية ما ذكر عهدا على سبيل التشبيه ، وقيل : المراد بالعهد الأمر والإذن من قولهم : عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يملك العباد أن يشفعوا إلا من أذن اللّه عز وجل له بالشفاعة وأمره بها فإنه يملك ذلك ، ولا يأبى عِنْدَ الاتخاذ أصلا فإنه كما يقال : أخذت الإذن في كذا يقال : اتخذته ، نعم في قوله تعالى عِنْدَ الرَّحْمنِ نوع إباء عنه مع أن الجمهور على الأول ، والمراد بالشفاعة على القولين ما يعم الشفاعة في دخول الجنة والشفاعة في غيره ونازع في ذلك المعتزلة فلم يجوزوا الشفاعة في دخول الجنة والأخبار تكذبهم ،
فعن أبي سعيد الخدري قال :
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إن الرجل من أمتي ليشفع للفئام»
من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته
،
وجوز ابن عطية أن يراد بالشفاعة الشفاعة العامة في فصل القضاء وبمن اتخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبالعهد الوعد بذلك في قوله سبحانه وتعالى : عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء : 79] وهو خلاف الظاهر جدا ، وعلى الوجه الثاني في ضمير الجمع الاستثناء من الشفاعة بتقدير مضاف وهو متصل أيضا. وفي المستثنى الوجهان السابقان أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدا ، والمراد به الإيمان ، وإضافة المصدر إلى المفعول. وقيل : المستثنى منه محذوف على هذا الوجه أي لا يملك المتقون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ إلخ أي إلا لمن اتصف بالإيمان. وجوز أن يكون الاستثناء من الشفاعة بتقدير المضاف على الوجه الأول في الضمير أيضا ، وإن يكون المصدر مضافا لفاعله أو مضافا لمفعوله. وجوز عليه أيضا أن يكون المستثنى منه محذوفا كما سمعت ، وعلى الوجه الثالث الاستثناء من الضمير وهو متصل أيضا ، وفي المستثنى الوجهان أي لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان مؤمنا فإنه يملك أن يشفع له. وقيل : الاستثناء على تقدير رجوع الضمير إلى المجرمين منقطع لأن المراد بهم الكفار ، وحمل ذلك على العصاة والكفار بعيد كما قال أبو حيان ، والمستثنى حينئذ لازم النصب عند الحجازيين جائز نصبه وإبداله عند تميم.
وجوز الزمخشري أن تكون الواو في لا يَمْلِكُونَ علامة الجمع كالتي في - أكلوني البراغيث - والفاعل مَنِ اتَّخَذَ لأنه في معنى الجمع. وتعقبه أبو حيان بقوله : لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرا. وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة ، وأيضا فالواو والألف والنون التي تكون علامات لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلا إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف إما أن يأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو مثنى فيحتاج في إثباته إلى نقل ، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب فيمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع انتهى. وتعقبه أيضا ابن المنير بأن فيه تعسفا لأنه إذا جعل الواو علامة لمن ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير اتَّخَذَ كان ذلك إجمالا بعد إيضاح وهو تعكيس في طريق البلاغة التي هي الإيضاح بعد الإجمال والواو على إعرابه وإن لم نكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد لها ثم قال : فتنبه لهذا النقد فإنه أروج من النقد. وفي
___________
(1) بالفاء أي الجماعة اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 454
عنق الحسناء يستحسن العقد انتهى ، ومنه يعلم القول بجواز رجوع الضمير لها أولا باعتبار معناها وثانيا باعتبار لفظها لا يخلو عن كدر.
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً حكاية لجناية القائلين عزير ابن اللّه وعيسى ابن اللّه والملائكة بنات اللّه من اليهود والنصارى والعرب تعالى شأنه عما يقولون علوا كبيرا إثر حكاية جناية من عبد ما عبد من دونه عز وجل بطريق عطف القصة على القصة فالضمير راجع لمن علمت وإن لم يذكر صريحا لظهور الأمر.
وقيل : راجع للمجرمين وقيل : للكافرين وقيل : للظالمين وقيل : للعباد المدلول عليه بذكر الفريقين المتقين والمجرمين. وفيه إسناد ما للبعض إلى الكل مع أنهم لم يرضوه وقد تقدم البحث فيه.
وقوله تعالى : لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا رد لمقالتهم الباطلة وتهويل لأمرها بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجرأة ، وقيل : لا التفات والكلام بتقدير قل لهم لقد جئتم إلخ ، والإد بكسر الهمزة كما في قراءة الجمهور وبفتحها كما قرأ السلمي العجب كما قال ابن خالويه. وقيل : العظيم المنكر والإدة الشدة وأدني الأمر وآدني الأمر وآدني أثقلني وعظم علي. وقال الراغب : الاد المنكر فيه جلبة من قولهم : أدت الناقة تئد أي رجعت حنينها ترجيعا شديدا. وقيل : الاد بالفتح مصدر وبالكسر اسم أي فعلتم أمرا عجبا أو منكرا شديدا لا يقادر قدره فإن جاء وأتى يستعملان بمعنى فعل فيتعديان تعديته. وقال الطبرسي : هو من باب الحذف والإيصال أي جئتم بشيء إد تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ في موضع الصفة ل «إدّا» أو استئناف لبيان عظم شأنه في الشدة والهول ، والتفطر على ما ذكره الكثير التشقق مطلقا ، وعلى ما يدل عليه كلام الراغب التشقق طولا حيث فسر الفطر وهو منه بالشق كذلك ، وموارد الاستعمال تقتضي عدم التقييد بما ذكر.
نعم قيل : إنها تقتضي أن يكون الفطر من عوارض الجسم الصلب فإنه يقال : إناء مفطور ولا يقال : ثوب مفطور بل مشقوق ، وهو عندي في أعراف الرد والقبول وعليه يكون في نسبة التفطر إلى السموات والانشقاق إلى الأرض في قوله تعالى : وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ إشارة إلى أن السماء أصلب من الأرض ، والتكثير الذي تدل عليه صيغة التفعل قيل في الفعل لأنه الأوفق بالمقام ، وقيل : في متعلقه ورجح بأنه قد قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وأبو بحرية والزهري وطلحة وحميد واليزيدي وأبو عبيد «ينفطرن» مضارع انفطر وتوافق القراءتين يقتضي ذلك ، وبأنه قد اختير الانفعال في تنشق الأرض حيث لا كثرة في المفعول ولذا أول وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق : 12] بالأقاليم ونحوه كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى. ووجه بعضهم اختلاف الصيغة على القول بأن التكثير في الفعل بأن السموات لكونها مقدسة لم يعص اللّه تعالى فيها أصلا نوعا ما من العصيان لم يكن لها ألف ما بالمعصية ولا كذلك الأرض فهي تتأثر من عظم المعصية ما لا تتأثر الأرض.
وقرأ ابن مسعود «يتصدعن» قال في البحر : وينبغي أن يجعل ذلك تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولرواية الثقات عنه أنه قرأ كالجمهور انتهى. ولا يخفى عليك أن في ذلك كيفما كان تأييدا لمن ادعى أن الفطر من عوارض الجسم الصلب بناء على ما في القاموس من أن الصدع شق في شيء صلب.
وقرأ نافع والكسائي وأبو حيوة والأعمش «يكاد» بالياء من تحت وَتَخِرُّ الْجِبالُ تسقط وتنهد هَدًّا نصب على أنه مفعول مطلق لتخر لأنه بمعنى تنهد كما أشرنا إليه وإليه ذهب ابن النحاس وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لتنهد مقدرا والجملة في موضع الحال ، وقيل : هو مصدر بمعنى المفعول منصوب على الحال من هد المتعدي أي مهدودة. وجوز أن يكون مفعولا له أي لأنها تنهد على أنه من هد اللازم بمعنى انهدم ومجيئه لازما مما صرح به أبو

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 455
حيان وهو إمام اللغة. والنحو فلا عبرة ممن أنكره ، وحينئذ يكون الهد من فعل الجبال فيتحد فاعل المصدر والفعل المعلل به ، وقيل : إنه ليس من فعلها لكنها إذا هدها أحد يحصل لها الهد فصح أن يكون مفعولا له ، وفي الكلام تقرير لكون ذلك إدا والكيدودة فيه على ظاهرها من مقاربة الشيء. وفسرها الأخفش هنا. وفي قوله تعالى : أَكادُ أُخْفِيها [طه : 15] بالإرادة وأنشد شاهدا على ذلك قول الشاعر :
كادت وكذت وتلك خير إرادة لو عاد من زمن الصبابة ما مضى
ولا حجة له فيه ، والمعنى إن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها بحيث لو تصور بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفرقت أجزاؤها من شدتها أو أن حق تلك الكلمة لو فهمتها تلك الكلمة لو فهمتها تلك الجمادات العظام أن تتفطر وتنشق وتخر من فظاعتها ، وقيل : المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة ، وقيل :
الكلام كناية عن غضب اللّه تعالى على قائل تلك الكلمة وأنه لولا حلمه سبحانه وتعالى لوقع ذلك وهلك القائل وغيره أي كدت أفعل ذلك غضبا لولا حلمي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيما للّه تعالى وفيه إثبات فهم لتلك الأجرام والأجسام لائق بهن. وقد تقدم ما يتعلق بذلك. وفي الدر المنثور في الكلام على هذه الآية ، أخرج أحمد في الزهد وابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو الشيخ في العظمة وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عون عن ابن مسعود قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مر بك اليوم أحد ذاكر للّه تعالى فإذا قال : نعم استبشر قال عون : أفلا يسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير هن للخير أسمع وقرأ وَقالُوا الآيات اه وهو ظاهر في الفهم.
وقال ابن المنير : يظهر لي في الآية معنى لم أره لغيري وذلك أن اللّه سبحانه وتعالى قد استعار لدلالة هذه الأجرام على وجوده عز وجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له سبحانه أن جعلها مسبحة بحمده قال تعالى : تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء : 44] ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها أن اللّه تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فالمعتقد نسبة الولد إليه عز وجل قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه اللّه تعالى وتقديسه فاستعير لإبطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق اه.
واعترض عليه بأن الموجودات إنما تدل على خالق قادر عالم حكيم لدلالة الأثر على المؤثر والقدرة على المقدور وإتقان العلم يدل على العلم والحكمة وأما دلالتها على الوحدانية فلا وجه له ولا يثبت مثله بالشعر. ورد بأنها لو لم تدل جاء حديث التمانع كما حققه المولى الخيالي في حواشيه على شرح عقائد النسفي للعلامة الثاني.
وقال بعضهم : إنها تدل على عظم شأنه تعالى وأنه لا يشابهه ولا يدانيه شيء فلزم أن لا يكون له شريك ولا ولد لأنه لو كان كذلك لكان نظيرا عز وجل. ولذا عبر عن هذه الدلالة بالتسبيح والتنزيه.
ولعل ما أشرنا إليه أولى وأدق ، وليس مراد من نسب الولد إليه عز وجل إلا الشرك فتأمل ، والجمهور على أن

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 456
الكلام لبيان بشاعة تلك الكلمة على معنى أنها لو فهمتها الجمادات لاستعظمتها وتفتت من بشاعتها. ونحو هذا مهيع للعرب ، قال الشاعر :
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
وقال الآخر :
ألم تر صدعا في السماء مبينا على ابن لبينى الحارث بن هشام
إلى غير ذلك وهو نوع من المبالغة ويقبل إذا اقترن بنحو كاد في الآية الكريمة ، وقد بين ذلك في محله.
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً بتقدير اللام التعليلية. ومحله بعد الحذف نصب عند سيبويه وجر عند الخليل والكسائي ، وهو علة للعلية التي تضمنها مِنْهُ لكن باعتبار ما تدل عليه الحال أعني قوله تعالى :
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً وقيل : علة لتكاد إلخ ، واعترض بأن كون تَكادُ إلخ معللا بذلك قد علم من إِدًّا فيلزم التكرار. وأجيب بما لا يخلو عن نظر. وقيل : علة لهذا وهو علة للخرور ، وقيل : ليس هناك لام مقدرة بل إن وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بالإبدال من الهاء في منه كما في قوله :
على حالة لو أن في القوم حاتما على جوده لضن بالماء حاتم
يجر حاتم بالإبدال من الهاء في جوده ، واستبعده أبو حيان للفصل بجملتين بين البدل والمبدل منه ، وقيل :
المصدر مرفوع على أنه خبر محذوف أي الموجب لذلك دعاؤهم للرحمن ولدا وفيه بحث. وقيل : هو مرفوع على أنه فاعل هذا ويعتبر مصدرا مبنيا للفاعل أي هدها دعاؤهم للرحمن ولدا. وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا لأن الظاهر كون هذا المصدر تأكيديا والمصدر التأكيدي لا يعمل ولو فرض غير تأكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمرا كضربا زيدا أو بعد استفهام كاضربا زيدا وما هنا ليس أحد الأمرين وما جاء عاملا وليس أحدهما كقوله : وقوفا بها صحبي على مطيهم نادر. والتزام كون ما هنا من النادر لا يدفع البعد. ولعل ما ذكرناه أدق الأوجه وأولاها فتدبر واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل. ووَلَداً عند الأكثرين بمعنى سموا. والدعاء بمعنى التسمية يتعدى لمفعولين بنفسه كما في قوله :
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن أخاها ولم أرضع لها بلبان
وقد يتعدى للثاني بالباء فيقال دعوت ولدي بزيد واقتصر هنا على الثاني وحذف الأول دلالة على العموم والإحاطة لكل ما دعي له عز وجل ولدا من عيسى. وعزير عليهما السلام وغيرهما. وجوز أن يكون من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «من ادعى إلى غير مواليه»
وقول الشاعر :
إنا بني نهشل لا ندعي لأب عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
فيتعدى لواحد ، والجار والمجرور جوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من وَلَداً وأن يكون متعلقا بما عنده ، وجملة ما يَنْبَغِي حال من فاعل دَعَوْا ، وقيل : من فاعل قالُوا ، ويَنْبَغِي مضارع انبغى مطاوع بغى بمعنى طلب وقد سمع ماضيه فهو فعل متصرف في الجملة ، وعده ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وغلطه في ذلك أبو حيان ، ويمكن أن يقال : مراده أنه لا يتصرف تاما ، وأَنْ يَتَّخِذَ في تأويل مصدر فاعله ، والمراد لا يليق به سبحانه اتخاذ الولد ولا يتطلب له عز وجل لاستحالة ذلك في نفسه لاقتضائه الجزئية أو المجانسة واستحالة

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 457
كل ظاهرة ، ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم بالتنبيه على أن كل ما سواه تعالى إما نعمة أو منعم عليه وأين ذلك ممن هو مبدأ النعم وموالي أصولها وفروعها.
وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما منهم أحد من الملائكة والثقلين إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً أي إلا وهو مملوك له تعالى يأوي إليه عز وجل بالعبودية والانقياد لقضائه وقدره سبحانه وتعالى فالإتيان معنوي ، وقيل : هو حسي ، والمراد إلا آتى محل حكمه وهو أرض المحشر منقادا لا يدعي لنفسه شيئا مما نسبوه إليه وليس بذاك كما لا يخفى ، ومَنْ موصولة بمعنى الذي وكُلُّ تدخل عليه لأنه يراد منه الجنس كما قيل في قوله تعالى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ [الزمر : 33] وقوله : وكل الذي حملتني أتحمل وقيل : موصوفة لأنها وقعت بعد كُلُّ نكرة وقوعها بعد رب في قوله :
رب من أنضجت غيظا صدره قد تمنى لي موتا لم يطع
ورجح في البحر الأول بأن مجيئها موصوفة بالنسبة إلى مجيئها موصولة قليل : وقرأ عبد اللّه وابن الزبير وأبو حيوة وطلحة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ويعقوب «آت» بالتنوين «الرحمن» بالنصب على الأصل.
ونصب «عبدا» في القراءتين على الحال. واستدل بالآية على أن الوالد لا يملك ولده وأنه يعتق عليه إذا ملكه.
لَقَدْ أَحْصاهُمْ حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج أحد منهم من حيطة علمه وقبضة قدرته جل جلاله.
وَعَدَّهُمْ عَدًّا أي عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده تعالى بمقدار.
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي منفردا من الأتباع والأنصار منقطعا إليه تعالى غاية الانقطاع محتاجا إلى إعانته ورحمته عز وجل فكيف يجانسه ويناسبه ليتخذه ولدا وليشرك به سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وقيل : أي كل واحد من أهل السموات والأرض العابدين والمعبودين آتيه عز وجل منفردا عن الآخر فينفرد العابدون عن الآلهة التي زعموا أنها أنصار أو شفعاء والمعبودون عن الأتباع الذين عبدوهم وذلك يقتضي عدم النفع وينتفي بذلك المجانسة لمن بيده ملكوت كل شيء تبارك وتعالى ، وفي آتِيهِ من الدلالة على إتيانهم كذلك البتة ما ليس في يأتيه فلذا اختير عليه وهو خبر كُلُّهُمْ وكل إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم أو كل الناس فالمنقول أنه يجوز عود الضمير عليه مفردا مراعاة للفظه فيقال كلكم ذاهب ، ويجوز عوده عليه جمعا مراعاة لمعناه فيقال : كلكم ذاهبون.
وحكى إبراهيم بن أصبغ في كتاب رؤوس المسائل الاتفاق على جواز الأمرين ، وقال أبو زيد السهيلي : إن كلا إذا ابتدئ به وكان مضافا لفظا أي إلى معرفة لم يحسن إلا إفراد الخبر حملا على المعنى لأن معنى كلكم ذاهب مثلا كل واحد منكم ذاهب وليس ذلك مراعاة للفظ وإلا لجاز القوم ذاهب لأن كلّا من كل والقوم اسم جمع مفرد اللفظ اه وفي البحر يحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع إلى نقل عن العرب. والزمخشري في تفسير هذه الآية استعمل الجمع وحسن الظن فيه أنه وجد ذلك في كلامهم ، وإذا حذف المضاف إليه المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان ولا كلام في ذلك.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي مودة في القلوب لإيمانهم وعملهم الصالح ، والمشهور أن ذلك الجعل في الدنيا.
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وعبد بن حميد وغيرهم عن أبي

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 458
هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إذا أحب اللّه تعالى عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض فذلك قول اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية»
والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن الموعود من آثارها ، والسين لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم سبحانه ذلك ، ثم نجزه حين كثر الإسلام وقوي بعد الهجرة ، وذكر أن الآية نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه وعد سبحانه أن يجعل لهم محبة في قلب النجاشي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعقبة بن ربيعة وأمية بن خلف فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وعلى هذا تكون الآية مدنية ، وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعلي كرم اللّه تعالى وجهه : قل اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين ودّا فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية
، وكان محمد بن الحنفية رضي اللّه تعالى عنه يقول : لاتجد مؤمنا إلا وهو يحب عليا كرم اللّه تعالى وجهه وأهل بيته.
وروى الإمامية خبر نزولها في علي كرم اللّه تعالى وجهه عن ابن عباس ، والباقر ، وأيدوا ذلك بما
صح عندهم أنه كرم اللّه تعالى وجهه قال : لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال «لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق»
والمراد المحبة الشرعية التي لا غلو فيه ، وزعم بعض النصارى حبه كرم اللّه تعالى وجهه ، فقد أنشد الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد اللّه محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لابن إسحاق النصراني الرسعني :
عديّ وتيم لا أحاول ذكرهم بسوء ولكني محبّ لهاشم
وما تعتريني في عليّ ورهطه إذا ذكروا في اللّه لومة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبهم وأهل النهى من أعرب وأعاجم
فقلت لهم إني لأحسب حبهم سرى في قلوب الخلق حتى البهائم
وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ثبت كذبه ، وأظن أن نسبة هذه الأبيات للنصراني لا أصل لها وهي من أبيات الشيعة بيت الكذب ، وكم لهم مثل هذه المكائد كما بين في التحفة الاثني عشرية ، والظاهر أن الآية على هذا مدينة أيضا. ثم العبرة على سائر الروايات في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وذهب الجبائي إلى أن ذلك في الآخرة فقيل في الجنة إذ يكونون إخوانا على سرر متقابلين ، وقيل : حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد وأمر السين على ذلك ظاهر. ولعل أفراد هذا الوعد من بين ما سيولون يوم القيامة من الكرامات السنية لما أن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تباغض وتضاد وتقاطع وتلاعن ، وذكر في وجه الربط أنه لما فصلت قبائح أحوال الكفرة عقب ذلك بذكر محاسن أحوال المؤمنين ، وقد يقال فيه بناء على أن ذلك في الآخرة : إنه جل شأنه لما أخبر بإتيان كل من أهل السموات والأرض إليه سبحانه يوم القيامة فردا آنس المؤمنين بأنه جل وعلا يجعل لهم ذلك اليوم ودا ، وفسره ابن عطية على هذا الوجه بمحبته تعالى إياهم وأراد منها إكرامه تعالى إياهم ومغفرته سبحانه وتعالى ذنوبهم ، وجوز أن يكون الوعد يجعل الود في الدنيا والآخرة ولا أراه بعيدا عن الصواب. ولا يأبى هذا ولا ما قبله التعرض لعنوان الرحمانية لجواز أن يدعى العموم فقد جاء يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وقرأ أبو الحارث الحنفي «ودّا» بفتح الواو. وقرأ جناح بن حبيش «ودّا» بكسرها وكل ذلك لغة فيه وكذا في

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 459
الوداد فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي القرآن بأن أنزلناه بِلِسانِكَ أي بلغتك وهو في ذلك مجاز مشهور والباء بمعنى على أو على أصله وهو الإلصاق لتضمين «يسرنا» معنى أنزلنا أي يسرناه منزلين له بلغتك ، والفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل : بعد إيحاء هذه السورة الكريمة بلغ هذا المنزل وأبشر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العربي المبين لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ المتصفين بالتقوى لامتثال ما فيه من الأمر والنهي أو الصائرين إليها على أنه من مجاز الأول وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا لا يؤمنون به لجاجا وعنادا ، واللد جمع الألد وهو كما قال الراغب : الخصم الشديد التأبي ، وأصله الشديد اللديد أي صفحة العنق وذلك إذ لم يمكن صرفه عما يريده.
وعن قتادة اللد ذوو الجدل بالباطل الآخذون في كل لديد أي جانب بالمراء ، وعن ابن عباس تفسير اللد بالظلمة ، وعن مجاهد تفسيره بالفجار ، وعن الحسن تفسيره بالصم ، وعن أبي صالح تفسيره بالعوج وكل ذلك تفسير باللازم والمراد بهم أهل مكة كما روي عن قتادة وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ وعد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ضمن وعيد هؤلاء القوم بالإهلاك وحث له عليه الصلاة والسلام على الإنذار أي قرنا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، والاستفهام في معنى النفي أي ما تشعر بأحد منهم.
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني «تحسّ» بفتح التاء وضم الحاء أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا خفيا وأصل التركيب «1» هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز للمال المدفون ، وخص بعضهم الركز بالصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ، والأكثرون على الأول ، وخص الصوت الخفي لأنه الأصل الأكثر ولأن الأثر الخفي إذا زال فزوال غيره بطريق الأولى.
والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع منهم صوتا خفيا فضلا عن غيره ، وقيل : المعنى أهلكناهم بالكلية بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع من يخبر عنهم ويذكرهم بصوت خفي ، والحاصل أهلكناهم فلا عين ولا خبر ، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم أو لكل من يصلح للخطاب.
وقرأ حنظلة «تسّمّع» مضارع أسمعت مبنيا للمفعول واللّه تعالى أعلم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا أمر للحبيب أن يذكر الخليل وما من اللّه تعالى به عليه من أحكام الخلة ليستشير المستعدين إلى التحلي بما أمكن لهم منها. والصديق على ما قال ابن عطاء القائم مع ربه سبحانه على حد الصدق في جميع الأوقات لا يعارضه في صدقه معارض بحال ، وقال أبو سعيد الخزاز : الصديق الآخذ بأتم الحظوظ من كل مقام سني حتى يقرب من درجات الأنبياء عليهم السلام ، وقال بعضهم : من تواترت أنوار المشاهدة واليقين عليه وأحاطت به أنوار العصمة.
وقال القاضي : هو الذي صعدت نفسه تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضة إلى أوج العرفان حتى اطلع على الأشياء وأخبر عنها على ما هي عليه ، ومقام الصديقية قيل : تحت مقام النبوة ليس بينهما مقام.
وعن الشيخ الأكبر قدس سره إثبات مقام بينهما وذكر أنه حصل لأبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه.
___________
(1) قوله «واصل التركيب» إلخ كذا بخطه ولعل حقه وأصل الركز إلخ اه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 460
والمشهور بهذا الوصف بين الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه وليس ذلك مختصا به ،
فقد أخرج أبو نعيم في المعرفة وابن عساكر وابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن أبيه أبي ليلى عن أبي ليلى الأنصاري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الصديقون ثلاثة ، حبيب النجار مؤمن آل يس الذي قال : يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال : أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وعلي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه وكرم وجهه وهو أفضلهم
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
إلخ فيه من لطف الدعوة إلى اتباع الحق والإرشاد إليه ما لا يخفى. وهذا مطلوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما إذا كان ذلك مع الأقارب ونحوهم قال سَلامٌ عَلَيْكَ هذا سلام الإعراض عن الأغيار وتلطف الأبرار مع الجهال ، قال أبو بكر بن طاهر : إنه لما بدا من آزر في خطابه عليه السلام ما لا يبدو إلا من جاهل جعل جوابه السلام لأن اللّه تعالى قال : وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان : 63] وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أهاجر عنكم بديني ، ويفهم منه استحباب هجر الأشرار.
وعن أبي تراب النخشبي صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار ، وقد تضافرت الأدلة السمعية والتجربة على أن مصاحبتهم تورث القسوة وتثبط عن الخير وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا فيه من الدلالة على مزيد أدبه عليه السّلام مع ربه عز وجل ما فيه ، ومقام الخلة يقتضي ذلك فإن من لا أدب له لا يصلح أن يتخذ خليلا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كأن ذلك كان عوضا عمن اعتزل من أبيه وقومه لئلا يضيق صدره كما قيل : ولما اعتزل نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم الكون أجمع ما زاغ البصر وما طغى عوض عليه الصلاة والسلام بأن قال له سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح : 10].
وَاذْكُرْ أيها الحبيب فِي الْكِتابِ مُوسى الكليم إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً للّه تعالى في سائر شؤونه ، قال الترمذي : المخلص على الحقيقة من يكون مثل موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر على السلام ليتأدب به فلم يسامحه في شيء ظهر له منه وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قالوا النداء بداية والنجوى نهاية ، النداء مقام الشوق والنجوى مقام كشف السر وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا قيل : علم اللّه تعالى ثقل الأسرار على موسى عليه السلام فاختار له أخاه هارون مستودعا لها فهارون عليه السلام مستودع سر موسى عليه السلام ، وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ بالصبر على بذل نفسه أو بما وعد به استعداده من كمال التقوى لربه جل وعلا والتحلي بما يرضيه سبحانه من الأخلاق وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا وهو نوع من القرب من اللّه تعالى به عليه عليه السلام. وقيل : السماء الرابعة والتفضل عليه بذلك لما فيه من كشف بعض أسرار الملكوت أولئك الذين أنعم اللّه عليهم بما لا يحيط نطاق الحصر به من النعم الجليلة إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً مما كشف لهم من آياته تعالى ، وقد ذكر أن القرآن أعظم مجلي للّه عز وجل وَبُكِيًّا من مزيد فرحهم بما وجدوه أو من خوف عدم استمرار ما حصل لهم من التجلي :
ونبكي إن نأوا شوقا إليهم ونبكي إن دنوا خوف الفراق
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قيل : الرزق هاهنا مشاهدة الحق سبحانه ورؤيته عز وجل وهذا لعموم أهل الجنة وأما المحبوبون والمشتاقون فلا تنقطع عنهم المشاهدة لمحة ولو حجبوا لماتوا من ألم الحجاب رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مثلا يلتفت إليه ويطلب منه شيء ، وقال الحسين بن الفضل : هل يستحق أحد أن يسمى باسم من أسمائه تعالى على الحقيقة وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 461
عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا
وذلك لتظهر عظمة قهره جل جلاله وآثار سطوته لجميع خلقه عز وجل ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا جزاء تقواهم وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا جزاء ظلمهم ، وهذه الآية كم أجرت من عيون العيون العيون.
فعن عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه تعالى عنه أنه كان يبكي ويقول : قد علمت أني وارد النار ولا أدري كيف الصدر بعد الورود ، وعن الحسن كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا التقوا يقول الرجل لصاحبه : هل أتاك أنك وارد؟
فيقول : نعم فيقول : هل أتاك أنك خارج؟ فيقول لا فيقول : ففيم الضحك إذن؟ قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا لما افتخروا بحظوظ الدنيا التي لا يفتخر بها إلا ذوو الهمم الدنية رد اللّه تعالى عليهم بأن ذلك استدراج ليس بإكرام والإشارة فيه أن كل ما يشغل عن اللّه تعالى والتوجه إليه عز وجل فهو شر لصاحبه يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ركبانا على نجائب النور ، وقال ابن عطاء : بلغني عن الصادق رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : ركبانا على متون المعرفة إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً فقيرا ذليلا منقادا مسلوب الأنانية بالكلية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا في القلوب المفطورة على حب اللّه تعالى
وذلك أثر محبته سبحانه لهم ، وفي الحديث «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به»
إلخ ، ولا يشكل على هذا أنا نرى كثيرا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ممقوتين لأن الذين يمقتونهم قد فطرت قلوبهم على الشر وإن لم يشعروا بذلك ، ومن هنا يعلم أن بغض الصالحين علامة خبث الباطن رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر : 10] وقيل : معنى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا سيجعل لهم لذة وحلاوة في الطاعة ، والأخبار تؤيد ما تقدم واللّه تعالى أعلم وله الحمد على إتمام تفسير سورة مريم ونسأله جل شأنه التوفيق لإتمام تفسير سائر سور كتابه المعظم بحرمة نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 463
سورة طه
وتسمى أيضا سورة الكليم كما ذكر السخاوي في جمال القراء وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم مكية. واستثنى بعضهم منها قوله تعالى : وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه : 130] الآية.
وقال الجلال السيوطي : ينبغي أن يستثنى آية أخرى ،
فقد أخرج البزار وأبو يعلى عن أبي رافع قال : أضاف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال : لا إلا برهن فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته فقال : أما واللّه إني لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [الحجر : 88 ، طه : 131] الآية
انتهى.
ولعل ما روي عن الحبرين على القول باستثناء ما ذكر باعتبار الأكثر منها. وآياتها كما قال الداني مائة وأربعون آية شامي وخمس وثلاثون كوفي وأربع حجازي وآيتان بصري. ووجه الترتيب على ما ذكره الجلال أنه سبحانه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء عليهم السّلام وبعضها مبسوط كقصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام وبعضها بين البسط والإيجاز كقصة إبراهيم عليه السّلام وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السّلام وأشار إلى بقية النبيين عليهم السّلام إجمالا ذكر جل وعلا في هذه السورة شرح قصة موسى عليه السّلام التي أجملها تعالى هناك فاستوعبها سبحانه غاية الاستيعاب وبسطها تبارك وتعالى أبلغ بسط ثم أشار عز شأنه إلى تفصيل قصة آدم عليه السّلام الذي وقع في مريم مجرد ذكر اسمه ثم أورد جل جلاله في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته في مريم كنوح ولوط وداود وسليمان وأيوب واليسع وذي الكفل وذي النون عليهم السّلام وأشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى وهارون وإسماعيل. وذكرت تلو مريم لتكون السورتان كالمتقابلتين وبسطت فيها قصة إبراهيم عليه السّلام البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ولم يذكر حاله مع أبيه إلا إشارة كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطا ، وينضم إلى ما ذكر اشتراك هذه السورة وسورة مريم في الافتتاح بالحروف المقطعة ، وقد روي عن ابن عباس وجابر بن زيد رضي اللّه تعالى عنهم أن طه نزلت بعد سورة مريم. ووجه ربط أول هذه بآخر تلك أنه سبحانه ذكر هناك تيسير القرآن بلسان الرسول عليه الصلاة والسّلام معللا بتبشير المتقين وإنذار المعاندين وذكر تعالى هنا ما فيه نوع من تأكيد ذلك. وجاءت آثار تدل على مزيد فضلها.
أخرج الدارمي وابن خزيمة في التوحيد والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنهم قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن اللّه تبارك وتعالى قرأ «طه» و«يس» قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت : طوبى لأمة ينزل عليها هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا» وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا نحوه
، وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «كل قرآن يوضع

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 464
عن أهل الجنة فلا يقرؤون منه شيئا إلا سورة «طه» و«يس» فإنهم يقرؤون بهما في الجنة
، إلى غير ذلك من الآثار.
[سورة طه (20) : الآيات 1 إلى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9)
إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
فخمها «1» على الأصل ابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب وهو إحدى الروايتين عن قالون وورش والرواية الأخرى أنهما فخما الطاء وأمالا الهاء وهو المروي عن أبي عمرو وأمال الحرفين حمزة والكسائي وأبو بكر ولعل إمالة الطاء مع أنها من حروف الاستعلاء والاستعلاء يمنع الإمالة لأنها تسفل لقصد التجانس وهي من الفواتح التي تصدر بها السور الكريمة على إحدى الروايتين عن مجاهد بل قيل : هي كذلك عند جمهور المتقنين ، وقال السدي : المعنى يا فلان ، وعن ابن عباس في رواية جماعة عنه والحسن وابن جبير وعطاء وعكرمة وهي الرواية الأخرى عن مجاهد أن المعنى يا رجل ، واختلفوا فقيل : هو كذلك بالنبطية ، وقيل : بالحبشية ، وقيل : بالعبرانية ، وقيل بالسريانية.
وقيل : بلغة عكل ، وقيل : بلغة عك. وروي ذلك عن الكلبي قال : لو قلت في عك : يا رجل لم يجب حتى تقول : - طاها - وأنشد الطبري في ذلك قول متمم بن نويرة :
دعوت بطاها في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا
وقول الآخر :
إن السفاهة طاها من خلائقكم لا بارك اللّه في القوم الملاعين
وقال ابن الأنباري : إن لغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا لأن اللّه تعالى لم يخاطب نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بلسان غير لسان قريش ، ولا يخفى أن مسألة وقوع شيء بغير لغة قريش من لغات العرب في القرآن خلافية ، وقد بسط الكلام عليها في الإتقان ، والحق الوقوع وتخرص الزمخشري على عك فقال : لعل عكا تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء
___________
(1) أي الكلمة اه منه.

روح المعاني ، ج 8 ، ص : 465
طاء فقالوا : في ياطا واختصروا هذا واقتصروا على ها. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه ولم يقل ذلك نحوي. وذكر في البيت الأخير أنه إن صح فطه فيه قسم بالحروف المقطعة أو اسم السورة على أنه شعر إسلامي كقوله «حم لا ينصرون».
وتعقب بأنه احتمال بعيد وهو كذلك في المثال وقد رواه النسائي مرفوعا. ولفظ الخبر إذا لقيكم العدو فليكن شعاركم حم لا ينصرون وليس في سياقه دليل على ذلك ، ويحتمل أن يكون لا ينصرون مستأنفا والشعار التلفظ بحم فقط كأنه قيل : ماذا يكون إذا كان شعارنا ذلك فقيل : لا ينصرون ، وأخرج ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قسم أقسم اللّه تعالى به وهو من أسمائه سبحانه ، وعن أبي جعفر أنه من أسماء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقرأت فرقة منهم أبو حنيفة والحسن وعكرمة وورش «طه» بفتح الطاء وسكون الهاء كبل فقيل : معناه يا رجل أيضا ، وقيل : أمر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يطأ الأرض بقدميه فإنه عليه الصلاة والسّلام كما
روي عن الربيع بن أنس كان إذا صلى قام على رجل واحدة فأنزل اللّه تعالى طه
إلخ ، وأخرج ابن مردويه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه لما نزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل : 1 ، 2] قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع رجلا فهبط عليه جبريل عليه السّلام فقال طه الآية
والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء كما قالوا في إياك وارقت ولانك هياك وهرقت ولهنك أو قلبت الهمزة في فعله الماضي والمضارع ألفا كما في قول الفرزدق :
راحت بمسلمة البغال عشية فارعي فزارة لا هناك المرتع
وكما قالوا في سأل سال وحذفت في الأمر لكونه معتل الآخر وضم إليه هاء السكت وهو في مثل ذلك لازم خطا ووقفا ، ووقد يجري الوصل مجرى الوقف فتثبت لفظا فيه ، وجوز بعضهم أن يكون أصل طه في القراءة المشهورة طاها على أن طا أمر له صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يطا الأرض بقدميه وها ضمير مؤنث في موضع المفعول به عائد على الأرض وإن لم يسبق لها ذكر ، واعترض بأنه لو كان كذلك لم تسقط منه الألفان ورسم المصحف وإن كان لا ينقاس لكن الأصل فيه موافقته للقياس فلا يعدل عنه لغير داع وليس هذه الألف في اسم ولا وسطا كما في الحرث ونحوه لتحذف لا سيما وفي حذفها لبس فلا يجوز كما فصل في باب الخط من التسهيل.
واعترض بهذا أيضا على تفسيره بيا رجل ونحوه ، وقيل : توجيه ذلك على هذا الأصل ويعلم منهتوجيه آخر لقراءة أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ومن معه أن يقال : اكتفى من طأ بطاء متحركة ومن ها الضمير بهاء ثم عبر عنهما باسميهما فها ليست ضميرا بل هي كالقاف في قوله :
قلت لها قفي فقالت قاف واعترض أيضا بأنه كان ينبغي على هذا أن لا تكتب صورة المسمى بل صورة الاسم. وأجيب بأن كتابة الأسماء بصور المسميات أمر مخصوص بحروف التهجي. وتعقب بأن ما ذكر لا يقطع مادة الإيراد إذ لو كان كذلك لانفصل الحرفان في الخط بأن يكتبان هكذا ط ه. فإن قيل : إن خط المصحف لا ينقاس قيل عليه ما قيل ، والحق أن دعوى أن خط المصحف لا ينقاس قوية جدا وما قيل عليها لا يعول عليه ، وما صح عن السلف يقبل ولا يقدح فيه عدم موافقة القياس ، وإن كانت الموافقة هي الأصل.
وقد روي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه. والربيع بن أنس أنهما فسرا طه بطأ الأرض بقدميك يا محمد
ولم أقف على طعن في الرواية واللّه أعلم.
واختلف في إعرابه حسب الاختلاف في المراد منه فهو على ما نقل عن الجمهور من أن المراد منه طائفة من==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...